الشورى العائلية ... مصدر سعادة للبيت المسلم

محمد علي وهبة



للشورى مكانتها السامية في القرآن العظيم، وكذلك في السَّة النبوية المطهرة، فقد أوجبها الله تعالى كفريضة شرعية لازمة لاستقامة واستدامة العمل الجماعي المبارك في المجتمع المسلم الكبير، المتمثل في الأمة بصفة عامة، وفي المجتمع المسلم الصغير، المتمثل في الأسرة بصفة خاصة·
لذلك صارت الشورى في تراث الإسلام منهجاً فكرياً وسلوكيا واجب الأخذ به على الدوام، وبلا انقطاع في الماضي والحاضر والمستقبل، على اعتبار أن الشورى فلسفة دينية مقدسة، وليست مجرد ميراث فكري وضعي، كما هو الحال عند أهل الغرب، الذين ينظمون أمور حياتهم بكاملها وفق قواعد ونظم قانونية وضعية منقولة عن وثنيات الإغريق، ولا علاقة لها برسالات السماء، وهم لذلك لا يتورعون عن خرقها، أو الاتفاق فيما بينهما على ما يخالفها في الجهر والخفاء

إرشاد قرآني
حين أوجب اللّه تعالى الشورى على رسوله الكريم [ وعلى أمته كذلك من بعده، لم يكن الله ورسوله في حاجة إليها، وإنما جعلها الله سبحانه رحمة لهذه الأمة·
وقد أنزل الله تعالى الكثير من آيات القرآن الكريم، كنماذج إرشادية للأخذ بالشورى فيما يثور بشأنه خلاف حول أمور الدنيا ومشكلاتها الكثيرة المعقدة، وذلك من أجل أن يمارس المسلمون الشورى فيما بينهم، لتزداد بها روابط الألفة والمحبة بين المسلمين، ويتعزز بها توافقهم وانسجامهم، وتتيسر بها أمور معاشهم، ما يؤدي ذلك لصلاحهم وفلاحهم، ولعل الله، أنزل لذلك سورة كاملة تحمل عنوان (الشورى) مما يؤكد الأهمية البالغة للشورى، ولمكانتها الرفيعة المستوى في نظر الشارع الحكيم عز شأنه·


إسعاد المجتمع المسلم
ومن الآيات القرآنية الإرشادية، الدالة على وجوب الأخذ بالشورى على مستوى الولاية العامة في المجتمع المسلم المتمثلة في رسول الله [ وولاة أمور المسلمين تبعا له في ذلك من بعده، يقول الله تعالى:{وشاورهم في الأمر} >آل عمران 159<·
كما أرشد الله تعالى عامة المسلمين للأخذ بالشورى فيما بينهم، ليتبادلوا بها الفكر والرأي، من أجل إيجاد أفضل الحلول لمشكلات حياتهم، مما يؤدي للتقريب بين أحاسيسهم وأفكارهم، ويحقق كذلك التفاعل المثمر بين قلوبهم وأنوار أرواحهم· الأمر المؤدي حتما لزيادة رباط جمعهم وإسعادهم، قال تعالى في ذلك: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون· والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون· والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون· والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} >الشورى: 36 -39<·
وتفيد هذه الآيات الكريمة أن الله تعالى قد جعل الشورى صفة بارزة من صفات المؤمنين· كما تشير الآيات نفسها إلى أن الله تعالى قد وضع الشورى في صف واحد مع الصلاة وسائر الطاعات المقدسة· فالمؤمنون الذين يكون أمرهم شورى بينهم· مع أخذهم بسائر الشعائر العبادية وجميع الطاعات الإيمانية إنما يكون ذلك سبيلاً لإسعادهم في الدنيا والآخرة·


إسعاد الأسرة المسلمة
كما جعل الله تعالى الشورى سبيلا لاستقامة حياة الأسرة المسلمة إسعادها، وذلك من خلال التفاهم والتراضي، والوفاق المثمر بالخير، الذي يتأسس على التشاور، وليس على الاستبداد والاستسلام والإذعان في مجال العلاقات الإنسانية للأسرة المسلمة، وقد أرشد القرآن الكريم إلى ذلك، كما في قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لاتكُلّف نفس إلا وسعها لاتضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} >البقرة - 233<·
وقد جاء في تفسير ابن كثير في قوله تعالى:{ فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيتبين من ذلك أن انفراد احدهما بذلك من دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد برأيه في ذلك من غير مشورة الآخر، وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره· >بالمشاركة التشاورية بين الزوجين< وهو من رحمة الله تعالى بعباده، حيث جعل الله تعالى >الشورى فريضة شرعية إلزامية< على الوالدين في تربية أطفالهما، وإرشادهما بذلك إلى ما يصلحها ويصلحه >3<·
وقد جعل الله تعالى من هذه الآية المباركة نموذجا إرشادياً يقاس علىه أمر الشورى في محيط الأسرة حول ما يعترض حياتها من مشكلات، بما يحقق الرضا والاطمئنان والهناء للأسرة المسلمة على الدوام·

إرشاد نبوي
وقد احتوت السنَّة النبوية الشريفة على الكثير من الأحاديث الدالة على اعتبار الشورى تكليفاً دينياً وفريضة شرعية مقدسة، يتوجب الأخذ بها وعدم تركها أو التنازل عنها، وقد كان الرسول [ لا يتردد في التشاور مع الصحابة في الكثير من شؤون الدنيا التي لم ينزل بها نص قرآني ولم يرد بها نص نبوي، حتى إن أبا هريرة ] قال في ذلك: (ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله [)· >رواه الترمزي<·
بل إن في الأحاديث النبوية أحاديث تقطع بالتزامه صلى الله عليه وسلم بمشورة الأغلبية ورأيها، حتى لو كان رأيه في الأقلية، مادامت القضية في شؤون الدنيا، الخاضعة للشورى، خارجة عن نطاق التبليغ عن الله لما هو دين خالص·>3<·
ومن التطبيقات الدالة على ذلك ماجاء في قول الرسول [ لأبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما<· >رواه ابن حنبل<·
فكان الرسول [ يراعى دائما استشارة المحيطين به من الرجال والنساء والكبار والصغار من دون تفرقة في جميع الأمور الدنيوية كشؤون الحرب والإدارة والتجارة وغيرها من أمور الدنيا، مستهدفا بذلك تدريب أمته على الأخذ بما يصلح شؤون حياتها من خلال تأديبها بآداب الشورى التي تقود بالحتم إلى السعادة التي ينشدها كل إنسان في الدنيا والآخرة·>5<·
كما اهتم [ ببذر بذور الشورى- بصفة خاصة- في محيط الأسرة،المسلمة لتنبت وتثمر سعادة في حياتها، من ذلك ماجاء في قوله صلوات الله وسلامه عليه:
>أشيروا على النساء في أنفسهن<· >رواه ابن حنبل<
ويشير الرسول [ بذلك إلى وجوب أن يكون زواج النساء ثمرة لمشاورتهن·>6<·
إذ إن فرض الزواج عليهن فرضاً، قد يؤدي لإتعاسهن وشقائهن، وإتعاس وإشقاء أهلهن ومجتمعهن، بينما نجد إرضاءهن بمشورتهن فيما يخصهن أو ما يخص مستقبل حياتهن الزوجية وهذا يؤدي حتما إلى إسعادهن وإسعاد أهلهن ومجتمعهن·
كما يعتبر هذا الحديث كذلك نموذجاً إرشادياً نبوياً، لوجوب الأخذ بالشورى في كل ما يرتبط بحياة الأسرة من أمور ومصالح دنيوية، أو قرارات مستقبلية مما يدق أو يتعاظم خطره من أمور الدنيا ·>7<·
وقد جاء في كثير من أحاديث الرسول [، الموحى إليه بها من ربه مايؤكد أن الأخذ بالشورى مصدر سعادة، وعدم الأخذ بها مصدر شقاء·
من ذلك ماجاء في قوله الرسول [:>ماشقي قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي<،>8<

بحث أميركي
وفي بحث توصل إليه أحد الباحثين الأميركيين حديثا، من أجل إثبات الأهمية البالغة للشورى في حياة الأسرة بصفة خاصة، اتضح ما يلي:
1- أن الزواج الذي يقوم على سيطرة الرجل واستبداده، يكون السعداء فيه 61 في المئة والأشقياء 24 في المئة·
2- والزواج الذي يقوم على سيطرة المرأة واستبدادها، يكون السعداء فيه 47 في المئة والأشقياء 31 في المئة·
3- أما الزواج الذي يقوم على الشورى والتعاون، فترتفع نسبة السعداء فيه إلى 87 في المئة وتكاد تختفي نسبة الأشقياء فيه بنزولها إلى 7 في المئة فقط·
ومما لا شك فيه أن نتيجة هذا البحث تؤيد ماجاء به الإسلام العظيم، وحض عليه من ضرورة الأخذ بالشورى والرأي المتبادل في محيط الأسرة >9<·
ولما كانت الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، والمصدر الرئيس الذي يمد المجتمع بكل ما يحتاج إليه من طاقات بشرية لازمة للبناء والنهوض والارتقاء، فلذلك لا يقوى المجتمع المسلم ويتماسك إلا بقوة وتماسك الأسرة المسلمة·>·


< الهوامش
1-الإسلام وحقوق الإنسان- ضرورات لا حقوق - د· محمد عمارة - عالم المعرفة - الكويت - شعبان 1405 هـ - بتصرف بسيط·
2- المرجع السابق - بتصرف بسيط
3- من تفسير ابن كثير في 233 من سورة البقرة
4- مرجع سابق- >الأول<
5- مبادئ ونظم الحكم في الإسلام - د· محمد جعفر- المعهد العالي للدراسات - القاهرة- 1425 هـ - 2004 م - بتصرف·
6- مرجع سابق (الأول)·
7- الشورى في الإسلام - المستشار سعد عبد السلام - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - القاهرة 1396 هـ·
8- القرطبي (الجامع لأحكام القرآن ج >4< دار الكتب المصرية·
9- النظام القانوني للأسرة في التشريع الإسلامي- د· محمد علي محجوب- المعهد العالي للدرسات الإسلامية - القاهرة - 1425 هـ - 2004 م·