بيان درجة حديث أن الله سبحانه وتعالى كلم عبد الله بن عمرو الأنصاري كفاحا يعني مشافهة.
الخلاصة هو حديث حديث منكر لا يصح، وتوضيح ذلك:
أن للحديث أربعة طرق، وهي:
الطريق الأولى: طريق موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري، سمعت طلحة بن خراش، سمعت جابر بن عبد الله يقول: لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: يا جابر، ما لي أراك منكسراً؟ قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودَيْناً، قال: ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجابه، وأحيا أباك فكلّمه كفاحاً، فقال: تمنّ علي أعطيك، قال: يا رب تُحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يَرْجعون. قال: وأنزلت هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا (169)} [آل عمران: 169] (الآية 169 من سورة آل عمران).
وهذا أخرجه الترمذي (3010)، وابن ماجه (190، 2800)، وعثمان الدارمي في الرد على الجهمية (52، 139)، وفي النقض على المريسي (183)، وحرب الكرماني في المسائل (1762)، وابن أبي عاصم في السنة (615)، وفي الجهاد (196)، وابن خزيمة في التوحيد (792، 793)، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (417)، وفي الرد على المعطلة (ق15/أ)، وابن الأعرابي في المعجم (2133)، وابن حبان (7022)، والإسماعيلي في المعجم (297)، والحاكم (4984)، وابن مردويه -كما في التفسير لابن كثير(2/163)-، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4341)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/299)، والواحدي في أسباب النزل (ص311)، وفي التفسير الوسيط (1/520)، والبغوي في التفسير (2/131)، وقوام السنة في الحجة (1/رقم 119، 232)، وأحمد بن بهرام في الفوائد (ق184/أ)، وابن الأثير في أسد الغابة (3/343)، والمزي في تهذيب الكمال (13/394)، والتاج السبكي في معجم الشيوخ (ص322) وغيرهم من هذا الطريق، وقال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم.
قلت: وهذا إسناد ضعيف وفيه علتان، الأولى: موسى بن إبراهيم الأنصاري هذا ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا، ولما ذكره ابن حبان في كتاب الثقات قال: كان ممن يخطئ، قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف في موسى على تجريح ولا تعديل، إلا أن ابن حبان ذكره في الثقات وقال: يخطئ، وهذا عجيب منه؛ لأن موسى مقل، فإذا كان يخطئ مع قلة روايته فكيف يوثق، ويصحح حديثه؟!. وانظر نتائج الأفكار لابن حجر (1/64).
ولم يُتابع موسى في روايته عن طلحة وكذا لم يتابع على لفظه كما سيأتي.
العلة الثانية: طلحة بن خراش يروي عن جابر مناكير كما قال المنتجيلي وأبو الفتح الأزدي، وقال ابن حبان: ممن كان يغرب عن جابر بن عبد الله، وانظر: مشاهير علماء الأمصار (ص126)، وإكمال تهذيب الكمال (2585).
قلت: فمن كانت هذه حاله لا يحتج بأفراده عند أهل العلم، كما هو معروف، ولذا قال البوصيري في زوائده على ابن ماجه: هذا إسناد ضعيف طلحة بن خراش قال فيه الأزدي: روى عن جابر مناكير، وذكره الذهبي في الميزان وموسى بن إبراهيم، قال فيه ابن حبان في الثقات: يخطئ.
وقد خفيت هذه العلة على الشيخ الألباني رحمه الله حيث قال عن هذا الإسناد: إسناده حسن، رجاله صدوقون على صعف في موسى بن إبراهيم بن كثير.
والصواب على ضعف في موسى وعلى رواية طلحة عن جابر كذلك ففيها مناكير وغرابة كما تقدم، ولعل الشيخ رحمه الله كان يقوي أصل القصة لا اللفظ، ولذا ذهب لتحسين الحديث والله أعلم.
هذا وقد خالف أيضا في متن الحديث كما في الطريق الآتية:

الطريق الثانية: طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا جابر، أما علمت أن الله عز وجل أحيا أباك فقال له: تمنّ علي، فقال: أردّ إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى، فقال: إني قضيت الحكم أنهم إليها لا يرجعون؟ .
أخرجهوابن هشام في السيرة (4/75)، والحميدي(1302)، وسعيد بن منصور (2555، 2555)، وأحمد (15110)، وهناد في الزهد (157)، وعبد بن حميد (1040)، وعثمان الدارمي في الرد على الجهمية (153)، وابن أبي خيثمة في التاريخ – السفر الثالث (227)، وابن أبي الدنيا في المتمنين (2)،وأبو يعلى (2007)، وابن جرير الطبري في التفسير (6/231)، وابن المنذر في التفسير (1174)، وأبو القاسم البغوي في معجم الصحابة (2199)، والدينوري في المجالسة(3515)، وأبو محمد الخلدي في فوائده (145)، وأبو أحمد الحاكم في الأسامي والكنى (2/548)، والكلاباذي في معاني الأخبار (375)، وأبو طاهر المخلص في المخلصيات (577)، والحاكم (2593)، وأبو سعيد النقاش في أماليه (ق6/ب)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4343)، وفي تاريخ أصبهان (2/163، 276)، والبيهقي في الخلافيات (3057) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب به.
وهذا الإسناد معلول، وإن كان أقوى من سابقه فإن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، مختلف فيه، وأكثر الأئمة على ضعفه، ولذا لخص حاله ابن حجر فقال صدوق فيه لين، ولم يذكر في متن الحديث أن الله سبحانه وتعالى كلمه كفاحا.
وهذا هو الإشكال الذي وقع فيه البعض حيث جمعوا بين الطريقين الأولى والثانية هذه، وظنوا أن الحديث حسنا بمجموعهما، والحقيقة أن المتن فيه مغايرة فهذه الطريق ليس فيها أن سبحانه وتعالى كلم عبد الله بن عمرو كفاحا، وهذا مما يزيد رواية موسى الأنصاري عن طلحة بن خراش ضعفا، ولذا لما ذكر الترمذي حديث موسى الأنصاري السابق قال عقبه: "وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل, عن جابر, شيئا من هذا" يعني أنه لم يتابعه في بعض لفظه، ولذا استغرب روايته كما سبق.

الطريق الثالثة:
طريق عياض بن عبد الله، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا أخبرك؟ قلت: بلى، فقال: إن أباك عرض على ربه ليس بينه وبينه ستر، فقال: سل تعطه.
وهذا أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (616)، وفي الجهاد (215)، وابن أبي الدنيا في المتمنين (3)، وابن بطة في الإبانة الكبرى - الرد على الجهمية (7/37) من طريقين عن صدقة السمين، عن عياض بن عبد الله بن عبد الرحمن الفهري به.
وسنده إسناد غاية في الضعف، ففيه ثلاث علل، الأولى: صدقة السمين منكر الحديث، والثانية: شيخه عياض، ضعيف، ضعفه ابن معين، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال الساجي: روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر، وقال أبو صالح: ثبت له بالمدينة شأن كبير، في حديثه شيء، والثالثة أن عياضا لم يسمع من جابر، فهو معدود في الطبقة السابعة وروايته عن تلاميذ جابر كأبي الزبير فبينهما مفازة لا ريب، فالإِسناد فيه انقطاع.

الطريق الرابعة: طريق محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري، عن أبيه، عن جابر، به نحو حديث موسى بن إبراهيم.
أخرجه ابن مردويه -كما في التفسير لابن كثير(2/163)- من هذا الطريق إلا أنه تصحف عنده سليط إلى سبيط، ومحمد هذا قال العقيلي: مجهول بالنقل، وعليه فلم يذكر في الرواة عنه غير عبد العزيز وهو واه متروك الحديث كذلك، وكذا أبوه ليس له ذكر، فالحديث لا يصح من هذا الطريق أيضا.
هذا وأصح ما جاء في هذا هو ما أخرجه البخاري ومسلم فذكروا قصة استشهاده ولم يذكر فيه أنه سبحانه كلمه كفاحا ولا غيره ولفظه: من طريق محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي، وينهوني عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه.
هذا هو اللفظ الصحيح المشهور للقصة ومحمد بن المنكدر مع إمامته وإتقانه يكثر الإسناد عن جابر، ولا يخفى عليه حديثا مثل هذا لو صح عن جابر، وقد أخرجه أيضا أبو نعيم الأصبهاني وزاد فيه: ثم لقيني بعد أيام فقال: أي بني، ألا أبشرك، إن الله أحيا أباك فقال: تمنه، فقال: يا رب أتمنى أن تعيد روحي وتردني إلى الدنيا حتى أقتل مرة أخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون، وهذه الزيادة فيها نظر لا تصح، ولذا استغربها أبو نعيم فقال: غريب من حديث عمرو، تفرد به ابن إسحاق، وانظر حلية الأولياء (5/107).
وعلى كل فهذه الزيادة لا تعارض أصل حديثنا المذكور وإنما فيها قوة لرواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر والتي تؤكد عدم ذكر أنه الله سبحانه كلمه كفاحا، فإذا كانت طرقه السابقة عن جابر على مذهب البعض تقبل التقوية بمجموعها فسوف تقوي أصل القصة فقط دون ذكر المشافهة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]
فلا حاجة لتأويل الحديث لرفع التعارض بينه وبين الآية بعدما تبينت علته، وخلاصة القول أن كلمة كفاحا تفرد بها موسى الأنصاري عن شيخه طلحة بن خراش، وموسى الراجح من حاله أنه ضعيف وكذا شيخه طلحة له مناكير عن جابر فمثل هذا لا يحتج بحديثه وزيادته زيادة منكرة لا تصح لاسيما وأنها تخالف المحفوظ في الحديث.
هذا باختصار شديد مع استيفاء طرق حديث جابر إجمالا وبيان علتها، وللفائدة فإن للحديث شاهد من حديث عائشة لا يفرح به فهو في عداد الموضوع ولفظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجابر: ألا أبشّرك؟ قال: بلى، قال: أشعرت أن الله أحيا أباك؟ ... الحديث. قال الإمام الذهبي: فيه فيض بن وثيق كذاب.

أعد هذا البحث: أ/ جودة محمد (جزاه الله خيرا، ونفعنا بعلمه)