الأدب أدب الله لا أدب الآباء و الأمهات
سعيد عبد العظيم

قد يشذ الابن عن والديه، فيكونا صالحين تقيين، و يكون هو فاسداً كحالة كنعان بن نوح، فقد كان كافراً و لم يكن نبي الله نوح - عليه السلام - يعلم بذلك، قال - تعالى -: ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) (هود: 45-47).




قال العلماء: "ظنه مؤمناً فلذلك قال: ( إن ابني من أهلي) الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق، إذ مُحال أن يسأل نوح هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم و كأنه يُسر كفره و يُظهر الإيمان، فأخبر الله - تعالى -نوحاً بما هو منفرد به من علم الغيوب، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت".
و قال الحسن: "كان منافقاً، و لذلك استحل نوح أن يناديه"، و عنه أيضا: "كان ابن امرأته" و قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ما بغت(زنت) امرأة نبي قط، و أنه كان ابنه لصلبه"، وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وأنه كان ابنه لصلبه، و قيل لسعيد بن جبير: يقول نوح(إن ابني من أهلي) أكان ابنه؟ فسبح الله طويلاً ثم قال: لا إله إلا الله! يُحَدَّث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أنه ابنه، و تقول: إنه ليس ابنه؟! نعم كان ابنه؛ ولكن كان مخالفاً في النية و العمل و الدين؛ لهذا قال الله - تعالى -: ( إنه ليس من أهلك)". و هذا هو الصحيح، و أن قوله: ( إنه ليس من اهلك) ليس مما ينفي عنه أنه ابنه.
وقوله - تعالى -: (فخانتاهما)
(التحريم-10) يعني في الدين لا في الفراش، و ذلك أن هذه كانت تخبر أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: "أما ينصرك ربك؟ فقال: نعم. قالت: متى؟، قال: إذا فار التنور، فخرجت تقول لقومها: "يا قوم إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره الله إلا أن يفور هذا التنور"، فهذه خيانتها، وخيانة امرأة لوط: أنها كانت تدل قومها على الأضياف، وكان القوم يأتون الفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين، وهي فاحشة اللواط.





قال العلماء: "في هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم و إن كانوا صالحين". وروي أن ابناً لمالك بن أنس نزل من فوق و معه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس، فقال مالك: "الأدب أدب الله لا أدب الآباء و الأمهات، و الخير خير الله لا خير الآباء و الأمهات"، و فيها دليل كما قال القرطبي على أن الابن من الأهل لغةً و شرعاً، و من أهل البيت.




الوالد لا يحسد ولده:
هذا المعنى يدل على قوله - سبحانه - في سورة يوسف - عليه السلام – (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(يوسف5-6).




قال ابن كثير - رحمه الله -: " يقول - تعالى -مُخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً و احتراماً و إكراماً، فخشي يعقوب - عليه السلام - أن يُحدث بهذا المنام أحداً من إخوته فيحسدونه على ذلك فيبغون له الغوائل منهم له، ولهذا قال: (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا) أي يحتالوا لك كيداً يردونك فيها" أ. هـ.




قال الرازي في [التفسير الكبير] المسألة الثانية: "أن يعقوب - عليه السلام - شديد الحب ليوسف - عليه السلام - وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب، وظهر ذلك المعنى ليعقوب - عليه السلام - بالأمارات الكثيرة فلما ذكره يوسف - عليه السلام - هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال: لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك".




وقال القرطبي: " هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شقيق ولا ناصح ولا على من لا يحسن التأويل فيها....، وفي هذه الآية دليل على أن مباحاً أن يُحَذَّرَ المسلم أخاه المسلم ممن يخافه ولا يكون داخلاً في معنى الغيبة؛ لأن يعقوب - عليه السلام - حذر يوسف أن يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيداً، و فيها أيضاً ما يدل على ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسداً و كيداً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود))، وفيه أيضاً دليل واضح على معرفته - عليه السلام - بتأويل الرؤيا، فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم، ولم يبال بذلك من نفسه، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيراً منه، و الأخ لا يود هذا لأخيه، ويدل أيضاً على أن يعقوب - عليه السلام - كان أحسَّ من بنيه حسد يوسف وبغضه، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن يغل بذلك صدورهم، فيعملوا في هلاكه، هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت" أ. هـ.




إن الفارق كبير بين موقف نبي الله يعقوب - عليه السلام - مع ابنه يوسف وبين موقف إخوته معه، وتأمل قول القرطبي:".. فإن الرجل يود أن يكون ولده خيراً منه، و الأخ لا يود هذا لأخيه".



" ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم غير الشقيق، فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم، فتمتلئ نفوسهم بالحقد، فيدبروا له أمر يسوؤه" (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا) ثم علل هذا بقوله: ( إن الشيطان للإنسان عدو مبين).




ومن ثَم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض ويزين لهم الخطيئة والشر، و يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم، وقد أحس من رؤيا ابنه يوسف أن سيكون له شأن، يتجه الخاطر إلى أن هذا الشأن في وادي الدين والصلاح والمعرفة، بحكم جو النبوة الذي يعيش فيه، وما يعلمه من أن جده مبارك من الله هو وأهل بيته المؤمنون، فتوضح أن يكون يوسف هو الذي يختار من أبنائه من نسل إبراهيم لتحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة المباركة في بيت إبراهيم فقال له: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)




الطغيان المادي وأثره في إفساد الناشئة:
و لا يُمسك الإيمان القلب إلا الذي مسك السماوات والأرض ( إن الله يُمسك السماوات و الأرض أن تزولا و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) [فاطر:41]، ولا يماري أحد من الناس في تباعد الدنيا بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة عن دين الله، فالبون شاسع و الفارق كبير بين ما كان عليه سلفنا الصالح من استقامة وعز ونصر وتمكين، وما عليه المسلمون اليوم من انحراف و ذل و مهانة و فشل و ضياع. لقد تبدل الحال و تغير: ( وما ربك بظلام للعبيد) (فصلت46).( إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد11).
بدأنا نعتد أن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجعية، والعمل بسنته تزمت، وانقلبت الأوضاع فكيف يُرجي حسن العاقبة في الآخرة و مسيرنا في الدنيا ظاهر معلوم؟! بل أصبحنا نقر بكل معصية، و نشق الطريق لكل منكر، و نرى من يدعو إلى الكفر بعين يملؤها غبطة، والمعترض رجعياً و ممن يستحقون الطرد و الحبس؛ لأنه يعوق المجتمع عن التقدم ويحول دون طريقه إلى النهضة والمدنية!!
إذا كان الله لا يأخذنا بعذاب يفاجئنا ونقمة تقضي علينا جميعاً بفضل الله علينا و دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة، أن لا يعمها بعذاب ولا يستأصل شأفتها؛ وذلك لأن هذه الأمة تحمل الأمانة الأخيرة، ولأنها أمل الإنسانية الأخير وما أعظم الفرق بين أمسنا و يومنا، وما أعظم الفرق بين الإسلام كدين والمسلمين كواقع، لقد انفصلت بعض الساعات عن بعض، وبعض العادات عن بعض، و تباعدت الدنيا عن الآخرة، والأرض عن السماء، و أصبح الدين في واد و الدولة في واد ثان.