اتفق العلماء والمؤرخين على سوء الأحوال الدينية والعلمية قبل دعوة الامام محمد ابن عبد الوهاب،
فقد جاءت دعوته في وقت اشتدت فيه غربة الإسلام
وانطمست فيه كثير من معالم الرسالة،
لا سيما في نجد وما جاورها،
على نحو تتابع العلماء والمصلحون والمؤرخون على ذكر هذه الغربة
قال ابن غنام في وصف الحالة الدينية لنجد قبل ظهور الدعوة:
(كان غالب الناس في زمانه متضمخين بالأرجاس، متلطخين بوضر الأنجاس، حتى قد انهمكوا في الشرك بعد حلول السنّة المطهرة بالأرماس، وإطفاء نور الهدى بالانطماس بذهاب ذوي البصائر والبصيرة، والألباب المضيئة المنيرة، وغلبة الجهل والجهال، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال…
فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجدّوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث والخطوب المعضلة الكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات وتفريج الشدائد والكربات من الإحياء منهم والأموات، وكثير يعتقد النفع والأضرار في الجمادات كالأحجار والأشجار، وينتابون ذلك في أغلب الأزمان والأوقات، ولم يكن لهم إلى غيرها إقبال ولا التفات، فهم على تلك الأوثان عاكفون، ولها في كثير الأحايين ملازمون…
وقد نص عليه كثير من العلماء الأعلام في كتبهم المصنفة فيما حدث من البدع من الأنام، وما غيروا من منار الدين والإسلام…
وكان أكثر الناس على دعوة الأنبياء والصالحين الأحياء منهم والميتين، مجدين مجتهدين، وبالاعتقاد المحض فيهم مفتونين…
وكان في بلدان نجد من ذلك أمرٌ عظيم، والكل على تلك الأحوال مقيم، وفي ذلك الوادي مُسيم…
وكان ذلك في الجبيلة مشهوراً وبقضاء الحوائج مذكوراً، وكذلك قريوه في الدرعية يزعمون أن فيها قبوراً، أصبح فيها بعض الصحابة مقبوراً، فصار حظهم في عبادتها موفورا، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون، {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}، وكان أهل تلك التربة أعظم في صدورهم من الله خوفاً ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب الحاجات بهم يبتدؤون، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}، وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر ما لا يعهد مثله ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب محض وبهتان مزور مثّله لهم إبليس وصوّر، ولم يكونوا به يشعرون، وفي بليدة الفدا ذكر النخل المعروف بالفحَّال، يأتونه النساء والرجال ويفيدون عليه بالبكر والأصال، ويفعلون عنده أقبح الفعال، ويتبرّكون به ويعتقدون، وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، فتضمه بيديها بحضور ورجاء الانفراج، وتقول: يا فحل الفحول أريد زوجاً قبل أن يحول الحول، هكذا صحّ عنهم القول، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك طوائف وفرق، ويعقلون فيها إذا ولدت المرأة ذكرن الخرق، لعلهم عن الموت يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير، وكان تعالى لها من ذلك السوء وجير، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون، {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}…
وكذلك ما يفعل الآن في الحرم المكي الشريف زاده الله تعالى رفعة وتشريفاً فهو يزيد على غيره وينيف…
فمن ذلك ما يفعل عند قبر المحجوب، وقبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه شريف حاكم متعد غالب، كان يخرج إلى بلدان نجد ويضع عليهم من المال خراج ومطالب، فإن أعطى ما أراد انصرف وإلاّ أصبح لهم معادياً ومحارب، وكذلك عند قبر المحجوب، يطلبونه الشفاعة لغفران الذنوب؛ لأنه عندهم المقرب المحبوب، فلهذا كانوا من شره يحذرون، وإن دخل متعد أو سارق أو غاصب مال قبر أحدهما لم يتعرض له أحد من الرجال، ولا يخشى معاقبة ولا نكال ولا يتوصل إليه بما يكره ولا ينال…
ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها بسرف، وعند قبر خديجة رضي الله عنها في المعلى، مما لا يسوغ…)([1]).
ثم ذكر ابن غنام ما يُفعل عند قبر ابن عباس t في الطائف، وما يُفعل في المدينة عند قبره صلى الله عليه وسلم، وما يُفعل عند قبر حمزة وفي البقيع، وما يُفعل في جدّة عند قبر حوّى المزعوم، وقبر العلوي، وما يُفعل في بلدان مصر، وفي اليمن: البُرع، والهجرية، والشحر وحضرموت ويافع وعدن وبلدان الساحل والحديدة واللُّحيّة ونجران، وما يُفعل في حلب ودمشق والموصل وبلاد الأكراد، وما يُفعل في النجف وكربلاء والبصرة والزبير، وما يُفعل في القطيف والبحرين.
وقال ابن بشر في وصف الحالة العلمية والدينية في نجد قبل وقت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب:
(وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها، والاستعاذة بالجن والنذر لهم، ووضع الطعام وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم، والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر)([2]).
ولم ينفرد هذان المؤرخان بهذا الوصف للحالة العلمية والدينية في نجد وما جاورها في فترة الدعوة وما قبلها، بل وافقهما كل من عاش تلك الحقبة من العلماء، وعاين ما عليه العامة والدهماء، ووقف على ما عم وذاع في القرى والأمصار من البدع والضلالات والشركيات والجهالات.
فها هو الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت 1182هـ)، يقول في مقدمة رسالته «تطهير الاعتقاد» متحدثاً عن تلك الفترة من التاريخ:
(فهذا «تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد» وجب عليّ تأليفه، وتعيّن عليَّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتّخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن، والشام، ومصر، ونجد، وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدّعي العلم بالمغيبات والمكاشفات)([3]).
ومثله وأبلغ منه ما ذكره حسين بن مهدي النُّعمي اليماني (ت 1187هـ)* في كلام طويل يصف به حال ما عليه أكثر الناس من الشرك والتعلّق بالموتى فيقول:
(إن ما فشا في العامة ومن امتاز عنهم بالاسم فقط هو كون هجيراهم عند الأموات ومصارع الرفات: دعاءهم، والاستغاثة بهم، والعكوف حول أجداثهم، ورفع الأصوات بالخوار، وإظهار الفاقة والاضطرار، واللجأ في ظلمات البحر والتطام أمواجه الكبار، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال… وشواهد هذا ظاهرة في حالاتهم تلك، بحيث إن جماهير من العامة لا يحصون في أقاليم واسعة وأقطار متباعدة ونواحي متباينة، لما كانوا قد نشأوا لا يعرفون إلا ما وجدوا عليه من قبلهم من الآباء والشيوخ من هذه العقائد الوثنية والمفاسد، فتجدهم إذا شكى أحدهم على الآخر نازلة نزلت؛ فلعله لا يخطر له في بال؛ إلا: هل قد ذهبت إلى الولي؟..)([4]).
وقال علامة الشام محمد بن أحمد السفاريني (ت 1188 هـ):
( فما بالك بعصرنا هذا الذي نحن فيه ، وقد انطمست معالم الدين ، وطفئت إلا من بقايا حفظة الدين، وحاكمهم متماد في غفلاته، وأميرهم لا حلم لديه ولا دين، وغنيهم لا رأفة عنده ولا رحمة للمساكين، وفقيرهم متكبر، وغنيهم متجبر… فلو رأيت جموع صوفية زماننا وقد أوقدوا النيران، وأحضروا آلات المعازف بالدفوف المجلجلة، والطبول والنايات والشباب، وقاموا على أقدامهم يرقصون ويتمايلون، لقضيت بأنهم فرقة من بقية أصحاب السامري وهم على عبادة عجلهم يعكفون؛ أو حضرت مجمعاً وقد حضره العلماء بعمائمهم الكبار والفراء المثمنة، والهيئات المستحسنة، وقدموا قصاب الدخان التي هي لجامات الشيطان، وقد ابتدر ذو نغمة ينشد من الأشعار المهيجة، فوصف الخدود والنهود والقدود، وقد أرخى القوم رءوسهم ونكسوها، واستمعوا للنغمة واستأنسوها، لقلت وهم لذلك مطرقون: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكل هذا بالنسبة لطائفة زعمت العرفان يهون، فإنهم مع انكبابهم على الشهوات، وارتكابهم المعاصي وانتحالهم الشبهات، يزعمون الاتحاد والحلول، ويزعمون أنهم الطائفة الناجية، وأنهم هم الأئمة والفحول)([5]).
وقال في موضع آخر:
(ولم يبق من آثار هذا البيان إلا حكايات تتزين بها الطروس، ككان وكان، والعلم قد أفلت شموسه، وتقوضت محافله ودروسه، وربعه المأهول أمسى خالياً، وواديه المأنوس أضحى موحشا داوياً، وغصنه الرطيب غدا ذاوياً، وبرده القشيب صار بالياً، فالعالم الآن قلت مضاربه، وضاقت مطالبه، وعالت معاطبه، وسددت مذاهبه، فليس له في هذا الزمان ومنذ أزمان إلا الالتجاء إلى عالم السر والإعلان… فلا جرم ذهبت الراحة والسرور، والبهجة والحبور، مع الرعيل الأول والسرب الذي عليه المعول، ولم يبق لأبناء هذا العصر إلا الشدة والحصر، والندم والتأسف، والتأوه والتلهف، والاشتغال بالقيل والقال، وإضاعة العمر في اللهو والمحال، وإذا كان الزمان قد فسدت ملوكه، وتهتك صعلوكه، وضل عالمه، وجار حاكمه، وبخل مياسيره، وانكمش مشاهيره، ولم يبق من الكرم إلا اسمه، ومن العلم إلا رسمه، ومن العدل إلا ذكره، ومن البذل إلا حكره، ومن المساواة إلا حكاياتها، ومن المؤاخاة إلا نكاتها، وكلح في وجوه أهل العلم وعبس، وأعرض عن إنصافهم ونكس، ومال لأهل المال، وذهب مع أهل الذهب والحال، فلا لوم على العالم إن خمدت ناره، وانطمست آثاره، وخفيت شارته، وبردت شرارته، وصار بعد أن كان متبوعاً تابعاً، وصار حلس بيته واقعاً، وذوى غصن عزمه بعد أن كان يانعاً، وفل فِرِند حزمه بعد كونه قاطعاً)([6]).
وقال محمد بن علي الشوكاني اليماني (ت 1250هـ):
( وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام ، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام ، وعظم ذلك ، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر ، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج ، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم ، وشدوا إليها الرحال ، وتمسحوا بها واستغاثوا ، وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ، ويغار حمية للدين الحنيف ، لا عالما ولا متعلما ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا ، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا ، فإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى ، واعترف بالحق ، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة )([7]).
على أن هذه الحالة من الجهالة وذيوع الضلالة وانتشار مظاهر الشرك والعماية - لم تكن خاصة بتلك الفترة التي عاش فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب، بل سبقت عهده بقرون،
وقد كثرت كتابات العلماء في وصف ما عليه كثير من الناس في عامة البلدان حواضرها وبواديها من البعد عن تعاليم الرسالة المحمدية والجهل بتوحيد الله في العبادة.
قال محدث الشام أبو شامة الشافعي (ت 665هـ):
(وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن اشتهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا الى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق صانها الله تعالى من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشببها بذات أنواط)([8]).
وقال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي (ت 879هـ) في «شرح درر البحار»:
(وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون لإنسان غائب، أو مريض، أو له حاجة ضرورية، فيأتي بعض الصلحاء، فيجعل ستره على رأسه، فيقول: يا سيدي فلان، إن رُدّ غائبي، أو عوفي مريضي، أو قُضيت لي حاجتي، فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا… فهذا النذر باطلٌ بالإجماع لوجوه: أنه نذر مخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق… ومنها: أن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى، واعتقاد ذلك كفر…)([9]).
وقد نقل العلامة علاء الدين الحصكفي الحنفي (1088هـ) هذا النص من كلام ابن قطلوبغا، ثم قال معلقاً: (وقد ابتُلي الناس بذلك، لا سيما في هذه الأعصار)([10]).
كما نقله الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضاً، ثم قال معلقاً:
(فتأمل قول صاحب النهر، مع أنه بمصر ومقر العلماء، كيف شاع بين أهل مصر ما لا قدرة للعلماء على دفعه، فتأمل قوله من أكثر العوام، أتظن أن الزمان صلح بعده؟)([11]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ):
(فأنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات؛ لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفهـ)([12]).
وقال ابن القيم (ت 751هـ):
(وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنَّة بدعة، والبدعة سنَّة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلَّ العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)([13]).
وقال منصور البهوتي الحنبلي (ت 1051هـ) في «كشاف القناع» بعد ذكر أنواع من الردة، وبعض فرق الضلالة: (قد عمت البلوى بهذه الفرق وأفسدوا كثيراً من عقائد أهل التوحيد نسأل الله العفو والعافية)([14]).
أما حال البادية فأمرٌ يفوق الوصف في البعد عن تعاليم الرسالة، وشيوع الشرك والضلالة، بل وإنكار البعث والنشور.
قال محمد السنوسي (ت 850هـ) في ذكر ما عليه العوام في عهده:
(وبعض اعتقاداتهم أجمع العلماء على كفر معتقدها، وبعضها اختلفوا فيه، وكثير من أهل البادية ينكر البعث)([15]).
وفي فتاوى الشيخ محمد الخليلي الشافعي المتوفى سنة 1147 -اه:
(وسئل رحمه الله عن عرب السعادنة وبني عطية وغيرهم من عرب الشام ومصر والحجاز وغيرهم من عرب البوادي.. -ثم ذكر بعض ضلالاتهم ثم قال: ويصدقون ببعثته صلى الله عليه وسلم ولكنهم ينكرون البعث والنشور، وإذا قيل لهم: إن ربنا سبحانه يحيي الخلق بعد موتهم ويحاسبهم على أعمالهم، فيقولون: لا ندري ذلك، ولا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة…
ثم قال في الجواب: (فأجاب: قد سئل عن مثل هذه المسألة شيخ مشايخنا الزاهد الورع العالم الشيخ أمين الدين محمد بن عبد العال الحنفي رحمه الله تعالى (فأجاب) بما حاصله المرقوم في فتواه من استحل حكماً عُلم أمره وحرمته في دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وحيث نهوا ووعظوا مرارا حل قتلهم وقتالهم وأخذ أموالهم، ثم ينظر في حال نسائهم إن كن مؤمنات مكرهات معهن لا ذنب لهن فيعلمن الأحكام، وإن لم يكن كذلك حل سبيهن وبيعهن كالحربيات انتهى… هذا حكمهم مع كونهم كفارا، وبه يعلم حل قتلهم مطلقا والحالة هذه ويثاب قاتلهم، وأجر المقاتل لهم كأجر المقاتل لأهل الحرب مع خلوص النية؛ لأنه مجاهد في سبيل الله والله أعلم)([16]).
وقال إبراهيم البيجوري الأزهري (ت 1276هـ):
(ومثلُ ذلك كثير في الناس، فمنهم من يعتقد أن الصحابة أنبياء وهذا كفر، ومنهم من يُنكر البعث)([17]).
وتأمل معي أن البوادي المشار إليها في كلام هؤلاء العلماء كانت بوادي حواضر الإسلام: الشام والقاهرة، فما ظنك ببوادي نجد والإحساء!
ويؤكد سوء الحال الذي كان عليه كثير من المسلمين ما سطره الرحالة الأوروبيون وغيرهم ممن طافوا كثيراً من بلاد المسلمين: الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية،
قال الرحالة السويسري بوركهارت (ت 1232هـ):
(لم تكن مبادئ ابن عبد الوهاب مبادئ دين جديد، بل كانت جهود الرجل موجهة –فقط- لإصلاح المفاسد التي سادت بين أتباع الإسلام، والعمل على نشر صحيح الدين بين البدو؛ الذين كانوا جاهلين بالدين على الرغم من كونهم مسلمين، لكن اسماً فقط، هؤلاء البدو كانوا غير مبالين بأحكام الدين كلها)([18]).
وقال الرحالة الفنلندي فالين (ت 1268هـ) الذي طاف الجزيرة العربية منتصف القرن التاسع عشر:
(إن قبيلة عنزة شأن أغلبية القبائل لم تُرغم على تبني تعاليم الطائفة الوهابية الإصلاحية في فترة تصاعد سلطتها في الجزيرة، لا تعرف إطلاقاً الدين الذي تعتنقه. وبالكاد أتذكر أني صادفت أحداً من أفراد القبيلة الذين كانوا يؤدون الفرائض الإسلامية أو لديهم أبسط فكرة عن أصول الإسلام وأركانه الأساسية، ويمكن في الوقت نفسه قول العكس بدرجة معينة عن البدو الذين صاروا مع الوهابيين أو كانوا منهم في السابق)([19]).
وقال الكولينيل لويس بيلي البريطاني الذي زار الإمام فيصل بن تركي في آخر عهده سنة 1281ه، وقد تكلم عن الحالة الدينية للقبائل والنواحي النجدية قبل ظهور الوهابية، فقال:
(وأن تحول هذه القبائل للإسلام لم يتم إلا خلال القرن الأخير…). ثم ذكر بعض المواضع الشركية في الحوطة وفي جبل طويق وفي جلاجل([20]).
وقال الرحالة البريطاني وليام بالغريف (ت 1305هـ) في حديثه عن حال البادية قبل ظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب:
(والواقع أن كل أثرٍ للإسلام قد انمحى تقريباً في تلك الفترة من نجد التي كانت تجري فيها عبادة الجان تحت ظلال أوراق الشجر الكبيرة، أو في الفجوات التي تشبه الكهوف في جبل طويق، علاوة على استرحام الموتى وتقديم الأضاحي عند قبورهم، وجرى خلط كل ذلك ببقايا الخرافات السبئية، بل إن ذلك لم يخل أيضاً من بعض آثار معتقدات مسيلمة ومعتقدات القرامطة، كان الناس قد توقفوا عن قراءة القرآن، ونسوا الصلوات الخمس، لم يكن أحد يهتم بمكة أو يعرف مكانها، إن كانت شرقاً أو غرباً او شمالاً او جنوباً، وأصبحت العشور والوضوء والحج أشياء لا يسمع الناس عنها شيئاً، كان هذا هو حال الدين والسياسة في نجد عندما وصل إليها محمد بن عبد الوهاب)([21]).
وقال دافليتشن وهو أحد ضباط الأركان العامة في جيش روسيا القيصرية:
(إن أعراب البادية لا يتميزون بالتدين إطلاقاً)([22]).
وقال الرحالة الألماني أوبنهايم (ت1365هـ):
(البدو مسلمون… لكن بالكاد تجد بين بضعة آلاف منهم واحداً يعرف شعائر الصلاة التي أقرها الإسلام ينطبق هذا بصورة خاصة على المناطق التي لم تنتشر فيها الوهابية، كما لا تزال توجد ذكريات وثنية في أساطيرهم)([23]).
وقال الرحالة البريطاني برترام توماس (ت 1370هـ) الذي طاف بلاد عمان وصحراء الربع الخالي وخَبَر حال قبائل تلك النواحي:
(إن العديد من العقائد الوثنية والعقائد الأخرى المؤمنة بوجود الأرواح لا تزال موجودة وتمارس عبر هذه الجبال، وجميع السكان المحليين يؤمنون إيماناً راسخاً بهذه الأساطير، بينما في مناطق أخرى من جزيرة العرب المسلمة يجري استنساخها دون إضفاء صفة إلهية عليها على الأقل)([24]).
وقال البريطاني هارولد ديكسون (ت 1378هـ):
(في حوالي نهاية القرن السابع عشر انقسمت نجد والجزيرة العربية عموماً باستثناء عمان واليمن والحجاز إلى مقاطعات ومدن مستقلة يحكم كل واحدة منها أحد زعماء القبائل بحماية البدو، أما الدين فقد نُسي إلا بأشكاله البدائية بين أهل المدن، وانتهى من الوجود عملياً بين رجال القبائل)([25]).
([1]( «روضة الأفكار والأفهام» 1/5-13
([2](«عنوان المجد في تاريخ نجد» 1/34
([3]( «تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد» ص48 [طبعة دار المغني، ت: عبد المحسن العباد، ط1، 1424]
([4]( «معارج الألباب في مناهج الحق والصواب» ص169-185
([5]( «غذاء الألباب» 2/314
([6]( «شرح ثلاثيات مسند أحمد 1/4
([7]( نيل الأوطار (4/95)
([8]( «الباعث على إنكار البدع والحوادث» ص26
([9]( «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» لابن نجيم 2/320
([10]( «الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار» ص151-152 [دار الكتب العلمية، ط1، 1423هـ]
([11]( «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/70
([12]( «تلخيص الاستغاثة» 2/731
([13]( «زاد المعاد» 3/436
([14]( «كشاف القناع» 14/233 [طبعة وزارة العدل]
([15]( «شرح عقيدة التوحيد الكبرى» ص37
([16]( «فتاوى محمد الخليلي» 2/282
([17]( «حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد» ص78
([18]( «ملاحظات حول البدو والوهابيين» 2/63
([19]( «تاريخ العربية السعودية» أليكسي فاسيلييف ص99
([20]( «رحلة إلى الرياض» ص46
([21]( «وسط الجزيرة العربية وشرقها» وليم بالجريف 1/429
([22]( «تاريخ العربية السعودية» أليكسي فاسيلييف ص100
([23]( «البدو» 1/86
([24]( «رحلات ومغامرات عبر صحراء الربع الخالي» ص64
([25]( «الكويت وجاراتها» 1/101