وكان أبوهما صالحا
حميد بن خيبش


يزج العديد من الآباء بأبنائهم في خضم التدافع الحاصل اليوم بين أهل الحق وأهل الباطل، من خلال الحرص على تنئشتهم في بيئة مشبعة بالقيم والمُثل الإسلامية، حتى تتشرب نفوسهم تعاليم الدين وتستوعب عقولهم تكاليف الشريعة.
فتجد منهم حرصاً على أن يلتحق الأبناء بدور تحفيظ القرآن الكريم، وأن يتباروا مع أقرانهم في الحفظ والإلمام الفائق بنصوص الشريعة، كما تجد منهم متابعة ورقابة دائمة على كل سلوك أو موقف يصدر من أطفالهم حتى يُثمنوا الطيب، ويدرؤوا عنهم الخبيث!
وهذا الزج الذي ترتفع وتيرته كلما شعر المسلمون بتواطؤ يستهدف عقيدتهم، أو نفير إيديولوجي يُشكك في ثوابتهم لهو خطوة محمودة بكل تأكيد، ورد عميق على أي تطاول يمس هويتهم الإيمانية. لكن حين لا تجري رياح الأبناء بما تشتهي سفن الآباء فغالبا ما يشرع هؤلاء في توزيع صكوك الاتهام على الأشياء والأحياء من حولهم: (المدرسة، الإعلام، البيئة الفاسدة، الرفقة السيئة... ) دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء تقييم ذواتهم وتصوراتهم وسلوكهم باعتبارهم مسؤولين عما حدث!
إن الإسلام حين أرسى منظوره الخاص للرسالة التربوية للأسرة نبه إلى أن انفراد هذه الأخيرة بالبناء السوي لشخصية الطفل، وتشكيل قيمه وتصوراته لا يحكمه الاعتبار المادي وحده، كما لا تحكمه التوجيهات والأوامر، بل هو مقيد بتدبير إلهي مفاده: إثابة المحسن وعقاب المُسيء. بمعنى أن صلاح الأبناء ثمرة لصلاح الآباء أنفسهم، وامتداد طبيعي لمكاسب السير وفق منهاج الله، أو عواقب الزيغ عنه.
والقرآن الكريم واضح غاية الوضوح في كشف العلاقة بين تقوى وصلاح الأبوين من جهة، وتحقق النجابة والاستقامة في سلوك الأبناء من جهة ثانية، ففي سورة الكهف يكشف الخضر لنبي الله موسى - عليهما السلام - الحكمة من إقامة جدار يوشك أن يتداعى، فيُؤسس بذلك لمعطى تربوي وإيماني عميق، يشترط، للعناية الإلهية بالفرع، صلاح واستقامة الأصل (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) سورة الكهف الآية: 81.
وفي السياق ذاته يُحيلنا النص القرآني على الصلة الوثيقة بين صلاح الأبناء، ورعاية حقوق الغير من اليتامى والسفهاء: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) سورة النساء الآية: 9
وبما أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن مدلول الرعاية والكفالة كما ورد في سياق الآية لا يشمل فقط ولي السفيه أو اليتيم الذي لم يبلغ أشده، بل يمتد إلى كل من أنيط له تدبير شأن من شؤون أبناء المسلمين:
فحين يستوعب المدرس، على سبيل المثال، هذه الصلة الوثيقة بين نجابة أبنائه وحسن قيامه بواجبه يكون للرقابة الذاتية أثرها الطيب الذي قد لا تفلح كل التدابير المؤسسية الأخرى في بلوغه.
وحين يستحضرها العاملون بدار للأيتام، أو أي مؤسسة أخرى من مؤسسات الرعاية الاجتماعية، فإن نزلاءها يلقون من حسن المعاملة ما يُنسيهم مرارة اليُتم ولوعة فراق الأهل.
وحين يستحضرها التاجر، والمقاول، والممرض، والفاعل الجمعوي، والوزير، وكل متدخل في مسار تنشئة الصغار، فإننا سنُعاين حتما تجليات النقلة الأخلاقية التي يُؤكد الإسلام على ضرورتها وفاعليتها في ردم عوائق التقدم والعطاء والإبداع.
تؤكد البحوث والدراسات النفسية والاجتماعية على أن الأسرة هي الجماعة الأولى التي يتأثر الطفل بتمثلاتها وقيمها ونمط العلاقة بين أفرادها، وهي الإطار المرجعي الذي يحتكم إليه في تشكيل سلوكه ومواقفه، تلك حقيقة لا غبار عليها.. ولكن في غياب تمثل واع وإيجابي للقاعدة التربوية المذكورة، يفقد هذا الإطار المرجعي دلالته وفاعليته، وتقصر الآمال دون بلوغ ثمرة سبيلها الأوحد: (وكان أبوهما صالحا).



__________________