تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 22 من 23 الأولىالأولى ... 121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 421 إلى 440 من 460

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #421
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (421)
    صــ 52 إلى صــ 66





    وإنما قلنا ذلك أولى به ، لأن قوله : " ومن كفر " بعقب قوله : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " ، بأن يكون خبرا عن الكافر بالحج ، أحق منه بأن يكون خبرا عن غيره ، مع أن الكافر بفرض الحج على من فرضه [ ص: 52 ] الله عليه ، بالله كافر وأن "الكفر " أصله الجحود ، ومن كان له جاحدا ولفرضه منكرا ، فلا شك إن حج لم يرج بحجه برا ، وإن تركه فلم يحج لم يره مأثما . فهذه التأويلات ، وإن اختلفت العبارات بها ، فمتقاربات المعاني .
    القول في تأويل قوله تعالى ( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ( 98 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الديانة بما أنزل الله عز وجل من كتبه ، ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد نبوته : " لم تكفرون بآيات الله " ، يقول : لم تجحدون حجج الله التي آتاها محمدا في كتبكم وغيرها ، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوته وحجته . وأنتم تعلمون : يقول : لم تجحدون ذلك من أمره ، وأنتم تعلمون صدقه ؟ فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمدون الكفر بالله وبرسوله على علم منهم ، ومعرفة من كفرهم ، وقد :

    7522 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله " ، أما "آيات الله " ، فمحمد صلى الله عليه وسلم .

    7523 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون " ، قال : هم اليهود والنصارى .
    [ ص: 53 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ( 99 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله : " لم تصدون عن سبيل الله " ، يقول : لم تضلون عن طريق الله ومحجته التي شرعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان " من آمن " ، يقول : من صدق بالله ورسوله وما جاء به من عند الله " تبغونها عوجا " ، يعني : تبغون لها عوجا .

    "والهاء والألف " اللتان في قوله : "تبغونها " عائدتان على "السبيل " ، وأنثها لتأنيث "السبيل " .

    ومعنى قوله : "تبغون لها عوجا " ، من قول الشاعر ، وهو سحيم عبد بني الحسحاس


    بغاك ، وما تبغيه حتى وجدته كأنك قد واعدته أمس موعدا


    يعني : طلبك وما تطلبه . يقال : "ابغني كذا " ، يراد : ابتغه لي . فإذا أرادوا أعني على طلبه وابتغه معي قالوا : "أبغني " بفتح الألف . وكذلك يقال : "احلبني " ، بمعنى : اكفني الحلب - "وأحلبني " أعني عليه . وكذلك جميع ما ورد من هذا النوع ، فعلى هذا .

    وأما "العوج " فهو الأود والميل . وإنما يعني بذلك : الضلال عن الهدى . [ ص: 54 ]

    يقول جل ثناؤه : لم تصدون عن دين الله من صدق الله ورسوله تبغون دين الله اعوجاجا عن سننه واستقامته ؟

    وخرج الكلام على "السبيل " ، والمعنى لأهله . كأن المعنى : تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحق ، عوجا يقول : ضلالا عن الحق ، وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة .

    "والعوج " بكسر أوله : الأود في الدين والكلام . "والعوج " بفتح أوله : الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم .

    وأما قوله : " وأنتم شهداء " . فإنه يعني : شهداء على أن الذي تصدون عنه من السبيل حق ، تعلمونه وتجدونه في كتبكم " وما الله بغافل عما تعملون " ، يقول : ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم ، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجلة ، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقوه فيجازيكم عليها .

    وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله " والآيات بعدهما إلى قوله : " وأولئك لهم عذاب عظيم " ، نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيين من الأوس والخزرج بعد الإسلام ، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء . فعنفه الله بفعله ذلك ، وقبح له ما فعل ووبخه عليه ، ووعظ أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف ، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف .

    ذكر الرواية بذلك : [ ص: 55 ]

    7524 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الثقة ، عن زيد بن أسلم ، قال : مر شأس بن قيس وكان شيخا قد عسا في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه . فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم ، إذا اجتمع ملأهم بها ، من قرار! فأمر فتى شابا من يهود وكان معه ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، وذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار . وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ، ففعل . فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب : أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس - وجبار بن صخر ، أحد بني سلمة من الخزرج . فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة! وغضب الفريقان ، وقالوا : قد فعلنا ، السلاح السلاح!! موعدكم الظاهرة . والظاهرة : الحرة . فخرجوا إليها . وتحاوز الناس . فانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، [ ص: 56 ] والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم ، فقال : "يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا ، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس وما صنع . فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع : " قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " الآية . وأنزل الله عز وجل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين " إلى قوله : " وأولئك لهم عذاب عظيم " . [ ص: 57 ]

    وقيل : إنه عنى بقوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات ، والنصارى وأن صدهم عن سبيل الله كان بإخبارهم من سألهم عن أمر نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم : هل يجدون ذكره في كتبهم ؟ . أنهم لا يجدون نعته في كتبهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7525 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " ، كانوا إذا سألهم أحد : هل تجدون محمدا ؟ قالوا : لا! فصدوا عنه الناس ، وبغوا محمدا عوجا : هلاكا .

    7526 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، يقول : لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله ، من آمن بالله ، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله : أن محمدا رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل .

    7527 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحوه .

    7528 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، قال : هم اليهود والنصارى ، نهاهم أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله ، ويريدون أن يعدلوا الناس إلى الضلالة .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية على ما قاله السدي : يا معشر اليهود ، لم [ ص: 58 ] تصدون عن محمد ، وتمنعون من اتباعه المؤمنين به ، بكتمانكم صفته التي تجدونها في كتبكم ؟ . و"محمد " على هذا القول : هو "السبيل " ، " تبغونها عوجا " ، تبغون محمدا هلاكا . وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك ، فإنه نحو التأويل الذي بيناه قبل : من أن معنى "السبيل " التي ذكرها في هذا الموضع : الإسلام ، وما جاء به محمد من الحق من عند الله .
    القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ( 100 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك .

    فقال بعضهم : عنى بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، الأوس والخزرج ، وب " الذين أوتوا الكتاب " ، شأس بن قيس اليهودي ، على ما قد ذكرنا قبل من خبره عن زيد بن أسلم .

    وقال آخرون ، فيمن عني بالذين آمنوا ، مثل قول زيد بن أسلم غير أنهم قالوا : الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى هموا بالقتال ووجد اليهودي به مغمزا فيهم : ثعلبة بن عنمة الأنصاري .

    ذكر من قال ذلك :

    7529 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين [ ص: 59 ] " ، قال : نزلت في ثعلبة بن عنمة الأنصاري ، كان بينه وبين أناس من الأنصار كلام ، فمشى بينهم يهودي من قينقاع ، فحمل بعضهم على بعض ، حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاح فيقاتلوا ، فأنزل الله عز وجل : " إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين " ، يقول : إن حملتم السلاح فاقتتلتم ، كفرتم .

    7530 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب " ، قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج ، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن ، حتى من الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم ، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم ، وألف بينهم بالإسلام . قال : فبينا رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ، ومعهما يهودي جالس ، فلم يزل يذكرهما أيامهما والعداوة التي كانت بينهم ، حتى استبا ثم اقتتلا . قال : فنادى هذا قومه وهذا قومه ، فخرجوا بالسلاح ، وصف بعضهم لبعض . قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم ، حتى رجعوا ووضعوا السلاح ، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب " إلى قوله : " عذاب عظيم " .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله ، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل ، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به ، يضلوكم [ ص: 60 ] فيردوكم بعد تصديقكم رسول ربكم ، وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم ، كافرين يقول : جاحدين لما قد آمنتم به وصدقتموه من الحق الذي جاءكم من عند ربكم . فنهاهم جل ثناؤه : أن ينتصحوهم ، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة ، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غل وغش وحسد وبغض ، كما :

    7531 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين " ، قد تقدم الله إليكم فيهم كما تسمعون ، وحذركم وأنبأكم بضلالتهم ، فلا تأتمنوهم على دينكم ، ولا تنتصحوهم على أنفسكم ، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال . كيف تأتمنون قوما كفروا بكتابهم ، وقتلوا رسلهم ، وتحيروا في دينهم ، وعجزوا عن أنفسهم ؟ أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة !

    7532 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
    [ ص: 61 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ( 101 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وكيف تكفرون " ، أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله ، فترتدوا على أعقابكم " وأنتم تتلى عليكم آيات الله " ، يعني : حجج الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وفيكم رسوله " حجة أخرى عليكم لله ، مع آي كتابه ، يدعوكم جميع ذلك إلى الحق ، ويبصركم الهدى والرشاد ، وينهاكم عن الغي والضلال ؟ . يقول لهم تعالى ذكره : فما وجه عذركم عند ربكم في جحودكم نبوة نبيكم ، وارتدادكم على أعقابكم ، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم ، إن أنتم راجعتم ذلك وكفرتم ، وفيه هذه الحجج الواضحة والآيات البينة على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه ؟ كما : -

    7533 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله " الآية ، علمان بينان : وجدان نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وكتاب الله . فأما نبي الله فمضى صلى الله عليه وسلم . وأما كتاب الله ، فأبقاه الله بين أظهركم رحمة من الله ونعمة ، فيه حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته .

    وأما قوله : " ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم " ، فإنه يعني : ومن يتعلق بأسباب الله ، ويتمسك بدينه وطاعته " فقد هدي " ، يقول : فقد وفق لطريق واضح ، ومحجة مستقيمة غير معوجة ، فيستقيم به إلى رضى الله ، وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته ، كما : - [ ص: 62 ]

    7534 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " ومن يعتصم بالله فقد هدي " قال : يؤمن بالله .

    وأصل "العصم " المنع ، فكل مانع شيئا فهو "عاصمه " ، والممتنع به "معتصم به " ، ومنه قول الفرزدق :


    أنا ابن العاصمين بني تميم إذا ما أعظم الحدثان نابا


    ولذلك قيل للحبل "عصام " ، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته "عصام " ، ومنه قول الأعشى :


    إلى المرء قيس أطيل السرى وآخذ من كل حي عصم


    يعني ب "العصم " الأسباب ، أسباب الذمة والأمان . يقال منه : "اعتصمت بحبل من فلان " و"اعتصمت حبلا منه " و"اعتصمت به واعتصمته " ، وأفصح اللغتين إدخال "الباء " ، كما قال عز وجل : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ) ، وقد جاء : "اعتصمته " ، كما الشاعر :


    إذا أنت جازيت الإخاء بمثله وآسيتني ، ثم اعتصمت حباليا


    [ ص: 63 ] فقال : "اعتصمت حباليا " ، ولم يدخل "الباء " . وذلك نظير قولهم : "تناولت الخطام ، وتناولت بالخطام " ، و "تعلقت به وتعلقته " ، كما قال الشاعر :

    تعلقت هندا ناشئا ذات مئزر وأنت وقد قارفت ، لم تدر ما الحلم


    وقد بينت معنى "الهدى " ، "والصراط " ، وأنه معني به الإسلام ، فيما مضى قبل بشواهده ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .

    وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تحاوز القبيلين الأوس والخزرج ، كان من قوله : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله " .

    ذكر من قال ذلك :

    7535 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا حسن بن عطية قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس قال : كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر ، [ ص: 64 ] فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا ، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح ، فنزلت هذه الآية : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله " إلى آخر الآيتين ، " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء " إلى آخر الآية .
    القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( 102 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا معشر من صدق الله ورسوله " اتقوا الله " ، خافوا الله وراقبوه بطاعته واجتناب معاصيه " حق تقاته " ، حق خوفه ، وهو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى [ ص: 65 ] " ولا تموتن " ، أيها المؤمنون بالله ورسوله " إلا وأنتم مسلمون " لربكم ، مذعنون له بالطاعة . مخلصون له الألوهة والعبادة .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7536 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله : " اتقوا الله حق تقاته " ، قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر .

    7537 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد ، عن مرة الهمداني ، عن عبد الله مثله .

    7538 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد ، عن مرة الهمداني ، عن عبد الله مثله .

    7539 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال : سمعت ليثا ، عن زبيد ، عن مرة بن شراحيل البكيلي ، عن عبد الله بن مسعود ، مثله .

    7540 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا جرير ، عن زبيد ، عن عبد الله ، مثله . [ ص: 66 ]

    7541 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا مسعر ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله .

    7542 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن المسعودي ، عن زبيد الإيامي ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله .

    7543 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله .

    7544 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : " اتقوا الله حق تقاته " ، قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى .

    7545 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، نحوه .

    7546 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا شعبة قال : حدثنا عمرو بن مرة ، عن مرة ، عن الربيع بن خثيم قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى .

    7547 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت مرة الهمداني يحدث ، عن الربيع بن خثيم في قول الله عز وجل : " اتقوا الله حق تقاته " ، فذكره نحوه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #422
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (422)
    صــ 67 إلى صــ 81


    7548 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن [ ص: 67 ] قيس بن سعد ، عن طاوس : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ، أن يطاع فلا يعصى .

    7549 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " قال "حق تقاته " ، أن يطاع فلا يعصى .

    7550 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم تقدم إليهم - يعني إلى المؤمنين من الأنصار - . فقال : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، أما " حق تقاته " ، يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر .

    7551 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا همام ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ، أن يطاع فلا يعصى ، قال : " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " .

    وقال آخرون : بل تأويل ذلك ، كما : -

    7552 - حدثني به المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " اتقوا الله حق تقاته " ، قال : " حق تقاته " ، أن يجاهدوا في الله حق جهاده ، ولا يأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم .

    ثم اختلف أهل التأويل في هذه الآية : هل هي منسوخة أم لا ؟ [ ص: 68 ]

    فقال بعضهم : هي محكمة غير منسوخة .

    ذكر من قال ذلك :

    7553 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " اتقوا الله حق تقاته " أنها لم تنسخ ، ولكن " حق تقاته " ، أن تجاهد في الله حق جهاده . ثم ذكر تأويله الذي ذكرناه عنه آنفا .

    7554 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن طاوس : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ، فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا ، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .

    7555 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال طاوس قوله : " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، يقول : إن لم تتقوه فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .

    وقال آخرون : هي منسوخة ، نسخها قوله : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ سورة التغابن : 16 ] .

    ذكر من قال ذلك :

    7556 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ثم أنزل التخفيف واليسر ، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه فقال : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ، فجاءت هذه الآية ، فيها تخفيف وعافية ويسر .

    7557 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال : [ ص: 69 ] حدثنا همام ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، قال : نسختها هذه الآية التي في "التغابن " : ( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ) ، وعليها بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطاعوا .

    7558 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : لما نزلت : " اتقوا الله حق تقاته " ، ثم نزل بعدها : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ، فنسخت هذه الآية التي في "آل عمران " .

    7559 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، فلم يطق الناس هذا ، فنسخه الله عنهم ، فقال : ( فاتقوا الله ما استطعتم )

    7560 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ، قال : جاء أمر شديد! قالوا : ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف أنه قد اشتد ذلك عليهم ، نسخها عنهم ، وجاء بهذه الأخرى فقال : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) فنسخها . [ ص: 70 ]

    وأما قوله : " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، فإن تأويله كما : -

    7561 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن طاوس : " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، قال : على الإسلام ، وعلى حرمة الإسلام .
    القول في تأويل قوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وتعلقوا بأسباب الله جميعا . يريد بذلك تعالى ذكره : وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم ، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق ، والتسليم لأمر الله .

    وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى "الاعتصام "

    وأما "الحبل " فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ، ولذلك سمي الأمان "حبلا " ، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف ، والنجاة من الجزع والذعر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

    وإذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالها [ ص: 71 ]

    ومنه قول الله عز وجل : ( إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) [ سورة آل عمران : 112 ]

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7562 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا العوام ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، قال : الجماعة .

    7563 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن العوام ، عن الشعبي ، عن عبد الله في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، قال : حبل الله ، الجماعة .

    وقال آخرون : عنى بذلك القرآن والعهد الذي عهد فيه .

    ذكر من قال ذلك :

    7564 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به : هذا القرآن .

    7565 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " قال : بعهد الله وأمره . [ ص: 72 ]

    7566 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : إن الصراط محتضر تحضره الشياطين ، ينادون : يا عبد الله ، هلم هذا الطريق! ليصدوا عن سبيل الله ، . فاعتصموا بحبل الله ، فإن حبل الله هو كتاب الله .

    7567 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، عن أسباط ، عن السدي : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، أما "حبل الله " ، فكتاب الله .

    7568 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " بحبل الله " ، بعهد الله .

    7569 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء : " بحبل الله " ، قال : العهد .

    7570 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله : " واعتصموا بحبل الله " قال : حبل الله : القرآن .

    7571 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، قال : القرآن .

    7572 - حدثنا سعيد بن يحيى قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كتاب الله ، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض . [ ص: 73 ]

    وقال آخرون : بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله .

    ذكر من قال ذلك :

    7573 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، يقول : اعتصموا بالإخلاص لله وحده .

    7574 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " واعتصموا بحبل الله جميعا " ، قال : الحبل ، الإسلام . وقرأ " ولا تفرقوا " .
    [ ص: 74 ] القول في تأويل قوله عز وجل ( ولا تفرقوا )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولا تفرقوا " ، ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه ، من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والانتهاء إلى أمره . كما : -

    7575 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم " ، إن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة ، وقدم إليكم فيها ، وحذركموها ، ونهاكم عنها ، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة ، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم ، ولا قوة إلا بالله .

    7576 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبى العالية : " ولا تفرقوا " ، لا تعادوا عليه ، يقول : على الإخلاص لله ، وكونوا عليه إخوانا .

    7577 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح : أن الأوزاعي حدثه ، أن يزيد الرقاشي حدثه أنه سمع أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، كلهم في النار إلا واحدة . قال : فقيل : يا رسول الله ، وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يده وقال : الجماعة ، " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " . [ ص: 75 ]

    7578 - حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت الأوزاعي يحدث ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .

    7579 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا المحاربي ، عن ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطبة المدني ، عن عبد الله : أنه قال : "يا أيها الناس ، عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة ، هو خير مما تستحبون في الفرقة " .

    7580 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطبة قال : سمعت ابن مسعود وهو يخطب وهو يقول : يا أيها الناس ، ثم ذكر نحوه . [ ص: 76 ]

    7581 - حدثنا إسماعيل بن حفص الأبلي قال : حدثنا عبد الله بن نمير أبو هشام قال : حدثنا مجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن ثابت بن قطبة المدني قال : قال عبد الله : عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ، ثم ذكر نحوه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام .

    واختلف أهل العربية في قوله : " إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " .

    فقال بعض نحويي البصرة في ذلك : انقطع الكلام عند قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، ثم فسر بقوله : " فألف بين قلوبكم " ، وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف ، كما تقول : "أمسك الحائط أن يميل " .

    وقال بعض نحويي الكوفة : قوله " إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، تابع قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " غير منقطعة منها . [ ص: 77 ]

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله : " إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، متصل بقوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، غير منقطع عنه .

    وتأويل ذلك : واذكروا ، أيها المؤمنون ، نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم ، حين كنتم أعداء في شرككم ، يقتل بعضكم بعضا ، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله ، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه ، كما : -

    7582 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، كنتم تذابحون فيها ، يأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فآخى به بينكم ، وألف به بينكم . أما والله الذي لا إله إلا هو ، إن الألفة لرحمة ، وإن الفرقة لعذاب .

    7583 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء " ، يقتل بعضكم بعضا ، ويأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فألف به بينكم ، وجمع جمعكم عليه ، وجعلكم عليه إخوانا .

    قال أبو جعفر : فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكروها ، هي ألفة الإسلام ، واجتماع كلمتهم عليها والعداوة التي كانت بينهم ، التي قال الله عز وجل : " إذ كنتم أعداء " فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام ، يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة ، . كما : - [ ص: 78 ]

    7584 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق : كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام وهم على ذلك ، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم ، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم . ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

    فذكرهم جل ثناؤه إذ وعظهم ، عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا ، وخوف بعضهم من بعض ، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به وبما جاء به ، من الائتلاف والاجتماع ، وأمن بعضهم من بعض ، ومصير بعضهم لبعض إخوانا ، وكان سبب ذلك ما : -

    7585 - حدثنا به ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا . قال : وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه . قال : فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام ، قال : فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي! قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان - يعني : حكمة لقمان - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اعرضها علي " فعرضها عليه ، فقال : "إن هذا لكلام حسن ، معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله علي هدى ونور . قال : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، وقال : إن هذا لقول حسن! ثم [ ص: 79 ] انصرف عنه وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج . فإن كان قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم . وكان قتله قبل يوم بعاث .

    7586 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، أحد بني عبد الأشهل : أن محمود بن لبيد ، أحد بني عبد الأشهل قال : لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم فقال "هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ " قالوا : وما ذاك ؟ قال : "أنا رسول الله ، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، وأنزل علي الكتاب . ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له! قال : فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء ، فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال : فصمت إياس بن معاذ ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا [ ص: 80 ] إلى المدينة ، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج . قال . ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك . قال : فلما أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع في كل موسم . فبينا هو عند العقبة ، إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا .

    قال ابن حميد قال : سلمة قال : محمد بن إسحاق ، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ; عن أشياخ من قومه قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : "من أنتم ؟ " قالوا : نفر من الخزرج قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا : بلى! . قال : فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام ، أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك ، أصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم . فكانوا إذا كان بينهم شيء ، قالوا لهم : إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ! . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه! فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدقوه وقبلوا منه [ ص: 81 ] ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين; فإن يجمعهم الله عليه ، فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم ، قد آمنوا وصدقوا وهم فيما ذكر لي ستة نفر . قال : فلما قدموا المدينة على قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم . حتى إذا كان العام المقبل ، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة ، وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #423
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (423)
    صــ 82 إلى صــ 96





    7587 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة : أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار فآمنوا به وصدقوه ، فأراد أن يذهب معهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن [ ص: 82 ] بين قومنا حربا ، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد . فوعدوه العام المقبل ، وقالوا : يا رسول الله ، نذهب ، فلعل الله أن يصلح تلك الحرب! قال : فذهبوا ففعلوا ، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلح وهو يوم بعاث . فلقوه من العام المقبل سبعين رجلا قد آمنوا ، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا ، فذلك حين يقول : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " .

    7588 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما : " إذ كنتم أعداء " ، ففي حرب ابن سمير " فألف بين قلوبكم " ، بالإسلام .

    7589 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بنحوه وزاد فيه : فلما كان من أمر عائشة ما كان ، فتثاور الحيان ، فقال بعضهم لبعض : موعدكم الحرة! فخرجوا إليها ، فنزلت هذه الآية : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ ص: 83 ] " ، الآية . فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا ، وحتى إن لهم لخنينا يعني البكاء .

    " وسمير " الذي زعم السدي أن قوله " إذ كنتم أعداء " عنى به حربه ، هو سمير بن زيد بن مالك ، أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله :

    إن سميرا ، أرى عشيرته قد حدبوا دونه وقد أنفوا إن يكن الظن صادقي ببني
    النجار لم يطعموا الذي علفوا [ ص: 84 ]

    وقد ذكر علماء الأنصار : أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها الأوس والخزرج وأولها ، كان بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي ، يقال له : " الحر بن سمير " من مزينة ، وكان حليفا لمالك بن العجلان ، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . فذلك معنى قول السدي : "حرب ابن سمير " .

    وأما قوله : " فأصبحتم بنعمته إخوانا " ، فإنه يعني : فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق ، والتعاون على نصرة أهل الإيمان ، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر ، إخوانا متصادقين ، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد ، كما : -

    7590 - حدثني بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، [ ص: 85 ] قوله : " فأصبحتم بنعمته إخوانا " ، وذكر لنا أن رجلا قال لابن مسعود : كيف أصبحتم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخوانا .
    القول في تأويل قوله ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه " وكنتم على شفا حفرة من النار " ، وكنتم ، يا معشر المؤمنين ، من الأوس والخزرج ، على حرف حفرة من النار . وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام . يقول تعالى ذكره : وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام ، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم ، فتكونوا من الخالدين فيها ، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له .

    و"شفا الحفرة" ، طرفها وحرفها ، مثل "شفا الركية والبئر "; ومنه قول الراجز :

    نحن حفرنا للحجيج سجله نابتة فوق شفاها بقله [ ص: 86 ]

    يعني : فوق حرفها . يقال : "هذا شفا هذه الركية " مقصور "وهما شفواها "

    وقال : " فأنقذكم منها " ، يعني فأنقذكم من الحفرة ، فرد الخبر إلى "الحفرة " ، وقد ابتدأ الخبر عن "الشفا " ، لأن "الشفا " من "الحفرة " . فجاز ذلك ، إذ كان الخبر عن "الشفا " على السبيل التي ذكرها في هذه الآية خبرا عن "الحفرة " ، كما قال جرير بن عطية :

    رأت مر السنين أخذن مني
    كما أخذ السرار من الهلال [ ص: 87 ]

    فذكر : "مر السنين " ، ثم رجع إلى الخبر عن "السنين " ، وكما قال العجاج :

    طول الليالي أسرعت في نقضي
    طوين طولي وطوين عرضي

    وقد بينت العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل ، قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7591 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته " ، كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا ، وأبينه ضلالة ، وأعراه [ ص: 88 ] جلودا ، وأجوعه بطونا ، مكعومين على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم ، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه . من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات ردي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض ، كانوا فيها أصغر حظا ، وأدق فيها شأنا منهم ، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام ، فورثكم به الكتاب ، وأحل لكم به دار الجهاد ، ووضع لكم به من الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين ، وإن أهل الشكر في مزيد الله ، فتعالى ربنا وتبارك .

    7592 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قوله : " وكنتم على شفا حفرة من النار " ، يقول : كنتم على الكفر بالله ، " فأنقذكم منها " ، من ذلك ، وهداكم إلى الإسلام .

    7593 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " ، بمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : كنتم على طرف النار ، من مات منكم أوبق في النار ، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فاستنقذكم به من تلك الحفرة . [ ص: 89 ]

    7594 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا حسن بن حي : " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " قال : عصبية .
    القول في تأويل قوله تعالى ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ( 103 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "كذلك " ، كما بين لكم ربكم في هذه الآيات ، أيها المؤمنون من الأوس والخزرج ، من غل اليهود الذي يضمرونه لكم ، وغشهم لكم ، وأمره إياكم بما أمركم به فيها ، ونهيه لكم عما نهاكم عنه ، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم ، والتي صرتم إليها في إسلامكم ، معرفكم في كل ذلك مواقع نعمه قبلكم ، وصنائعه لديكم ، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . " لعلكم تهتدون " ، يعني : لتهتدوا إلى سبيل الرشاد وتسلكوها ، فلا تضلوا عنها .
    [ ص: 90 ] القول في تأويل قوله ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ( 104 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ولتكن منكم " أيها المؤمنون "أمة " ، يقول : جماعة "يدعون " الناس " إلى الخير " ، يعني إلى الإسلام وشرائعه [ ص: 91 ] التي شرعها الله لعباده " ويأمرون بالمعروف " ، يقول : يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي جاء به من عند الله " وينهون عن المنكر " ، : يعني وينهون عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله ، بجهادهم بالأيدي والجوارح ، حتى ينقادوا لكم بالطاعة .

    وقوله : " وأولئك هم المفلحون " ، يعني : المنجحون عند الله الباقون في جناته ونعيمه .

    وقد دللنا على معنى "الإفلاح " في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته هاهنا .

    7595 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا عيسى بن عمر القارئ ، عن أبي عون الثقفي : أنه سمع صبيحا قال : سمعت عثمان يقرأ : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم " .

    7596 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا ابن [ ص: 92 ] عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت ابن الزبير يقرأ ، فذكر مثل قراءة عثمان التي ذكرناها قبل سواء .

    7597 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ، قال : هم خاصة أصحاب رسول الله ، وهم خاصة الرواة .
    القول في تأويل قوله ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ( 105 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ولا تكونوا " ، يا معشر الذين آمنوا " كالذين تفرقوا " من أهل الكتاب "واختلفوا " في دين الله وأمره ونهيه " من بعد ما جاءهم البينات " ، من حجج الله ، فيما اختلفوا فيه ، وعلموا الحق فيه فتعمدوا خلافه ، وخالفوا أمر الله ، ونقضوا عهده وميثاقه جراءة على الله " وأولئك لهم " ، يعني : ولهؤلاء الذين تفرقوا ، واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم "عذاب " من عند الله "عظيم " ، يقول جل ثناؤه : فلا تتفرقوا ، يا معشر المؤمنين ، في دينكم تفرق هؤلاء في دينهم ، ولا تفعلوا فعلهم ، وتستنوا في دينكم بسنتهم ، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم ، كما : -

    7598 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " ، قال : هم أهل الكتاب ، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا ، كما [ ص: 93 ] تفرق واختلف أهل الكتاب ، قال الله عز وجل : " وأولئك لهم عذاب عظيم " .

    7599 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " ونحو هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة ، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .

    7600 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " ، قال : هم اليهود والنصارى .
    القول في تأويل قوله تعالى ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون 107 ( 106 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .

    وأما قوله : " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " ، فإن معناه : فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . ولا بد ل "أما " من جواب بالفاء ، فلما أسقط الجواب سقطت "الفاء " معه . وإنما جاز ترك ذكر "فيقال " لدلالة ما ذكر من الكلام عليه . [ ص: 94 ]

    وأما معنى قوله جل ثناؤه : " أكفرتم بعد إيمانكم " ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عني به .

    فقال بعضهم : عني به أهل قبلتنا من المسلمين .

    ذكر من قال ذلك :

    7601 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ، الآية ، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " والذي نفس محمد بيده ، ليردن على الحوض ممن صحبني أقوام ، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم ، اختلجوا دوني ، فلأقولن : رب! أصحابي! أصحابي! فليقالن : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك "! وقوله : " وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله " ، هؤلاء أهل طاعة الله ، والوفاء بعهد الله ، قال الله عز وجل : " ففي رحمة الله هم فيها خالدون " .

    7602 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا .

    7603 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح ، عن أبي مجالد ، عن أبي أمامة : " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " ، قال : هم الخوارج .

    وقال آخرون : عنى بذلك : كل من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن ، [ ص: 95 ] حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه .

    ذكر من قال ذلك :

    7604 - حدثني المثنى قال : حدثنا علي بن الهيثم قال : أخبرنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، في قوله : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ، قال : صاروا يوم القيامة فريقين ، فقال لمن اسود وجهه ، وعيرهم : " أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، قال : هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم ، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم ، وأقروا كلهم بالعبودية ، وفطرهم على الإسلام ، فكانوا أمة واحدة مسلمين ، يقول : " أكفرتم بعد إيمانكم " ، يقول : بعد ذلك الذي كان في زمان آدم . وقال في الآخرين : الذين استقاموا على إيمانهم ذلك ، فأخلصوا له الدين والعمل ، فبيض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته .

    وقال آخرون : بل الذين عنوا بقوله : " أكفرتم بعد إيمانكم " ، المنافقون .

    ذكر من قال ذلك :

    7605 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " الآية ، قال : هم المنافقون ، كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار ، وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم : ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) [ سورة الأعراف : 172 ] . [ ص: 96 ]

    وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميع أهل الآخرة فريقين : أحدهما سودا وجوهه ، والآخر بيضا وجوهه . فمعلوم - إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان - أن جميع الكفار داخلون في فريق من سود وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه . فلا وجه إذا لقول قائل : "عنى بقوله : " أكفرتم بعد إيمانكم " ، بعض الكفار دون بعض " ، وقد عم الله جل ثناؤه الخبر عنهم جميعهم ، وإذا دخل جميعهم في ذلك ، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة ، كان معلوما أنها المرادة بذلك .

    فتأويل الآية إذا : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه قوم وتسود وجوه آخرين . فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئا ، وتخلصوا له العبادة - بعد إيمانكم يعني : بعد تصديقكم به ؟ " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، يقول : بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق " وأما الذين ابيضت وجوههم " . ممن ثبت على عهد الله وميثاقه ، فلم يبدل دينه ، ولم ينقلب على عقبيه بعد الإقرار بالتوحيد ، والشهادة لربه بالألوهة ، وأنه لا إله غيره " ففي رحمة الله " ، يقول : فهم في رحمة الله ، يعني : في جنته ونعيمها وما أعد الله لأهلها فيها " هم فيها خالدون " ، أي : باقون فيها أبدا بغير نهاية ولا غاية .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #424
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (424)
    صــ 97 إلى صــ 111




    [ ص: 97 ] القول في تأويل قوله تعالى ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ( 108 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " تلك آيات الله " ، هذه آيات الله .

    وقد بينا كيف وضعت العرب "تلك " و"ذلك " مكان "هذا " و"هذه " ، في غير هذا الموضع فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته .

    وقوله : " آيات الله " ، يعني : مواعظ الله وعبره وحججه . " نتلوها عليك " ، نقرأها عليك ونقصها " ( بالحق ) ، يعني بالصدق واليقين .

    وإنما يعني بقوله : " تلك آيات الله " ، هذه الآيات التي ذكر فيها أمور المؤمنين من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب ، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده ، وبالمبدلين دينه ، والناقضين عهده بعد الإقرار به . ثم أخبر عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يتلو ذلك عليه بالحق ، وأعلمه أن من عاقب من خلقه بما أخبر أنه معاقبه [ به ] : من تسويد وجهه ، وتخليده في أليم عذابه وعظيم عقابه ومن جازاه منهم بما جازاه : من تبييض وجهه وتكريمه وتشريف منزلته لديه ، بتخليده في دائم نعيمه ، فبغير ظلم منه لفريق منهم ، بل بحق استوجبوه ، وأعمال لهم سلفت ، جازاهم عليها ، فقال تعالى ذكره : " وما الله يريد ظلما للعالمين " ، يعني بذلك : وليس الله يا محمد [ ص: 98 ] بتسويد وجوه هؤلاء ، وإذاقتهم العذاب العظيم ، وتبييض وجوه هؤلاء وتنعيمه إياهم في جنته طالبا وضع شيء مما فعل من ذلك في غير موضعه الذي هو موضعه إعلاما بذلك عباده أنه لن يصلح في حكمته بخلقه غير ما وعد أهل طاعته والإيمان به ، وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به وإنذارا منه هؤلاء وتبشيرا منه هؤلاء .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ( 109 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم وتسويد الوجوه ، ويثيب أهل الإيمان به الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها بما وصف أنه مثيبهم به من الخلود في جنانه ، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل ، لأنه لا حاجة به إلى الظلم . وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزه عزة بظلمه إياه ، أو إلى سلطانه سلطانا ، أو إلى ملكه ملكا ، أو إلى نقصان في بعض أسبابه يتمم بها ظلم غيره فيه ما كان ناقصا من أسبابه عن التمام . فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب ، وما في الدنيا والآخرة ، فلا معنى لظلمه أحدا ، فيجوز أن يظلم شيئا ، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقص يحتاج إلى تمام ، فيتم ذلك بظلم [ ص: 99 ] غيره ، تعالى الله علوا كبيرا . ولذلك قال جل ثناؤه عقيب قوله : " وما الله يريد ظلما للعالمين " ، " ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور " .

    واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله : " وإلى الله ترجع الأمور " ظاهرا ، وقد تقدم اسمه ظاهرا مع قوله : " ولله ما في السماوات وما في الأرض " .

    فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة : ذلك نظير قول العرب : "أما زيد فذهب زيد " ، وكما قال الشاعر :

    لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

    فأظهر في موضع الإضمار .

    وقال بعض نحويي الكوفة : ليس ذلك نظير هذا البيت ، لأن موضع "الموت " [ ص: 100 ] الثاني في البيت موضع كناية ، لأنه كلمة واحدة ، وليس ذلك كذلك في الآية ، لأن قوله : " ولله ما في السماوات وما في الأرض " خبر ، ليس من قوله : " وإلى الله ترجع الأمور " في شيء ، وذلك أن كل واحدة من القصتين مفارق معناها معنى الأخرى ، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها ، غير محتاجة إلى الأخرى . وما قال الشاعر : "لا أرى الموت " ، محتاج إلى تمام الخبر عنه .

    قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب ، لأن كتاب الله عز وجل لا توجه معانيه وما فيه من البيان ، إلى الشواذ من الكلام والمعاني ، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم ، وجه صحيح موجود .

    وأما قوله : " وإلى الله ترجع الأمور " فإنه يعني تعالى ذكره : إلى الله مصير أمر جميع خلقه ، الصالح منهم والطالح ، والمحسن والمسيء ، فيجازي كلا على قدر استحقاقهم منه الجزاء ، بغير ظلم منه أحدا منهم .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " .

    فقال بعضهم : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة [ ص: 101 ] إلى المدينة خاصة ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ذكر من قال ذلك :

    7606 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال في : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : هم الذين خرجوا معه من مكة .

    7607 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة .

    7608 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " ، قال عمر بن الخطاب : لو شاء الله لقال : "أنتم " ، فكنا كلنا ، ولكن قال : "كنتم " في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن صنع مثل صنيعهم ، كانوا خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

    7609 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قال : عكرمة : نزلت في ابن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل .

    7610 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عمن حدثه : قال عمر : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا .

    7611 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . [ ص: 102 ]

    7612 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها ورأى من الناس رعة سيئة ، فقرأ هذه : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، الآية . ثم قال : يا أيها الناس ، من سره أن يكون من تلك الأمة ، فليؤد شرط الله منها .

    7613 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم .

    وقال آخرون : معنى ذلك : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها . فكان تأويل ذلك عندهم : كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، أخرجوا للناس في زمانكم .

    ذكر من قال ذلك :

    7614 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، يقول : على هذا الشرط : أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه ، كقوله : ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) [ سورة الدخان : 32 ] .

    7615 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 103 ] ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال يقول : كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط : أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر . وتؤمنوا بالله يقول : لمن بين ظهريه ، كقوله : ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) [ سورة الدخان : 32 ] .

    7616 - وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ميسرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : كنتم خير الناس للناس ، تجيئون بهم في السلاسل ، تدخلونهم في الإسلام .

    7617 - حدثنا عبيد بن أسباط قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : خير الناس للناس .

    وقال آخرون : إنما قيل : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام .

    ذكر من قال ذلك :

    7618 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " ، قال : لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة ، فمن ثم قال : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " . [ ص: 104 ]

    وقال بعضهم : عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس .

    ذكر من قال ذلك :

    7619 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " ، قال : قد كان ما تسمع من الخير في هذه الأمة .

    7620 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول : نحن آخرها وأكرمها على الله .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن ، وذلك أن :

    7621 - يعقوب بن إبراهيم حدثني قال : حدثنا ابن علية ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ألا إنكم وفيتم سبعين أمة ، أنتم آخرها وأكرمها على الله .

    7622 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ، قال : أنتم تتمون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله " . [ ص: 105 ]

    7623 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة : "نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها " .

    وأما قوله : " تأمرون بالمعروف " ، فإنه يعني : تأمرون بالإيمان بالله ورسوله ، والعمل بشرائعه " وتنهون عن المنكر " ، يعني : وتنهون عن الشرك بالله . وتكذيب رسوله ، وعن العمل بما نهى عنه ، كما : -

    7624 - حدثنا علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " . يقول : تأمرونهم بالمعروف : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، و "لا إله إلا الله " ، هو أعظم المعروف ، وتنهونهم عن المنكر ، والمنكر هو التكذيب ، وهو أنكر المنكر .

    وأصل "المعروف " كل ما كان معروفا فعله ، جميلا مستحسنا ، غير مستقبح في أهل الإيمان بالله ، وإنما سميت طاعة الله "معروفا " ، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله . .

    وأصل "المنكر " ، ما أنكره الله ، ورأوه قبيحا فعله ، ولذلك سميت معصية الله "منكرا " ، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ، ويستعظمون ركوبها .

    وقوله : " وتؤمنون بالله " ، يعني : تصدقون بالله ، فتخلصون له التوحيد والعبادة . [ ص: 106 ]

    قال أبو جعفر : فإن سأل سائل فقال : وكيف قيل : " كنتم خير أمة " ، وقد زعمت أن تأويل الآية : أن هذه الأمة خير الأمم التي مضت ، وإنما يقال : " كنتم خير أمة " ، لقوم كانوا خيارا فتغيروا عما كانوا عليه ؟

    قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه ، وإنما معناه : أنتم خير أمة ، كما قيل : ( واذكروا إذ أنتم قليل ) [ الأنفال : 26 ] وقد قال في موضع آخر : ( واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) [ الأعراف : 86 ] فإدخال "كان " في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد ، لأن الكلام معروف معناه . ولو قال أيضا في ذلك قائل : "كنتم " ، بمعنى التمام ، كان تأويله : خلقتم خير أمة أو : وجدتم خير أمة ، كان معنى صحيحا .

    وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك : كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ ، أخرجت للناس .

    والقولان الأولان اللذان قلنا ، أشبه بمعنى الخبر الذي رويناه قبل .

    وقال آخرون : معنى ذلك : كنتم خير أهل طريقة . وقال : "الأمة " : الطريقة .
    [ ص: 107 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ( 110 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولو صدق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله; لكان خيرا لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم " منهم المؤمنون " ، يعني : من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، المؤمنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله ، وهم : عبد الله بن سلام وأخوه ، وثعلبة بن سعية وأخوه ، وأشباههم ممن آمنوا بالله وصدقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله " وأكثرهم الفاسقون " ، يعني : الخارجون عن دينهم ، وذلك أن من دين اليهود اتباع ما في التوراة والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن دين النصارى اتباع ما في الإنجيل ، والتصديق به وبما في التوراة ، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ، وأنه نبي الله . وكلتا الفرقتين - أعني اليهود والنصارى - مكذبة ، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدعون أنهم يدينون به ، الذي قال جل ثناؤه : " وأكثرهم الفاسقون " .

    وقال قتادة بما : - [ ص: 108 ]

    7625 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " ، ذم الله أكثر الناس .
    القول في تأويل قوله ( لن يضروكم إلا أذى )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لن يضركم ، يا أهل الإيمان بالله ورسوله ، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم وتكذيبهم نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا " إلا أذى " ، يعني بذلك : ولكنهم يؤذونكم بشركهم ، وإسماعكم كفرهم ، وقولهم في عيسى وأمه وعزير ، ودعائهم إياكم إلى الضلالة ، ولن يضروكم بذلك .

    وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله ، كما قيل : "ما اشتكى شيئا إلا خيرا " ، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعا .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7626 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " لن يضروكم إلا أذى " ، يقول : لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم .

    7627 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " لن يضروكم إلا أذى " ، قال : أذى تسمعونه منهم .

    7628 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 109 ] ابن جريج ، قوله : " لن يضروكم إلا أذى " ، قال : إشراكهم في عزير وعيسى والصليب .

    7629 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " لن يضروكم إلا أذى " الآية ، قال : تسمعون منهم كذبا على الله ، يدعونكم إلى الضلالة .
    القول في تأويل قوله ( وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ( 111 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن يقاتلكم أهل الكتاب من اليهود والنصارى يهزموا عنكم ، فيولوكم أدبارهم انهزاما .

    فقوله : " يولوكم الأدبار " ، كناية عن انهزامهم ، لأن المنهزم يحول ظهره إلى جهة الطالب هربا إلى ملجأ وموئل يئل إليه منه ، خوفا على نفسه ، والطالب في أثره . فدبر المطلوب حينئذ يكون محاذي وجه الطالب الهازمه .

    " ثم لا ينصرون " ، يعني : ثم لا ينصرهم الله ، أيها المؤمنون ، عليكم ، لكفرهم بالله ورسوله ، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم . لأن الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوبهم ، فأيدكم أيها المؤمنون بنصركم . . [ ص: 110 ]

    وهذا وعد من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان ، نصرهم على الكفرة به من أهل الكتاب .

    وإنما رفع قوله : " ثم لا ينصرون " وقد جزم قوله : " يولوكم الأدبار " ، على جواب الجزاء ، ائتنافا للكلام ، لأن رءوس الآيات قبلها بالنون ، فألحق هذه بها ، كما قال : ( ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) [ سورة المرسلات : 36 ] ، رفعا ، وقد قال في موضع آخر : ( لا يقضى عليهم فيموتوا ) [ سورة فاطر : 36 ] إذ لم يكن رأس آية .
    القول في تأويل قوله ( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه " ضربت عليهم الذلة " ، ألزموا الذلة . و"الذلة " "الفعلة " من "الذل " ، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع .

    "أينما ثقفوا " يعني : حيثما لقوا .

    يقول جل ثناؤه : ألزم اليهود المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض ، وبأي مكان كانوا من بقاعها ، من بلاد المسلمين والمشركين " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، كما : -

    7630 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا هوذة قال : حدثنا عوف ، عن [ ص: 111 ] الحسن في قوله : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة " ، قال : أدركتهم هذه الأمة ، وإن المجوس لتجبيهم الجزية .

    7631 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : أذلهم الله فلا منعة لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين .

    وأما "الحبل " الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم ، من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام . كما : -

    7632 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا بحبل من الله " ، قال : بعهد " وحبل من الناس " ، قال : بعهدهم .

    7633 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس .

    7634 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

    7635 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد ، عن عثمان بن غياث ، قال : عكرمة : يقول : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : بعهد من الله ، وعهد من الناس .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #425
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (425)
    صــ 112 إلى صــ 126




    . [ ص: 112 ]

    7636 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس .

    7637 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس .

    7638 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، فهو عهد من الله وعهد من الناس ، كما يقول الرجل : "ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم " ، فهو الميثاق .

    7639 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : بعهد من الله وعهد من الناس لهم قال ابن جريج ، وقال عطاء : العهد حبل الله .

    7640 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : إلا بعهد ، وهم يهود . قال : والحبل العهد . قال : وذلك قول أبي الهيثم بن التيهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار في العقبة : "أيها الرجل ، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس " ، يقول : عهودا ، قال : واليهود لا يأمنون في أرض من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل . وقرأ : ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) [ سورة آل عمران : 55 ] ، قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلون ، قال الله : ( وقطعناهم في الأرض أمما ) [ ص: 113 ] [ سورة الأعراف : 168 ] ، يهود .

    7641 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك في قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : بعهد من الله وعهد من الناس .

    7642 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .

    قال أبو جعفر : واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب "الباء " في قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، فقال بعض نحويي الكوفة : الذي جلب "الباء " في قوله : "بحبل " ، فعل مضمر قد ترك ذكره . قال : ومعنى الكلام : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ، إلا أن يعتصموا بحبل من الله فأضمر ذلك ، واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر :

    رأتني بحبليها فصدت مخافة وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق

    وقال : أراد : أقبلت بحبليها ، وبقول الآخر :

    [ ص: 114 ] حنتني حانيات الدهر حتى
    كأني خاتل أدنو لصيد قريب الخطو يحسب من رآني
    ولست مقيدا ، أني بقيد

    فأوجب إعمال فعل محذوف ، وإظهار صلته وهو متروك . وذلك في مذاهب العربية ضعيف ، ومن كلام العرب بعيد . وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات ، فغير دال على صحة دعواه ، لأن في قول الشاعر : "رأتني بحبليها " ، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكا ، ففي إخباره عنها أنها "رأته بحبليها " ، إخبار منه أنها رأته ممسكا بالحبلين . فكان فيما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر "الإمساك " ، وكانت "الباء " صلة لقوله : "رأتني " ، كما في قول القائل : "أنا بالله " ، مكتف بنفسه ، ومعرفة السامع معناه ، أن تكون "الباء " محتاجة إلى كلام يكون لها جالبا غير الذي ظهر ، وأن المعنى : "أنا بالله مستعين " . [ ص: 115 ]

    وقال بعض نحويي البصرة ، قوله : " إلا بحبل من الله " استثناء خارج من أول الكلام . قال : وليس ذلك بأشد من قوله : ( لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ) [ سورة مريم : 62 ]

    وقال آخرون من نحويي الكوفة : هو استثناء متصل ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ، أي : بكل مكان إلا بموضع حبل من الله ، كما تقول : ضربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان .

    وهذا أيضا طلب الحق فأخطأ المفصل . وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل ، ولو كان متصلا كما زعم ، لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة . وليس ذلك صفة اليهود ، لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس ، أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس ، فالذلة مضروبة عليهم ، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل . فلو كان قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلة مضروبة عليهم . وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم ، وخلاف ما هم به من الصفة ، فقد تبين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا .

    قال أبو جعفر : ولكن القول عندنا أن "الباء " في قوله : " إلا بحبل من الله " ، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض في المعنى "الباء " . وذلك أن معنى قوله : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا " ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا ثم قال : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " على غير وجه الاتصال بالأول ، ولكنه على الانقطاع عنه . ومعناه : ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس ، [ ص: 116 ] كما قيل : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) [ سورة النساء : 92 ] ، فالخطأ وإن كان منصوبا بما عمل فيما قبل الاستثناء ، فليس قوله باستثناء متصل بالأول بمعنى : "إلا خطأ " ، فإن له قتله كذلك ولكن معناه : ولكن قد يقتله خطأ . فكذلك قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وإن كان الذي جلب "الباء " التي بعد "إلا " الفعل الذي يقتضيها قبل "إلا " ، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله ، بمعنى : أن القوم إذا لقوا ، فالذلة زائلة عنهم ، بل الذلة ثابتة بكل حال . ولكن معناه ما بينا آنفا .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " وباءوا بغضب من الله " ، وتحملوا غضب الله فانصرفوا به مستحقيه . وقد بينا أصل ذلك بشواهده ، ومعنى "المسكنة " وأنها ذل الفاقة والفقر وخشوعهما ، ومعنى : "الغضب من الله " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    وقوله : " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله " ، يعني جل ثناؤه بقوله : "ذلك " ، أي بوءهم الذي باءوا به من غضب الله ، وضرب الذلة عليهم ، بدل مما كانوا [ ص: 117 ] يكفرون بآيات الله يقول : مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه ، وما فرض عليهم من فرائضه " ويقتلون الأنبياء بغير حق " ، يقول : وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم ، اعتداء على الله وجرأة عليه بالباطل ، وبغير حق استحقوا منهم القتل .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : ألزموا الذلة بأي مكان لقوا ، إلا بذمة من الله وذمة من الناس ، وانصرفوا بغضب من الله متحمليه ، وألزموا ذل الفاقة وخشوع الفقر ، بدلا مما كانوا يجحدون بآيات الله وأدلته وحججه ، ويقتلون أنبياءه بغير حق ظلما واعتداء .
    القول في تأويل قوله ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 112 ) )

    قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فعلنا بهم ذلك بكفرهم ، وقتلهم الأنبياء ، ومعصيتهم ربهم ، واعتدائهم أمر ربهم .

    وقد بينا معنى "الاعتداء " في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته .

    فأعلم ربنا جل ثناؤه عباده ، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب ، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا ، مع ما ذخر لهم في الآجل من العقوبة والنكال وأليم العذاب ، إذ تعدوا حدود الله ، واستحلوا محارمه تذكيرا منه تعالى ذكره [ ص: 118 ] لهم ، وتنبيها على موضع البلاء الذي من قبله أتوا لينيبوا ويذكروا ، وعظة منه لأمتنا أن لا يستنوا بسنتهم ويركبوا منهاجهم ، فيسلك بهم مسالكهم ، ويحل بهم من نقم الله ومثلاته ما أحل بهم . كما : -

    7643 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، اجتنبوا المعصية والعدوان ، فإن بهما أهلك من أهلك قبلكم من الناس .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( 113 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ليسوا سواء " ، ليس فريقا أهل الكتاب ، أهل الإيمان منهم والكفر : سواء . يعني بذلك : أنهم غير متساوين . يقول : ليسوا متعادلين ، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد ، والخير والشر . .

    وإنما قيل : " ليسوا سواء " ، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله : ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) ، ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده ، المؤمنة منهما والكافرة فقال : " ليسوا سواء " ، أي : ليس هؤلاء سواء ، المؤمنون منهم والكافرون . ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل [ ص: 119 ] الكتاب ، ومدحهم ، وأثنى عليهم ، بعد ما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ، ونخب الجنان ، ومحالفة الذل والصغار ، وملازمة الفاقة والمسكنة ، وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة ، فقال : " من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " ، الآيات الثلاث ، إلى قوله : " والله عليم بالمتقين " .

    فقوله : " أمة قائمة " مرفوعة بقوله : " من أهل الكتاب " .

    وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدمين منهم في صناعتهم : أن ما بعد "سواء " في هذا الموضع من قوله : " أمة قائمة " ، ترجمة عن "سواء " وتفسير عنه ، بمعنى : لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة . وزعموا أن ذكر الفرقة الأخرى ، ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين ، وهي "الأمة القائمة " ، ومثلوه بقول أبي ذؤيب :

    عصيت إليها القلب : إني لأمرها سميع ، فما أدري أرشد طلابها ؟

    ولم يقل : "أم غير رشد " ، اكتفاء بقوله : "أرشد " من ذكر "أم غير رشد " ، . وبقول الآخر :

    أراك فلا أدري أهم هممته ؟
    وذو الهم قدما خاشع متضائل [ ص: 120 ]

    قال أبو جعفر : وهو مع ذلك عندهم خطأ قول القائل المريد أن يقول : "سواء أقمت أم قعدت " : "سواء أقمت " ، حتى يقول : "أم قعدت " . ، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيا بواحد ، دون ما كان ناقصا عن ذلك ، وذلك نحو : "ما أبالي " أو "ما أدري " ، فأجازوا في ذلك : "ما أبالي أقمت " ، وهم يريدون : "ما أبالي أقمت أم قعدت " ، لاكتفاء "ما أبالي " بواحد وكذلك في "ما أدري " . وأبوا الإجازة في "سواء " ، من أجل نقصانه ، وأنه غير مكتف بواحد ، فأغفلوا في توجيههم قوله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " على ما حكينا عنهم ، إلى ما وجهوه إليه - مذاهبهم في العربية إذ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع "سواء " ، وأخطأوا تأويل الآية . ف "سواء " في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء ، لا بالمعنى الذي تأوله من حكينا قوله .

    وقد ذكر أن قوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " الآيات الثلاث ، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7644 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ، ورسخوا [ ص: 121 ] فيه ، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا! ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله " إلى قوله : " وأولئك من الصالحين " .

    7645 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني ابن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه .

    7646 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " الآية ، يقول : ليس كل القوم هلك ، قد كان لله فيهم بقية .

    7647 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " أمة قائمة " ، عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سلام أخوه ، وسعية ، ومبشر ، وأسيد وأسد ابنا كعب .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله ، سواء عند الله .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 122 ]

    7648 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " ، قال : لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم .

    7649 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " ، الآية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود ، كمثل هذه الأمة التي هي قائمة .

    قال أبو جعفر : وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : قد تمت القصة عند قوله : " ليسوا سواء " ، عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم ، وأن قوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " ، خبر مبتدأ عن مدح مؤمنهم ووصفهم بصفتهم ، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج .

    ويعني جل ثناؤه بقوله : " أمة قائمة " ، جماعة ثابتة على الحق .

    وقد دللنا على معنى "الأمة " فيما مضى بما أغنى عن إعادته .

    وأما "القائمة " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

    فقال بعضهم : معناها : العادلة .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 123 ]

    7650 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أمة قائمة " ، قال : عادلة .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه .

    ذكر من قال ذلك :

    7651 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " أمة قائمة " ، يقول : قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده .

    7652 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " أمة قائمة " ، يقول : قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه .

    7653 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " من أهل الكتاب أمة قائمة " ، يقول : أمة مهتدية ، قائمة على أمر الله ، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه .

    وقال آخرون . بل معنى "قائمة " ، مطيعة .

    ذكر من قال ذلك :

    7654 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أمة قائمة " ، الآية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله ، و"القانتة " ، المطيعة .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم ، وإن كان سائر الأقوال الأخر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك . وذلك أن معنى قوله : "قائمة " ، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه ، والعدل والطاعة [ ص: 124 ] وغير ذلك من أسباب الخير ، من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ونظير ذلك الخبر الذي رواه النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

    7655 - " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم ركبوا سفينة " ، ثم ضرب لهم مثلا . .

    فالقائم على حدود الله : هو الثابت على التمسك بما أمره الله به ، واجتناب ما نهاه الله عنه .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله ، متمسكة به ، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم .
    [ ص: 125 ] القول في تأويل قوله ( يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( 113 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : " يتلون آيات الله " ، يقرءون كتاب الله آناء الليل . ويعني بقوله : " آيات الله " ، ما أنزل في كتابه من العبر والمواعظ . يقول : يتلون ذلك آناء الليل ، يقول : في ساعات الليل ، فيتدبرونه ويتفكرون فيه .

    وأما "آناء الليل " ، فساعات الليل ، واحدها "إني " ، كما قال الشاعر :


    حلو ومر كعطف القدح مرته في كل إني حذاه الليل ينتعل
    [ ص: 126 ]

    وقد قيل إن واحد "الآناء " ، "إنى " مقصور ، كما واحد "الأمعاء " "معى " .

    واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : تأويله : ساعات الليل ، كما قلنا .

    ذكر من قال ذلك :

    7656 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يتلون آيات الله آناء الليل " ، أي : ساعات الليل .

    7657 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : " آناء الليل " ، ساعات الليل .

    7658 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال : عبد الله بن كثير : سمعنا العرب تقول : " آناء الليل " ، ساعات الليل .

    وقال آخرون " آناء الليل " ، جوف الليل .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #426
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (426)
    صــ 127 إلى صــ 141





    ذكر من قال ذلك :

    7659 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يتلون آيات الله آناء الليل " ، أما " آناء الليل " ، فجوف الليل . [ ص: 127 ]

    وقال آخرون : بل عنى بذلك قوم كانوا يصلون العشاء الآخرة .

    ذكر من قال ذلك :

    7660 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : " يتلون آيات الله آناء الليل " ، صلاة العتمة ، هم يصلونها ، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها .

    7661 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : حدثني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن سليمان ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود قال : احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، كان عند بعض أهله ونسائه : فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليل ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فبشرنا وقال : "إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب! فأنزل الله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " [ ص: 128 ]

    7662 - حدثني يونس قال : حدثنا علي بن معبد ، عن أبي يحيى الخراساني ، عن نصر بن طريف ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ننتظر العشاء - يريد العتمة - فقال لنا : ما على الأرض أحد من أهل الأديان ينتظر هذة الصلاة في هذا الوقت غيركم! قال : فنزلت : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " [ ص: 129 ]

    وقال آخرون : بل عني بذلك قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء .

    ذكر من قال ذلك :

    7663 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور قال : بلغني أنها نزلت : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " فيما بين المغرب والعشاء .

    قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرتها على اختلافها ، متقاربة المعاني . وذلك أن الله تعالى ذكره وصف هؤلاء القوم بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل ، وهي آناؤه ، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليا لها آناء الليل ، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء ، ومن تلاها جوف الليل ، فكل تال له ساعات الليل . غير أن أولى الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : "عني بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء " ، لأنها صلاة لا يصليها أحد من أهل الكتاب " ، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله .

    وأما قوله : " وهم يسجدون " ، فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى "السجود " في هذا الموضع ، اسم الصلاة لا للسجود ، لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع . فكان معنى الكلام عنده : يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون ، .

    وليس المعنى على ما ذهب إليه ، وإنما معنى الكلام : من أهل الكتاب أمة قائمة ، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم ، وهم مع ذلك يسجدون فيها ، ف "السجود " ، هو "السجود " المعروف في الصلاة .
    [ ص: 130 ]

    القول في تأويل قوله ( يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ( 114 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعز : " يؤمنون بالله واليوم الآخر " ، يصدقون بالله وبالبعث بعد الممات ، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم ; وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله ، ويعبدون معه غيره ، ويكذبون بالبعث بعد الممات ، وينكرون المجازاة على الأعمال والثواب والعقاب .

    وقوله : " ويأمرون بالمعروف " ، يقول : يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله ، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به . " وينهون عن المنكر " ، يقول : وينهون الناس عن الكفر بالله ، وتكذيب محمد وما جاءهم به من عند الله : يعني بذلك : أنهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به ، وينهونهم عن المعروف من الأعمال ، وهو تصديق محمد فيما أتاهم به من عند الله . " ويسارعون في الخيرات " ، يقول : ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم .

    ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب ، هم من عداد الصالحين ، لأن من كان منهم فاسقا ، قد باء بغضب من الله لكفره بالله وآياته ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وعصيانه ربه واعتدائه في حدوده . [ ص: 131 ]
    القول في تأويل قوله تعالى ( وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ( 115 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة الكوفة : ( وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ) ، جميعا ، ردا على صفة القوم الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

    وقرأته عامة قرأة المدينة والحجاز وبعض قرأة الكوفة بالتاء في الحرفين جميعا : " وما تفعلوا من خير فلن تكفروه " ، بمعنى : وما تفعلوا ، أنتم أيها المؤمنون ، من خير فلن يكفركموه ربكم .

    وكان بعض قرأة البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزا بالياء والتاء ، في الحرفين .

    قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : " وما يفعلوا من خير فلن يكفروه " ، بالياء في الحرفين كليهما ، يعني بذلك الخبر عن الأمة القائمة ، التالية آيات الله .

    وإنما اخترنا ذلك ، لأن ما قبل هذه الآية من الآيات ، خبر عنهم . فإلحاق هذه الآية إذ كان لا دلالة فيها تدل على الانصراف عن صفتهم بمعاني الآيات قبلها ، أولى من صرفها عن معاني ما قبلها . وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ .

    7664 - حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء قال : بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرأهما جميعا بالياء . [ ص: 132 ]

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا ، على ما اخترنا من القراءة : وما تفعل هذه الأمة من خير ، وتعمل من عمل لله فيه رضى ، فلن يكفرهم الله ذلك ، يعني بذلك : فلن يبطل الله ثواب عملهم ذلك ، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه ، ولكنه يجزل لهم الثواب عليه ، ويسني لهم الكرامة والجزاء .

    وقد دللنا على معنى "الكفر " فيما مضى قبل بشواهده ، وأن أصله تغطية الشيء

    فكذلك ذلك في قوله : " فلن يكفروه " ، فلن يغطى على ما فعلوا من خير فيتركوا بغير مجازاة ، ولكنهم يشكرون على ما فعلوا من ذلك ، فيجزل لهم الثواب فيه .

    وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأول من تأول ذلك من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7665 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "وما تفعلوا من خير فلن تكفروه " يقول : لن يضل عنكم .

    7666 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .

    وأما قوله : " والله عليم بالمتقين " ، فإنه يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بمن اتقاه ، لطاعته واجتناب معاصيه ، وحافظ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ويجازيهم بها ، تبشيرا منه لهم جل ذكره في عاجل الدنيا ، وحضا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم . [ ص: 133 ]
    القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 116 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا وعيد من الله عز وجل للأمة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب ، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون ، وأنهم قد باءوا بغضب منه ، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله .

    يقول تعالى ذكره : " إن الذين كفروا " ، يعني : الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاءهم به من عند الله " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا " ، يعني : لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا ، وأولاده الذين رباهم فيها ، شيئا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة ، ولا في الدنيا إن عجلها لهم فيها .

    وإنما خص أولاده وأمواله ، لأن أولاد الرجل أقرب أنسبائه إليه ، وهو على ماله أقدر منه على مال غيره ، وأمره فيه أجوز من أمره في مال غيره . فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه ، وماله الذي هو نافذ الأمر فيه ، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم ، أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا .

    ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله : " وأولئك أصحاب النار " . وإنما جعلهم أصحابها ، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها ، [ ص: 134 ] كصاحب الرجل الذي لا يفارقه ، وقرينه الذي لا يزايله . ثم وكد ذلك بإخباره عنهم إنهم "فيها خالدون " ، أن صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها ، إذ كان من الأشياء ما يفارق صاحبه في بعض الأحوال ، ويزايله في بعض الأوقات ، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النار التي أصلوها ، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع . نعوذ بالله منها ومما قرب منها من قول وعمل .
    القول في تأويل قوله ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : شبه ما ينفق الذين كفروا ، أي : شبه ما يتصدق به الكافر من ماله ، فيعطيه من يعطيه على وجه القربة إلى ربه وهو لوحدانية الله جاحد ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب ، في أن ذلك غير نافعه مع كفره ، وأنه مضمحل عند حاجته إليه ، ذاهب بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه كشبه ريح فيها برد شديد ، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد " حرث قوم " ، يعني : زرع قوم قد أملوا إدراكه ، ورجوا ريعه وعائدة نفعه " ظلموا أنفسهم " ، يعني : أصحاب الزرع ، عصوا الله ، وتعدوا حدوده "فأهلكته " ، يعني : فأهلكت الريح التي فيها الصر زرعهم ذلك ، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم . [ ص: 135 ]

    يقول تعالى ذكره : فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته ، حين يلقاه ، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها . وخرج المثل للنفقة ، والمراد ب "المثل " صنيع الله بالنفقة ، فبين ذلك قوله : " كمثل ريح فيها صر " ، فهو كما قد بينا في مثله قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) [ سورة البقرة : 17 ] وما أشبه ذلك .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : مثل إبطال الله أجر ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ، كمثل ريح فيها صر . وإنما جاز ترك ذكر "إبطال الله أجر ذلك " ، لدلالة آخر الكلام عليه ، وهو قوله : " كمثل ريح فيها صر " ، ولمعرفة السامع ذلك معناه .

    واختلف أهل التأويل في معنى "النفقة " التي ذكرها في هذه الآية .

    فقال بعضهم : هي النفقة المعروفة في الناس .

    ذكر من قال ذلك :

    7667 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا " ، قال : نفقة الكافر في الدنيا .

    وقال آخرون : بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه ، مما لا يصدقه بقلبه .

    ذكر من قال ذلك :

    7668 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثني أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته " ، يقول : مثل ما يقول فلا يقبل [ ص: 136 ] منه ، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون ، فأصابه ريح فيها صر ، أصابته فأهلكته . فكذلك أنفقوا فأهلكهم شركهم .

    وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل .

    وقد تقدم بياننا تأويل "الحياة الدنيا " بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع .

    وأما "الصر " فإنه شدة البرد ، وذلك بعصوف من الشمال في إعصار الطل والأنداء ، في صبيحة معتمة بعقب ليلة مصحية ، كما :

    7669 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث قال : سمعت عكرمة يقول : " ريح فيها صر " ، قال : برد شديد .

    7670 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : " ريح فيها صر " ، قال : برد شديد وزمهرير .

    7671 - حدثنا علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " ريح فيها صر " ، يقول : برد .

    7672 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "الصر " ، البرد .

    7673 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " كمثل ريح فيها صر " ، أي : برد شديد .

    7674 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .

    7675 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في "الصر " ، البرد الشديد . [ ص: 137 ]

    7676 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثنا عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " كمثل ريح فيها صر " ، يقول : ريح فيها برد .

    7677 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " ريح فيها صر " ، قال : "صر " ، باردة أهلكت حرثهم . قال : والعرب تدعوها "الضريب " ، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبا قد أحرق الزرع ، تقول : "قد ضرب الليلة " أصابه ضريب تلك الصر التي أصابته .

    7678 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك : " ريح فيها صر " ، قال : ريح فيها برد .
    القول في تأويل قوله ( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ( 117 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم ، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلما منه لهم يعني : وضعا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله ، بل وضع فعله ذلك في موضعه ، وفعل بهم ما هم أهله . لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون ، ولأمره متبعون ، ولرسله مصدقون ، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون ، ولأمره مخالفون ، ولرسله مكذبون ، بعد تقدم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له ، والإقرار بنبوة أنبيائه ، وتصديق ما جاءوهم به ، وتوكيده الحجج بذلك عليهم . فلم يكن بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك بعد [ ص: 138 ] الإعذار إليه ، من إحباط وفر عمله له ظالما ، بل الكافر هو الظالم نفسه ، لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره ، ما أوردها به نار جهنم ، وأصلاها به سعير سقر .
    القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم " لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، يقول : لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم " من دونكم " يقول : من دون أهل دينكم وملتكم ، يعني من غير المؤمنين .

    وإنما جعل "البطانة " مثلا لخليل الرجل ، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه ، لحلوله منه - في اطلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه - محل ما ولي جسده من ثيابه .

    فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ، ثم عرفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة ، وبغيهم إياهم الغوائل ، فحذرهم بذلك منهم ومن [ ص: 139 ] مخالتهم ، فقال تعالى ذكره : " لا يألونكم خبالا " ، يعني لا يستطيعونكم شرا ، من "ألوت آلو ألوا " ، يقال : "ما ألا فلان كذا " ، أي : ما استطاع ، كما قال الشاعر :


    جهراء لا تألو ، إذا هي أظهرت ، بصرا ، ولا من عيلة تغنيني


    يعني : لا تستطيع عند الظهر إبصارا .

    وإنما يعني جل ذكره بقوله : " لا يألونكم خبالا " ، البطانة التي نهى المؤمنين [ ص: 140 ] عن اتخاذها من دونهم ، فقال : إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها** خبالا أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال .

    وأصل "الخبل " و"الخبال " ، الفساد ، ثم يستعمل في معان كثيرة ، يدل على ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم :

    7679 - " من أصيب بخبل أو جراح " .

    وأما قوله : " ودوا ما عنتم " ، فإنه يعني : ودوا عنتكم ، يقول : يتمنون لكم العنت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسركم .

    وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من اليهود وأهل النفاق منهم ، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام ، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 141 ]

    7680 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : قال محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود ، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم ، ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " إلى قوله : " وتؤمنون بالكتاب كله " .

    7681 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، في المنافقين من أهل المدينة . نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولوهم .

    7682 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم " ، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين ، أو يؤاخوهم ، أو يتولوهم من دون المؤمنين .

    7683 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، هم المنافقون .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #427
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (427)
    صــ 142 إلى صــ 156





    7684 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن [ ص: 142 ] الربيع ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، يقول : لا تستدخلوا المنافقين ، تتولوهم دون المؤمنين .

    7685 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا هشيم قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن الأزهر بن راشد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال : فلم ندر ما ذلك ، حتى أتوا الحسن فسألوه ، فقال : نعم ، أما قوله : " لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا " ، فإنه يقول : لا تنقشوا في خواتيمكم "محمد "; وأما قوله : " ولا تستضيئوا بنار أهل الشرك " ، فإنه يعني به المشركين ، يقول : لا تستشيروهم في شيء من أموركم . قال : قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ، ثم تلا هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " . . [ ص: 143 ]

    7686 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، أما "البطانة " ، فهم المنافقون .

    7687 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية ، قال : لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه .

    7688 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية ، قال : هؤلاء المنافقون . وقرأ قوله : " قد بدت البغضاء من أفواههم " الآية .

    قال أبو جعفر : واختلفوا في تأويل قوله : " ودوا ما عنتم " .

    فقال بعضهم معناه : ودوا ما ضللتم عن دينكم .

    ذكر من قال ذلك :

    7689 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ودوا ما عنتم " ، يقول : ما ضللتم .

    وقال آخرون بما : - [ ص: 144 ]

    7690 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ودوا ما عنتم " ، يقول : في دينكم ، يعني : أنهم يودون أن تعنتوا في دينكم .

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " ودوا ما عنتم " ، فجاء بالخبر عن "البطانة " ، بلفظ الماضي في محل الحال ، والقطع بعد تمام الخبر ، والحالات لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها ؟ .

    قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أن قوله : " ودوا ما عنتم " حال من "البطانة " ، وإنما هو خبر عنهم ثان منقطع عن الأول غير متصل به . وإنما تأويل الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا ، صفتهم كذا . فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى ، وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد .

    وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله : " ودوا ما عنتم " ، من صلة البطانة ، وقد وصلت بقوله : " لا يألونكم خبالا " ، فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام "البطانة " بصلته . ولكن القول في ذلك كما بينا قبل ، من أن قوله : " ودوا ما عنتم " ، خبر مبتدأ عن "البطانة " ، غير الخبر الأول ، وغير حال من البطانة ولا قطع منها . .
    [ ص: 145 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قد بدت البغضاء من أفواههم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون ، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم " من أفواههم " ، يعني بألسنتهم . والذي بدا لهم منهم بألسنتهم ، إقامتهم على كفرهم ، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمون من الضلالة . فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان ، لأن ذلك عداوة على الدين ، والعداوة على الدين العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما ، وذلك انتقال من هدى إلى ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك . فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ، ومقامهم عليه ، أبين الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة .

    وقد قال بعضهم : معنى قوله : " قد بدت البغضاء من أفواههم " ، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان ، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر ، بإطلاع بعضهم بعضا على ذلك . وزعم قائلو هذه المقالة أن الذين عنوا بهذه الآية أهل النفاق ، دون من كان مصرحا بالكفر من اليهود وأهل الشرك .

    ذكر من قال ذلك :

    7691 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة ، قوله : " قد بدت البغضاء من أفواههم " ، يقول : قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار ، من غشهم للإسلام وأهله ، وبغضهم إياهم .

    7692 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " قد بدت البغضاء من أفواههم " ، يقول : من أفواه المنافقين .

    وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة ، قول لا معنى له . وذلك أن الله تعالى [ ص: 146 ] ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء ، إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم ، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم . فأما من لم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته ، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته ، إلا بعد تعريفهم إياهم ، إما بأعيانهم وأسمائهم ، وإما بصفات قد عرفوهم بها .

    وإذ كان ذلك كذلك وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار ، غير مدرك به المؤمنون معرفة ما هم عليه لهم ، مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودد إليهم كان بينا أن الذي نهى الله المؤمنين عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم ، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم ، على ما وصفهم الله عز وجل به ، فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها ، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ، ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب . لأنهم لو كانوا المنافقين ، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا . ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحرب ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين ، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم ، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل .

    و"البغضاء " ، مصدر . وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود : " قد بدا البغضاء من أفواههم " على وجه التذكير . وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث ، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم ، فيجوز تذكير ما خرج منها [ ص: 147 ] على لفظ المؤنث وتأنيثه ، كما قال عز وجل : ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) [ سورة هود : 67 ] ، وكما قال : ( فقد جاءكم بينة من ربكم ) [ سورة الأنعام : 157 ] ، وفي موضع آخر : ( وأخذت الذين ظلموا الصيحة ) [ سورة هود : 94 ] ( " وجاءتكم بينة من ربكم " ) [ سورة الأعراف : 73 ، 85 ]

    وقال : " من أفواههم " ، وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم ، لأن المعني به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم ، فقال : " قد بدت البغضاء من أفواههم " بألسنتهم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وما تخفي صدورهم أكبر )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والذي تخفي صدورهم يعني : صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة ، فتخفيه عنكم ، أيها المؤمنون "أكبر " ، يقول : أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم . كما : -

    7693 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وما تخفي صدورهم أكبر " ، يقول : وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم .

    7694 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " وما تخفي صدورهم أكبر " يقول : ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم .
    [ ص: 148 ] القول في تأويل قوله ( قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ( 118 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " قد بينا لكم " أيها المؤمنون "الآيات " ، يعني ب "الآيات " العبر . قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين ، ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم " إن كنتم تعقلون " ، يعني : إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه ، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ، ومبلغ عائدته عليكم .
    القول في تأويل قوله ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ها أنتم ، أيها المؤمنون ، الذين تحبونهم ، يقول : تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ، فتودونهم وتواصلونهم وهم لا يحبونكم ، بل يبطنون لكم العداوة والغش " وتؤمنون بالكتاب كله " .

    ومعنى "الكتاب " في هذا الموضع معنى الجمع ، كما يقال : "كثر الدرهم في أيدي الناس " ، بمعنى الدراهم .

    فكذلك قوله : " وتؤمنون بالكتاب كله " ، إنما معناه : بالكتب كلها ، [ ص: 149 ] كتابكم الذي أنزل الله إليكم ، وكتابهم الذي أنزله إليهم ، وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على عباده .

    يقول تعالى ذكره : فأنتم إذ كنتم ، أيها المؤمنون ، تؤمنون بالكتب كلها ، وتعلمون أن الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بذلك كله ، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم ، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه أولى بعداوتكم إياهم وبغضائهم وغشهم ، منهم بعداوتكم وبغضائكم ، مع جحودهم بعض الكتب وتكذيبهم ببعضها . كما : -

    7695 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وتؤمنون بالكتاب كله " ، أي : بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحق بالبغضاء لهم ، منهم لكم .

    قال أبو جعفر : وقال : " ها أنتم أولاء " ولم يقل : "هؤلاء أنتم " ، ففرق بين "ها و "أولاء " بكناية اسم المخاطبين ، لأن العرب كذلك تفعل في "هذا " إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر ، وذلك مثل [ ص: 150 ] أن يقال لبعضهم : أين أنت " ، فيجيب المقول ذلك له . "ها أنا ذا " فتفرق بين التنبيه و "ذا " بمكني اسم نفسه ، ولا يكادون يقولون : "هذا أنا " ، ثم يثنى ويجمع على ذلك . وربما أعادوا حرف التنبيه مع : "ذا " فقالوا : "ها أنا هذا " . ولا يفعلون ذلك إلا فيما كان تقريبا ، فأما إذا كان على غير التقريب والنقصان قالوا : "هذا هو " "وهذا أنت " . وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة ، يقولون : "هذا عمرو قائما " ، إن كان "هذا " تقريبا . وإنما فعلوا ذلك في المكني مع التقريب ، تفرقة بين "هذا " إذا كان بمعنى الناقص الذي يحتاج إلى تمام ، وبينه إذا كان بمعنى الاسم الصحيح .

    وقوله : "تحبونهم " خبر للتقريب .

    قال أبو جعفر : وفي هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين - أعني المؤمنين والكافرين ، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم ، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان ، كما : - [ ص: 151 ]

    7696 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله " ، فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي له ويرحمه . ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه ، لأباد خضراءه .

    7697 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن ، يرحمه . ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه ، لأباد خضراءه .

    وكان مجاهد يقول : نزلت هذه الآية في المنافقين .

    7698 - حدثني بذلك محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
    القول في تأويل قوله ( وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : أن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من دونهم ، ووصفهم بصفتهم ، إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطوهم بألسنتهم تقية حذرا على أنفسهم منهم فقالوا لهم : "قد آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم " ، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون ، عضوا - على ما يرون من ائتلاف [ ص: 152 ] المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم - أناملهم ، وهي أطراف أصابعهم ، تغيظا مما بهم من الموجدة عليهم ، وأسى على ظهر يسندون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7699 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، إذا لقوا المؤمنين قالوا : "آمنا " ، ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم ، فصانعوهم بذلك " وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، يقول : مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه . لو يجدون ريحا لكانوا على المؤمنين ، فهم كما نعت الله عز وجل .

    7700 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله إلا أنه قال : من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه ولم يقل : "لو يجدون ريحا " ، وما بعده .

    7701 - حدثنا عباس بن محمد قال : حدثنا مسلم قال : حدثني يحيى بن عمرو بن مالك النكري قال : حدثنا أبي قال : كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية : " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، قال : هم الإباضية . [ ص: 153 ]

    و"الأنامل " جمع "أنملة " ويقال "أنملة " ، وربما جمعت "أنملا " ، قال الشاعر :

    أودكما ، ما بل حلقي ريقتي وما حملت كفاي أنملي العشرا وهي أطراف الأصابع; كما : -

    7702 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "الأنامل " ، أطراف الأصابع .

    7702 م - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله .

    7703 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل " ، الأصابع .

    7704 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي [ ص: 154 ] الأحوص ، عن عبد الله ، قوله : " عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ، قال : عضوا على أصابعهم .
    القول في تأويل قوله عز وجل ( قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ( 119 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "قل " ، يا محمد ، لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم ، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ : " موتوا بغيظكم " الذي بكم على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم .

    وخرج هذا الكلام مخرج الأمر ، وهو دعاء من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله ، كمدا مما بهم من الغيظ على المؤمنين ، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم ، والضلالة بعد هداهم ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : اهلكوا بغيظكم " إن الله عليم بذات الصدور " ، [ ص: 155 ] يعني بذلك : إن الله ذو علم بالذي في صدور هؤلاء الذين إذا لقوا المؤمنين ، قالوا : "آمنا " ، وما ينطوون لهم عليه من الغل والغم ، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء ، وبما في صدور جميع خلقه ، حافظ على جميعهم ما هو عليه منطو من خير وشر ، حتى يجازي جميعهم على ما قدم من خير وشر ، واعتقد من إيمان وكفر ، وانطوى عليه لرسوله وللمؤمنين من نصيحة ، أو غل وغمر .
    القول في تأويل قوله ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط ( 120 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم " ، إن تنالوا ، أيها المؤمنون ، سرورا بظهوركم على عدوكم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وتصديق نبيكم ومعاونتكم على أعدائكم يسؤهم . وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم ، أو بإصابة عدو لكم منكم ، أو اختلاف يكون بين جماعتكم يفرحوا بها . كما : -

    7705 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها " ، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم ، غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين ، سرهم [ ص: 156 ] ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به . فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته ، وأوطأ محلته ، وأبطل حجته ، وأظهر عورته ، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة .

    7706 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها " ، قال : هم المنافقون ، إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورا على عدوهم ، غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم . وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين ، سرهم ذلك وأعجبوا به . قال الله عز وجل : " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط " .

    7707 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم " ، قال : إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك ، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافا فرحوا .

    وأما قوله : " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا " ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : وإن تصبروا ، أيها المؤمنون ، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به ، واجتناب ما نهاكم عنه : من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين ، وغير ذلك من سائر ما نهاكم "وتتقوا " ربكم ، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجب عليكم من حقه وحق رسوله " لا يضركم كيدهم شيئا " ، أي : كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #428
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (428)
    صــ 157 إلى صــ 171




    ويعني ب "كيدهم " ، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ، ومكرهم بهم ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق . [ ص: 157 ]

    قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : " لا يضركم " .

    فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعض البصريين : ( لا يضركم ) مخففة بكسر "الضاد " ، من قول القائل : "ضارني فلان فهو يضيرني ضيرا " . وقد حكي سماعا من العرب : "ما ينفعني ولا يضورني " ، فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل : ( لا يضركم كيدهم شيئا ) ، ولكني لا أعلم أحدا قرأ به " .

    وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قرأة أهل الكوفة : ( لا يضركم كيدهم شيئا ) بضم "الضاد " وتشديد "الراء " ، من قول القائل : ضرني فلان فهو يضرني ضرا " .

    وأما الرفع في قوله : " لا يضركم " ، فمن وجهين .

    أحدهما : على إتباع "الراء " في حركتها - إذ كان الأصل فيها الجزم ، ولم يمكن جزمها لتشديدها - أقرب حركات الحروف التي قبلها . وذلك حركة "الضاد " وهي الضمة ، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها ، كما قالوا : "مد يا هذا " .

    والوجه الآخر من وجهي الرفع في ذلك : أن تكون مرفوعة على صحة ، وتكون "لا " بمعنى "ليس " ، وتكون "الفاء " التي هي جواب الجزاء ، متروكة لعلم السامع بموضعها .

    وإذا كان ذلك معناه ، كان تأويل الكلام : وإن تصبروا وتتقوا ، فليس يضركم كيدهم شيئا - ثم تركت "الفاء " من قوله : " لا يضركم كيدهم " ، ووجهت "لا " إلى معنى "ليس " ، كما قال الشاعر :

    فإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري ، لا إخالك راضيا [ ص: 158 ]

    ولو كانت "الراء " محركة إلى النصب والخفض ، كان جائزا ، كما قيل : "مد يا هذا ، ومد .

    وقوله : " إن الله بما يعملون محيط " ، يقول جل ثناؤه : إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصد عن سبيله ، والعداوة لأهل دينه ، وغير ذلك من معاصي الله "محيط " بجميعه ، حافظ له ، لا يعزب عنه شيء منه ، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ، ويذيقهم عقوبته عليه .
    [ ص: 159 ] القول في تأويل قوله ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ( 121 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " ، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم ، أيها المؤمنون ، كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئا ، ولكن الله ينصركم عليهم إن صبرتم على طاعتي واتباع أمر رسولي ، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة . وإن أنتم خالفتم ، أيها المؤمنون ، أمري ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي ، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه وخالفتم أمري وأمر رسولي ، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد ، واذكروا ذلك اليوم ، إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين .

    فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه ، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه ، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم إن صبروا على أمره واتقوا محارمه ، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حل بهم من البلاء بأحد ، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا الرأي بينهم .

    وأخرج الخطاب في قوله : " وإذ غدوت من أهلك " ، على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بمعناه : الذين نهاهم أن يتخذوا الكفار مناليهود بطانة من دون المؤمنين . فقد بين إذا أن قوله : "وإذ " ، إنما جرها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت .

    وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " .

    فقال بعضهم : عنى بذلك يوم أحد .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 160 ]

    7708 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، قال : مشى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين .

    7709 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، ذلك يوم أحد ، غدا نبي الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال .

    7710 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال .

    7711 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، فهو يوم أحد .

    7712 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " ، قال : هذا يوم أحد .

    7713 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : مما نزل في يوم أحد : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " .

    وقال آخرون : عنى بذلك يوم الأحزاب .

    ذكر من قال ذلك :

    7714 - حدثني محمد بن سنان القزاز قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : [ ص: 161 ] حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، قال : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، غدا يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال يوم الأحزاب .

    قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بالصواب قول من قال : "عنى بذلك يوم أحد " . لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها : ( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ) ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عنى بالطائفتين : بنو سلمة وبنو حارثة ، ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد ، دون يوم الأحزاب . فإن قال لنا قائل : وكيف يكون ذلك يوم أحد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما راح إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس ، كالذي حدثكم : -

    7715 - ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلى الجمعة إلى أحد ، دخل فلبس لأمته ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج عليهم وقال : " ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " ؟ . [ ص: 162 ]

    قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رواحا ، فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدهم للقتال عند خروجه ، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه . وذلك أن المشركين نزلوا منزلهم من أحد - فيما بلغنا - يوم الأربعاء ، فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة ، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة ، بعد ما صلى بأصحابه الجمعة ، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال .

    7716 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم .

    فإن قال : وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعد للقتال غدوا قبل خروجه ، وقد علمت أن "التبوئة " ، اتخاذ الموضع .

    قيل : كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضة عدوه ، عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم ، بيوم أو يومين ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحدا قال فيما : -

    7717 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط عن السدي لأصحابه : أشيروا علي ما أصنع ؟ " فقالوا : يا رسول الله ، اخرج إلى هذه الأكلب! فقالت الأنصار : يا رسول الله ، ما غلبنا عدو لنا أتانا في ديارنا ، فكيف وأنت فينا!! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول ، ولم يدعه قط قبلها ، فاستشاره ، فقال : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى هذه الأكلب! [ ص: 163 ] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة ، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال : يا رسول الله لا تحرمني الجنة ، فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة! فقال له : بم ؟ قال : بأني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وأني لا أفر من الزحف! قال : "صدقت . فقتل يومئذ . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها ، فلما رأوه وقد لبس السلاح ، ندموا وقالوا : بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه!! فقاموا واعتذروا إليه ، وقالوا : اصنع ما رأيت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل .

    7718 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني ابن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني قد رأيت بقرا فأولتها خيرا ، ورأيت في ذباب سيفي ثلما ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة ، فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها . وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك : أن لا يخرج إليهم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة ، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد ، وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا! فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : يا رسول الله ، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم ، فوالله [ ص: 164 ] ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه ، فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا . فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم ، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته . .

    فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعد للقتال ، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا ، على ما وصفه الذين حكينا قولهم .

    يقال منه : "بوأت القوم منزلا وبوأته لهم ، فأنا أبوئهم المنزل تبوئة ، وأبوئ لهم منزلا تبوئة " .

    وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود : ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال ) وذلك جائز ، كما يقال : "ردفك وردف لك " ، و"نقدت لها صداقها ونقدتها " ، كما قال الشاعر :

    أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

    والكلام : أستغفر الله لذنب . وقد حكي عن العرب سماعا : "أبأت القوم منزلا فأنا أبيئهم إباءة " ، ويقال منه : "أبأت الإبل " . إذا رددتها إلى المباءة . و"المباءة " ، المراح الذي تبيت فيه .

    "والمقاعد " جمع "مقعد " ، وهو المجلس . [ ص: 165 ]

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : واذكر إذ غدوت ، يا محمد ، من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرا وموضعا لقتال عدوهم .

    وقوله : "والله سميع عليم " ، يعني بذلك تعالى ذكره : "والله سميع " ، لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه ، من موضع لقائك ولقائهم عدوك وعدوهم ، من قول من قال : "اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة " ، وقول من قال لك : "لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا " ، على ما قد بينا قبل - ولما تشير به عليهم أنت يا محمد "عليم " بأصلح تلك الآراء لك ولهم ، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك ، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة ، وغير ذلك من أمرك وأمورهم ، كما : -

    7719 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : "والله سميع عليم " ، أي : سميع لما يقولون ، عليم بما يخفون .
    القول في تأويل قوله ( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 122 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والله سميع عليم ، حين همت طائفتان منكم أن تفشلا .

    والطائفتان اللتان همتا بالفشل ، ذكر لنا أنهم بنو سلمة وبنو حارثة . [ ص: 166 ]

    ذكر من قال ذلك :

    7720 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، قال : بنو حارثة ، كانوا نحو أحد ، وبنو سلمة نحو سلع ، وذلك يوم الخندق .

    قال أبو جعفر : وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى ، بما فيه الكفاية عن إعادته .

    7721 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، الآية ، وذلك يوم أحد ، والطائفتان : بنو سلمة وبنو حارثة ، حيان من الأنصار ، هموا بأمر فعصمهم الله من ذلك . قال قتادة : وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الآية قالوا : ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا .

    7722 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " إذ همت طائفتان منكم الآية ، وذلك يوم أحد ، فالطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة ، حيان من الأنصار . فذكر مثل قول قتادة .

    7723 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل ، وقد وعدهم الفتح إن صبروا . فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم ، فلما غلبوه وقالوا له : ما نعلم قتالا ولإن أطعتنا لترجعن معنا وقال [ الله عز وجل ] : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، وهم بنو سلمة وبنو حارثة هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي ، فعصمهم [ ص: 167 ] الله ، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .

    7724 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عكرمة : نزلت في بني سلمة من الخزرج ، وبني حارثة من الأوس ، ورأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول .

    7725 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، فهو بنو حارثة وبنو سلمة .

    7726 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، والطائفتان : بنو سلمة من جشم بن الخزرج ، وبنو حارثة من النبيت من الأوس ، وهما الجناحان .

    7727 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " الآية ، قال : هما طائفتان من الأنصار هما أن يفشلا فعصمهم الله ، وهزم عدوهم .

    7728 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، قال : هم بنو سلمة وبنو حارثة ، وما نحب أن لو لم نكن هممنا لقول الله عز وجل : "والله وليهما " . .

    7729 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول ، فذكر نحوه . [ ص: 168 ]

    7730 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، قال : هذا يوم أحد .

    وأما قوله : "أن تفشلا " ، فإنه يعني : هما أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوهما .

    يقال منه : "فشل فلان عن لقاء عدوه ويفشل فشلا " ، كما : -

    7731 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : "الفشل " ، الجبن .

    قال أبو جعفر : وكان همهما الذي هما به من الفشل ، الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه ، جبنا منهم ، من غير شك منهم في الإسلام ولا نفاق ، فعصمهم الله مما هموا به من ذلك ، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجهه الذي مضى له ، وتركوا عبد الله بن أبي ابن سلول والمنافقين معه ، فأثنى الله عز وجل عليهما بثبوتهما على الحق ، وأخبر أنه وليهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار ، كما :

    7732 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "والله وليهما " ، أي : المدافع عنهما ما همتا به من فشلهما . وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما ، من غير شك أصابهما في دينهما ، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما ، ولحقتا بنبيهما صلى الله عليه وسلم . يقول : " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، أي : من كان به ضعف من المؤمنين أو وهن ، [ ص: 169 ] فليتوكل علي ، وليستعن بي أعنه على أمره ، وأدفع عنه ، حتى أبلغ به وأقويه على نيته .

    قال أبو جعفر : وذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ : ( والله وليهم ) وإنما جاز أن يقرأ ذلك كذلك ، لأن "الطائفتين " وإن كانتا في لفظ اثنين ، فإنهما في معنى جماع ، بمنزلة "الخصمين " و "الحزبين " .


    القول في تأويل قوله ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ( 123 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ، وينصركم ربكم ، "ولقد نصركم الله ببدر " على أعدائكم وأنتم يومئذ "أذلة " يعني : قليلون ، في غير منعة من الناس ، حتى أظهركم الله على عدوكم ، مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، وأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم ، "فاتقوا الله " ، يقول تعالى ذكره : فاتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه "لعلكم تشكرون " ، يقول : لتشكروه على ما من به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم ، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم ، كما : - [ ص: 170 ]

    7733 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة " ، يقول : وأنتم أقل عددا وأضعف قوة "فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، أي : فاتقون ، فإنه شكر نعمتي .

    واختلف في المعنى الذي من أجله سمي بدر "بدرا " .

    فقال بعضهم : سمي بذلك ، لأنه كان ماء لرجل يسمى "بدرا " ، فسمي باسم صاحبه .

    ذكر من قال ذلك :

    7734 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن الشعبي قال : كانت "بدر " لرجل يقال له "بدر " ، فسميت به .

    7735 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي أنه قال : " ولقد نصركم الله ببدر " ، قال : كانت "بدر " بئرا لرجل يقال له "بدر " ، فسميت به .

    وأنكر ذلك آخرون وقالوا : ذلك اسم سميت به البقعة ، كما سمي سائر البلدان بأسمائها .

    ذكر من قال ذلك :

    7736 - حدثنا الحارث بن محمد قال : حدثنا ابن سعد قال : حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال : حدثنا منصور ، عن أبي الأسود ، عن زكريا ، عن الشعبي قال : إنما سمي "بدرا " ، لأنه كان ماء لرجل من جهينة يقال له "بدر " وقال الحارث ، قال ابن سعد ، قال الواقدي : فذكرت ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا : فلأي شيء سميت "الصفراء " ؟ ولأي شيء سميت [ ص: 171 ] "الحمراء " ؟ ولأي شيء سمي "رابغ " ؟ هذا ليس بشيء ، إنما هو اسم الموضع . قال : وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال : سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون : هو ماؤنا ومنزلنا ، وما ملكه أحد قط يقال له "بدر " ، وما هو من بلاد جهينة ، إنما هي بلاد غفار قال الواقدي : فهذا المعروف عندنا .

    7737 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول : "بدر " ، ماء عن يمين طريق مكة ، بين مكة والمدينة .

    وأما قوله : "أذلة " ، فإنه جمع "ذليل " ، كما "الأعزة " جمع "عزيز " ، "والألبة " جمع "لبيب " .

    قال أبو جعفر : وإنما سماهم الله عز وجل "أذلة " ، لقلة عددهم ، لأنهم كانوا ثلثمائة نفس وبضعة عشر ، وعدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف - على ما قد بينا فيما مضى - فجعلهم لقلة عددهم "أذلة " .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7738 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، وبدر ماء بين مكة والمدينة ، التقى عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم والمشركون ، وكان أول قتال قاتله نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذ : "أنتم اليوم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت " : فكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا والمشركون يومئذ ألف ، أو راهقوا ذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #429
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (429)
    صــ 172 إلى صــ 186



    [ ص: 172 ]

    7739 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، قال : يقول : "وأنتم أذلة " ، قليل ، وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة .

    7740 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحو قول قتادة .

    7741 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة " ، أقل عددا وأضعف قوة .

    قال أبو جعفر : وأما قوله : "فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، فإن تأويله ، كالذي قد بينت ، كما : -

    7742 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ، أي : فاتقوني ، فإنه شكر نعمتي .
    [ ص: 173 ] القول في تأويل قوله ( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ( 125 ) ( 124 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ، إذ تقول للمؤمنين بك من أصحابك : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ؟ وذلك يوم بدر .

    ثم اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حربهم ، في أي يوم وعدوا ذلك ؟

    فقال بعضهم : إن الله عز وجل كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدهم بملائكته ، إن أتاهم العدو من فورهم ، فلم يأتوهم ، ولم يمدوا .

    ذكر من قال ذلك :

    7743 - حدثني حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود ، عن عامر قال : حدث المسلمون أن كرز بن جابر المحاربي يمد المشركين ، قال : فشق ذلك على المسلمين ، فقيل لهم : "ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، قال : فبلغت كرزا الهزيمة ، فرجع ، ولم يمدهم بالخمسة . [ ص: 174 ]

    7744 - حدثني ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عامر قال : لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : " ويأتوكم من فورهم هذا " - يعني كرزا وأصحابه - "يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، قال : فبلغ كرزا وأصحابه الهزيمة ، فلم يمدهم ، ولم تنزل الخمسة ، وأمدوا بعد ذلك بألف ، فهم أربعة آلاف من الملائكة مع المسلمين .

    7745 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد عن الحسن في قوله : " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة " ، الآية كلها ، قال : هذا يوم بدر .

    7746 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال : حدث المسلمون أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين ببدر ، قال : فشق ذلك على المسلمين; فأنزل الله عز وجل ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم " إلى قوله : " من الملائكة مسومين " ، قال : فبلغته هزيمة المشركين ، فلم يمد أصحابه ، ولم يمدوا بالخمسة .

    وقال آخرون : كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر ، فصبر المؤمنون واتقوا الله ، فأمدهم بملائكته على ما وعدهم .

    ذكر من قال ذلك :

    7747 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم ببدر الآن [ ص: 175 ] ومعي بصري ، لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أتمارى .

    7748 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق ، وحدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن بعض بني ساعدة ، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة ، وكان شهد بدرا : أنه قال بعد إذ ذهب بصره : لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري ، لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أتمارى .

    7749 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي بكر : أنه حدث عن ابن عباس : أن ابن عباس قال : حدثني رجل من بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ، ونحن مشركان ، ننتظر الوقعة ، على من تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب . قال : فبينا نحن في الجبل ، إذ دنت منا سحابة ، فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم . قال : فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ، ثم تماسكت .

    7750 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : وحدثني الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن عباس قال : لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون .

    7751 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال محمد بن إسحاق ، [ ص: 176 ] حدثني أبي إسحاق بن يسار ، عن رجال من بني مازن بن النجار ، عن أبي داود المازني ، وكان شهد بدرا قال : إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه ، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أن قد قتله غيري .

    7752 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال محمد : حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت . وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه . وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة . وكذلك صنعوا ، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا . فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا . قال : وكنت رجلا ضعيفا ، وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم ، فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح ، وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري . فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم! قال : قال أبو لهب : هلم إلي يا ابن أخي ، فعندك الخبر! قال : فجلس إليه والناس قيام عليه ، فقال : يا ابن أخي أخبرني ، كيف كان أمر الناس ؟ قال : لا شيء والله ، إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا! وايم الله ، [ ص: 177 ] مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق ما بين السماء والأرض ما تليق شيئا ، ولا يقوم لها شيء . قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت : تلك الملائكة!

    7753 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد قال : حدثني الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة ، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا ، وكان العباس رجلا جسيما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر : "كيف أسرت العباس أبا اليسر ؟ ! قال : يا رسول الله ، لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد أعانك عليه ملك كريم " .

    7754 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " ، أمدوا بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، [ ص: 178 ] وذلك يوم بدر ، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة .

    7755 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه .

    7756 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، فإنهم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم مسومين .

    7757 - حدثني محمد بن بشار قال : حدثنا سفيان ، عن ابن خثيم ، عن مجاهد قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر .

    وقال آخرون : إن الله عز وجل : إنما وعدهم يوم بدر أن يمدهم إن صبروا عند طاعته وجهاد أعدائه ، واتقوه باجتناب محارمه ، أن يمدهم في حروبهم كلها ، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الأحزاب ، فأمدهم حين حاصروا قريظة .

    ذكر من قال ذلك :

    7758 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال : حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم ، فلم يفتح علينا ، فرجعنا ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فهو يغسل رأسه ، إذ جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة ، فلف بها رأسه ولم يغسله ، ثم نادى فينا فقمنا [ ص: 179 ] كالين معيين لا نعبأ بالسير شيئا ، حتى أتينا قريظة والنضير ، فيومئذ أمدنا الله عز وجل بثلاثة آلاف من الملائكة ، وفتح الله لنا فتحا يسيرا ، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل .

    وقال آخرون بنحو هذا المعنى ، غير أنهم قالوا : لم يصبر القوم ولم يتقوا ولم يمدوا بشيء في أحد .

    ذكر من قال ذلك :

    7759 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : حدثني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، سمعه يقول : " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا " ، قال : يوم بدر . قال : فلم يصبروا ولم يتقوا فلم يمدوا يوم أحد ، ولو مدوا لم يهزموا يومئذ . [ ص: 180 ]

    7760 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : لم يمدوا يوم أحد ولا بملك واحد أو قال : إلا بملك واحد ، أبو جعفر يشك .

    7761 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : سمعت عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف " إلى "خمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، كان هذا موعدا من الله يوم أحد عرضه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين; ففر المسلمون يوم أحد وولوا مدبرين ، فلم يمدهم الله .

    7762 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا " الآية كلها . قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ينظرون المشركين : يا رسول الله ، أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " ، وإنما أمدكم يوم بدر بألف ؟ " قال : فجاءت الزيادة من الله على أن يصبروا ويتقوا ، قال : بشرط أن يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم . الآية كلها .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف ، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله . ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ، ولا بالخمسة آلاف ، ولا على أنهم لم يمدوا بهم .

    وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم ، على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك . ولا خبر [ ص: 181 ] عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة الآلاف . وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به . ولا خبر به كذلك ، فنسلم لأحد الفريقين قوله . غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة ، وذلك قوله : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) [ سورة الأنفال : 9 ] فأما في يوم أحد ، فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا . وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا ، وينال منهم ما نيل منهم . فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره .

    وقد بينا معنى "الإمداد " فيما مضى ، "والمدد " ، ومعنى "الصبر " و "التقوى . "

    وأما قوله : "ويأتوكم من فورهم هذا " ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه .

    فقال بعضهم : معنى قوله : "من فورهم هذا " ، من وجههم هذا .

    ذكر من قال ذلك :

    7763 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث ، عن عكرمة قال : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، قال : من وجههم هذا .

    7764 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " من فورهم هذا " ، يقول : من وجههم هذا .

    7765 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

    7766 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، من وجههم هذا . [ ص: 182 ]

    7767 - حدثت عن عمار بن الحسن ، عن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، يقول : من وجههم هذا .

    7768 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " يقول : من وجههم هذا .

    7779 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، يقول : من سفرهم هذا ويقال - يعني عن غير ابن عباس - بل هو من غضبهم هذا .

    7770 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "من فورهم هذا " ، من وجههم هذا .

    وقال آخرون : معنى ذلك : من غضبهم هذا .

    ذكر من قال ذلك :

    7771 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عكرمة في قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة " ، قال : "فورهم ذلك " ، كان يوم أحد ، غضبوا ليوم بدر مما لقوا .

    7772 - حدثني محمد بن عمارة قال : حدثنا سهل بن عامر قال : حدثنا مالك بن مغول قال : سمعت أبا صالح مولى أم هانئ يقول : " من فورهم هذا " ، يقول : من غضبهم هذا .

    7773 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، قال : غضب لهم ، يعني الكفار ، فلم يقاتلوهم عند تلك الساعة ، وذلك يوم أحد .

    7774 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : " من فورهم هذا " ، قال : من غضبهم هذا . [ ص: 183 ]

    7775 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك ، في قوله : " ويأتوكم من فورهم هذا " ، يقول : من وجههم وغضبهم .

    قال أبو جعفر : وأصل "الفور " ، ابتداء الأمر يؤخذ فيه ، ثم يوصل بآخر ، يقال منه : "فارت القدر فهي تفور فورا وفورانا " إذا ابتدأ ما فيها بالغليان ثم اتصل . و "مضيت إلى فلان من فوري ذلك " ، يراد به : من وجهي الذي ابتدأت فيه .

    فالذي قال في هذه الآية : معنى قوله : "من فورهم هذا " ، من "وجههم هذا " قصد إلى أن تأويله : ويأتيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين .

    وأما الذين قالوا : معنى ذلك : من غضبهم هذا فإنما عنوا أن تأويل ذلك : ويأتيكم كفار قريش وتباعهم يوم أحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها ، يمددكم ربكم بخمسة آلاف .

    ولذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله : "ويأتوكم من فورهم هذا " ، اختلف أهل التأويل في إمداد الله المؤمنين بأحد بملائكته .

    فقال بعضهم : لم يمدوا بهم ، لأن المؤمنين لم يصبروا لأعدائهم ولم يتقوا الله عز وجل ، بترك من ترك من الرماة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوته في الموضع الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه ، ولكنهم أخلوا به [ ص: 184 ] طلب الغنائم ، فقتل من قتل من المسلمين ونال المشركون منهم ما نالوا ، وإنما كان الله عز وجل وعد نبيه صلى الله عليه وسلم إمدادهم بهم إن صبروا واتقوا الله .

    وأما الذين قالوا : كان ذلك يوم بدر بسبب كرز بن جابر ، فإن بعضهم قالوا : لم يأت كرز وأصحابه إخوانهم من المشركين مددا لهم ببدر ، ولم يمد الله المؤمنين بملائكته ، لأن الله عز وجل إنما وعدهم أن يمدهم بملائكته إن أتاهم كرز ومدد المشركين من فورهم ، ولم يأتهم المدد .

    وأما الذين قالوا : إن الله تعالى ذكره أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر ، فإنهم اعتلوا بقول الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) [ سورة الأنفال : 9 ] ، قال : فالألف منهم قد أتاهم مددا . وإنما الوعد الذي كانت فيه الشروط ، فما زاد على الألف ، فأما الألف فقد كانوا أمدوا به ، لأن الله عز وجل كان قد وعدهم ذلك ، ولن يخلف الله وعده .

    قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : "مسومين " .

    فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة : ( مسومين ) بفتح "الواو " ، بمعنى أن الله سومها .

    وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الكوفة والبصرة : ( مسومين ) بكسر "الواو " ، بمعنى أن الملائكة سومت لنفسها . [ ص: 185 ]

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر "الواو " ، لتظاهر الأخبار عن [ أصحاب ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل التأويل منهم ومن التابعين بعدهم بأن الملائكة هي التي سومت أنفسها ، من غير إضافة تسويمها إلى الله عز وجل ، أو إلى غيره من خلقه .

    ولا معنى لقول من قال : إنما كان يختار الكسر في قوله : "مسومين " ، لو كان في البشر ، فأما الملائكة فوصفهم غير ذلك ظنا منه بأن الملائكة غير ممكن فيها تسويم أنفسها إمكان ذلك في البشر . وذلك أنه غير مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها نحو تمكينه البشر من تسويم أنفسهم ، فسوموا أنفسهم نحو الذي سوم البشر ، طلبا منها بذلك طاعة ربها ، فأضيف تسويمها أنفسها إليها . وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه . وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسها تقربا منها إلى ربها ، كان أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها .

    ذكر الأخبار بما ذكرنا : من إضافة من أضاف التسويم إلى الملائكة ، دون إضافة ذلك إلى غيرهم ، على نحو ما قلنا فيه : [ ص: 186 ]

    7776 - حدثني يعقوب قال : أخبرنا ابن علية قال : أخبرنا ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : إن أول ما كان الصوف ليومئذ يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تسوموا ، فإن الملائكة قد تسومت .

    7777 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا مختار بن غسان قال : حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن الزبير بن المنذر ، عن جده أبي أسيد - وكان بدريا - فكان يقول : لو أن بصري فرج منه ، ثم ذهبتم معي إلى أحد ، لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #430
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (430)
    صــ 187 إلى صــ 201


    [ ص: 187 ]

    7778 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، يقول : معلمين ، مجزوزة أذناب خيلهم ، ونواصيها - فيها الصوف أو العهن ، وذلك التسويم .

    7779 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، قال : مجزوزة أذنابها ، وأعرافها فيها الصوف أو العهن ، فذلك التسويم .

    7780 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " مسومين " ، ذكر لنا أن سيماهم يومئذ ، الصوف بنواصي خيلهم وأذنابها ، وأنهم على خيل بلق .

    7781 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " مسومين " ، قال : كان سيماها صوفا في نواصيها .

    7782 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد ، أنه كان يقول : " مسومين " ، قال : كانت خيولهم مجزوزة الأعراف ، معلمة نواصيها وأذنابها بالصوف والعهن .

    7783 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : كانوا يومئذ على خيل بلق .

    7784 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا [ ص: 188 ] جويبر ، عن الضحاك وبعض أشياخنا ، عن الحسن ، نحو حديث معمر ، عن قتادة .

    7785 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "مسومين " ، معلمين .

    7786 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ، فإنهم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، مسومين بالصوف ، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف .

    7787 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عباد بن حمزة قال : نزلت الملائكة في سيما الزبير ، عليهم عمائم صفر . وكانت عمامة الزبير صفراء .

    7788 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " مسومين " ، قال : بالصوف في نواصيها وأذنابها .

    7789 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة قال : نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق ، عليهم عمائم صفر . وكان على الزبير يومئذ عمامة صفراء .

    7790 - حدثني أحمد بن يحيى الصوفي قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال : حدثنا أبي قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير : أن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء يوم بدر ، فاعتم بها ، فنزلت الملائكة يوم بدر على نبي الله صلى الله عليه وسلم معممين بعمائم صفر . [ ص: 189 ]

    قال أبو جعفر : فهذه الأخبار التي ذكرنا بعضها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه : " تسوموا فإن الملائكة قد تسومت " وقول أبي أسيد : " خرجت الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم " ، وقول من قال منهم : " مسومين " معلمين ينبئ جميع ذلك عن صحة ما اخترنا من القراءة في ذلك ، وأن التسويم كان من الملائكة بأنفسها ، على نحو ما قلنا في ذلك فيما مضى .

    وأما الذين قرأوا ذلك : "مسومين " ، بالفتح ، فإنهم أراهم تأولوا في ذلك ما :

    7791 - حدثنا به حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث ، عن عكرمة : ( بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) ، يقول : عليهم سيما القتال .

    7792 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) ، يقول : عليهم سيما القتال ، وذلك يوم بدر ، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، يقول : عليهم سيما القتال .

    فقالوا : كان سيما القتال عليهم ، لا أنهم كانوا تسوموا بسيما فيضاف إليهم التسويم ، فمن أجل ذلك قرأوا : "مسومين " ، بمعنى أن الله تعالى أضاف التسويم إلى من سومهم تلك السيما .

    و"السيما " العلامة يقال : "هي سيما حسنة ، وسيمياء حسنة " ، كما قال الشاعر :


    غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
    [ ص: 190 ]

    يعني بذلك : علامة من حسن ، فإذا أعلم الرجل بعلامة يعرف بها في حرب أو غيره قيل : "سوم نفسه فهو يسومها تسويما " .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ( 126 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم "إلا بشرى لكم " ، يعني بشرى ، يبشركم بها "ولتطمئن قلوبكم به " ، يقول . وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم ، فتسكن إليه ، ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم ، وقلة عددكم "وما النصر إلا من عند الله " ، يعني : وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله ، لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة . يقول : فعلى الله فتوكلوا ، وبه فاستعينوا ، لا بالجموع وكثرة العدد ، فإن نصركم إن كان إنما يكون بالله وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف ، فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم على عدوكم ، وإن كان معكم من البشر جموع كثيرة أحرى ، فاتقوا الله واصبروا [ ص: 191 ] على جهاد عدوكم ، فإن الله ناصركم عليهم . كما : -

    7793 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما جعله الله إلا بشرى لكم " ، يقول : إنما جعلهم ليستبشروا بهم وليطمئنوا إليهم ، ولم يقاتلوا معهم يومئذ يعني يوم أحد قال مجاهد : ولم يقاتلوا معهم يومئذ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر .

    7794 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به " ، لما أعرف من ضعفكم ، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي ، وذلك أن العز والحكم إلي ، لا إلى أحد من خلقي .

    7795 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " وما النصر إلا من عند الله " ، لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعل "العزيز الحكيم " .

    وأما معنى قوله : "العزيز الحكيم " ، فإنه جل ثناؤه يعني : "العزيز " في انتقامه من أهل الكفر به بأيدي أوليائه من أهل طاعته "الحكيم " في تدبيره لكم ، أيها المؤمنون ، على أعدائكم من أهل الكفر ، وغير ذلك من أموره . يقول : [ ص: 192 ] فأبشروا أيها المؤمنون ، بتدبيري لكم على أعدائكم ، ونصري إياكم عليهم ، إن أنتم أطعتموني فيما أمرتكم به ، وصبرتم لجهاد عدوي وعدوكم .
    القول في تأويل قوله ( ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ( 127 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولقد نصركم الله ببدر "ليقطع طرفا من الذين كفروا " ، ويعني ب "الطرف " ، الطائفة والنفر .

    يقول تعالى ذكره : ولقد نصركم الله ببدر ، كما يهلك طائفة من الذين كفروا بالله ورسوله ، فجحدوا وحدانية ربهم ، ونبوة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -

    7796 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ليقطع طرفا من الذين كفروا " ، فقطع الله يوم بدر طرفا من الكفار ، وقتل صناديدهم ورؤساءهم ، وقادتهم في الشر .

    7797 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحوه .

    7798 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ليقطع طرفا من الذين كفروا " الآية كلها ، قال : هذا يوم بدر ، قطع الله طائفة منهم وبقيت طائفة .

    7799 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ليقطع طرفا من الذين كفروا " ، أي : ليقطع طرفا من المشركين بقتل ينتقم به منهم . [ ص: 193 ]

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفا من الذين كفروا . وقال : إنما عنى بذلك من قتل بأحد .

    ذكر من قال ذلك :

    7800 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر الله قتلى المشركين - يعني بأحد - وكانوا ثمانية عشر رجلا فقال : " ليقطع طرفا من الذين كفروا " ، ثم ذكر الشهداء فقال : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) الآية . [ سورة آل عمران : 169 ]

    وأما قوله : "أو يكبتهم " ، فإنه يعني بذلك : أو يخزيهم بالخيبة مما رجوا من الظفر بكم .

    وقد قيل : إن معنى قوله : "أو يكبتهم " ، أو يصرعهم لوجوههم . ذكر بعضهم أنه سمع العرب تقول : "كبته الله لوجهه " ، بمعنى صرعه الله .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : ولقد نصركم الله ببدر ليهلك فريقا من الكفار بالسيف ، أو يخزيهم بخيبتهم مما طمعوا فيه من الظفر "فينقلبوا خائبين " ، يقول : فيرجعوا عنكم خائبين ، لم يصيبوا منكم شيئا مما رجوا أن ينالوه منكم ، كما : -

    7801 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "أو يكبتهم فينقلبوا خائبين " ، أو يردهم خائبين ، أي : يرجع من بقي منهم فلا خائبين ، لم ينالوا شيئا مما كانوا يأملون . [ ص: 194 ]

    7802 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "أو يكبتهم " ، يقول : يخزيهم ، "فينقلبوا خائبين " .

    7803 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
    القول في تأويل قوله ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ( 128 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ليقطع طرفا من الذين كفروا ، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم ، فإنهم ظالمون ، ليس لك من الأمر شيء .

    فقوله : "أو يتوب عليهم " ، منصوب عطفا على قوله : "أو يكبتهم " .

    وقد يحتمل أن يكون تأويله : ليس لك من الأمر شيء ، حتى يتوب عليهم فيكون نصب "يتوب " بمعنى "أو " التي هي في معنى "حتى " .

    قال أبو جعفر : والقول الأول أولى بالصواب ، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم ، قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك .

    وتأويل قوله : "ليس لك من الأمر شيء " ، ليس إليك ، يا محمد ، من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري ، وتنتهي فيهم إلى طاعتي ، وإنما أمرهم إلي والقضاء فيهم بيدي دون غيري ، أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء ، من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري ، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة ، وإما في آجل الآخرة بما أعددت لأهل الكفر بي . كما : - [ ص: 195 ]

    7804 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " ، أي : ليس لك من الحكم شيء في عبادي ، إلا ما أمرتك به فيهم ، أو أتوب عليهم برحمتي ، فإن شئت فعلت ، أو أعذبهم بذنوبهم "فإنهم ظالمون " ، أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي .

    وذكر أن الله عز وجل إنما أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لما أصابه بأحد ما أصابه من المشركين ، قال : كالآيس لهم من الهدى أو من الإنابة إلى الحق : "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم!!

    ذكر الرواية بذلك :

    7805 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا حميد قال : قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكسرت رباعيته ، وشج ، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم!! فأنزلت : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " . [ ص: 196 ]

    7806 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .

    7807 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن حميد الطويل ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .

    7808 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شج في جبهته وكسرت رباعيته : لا يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم! فأوحى الله إليه : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .

    7809 - حدثني يعقوب ، عن ابن علية قال : حدثنا ابن عون ، عن الحسن : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد : كيف يفلح قوم دموا وجه نبيهم وهو [ ص: 197 ] يدعوهم إلى الله عز وجل!! فنزلت : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .

    7810 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك .

    7811 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " ، ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وقد جرح نبي الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وأصيب بعض رباعيته ، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم! فأنزل الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .

    7812 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن مطر ، عن قتادة قال : أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان ، والدم يسيل ، فمر به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه ومسح عن وجهه فأفاق وهو يقول : كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله! فأنزل الله تبارك وتعالى : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .

    7813 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قوله : "ليس لك من الأمر شيء " الآية قال : قال الربيع بن أنس : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وقد شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وأصيبت رباعيته ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم ، [ ص: 198 ] فقال : "كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله وهم يدعونه إلى الشيطان ، ويدعوهم إلى الهدى ويدعونه إلى الضلالة ، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار! فهم أن يدعو عليهم ، فأنزل الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " ، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم .

    7814 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم " الآية كلها ، فقال : جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صنع بأصحابه يوم بدر ، فقاتل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد قتالا شديدا ، حتى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة علم الله أنها قد خالطت غضبا : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الإسلام! فقال الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .

    7815 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : أن رباعية النبي صلى الله عليه وسلم أصيبت يوم أحد ، أصابها عتبة بن أبي وقاص ، وشجه في وجهه . وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبي صلى الله عليه وسلم الدم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : كيف يفلح قوم صنعوا بنبيهم هذا!! فأنزل الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .

    7816 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، وعن عثمان الجزري ، عن مقسم : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد ، حين كسر رباعيته ، ووثأ وجهه ، [ ص: 199 ] فقال : "اللهم لا يحل عليه الحول حتى يموت كافرا! " قال : فما حال عليه الحول حتى مات كافرا .

    7817 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : شج النبي صلى الله عليه وسلم في فرق حاجبه ، وكسرت رباعيته .

    قال ابن جريج : ذكر لنا أنه لما جرح ، جعل سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله! " . فأنزل الله عز وجل : ( ليس لك من الأمر شيء )

    وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه دعا على قوم ، فأنزل الله عز وجل : ليس الأمر إليك فيهم .

    ذكر الرواية بذلك :

    7818 - حدثني يحيى بن حبيب بن عربي قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : حدثنا محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يدعو على أربعة نفر ، فأنزل الله عز وجل : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) قال : وهداهم الله للإسلام . [ ص: 200 ]

    7819 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن عمر بن حمزة ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم العن أبا سفيان ! اللهم العن الحارث بن هشام ! اللهم العن صفوان بن أمية ! فنزلت : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . [ ص: 201 ]

    7820 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا يزيد قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عبد الله بن كعب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قال اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد ! اللهم أنج المستضعفين من المسلمين! اللهم اشدد وطأتك على مضر ! اللهم سنين كسنين آل يوسف ! فأنزل الله : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم ) الآية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #431
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (431)
    صــ 202إلى صــ 216

    7821 - حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ يَفْرَغُ ، فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ، مِنَ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ : "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ : "اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعِيَاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَ فِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ! اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِيِّ يُوسُفَ ! اللَّهُمَّ الْعَنْ لَحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصِيَّةَ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ! " . ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) .
    القول في تأويل قوله ( ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ( 129 ) ) [ ص: 203 ]

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ليس لك يا محمد ، من الأمر شيء ، ولله جميع ما بين أقطار السماوات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها ، دونك ودونهم ، يحكم فيهم بما يشاء ، ويقضي فيهم ما أحب ، فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمره ونهيه ، ثم يغفر له ، ويعاقب من شاء منهم على جرمه فينتقم منه ، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح ، والرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم . كما : -

    7822 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "والله غفور رحيم " ، أي يغفر الذنوب ، ويرحم العباد ، على ما فيهم .
    [ ص: 204 ] القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 130 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا تأكلوا الربا في إسلامكم بعد إذ هداكم له ، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم .

    وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم : أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه ، فيقول له الذي عليه المال : أخر عنى دينك وأزيدك على مالك . فيفعلان ذلك . فذلك هو "الربا أضعافا مضاعفة " ، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه ، . كما : -

    7823 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية ، فإذا حل الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون ؟ فنزلت : " لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة " .

    7824 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة " ، أي : لا تأكلوا في الإسلام إذ هداكم الله له ، ما كنتم تأكلون إذ أنتم على غيره ، مما لا يحل لكم في دينكم .

    7825 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة " قال : ربا الجاهلية .

    7826 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول [ ص: 205 ] في قوله : "لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة " ، قال : كان أبي يقول : إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن . يكون للرجل فضل دين ، فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له : تقضيني أو تزيدني ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى ، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ، ثم حقة ، ثم جذعة ، ثم رباعيا ، ثم هكذا إلى فوق وفي العين يأتيه ، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل ، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا ، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة ، يضعفها له كل سنة أو يقضيه . قال : فهذا قوله : "لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة " .

    وأما قوله : "واتقوا الله لعلكم تفلحون " ، فإنه يعني : واتقوا الله أيها المؤمنون ، في أمر الربا فلا تأكلوه ، وفي غيره مما أمركم به أو نهاكم عنه ، وأطيعوه فيه "لعلكم تفلحون " ، يقول : لتنجحوا فتنجوا من عقابه ، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه والخلود في جنانه ، كما : -

    7827 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "واتقوا الله لعلكم تفلحون " ، أي : فأطيعوا الله لعلكم أن تنجوا مما حذركم من عذابه ، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه .
    [ ص: 206 ] القول في تأويل قوله ( واتقوا النار التي أعدت للكافرين ( 131 ) )

    قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين : واتقوا ، أيها المؤمنون ، النار أن تصلوها بأكلكم الربا بعد نهيي إياكم عنه التي أعددتها لمن كفر بي ، فتدخلوا مدخلهم بعد إيمانكم بي ، بخلافكم أمري ، وترككم طاعتي . كما : -

    7828 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " واتقوا النار التي أعدت للكافرين " ، التي جعلت دارا لمن كفر بي .
    القول في تأويل قوله ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ( 132 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأطيعوا الله ، أيها المؤمنون ، فيما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره من الأشياء ، وفيما أمركم به الرسول . يقول : وأطيعوا الرسول أيضا كذلك "لعلكم ترحمون " ، يقول : لترحموا فلا تعذبوا .

    وقد قيل إن ذلك معاتبة من الله عز وجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خالفوا أمره يوم أحد ، فأخلوا بمراكزهم التي أمروا بالثبات عليها .

    ذكر من قال ذلك :

    7829 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " [ ص: 207 ] وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون " ، معاتبة للذين عصوا رسوله حين أمرهم بالذي أمرهم به في ذلك اليوم وفي غيره - يعني : في يوم أحد .
    القول في تأويل قوله ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ( 133 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وسارعوا " ، وبادروا وسابقوا "إلى مغفرة من ربكم " ، يعني : إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته ، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها "وجنة عرضها السماوات والأرض " ، يعني : وسارعوا أيضا إلى جنة عرضها السماوات والأرض .

    ذكر أن معنى ذلك : وجنة عرضها كعرض السماوات السبع والأرضين السبع ، إذا ضم بعضها إلى بعض .

    ذكر من قال ذلك :

    7830 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وجنة عرضها السماوات والأرض " ، قال : قال ابن عباس : تقرن السماوات السبع والأرضون السبع ، كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض ، فذاك عرض الجنة .

    وإنما قيل : "وجنة عرضها السماوات والأرض " ، فوصف عرضها بالسماوات والأرضين ، والمعنى ما وصفنا : من وصف عرضها بعرض السماوات والأرض ، [ ص: 208 ] تشبيها به في السعة والعظم ، كما قيل : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ سورة لقمان : 28 ] ، يعني : إلا كبعث نفس واحدة ، وكما قال الشاعر :


    كأن عذيرهم بجنوب سلى نعام قاق في بلد قفار


    أي : عذير نعام ، وكما قال الآخر :


    حسبت بغام راحلتي عناقا! وما هي ، ويب غيرك بالعناق


    يريد صوت عناق .

    قال أبو جعفر : وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : [ ص: 209 ] هذه الجنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال : هذا النهار إذا جاء ، أين الليل .

    ذكر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره .

    7831 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مرة قال : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص ، شيخا كبيرا قد فند . قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلا عن يساره . قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية . فإذا كتاب صاحبي : "إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار ؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار ؟ [ ص: 210 ]

    7832 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : [ ص: 211 ] حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن "جنة عرضها السماوات والأرض " ، أين النار ؟ قال : أرأيتم إذا جاء الليل ، أين يكون النهار ؟ "فقالوا : اللهم نزعت بمثله من التوراة ! .

    7833 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران ، فسألوه وعنده أصحابه فقالوا : أرأيت قوله : " وجنة عرضها السماوات والأرض " ، فأين النار ؟ فأحجم الناس ، فقال عمر : "أرأيتم إذا جاء الليل ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ " فقالوا : نزعت مثلها من التوراة .

    7834 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : أخبرنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بنحوه ، في الثلاثة الرهط الذين أتوا عمر فسألوه : عن جنة عرضها كعرض السماوات والأرض ، بمثل حديث قيس بن مسلم . [ ص: 212 ]

    7835 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا جعفر بن عون قال : أخبرنا الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : تقولون : "جنة عرضها السماوات والأرض " ، أين تكون النار ؟ فقال له عمر : أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل ؟ أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ فقال : إنه لمثلها في التوراة ، فقال له صاحبه : لم أخبرته ؟ فقال له صاحبه : دعه ، إنه بكل موقن .

    7836 - حدثني أحمد بن حازم قال : أخبرنا أبو نعيم قال : حدثنا جعفر بن برقان قال : حدثنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب أتى ابن عباس فقال : تقولون "جنة عرضها السماوات والأرض " ، فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ [ ص: 213 ]

    قال أبو جعفر : وأما قوله : "أعدت للمتقين " فإنه يعني : إن الجنة التي عرضها كعرض السماوات والأرضين السبع ، أعدها الله للمتقين ، الذين اتقوا الله فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم ، فلم يتعدوا حدوده ، ولم يقصروا في واجب حقه عليهم فيضيعوه . كما : -

    7837 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين " ، أي : دارا لمن أطاعني وأطاع رسولي .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( 134 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " الذين ينفقون في السراء والضراء " ، أعدت الجنة التي عرضها السماوات والأرض للمتقين ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله ، إما في صرفه على محتاج ، وإما في تقوية مضعف على النهوض لجهاده في سبيل الله .

    وأما قوله : "في السراء " ، فإنه يعني : في حال السرور ، بكثرة المال ورخاء العيش [ ص: 214 ] "والسراء " مصدر من قولهم "سرني هذا الأمر مسرة وسرورا "

    "والضراء " مصدر من قولهم : "قد ضر فلان فهو يضر " ، إذا أصابه الضر ، وذلك إذا أصابه الضيق ، والجهد في عيشه .

    7838 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " الذين ينفقون في السراء والضراء " ، يقول : في العسر واليسر .

    فأخبر جل ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها ، لمن اتقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة ، وفي حال الضيق والشدة ، في سبيله .

    وقوله : "والكاظمين الغيظ " ، يعني : والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه .

    يقال منه : "كظم فلان غيظه " ، إذا تجرعه ، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه ، باستمكانها ممن غاظها ، وانتصارها ممن ظلمها .

    وأصل ذلك من "كظم القربة " ، يقال منه : "كظمت القربة " ، إذا ملأتها ماء . و "فلان كظيم ومكظوم " ، إذا كان ممتلئا غما وحزنا . ومنه قول الله عز وجل ، ( وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) [ سورة يوسف : 84 ] يعني : ممتلئ من الحزن . ومنه قيل لمجاري المياه : "الكظائم " ، لامتلائها بالماء . ومنه قيل : "أخذت بكظمه " يعني : بمجاري نفسه . [ ص: 215 ]

    و"الغيظ " مصدر من قول القائل : "غاظني فلان فهو يغيظني غيظا " ، وذلك إذا أحفظه وأغضبه .

    وأما قوله : " والعافين عن الناس " ، فإنه يعني : والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم وهم على الانتقام منهم قادرون ، فتاركوها لهم .

    وأما قوله : " والله يحب المحسنين " ، فإنه يعني : فإن الله يحب من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعد للعاملين بها الجنة التي عرضها السماوات والأرض ، والعاملون بها هم "المحسنون " ، وإحسانهم ، هو عملهم بها ، . كما : -

    7839 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "الذين ينفقون في السراء والضراء " الآية : " والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، أي : وذلك الإحسان ، وأنا أحب من عمل به .

    7840 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، قوم أنفقوا في العسر واليسر ، والجهد والرخاء ، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل ، ولا قوة إلا بالله . فنعمت والله يا ابن آدم ، الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ ، وأنت مظلوم .

    7841 - حدثني موسى بن عبد الرحمن قال : حدثنا محمد بن بشر قال : حدثنا محرز أبو رجاء ، عن الحسن قال : يقال يوم القيامة : ليقم من كان له على الله أجر . فما يقوم إلا إنسان عفا ، ثم قرأ هذه الآية : " والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " . [ ص: 216 ]

    7842 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل ، عن عم له ، عن أبي هريرة في قوله : " والكاظمين الغيظ " : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ، ملأه الله أمنا وإيمانا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #432
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (432)
    صــ 217إلى صــ 231


    7843 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "والكاظمين الغيظ " إلى "والله يحب المحسنين " ، ف " والكاظمين الغيظ " كقوله : ( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) [ ص: 217 ] [ سورة الشورى : 37 ] ، يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حراما ، فيغفرون ويعفون ، يلتمسون بذلك وجه الله "والعافين عن الناس " كقوله : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) [ سورة النور : 22 ] ، يقول : لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا .
    القول في تأويل قوله ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ( 135 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين ، المنفقين في السراء والضراء ، والذين إذا فعلوا فاحشة . وجميع هذه النعوت من صفة "المتقين " ، الذين قال تعالى ذكره : " وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين " ، كما : -

    7844 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني قال : سمعت الحسن قرأ هذه الآية : "الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، ثم قرأ : "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " إلى "أجر العاملين " ، فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد .

    7845 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، قال : هذان ذنبان ، "الفاحشة " ، ذنب ، "وظلموا أنفسهم " ذنب . [ ص: 218 ]

    وأما "الفاحشة " ، فهي صفة لمتروك ، ومعنى الكلام : والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة .

    ومعنى "الفاحشة " ، الفعلة القبيحة الخارجة عما أذن الله عز وجل فيه . وأصل "الفحش " : القبح ، والخروج عن الحد والمقدار في كل شيء . ومنه قيل للطويل المفرط الطول : "إنه لفاحش الطول " ، يراد به : قبيح الطول ، خارج عن المقدار المستحسن . ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد : "كلام فاحش " ، وقيل للمتكلم به : "أفحش في كلامه " ، إذا نطق بفحش .

    وقيل : إن "الفاحشة " في هذا الموضع ، معني بها الزنا .

    ذكر من قال ذلك :

    7846 - حدثنا العباس بن عبد العظيم قال : حدثنا حبان قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن جابر : "والذين إذا فعلوا فاحشة " ، قال : زنى القوم ورب الكعبة .

    7847 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أما "الفاحشة " ، فالزنا .

    وقوله : " أو ظلموا أنفسهم " ، يعني به : فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها . والذي فعلوا من ذلك ، ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته ، كما : -

    7848 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، قال : الظلم من الفاحشة ، والفاحشة من الظلم . [ ص: 219 ]

    وقوله : "ذكروا الله " ، يعني بذلك : ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه " فاستغفروا لذنوبهم " ، يقول : فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها " ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، يقول : وهل يغفر الذنوب - أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه - إلا الله " ولم يصروا على ما فعلوا " ، يقول : ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها ، ومعصيتهم التي ركبوها " وهم يعلمون " ، يقول : لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها ، وهم يعلمون أن الله قد تقدم بالنهي عنها ، وأوعد عليها العقوبة من ركبها .

    وذكر أن هذه الآية أنزلت خصوصا بتخفيفها ويسرها أمتنا ، مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها .

    7849 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبى رباح : أنهم قالوا : يا نبي الله ، بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه : "اجدع أذنك " ، "اجدع أنفك " ، "افعل "! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين " إلى قوله : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبركم بخير من ذلك " ؟ فقرأ هؤلاء الآيات .

    7850 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني عمر بن أبي خليفة العبدي قال : حدثنا علي بن زيد بن جدعان قال : قال ابن مسعود : كانت [ ص: 220 ] بنو إسرائيل إذا أذنبوا أصبح مكتوبا على بابه الذنب وكفارته ، فأعطينا خيرا من ذلك ، هذه الآية .

    7851 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني قال : لما نزلت : " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " ، بكى إبليس فزعا من هذه الآية .

    7852 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، بكى .

    7853 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة قال : سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي قال : سمعت علي بن ربيعة يحدث ، عن رجل من فزارة يقال له أسماء - : وابن أسماء - ، عن علي قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا نفعني الله بما شاء أن ينفعني [ منه ] ، فحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من عبد - قال شعبة : وأحسبه قال : مسلم - يذنب ذنبا ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب [ إلا غفر له ] وقال شعبة : وقرأ إحدى هاتين الآيتين : ( من يعمل سوءا يجز به ) ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) . [ ص: 221 ]

    7854 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي وحدثنا الفضل بن إسحاق قال : حدثنا وكيع عن مسعر وسفيان ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن علي بن ربيعة الوالبي ، عن أسماء بن الحكم الفزاري ، عن علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته . وحدثني أبو بكر ، وصدق أبو بكر ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من رجل يذنب ذنبا ثم يتوضأ ، ثم يصلي قال أحدهما : ركعتين ، وقال الآخر : "ثم يصلي ويستغفر الله ، إلا غفر له " . [ ص: 222 ]

    7855 - حدثنا الزبير بن بكار قال : حدثني سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أخيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لهو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أبا بكر ، فإنه كان لا يكذب . قال علي رضي الله عنه : فحدثني أبو بكر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتوضأ ، ثم يصلي ركعتين ، ويستغفر الله من ذنبه ذلك ، إلا غفره الله له .

    وأما قوله " ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، فإنه كما بينا تأويله .

    وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون :

    7856 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق : " والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أي إن أتوا فاحشة "أو ظلموا أنفسهم " بمعصية ، [ ص: 223 ] ذكروا نهي الله عنها ، وما حرم الله عليهم ، فاستغفروا لها ، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو .

    وأما قوله : " ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، فإن اسم "الله " مرفوع ولا جحد قبله ، وإنما يرفع ما بعد "إلا " بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد ، كقول القائل : "ما في الدار أحد إلا أخوك " . فأما إذا قيل : "قام القوم إلا أباك " ، فإن وجه الكلام في "الأب " النصب . و "من " بصلته في قوله : " ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، معرفة . فإن ذلك إنما جاء رفعا ، لأن معنى الكلام : وهل يغفر الذنوب أحد أو : ما يغفر الذنوب أحد إلا الله . فرفع ما بعد "إلا " من [ اسم ] الله ، على تأويل الكلام لا على لفظه .

    وأما قوله : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون "; فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل "الإصرار " ، ومعنى هذه الكلمة .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ولم يقيموا عليه ، ولكنهم تابوا واستغفروا ، كما وصفهم الله به .

    ذكر من قال ذلك :

    7857 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، فإياكم والإصرار ، فإنما هلك المصرون ، الماضون قدما ، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرمه الله عليهم ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك . [ ص: 224 ]

    7858 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ؟ قال : قدما قدما في معاصي الله!! لا تنهاهم مخافة الله ، حتى جاءهم أمر الله .

    7859 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، أي : لم يقيموا على معصيتي ، كفعل من أشرك بي ، فيما عملوا به من كفر بي .

    وقال آخرون : معنى ذلك : لم يواقعوا الذنب إذا هموا به .

    ذكر من قال ذلك :

    7860 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " ولم يصروا على ما فعلوا " ، قال : إتيان العبد ذنبا إصرار ، حتى يتوب .

    7861 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ولم يصروا على ما فعلوا " ، قال : لم يواقعوا .

    وقال آخرون : معنى "الإصرار " ، السكوت على الذنب وترك الاستغفار .

    ذكر من قال ذلك :

    7862 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، أما "يصروا " فيسكتوا ولا يستغفروا . [ ص: 225 ]

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : "الإصرار " ، الإقامة على الذنب عامدا ، وترك التوبة منه . ولا معنى لقول من قال : "الإصرار على الذنب هو مواقعته " ، لأن الله عز وجل مدح بترك الإصرار على الذنب مواقع الذنب ، فقال : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، ولو كان المواقع الذنب مصرا بمواقعته إياه ، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم . لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم ، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه ، وجه .

    وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " .

    7863 - حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي قال : حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن عثمان بن واقد ، عن أبي نصيرة ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 226 ]

    فلو كان مواقع الذنب مصرا ، لم يكن لقوله "ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " ، معنى لأن مواقعة الذنب إذا كانت هي الإصرار ، فلا يزيل الاسم الذي لزمه معنى غيره ، كما لا يزيل عن الزاني اسم "زان " وعن القاتل اسم "قاتل " ، توبته منه ، ولا معنى غيرها . وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصر عليه ، فمعلوم بذلك أن "الإصرار " غير المواقعة ، وأنه المقام عليه ، على ما قلنا قبل .

    واختلف أهل التأويل ، في تأويل قوله : " وهم يعلمون " .

    فقال بعضهم : معناه : وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا .

    ذكر من قال ذلك :

    7864 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما "وهم يعلمون " ، فيعلمون أنهم قد أذنبوا ، ثم أقاموا فلم يستغفروا .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية لله .

    ذكر من قال ذلك :

    7865 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "وهم يعلمون " ، قال : يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري .

    قال أبو جعفر : وقد تقدم بياننا أولى ذلك بالصواب . [ ص: 227 ]
    القول في تأويل قوله ( أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ( 136 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "أولئك " ، الذين ذكر أنه أعد لهم الجنة التي عرضها السماوات والأرض ، من المتقين ، ووصفهم بما وصفهم به . ثم قال : هؤلاء الذين هذه صفتهم "جزاؤهم " ، يعني ثوابهم من أعمالهم التي وصفهم تعالى ذكره أنهم عملوها ، "مغفرة من ربهم " ، يقول : عفو لهم من الله عن عقوبتهم على ما سلف من ذنوبهم ، ولهم على ما أطاعوا الله فيه من أعمالهم بالحسن منها "جنات " ، وهي البساتين "تجري من تحتها الأنهار " ، يقول : تجري خلال أشجارها الأنهار وفي أسافلها ، جزاء لهم على صالح أعمالهم "خالدين فيها " يعني : دائمي المقام في هذه الجنات التي وصفها "ونعم أجر العاملين " ، يعني : ونعم جزاء العاملين لله ، الجنات التي وصفها ، كما : -

    7866 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " ، أي ثواب المطيعين .
    [ ص: 228 ] القول في تأويل قوله ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( 137 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " قد خلت من قبلكم سنن " ، مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم ، يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به ، من نحو قوم عاد وثمود وقوم هود وقوم لوط ، وغيرهم من سلاف الأمم قبلكم "سنن " ، يعني : مثلات سير بها فيهم وفيمن كذبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم ، بإمهالي أهل التكذيب بهم ، واستدراجي إياهم ، حتى بلغ الكتاب فيهم أجله الذي أجلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم ، ثم أحللت بهم عقوبتي ، وأنزلت بساحتهم نقمي ، فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرا " فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " ، يقول : فسيروا - أيها الظانون ، أن إدالتي من أدلت من أهل الشرك يوم أحد على محمد وأصحابه ، لغير استدراج مني لمن أشرك بي ، وكفر برسلي ، وخالف أمري - في ديار الأمم الذين كانوا قبلكم ، ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي والجاحدون وحدانيتي ، فانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي ، وما الذي آل إليه غب خلافهم أمري ، وإنكارهم وحدانيتي ، فتعلموا عند ذلك أن إدالتي من أدلت من المشركين على نبيي محمد وأصحابه بأحد ، إنما هي استدراج وإمهال ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم . [ ص: 229 ] ثم إما أن يؤول حالهم إلى مثل ما آل إليه حال الأمم الذين سلفوا قبلهم : من تعجيل العقوبة عليهم ، أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7867 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " ، فقال : ألم تسيروا في الأرض فتنظروا كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح ، والأمم التي عذب الله عز وجل ؟

    7868 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " قد خلت من قبلكم سنن " ، يقول : في الكفار والمؤمنين ، والخير والشر .

    7869 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " قد خلت من قبلكم سنن " ، في المؤمنين والكفار .

    7870 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم يعني بالمسلمين يوم أحد والبلاء الذي أصابهم ، والتمحيص لما كان فيهم ، واتخاذه الشهداء منهم ، فقال تعزية لهم وتعريفا لهم فيما صنعوا ، وما هو صانع بهم : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " ، أي : قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي : عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين ، فسيروا في الأرض تروا مثلات قد مضت فيهم ، ولمن كان على مثل ما هم عليه من ذلك [ ص: 230 ] مني ، وإن أمليت لهم ، أي : لئلا تظنوا أن نقمتي انقطعت عن عدوكم وعدوي ، للدولة التي أدلتها** عليكم بها ، لأبتليكم بذلك ، لأعلم ما عندكم .

    7871 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " ، يقول : متعهم في الدنيا قليلا ثم صيرهم إلى النار .

    قال أبو جعفر : وأما "السنن " فإنها جمع "سنة " ، "والسنة " ، هي المثال المتبع ، والإمام المؤتم به . يقال منه : "سن فلان فينا سنة حسنة ، وسن سنة سيئة " ، إذا عمل عملا اتبع عليه من خير وشر ، ومنه قول لبيد بن ربيعة :


    من معشر سنت لهم آباؤهم ، ولكل قوم سنة وإمامها


    [ ص: 231 ]

    وقول سليمان بن قتة :


    وإن الألى بالطف من آل هاشم تآسوا فسنوا للكرام التآسيا


    وقال ابن زيد في ذلك ما : -

    7872 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " قد خلت من قبلكم سنن " ، قال : أمثال .
    القول في تأويل قوله عز وجل ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ( 138 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه ب "هذا " .

    فقال بعضهم : عنى بقوله "هذا " ، القرآن .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #433
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (433)
    صــ 232إلى صــ 236




    ذكر من قال ذلك :

    7873 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا [ ص: 232 ] عباد ، عن الحسن في قوله : " هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " ، قال : هذا القرآن .

    7874 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . قوله : " هذا بيان للناس " ، وهو هذا القرآن ، جعله الله بيانا للناس عامة ، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا .

    7875 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال في قوله : " هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " ، خاصة .

    7876 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج في قوله : " هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " ، خاصة .

    وقال آخرون : إنما أشير بقوله "هذا " ، إلى قوله : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبه المكذبين " ، ثم قال : هذا الذي عرفتكم ، يا معشر أصحاب محمد ، بيان للناس .

    ذكر من قال ذلك :

    7877 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بذلك .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : قوله : "هذا " ، إشارة إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله جل ثناؤه المؤمنين ، وتعريفهم حدوده ، وحضهم على لزوم طاعته والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم . لأن قوله : "هذا " ، إشارة إلى حاضر : إما مرئي وإما مسموع ، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة .

    فمعنى الكلام : هذا الذي أوضحت لكم وعرفتكموه ، بيان للناس يعني ب "البيان " ، الشرح والتفسير ، كما : - [ ص: 233 ]

    7878 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " هذا بيان للناس " ، أي : هذا تفسير للناس إن قبلوه .

    7879 - حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : " هذا بيان للناس " ، قال : من العمى .

    7880 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن الشعبي ، مثله .

    وأما قوله : "وهدى وموعظة " ، فإنه يعني ب "الهدى " ، الدلالة على سبيل الحق ومنهج الدين و ب "الموعظة " ، التذكرة للصواب والرشاد ، كما : -

    7881 - حدثنا أحمد بن حازم والمثنى قالا : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : "وهدى " ، قال : من الضلالة "وموعظة " ، من الجهل .

    7882 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي مثله .

    7883 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "للمتقين " ، أي : لمن أطاعني وعرف أمري .
    [ ص: 234 ] القول في تأويل قوله ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( 139 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا من الله تعالى ذكره تعزية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم من الجراح والقتل بأحد .

    قال : "ولا تهنوا ولا تحزنوا " ، يا أصحاب محمد ، يعني : ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأحد ، من القتل والقروح - عن جهاد عدوكم وحربهم .

    من قول القائل : "وهن فلان في هذا الأمر فهو يهن وهنا " .

    "ولا تحزنوا " ، ولا تأسوا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ ، فإنكم " وأنتم الأعلون " ، يعني : الظاهرون عليهم ، ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم "إن كنتم مؤمنين " ، يقول : إن كنتم مصدقي نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يعدكم ، وفيما ينبئكم من الخبر عما يئول إليه أمركم وأمرهم . كما : -

    7884 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري قال : كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتل والجراح ، حتى خلص إلى كل امرئ منهم البأس ، فأنزل الله عز وجل القرآن ، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية ، فقال : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " إلى قوله : "لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " .

    7885 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ، يعزي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون ، ويحثهم على قتال عدوهم ، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوهم في سبيل الله . [ ص: 235 ]

    7886 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ، قال : يأمر محمدا ، يقول : "ولا تهنوا " ، أن تمضوا في سبيل الله .

    7887 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ولا تهنوا " ، ولا تضعفوا .

    7888 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7889 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " ولا تهنوا ولا تحزنوا " ، يقول : ولا تضعفوا .

    7890 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "ولا تهنوا " ، قال ابن جريج : ولا تضعفوا في أمر عدوكم ، " ولا تحزنوا وأنتم الأعلون " ، قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فقالوا : ما فعل فلان ؟ ما فعل فلان ؟ فنعى بعضهم بعضا ، وتحدثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فكانوا في هم وحزن . فبينما هم كذلك ، إذ علا خالد بن الوليد الجبل بخيل المشركين فوقهم ، وهم أسفل في الشعب . فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا قوة لنا إلا بك ، وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر "! . قال : وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل . فذلك قوله : " وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " .

    7891 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "ولا تهنوا " ، أي : لا تضعفوا "ولا تحزنوا " ، ولا تأسوا على ما أصابكم ، "وأنتم الأعلون " ، [ ص: 236 ] أي : لكم تكون العاقبة والظهور "إن كنتم مؤمنين " إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني .

    7892 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا يعلون علينا " . فأنزل الله عز وجل : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " .
    القول في تأويل قوله ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله )

    قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) ، كلاهما بفتح "القاف " ، بمعنى : إن يمسسكم القتل والجراح ، يا معشر أصحاب محمد ، فقد مس القوم من أعدائكم من المشركين قرح قتل وجراح مثله .

    وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) . [ كلاهما بضم القاف ] . [ ص: 237 ]

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، بفتح "القاف " في الحرفين ، لإجماع أهل التأويل على أن معناه : القتل والجراح ، فذلك يدل على أن القراءة هي الفتح .

    وكان بعض أهل العربية يزعم أن "القرح " و "القرح " لغتان بمعنى واحد . والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا .

    ذكر من قال : إن "القرح " ، الجراح والقتل .

    7893 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، قال : جراح وقتل .

    7894 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    7895 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، قال : إن يقتلوا منكم يوم أحد ، فقد قتلتم منهم يوم بدر .

    7896 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، والقرح الجراحة ، وذاكم يوم أحد ، فشا في أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والجراحة ، فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم ، وأن الذي أصابكم عقوبة . [ ص: 238 ]

    7897 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، قال : ذلك يوم أحد ، فشا في المسلمين الجراح ، وفشا فيهم القتل ، فذلك قوله : "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، يقول : إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوكم مثله يعزي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحثهم على القتال .

    7898 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ، والقرح هي الجراحات .

    7899 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "إن يمسسكم قرح " أي : جراح "فقد مس القوم قرح مثله " ، أي : جراح مثلها .

    7900 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : نام المسلمون وبهم الكلوم يعني يوم أحد قال عكرمة : وفيهم أنزلت : " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، وفيهم أنزلت : ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) [ سورة النساء : 104 ] .

    وأما تأويل قوله : " إن يمسسكم قرح " ، فإنه : إن يصبكم . كما : -

    7901 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إن يمسسكم " ، إن يصبكم .
    [ ص: 239 ] القول في تأويل قوله ( وتلك الأيام نداولها بين الناس )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره [ بقوله ] " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، أيام بدر وأحد .

    ويعني بقوله : " نداولها بين الناس " ، نجعلها دولا بين الناس مصرفة . ويعني ب "الناس " ، المسلمين والمشركين . وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر ، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين . وأدال المشركين من المسلمين بأحد ، فقتلوا منهم سبعين ، سوى من جرحوا منهم .

    يقال منه : "أدال الله فلانا من فلان ، فهو يديله منه إدالة " ، إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المدال منه .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7902 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، قال جعل الله الأيام دولا ، أدال الكفار يوم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    7903 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، إنه والله لولا الدول ما أوذي المؤمنون ، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، ويعلم الصادق من الكاذب .

    7904 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، فأظهر الله عز وجل [ ص: 240 ] نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين يوم بدر ، وأظهر عليهم عدوهم يوم أحد . وقد يدال الكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، ويعلم الصادق من الكاذب . وأما من ابتلى منهم من المسلمين يوم أحد ، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    7905 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، يوما لكم ، ويوما عليكم .

    7906 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : " نداولها بين الناس " ، قال : أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .

    7907 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، فإنه كان يوم أحد بيوم بدر ، قتل المؤمنون يوم أحد ، اتخذ الله منهم شهداء ، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين ، فجعل له الدولة عليهم .

    7908 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان قتال أحد وأصاب المسلمين ما أصاب ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد ! يا محمد! ألا تخرج ؟ ألا تخرج ؟ الحرب سجال : يوم لنا ويوم لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أجيبوه ، فقالوا : لا سواء ، لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان : لنا عزى ولا عزى لكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم . فقال أبو سفيان : اعل هبل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : الله أعلى وأجل! فقال أبو سفيان : موعدكم وموعدنا بدر الصغرى قال عكرمة : وفيهم أنزلت : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " .

    7909 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا ابن المبارك ، [ ص: 241 ] عن ابن جريج ، عن ابن عباس ، في قوله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، فإنه أدال على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .

    7910 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، أي نصرفها للناس ، للبلاء والتمحيص .

    7911 - حدثني إبراهيم بن عبد الله قال : أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن عون ، عن محمد في قول الله : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، قال : يعني الأمراء .
    القول في تأويل قوله ( وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ( 140 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء نداولها بين الناس .

    ولو لم يكن في الكلام "واو " ، لكان قوله : "ليعلم " متصلا بما قبله ، وكان "وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، ليعلم الله الذين آمنوا . ولكن لما دخلت "الواو " فيه ، آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها ، وأن بعدها خبرا مطلوبا ، واللام التي في قوله : "وليعلم " ، به متعلقة . [ ص: 242 ]

    فإن قال قائل : وكيف قيل : "وليعلم الله الذين آمنوا " معرفة ، وأنت لا تستجيز في الكلام : "قد سألت فعلمت عبد الله " ، وأنت تريد : علمت شخصه ، إلا أن تريد : علمت صفته وما هو ؟

    قيل : إن ذلك إنما جاز مع "الذين " ، لأن في "الذين " تأويل "من " و "أي " ، وكذلك جائز مثله في "الألف واللام " ، كما قال تعالى ذكره : ( فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [ سورة العنكبوت : 3 ] ، لأن في "الألف واللام " من تأويل "أي " ، و "من " ، مثل الذي في "الذي " . ولو جعل مع الاسم المعرفة اسما فيه دلالة على "أي " ، جاز ، كما يقال : "سألت لأعلم عبد الله من عمرو " ، ويراد بذلك : لأعرف هذا من هذا .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : وليعلم الله الذين آمنوا منكم ، أيها القوم ، من الذين نافقوا منكم ، نداول بين الناس فاستغنى بقوله : "وليعلم الله الذين آمنوا منكم " ، عن ذكر قوله : "من الذين نافقوا " ، لدلالة الكلام عليه . إذ كان في قوله : "الذين آمنوا " تأويل "أي " على ما وصفنا . فكأنه قيل : وليعلم الله أيكم المؤمن ، كما قال جل ثناؤه : ( لنعلم أي الحزبين أحصى ) [ سورة الكهف : 12 ] غير أن "الألف واللام " ، و "الذي " و "من " إذا وضعت مع العلم موضع "أي " ، نصبت بوقوع العلم عليه ، كما قيل : "وليعلمن الكاذبين " ، فأما "أي " فإنها ترفع .

    قال أبو جعفر : وأما قوله : "ويتخذ منكم شهداء " ، فإنه يعني : " [ ص: 243 ] وليعلم الله الذين آمنوا " وليتخذ منكم شهداء ، أي : ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها .

    "والشهداء " جمع "شهيد " ، كما : -

    7912 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، أي : ليميز بين المؤمنين والمنافقين ، وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة .

    7913 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، قال : فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم : "ربنا أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ، ونبليك فيه خيرا ، ونلتمس فيه الشهادة "! فلقوا المشركين يوم أحد ، فاتخذ منهم شهداء .

    7914 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، فكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم ، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله .

    7915 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، قال : قال ابن عباس : كانوا يسألون الشهادة ، فلقوا المشركين يوم أحد ، فاتخذ منهم شهداء .

    7916 - حدثني عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " ، كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر ، يبلون فيه خيرا ، ويرزقون فيه الشهادة ، ويرزقون الجنة والحياة والرزق ، فلقوا المشركين [ ص: 244 ] يوم أحد ، فاتخذ الله منهم شهداء ، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل فقال : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ) الآية ، [ سورة البقرة : 154 ] .

    قال أبو جعفر : وأما قوله : "والله لا يحب الظالمين " ، فإنه يعني به : الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم ، كما : -

    7917 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله لا يحب الظالمين " ، أي : المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة ، وقلوبهم مصرة على المعصية .
    القول في تأويل قوله ( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ( 141 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، وليختبر الله الذين صدقوا الله ورسوله ، فيبتليهم بإدالة المشركين منهم ، حتى يتبين المؤمن منهم المخلص الصحيح الإيمان ، من المنافق . كما : -

    7918 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، قال : ليبتلي . [ ص: 245 ]

    7919 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    7920 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، قال : ليمحص الله المؤمن حتى يصدق .

    7921 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، يقول : يبتلي المؤمنين .

    7922 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " وليمحص الله الذين آمنوا " ، قال : يبتليهم .

    7923 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " ، فكان تمحيصا للمؤمنين ، ومحقا للكافرين .

    7924 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، " وليمحص الله الذين آمنوا " ، أي يختبر الذين آمنوا ، حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم ، وكيف صبرهم ويقينهم .

    7925 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " ، قال : يمحق من محق في الدنيا ، وكان بقية من يمحق في الآخرة في النار .

    وأما قوله : " ويمحق الكافرين " ، فإنه يعني به : أنه ينقصهم ويفنيهم .

    يقال منه : "محق فلان هذا الطعام " ، إذا نقصه أو أفناه ، "يمحقه محقا " ، ومنه قيل لمحاق القمر : "محاق " ، وذلك نقصانه وفناؤه ، كما : -

    7926 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 246 ] ابن جريج قال : قال ابن عباس : "ويمحق الكافرين " ، قال : ينقصهم .

    7927 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " ويمحق الكافرين " ، قال : يمحق الكافر حتى يكذبه .

    7928 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ويمحق الكافرين " ، أي : يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم .
    القول في تأويل قوله ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( 142 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "أم حسبتم " ، يا معشر أصحاب محمد ، وظننتم "أن تدخلوا الجنة " ، وتنالوا كرامة ربكم ، وشرف المنازل عنده "ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " ، يقول : ولما يتبين لعبادي المؤمنين ، المجاهد منكم في سبيل الله ، على ما أمره به .

    وقد بينت معنى قوله : " ولما يعلم الله " ، "وليعلم الله " ، وما أشبه ذلك ، بأدلته فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته . .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #434
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (434)
    صــ 246إلى صــ 261





    وقوله : " ويعلم الصابرين " ، يعني : الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه . كما : - [ ص: 247 ]

    7929 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة " وتصيبوا من ثوابي الكرامة ، ولم أختبركم بالشدة ، وأبتليكم بالمكاره ، حتى أعلم صدق ذلك منكم الإيمان بي ، والصبر على ما أصابكم في .

    ونصب " ويعلم الصابرين " ، على الصرف . و "الصرف " ، أن يجتمع فعلان ببعض حروف النسق ، وفي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق ، فينصب الذي بعد حرف العطف على الصرف ، لأنه مصروف عن معنى الأول ، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي في أول الكلام . وذلك كقولهم : "لا يسعني شيء ويضيق عنك " ، لأن "لا " التي مع "يسعني " لا يحسن إعادتها مع قوله : "ويضيق عنك " ، فلذلك نصب . .

    والقرأة في هذا الحرف على النصب .

    وقد روي عن الحسن أنه كان يقرأ : ( ويعلم الصابرين ) ، فيكسر "الميم " من "يعلم " ، لأنه كان ينوي جزمها على العطف به على قوله : " ولما يعلم الله " .
    [ ص: 248 ] القول في تأويل قوله ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ( 143 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ولقد كنتم تمنون الموت " ، ولقد كنتم ، يا معشر أصحاب محمد " تمنون الموت " ، يعني أسباب الموت ، وذلك : القتال "فقد رأيتموه " ، فقد رأيتم ما كنتم تمنونه - و "الهاء " في قوله "رأيتموه " عائدة على "الموت " ، والمعنى : [ القتال ] "وأنتم تنظرون " ، يعني : قد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر ، أي بقرب منكم .

    وكان بعض أهل العربية يزعم أنه قيل : " وأنتم تنظرون " ، على وجه التوكيد للكلام ، كما يقال : "رأيته عيانا " و "رأيته بعيني ، وسمعته بأذني " .

    قال أبو جعفر : وإنما قيل : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " ، لأن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد بدرا ، كانوا يتمنون قبل أحد يوما مثل يوم بدر ، فيبلوا الله من أنفسهم خيرا ، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر . فلما كان يوم أحد فر بعضهم ، وصبر بعضهم حتى أوفى بما كان عاهد الله قبل ذلك ، فعاتب الله من فر منهم فقال : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " ، الآية ، وأثنى على الصابرين منهم والموفين بعهدهم .

    ذكر الأخبار بما ذكرنا من ذلك :

    7930 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " ، قال : غاب رجال عن بدر ، فكانوا [ ص: 249 ] يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه ، فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر . فلما كان يوم أحد ، ولى من ولى منهم ، فعاتبهم الله أو : فعابهم ، أو : فعيبهم على ذلك . شك أبو عاصم .

    7931 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه - إلا أنه قال : "فعاتبهم الله على ذلك " ، ولم يشك .

    7932 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " ، أناس من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والأجر ، فكان يتمنون أن يرزقوا قتالا فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال حتى كان في ناحية المدينة يوم أحد ، فقال الله عز وجل كما تسمعون : "ولقد كنتم تمنون الموت " ، حتى بلغ "الشاكرين " .

    7933 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " ، قال : كانوا يتمنون أن يلقوا المشركين فيقاتلوهم ، فلما لقوهم يوم أحد ولوا .

    7934 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : إن أناسا من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل ، فكانوا يتمنون أن يروا قتالا فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال حتى كان بناحية المدينة يوم أحد ، فأنزل الله عز وجل : "ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " ، الآية .

    7935 - حدثني محمد بن بشار قال : حدثنا هوذة قال : حدثنا عوف ، [ ص: 250 ] عن الحسن قال : بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : "لإن لقينا مع النبي صلى الله عليه وسلم لنفعلن ولنفعلن " ، فابتلوا بذلك ، فلا والله ما كلهم صدق الله ، فأنزل الله عز وجل . " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " .

    7936 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهدوا بدرا ، فلما رأوا فضيلة أهل بدر قالوا : "اللهم إنا نسألك أن ترينا يوما كيوم بدر نبليك فيه خيرا "! فرأوا أحدا ، فقال لهم : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " .

    7937 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " ، أي : لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم يعني الذين استنهضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خروجه بهم إلى عدوهم ، لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله ببدر ، رغبة في الشهادة التي قد فاتتهم به . يقول : " فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " ، أي : الموت بالسيوف في أيدي الرجال ، قد خلى بينكم وبينهم ، وأنتم تنظرون إليهم ، فصددتم عنهم .
    [ ص: 251 ]

    القول في تأويل قوله ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ( 144 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه ، داعيا إلى الله وإلى طاعته ، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه . يقول جل ثناؤه : فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما الله به صانع من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله ، كسائر رسله إلى خلقه الذين مضوا قبله ، وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم .

    ثم قال لأصحاب محمد ، معاتبهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأحد : "إن محمدا قتل " ، ومقبحا إليهم انصراف من انصرف منهم عن عدوهم وانهزامه عنهم : أفإن مات محمد ، أيها القوم ، لانقضاء مدة أجله ، أو قتله عدو "انقلبتم على أعقابكم " ، يعني : ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدا بالدعاء إليه ورجعتم عنه كفارا بالله بعد الإيمان به ، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم محمد إليه ، وحقيقة ما جاءكم به من عند ربه "ومن ينقلب على عقبيه " ، يعني بذلك : ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيمانه ، [ ص: 252 ] "فلن يضر الله شيئا " يقول : فلن يوهن ذلك عزة الله ولا سلطانه ، ولا يدخل بذلك نقص في ملكه ، بل نفسه يضر بردته ، وحظ نفسه ينقص بكفره " وسيجزي الله الشاكرين " ، يقول : وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه ، بثبوته على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل ، واستقامته على منهاجه ، وتمسكه بدينه وملته بعده . كما : -

    7938 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله : "وسيجزي الله الشاكرين " ، الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه . فكان علي رضي الله عنه يقول : كان أبو بكر أمين الشاكرين ، وأمين أحباء الله ، وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله .

    7939 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن العلاء بن بدر قال : إن أبا بكر أمين الشاكرين . وتلا هذه الآية : " وسيجزي الله الشاكرين " .

    7940 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وسيجزي الله الشاكرين " ، أي : من أطاعه وعمل بأمره .

    وذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن انهزم عنه بأحد من أصحابه . [ ص: 253 ]

    ذكر الأخبار الواردة بذلك :

    7941 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " إلى قوله : " وسيجزي الله الشاكرين " ، ذاكم يوم أحد ، حين أصابهم القرح والقتل ، ثم تناعوا نبي الله صلى الله عليه وسلم تفئة ذلك ، فقال أناس : "لو كان نبيا ما قتل "! وقال أناس من علية أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم : "قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم حتى يفتح الله لكم أو تلحقوا به "! فقال الله عز وجل : "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ، يقول : إن مات نبيكم أو قتل ، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم .

    7942 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه وزاد فيه ، قال الربيع : وذكر لنا والله أعلم ، أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان ، أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فأنزل الله عز وجل : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ، يقول : ارتددتم كفارا بعد إيمانكم . [ ص: 254 ]

    7943 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد إليهم - يعني : إلى المشركين - أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال : "لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " . وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوات بن جبير .

    ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان . فلما رأى ذلك خالد بن الوليد ، وهو على خيل المشركين ، كر . فرمته الرماة فانقمع . فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه ، بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : "لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم "! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر . فلما رأى خالد قلة الرماة ، صاح في خيله ثم حمل ، فقتل الرماة وحمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل ، تنادوا ، فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم . .

    فأتى ابن قميئة الحارثي - أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة - فرمى [ ص: 255 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته ، وشجه في وجهه فأثقله ، وتفرق عنه أصحابه ، ودخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها . وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : "إلي عباد الله! إلي عباد الله! " ، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فجعلوا يسيرون بين يديه ، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف . فحماه طلحة ، فرمي بسهم في يده فيبست يده .

    وأقبل أبي بن خلف الجمحي - وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتله - فقال : يا كذاب ، أين تفر ؟ فحمل عليه ، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع ، فجرح جرحا خفيفا ، فوقع يخور خوار الثور . فاحتملوه وقالوا : ليس بك جراحة! ، [ فما يجزعك ] ؟ قال : أليس قال : "لأقتلنك " ؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم! ولم يلبث إلا يوما وبعض يوم حتى مات من ذلك الجرح .

    وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة : "ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ، فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان !! يا قوم ، إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم " . قال أنس بن النضر : "يا قوم ، إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم إنى أعتذر إليك مما [ ص: 256 ] يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء "! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل .

    وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس ، حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة . فلما رأوه ، وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال : "أنا رسول الله "! ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا .

    فقال الله عز وجل للذين قالوا : إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " .

    7944 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن ينقلب على عقبيه " ، قال : يرتد .

    7945 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه : أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل! فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلغ! فقاتلوا عن دينكم .

    7946 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع ، أخو بني عدي بن النجار قال : انتهى [ ص: 257 ] أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر ، وطلحة بن عبد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل محمد رسول الله! قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! واستقبل القوم فقاتل حتى قتل وبه سمي أنس بن مالك .

    7947 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : "ألا إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى دينكم الأول "! فأنزل الله عز وجل : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ، الآية .

    7948 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : ألقي في أفواه المسلمين يوم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فنزلت هذه الآية : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية .

    7949 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة ، والناس يفرون ، ورجل قائم على الطريق يسألهم : "ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم ، فيقولون : "والله ما ندري ما فعل "! فقال : "والذي نفسي بيده ، لإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، لنعطينهم بأيدينا ، إنهم لعشائرنا وإخواننا "! وقالوا : "إن محمدا إن كان حيا لم يهزم ، ولكنه قتل "! فترخصوا في الفرار حينئذ . فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ، الآية كلها . [ ص: 258 ]

    7950 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية ، ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق ، قالوا يوم فر الناس عن نبي الله صلى الله عليه وسلم وشج فوق حاجبه وكسرت رباعيته : "قتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأول "! فذلك قوله : "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " .

    7951 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ، قال : ما بينكم وبين أن تدعوا الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم إلا أن يموت محمد أو يقتل! فسوف يكون أحد هذين : فسوف يموت ، أو يقتل .

    7952 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ، إلى قوله : " وسيجزي الله الشاكرين " ، أي : لقول الناس : "قتل محمد " ، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم أي : أفإن مات نبيكم أو قتل ، رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم ، وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله ، وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم ، وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم ؟ "ومن ينقلب على عقبيه " ، أي : يرجع عن دينه "فلن يضر الله شيئا " ، أي : لن ينقص ذلك من عز الله ولا ملكه ولا سلطانه .

    7953 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : قال : أهل المرض والارتياب والنفاق ، حين فر الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم : "قد قتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأول "! فنزلت هذه الآية . [ ص: 259 ]

    قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفتنقلبون على أعقابكم ، إن مات محمد أو قتل ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا فجعل الاستفهام في حرف الجزاء ، ومعناه أن يكون في جوابه . وكذلك كل استفهام دخل على جزاء ، فمعناه أن يكون في جوابه . لأن الجواب خبر يقوم بنفسه ، والجزاء شرط لذلك الخبر ، ثم يجزم جوابه وهو كذلك ومعناه الرفع ، لمجيئه بعد الجزاء ، كما قال الشاعر :


    حلفت له إن تدلج الليل لا يزل أمامك بيت من بيوتي سائر


    فمعنى "لا يزل " رفع ، ولكنه جزم لمجيئه بعد الجزاء ، فصار كالجواب . ومثله : ( أفإن مت فهم الخالدون ) [ سورة الأنبياء : 34 ] و ( فكيف تتقون إن كفرتم ) [ سورة المزمل : 17 ] ، ولو كان مكان "فهم الخالدون " ، "يخلدون " ، وقيل : "أفإن مت يخلدوا " ، جاز الرفع فيه والجزم . وكذلك لو كان مكان "انقلبتم " ، "تنقلبوا " ، جاز الرفع والجزم ، لما وصفت قبل . وتركت إعادة الاستفهام ثانية مع قوله : "انقلبتم " ، اكتفاء بالاستفهام في أول الكلام ، وأن الاستفهام في أوله دال على موضعه ومكانه .

    وقد كان بعض القرأة يختار في قوله : ( أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون [ ص: 260 ] ) [ سورة الإسراء : 82 - سورة الصافات : 16 - سورة الواقعة : 47 ] ، ترك إعادة الاستفهام مع "أإنا " ، اكتفاء بالاستفهام في قوله : "أإذا كنا ترابا " ، ويستشهد على صحة وجه ذلك بإجماع القرأة على تركهم إعادة الاستفهام مع قوله : "انقلبتم " ، اكتفاء بالاستفهام في قوله : "أفإن مات " ، إذ كان دالا على معنى الكلام وموضع الاستفهام منه . وكان يفعل مثل ذلك في جميع القرآن .

    وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه .
    القول في تأويل قوله ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه ، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له ، وأذن له بالموت ، فحينئذ يموت . فأما قبل ذلك ، فلن يموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال ، كما : -

    7954 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا " ، أي : إن لمحمد أجلا هو بالغه ، إذا أذن الله له في ذلك كان . [ ص: 261 ]

    وقد قيل إن معنى ذلك : وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله .

    وقد اختلف أهل العربية في معنى الناصب قوله : "كتابا مؤجلا " .

    فقال بعض نحويي البصرة : هو توكيد ، ونصبه على : "كتب الله كتابا مؤجلا " . قال : وكذلك كل شيء في القرآن من قوله : ( حقا ) إنما هو : أحق ذلك حقا " . وكذلك : ( وعد الله ) ( رحمة من ربك ) ، ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) ( كتاب الله عليكم ) ، إنما هو : صنع الله هكذا صنعا . فهكذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا ، فإنه كثير .

    وقال بعض نحويي الكوفة في قوله : " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله " ، معناه : كتب الله آجال النفوس ، ثم قيل : "كتابا مؤجلا " ، فأخرج قوله : "كتابا مؤجلا " ، نصبا من المعنى الذي في الكلام ، إذ كان قوله : " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله " ، قد أدى عن معنى : "كتب " ، قال : وكذلك سائر ما في القرآن من نظائر ذلك ، فهو على هذا النحو .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #435
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (435)
    صــ 262إلى صــ 276





    وقال آخرون منهم : قول القائل : "زيد قائم حقا " ، بمعنى : "أقول زيد قائم حقا " ، لأن كل كلام "قول " ، فأدى المقول عن "القول " ، ثم خرج ما بعده منه ، كما تقول : "أقول قولا حقا " ، وكذلك "ظنا " و "يقينا " وكذلك : "وعد الله " ، وما أشبهه . [ ص: 262 ]

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أن كل ذلك منصوب على المصدر من معنى الكلام الذي قبله ، لأن في كل ما قبل المصادر التي هي مخالفة ألفاظها ألفاظ ما قبلها من الكلام ، معاني ألفاظ المصادر وإن خالفها في اللفظ ، فنصبها من معاني ما قبلها دون ألفاظه .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ( 145 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : من يرد منكم ، أيها المؤمنون ، بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنيا ، دون ما عند الله من الكرامة لمن ابتغى بعمله ما عنده "نؤته منها " ، يقول : نعطه منها ، يعني من الدنيا ، يعني أنه يعطيه منها ما قسم له فيها من رزق أيام حياته ، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدها لمن أطاعه وطلب ما عنده في الآخرة " ومن يرد ثواب الآخرة " ، يقول : ومن يرد منكم بعمله جزاء منه ثواب الآخرة ، يعني : ما عند الله من كرامته التي أعدها للعاملين له في الآخرة "نؤته منها " ، يقول : نعطه منها ، يعني من الآخرة . والمعنى : من كرامة الله التي خص بها أهل طاعته في الآخرة . فخرج الكلام على الدنيا والآخرة ، والمعنى ما فيهما . كما : -

    7955 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها " ، أي : فمن كان منكم يريد الدنيا ، ليست له رغبة في الآخرة ، نؤته ما قسم له منها من رزق ، ولا حظ له في [ ص: 263 ] الآخرة ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها " ما وعده ، مع ما يجري عليه من رزقه في دنياه .

    وأما قوله : " وسنجزي الشاكرين " ، يقول : وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني إليه بطاعته إياي ، وانتهائه إلى أمري ، وتجنبه محارمي في الآخرة مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي .

    وقال ابن إسحاق في ذلك بما : -

    7956 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وسنجزي الشاكرين " ، أي : ذلك جزاء الشاكرين ، يعني بذلك ، إعطاء الله إياه ما وعده في الآخرة ، مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وكأين من نبي )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :

    فقرأه بعضهم : ( وكأين ) ، بهمز "الألف " وتشديد "الياء " .

    وقرأه آخرون بمد "الألف " وتخفيف "الياء "

    وهما قراءتان مشهورتان في قرأة المسلمين ، ولغتان معروفتان ، لا اختلاف في معناهما ، فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيب . لاتفاق معنى ذلك ، وشهرتهما في كلام العرب . ومعناه : وكم من نبي .
    [ ص: 264 ] القول في تأويل قوله ( قاتل معه ربيون كثير )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : "قتل معه ربيون " .

    فقرأ ذلك جماعة من قرأة الحجاز والبصرة : ( قتل ) ، بضم القاف .

    وقرأه جماعة أخر بفتح "القاف " و "بالألف " . وهي قراءة جماعة من قرأة الحجاز والكوفة .

    قال أبو جعفر : فأما من قرأ ( قاتل ) ، فإنه اختار ذلك ، لأنه قال : لو قتلوا لم يكن لقوله : "فما وهنوا " ، وجه معروف . لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا .

    وأما الذين قرأوا ذلك : ( قتل ) ، فإنهم قالوا : إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم ، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقى من الربيين ممن لم يقتل .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ بضم "القاف " : ( قتل معه ربيون كثير ) لأن الله عز وجل إنما عاتب بهذه الآية والآيات التي قبلها من قوله : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) الذين انهزموا يوم أحد ، وتركوا القتال ، أو سمعوا الصائح يصيح : "إن محمدا قد قتل " . فعذلهم الله عز وجل على فرارهم وتركهم القتال فقال : أفإن مات محمد أو قتل ، أيها المؤمنون ، ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم ؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم ، وقال لهم : هلا فعلتم كما كان [ ص: 265 ] أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم من المضي على منهاج نبيهم ، والقتال على دينه أعداء دين الله ، على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم ولم تهنوا ولم تضعفوا ، كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم ، ولكنهم صبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم ؟ وبذلك من التأويل جاء تأويل المتأولين .

    وأما "الربيون " ، فإنهم مرفوعون بقوله : "معه " لا بقوله : "قتل " . وإنما تأويل الكلام : وكأين من نبي قتل ، ومعه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله . وفي الكلام إضمار "واو " ، لأنها "واو " تدل على معنى حال قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام عليها من ذكرها ، وذلك كقول القائل في الكلام : "قتل الأمير معه جيش عظيم " ، بمعنى : قتل ومعه جيش عظيم .

    وأما "الربيون " ، فإن أهل العربية اختلفوا في معناه .

    فقال بعض نحويي البصرة : هم الذين يعبدون الرب ، واحدهم "ربي " .

    وقال بعض نحويي الكوفة : لو كانوا منسوبين إلى عبادة الرب لكانوا "ربيون " بفتح "الراء " ، ولكنه : العلماء ، والألوف .

    و "الربيون " عندنا ، الجماعات الكثيرة ، واحدهم "ربي " ، وهم الجماعة .

    واختلف أهل التأويل في معناه . [ ص: 266 ]

    فقال بعضهم مثل ما قلنا .

    ذكر من قال ذلك :

    7957 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله : الربيون : الألوف .

    7958 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله .

    7959 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله ، مثله .

    7960 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام قال : حدثنا عمرو عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، مثله .

    7961 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عوف عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : "ربيون كثير " ، قال : جموع كثيرة .

    7962 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " قاتل معه ربيون كثير " قال : جموع .

    7963 - حدثني حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله " ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ) " قال : الألوف .

    وقال آخرون بما : -

    7964 - حدثني به سليمان بن عبد الجبار قال : حدثنا محمد بن الصلت [ ص: 267 ] قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ) " قال : علماء كثير .

    7965 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن في قوله : " ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " ، قال : فقهاء علماء .

    7966 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية . عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : " ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " قال : الجموع الكثيرة قال يعقوب : وكذلك قرأها إسماعيل : ( قتل معه ربيون كثير ) .

    7967 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ) " يقول : جموع كثيرة .

    7968 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " ( قتل معه ربيون كثير ) " ، قال : علماء كثير وقال قتادة : جموع كثيرة .

    7969 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة في قوله : " ربيون كثير " ، قال : جموع كثيرة .

    7970 - حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة ، مثله .

    7971 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ( قتل معه ربيون كثير ) " قال : جموع كثيرة .

    7972 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 268 ]

    7973 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ( قتل معه ربيون كثير ) " يقول : جموع كثيرة .

    7974 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ) " ، يقول : جموع كثيرة ، قتل نبيهم .

    7975 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جعفر بن حبان والمبارك ، عن الحسن في قوله : "وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير " ، قال جعفر : علماء صبروا وقال ابن المبارك : أتقياء صبر .

    7976 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " ( قتل معه ربيون كثير " يعني الجموع الكثيرة ، قتل نبيهم .

    7977 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " قاتل معه ربيون كثير " ، يقول : جموع كثيرة .

    7978 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : "وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " قال : وكأين من نبي أصابه القتل ، ومعه جماعات .

    7979 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " ، الربيون : هم الجموع الكثيرة .

    وقال آخرون : الربيون ، الأتباع . [ ص: 269 ]

    ذكر من قال ذلك :

    7980 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ) " ، قال : "الربيون " الأتباع ، و "الربانيون " الولاة ، و "الربيون " الرعية . وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه ، حين صاح الشيطان : "إن محمدا قد قتل " قال : كانت الهزيمة عند صياحه في [ سه صاح ] : أيها الناس ، إن محمدا رسول الله قد قتل ، فارجعوا إلى عشائركم يؤمنوكم! .
    القول في تأويل قوله ( فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ( 146 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله " ، فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله ، ولا لقتل من قتل منهم ، عن حرب أعداء الله ، ولا نكلوا عن جهادهم " وما ضعفوا " ، يقول : وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم " وما استكانوا " ، يعني وما ذلوا فيتخشعوا لعدوهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم ، ولكن مضوا قدما على بصائرهم ومنهاج نبيهم ، صبرا على أمر الله وأمر نبيهم ، وطاعة لله واتباعا لتنزيله ووحيه [ ص: 270 ] " والله يحب الصابرين " ، يقول : والله يحب هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لأمره وطاعته وطاعة رسوله في جهاد عدوه ، لا من فشل ففر عن عدوه ، ولا من انقلب على عقبيه فذل لعدوه لأن قتل نبيه أو مات ، ولا من دخله وهن عن عدوه ، وضعف لفقد نبيه .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    7981 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا " ، يقول : ما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم "وما استكانوا " يقول : ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم ، بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله .

    7982 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا " ، يقول : ما عجزوا وما ضعفوا لقتل نبيهم "وما استكانوا " ، يقول : وما ارتدوا عن بصيرتهم ، قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بالله .

    7983 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فما وهنوا " ، فما وهن الربيون " لما أصابهم في سبيل الله " من قتل النبي صلى الله عليه وسلم " وما ضعفوا " ، يقول : ما ضعفوا في سبيل الله لقتل النبي " وما استكانوا " ، يقول : ما ذلوا حين قال رسول الله صلى الله عليه [ ص: 271 ] وسلم : "اللهم ليس لهم أن يعلونا " - و ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) .

    7984 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "فما وهنوا " لفقد نبيهم "وما ضعفوا " ، عن عدوهم "وما استكانوا " ، لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم ، وذلك الصبر "والله يحب الصابرين " .

    7985 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : "وما استكانوا " ، قال : تخشعوا .

    7986 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " وما استكانوا " ، قال : ما استكانوا لعدوهم " والله يحب الصابرين " .
    القول في تأويل قوله ( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( 147 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وما كان قولهم " ، وما كان قول الربيين - و "الهاء والميم " من ذكر أسماء الربيين - " إلا أن قالوا " ، يعني : ما كان لهم قول سوى هذا القول ، إذ قتل نبيهم وقوله : " ربنا اغفر لنا ذنوبنا " ، يقول : لم يعتصموا ، إذ قتل نبيهم ، إلا بالصبر على ما أصابهم ، ومجاهدة عدوهم ، وبمسألة [ ص: 272 ] ربهم المغفرة والنصر على عدوهم . ومعنى الكلام : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا . .

    وأما "الإسراف " ، فإنه الإفراط في الشيء : يقال منه : "أسرف فلان في هذا الأمر " ، إذا تجاوز مقداره فأفرط .

    ومعناه هاهنا : اغفر لنا ذنوبنا : الصغار منها ، وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام . وكان معنى الكلام : اغفر لنا ذنوبنا ، الصغائر منها والكبائر . كما : -

    7987 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله : " وإسرافنا في أمرنا " ، قال : خطايانا .

    7988 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإسرافنا في أمرنا " ، خطايانا وظلمنا أنفسنا .

    7989 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال : سمعت الضحاك في قوله : " وإسرافنا في أمرنا " ، يعني : الخطايا الكبار .

    7990 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قال : الكبائر .

    7991 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " وإسرافنا في أمرنا ، قال : خطايانا .

    7992 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإسرافنا في أمرنا ، يقول : خطايانا . [ ص: 273 ]

    وأما قوله : " وثبت أقدامنا " ، فإنه يقول : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوك وقتالهم ، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفر منهم ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم " وانصرنا على القوم الكافرين " ، يقول : وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك . .

    قال أبو جعفر : وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل عباده الذين فروا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم ، وتأديب لهم . يقول : الله عز وجل : هلا فعلتم إذ قيل لكم : "قتل نبيكم " - كما فعل هؤلاء الربيون ، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء إذ قتلت أنبياؤهم . فصبرتم لعدوكم صبرهم ، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم ، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم ، كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوهم ، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا ، فينصركم الله عليهم كما نصروا ، فإن الله يحب من صبر لأمره وعلى جهاد عدوه ، فيعطيه النصر والظفر على عدوه ؟ . كما : -

    7993 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " ، أي : فقولوا كما قالوا ، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم ، واستغفروا كما استغفروا ، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ، ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين ، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم ، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين . فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبيهم ، فلم يفعلوا كما فعلتم .

    قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة في قوله : ( وما كان قولهم ) النصب لإجماع قرأة الأمصار على ذلك نقلا مستفيضا وراثة عن الحجة . [ ص: 274 ] وإنما اختير النصب في "القول " ، لأن "أن " لا تكون إلا معرفة ، فكانت أولى بأن تكون هي الاسم ، دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا ، ولذلك اختير النصب في كل اسم ولي "كان " إذا كان بعده "أن " الخفيفة : كقوله : ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه ) [ سورة العنكبوت : 24 ] وقوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ) [ سورة الأنعام : 23 ] فأما إذا كان الذي يلي "كان " اسما معرفة ، والذي بعده مثله ، فسواء الرفع والنصب في الذي ولي "كان " . فإن جعلت الذي ولي "كان " هو الاسم ، رفعته ونصبت الذي بعده . وإن جعلت الذي ولي "كان " هو الخبر ، نصبته ورفعت الذي بعده ، وذلك كقوله جل ثناؤه : ( ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى ) [ سورة الروم : 10 ] إن جعلت "العاقبة " الاسم رفعتها ، وجعلت "السوءى " هي الخبر منصوبة . وإن جعلت "العاقبة " الخبر ، نصبت فقلت : "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى " ، وجعلت "السوءى " هي الاسم ، فكانت مرفوعة ، وكما قال الشاعر :


    لقد علم الأقوام ما كان داءها بثهلان إلا الخزي ممن يقودها


    وروي أيضا : "ما كان داؤها بثهلان إلا الخزي " ، نصبا ورفعا على ما قد [ ص: 275 ] بينت . ولو فعل مثل ذلك مع "أن " كان جائزا ، غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب .
    القول في تأويل قوله ( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ( 148 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : فأعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم ، من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم ، وعلى جهاد عدوهم ، والاستعانة بالله في أمورهم ، واقتفائهم مناهج إمامهم على ما أبلوا في الله - " ثواب الدنيا " ، يعني : جزاء في الدنيا ، وذلك : النصر على عدوهم وعدو الله ، والظفر ، والفتح عليهم ، والتمكين لهم في البلاد " وحسن ثواب الآخرة " ، يعني : وخير جزاء الآخرة على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة ، وذلك : الجنة ونعيمها ، كما : -

    7994 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا " ، فقرأ حتى بلغ : " والله يحب المحسنين " ، أي والله ، لآتاهم الله الفتح والظهور والتمكين والنصر على عدوهم في الدنيا "وحسن ثواب الآخرة " ، يقول : حسن الثواب في الآخرة ، هي الجنة .

    7995 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " وما كان قولهم " ، ثم ذكر نحوه .

    7996 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : " فآتاهم الله ثواب الدنيا " ، قال : النصر والغنيمة " وحسن ثواب الآخرة " ، قال : رضوان الله ورحمته . [ ص: 276 ]

    7997 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فآتاهم الله ثواب الدنيا " ، الظهور على عدوهم " وحسن ثواب الآخرة " ، الجنة وما أعد فيها وقوله : "والله يحب المحسنين " ، يقول تعالى ذكره : فعل الله ذلك بهم بإحسانهم ، فإنه يحب المحسنين ، وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالى ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبيهم .
    القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ( 149 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله في وعد الله ووعيده وأمره ونهيه " إن تطيعوا الذين كفروا " ، يعني : الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى - فيما يأمرونكم به وفيما ينهونكم عنه - فتقبلوا رأيهم في ذلك وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون " يردوكم على أعقابكم " ، يقول : يحملوكم على الردة بعد الإيمان ، والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام " فتنقلبوا خاسرين " ، يقول : فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له "خاسرين " ، يعني : هالكين ، قد خسرتم أنفسكم ، وضللتم عن دينكم ، وذهبت دنياكم وآخرتكم . .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #436
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (436)
    صــ 277إلى صــ 291





    . [ ص: 277 ]

    ينهى بذلك أهل الإيمان بالله أن يطيعوا أهل الكفر في آرائهم ، وينتصحوهم في أديانهم . كما : -

    7998 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين " ، أي : عن دينكم : فتذهب دنياكم وآخرتكم .

    7999 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا " ، قال ابن جريج : يقول : لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم .

    8000 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين " ، يقول : إن تطيعوا أبا سفيان ، يردكم كفارا .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ( 150 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : أن الله مسددكم ، أيها المؤمنون ، فمنقذكم من طاعة الذين كفروا . [ ص: 278 ]

    وإنما قيل : " بل الله مولاكم " ، لأن في قوله : " إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم " ، نهيا لهم عن طاعتهم ، فكأنه قال : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا فيردوكم على أعقابكم ، ثم ابتدأ الخبر فقال : " بل الله مولاكم " ، فأطيعوه ، دون الذين كفروا ، فهو خير من نصر . ولذلك رفع اسم "الله " ، ولو كان منصوبا على معنى : بل أطيعوا الله مولاكم ، دون الذين كفروا كان وجها صحيحا .

    ويعني بقوله : " بل الله مولاكم " ، وليكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا ، " وهو خير الناصرين " ، لا من فررتم إليه من اليهود وأهل الكفر بالله . فبالله الذي هو ناصركم ومولاكم فاعتصموا ، وإياه فاستنصروا ، دون غيره ممن يبغيكم الغوائل ، ويرصدكم بالمكاره ، كما : -

    8001 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " بل الله مولاكم " ، إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا في قلوبكم " وهو خير الناصرين " ، أي : فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره ، ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدين عن دينكم .
    [ ص: 279 ] القول في تأويل قوله ( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ( 151 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : سيلقي الله ، أيها المؤمنون " في قلوب الذين كفروا " بربهم ، وجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ممن حاربكم بأحد " الرعب " ، وهو الجزع والهلع "بما أشركوا بالله " ، يعني : بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام ، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة وهي "السلطان " التي أخبر عز وجل أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم .

    وهذا وعد من الله جل ثناؤه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائهم ، والفلج عليهم ، ما استقاموا على عهده ، وتمسكوا بطاعته . ثم أخبرهم ما هو فاعل بأعدائهم بعد مصيرهم إليه ، فقال جل ثناؤه : " ومأواهم النار " ، يعني : ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة ، النار " وبئس مثوى الظالمين " ، يقول : وبئس مقام الظالمين - الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب لها عقاب الله - النار ، كما : -

    8002 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين " ، إني سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم ، بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم به حجة ، أي : فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهور عليكم ، ما اعتصمتم واتبعتم أمري ، للمصيبة التي أصابتكم [ ص: 280 ] منهم بذنوب قدمتموها لأنفسكم ، خالفتم بها أمري ، وعصيتم فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم .

    8003 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة ، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق . ثم إنهم ندموا فقالوا : بئس ما صنعتم ، إنكم قتلتموهم ، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا فاستأصلوهم! فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب ، فانهزموا . فلقوا أعرابيا ، فجعلوا له جعلا وقالوا له : إن لقيت محمدا فأخبره بما قد جمعنا لهم . فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فأنزل الله عز وجل في ذلك ، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قذف في قلبه من الرعب فقال : "سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله " .
    [ ص: 281 ] القول في تأويل قوله ( ولقد صدقكم الله وعده )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " ولقد صدقكم الله " ، أيها المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأحد وعده الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

    و"الوعد " الذي كان وعدهم على لسانه بأحد ، قوله للرماة : "اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا ، وإن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " . وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره ، كالذي : -

    8004 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد ، أمر الرماة ، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال : "لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ، " وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوات بن جبير . ثم إن طلحة بن عثمان ، صاحب لواء المشركين ، قام فقال : يا معشر أصحاب محمد ، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة! فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة! أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيده ، لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار ، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة! فضربه علي فقطع رجله ، فسقط ، فانكشفت عورته ، فقال : أنشدك الله والرحم ، ابن عم! فتركه . [ ص: 282 ] فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لعلي أصحابه : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته ، فاستحييت منه .

    ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان . فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل ، فرمته الرماة ، فانقمع . فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه ، بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم! . فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر . فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ، ثم حمل فقتل الرماة ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل ، تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم . .

    8005 - حدثنا هارون بن إسحاق قال : حدثنا مصعب بن المقدام قال : حدثنا إسرائيل قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : لما كان يوم أحد ولقينا المشركين ، أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا بإزاء الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوات بن جبير ، وقال لهم : " لا تبرحوا مكانكم ، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا " . فلما التقى القوم ، هزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن وبدت خلاخلهن ، فجعلوا يقولون : "الغنيمة ، الغنيمة "! قال عبد الله : مهلا! أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأبوا ، فانطلقوا ، فلما أتوهم صرف الله وجوههم ، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلا . [ ص: 283 ]

    8006 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، بنحوه .

    8007 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " ، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحدا ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الناس ، فاجتمعوا ، وأمر على الخيل الزبير بن العوام ، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلا من قريش يقال له : مصعب بن عمير . وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر ، وبعث حمزة بين يديه . وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وقال : "استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك " . وأمر بخيل أخرى ، فكانوا من جانب آخر ، فقال : "لا تبرحوا حتى أوذنكم " . وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل ، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه ، كما قال : "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، وإن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم .

    8008 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني [ ص: 284 ] محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا - في قصة ذكرها عن أحد - ذكر أن كلهم قد حدث ببعضها ، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث ، فكان فيما ذكر في ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وقال : "لا يقاتلن أحد ، حتى نأمره بالقتال " . وقد سرحت قريش الظهر والكراع ، في زروع كانت بالصمغة من قناة للمسلمين ، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال : أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب! وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل ، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير ، أخا بني عمرو بن عوف ، وهو يومئذ معلم بثياب بيض ، والرماة خمسون رجلا [ ص: 285 ] وقال : "انضح عنا الخيل بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك " . فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض . واقتتلوا ، حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس ، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبى طالب ، في رجال من المسلمين . فأنزل الله عز وجل نصره وصدقهم وعده ، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم ، وكانت الهزيمة لا شك فيها .

    8009 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده قال : قال الزبير : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند ابنة عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ، ما دون إحداهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه [ ص: 286 ] يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا . وصرخ صارخ : "ألا إن محمدا قد قتل "! فانكفأنا ، وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم .

    8010 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " ، أي : لقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم .

    8011 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " ، وذلك يوم أحد ، قال لهم : "إنكم ستظهرون ، فلا أعرفن ما أصبتم من غنائمهم شيئا ، حتى تفرغوا "! فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به .
    [ ص: 287 ] القول في تأويل قوله ( إذ تحسونهم بإذنه )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولقد وفى الله لكم ، أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما وعدكم من النصر على عدوكم بأحد ، حين " تحسونهم " ، يعني : حين تقتلونهم .

    يقال منه : "حسه يحسه حسا " ، إذا قتله ، كما : -

    8012 - حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال : حدثنا يعقوب بن عيسى قال : حدثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : " إذ تحسونهم بإذنه " ، قال : الحس : القتل .

    8013 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه قال : سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول الله عز وجل : " إذ تحسونهم " ، قال : القتل .

    8014 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا [ ص: 288 ] عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إذ تحسونهم بإذنه " ، قال : تقتلونهم .

    8015 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم " ، أي : قتلا بإذنه .

    8016 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إذ تحسونهم " ، يقول : إذ تقتلونهم .

    8017 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " إذ تحسونهم بإذنه " ، والحس القتل .

    8018 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " ، يقول : تقتلونهم .

    8019 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ تحسونهم " بالسيوف : أي القتل .

    8020 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن : " إذ تحسونهم بإذنه " ، يعني : القتل .

    8021 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : " إذ تحسونهم بإذنه " ، يقول : تقتلونهم .

    وأما قوله : "بإذنه " ، فإنه يعني : بحكمي وقضائي لكم بذلك ، وتسليطي إياكم عليهم ، كما : - [ ص: 289 ]

    8022 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق : إذ تحسونهم بإذني ، وتسليطي أيديكم عليهم ، وكفي أيديهم عنكم .
    القول في تأويل قوله ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "حتى إذا فشلتم " ، حتى إذا جبنتم وضعفتم "وتنازعتم في الأمر " ، يقول : واختلفتم في أمر الله ، يقول : وعصيتم وخالفتم نبيكم ، فتركتم أمره وما عهد إليكم . وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بأحد بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين ، الذين ذكرنا قبل أمرهم .

    وأما قوله : " من بعد ما أراكم ما تحبون " ، فإنه يعني بذلك : من بعد الذي أراكم الله ، أيها المؤمنون بمحمد ، من النصر والظفر بالمشركين ، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فيها ، وقبل خروج خيل المشركين على المؤمنين من ورائهم .

    وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل . [ ص: 290 ]

    وقد مضى ذكر بعض من قال : وسنذكر قول بعض من لم يذكر قوله فيما مضى .

    ذكر من قال ذلك :

    8023 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر " ، أي اختلفتم في الأمر " وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، وذاكم يوم أحد ، عهد إليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأمر فنسوا العهد ، وجاوزوا ، وخالفوا ما أمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقذف عليهم عدوهم ، بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون .

    8024 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسا من الناس - يعني : يوم أحد - فكانوا من ورائهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كونوا هاهنا ، فردوا وجه من فر منا ، وكونوا حرسا لنا من قبل ظهورنا " . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه ، قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم ، بعضهم لبعض ، لما رأوا النساء مصعدات في الجبل ورأوا الغنائم ، [ ص: 291 ] قالوا : "انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها "! وقالت طائفة أخرى : "بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا "! فذلك قوله : " منكم من يريد الدنيا " ، للذين أرادوا الغنيمة " ومنكم من يريد الآخرة " ، للذين قالوا : "نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا " . فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم يقول : "وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة .

    8025 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " حتى إذا فشلتم " ، يقول : جبنتم عن عدوكم "وتنازعتم في الأمر " ، يقول : اختلفتم " وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، وذلك يوم أحد قال لهم : "إنكم ستظهرون ، فلا أعرفن ما أصبتم من غنائمهم شيئا حتى تفرغوا " ، فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به ، فانقذف عليهم عدوهم ، من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون .

    8026 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : حتى إذا فشلتم ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : الفشل : الجبن .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #437
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (437)
    صــ 292إلى صــ 306




    8027 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، من الفتح . [ ص: 292 ]

    8028 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "حتى إذا فشلتم " ، أي تخاذلتم "وتنازعتم في الأمر " ، أي : اختلفتم في أمري "وعصيتم " ، أي : تركتم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم; وما عهد إليكم ، يعني الرماة "من بعد ما أراكم ما تحبون " ، أي : الفتح لا شك فيه ، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم .

    8029 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : "من بعد ما أراكم ما تحبون " ، يعني : من الفتح .

    قال أبو جعفر : وقيل معنى قوله : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون وأنه من المقدم الذي معناه التأخير ، وإن "الواو " دخلت في ذلك ، ومعناها السقوط ، كما يقال ، ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ) [ سورة الصافات : 103 - 104 ] معناه : ناديناه . وهذا مقول في : ( حتى إذا ) وفي ( فلما أن ) . [ لم يأت في غير هذين ] . ومنه قول الله عز وجل : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ثم قال واقترب الوعد الحق ) [ سورة الأنبياء : 96 - 97 ] . [ ص: 293 ] ومعناه : اقترب ، كما قال الشاعر :


    حتى إذا قملت بطونكم ورأيتم أبناءكم شبوا وقلبتم ظهر المجن لنا
    إن اللئيم العاجز الخب


    القول في تأويل قوله ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "منكم من يريد الدنيا ، الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من أحد لخيل المشركين ، ولحقوا بعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين " ومنكم من يريد الآخرة " ، يعني بذلك : الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي [ ص: 294 ] أقعدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا أمره ، محافظة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم والدار الآخرة . كما : -

    8030 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ، فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة هم أصحاب الدنيا ، والذين بقوا وقالوا : "لا نخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، أرادوا الآخرة .

    8031 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس مثله .

    8032 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أحد طائفة من المسلمين ، فقال : "كونوا مسلحة للناس " ، بمنزلة أمرهم أن يثبتوا بها ، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم . فلما لقي نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين ، هزمهم نبي الله صلى الله عليه وسلم! فلما رأى المسلحة أن الله عز وجل هزم المشركين ، انطلق بعضهم وهم يتنادون : "الغنيمة! الغنيمة! لا تفتكم "! وثبت بعضهم مكانهم ، وقالوا : لا نريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله صلى الله عليه وسلم! . ففي ذلك نزل : "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ، فكان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها ، حتى كان يوم أحد . [ ص: 295 ]

    8033 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أحد ، قال الرماة : "أدركوا الناس ونبي الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقوكم إلى الغنائم ، فتكون لهم دونكم "! وقال بعضهم : "لا نريم حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم " . فنزلت : "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ، قال : ابن جريج ، قال ابن مسعود : ما علمنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها ، حتى كان يومئذ .

    8034 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : " منكم من يريد الدنيا " ، هؤلاء الذين يجترون الغنائم " ومنكم من يريد الآخرة " ، الذين يتبعونهم يقتلونهم .

    8035 - حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي عن عبد خير قال : قال عبد الله : ما كنت أرى أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد : " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " .

    8036 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن عبد خير قال : قال ابن مسعود : ما كنت أظن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أحدا يريد الدنيا ، حتى قال الله ما قال .

    8037 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع [ ص: 296 ] قال : قال عبد الله بن مسعود لما رآهم وقعوا في الغنائم : ما كنت أحسب أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان اليوم .

    8038 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها ، حتى كان يومئذ .

    8039 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق " منكم من يريد الدنيا " ، أي : الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وترك ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة " ومنكم من يريد الآخرة " ، أي : الذي جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة فيها ، رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة .
    القول في تأويل قوله ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ثم صرفكم ، أيها المؤمنون ، عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم وفي أنفسكم ، من هزيمتكم إياهم وظهوركم عليهم ، فرد وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي ، ومخالفتكم طاعته ، وإيثاركم الدنيا على الآخرة ، [ ص: 297 ] - عقوبة لكم على ما فعلتم ، "ليبتليكم " ، يقول : ليختبركم ، فيتميز المنافق منكم من المخلص الصادق في إيمانه منكم . كما : -

    8040 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد : "ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " .

    8041 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن في قوله : "ثم صرفكم عنهم " ، قال : صرف القوم عنهم ، فقتل من المسلمين بعدة من أسروا يوم بدر ، وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشج في وجهه ، وكان يمسح الدم عن وجهه ويقول : "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم " ؟ فنزلت : ( ليس لك من الأمر شيء ) [ سورة آل عمران : 128 ] ، الآية . فقالوا : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدنا النصر ؟ فأنزل الله عز وجل : " ولقد صدقكم الله وعده " إلى قوله : " ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم " .

    8042 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق : " ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " ، أي : صرفكم عنهم ليختبركم ، وذلك ببعض ذنوبكم .
    [ ص: 298 ] القول في تأويل قوله ( ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ( 152 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ولقد عفا عنكم " ، ولقد عفا الله أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتاركون طاعته فيما تقدم به إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه عنكم ، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه ، عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم ، وصرف وجوهكم عنهم ، إذ لم يستأصل جمعكم ، كما : -

    8043 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن ، في قوله : " ولقد عفا عنكم " ، قال : قال الحسن ، وصفق بيديه : وكيف عفا عنهم ، وقد قتل منهم سبعون ، وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشج في وجهه ؟ قال : ثم يقول : قال الله عز وجل : "قد عفوت عنكم إذ عصيتموني ، أن لا أكون استأصلتكم " . قال : ثم يقول الحسن : هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فصنعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يتجرثم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه!! فسوف يعلم .

    8044 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " ولقد عفا عنكم " ، قال : لم يستأصلكم . [ ص: 299 ]

    8045 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد عفا عنكم " ، ولقد عفا الله عن عظيم ذلك ، لم يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم ، ولكن عدت بفضلي عليكم .

    وأما قوله : " والله ذو فضل على المؤمنين " ، فإنه يعني : والله ذو طول على أهل الإيمان به وبرسوله ، بعفوه لهم عن كثير ما يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم ، فإن عاقبهم على بعض ذلك ، فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم . كما : -

    8046 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين " ، يقول : وكذلك من الله على المؤمنين ، أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبا وموعظة ، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم ، لما أصابوا من معصيته ، رحمة لهم وعائدة عليهم ، لما فيهم من الإيمان .
    القول في تأويل قوله ( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولقد عفا عنكم ، أيها المؤمنون ، إذ لم يستأصلكم ، إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم وهربكم " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد " . [ ص: 300 ]

    واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأه عامة قرأة الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري : ( إذ تصعدون ) بضم "التاء " وكسر "العين " . وبه القراءة عندنا ، لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به ، واستنكارهم ما خالفه .

    وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه : ( إذ تصعدون ) بفتح "التاء " و "العين " .

    8047 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن .

    فأما الذين قرأوا : ( تصعدون ) بضم "التاء " وكسر "العين " ، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أن القوم حين انهزموا عن عدوهم ، أخذوا في الوادي هاربين . وذكروا أن ذلك في قراءة أبي : ( إذ تصعدون في الوادي ) .

    8048 - حدثنا [ بذلك ] أحمد بن يوسف قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج ، عن هارون .

    قالوا : فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب : "إصعاد " ، لا صعود . قالوا وإنما يكون "الصعود " على الجبال والسلاليم والدرج ، لأن معنى "الصعود " ، الارتقاء والارتفاع على الشيء علوا . قالوا : فأما الأخذ في مستوى الأرض والهبوط ، فإنما هو "إصعاد " ، كما يقال : "أصعدنا من مكة " ، إذا ابتدأت في السفر منها والخروج "وأصعدنا [ ص: 301 ] من الكوفة إلى خراسان " ، بمعنى : خرجنا منها سفرا إليها ، وابتدأنا منها الخروج إليها .

    قالوا : وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل ، بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوهم في بطن الوادي .

    ذكر من قال ذلك :

    8049 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تلوون على أحد " ، ذاكم يوم أحد ، أصعدوا في الوادي فرارا ، ونبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في أخراهم : "إلي عباد الله ، إلي عباد الله"! .

    قال أبو جعفر : وأما الحسن ، فإني أراه ذهب في قراءته : "إذ تصعدون" بفتح"التاء" و"العين" ، إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صعدوا الجبل . وقد قال ذلك عدد من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8050 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : "إلي عباد الله ، إلي عباد الله"! فذكر الله صعودهم على الجبل ، ثم ذكر دعاء نبي الله صلى الله عليه وسلم إياهم ، فقال : " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " . [ ص: 302 ]

    8051 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : انحازوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يصعدون في الجبل ، والرسول يدعوهم في أخراهم .

    8052 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    8053 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس ، قوله : " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد " ، قال صعدوا في أحد فرارا .

    قال أبو جعفر : وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب ، قراءة من قرأ : "إذ تصعدون" ، بضم "التاء" وكسر "العين" ، بمعنى : السبق والهرب في مستوى الأرض ، أو في المهابط ، لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة . ففي إجماعها على ذلك ، الدليل الواضح على أن أولى التأويلين بالآية ، تأويل من قال : "أصعدوا في الوادي ومضوا فيه" ، دون قول من قال : "صعدوا على الجبل" .

    قال أبو جعفر : وأما قوله : " ولا تلوون على أحد " ، فإنه يعني : ولا تعطفون على أحد منكم ، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا من عدوكم مصعدين في الوادي .

    ويعني بقوله : " والرسول يدعوكم في أخراكم " ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه"في أخراكم" ، يعني : أنه يناديكم من خلفكم : "إلي عباد الله ، إلي عباد الله" ! . كما : - [ ص: 303 ]

    8054 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " والرسول يدعوكم في أخراكم " ، إلي عباد الله ارجعوا ، إلي عباد الله ارجعوا! .

    8055 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " والرسول يدعوكم في أخراكم " ، رأوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم : "إلي عباد الله"!

    8056 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي مثله .

    8057 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : أنبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعوهم ، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم ، فقال : "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " .

    8058 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " والرسول يدعوكم في أخراكم " ، هذا يوم أحد حين انكشف الناس عنه .
    القول في تأويل قوله ( فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ( 153 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فأثابكم غما بغم " ، يعني : فجازاكم بفراركم عن نبيكم ، وفشلكم عن عدوكم ، ومعصيتكم ربكم "غما بغم" ، يقول : غما على غم .

    [ ص: 304 ]

    وسمى العقوبة التي عاقبهم بها من تسليط عدوهم عليهم حتى نال منهم ما نال"ثوابا" ، إذ كان عوضا من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم ، فدل بذلك جل ثناؤه أن كل عوض كان لمعوض من شيء من العمل ، خيرا كان أو شرا أو العوض الذي بذله رجل لرجل ، أو يد سلفت له إليه ، فإنه مستحق اسم "ثواب" ، كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة ، ونظير ذلك قول الشاعر :


    أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
    فجعل"العطاء" القيود . وذلك كقول القائل لآخر سلف إليه منه مكروه : "لأجازينك على فعلك ، ولأثيبنك ثوابك" .

    وأما قوله : "غما بغم" ، فإنه قيل : "غما بغم" ، معناه : غما على غم ، كما قيل : ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) [ سورة طه : 71 ] ، بمعنى : ولأصلبنكم على جذوع النخل . وإنما جاز ذلك ، لأن معنى قول القائل : "أثابك الله غما على غم" ، جزاك الله [ ص: 305 ] غما بعد غم تقدمه ، فكان كذلك معنى : "فأثابكم غما بغم" ، لأن معناه : فجزاكم الله غما بعقب غم تقدمه ، وهو نظير قول القائل : "نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان" ، "وضربته بالسيف وعلى السيف" .

    واختلف أهل التأويل في الغم الذي أثيب القوم على الغم ، وما كان غمهم الأول والثاني؟

    فقال بعضهم : "أما الغم الأول ، فكان ما تحدث به القوم أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قتل . وأما الغم الآخر ، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح" .

    ذكر من قال ذلك :

    8059 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فأثابكم غما بغم " ، كانوا تحدثوا يومئذ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أصيب ، وكان الغم الآخر قتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم . قال : وذكر لنا أنه قتل يومئذ سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ستة وستون رجلا من الأنصار ، وأربعة من المهاجرين وقوله : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ، يقول : ما فاتكم من غنيمة القوم"ولا ما أصابكم" ، في أنفسكم من القتل والجراحات .

    8060 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "فأثابكم غما بغم" ، قال : فرة بعد فرة : الأولى حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قتل ، والثانية حين رجع الكفار ، فضربوهم مدبرين ، حتى قتلوا منهم سبعين رجلا ثم انحازوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يصعدون في الجبل والرسول يدعوهم في أخراهم . [ ص: 306 ]

    8061 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .

    وقال آخرون : "بل غمهم الأول كان قتل من قتل منهم وجرح من جرح منهم . والغم الثاني كان من سماعهم صوت القائل : "قتل محمد " ، صلى الله عليه وسلم .

    ذكر من قال ذلك :

    8062 - حدثنا الحسين بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " غما بغم " ، قال : الغم الأول : الجراح والقتل ، والغم الثاني حين سمعوا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قتل . فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " .

    8063 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فأثابكم غما بغم " ، قال : الغم الأول الجراح والقتل ، والغم الآخر حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل . فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول الله : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " .

    وقال آخرون : "بل الغم الأول ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة ، والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشعب . وذلك أن أبا سفيان - فيما زعم بعض أهل السير - لما أصاب من المسلمين ما أصاب ، وهرب المسلمون ، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أحد ، الذي كانوا ولوا إليه عند الهزيمة ، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #438
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (438)
    صــ 307إلى صــ 321





    [ ص: 307 ]

    ذكر الخبر بذلك :

    8064 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة . فلما رأوه ، وضع رجل سهما في قوسه ، فأراد أن يرميه ، فقال : "أنا رسول الله!" ، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا .

    فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم ، فلما نظروا إليه ، نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمهم أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد"! ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم ، فقال أبو سفيان يومئذ : "اعل هبل! حنظلة بحنظلة ، ويوم بيوم بدر "! وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب ، وكان جنبا فغسلته الملائكة ، وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر وقال أبو سفيان : "لنا العزى ، ولا عزى لكم"! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : "قل الله مولانا ولا مولى لكم"! فقالأبو سفيان : فيكم محمد؟ قالوا : نعم! قال : "أما إنها قد كانت فيكم مثلة ، ما أمرت بها ، ولا نهيت عنها ، ولا سرتني ، ولا ساءتني"! فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم فقال : " فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، الغم الأول : ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والغم الثاني : [ ص: 308 ] إشراف العدو عليهم " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " ، من الغنيمة"ولا ما أصابكم" من القتل حين تذكرون . فشغلهم أبو سفيان .

    8065 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني ابن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا ، فيما ذكروا من حديث أحد ، قالوا : كان المسلمون في ذلك اليوم - لما أصابهم فيه من شدة البلاء - أثلاثا ، ثلث قتيل ، وثلث جريح ، وثلث منهزم ، وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع وحتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه ، وأصيبت رباعيته ، وشج في وجهه ، وكلمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص . وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل ، وكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي ، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى قريش فقال : "قتلت محمدا " .

    8066 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس : "قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم" كما حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن [ ص: 309 ] إسحاق قال : حدثني ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بني سلمة قال : عرفت عينيه تزهران تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : "يا معشر المسلمين : أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم"! فأشار إلي رسول الله أن أنصت . فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ، ونهض نحو الشعب ، معه علي بن أبي طالب ، وأبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، والحارث بن الصمة ، في رهط من المسلمين . .

    قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه ، إذ علت عالية من قريش الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا"! فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين ، حتى أهبطوهم عن الجبل . ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدن ، فظاهر بين درعين ، فلما ذهب لينهض ، فلم يستطع ، جلس تحته طلحة بن عبيد الله ، فنهض حتى استوى عليها . .

    ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف ، أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى [ ص: 310 ] صوته : "أنعمت فعال! إن الحرب سجال ، يوم بيوم بدر ، اعل هبل" ، أي : أظهر دينك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : "قم فأجبه ، فقل : الله أعلى وأجل! لا سواء! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار"! فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان ، قال له أبو سفيان : "هلم إلي يا عمر "! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ائته فانظر ما شأنه"؟ فجاءه ، فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر ، أقتلنا محمدا؟ فقال عمر : اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن! . فقال : أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر! لقول ابن قميئة لهم : إني قتلت محمدا ثم نادى أبو سفيان ، فقال : إنه قد كان في قتلاكم مثلة ، والله ما رضيت ولا سخطت ، ولا نهيت ولا أمرت . [ ص: 311 ]

    8067 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق : " فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، أي : كربا بعد كرب ، قتل من قتل من إخوانكم ، وعلو عدوكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال : "قتل نبيكم" ، فكان ذلك مما تتابع عليكم غما بغم " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " ، من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم"ولا ما أصابكم" من قتل إخوانكم ، حتى فرجت بذلك الكرب عنكم" والله خبير بما تعملون " ، وكان الذي فرج به عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغم الذي أصابهم ، أن الله عز وجل رد عنهم كذبة الشيطان بقتل نبيهم . فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا بين أظهرهم ، هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم ، والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم ، حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم .

    8068 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فأثابكم غما بغم " ، قال ابن جريج ، قال مجاهد : أصاب الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا . فلما تولجوا في الشعب وهم مصابون ، وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب ، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم [ ص: 312 ] فيقتلونهم أيضا ، فأصابهم حزن في ذلك أيضا أنساهم حزنهم في أصحابهم ، فذلك قوله : " فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " قال ابن جريج ، قوله : " على ما فاتكم " ، يقول : على ما فاتكم من غنائم القوم"ولا ما أصابكم" ، في أنفسكم .

    8069 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج . قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن عبيد بن عمير قال : جاء أبو سفيان بن حرب ومن معه ، حتى وقف بالشعب ، ثم نادى : أفي القوم ابن أبي كبشة؟ فسكتوا ، فقال أبو سفيان : قتل ورب الكعبة! ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فسكتوا ، فقال : قتل ورب الكعبة! ثم قال : أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فسكتوا ، فقال : قتل ورب الكعبة! ثم قال أبو سفيان : اعل هبل ، يوم بيوم بدر ، وحنظلة بحنظلة ، وأنتم واجدون في القوم مثلا لم يكن عن رأي سراتنا وخيارنا ، ولم نكرهه حين رأيناه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : قم فناد فقل : الله أعلى وأجل! نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا! لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ! .

    وقال آخرون في ذلك بما : - [ ص: 313 ]

    8070 - حدثني به محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " ، فرجعوا فقالوا : والله لنأتينهم ، ثم لنقتلنهم! قد جرحوا منا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلا; فإنما أصابكم الذي أصابكم من أجل أنكم عصيتموني ! فبينما هم كذلك إذ أتاهم القوم قد ائتشبوا وقد اخترطوا سيوفهم ، فكان غم الهزيمة وغمهم حين أتوهم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ، من القتل "ولا ما أصابكم" ، من الجراحة"فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا" الآية ، وهو يوم أحد .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : "معنى قوله : " فأثابكم غما بغم " أيها المؤمنون ، بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم ، والنصر عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ - بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون - بمعصيتكم ربكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم ، غم ظنكم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم . .

    والذي يدل على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه ، قوله : [ ص: 314 ] " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، والفائت ، لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إليه من غيرهم ، إما من ظهور عليهم بغلبهم ، وإما من غنيمة يحتازونها وأن قوله : " ولا ما أصابكم " ، هو ما أصابهم : إما في أبدانهم ، وإما في إخوانهم .

    فإن كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن"الغم" الثاني هو معنى غير هذين . لأن الله عز وجل أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه أثابهم غما بغم لئلا يحزنهم ما نالهم من الغم الناشئ عما فاتهم من غيرهم ، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم ، وهو الغم الأول ، على ما قد بيناه قبل .

    وأما قوله : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، فإن تأويله على ما قد بينت ، من أنه : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " ، فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوكم بالظفر عليهم والظهور ، وحيازة غنائمهم "ولا ما أصابكم" ، في أنفسكم . من جرح من جرح وقتل من قتل من إخوانكم .

    وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبل على السبيل التي اختلفوا فيه ، كما : -

    8071 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم " ، قال : على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون "ولا تحزنوا على ما أصابكم" ، من الهزيمة .

    وأما قوله : " والله خبير بما تعملون " ، فإنه يعني جل ثناؤه : والله بالذي تعملون ، أيها المؤمنون - من إصعادكم في الوادي هربا من عدوكم ، وانهزامكم [ ص: 315 ] منهم ، وترككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم ، وحزنكم على ما فاتكم من عدوكم وما أصابكم في أنفسكم ذو خبرة وعلم ، وهو محص ذلك كله عليكم ، حتى يجازيكم به : المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، أو يعفو عنه .
    القول في تأويل قوله ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ثم أنزل الله ، أيها المؤمنون من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله "أمنة" ، وهي الأمان ، على أهل الإخلاص منكم واليقين ، دون أهل النفاق والشك .

    ثم بين جل ثناؤه ، عن"الأمنة" التي أنزلها عليهم ، ما هي؟ فقال"نعاسا" ، بنصب"النعاس" على الإبدال من"الأمنة" .

    ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : "يغشى" .

    فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء : ( يغشى ) .

    وقرأ جماعة من قرأة الكوفيين بالتأنيث : ( تغشى ) بالتاء .

    وذهب الذين قرأوا ذلك بالتذكير ، إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من [ ص: 316 ] المؤمنين دون الأمنة ، فذكره بتذكير "النعاس" .

    وذهب الذين قرأوا ذلك بالتأنيث ، إلى أن الأمنة هي التي تغشاهم فأنثوه لتأنيث "الأمنة" .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، غير مختلفتين في معنى ولا غيره . لأن "الأمنة" في هذا الموضع هي النعاس ، والنعاس هو الأمنة . فسواء ذلك ، وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الحق في قراءته . وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله : ( " إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلي في البطون" ) [ سورة الدخان : 43 - 45 ] و ( " ألم يك نطفة من مني تمنى" ) [ سورة القيامة : 37 ] ، ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط ) [ سورة مريم : 25 ] . .

    فإن قال قائل : وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما الله عز وجل فيما افترقتا فيه من صفتهما ، فأمنت إحداهما بنفسها حتى نعست ، وأهمت الأخرى أنفسها حتى ظنت بالله غير الحق ظن الجاهلية؟

    قيل : كان سبب ذلك فيما ذكر لنا ، كما : -

    8072 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين ، فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدرا من قابل ، فقال نعم! نعم! فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقال : [ ص: 317 ] "انظر ، فإن رأيتهم قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم ، فإن القوم ذاهبون ، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم ، فإن القوم ينزلون المدينة ، فاتقوا الله واصبروا" ووطنهم على القتال . فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم . فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فناموا ، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم . فقال الله جل وعز ، يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا ركبوا الأثقال فإنهم منطلقون فناموا : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " .

    8073 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : أمنهم يومئذ بنعاس غشاهم . وإنما ينعس من يأمن" يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " .

    8074 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أحد أمنة ، حتى سقط من يدي مرارا قال أبو جعفر : يعني سوطه ، أو سيفه .

    8075 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد ، فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا تحت حجفته يميد من النعاس . . [ ص: 318 ]

    8076 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن صب عليه النعاس يوم أحد .

    8077 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك : عن أبي طلحة : أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس ، قال : كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه ، من النعاس .

    8078 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا ، والله أعلم ، عن أنس : أن أبا طلحة حدثهم : أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، ويسقط والطائفة الأخرى المنافقون ، ليس لهم همة إلا أنفسهم ، " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " ، الآية كلها .

    8079 - حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال : حدثنا ضرار بن صرد قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه قال : سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عز وجل : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا " . قال : ألقي علينا النوم يوم أحد .

    8080 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا " ، الآية ، وذاكم يوم أحد ، كانوا يومئذ فريقين ، فأما المؤمنون فغشاهم الله النعاس أمنة منه ورحمة .

    8081 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، نحوه .

    8082 - حدثنا المثني قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن [ ص: 319 ] أبيه ، عن الربيع ، قوله : " أمنة نعاسا " ، قال : ألقي عليهم النعاس ، فكان ذلك أمنة لهم .

    8083 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين قال : قال عبد الله : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان .

    8084 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا " ، قال : أنزل النعاس أمنة منه على أهل اليقين به ، فهم نيام لا يخافون .

    8085 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أمنة نعاسا " ، قال : ألقى الله عليهم النعاس ، فكان"أمنة لهم" . وذكر أن أبا طلحة قال : ألقي علي النعاس يومئذ ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي .

    8086 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا إسحاق بن إدريس قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : أخبرنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة وهشام بن عروة ، عن عروة ، عن الزبير ، أنهما قالا لقد رفعنا رءوسنا يوم أحد ، فجعلنا ننظر ، فما منهم من أحد إلا وهو يميل بجنب حجفته . قال : وتلا هذه الآية : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا " .
    [ ص: 320 ] القول في تأويل قوله ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "وطائفة منكم" ، أيها المؤمنون"قد أهمتهم أنفسهم" ، يقول : هم المنافقون لا هم لهم غير أنفسهم ، فهم من حذر القتل على أنفسهم ، وخوف المنية عليها في شغل ، قد طار عن أعينهم الكرى ، يظنون بالله الظنون الكاذبة ، ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله ، شكا في أمر الله ، وتكذيبا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ومحسبة منهم أن الله خاذل نبيه ومعل عليه أهل الكفر به ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء . كالذي : -

    8087 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : والطائفة الأخرى : المنافقون ، ليس لهم هم إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق ، يظنون بالله غير الحق ظنونا كاذبة ، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله : ( يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) .

    8088 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : والطائفة الأخرى المنافقون ، ليس لهم همة إلا أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، ( يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) قال الله عز وجل : ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) الآية .

    8089 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : [ ص: 321 ] " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " ، قال : أهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم تخوف القتل ، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة .

    8090 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون .

    وأما قوله : "ظن الجاهلية" ، فإنه يعني أهل الشرك . كالذي : -

    8091 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ظن الجاهلية " ، قال : ظن أهل الشرك .

    8092 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " ظن الجاهلية " ، قال : ظن أهل الشرك .

    قال أبو جعفر : وفي رفع قوله : "وطائفة" ، وجهان .

    أحدهما ، أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله : "قد أهمتهم" .

    والآخر : بقوله : "يظنون بالله غير الحق" ، ولو كانت منصوبة كان جائزا ، وكانت"الواو" ، في قوله : "وطائفة" ، ظرفا للفعل ، بمعنى : وأهمت طائفة أنفسهم ، كما قال ( والسماء بنيناها بأيد ) [ سورة الذاريات : 47 ] .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #439
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (439)
    صــ 322إلى صــ 336




    القول في تأويل قوله ( يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك الطائفة المنافقة التي قد أهمتهم أنفسهم ، يقولون : ليس لنا من الأمر من شيء ، قل إن الأمر كله لله ، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا . كما : -

    8093 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قيل لعبد الله بن أبي : قتل بنو الخزرج اليوم! قال : وهل لنا من الأمر من شيء؟ قيل إن الأمر كله لله! .

    وهذا أمر مبتدأ من الله عز وجل ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد ، لهؤلاء المنافقين : " إن الأمر كله لله " ، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحب .

    ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين ، فقال : " يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك " يقول : يخفي ، يا محمد ، هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك صفتهم ، في أنفسهم من الكفر والشك في الله ، ما لا يبدون لك . ثم أظهر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم ، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد ، فقال مخبرا عن قيلهم الكفر وإعلانهم النفاق بينهم : " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " ، يعني بذلك ، أن هؤلاء المنافقين يقولون : لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا ، ما خرجنا [ ص: 323 ] إليهم ، ولا قتل منا أحد في الموضع الذي قتلوا فيه بأحد .

    وذكر أن ممن قال هذا القول ، معتب بن قشير ، أخو بني عمرو بن عوف .

    ذكر الخبر بذلك :

    8094 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير قال : والله إني لأسمع قول معتب بن قشير ، أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا !

    8095 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثني أبي ، عن ابن إسحاق قال : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، بمثله .

    قال أبو جعفر : واختلفت القراء في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق : ( قل إن الأمر كله ) ، بنصب"الكل" على وجه النعت ل"الأمر" والصفة له .



    وقرأه بعض قرأة أهل البصرة : ( قل إن الأمر كله لله ) برفع"الكل" ، على توجيه"الكل" إلى أنه اسم ، وقوله"لله" خبره ، كقول القائل : "إن الأمر بعضه لعبد الله . .

    وقد يجوز أن يكون"الكل" في قراءة من قرأه بالنصب ، منصوبا على البدل .

    [ ص: 324 ]

    قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة عندنا ، النصب في"الكل" لإجماع أكثر القرأة عليه ، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ في معنى أو عربية . ولو كانت القراءة بالرفع في ذلك مستفيضة في القرأة ، لكانت سواء عندي القراءة بأي ذلك قرئ ، لاتفاق معاني ذلك بأي وجهيه قرئ .
    القول في تأويل قوله ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ( 154 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قل ، يا محمد ، للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين : لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم ، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين ، فيظهر للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم ، وتكتمونه من شككم في دينكم" لبرز الذين كتب عليهم القتل " ، يقول : لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه ، من قد كتب عليه القتل منهم ، ولخرج من بيته إليه حتى يصرع في الموضع الذي كتب عليه أن يصرع فيه . .

    وأما قوله : " وليبتلي الله ما في صدوركم " ، فإنه يعني به : وليبتلي الله ما في صدوركم ، أيها المنافقون ، كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم .

    [ ص: 325 ]

    ويعني بقوله : " وليبتلي الله ما في صدوركم " ، وليختبر الله الذي في صدوركم من الشك ، فيميزكم بما يظهره للمؤمنين من نفاقكم من المؤمنين .

    وقد دللنا فيما مضى على أن معاني نظائر قوله : " ليبتلي الله " و"وليعلم الله" وما أشبه ذلك ، وإن كان في ظاهر الكلام مضافا إلى الله الوصف به ، فمراد به أولياؤه وأهل طاعته وأن معنى ذلك : وليختبر أولياء الله ، وأهل طاعته الذي في صدوركم من الشك والمرض ، فيعرفوكم ، [ فيميزوكم ] من أهل الإخلاص واليقين" وليمحص ما في قلوبكم " ، يقول وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من العداوة أو الولاية .

    " والله عليم بذات الصدور " ، يقول : والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشر ، وإيمان وكفر ، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، سرائرها علانيتها ، وهو لجميع ذلك حافظ ، حتى يجازي جميعهم جزاءهم على قدر استحقاقهم .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول :

    8096 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ذكر الله تلاومهم - يعني : تلاوم المنافقين - وحسرتهم على ما أصابهم ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم قل : " لو كنتم في بيوتكم " ، لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم ، لأخرج الذي كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه ، حتى يبتلي به ما في صدوركم" وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور " ، أي لا يخفى عليه ما في صدورهم ، [ ص: 326 ] مما استخفوا به منكم .

    8097 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا الحارث بن مسلم ، عن بحر السقاء ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : سئل عن قوله : " قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " ، قال : كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله ، وليس كل من يقاتل يقتل ، ولكن يقتل من كتب الله عليه القتل .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ( 155 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الذين ولوا عن المشركين ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانهزموا عنهم .

    وقوله : "تولوا" ، "تفعلوا" ، من قولهم : "ولى فلان ظهره" .

    [ ص: 327 ]

    وقوله : " يوم التقى الجمعان " ، يعني : يوم التقى جمع المشركين والمسلمين بأحد "إنما استزلهم الشيطان" ، أي : إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان .

    وقوله"استزل استفعل" من"الزلة" . و"الزلة" ، هي الخطيئة .

    "ببعض ما كسبوا" ، يعني ببعض ما عملوا من الذنوب . "ولقد عفا الله عنهم" ، يقول : ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه" إن الله غفور " ، يعني به : مغط على ذنوب من آمن به واتبع رسوله ، بعفوه عن عقوبته إياهم عليها"حليم" ، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة .

    ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عنوا بهذه الآية .

    فقال بعضهم : عني بها كل من ولى الدبر عن المشركين بأحد .

    ذكر من قال ذلك :

    8098 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا أبو بكر بن عياش قال : حدثنا عاصم بن كليب ، عن أبيه قال : خطب عمر يوم الجمعة فقرأ"آل عمران" ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله : "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان" ، قال : لما كان يوم أحد هزمناهم ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : "قتل محمد "! فقلت : لا أجد أحدا يقول : "قتل محمد " ، إلا قتلته! . حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت : [ ص: 328 ] إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، الآية كلها .

    8099 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، الآية ، وذلك يوم أحد ، ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تولوا عن القتال وعن نبي الله يومئذ ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه ، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون : أنه قد تجاوز لهم عن ذلك وعفا عنهم .

    8100 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، الآية ، فذكر نحو قول قتادة .

    وقال آخرون : بل عني بذلك خاص ممن ولى الدبر يومئذ ، قالوا : وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8101 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما انهزموا يومئذ تفرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 329 ] أصحابه ، فدخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها ، فذكر الله عز وجل الذين انهزموا فدخلوا المدينة فقال : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان " ، الآية .

    وقال آخرون : بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين .

    ذكر من قال ذلك :

    8102 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عكرمة قوله : "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان" ، قال : نزلت في رافع بن المعلى وغيره من الأنصار ، وأبي حذيفة بن عتبة ورجل آخر قال ابن جريج : وقوله : " إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " ، إذ لم يعاقبهم .

    8103 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فر عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان ، وسعد بن عثمان - رجلان من الأنصار - حتى بلغوا الجلعب جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص - فأقاموا به ثلاثا ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة !!

    8104 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " الآية ، [ ص: 330 ] والذين استزلهم الشيطان : عثمان بن عفان ، وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان ، الأنصاريان ، ثم الزرقيان .

    وأما قوله : "ولقد عفا الله عنهم" ، فإن معناه : ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ، أن يعاقبهم بتوليهم عن عدوهم . كما : -

    8105 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قوله : " ولقد عفا الله عنهم " ، يقول : "ولقد عفا الله عنهم" ، إذ لم يعاقبهم .

    8106 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله في توليهم يوم أحد : " ولقد عفا الله عنهم " ، فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة ، أم عفو عن المسلمين كلهم؟ .

    وقد بينا تأويل قوله : "إن الله غفور حليم" ، فيما مضى .
    القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاء به محمد من عند الله ، لا تكونوا كمن كفر بالله وبرسوله ، فجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال لإخوانه من أهل الكفر" إذا ضربوا في الأرض " [ ص: 331 ] فخرجوا من بلادهم سفرا في تجارة"أو كانوا غزى" ، يقول : أو كان خروجهم من بلادهم غزاة فهلكوا فماتوا في سفرهم ، أو قتلوا في غزوهم" لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا " ، يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفار أنهم يقولون لمن غزا منهم فقتل ، أو مات في سفر خرج فيه في طاعة الله ، أو تجارة : لو لم يكونوا خرجوا من عندنا ، وكانوا أقاموا في بلادهم ما ماتوا وما قتلوا" ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم " ، يعني : أنهم يقولون ذلك ، كي يجعل الله قولهم ذلك حزنا في قلوبهم وغما ، ويجهلون أن ذلك إلى الله جل ثناؤه وبيده .

    وقد قيل : إن الذين نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتشبهوا بهم فيما نهاهم عنه من سوء اليقين بالله ، هم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه .

    ذكر من قال ذلك :

    8107 - حدثني محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ياأيها الذين آمنو لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " الآية ، قال : هؤلاء المنافقون أصحاب عبد الله بن أبي .

    8108 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى " ، قول المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول .

    8109 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    وقال آخرون في ذلك : هم جميع المنافقين .

    ذكر من قال ذلك :

    8110 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " [ ص: 332 ] يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " الآية ، أي : لا تكونوا كالمنافقين الذين ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله والضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله ، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا : لو أطاعونا ما ماتوا وما قتلوا .

    وأما قوله : "إذا ضربوا في الأرض" ، فإنه اختلف في تأويله . فقال بعضهم : هو السفر في التجارة ، والسير في الأرض لطلب المعيشة .

    ذكر من قال ذلك :

    8111 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إذا ضربوا في الأرض " ، وهي التجارة .

    وقال آخرون : بل هو السير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .

    ذكر من قال ذلك :

    8112 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذا ضربوا في الأرض " ، الضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله .

    وأصل"الضرب في الأرض" ، الإبعاد فيها سيرا .

    وأما قوله : "أو كانوا غزى" ، فإنه يعني : أو كانوا غزاة في سبيل الله .

    و"الغزى" جمع"غاز" ، جمع على"فعل" كما يجمع"شاهد""شهد" ، و"قائل""قول" ، . وقد ينشد بيت رؤبة :

    [ ص: 333 ]
    فاليوم قد نهنهني تنهنهي وأول حلم ليس بالمسفه وقول : إلا ده فلا ده
    وينشد أيضا :


    وقولهم : إلا ده فلا ده


    وإنما قيل : " لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى " ، فأصحب ماضي الفعل ، الحرف الذي لا يصحب مع الماضي منه إلا المستقبل ، فقيل : " وقالوا لإخوانهم " ، ثم قيل : " إذا ضربوا" ، وإنما يقال في الكلام : "أكرمتك إذ زرتني" ، ولا يقال : "أكرمتك إذا زرتني" . لأن"القول" الذي في قوله : "وقالوا لإخوانهم" ، وإن كان في لفظ الماضي فإنه بمعنى [ ص: 334 ] المستقبل . وذلك أن العرب تذهب ب"الذين" مذهب الجزاء ، وتعاملها في ذلك معاملة"من" و"ما" ، لتقارب معاني ذلك في كثير من الأشياء ، وإن جميعهن أشياء مجهولات غير موقتات توقيت"عمرو" و"زيد" . .

    فلما كان ذلك كذلك وكان صحيحا في الكلام فصيحا أن يقال للرجل : "أكرم من أكرمك""وأكرم كل رجل أكرمك" ، فيكون الكلام خارجا بلفظ الماضي مع"من" ، و"كل" ، مجهولين ومعناه الاستقبال ، إذ كان الموصوف بالفعل غير مؤقت ، وكان"الذين" في قوله : "لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض" ، غير موقتين ، أجريت مجرى"من" و"ما" في ترجمتها التي تذهب مذهب الجزاء ، وإخراج صلاتها بألفاظ الماضي من الأفعال وهي بمعنى الاستقبال ، كما قال الشاعر في"ما" :


    وإني لآتيكم تشكر ما مضى من الأمر واستيجاب ما كان في غد


    فقال : "ما كان في غد" ، وهو يريد : ما يكون في غد . ولو كان أراد الماضي لقال : "ما كان في أمس" ، ولم يجز له أن يقول : "ما كان في غد" .

    ولو كان"الذي" موقتا ، لم يجز أن يقال ذلك . خطأ أن يقال : "لتكرمن [ ص: 335 ] هذا الذي أكرمك إذا زرته" ، لأن"الذي" هاهنا موقت ، فقد خرج من معنى الجزاء ، ولو لم يكن في الكلام"هذا" ، لكان جائزا فصيحا ، لأن"الذي" يصير حينئذ مجهولا غير موقت . ومن ذلك قول الله عز وجل : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) [ سورة الحج : 25 ] فرد"يصدون" على"كفروا" ، لأن"الذين" غير موقتة . فقوله : "كفروا" ، وإن كان في لفظ ماض ، فمعناه الاستقبال ، وكذلك قوله : ( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ) [ سورة مريم : 60 ] وقوله : ( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ) [ سورة المائدة : 34 ] ، معناه : إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم وإلا من يتوب ويؤمن . ونظائر ذلك في القرآن والكلام كثير ، والعلة في كل ذلك واحدة . .

    وأما قوله : "ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم" ، فإنه يعني بذلك : حزنا في قلوبهم ، كما : -

    8113 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "في قلوبهم" ، قال : يحزنهم قولهم ، لا ينفعهم شيئا .

    8114 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    8115 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم " ، لقلة اليقين بربهم جل ثناؤه .

    [ ص: 336 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ( 156 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( والله يحيي ويميت ) والله المعجل الموت لمن يشاء من حيث يشاء ، والمميت من يشاء كلما شاء ، دون غيره من سائر خلقه .

    وهذا من الله عز وجل ترغيب لعباده المؤمنين على جهاد عدوه والصبر على قتالهم ، وإخراج هيبتهم من صدورهم ، وإن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله وإعلام منه لهم أن الإماتة والإحياء بيده ، وأنه لن يموت أحد ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له ونهي منه لهم إذ كان كذلك ، أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين .

    ثم قال جل ثناؤه : " والله بما تعملون بصير " ، يقول : إن الله يرى ما تعملون من خير وشر ، فاتقوه أيها المؤمنون ، إنه محص ذلك كله ، حتى يجازي كل عامل بعمله على قدر استحقاقه .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال ابن إسحاق .

    8116 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله يحيي ويميت " ، أي : يعجل ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #440
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (440)
    صــ 337إلى صــ 351





    [ ص: 337 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ( 157 ) )

    قال أبو جعفر : يخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين ، يقول لهم : لا تكونوا ، أيها المؤمنون ، في شك من أن الأمور كلها بيد الله ، وأن إليه الإحياء والإماتة ، كما شك المنافقون في ذلك ، ولكن جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا أعداء الله ، على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته . ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمة ، وأخبرهم أن موتا في سبيل الله وقتلا في الله ، خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله ، ويتأخرون عن لقاء العدو ، كما : -

    8117 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون " ، أي : إن الموت كائن لا بد منه ، فموت في سبيل الله أو قتل ، خير لو علموا فأيقنوا مما يجمعون في الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد ، تخوفا من الموت والقتل لما جمعوا من زهرة الدنيا ، وزهادة في الآخرة . .

    قال أبو جعفر : وإنما قال الله عز وجل : " لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون " ، وابتدأ الكلام : "ولئن متم أو قتلتم" بحذف جواب"لئن" ، لأن في قوله : [ ص: 338 ] " لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون " معنى جواب للجزاء ، وذلك أنه وعد خرج مخرج الخبر .

    فتأويل الكلام : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ، ليغفرن الله لكم وليرحمنكم فدل على ذلك بقوله : " لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون " ، وجمع مع الدلالة به عليه ، الخبر عن فضل ذلك على ما يؤثرونه من الدنيا وما يجمعون فيها .

    وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة ، أنه إن قيل : كيف يكون : " لمغفرة من الله ورحمة " جوابا لقوله : " ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم "؟ فإن الوجه فيه أن يقال فيه كأنه قال : ولئن متم أو قتلتم فذلك لكم رحمة من الله ومغفرة ، إذ كان ذلك في سبيلي ، فقال : "لمغفرة من الله ورحمة ، " يقول : لذلك خير مما تجمعون ، يعني : لتلك المغفرة والرحمة خير مما تجمعون .

    ودخلت اللام في قوله : "لمغفرة من الله" ، لدخولها في قوله : و"لئن" ، كما قيل : ( ولئن نصروهم ليولن الأدبار ) [ سورة الحشر : 12 ]
    [ ص: 339 ] القول في تأويل قوله ( ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ( 158 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولئن متم أو قتلتم ، أيها المؤمنون ، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم ، فيجازيكم بأعمالكم ، فآثروا ما يقربكم من الله ويوجب لكم رضاه ، ويقربكم من الجنة ، من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته ، على الركون إلى الدنيا وما تجمعون فيها من حطامها الذي هو غير باق لكم ، بل هو زائل عنكم ، وعلى ترك طاعة الله والجهاد ، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم ، ويوجب لكم سخطه ، ويقربكم من النار .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق :

    8118 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولئن متم أو قتلتم " ، أي ذلك كان" لإلى الله تحشرون " ، أي : أن إلى الله المرجع ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا تغتروا بها ، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه منه ، آثر عندكم منها .

    وأدخلت"اللام" في قوله : "لإلى الله تحشرون" ، لدخولها في قوله : "ولئن" . ولو كانت"اللام" مؤخرة إلى قوله : "تحشرون" ، لأحدثت"النون" الثقيلة فيه ، كما تقول في الكلام : "لئن أحسنت إلي لأحسنن إليك" بنون مثقلة . فكان كذلك قوله : ولئن متم أو قتلتم لتحشرن إلى الله ، ولكن لما حيل بين"اللام" وبين"تحشرون" بالصفة ، أدخلت في الصفة ، وسلمت"تحشرون" ، [ ص: 340 ] فلم تدخلها"النون" الثقيلة ، كما تقول في الكلام : "لئن أحسنت إلي لإليك أحسن" ، بغير"نون" مثقلة .
    القول في تأويل قوله ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "فبما رحمة من الله" ، فبرحمة من الله ، و"ما" صلة . وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) [ سورة البقرة : 26 ] . والعرب تجعل"ما" صلة في المعرفة والنكرة ، كما قال : ( فبما نقضهم ميثاقهم ) [ سورة النساء : 155\ سورة المائدة : 13 ] ، والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم . وهذا في المعرفة . وقال في النكرة : ( عما قليل ليصبحن نادمين ) [ سورة المؤمنون : 40 ] ، والمعنى : عن قليل . وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة ، فيرفع ما بعدها أحيانا على وجه الصلة ، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها ، كما قال الشاعر :


    فكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا


    إذا جعلت غير صلة رفعت بإضمار"هو" ، وإن خفضت أتبعت"من" ، فأعربته . فذلك حكمه على ما وصفنا مع النكرات . [ ص: 341 ]

    فأما إذا كانت الصلة معرفة ، كان الفصيح من الكلام الإتباع ، كما قيل : "فبما نقضهم ميثاقهم" ، والرفع جائز في العربية .

    وبنحو ما قلنا في قوله : "فبما رحمة من الله لنت لهم" ، قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8119 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " فبما رحمة من الله لنت لهم " ، يقول : فبرحمة من الله لنت لهم .

    وأما قوله : "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" ، فإنه يعني ب"الفظ" الجافي ، وب"الغليظ القلب" ، القاسي القلب ، غير ذي رحمة ولا رأفة . وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم ، كما وصفه الله به : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) [ سورة التوبة : 128 ] .

    فتأويل الكلام : فبرحمة الله ، يا محمد ، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك"لنت لهم" ، لتباعك وأصحابك ، فسهلت لهم خلائقك ، وحسنت لهم أخلاقك ، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه ، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه ، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتبعك ولا ما بعثت به من الرحمة ، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم ، فبرحمة من الله لنت لهم . كما : -

    8120 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ، أي والله ، لطهره الله من الفظاظة والغلظة ، وجعله قريبا رحيما بالمؤمنين رءوفا وذكر لنا أن نعت محمد صلى [ ص: 342 ] الله عليه وسلم في التوراة : " ليس بفظ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويصفح" .

    8121 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه .

    8122 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ، قال : ذكر لينه لهم وصبره عليهم لضعفهم ، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم .

    وأما قوله : "لانفضوا من حولك" ، فإنه يعني : لتفرقوا عنك . كما : -

    8123 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : قوله : " لانفضوا من حولك " ، قال : انصرفوا عنك .

    8124 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " لانفضوا من حولك " ، أي : لتركوك .
    [ ص: 343 ] القول في تأويل قوله ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ( 159 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فاعف عنهم " ، فتجاوز ، يا محمد ، عن تباعك وأصحابك من المؤمنين بك وبما جئت به من عندي ، ما نالك من أذاهم ومكروه في نفسك" واستغفر لهم ، وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جرم ، واستحقوا عليه عقوبة منه . كما : -

    8125 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "فاعف عنهم" ، أي : فتجاوز عنهم"واستغفر لهم" ، ذنوب من قارف من أهل الإيمان منهم .

    ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم ، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟

    فقال بعضهم : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : " وشاورهم في الأمر " ، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو ، تطييبا منه بذلك أنفسهم ، وتألفا لهم على دينهم ، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم ، وإن كان الله عز وجل قد أغناه بتدبيره له أموره ، وسياسته إياه وتقويمه أسبابه عنهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8126 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " ، [ ص: 344 ] أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء ، لأنه أطيب لأنفس القوم وأن القوم إذا شاور بعضهم بعضا وأرادوا بذلك وجه الله ، عزم لهم على أرشده .

    8127 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وشاورهم في الأمر " ، قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء ، لأنه أطيب لأنفسهم .

    8128 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وشاورهم في الأمر " ، أي : لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم ، وإن كنت عنهم غنيا ، تؤلفهم بذلك على دينهم .

    وقال آخرون : بل أمره بذلك في ذلك . ليبين له الرأي وأصوب الأمور في التدبير ، لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضل .

    ذكر من قال ذلك :

    8129 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم قوله : " وشاورهم في الأمر " ، قال : ما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة ، إلا لما علم فيها من الفضل .

    8130 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن إياس بن دغفل ، عن الحسن : ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .

    وقال آخرون : إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه ، مع [ ص: 345 ] إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن آرائهم ، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم ، ويستنوا بسنته في ذلك ، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره مع المنزلة التي هو بها من الله أصحابه وتباعه في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم ، فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملأهم . لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك ، لم يخلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه . قالوا : وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل الإيمان : ( وأمرهم شورى بينهم ) [ سورة الشورى : 38 ] .

    ذكر من قال ذلك :

    8131 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال : قال سفيان بن عيينة في قوله : " وشاورهم في الأمر " ، قال : هي للمؤمنين ، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه ، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان وتعريفا منه أمته مأتى الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها ، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم ، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله . فأما النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك . وأما أمته ، فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك ، على تصادق وتآخ للحق ، وإرادة [ ص: 346 ] جميعهم للصواب ، من غير ميل إلى هوى ، ولا حيد عن هدى ، فالله مسددهم وموفقهم .

    وأما قوله : "فإذا عزمت فتوكل على الله" ، فإنه يعني : فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك ، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك ، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به ، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك ، أو خالفها"وتوكل" ، فيما تأتي من أمورك وتدع ، وتحاول أو تزاول ، على ربك ، فثق به في كل ذلك ، وارض بقضائه في جميعه ، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم" فإن الله يحب المتوكلين " ، وهم الراضون بقضائه ، والمستسلمون لحكمه فيهم ، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه . كما : -

    8132 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ""فإذا عزمت" ، أي : على أمر جاءك مني ، أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك ، فامض على ما أمرت به ، على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك و"توكل على الله" ، أي : ارض به من العباد"إن الله يحب المتوكلين " .

    8133 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " فإذا عزمت فتوكل على الله " ، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ، ويستقيم على أمر الله ، ويتوكل على الله .

    8134 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فإذا عزمت فتوكل على الله " ، الآية ، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه .
    [ ص: 347 ] القول في تأويل قوله ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 160 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : "إن ينصركم الله" ، أيها المؤمنون بالله ورسوله ، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه والكافرين به" فلا غالب لكم " من الناس ، يقول : فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد ، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه ، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم وكثرة عددهم ، ما كنتم على أمره واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله ، فإن الغلبة لكم والظفر ، دونهم" وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده " ، يعني : إن يخذلكم ربكم بخلافكم أمره وترككم طاعته وطاعة رسوله ، فيكلكم إلى أنفسكم"فمن ذا الذي ينصركم من بعده" ، يقول : فأيسوا من نصرة الناس ، فإنكم لا تجدون [ ناصرا ] من بعد خذلان الله إياكم إن خذلكم ، يقول : فلا تتركوا أمري وطاعتي وطاعة رسولي فتهلكوا بخذلاني إياكم" وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، يعني : ولكن على ربكم ، أيها المؤمنون ، فتوكلوا دون سائر خلقه ، وبه فارضوا من جميع من دونه ، ولقضائه فاستسلموا ، وجاهدوا فيه أعداءه ، يكفكم بعونه ، ويمددكم بنصره . كما : -

    8135 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : [ ص: 348 ] إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، أي : إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس لن يضرك خذلان من خذلك ، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس"فمن الذي ينصركم من بعده" ، أي : لا تترك أمري للناس ، وارفض [ أمر ] الناس لأمري ، وعلى الله ، [ لا على الناس ] ، فليتوكل المؤمنون .
    القول في تأويل قوله ( وما كان لنبي أن يغل )

    اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته جماعة من قرأة الحجاز والعراق : ( وما كان لنبي أن يغل ) ، بمعنى : أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم . واحتج بعض قارئي هذه القراءة : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطيفة فقدت من مغانم القوم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : "لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها!" ، ورووا في ذلك روايات ، فمنها ما : -

    8136 - حدثنا به محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا خصيف قال : حدثنا مقسم قال : حدثني ابن عباس : أن هذه الآية : " وما كان لنبي أن يغل " ، نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، قال : فقال بعض الناس : أخذها! قال : فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله عز وجل : "وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" .

    8137 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال : حدثنا عبد الواحد قال : حدثنا [ ص: 349 ] خصيف قال : سألت سعيد بن جبير : كيف تقرأ هذه الآية : " وما كان لنبي أن يغل " أو : "يغل"؟ قال : لا بل"يغل" ، فقد كان النبي والله يغل ويقتل .

    8138 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس : " وما كان لنبي أن يغل " ، قال : كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر ، فقال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : "فلعل النبي أخذها"! فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبي أن يغل " [ قال سعيد : بلى والله ، إن النبي ليغل ويقتل ] .

    8139 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا خلاد ، عن زهير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : "أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم!" . فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبي أن يغل " . [ ص: 350 ]

    8140 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا مالك بن إسماعيل قال : حدثنا زهير قال : حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير وعكرمة في قوله : "وما كان لنبي أن يغل" ، قالا يغل قال قال عكرمة أو غيره ، عن ابن عباس ، قال كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم"! قال : فأنزل الله هذه الآية : " وما كان لنبي أن يغل " .

    8141 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا قزعة بن سويد الباهلي ، عن حميد الأعرج ، عن سعيد بن جبير قال : نزلت هذه الآية : " وما كان لنبي أن يغل " ، في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من الغنيمة .

    8142 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن سليمان الأعمش قال : كان ابن مسعود يقرأ : ( وما كان لنبي أن يغل ) ، فقال ابن عباس : بلى ، ويقتل قال : فذكر ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلها ، يوم بدر . فأنزل الله : " وما كان لنبي أن يغل " .

    وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك ، بفتح"الياء" وضم"الغين" : إنما نزلت هذه الآية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجههم في وجه ، ثم غنم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ ، وأن الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم ، ويعرفه الواجب عليه من الحكم فيما [ ص: 351 ] أفاء الله عليه من الغنائم ، وأنه ليس له أن يخص بشيء منها أحدا ممن شهد الوقعة - أو ممن كان ردءا لهم في غزوهم - دون أحد .

    ذكر من قال ذلك :

    8143 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " ، يقول : ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم ، ولكن يقسم بالعدل ، ويأخذ فيه بأمر الله ، ويحكم فيه بما أنزل الله . يقول : ما كان الله ليجعل نبيا يغل من أصحابه ، فإذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم استنوا به .

    8144 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : أنه كان يقرأ : " ما كان لنبي أن يغل " ، قال : أن يعطي بعضا ، ويترك بعضا ، إذا أصاب مغنما .

    8145 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع ، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبي أن يغل " .

    8146 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : "ما كان لنبي أن يغل " ، يقول : ما كان لنبي أن يقسم لطائفة من أصحابه ويترك طائفة ، ولكن يعدل ويأخذ في ذلك بأمر الله عز وجل ، ويحكم فيه بما أنزل الله .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •