تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 23 الأولىالأولى 12345678910111213 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 460

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(26)
    الحلقة (41)
    صــ 356إلى صــ 360



    وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا . وذلك أنه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته ، كقزمان ، الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين بأحد ، أو دونه . وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتركهم معاونته على أعدائه ، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين ، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين ، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين ، إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وصف من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم ، إما عاجلا وإما آجلا . ثم أخبر جل ثناؤه أن [ ص: 356 ] المنافقين - الذين نعتهم الله النعت الذي ذكر - وضرب لهم الأمثال التي وصف ، وإن اتقوا عقابه ، وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم ، وحلوله بساحتهم ، إما عاجلا في الدنيا ، وإما آجلا في الآخرة ، للذي في قلوبهم من مرضها ، والشك في اعتقادها ، فقال : " والله محيط بالكافرين " بمعنى جامعهم ، فمحل بهم عقوبته .

    وكان مجاهد يتأول ذلك كما :

    466 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم . عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " والله محيط بالكافرين " قال : جامعهم في جهنم .

    وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما :

    467 - حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " والله محيط بالكافرين " يقول : الله منزل ذلك بهم من النقمة .

    468 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : " والله محيط بالكافرين " قال : جامعهم .

    ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم ، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم ، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربه لهم ولشكهم ومرض قلوبهم ، فقال : " يكاد البرق " يعني بالبرق ، الإقرار الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم . فجعل البرق له مثلا على ما قدمنا صفته . [ ص: 357 ]

    " يخطف أبصارهم " يعني : يذهب بها ويستلبها ويلتمعها من شدة ضيائه ونور شعاعه .

    469 - كما حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " يكاد البرق يخطف أبصارهم " قال : يلتمع أبصارهم ولما يفعل .

    قال أبو جعفر : والخطف السلب ، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطفة ، يعني بها النهبة . ومنه قيل للخطاف الذي يخرج به الدلو من البئر خطاف ، لاختطافه واستلابه ما علق به ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :


    خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها أيد إليك نوازع
    [ ص: 358 ]

    فجعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره ، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشعاع نوره ، مثلا .

    ثم قال تعالى ذكره : " كلما أضاء لهم " يعني أن البرق كلما أضاء لهم ، وجعل البرق لإيمانهم مثلا . وإنما أراد بذلك : أنهم كلما أضاء لهم الإيمان ، وإضاءته لهم أن يروا فيه ما يعجبهم في عاجل دنياهم ، من النصرة على الأعداء ، وإصابة الغنائم في المغازي ، وكثرة الفتوح ، ومنافعها ، والثراء في الأموال ، والسلامة في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءته لهم ، لأنهم إنما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ، ابتغاء ذلك ، ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم ، وهم كما وصفهم الله جل ثناؤه بقوله : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ) [ سورة الحج : 11 ] .

    ويعني بقوله " مشوا فيه " مشوا في ضوء البرق . وإنما ذلك مثل لإقرارهم على ما وصفنا . فمعناه : كلما رأوا في الإيمان ما يعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا ، ثبتوا عليه وأقاموا فيه ، كما يمشي السائر في ظلمة الليل وظلمة الصيب الذي وصفه جل ثناؤه ، إذا برقت فيها بارقة أبصر طريقه فيها .

    " وإذا أظلم " يعني : ذهب ضوء البرق عنهم .

    ويعني بقوله " عليهم " على السائرين في الصيب الذي وصف جل ذكره . وذلك للمنافقين مثل . ومعنى إظلام ذلك أن المنافقين كلما لم يروا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضراء ، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء ، من إخفاقهم في مغزاهم ، وإنالة عدوهم منهم ، أو إدبار من [ ص: 359 ] دنياهم عنهم أقاموا على نفاقهم ، وثبتوا على ضلالتهم ، كما قام السائر في الصيب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وخفت ضوء البرق ، فحار في طريقه ، فلم يعرف منهجه .
    القول في تأويل قوله : ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم )

    [ ص: 360 ] قال أبو جعفر : وإنما خص جل ذكره السمع والأبصار - بأنه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم - للذي جرى من ذكرها في الآيتين ، أعني قوله : " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق " وقوله : " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه " فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل ، ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم ، وعيدا من الله لهم ، كما توعدهم في الآية التي قبلها بقوله : " والله محيط بالكافرين " واصفا بذلك جل ذكره نفسه أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم ، لإحلال سخطه بهم ، وإنزال نقمته عليهم ، ومحذرهم بذلك سطوته ، ومخوفهم به عقوبته ، ليتقوا بأسه ، ويسارعوا إليه بالتوبة .

    470 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم " لما تركوا من الحق بعد معرفته .

    471 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ثم قال - يعني قال الله - في أسماعهم - يعني أسماع المنافقين - وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس : " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم "

    قال أبو جعفر : وإنما معنى قوله : " لذهب بسمعهم وأبصارهم " لأذهب سمعهم وأبصارهم ، ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا : ذهبت ببصره ، وإذا حذفوا الباء قالوا : أذهبت بصره ، كما قال جل ثناؤه : ( آتنا غداءنا ) [ سورة الكهف : 62 ] ، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل : ائتنا بغدائنا .

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " لذهب بسمعهم " فوحد ، وقال : " وأبصارهم " فجمع ؟ وقد علمت أن الخبر في السمع خبر عن سمع جماعة ، كما الخبر عن الأبصار خبر عن أبصار جماعة ؟


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(27)
    الحلقة (42)
    صــ 361إلى صــ 365



    قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفة : وحد السمع لأنه عنى به المصدر وقصد به الخرق ، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين . وكان بعض نحويي البصرة يزعم : أن السمع وإن كان في لفظ واحد ، فإنه بمعنى جماعة . ويحتج في ذلك بقول الله : ( لا يرتد إليهم طرفهم ) [ سورة إبراهيم : 43 ] ، يريد : لا ترتد إليهم أطرافهم ، وبقوله : ( ويولون الدبر ) [ سورة القمر : 45 ] ، [ ص: 361 ] يراد به أدبارهم . وإنما جاز ذلك عندي ، لأن في الكلام ما يدل على أنه مراد به الجمع ، فكان في دلالته على المراد منه ، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة ، مغنيا عن جماعه . ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع ، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار - من الجمع والتوحيد - كان فصيحا صحيحا ، لما ذكرنا من العلة ، كما قال الشاعر :


    كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زماننا زمن خميص


    فوحد البطن ، والمراد منه البطون ، لما وصفنا من العلة .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( إن الله على كل شيء قدير ( 20 ) )

    قال أبو جعفر : وإنما وصف الله نفسه جل ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته ، وأخبرهم أنه بهم محيط ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير . ثم قال : فاتقوني أيها المنافقون ، واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي ، لا أحل بكم نقمتي ، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير . ومعنى " قدير " قادر ، كما معنى " عليم " عالم ، على ما وصفت فيما [ ص: 362 ] تقدم من نظائره ، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .
    القول في تأويل قول الله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم )

    قال أبو جعفر : فأمر جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه سواء عليهم أأنذروا أم لم ينذروا أنهم لا يؤمنون ، لطبعه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعن الآخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله : آمنا بالله وباليوم الآخر ، مع استبطانه خلاف ذلك ، ومرض قلبه وشكه في حقيقة ما يبدي من ذلك ، وغيرهم من سائر خلقه المكلفين بالاستكانة ، والخضوع له بالطاعة ، وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة . لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم ، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم . فقال لهم جل ذكره : فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم وسائر الخلق غيركم ، وهو يقدر على ضركم ونفعكم ، أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نفع ولا ضر .

    وكان ابن عباس : فيما روي لنا عنه ، يقول في ذلك نظير ما قلنا فيه ، غير أنه ذكر عنه أنه كان يقول في معنى " اعبدوا ربكم " : وحدوا ربكم . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى العبادة : الخضوع لله بالطاعة ، [ ص: 363 ] والتذلل له بالاستكانة . والذي أراد ابن عباس - إن شاء الله - بقوله في تأويل قوله : " اعبدوا ربكم " وحدوه ، أي أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه .

    472 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين ، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .

    473 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم " يقول : خلقكم وخلق الذين من قبلكم .

    قال أبو جعفر : وهذه الآية من أدل دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غير جائز ، إلا بعد إعطاء الله المكلف المعونة على ما كلفه . وذلك أن الله أمر من وصفنا ، بعبادته والتوبة من كفره ، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون ، وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون .
    [ ص: 364 ] القول في تأويل قوله : ( لعلكم تتقون ( 21 ) )

    قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : لعلكم تتقون بعبادتكم ربكم الذي خلقكم ، وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وإفرادكم له العبادة لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل عليكم ، وتكونوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم .

    وكان مجاهد يقول في تأويل قوله : " لعلكم تتقون " : تطيعون .

    474 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " لعلكم تتقون " قال : لعلكم تطيعون .

    قال أبو جعفر : والذي أظن أن مجاهدا أراد بقوله هذا : لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه ، وإقلاعكم عن ضلالتكم .

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فكيف قال جل ثناؤه : " لعلكم تتقون " ؟ أو لم يكن عالما بما يصير إليه أمرهم إذا هم عبدوه وأطاعوه ، حتى قال لهم : لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا ، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشك ؟

    قيل له : ذلك على غير المعنى الذي توهمت ، وإنما معنى ذلك : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ، كما قال الشاعر :


    وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
    كلمح سراب في الفلا متألق
    [ ص: 365 ]

    يريد بذلك : قلتم لنا كفوا لنكف . وذلك أن " لعل " في هذا الموضع لو كان شكا ، لم يكونوا وثقوا لهم كل موثق .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا )

    وقوله : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " مردود على " الذي " الأولى في قوله " اعبدوا ربكم الذي خلقكم " وهما جميعا من نعت " ربكم " فكأنه قال : اعبدوا ربكم الخالقكم والخالق الذين من قبلكم ، الجاعل لكم الأرض فراشا ، يعني بذلك أنه جعل لكم الأرض مهادا موطأ وقرارا يستقر عليها ، يذكر ربنا جل ذكره - بذلك من قيله - عباده نعمه عندهم وآلاءه لديهم ليذكروا أياديه عندهم ، فينيبوا إلى طاعته - تعطفا منه بذلك عليهم ، ورأفة منه بهم ، ورحمة لهم ، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم ، ولكن ليتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون .

    475 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " فهي فراش يمشى عليها ، وهي المهاد والقرار .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(28)
    الحلقة (43)
    صــ 366إلى صــ 370



    476 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " قال : مهادا لكم . [ ص: 366 ]

    477 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " أي مهادا .
    القول في تأويل قوله : ( والسماء بناء )

    قال أبو جعفر : وإنما سميت السماء سماء لعلوها على الأرض وعلى سكانها من خلقه ، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماء ، ولذلك قيل لسقف البيت : سماوة ، لأنه فوقه مرتفع عليه . ولذلك قيل : سما فلان لفلان إذا أشرف له وقصد نحوه عاليا عليه ، كما قال الفرزدق :


    سمونا لنجران اليماني وأهله ونجران أرض لم تديث مقاوله

    وكما قال نابغة بني ذبيان :


    سمت لي نظرة فرأيت منها تحيت الخدر واضعة القرام


    يريد بذلك : أشرفت لي نظرة وبدت ، فكذلك السماء سميت للأرض سماء لعلوها وإشرافها عليها . [ ص: 367 ]

    478 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم : " والسماء بناء " فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة ، وهي سقف على الأرض .

    479 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة في قول الله : " والسماء بناء " قال : جعل السماء سقفا لك .

    وإنما ذكر تعالى ذكره السماء والأرض فيما عدد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم ، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم ، وبهما قوام دنياهم . فأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم ، هو المستحق عليهم الطاعة ، والمستوجب منهم الشكر والعبادة ، دون الأصنام والأوثان ، التي لا تضر ولا تنفع .
    القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم )

    يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنزل من السماء مطرا ، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقا لهم ، غذاء وأقواتا . فنبههم بذلك على قدرته وسلطانه ، وذكرهم به آلاءه لديهم ، وأنه هو الذي خلقهم ، وهو الذي يرزقهم ويكفلهم ، دون من جعلوه له ندا وعدلا من الأوثان والآلهة . [ ص: 368 ] ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا ، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم ، وأنه لا ند له ولا عدل ، ولا لهم نافع ولا ضار ولا خالق ولا رازق سواه .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادا )

    قال أبو جعفر : والأنداد جمع ند ، والند : العدل والمثل ، كما قال حسان بن ثابت :


    أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء

    يعني بقوله : " ولست له بند " لست له بمثل ولا عدل . وكل شيء كان نظيرا لشيء وله شبيها فهو له ند .

    480 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فلا تجعلوا لله أندادا " أي عدلاء .

    481 - حدثني المثنى ، قال : حدثني أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نحيح ، عن مجاهد : " فلا تجعلوا لله أندادا " أي عدلاء .

    482 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فلا تجعلوا لله أندادا " قال : أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله . [ ص: 369 ]

    483 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : " فلا تجعلوا لله أندادا " قال : الأنداد الآلهة التي جعلوها معه ، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له .

    484 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " فلا تجعلوا لله أندادا " قال : أشباها .

    485 - حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة : " فلا تجعلوا لله أندادا " أن تقولوا : لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار ، لولا كلبنا صاح في الدار ، ونحو ذلك .

    فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا ، وأن يعبدوا غيره ، أو يتخذوا له ندا وعدلا في الطاعة ، فقال : كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم ونعمي التي أنعمتها عليكم ، فكذلك فأفردوا لي الطاعة ، [ ص: 370 ] وأخلصوا لي العبادة ، ولا تجعلوا لي شريكا وندا من خلقي ، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم فمني .
    القول في تأويل قوله : ( وأنتم تعلمون ( 22 ) )

    اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية :

    فقال بعضهم : عنى بها جميع المشركين من مشركي العرب وأهل الكتاب .

    وقال بعضهم : عنى بذلك أهل الكتابين ، أهل التوراة والإنجيل .

    ذكر من قال : عنى بها جميع عبدة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين :

    486 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزل ذلك في الفريقين جميعا من الكفار والمنافقين . وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(29)
    الحلقة (44)
    صــ 371إلى صــ 375



    487 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " وأنتم تعلمون " أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض ، ثم تجعلون له أندادا . [ ص: 371 ]

    ذكر من قال : عني بذلك أهل الكتابين :

    488 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " أنه إله واحد في التوراة والإنجيل .

    489 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، مثله .

    490 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأنتم تعلمون " يقول : وأنتم تعلمون أنه لا ند له في التوراة والإنجيل .

    قال أبو جعفر : وأحسب أن الذي دعا مجاهدا إلى هذا التأويل وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم - الظن منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها ، بجحودها وحدانية ربها وإشراكها معه في العبادة غيره ، وإن ذلك لقول! ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقر بوحدانيته ، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها ، فقال جل ثناؤه : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ سورة الزخرف : 87 ] ، وقال : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [ سورة يونس : 31 ] . [ ص: 372 ]

    فالذي هو أولى بتأويل قوله : " وأنتم تعلمون " - إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله ، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم ، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ، ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل [ ص: 373 ] ثناؤه عنى بقوله : " وأنتم تعلمون " أحد الحزبين ، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم ، لأنه تحدى الناس كلهم بقوله : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة ، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله وأنه لا شريك له في خلقه ، يشرك معه في عبادته غيره ، كائنا من كان من الناس ، عربيا كان أو أعجميا ، كاتبا أو أميا ، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل النفاق منهم ، وممن بين ظهرانيهم ممن كان مشركا فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    القول في تأويل قوله : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله )

    قال أبو جعفر : وهذا من الله عز وجل احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم ، وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " وإياهم يخاطب بهذه الآيات ، وضرباءهم يعني بها ، قال الله جل ثناؤه : وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين ، في شك - وهو الريب - مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان : أنه من عندي ، وأني الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول ، فأتوا بحجة تدفع حجته ، لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق . ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه ، وبرهانه على حقيقة نبوته ، وأن ما جاء به من عندي - عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله . وإذا عجزتم عن ذلك - وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذرابة - فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز . كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه ، وحجته على نبوته من الآيات ، ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي . فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوله ولم يختلقه ، لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقولا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله . لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعد أن يكون بشرا مثلكم ، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان ، فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه ، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه .

    ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فأتوا بسورة من مثله "

    491 - فحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فأتوا بسورة من مثله " يعني : من مثل هذا القرآن حقا وصدقا ، لا باطل فيه ولا كذب .

    492 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا [ ص: 374 ] معمر ، عن قتادة في قوله : " فأتوا بسورة من مثله " يقول : بسورة مثل هذا القرآن .

    493 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فأتوا بسورة من مثله " مثل القرآن .

    494 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    495 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " فأتوا بسورة من مثله " قال : " مثله " مثل القرآن .

    فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما : أن الله جل ذكره قال لمن حاجه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار : فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب ، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم .

    وقد قال قوم آخرون : إن معنى قوله : " فأتوا بسورة من مثله " من مثل محمد من البشر ، لأن محمدا بشر مثلكم .

    قال أبو جعفر : والتأويل الأول الذي قاله مجاهد وقتادة هو التأويل الصحيح؛ لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ) [ سورة يونس : 38 ] ، ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه ، فيجوز أن يقال : فأتوا بسورة مثل محمد .

    فإن قال قائل : إنك ذكرت أن الله عنى بقوله " فأتوا بسورة من مثله " [ ص: 375 ] من مثل هذا القرآن ، فهل للقرآن من مثل فيقال : ائتوا بسورة من مثله ؟

    قيل : إنه لم يعن به : ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره ، وإنما عنى : ائتوا بسورة من مثله في البيان ، لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي ، فكلام العرب لا شك له مثل في معنى العربية . فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين ، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه .

    وإنما احتج الله جل ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به له عليهم من القرآن ، إذ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان ، إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم ، وكلاما نزل بلسانهم ، فقال لهم جل ثناؤه : وإن كنتم في ريب من أن ما أنزلت على عبدي من القرآن من عندي ، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية ، إذ كنتم عربا ، وهو بيان نظير بيانكم ، وكلام شبيه كلامكم . فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن ، فيقدروا أن يقولوا : كلفتنا ما لو أحسناه أتينا به ، وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به ، فليس لك علينا بهذا حجة . لأنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا ؛ لأنا لسنا من أهله ، ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به . ولكنه جل ثناؤه قال لهم : ائتوا بسورة مثله ، لأن مثله من الألسن ألسنكم ، وأنتم - إن كانمحمد اختلقه وافتراه إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - [ ص: 376 ] أقدر على اختلاقه ورصفه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه ، فلن تعجزوا - وأنتم جميع - عما قدر عليه محمد من ذلك وهو وحيد ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدا افتراه واختلقه ، وأنه من عند غيري .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(30)
    الحلقة (45)
    صــ 376إلى صــ 380



    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ( 23 ) )

    فقال ابن عباس بما :

    496 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : " وادعوا شهداءكم من دون الله " يعني أعوانكم على ما أنتم عليه ، إن كنتم صادقين .

    497 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وادعوا شهداءكم " ناس يشهدون .

    498 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    499 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : قوم يشهدون لكم . [ ص: 377 ]

    500 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " وادعوا شهداءكم " قال : ناس يشهدون . قال ابن جريج : " شهداءكم " عليها إذا أتيتم بها أنها مثله ، مثل القرآن .

    وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله " فادعوا " يعني : استنصروا واستغيثوا ، كما قال الشاعر :


    فلما التقت فرساننا ورجالهم دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر

    يعني بقوله : " دعوا يا لكعب " استنصروا كعبا واستغاثوا بهم .

    وأما الشهداء فإنها جمع شهيد ، كما الشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب . والشهيد يسمى به الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه . وقد يسمى به المشاهد للشيء ، كما يقال : فلان جليس فلان يعني به مجالسه ، ونديمه يعني به منادمه ، وكذلك يقال : شهيده يعني به مشاهده .

    فإذا كانت " الشهداء " محتملة أن تكون جمع " الشهيد " الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفت ، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن يكون معناه : واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانكم وشهداءكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله ، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم ، إن كنتم محقين في جحودكم أن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء ، لتمتحنوا أنفسكم وغيركم ، هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من [ ص: 378 ] مثله ، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا ؟

    وأما ما قاله مجاهد وابن جريج في تأويل ذلك فلا وجه له ؛ لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافا ثلاثة : أهل إيمان صحيح ، وأهل كفر صحيح ، وأهل نفاق بين ذلك . فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين ، فكان من المحال أن يدعي الكفار أن لهم شهداء على حقيقة ما كانوا يأتون به ، لو أتوا باختلاق من الرسالة ، ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من المؤمنين . فأما أهل النفاق والكفر ، فلا شك أنهم لو دعوا إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم ، فمن أي الفريقين كانت تكون شهداؤهم لو ادعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن ؟

    ولكن ذلك كما قال جل ثناؤه : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ سورة الإسراء : 88 ] فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية ، أن مثل القرآن لا يأتي به الجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به ، وتحداهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين " يعني بذلك : إن كنتم في شك في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي فأتوا بسورة [ ص: 379 ] من مثله ، وليستنصر بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم ، حتى تعلموا أنكم إذ عجزتم عن ذلك أنه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا من البشر أحد ، ويصح عندكم أنه تنزيلي ووحيي إلى عبدي .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإن لم تفعلوا " إن لم تأتوا بسورة من مثله ، فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع خلقي عنه ، وعلمتم أنه من عندي ، ثم أقمتم على التكذيب به .

    وقوله : " ولن تفعلوا " أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدا .

    501 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه .

    502 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " فقد بين لكم الحق .
    [ ص: 380 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله " فاتقوا النار " يقول : فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي ، بعد تبينكم أنه كتابي ومن عندي ، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي ، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله .

    ثم وصف جل ثناؤه النار التي حذرهم صليها فأخبرهم أن الناس وقودها ، وأن الحجارة وقودها ، فقال : " التي وقودها الناس والحجارة " يعني بقوله : " وقودها " حطبها ، والعرب تجعله مصدرا وهو اسم ، إذا فتحت الواو ، بمنزلة الحطب .

    فإذا ضمت الواو من " الوقود " كان مصدرا من قول القائل : وقدت النار فهي تقد وقودا وقدة ووقدانا ووقدا ، يراد بذلك أنها التهبت .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(31)
    الحلقة (46)
    صــ 381إلى صــ 385


    فإن قال قائل : وكيف خصت الحجارة فقرنت بالناس ، حتى جعلت لنار جهنم حطبا ؟ [ ص: 381 ]

    قيل : إنها حجارة الكبريت ، وهي أشد الحجارة - فيما بلغنا - حرا إذا أحميت .

    503 - كما حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : " وقودها الناس والحجارة " قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ، يعدها للكافرين .

    504 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا ابن عيينة ، عن مسعر ، عن عبد الملك الزراد ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن مسعود في قوله : " وقودها الناس والحجارة " قال : حجارة الكبريت ، جعلها الله كما شاء . [ ص: 382 ]

    505 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة " أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون به مع النار .

    506 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : " وقودها الناس والحجارة " قال : حجارة من كبريت أسود في النار ، قال : وقال لي عمرو بن دينار : حجارة أصلب من هذه وأعظم .

    507 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : حجارة من الكبريت خلقها الله عنده كيف شاء وكما شاء .
    القول في تأويل قوله : ( أعدت للكافرين ( 24 ) )

    قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا ، على أن " الكافر " في كلام العرب هو الساتر شيئا بغطاء ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا لجحوده آلاءه عنده ، وتغطيته نعماءه قبله .

    فمعنى قوله إذا : " أعدت للكافرين " أعدت النار للجاحدين أن الله ربهم المتوحد بخلقهم وخلق الذين من قبلهم ، الذي جعل لهم الأرض فراشا ، والسماء [ ص: 383 ] بناء ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم ، المشركين معه في عبادته الأنداد والآلهة ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء ، والمتوحد بالأقوات والأرزاق .

    508 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : " أعدت للكافرين " أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .
    القول في تأويل قوله : ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار )

    قال أبو جعفر : أما قوله تعالى : " وبشر " فإنه يعني : أخبرهم . والبشارة أصلها الخبر بما يسر به المخبر ، إذا كان سابقا به كل مخبر سواه .

    وهذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه ، وصدقوا إيمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة ، فقال له : يا محمد ، بشر من صدقك أنك رسولي ، وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي ، وحقق تصديقه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتها عليه ، وأوجبتها في كتابي على لسانك عليه ، أن له جنات تجري من تحتها الأنهار خاصة ، دون من كذب بك وأنكر ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك ، ودون من أظهر تصديقك ، وأقر [ ص: 384 ] أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادا ، ولم يحققه عملا . فإن لأولئك النار التي وقودها الناس والحجارة ، معدة عندي . والجنات : جمع جنة ، والجنة البستان .

    وإنما عنى جل ذكره بذكر الجنة : ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها ، دون أرضها ، ولذلك قال عز ذكره " : تجري من تحتها الأنهار " لأنه معلوم أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبر عن ماء أنهارها أنه جار تحت أشجارها وغروسها وثمارها ، لا أنه جار تحت أرضها ، لأن الماء إذا كان جاريا تحت الأرض ، فلا حظ فيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه . على أن الذي توصف به أنهار الجنة ، أنها جارية في غير أخاديد .

    509 - كما حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن مسروق ، قال : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وماؤها يجري في غير أخدود .

    510 - حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا مسعر بن كدام ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، بنحوه .

    511 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عمرو بن مرة يحدث ، عن أبي عبيدة - فذكر مثله - قال : فقلت لأبي عبيدة : من حدثك ؟ فغضب ، وقال : مسروق . [ ص: 385 ]

    فإذا كان الأمر كذلك ، في أن أنهارها جارية في غير أخاديد ، فلا شك أن الذي أريد بالجنات أشجار الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها ، إذ كانت أنهارها تجري فوق أرضها وتحت غروسها وأشجارها ، على ما ذكره مسروق . وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جارية تحت أرضها .

    وإنما رغب الله جل ثناؤه بهذه الآية عباده في الإيمان ، وحضهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعده لأهل طاعته والإيمان به عنده ، كما حذرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعد لأهل الكفر به - الجاعلين معه الآلهة والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه ، والتعرض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " كلما رزقوا منها " : من الجنات ، والهاء راجعة على الجنات ، وإنما المعني أشجارها ، فكأنه قال : كلما رزقوا - من أشجار البساتين التي أعدها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل .

    ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " هذا الذي رزقنا من قبل "

    فقال بعضهم : تأويل ذلك : هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(32)
    الحلقة (47)
    صــ 386إلى صــ 390



    ذكر من قال ذلك :

    512 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا [ ص: 386 ] أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : " هذا الذي رزقنا من قبل " قال : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ، فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا .

    513 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " أي في الدنيا .

    514 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " يقولون : ما أشبهه به .

    515 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

    516 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " في الدنيا ، قال : " وأتوا به متشابها " يعرفونه .

    قال أبو جعفر : وقال آخرون : بل تأويل ذلك : هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا ، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضا . ومن علة قائلي هذا القول : أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله .

    517 - كما حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عمرو بن مرة يحدث ، عن أبي عبيدة ، قال : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها مثل القلال ، كلما نزعت منها ثمرة عادت مكانها أخرى . [ ص: 387 ]

    قالوا : فإنما اشتبهت عند أهل الجنة ، لأن التي عادت ، نظيرة التي نزعت فأكلت ، في كل معانيها . قالوا : ولذلك قال الله جل ثناؤه : " وأتوا به متشابها " لاشتباه جميعه في كل معانيه .

    وقال بعضهم : بل قالوا : " هذا الذي رزقنا من قبل " لمشابهته الذي قبله في اللون ، وإن خالفه في الطعم .

    ذكر من قال ذلك :

    518 - حدثنا القاسم بن الحسين ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثنا شيخ من المصيصة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل . فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف .

    وهذا التأويل مذهب من تأول الآية . غير أنه يدفع صحته ظاهر التلاوة . والذي يدل على صحته ظاهر الآية ويحقق صحته قول القائلين : إن معنى ذلك : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا . وذلك أن الله جل ثناؤه قال : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا " فأخبر جل ثناؤه أن من قيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقا أن يقولوا : هذا الذي رزقنا من قبل . ولم يخصص بأن ذلك من قيلهم في بعض ذلك دون بعض . فإذ كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها ، فلا شك أن ذلك من قيلهم في أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها ، الذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة . فإذ كان لا شك أن ذلك من قيلهم في أوله ، كما هو من قيلهم في أوسطه وما يتلوه - فمعلوم أنه محال أن يكون من قيلهم لأول رزق رزقوه من ثمار الجنة : هذا الذي رزقنا من قبل هذا من ثمار [ ص: 388 ] الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رزقوه من ثمارها ولما يتقدمه عندهم غيره : هذا هو الذي رزقناه من قبل ؟ إلا أن ينسبهم ذو غية وضلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه ، أو يدفع دافع أن يكون ذلك من قيلهم لأول رزق رزقوه منها من ثمارها ، فيدفع صحة ما أوجب الله صحته بقوله : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا " من غير نصب دلالة على أنه معني به حال من أحوال دون حال .

    فقد تبين بما بينا أن معنى الآية : كلما رزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا .

    فإن سألنا سائل ، فقال : وكيف قال القوم : هذا الذي رزقنا من قبل ، والذي رزقوه من قبل قد عدم بأكلهم إياه ؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له ؟

    قيل : إن الأمر على غير ما ذهبت إليه في ذلك . وإنما معناه : هذا من النوع الذي رزقناه من قبل هذا ، من الثمار والرزق . كالرجل يقول لآخر : قد أعد لك فلان من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى . فيقول المقول له ذاك : هذا طعامي في منزلي . يعني بذلك : أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعده له من الطعام هو طعامه ، لا أن أعيان ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له ، هو طعامه . بل ذلك مما لا يجوز لسامع سمعه يقول ذلك ، أن يتوهم أنه أراده أو قصده ، لأن ذلك خلاف مخرج كلام المتكلم . وإنما يوجه كلام كل متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه ، دون المجهول من معانيه . فكذلك ذلك في قوله : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " إذ كان ما كانوا رزقوه من قبل قد فني وعدم . فمعلوم أنهم عنوا بذلك : هذا من النوع الذي رزقناه من قبل ، ومن جنسه [ ص: 389 ] في السمات والألوان ، على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا .
    القول في تأويل قوله : ( وأتوا به متشابها )

    قال أبو جعفر : والهاء في قوله : " وأتوا به متشابها " عائدة على الرزق ، فتأويله : وأتوا بالذي رزقوا من ثمارها متشابها .

    وقد اختلف أهل التأويل في تأويل " المتشابه " في ذلك :

    فقال بعضهم : تشابهه أن كله خيار لا رذل فيه .

    ذكر من قال ذلك :

    519 - حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا أبو عامر ، عن الحسن في قوله : " متشابها " قال : خيارا كلها لا رذل فيها .

    520 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء : قرأ الحسن آيات من البقرة ، فأتى على هذه الآية : " وأتوا به متشابها " قال : ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه ؟ وإن ذلك ليس فيه رذل .

    521 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : " وأتوا به متشابها " قال : يشبه بعضه بعضا ، ليس فيه من رذل .

    522 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " وأتوا به متشابها " [ ص: 390 ] ، أي خيارا لا رذل فيه ، وإن ثمار الدنيا ينقى منها ويرذل منها ، وثمار الجنة خيار كله ، لا يرذل منه شيء .

    523 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج . قال : ثمر الدنيا منه ما يرذل ، ومنه نقاوة ، وثمر الجنة نقاوة كله ، يشبه بعضه بعضا في الطيب ، ليس منه مرذول .

    وقال بعضهم : تشابهه في اللون وهو مختلف في الطعم .

    ذكر من قال ذلك :

    524 - حدثني موسى ، قال حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " وأتوا به متشابها " في اللون والمرأى ، وليس يشبه الطعم .

    525 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأتوا به متشابها " مثل الخيار .

    526 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأتوا به متشابها لونه مختلفا طعمه ، مثل الخيار من القثاء .

    527 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " وأتوا به متشابها " يشبه بعضه بعضا ويختلف الطعم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(33)
    الحلقة (48)
    صــ 391إلى صــ 395



    528 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " متشابها " قال : مشتبها في اللون ، ومختلفا في الطعم . [ ص: 391 ]

    529 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " وأتوا به متشابها " مثل الخيار .

    وقال بعضهم : تشابهه في اللون والطعم .

    ذكر من قال ذلك :

    530 - حدثنا ابن وكيع . قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قوله : " متشابها " قال : اللون والطعم .

    531 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ويحيى بن سعيد : " متشابها " قالا في اللون والطعم .

    وقال بعضهم : تشابهه ، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون ، وإن اختلف طعومهما .

    ذكر من قال ذلك :

    532 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وأتوا به متشابها " قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيب .

    533 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " وأتوا به متشابها " قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيب .

    وقال بعضهم : لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا ، إلا الأسماء .

    ذكر من قال ذلك :

    534 - حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعي - ح - وحدثنا محمد [ ص: 392 ] بن بشار ، قال ، حدثنا مؤمل ، قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي - : لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا ، إلا الأسماء . وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل ، قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء .

    535 - حدثنا عباس بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء .

    536 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " وأتوا به متشابها " قال : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا ، التفاح بالتفاح والرمان بالرمان ، قالوا في الجنة : " هذا الذي رزقنا من قبل " في الدنيا " وأتوا به متشابها " يعرفونه ، وليس هو مثله في الطعم .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية ، تأويل من قال : وأتوا به متشابها في اللون والمنظر والطعم مختلف . يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون ، مختلفا في الطعم والذوق ، لما قدمنا من العلة في تأويل قوله : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " وأن معناه : كلما رزقوا من الجنان من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا : فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك ، ومن أجل أنهم أتوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابها ، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه ، والذي كانوا رزقوه في الدنيا ، في اللون والمرأى والمنظر ، وإن اختلفا في الطعم والذوق فتباينا ، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا .

    وقد دللنا [ ص: 393 ] على فساد قول من زعم أن معنى قوله : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثمر الجنة ببعض . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول ، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله : " وأتوا به متشابها " لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم : " هذا الذي رزقنا من قبل " بقوله : " وأتوا به متشابها "

    ويسأل من أنكر ذلك ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه ، فيقال له : أيجوز أن يكون أسماء ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائر أسماء ما في الدنيا منها ؟

    فإن أنكر ذلك خالف نص كتاب الله ، لأن الله جل ثناؤه إنما عرف عباده في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك .

    وإن قال : ذلك جائز ، بل هو كذلك .

    قيل : فما أنكرت أن يكون ألوان ما فيها من ذلك ، نظير ألوان ما في الدنيا منه ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان ، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المرآة والمنظر ، فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المرآة والمنظر ، خلاف الذي لما في الدنيا منه ، كما كان جائزا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضل في أجسامها ؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .

    وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما :

    537 - حدثني به ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، وعبد الوهاب ، ومحمد بن جعفر ، عن عوف ، عن قسامة ، عن الأشعري ، قال : إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة ، وعلمه صنعة كل شيء ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أن هذه تغير وتلك لا تغير . [ ص: 394 ]

    وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله : " وأتوا به متشابها " أنه متشابه في الفضل ، أي كل واحد منه له من الفضل في نحوه ، مثل الذي للآخر في نحوه .

    قال أبو جعفر : وليس هذا قولا نستجيز التشاغل بالدلالة على فساده ، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل . وحسب قول بخروجه عن قول جميع أهل العلم دلالة على خطئه .
    [ ص: 395 ] القول في تأويل قوله : ( ولهم فيها أزواج مطهرة )

    قال أبو جعفر : والهاء والميم اللتان في " لهم " عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والهاء والألف اللتان في " فيها " عائدتان على الجنات . وتأويل ذلك : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات فيها أزواج مطهرة .

    والأزواج جمع زوج ، وهي امرأة الرجل ، يقال : فلانة زوج فلان وزوجته .

    وأما قوله : " مطهرة " فإن تأويله أنهن طهرن من كل أذى وقذى وريبة ، مما يكون في نساء أهل الدنيا ، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبصاق والمني ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره .

    538 - كما حدثنا به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما أزواج مطهرة فإنهن لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن .

    539 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " أزواج مطهرة " يقول : مطهرة من القذر والأذى .

    540 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : لا يبلن ولا يتغوطن ولا يمذين .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(34)
    الحلقة (49)
    صــ 396إلى صــ 400



    541 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه زاد فيه : ولا يمنين ولا يحضن . [ ص: 396 ]

    542 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .

    543 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

    544 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لا يبلن ولا يتغوطن ولا يحضن ولا يلدن ولا يمنين ولا يبزقن .

    545 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .

    546 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " ولهم فيها أزواج مطهرة " إي والله من الإثم والأذى .

    547 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : طهرهن الله من كل بول وغائط وقذر ، ومن كل مأثم .

    548 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال مطهرة من الحيض والحبل والأذى .

    549 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : المطهرة من الحيض والحبل .

    550 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : المطهرة التي لا تحيض . قال : وأزواج الدنيا ليست بمطهرة ، ألا تراهن يدمين ويتركن الصلاة والصيام ؟ قال ابن زيد : وكذلك خلقت حواء حتى عصت ، فلما عصت قال الله : إني خلقتك مطهرة [ ص: 397 ] وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة .

    551 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن الحسن في قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال يقول : مطهرة من الحيض .

    552 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا خالد بن يزيد ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن في قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : من الحيض .

    553 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : من الولد والحيض والغائط والبول ، وذكر أشياء من هذا النحو .
    القول في تأويل قوله : ( وهم فيها خالدون ( 25 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون . والهاء والميم من قوله " وهم " عائدة على الذين آمنوا وعملوا [ ص: 398 ] الصالحات . والهاء والألف في " فيها " على الجنات . وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الحبرة والنعيم المقيم .
    القول في تأويل قوله : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) [ ص: 399 ]

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها .

    فقال بعضهم بما :

    554 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " وقوله : " أو كصيب من السماء " الآيات الثلاث - قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله : " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة " إلى قوله : " أولئك هم الخاسرون "

    وقال آخرون بما :

    555 - حدثني به أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا قراد ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، في قوله تعالى : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ، إن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت . وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن : إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك . قال : ثم تلا ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] .

    556 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس بنحوه ، إلا أنه قال : فإذا خلت آجالهم وانقطعت مدتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت ، وتموت إذا رويت ، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل ، إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله فأهلكهم . فذلك قوله : ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] .

    وقال آخرون بما :

    557 - حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : [ ص: 400 ] " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "

    558 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "

    وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية ، وفي المعنى الذي نزلت فيه ، مذهبا ، غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحق ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس .

    وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ، ضربها للمنافقين ، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها . فلأن يكون هذا القول - أعني قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة ، أحق وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(35)
    الحلقة (50)
    صــ 401إلى صــ 405


    فإن قال قائل : إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور ، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى لما أخبر عنه : أنه لا يستحيي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت ، وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب . وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة ، فيجوز أن يقال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا . [ ص: 401 ]

    فإن ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أن قول الله جل ثناؤه : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحق من الأمثال صغيرها وكبيرها ، ابتلاء بذلك عباده واختبارا منه لهم ، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به ، إضلالا منه به لقوم ، وهداية منه به لآخرين .

    559 - كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " مثلا ما بعوضة " يعني الأمثال صغيرها وكبيرها ، يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ويضل بها الفاسقين . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .

    560 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .

    561 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد ، مثله .

    قال أبو جعفر : لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها ، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -

    562 - كما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البعوضة أضعف ما خلق الله .

    563 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، بنحوه . [ ص: 402 ]

    - خصها الله بالذكر في القلة ، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقل الأمثال في الحق وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع ، جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيب من السماء ، على ما نعتهما به من نعتهما .

    فإن قال لنا قائل : وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت ، الذي هذا الخبر جوابه ، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت ؟

    قيل : الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره " : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " وإن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الآيتين المقدمتين - اللتين مثل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بموقد النار وبالصيب من السماء ، على ما وصف من ذلك قبل قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " - قد أنكروا المثل وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قيلهم ذلك ، وقبح لهم ما نطقوا به ، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه ، وأنه ضلال وفسوق ، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه .

    وأما تأويل قوله : " إن الله لا يستحيي " فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى " إن الله لا يستحيي " : إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى : ( وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [ سورة الأحزاب : 37 ] ، ويزعم أن معنى ذلك : وتستحي الناس والله أحق أن تستحيه ، فيقول : الاستحياء بمعنى الخشية ، والخشية بمعنى الاستحياء . [ ص: 403 ]

    وأما معنى قوله : " أن يضرب مثلا " فهو أن يبين ويصف ، كما قال جل ثناؤه : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) [ سورة الروم : 28 ] ، بمعنى وصف لكم ، وكما قال الكميت :


    وذلك ضرب أخماس أريدت لأسداس عسى أن لا تكونا


    بمعنى : وصف أخماس .

    والمثل : الشبه ، يقال : هذا مثل هذا ومثله ، كما يقال : شبهه وشبهه ، ومنه قول كعب بن زهير :


    كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيدها إلا الأباطيل


    يعني شبها ، فمعنى قوله إذا : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " إن [ ص: 404 ] الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به .

    وأما " ما " التي مع " مثل " فإنها بمعنى " الذي " لأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها - مثلا .

    فإن قال لنا قائل : فإن كان القول في ذلك ما قلت ، فما وجه نصب البعوضة ، وقد علمت أن تأويل الكلام على ما تأولت : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة ، فالبعوضة على قولك في محل الرفع ؟ فأنى أتاها النصب ؟

    قيل : أتاها النصب من وجهين : أحدهما ، أن " ما " لما كانت في محل نصب بقوله " يضرب " وكانت البعوضة لها صلة ، عربت بتعريبها فألزمت إعرابها ، كما قال حسان بن ثابت :


    وكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا


    فعربت " غير " بإعراب " من " والعرب تفعل ذلك خاصة في " من " و " ما " تعرب صلاتهما بإعرابهما ، لأنهما يكونان معرفة أحيانا ، ونكرة أحيانا . [ ص: 405 ]

    وأما الوجه الآخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر " بين " و " إلى " إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في " ما " الثانية ، دلالة عليهما ، كما قالت العرب : " مطرنا ما زبالة فالثعلبية " و " له عشرون ما ناقة فجملا " و " هي أحسن الناس ما قرنا فقدما " يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها . وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول : " ما بين كذا إلى كذا " ينصبون الأول والثاني ، ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله : " ما بعوضة فما فوقها "

    وقد زعم بعض أهل العربية أن " ما " التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا فما فوقها . فعلى هذا التأويل ، يجب أن تكون " بعوضة " منصوبة ب " يضرب " وأن تكون " ما " الثانية التي في " فما فوقها " معطوفة على البعوضة لا على " ما "



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #51
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(36)
    الحلقة (51)
    صــ 406إلى صــ410

    وأما تأويل قوله " فما فوقها " : فما هو أعظم منها - عندي - لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج : أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذ كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف . وإذ كانت كذلك ، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه ، فقد يجب أن يكون المعنى [ ص: 406 ] - على ما قالاه - فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة .

    وقيل في تأويل قوله " فما فوقها " في الصغر والقلة ، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح ، فيقول السامع : " نعم ، وفوق ذاك " يعني فوق الذي وصف في الشح واللؤم ، وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضى معرفتهم بتأويل القرآن .

    فقد تبين إذا ، بما وصفنا ، أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة .

    فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة ، فغير جائز في " ما " إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول .
    القول في تأويل قوله : ( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فأما الذين آمنوا " فأما الذين صدقوا الله ورسوله . وقوله : " فيعلمون أنه الحق من ربهم " يعني : فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله ، لما ضربه له - مثل .

    564 - كما حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " [ ص: 407 ] ، أن هذا المثل الحق من ربهم ، وأنه كلام الله ومن عنده .

    565 - وكما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " أي يعلمون أنه كلام الرحمن ، وأنه الحق من الله .

    " وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا "

    قال أبو جعفر : وقوله " وأما الذين كفروا " يعني الذين جحدوا آيات الله ، وأنكروا ما عرفوا ، وستروا ما علموا أنه حق ، وذلك صفة المنافقين ، وإياهم عنى الله جل وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية ، فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي :

    566 - حدثنا به محمد عن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " الآية ، قال : يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ، ويضل بها الفاسقون . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .

    وتأويل قوله : " ماذا أراد الله بهذا مثلا " ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا . " فذا " الذي مع " ما " في معنى " الذي " وأراد صلته ، وهذا إشارة إلى المثل .
    [ ص: 408 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعز : " يضل به كثيرا " يضل الله به كثيرا من خلقه . والهاء في " به " من ذكر المثل . وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ ، ومعنى الكلام : أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر :

    567 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يضل به كثيرا " يعني المنافقين ، " ويهدي به كثيرا " يعني المؤمنين .

    - فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم ، لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له ، وأنه لما ضربه له موافق . فذلك إضلال الله إياهم به . ويهدي به " يعني بالمثل ، كثيرا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم . لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به . وذلك هداية من الله لهم به .

    وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن المنافقين ، كأنهم قالوا : ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد ، يضل به هذا ويهدي به هذا . ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله ، فقال الله : " وما يضل به إلا الفاسقين " وفيما في سورة المدثر - من قول الله : " وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء " - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك مبتدأ ، أعني قوله : " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا "
    [ ص: 409 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وما يضل به إلا الفاسقين ( 26 ) )

    وتأويل ذلك ما :

    568 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " وما يضل به إلا الفاسقين " هم المنافقون .

    569 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " وما يضل به إلا الفاسقين " فسقوا فأضلهم الله على فسقهم .

    570 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " وما يضل به إلا الفاسقين " هم أهل النفاق .

    قال أبو جعفر : وأصل الفسق في كلام العرب : الخروج عن الشيء . يقال منه : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها . ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة ، لخروجها عن جحرها ، فكذلك المنافق والكافر سميا فاسقين ، لخروجهما عن طاعة ربهما . ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس : ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) [ سورة الكهف : 50 ] ، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره .

    571 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، [ ص: 410 ] عن داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس في قوله : ( بما كانوا يفسقون ) [ سورة البقرة : 59 ] أي بما بعدوا عن أمري . فمعنى قوله : " وما يضل به إلا الفاسقين " وما يضل الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق ، إلا الخارجين عن طاعته ، والتاركين اتباع أمره ، من أهل الكفر به من أهل الكتاب ، وأهل الضلال من أهل النفاق .
    القول في تأويل قوله : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه )

    قال أبو جعفر : وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يضل بالمثل الذي ضربه لأهل النفاق غيرهم ، فقال : وما يضل الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبل في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .

    ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه :

    فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته ، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونقضهم ذلك تركهم العمل به .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #52
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(37)
    الحلقة (52)
    صــ 411إلى صــ415

    وقال آخرون : إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم " وبقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " فكل ما في هذه الآيات ، فعذل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قصصهم ، قالوا : فعهد الله الذي [ ص: 411 ] نقضوه بعد ميثاقه ، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - من العمل بما فيها ، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث ، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك الناس ، بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا .

    وقال بعضهم : إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفاق . وعهده إلى جميعهم في توحيده : ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته . وعهده إليهم في أمره ونهيه : ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها ، الشاهدة لهم على صدقهم . قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة ، وتكذيبهم الرسل والكتب ، مع علمهم أن ما أتوا به حق .

    وقال آخرون : العهد الذي ذكره الله جل ذكره ، هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ، الذي وصفه في قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ سورة الأعراف : 172 - 173 ] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به .

    وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال : إن هذه الآيات نزلت في كفار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 412 ] وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل ، ومن كان على شركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصصهم فيما مضى من كتابنا هذا .

    وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه : " إن الذين كفروا سواء عليهم " وقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " فيهم أنزلت ، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله . غير أن هذه الآيات عندي ، وإن كانت فيهم نزلت ، فإنه معني بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال ، ومعني بما وافق منها صفة المنافقين خاصة ، جميع المنافقين ، وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود ، جميع من كان لهم نظيرا في كفرهم .

    وذلك أن الله جل ثناؤه يعم أحيانا جميعهم بالصفة ، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرت قصصهم ، ويخص أحيانا بالصفة بعضهم ، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيهم ، أعني : فريق المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله ، وفريق كفار أحبار اليهود . فالذين ينقضون عهد الله ، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وتبيين نبوته للناس ، الكاتمون بيان ذلك بعد علمهم به ، وبما قد أخذ الله عليهم في ذلك ، كما قال الله جل ذكره : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم ) [ سورة آل عمران : 187 ] ، ونبذهم ذلك وراء ظهورهم هو نقضهم العهد الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه وتركهم العمل به .

    وإنما قلت : إنه عنى بهذه الآيات من قلت إنه عنى بها ، لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة - فيهم نزلت ، إلى تمام قصصهم . [ ص: 413 ] وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانه في قوله . ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ سورة البقرة : 40 ] . وخطابه إياهم - جل ذكره - بالوفاء في ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدل على أن قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " مقصود به كفارهم ومنافقوهم ، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم . غير أن الخطاب - وإن كان لمن وصفت من الفريقين - فداخل في أحكامهم ، وفيما أوجب الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ ، كل من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي .

    فمعنى الآية إذا : وما يضل به إلا التاركين طاعة الله ، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه ، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم ، في الكتب التي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه ، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس ، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته ، وترك كتمان ذلك لهم ، ونكثهم ذلك ونقضهم إياه هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفت أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك . كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله : ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ) . [ سورة الأعراف : 169 ] . [ ص: 114 ]

    وأما قوله : " من بعد ميثاقه " فإنه يعني : من بعد توثق الله فيه ، بأخذ عهوده بالوفاء له ، بما عهد إليهم في ذلك . غير أن التوثق مصدر من قولك : توثقت من فلان توثقا ، والميثاق اسم منه . والهاء في الميثاق عائدة على اسم الله .

    وقد يدخل في حكم هذه الآية كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار ، في نقض العهد وقطع الرحم والإفساد في الأرض .

    572 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " فإياكم ونقض هذا الميثاق ، فإن الله قد كره نقضه وأوعد فيه ، وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة ، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق . فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليف به لله .

    573 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون " فهي ست خلال في أهل النفاق ، إذا كانت لهم الظهرة ، أظهروا هذه الخلال الست [ ص: 415 ] جميعا : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض . وإذا كانت عليهم الظهرة ، أظهروا الخلال الثلاث إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل )

    قال أبو جعفر : والذي رغب الله في وصله وذم على قطعه في هذه الآية : الرحم . وقد بين ذلك في كتابه ، فقال تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) [ سورة محمد : 22 ] . وإنما عنى بالرحم ، أهل الرحم الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة . وقطع ذلك : ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها ، وأوجب من برها . ووصلها : أداء الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجب لها ، والتعطف عليها بما يحق التعطف به عليها .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #53
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(38)
    الحلقة (53)
    صــ 416إلى صــ420

    " وأن " التي مع " يوصل " في محل خفض ، بمعنى ردها على موضع الهاء التي في " به " : فكان معنى الكلام : ويقطعون الذي أمر الله بأن يوصل . والهاء التي في " به " هي كناية عن ذكر " أن يوصل " وبما قلنا في تأويل قوله : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " وأنه الرحم ، كان قتادة يقول : [ ص: 416 ]

    574 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة .

    وقد تأول بعضهم ذلك : أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامهم . واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية ، وأن لا دلالة على أنه معني بها بعض ما أمر الله وصله دون بعض .

    قال أبو جعفر : وهذا مذهب من تأويل الآية غير بعيد من الصواب ، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه ، فوصفهم بقطع الأرحام . فهذه نظيرة تلك ، غير أنها - وإن كانت كذلك - فهي دالة على ذم الله كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله ، رحما كانت أو غيرها .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ويفسدون في الأرض )

    قال أبو جعفر : وفسادهم في الأرض : هو ما تقدم وصفناه قبل من معصيتهم ربهم ، وكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله ، وجحدهم نبوته ، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حق من عنده .
    [ ص: 417 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك هم الخاسرون ( 27 ) )

    قال أبو جعفر : والخاسرون جمع خاسر ، والخاسرون : الناقصون أنفسهم حظوظها - بمعصيتهم الله - من رحمته ، كما يخسر الرجل في تجارته ، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه . فكذلك الكافر والمنافق ، خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة ، أحوج ما كان إلى رحمته . يقال منه : خسر الرجل يخسر خسرا وخسرانا وخسارا ، كما قال جرير بن عطية :


    إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنه

    يعني بقوله : " في الخسار " أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم . وقد قيل : إن معنى " أولئك هم الخاسرون " : أولئك هم الهالكون . وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية ، بحرمان الله إياه ما حرمه من رحمته ، بمعصيته إياه وكفره به . فحمل تأويل الكلام على معناه ، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها ، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه .

    وقال بعضهم في ذلك بما :

    575 - حدثت به عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل " خاسر " فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام ، فإنما يعني به الذنب .
    [ ص: 418 ] القول في تأويل قول الله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ( 28 ) )

    اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :

    فقال بعضهم بما :

    576 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " يقول : لم تكونوا شيئا فخلقكم ، ثم يميتكم ، ثم يحييكم يوم القيامة .

    577 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : ( أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) [ سورة غافر : 11 ] ، قال : هي كالتي في البقرة : " كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم "

    578 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : خلقتنا ولم نكن شيئا ، ثم أمتنا ، ثم أحييتنا .

    579 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : كانوا أمواتا فأحياهم الله ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم . [ ص: 419 ]

    580 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " قال : لم تكونوا شيئا حين خلقكم ، ثم يميتكم الموتة الحق ، ثم يحييكم . وقوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " مثلها .

    581 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : هو قوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين "

    582 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، في قول الله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " يقول : حين لم يكونوا شيئا ، ثم أحياهم حين خلقهم ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، ثم رجعوا إليه بعد الحياة .

    583 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم ، فهذه إحياءة . ثم يميتكم فترجعون إلى القبور ، فهذه ميتة أخرى . ثم يبعثكم يوم القيامة ، فهذه إحياءة . فهما ميتتان وحياتان ، فهو قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "

    وقال آخرون بما :

    584 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي صالح : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " قال : يحييكم في القبر ، ثم يميتكم .

    وقال آخرون بما :

    585 - حدثنا به بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، [ ص: 420 ] عن قتادة ، قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " الآية . قال : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله وخلقهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما حياتان وموتتان .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #54
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(39)
    الحلقة (54)
    صــ 421إلى صــ425

    وقال بعضهم بما :

    586 - حدثني به يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله تعالى : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق ، وقرأ : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، حتى بلغ : ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ سورة الأعراف : 172 - 173 ] . قال : فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق . قال : وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصيرى فخلق منه حواء ، ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وذلك قول الله تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ) [ سورة النساء : 1 ] ، قال : وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا ، وقرأ : ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ) [ سورة الزمر : 6 ] ، قال : خلقا بعد ذلك . قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ، ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، فذلك قول الله : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ) ، [ ص: 421 ] وقرأ قول الله : ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) [ سورة الأحزاب : 7 ] . قال : يومئذ . قال : وقرأ قول الله : ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) [ سورة المائدة : 7 ] .

    قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه ، وجه ومذهب من التأويل .

    فأما وجه تأويل من تأول قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " أي لم تكونوا شيئا ، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر : هذا شيء ميت ، وهذا أمر ميت - يراد بوصفه بالموت : خمول ذكره ، ودروس أثره من الناس . وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه : هذا أمر حي ، وذكر حي - يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس ، كما قال أبو نخيلة السعدي :


    فأحييت لي ذكري ، وما كنت خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض

    يريد بقوله : " فأحييت لي ذكري " أي : رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورا حيا ، بعد أن كان خاملا ميتا . فكذلك تأويل قول من قال في قوله : " وكنتم أمواتا " لم تكونوا شيئا ، أي كنتم خمولا لا ذكر لكم ، وذلك كان موتكم فأحياكم ، فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون ، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم ، كالذي كنتم قبل أن يحييكم ، من دروس ذكركم ، وتعفي آثاركم ، وخمول أموركم ، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ، ونفخ الروح فيها ، [ ص: 422 ] وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة ، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم .

    وأما وجه تأويل من تأول ذلك : أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد ، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله " وكنتم أمواتا " إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم . وذلك معنى بعيد ، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم ، لا استعتاب واسترجاع . وقوله جل ذكره : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " توبيخ مستعتب عباده ، وتأنيب مسترجع خلقه من المعاصي إلى الطاعة ، ومن الضلالة إلى الإنابة ، ولا إنابة في القبور بعد الممات ، ولا توبة فيها بعد الوفاة .

    وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك : أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم . فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفا لا أرواح فيها ، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها . وإحياؤه إياها تعالى ذكره ، نفخه الأرواح فيها ، وإماتته إياهم بعد ذلك ، قبضه أرواحهم . وإحياؤه إياهم بعد ذلك ، نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ، ويبعث الخلق للموعود .

    وأما ابن زيد ، فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك ، وأن الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عباده في أصلاب آبائهم ، بعد ما أخذهم من صلب آدم ، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم ، وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب ، والمصير في البرزخ إلى يوم [ ص: 423 ] البعث ، وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة .

    وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافا لظاهر قول الله الذي زعم مفسره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره . وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه - عن الذين أخبر عنهم من خلقه - أنهم قالوا : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " وزعم ابن زيد في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات ، وأماتهم ثلاث إماتات . والأمر عندنا - وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته ، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف ، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين - أعني قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " الآية ، وقوله : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " - في شيء . لأن أحدا لم يدع أن الله أمات من ذرأ يومئذ غير الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث ، فيكون جائزا أن يوجه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد .

    وقال بعضهم : الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة ، فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها . ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرا سويا بعد تارات تأتي عليها . ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه ، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور ، فيرد في جسده روحه ، فيعود حيا سويا لبعث القيامة . فذلك موتتان وحياتان . وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول ، لأنهم قالوا : موت ذي الروح مفارقة الروح إياه . فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حي [ ص: 424 ] ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح ، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح ، فارقته الحياة فصار ميتا . كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه والرجل من رجليه - لو قطعت فأبينت ، والمقطوع ذلك منه حي ، كان الذي بان من جسده ميتا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح . قالوا : فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح ، فإذا فارقته مباينة له صارت ميتة نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه . وهذا قول ووجه من التأويل ، لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضى للقرآن تأويلهم .

    وأولى ما ذكرنا - من الأقوال التي بينا - بتأويل قول الله جل ذكره : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " الآية ، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس : من أن معنى قوله : " وكنتم أمواتا " أموات الذكر ، خمولا في أصلاب آبائكم نطفا ، لا تعرفون ولا تذكرون : فأحياكم بإنشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم ، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة ، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك ، كما قال : " ثم إليه ترجعون " لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم ، ثم يحشرهم لموقف الحساب ، كما قال جل ذكره : ( يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ) [ سورة المعارج : 43 ] وقال : ( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) [ سورة يس : 51 ] . والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ، ما قد قدمنا ذكره للقائلين به ، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل .

    وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين : " آمنا بالله وباليوم الآخر " الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم ، غير مؤمنين به . وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين ، فعذلهم الله بقوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " ووبخهم واحتج عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم ، [ لبعث القيامة ، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن [ ص: 425 ] بالإحسان ، وقد كنتم نطفا أمواتا في أصلاب آبائكم ، فأنشأكم خلقا سويا ، وجعلكم أحياء ، ثم أماتكم بعد إنشائكم . فقد علمتم أن من فعل ذلك بقدرته ، غير معجزه - بالقدرة التي فعل ذلك بكم - إحياؤكم بعد إماتتكم ] وإعادتكم بعد إفنائكم ، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم .

    ثم عدد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم ، التي عظمت منهم مواقعها . ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها ، بما ركبوا من الآثام ، واجترموا من الأجرام ، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية ، محذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم ، كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم ، ومخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم ، ومعرفهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه ، وتعجيل التوبة ، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #55
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(40)
    الحلقة (55)
    صــ 426إلى صــ430


    فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون ، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه ، وما سلف منه من كرامته إليه ، وآلائه لديه ، وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به . وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه . وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل ، وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل ، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة ، منبها لهم على حكمه [ ص: 426 ] في المنيبين إليه بالتوبة ، وقضائه في المستكبرين عن الإنابة ، إعذارا من الله بذلك إليهم ، وإنذارا لهم ، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب . وخاصا أهل الكتاب - بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها ، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان - بالاحتجاج عليهم - دون غيرهم من سائر أصناف الأمم ، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك ، أنه لله رسول مبعوث ، وأن ما جاءهم به فمن عنده ، إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص ، من مكنون علومهم ، ومصون ما في كتبهم ، وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم .

    وكان معلوما من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبا ، ولا لأسفارهم تاليا ، ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا ، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم ، فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه ، مع كفرهم به ، وتركهم شكره عليها بما يجب له عليهم من طاعته : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ) [ سورة البقرة : 29 ] . فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع . أما في الدين ، فدليل على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه .

    فلذلك قال جل ذكره : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " [ ص: 427 ]

    وقوله : " هو " مكني من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله : " كيف تكفرون بالله " ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه ، إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود . و " ما " بمعنى " الذي "

    فمعنى الكلام إذا : كيف تكفرون بالله وكنتم نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرا أحياء ، ثم يميتكم ، ثم هو محييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم .

    و " كيف " بمعنى التعجب والتوبيخ ، لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويحكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : ( فأين تذهبون ) [ سورة التكوير : 26 ] . وحل قوله : " وكنتم أمواتا فأحياكم " محل الحال . وفيه ضمير " قد " ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها . وذلك أن " فعل " إذا حلت محل الحال كان معلوما أنها مقتضية " قد " كما قال جل ثناؤه : ( أو جاءوكم حصرت صدورهم ) [ سورة النساء : 90 ] ، بمعنى : قد حصرت صدورهم . وكما تقول للرجل : أصبحت كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك .

    وبنحو الذي قلنا في قوله : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " كان قتادة يقول :

    587 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " نعم والله سخر لكم ما في الأرض .


    [ ص: 428 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات )

    قال أبو جعفر : اختلفوا في تأويل قوله : " ثم استوى إلى السماء "

    فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلا على فلان ، ثم استوى علي يشاتمني ، واستوى إلي يشاتمني . بمعنى : أقبل علي وإلي يشاتمني . واستشهد على أن الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر :


    أقول وقد قطعن بنا شرورى سوامد ، واستوين من الضجوع

    فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضجوع ، وكان ذلك عنده بمعنى : أقبلن . وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ ، وإنما معنى قوله : " واستوين من الضجوع " استوين على الطريق من الضجوع خارجات ، بمعنى استقمن عليه .

    وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحول ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ، ثم تحول إلى الشام . إنما يريد : [ ص: 429 ] تحول فعله . [ وقال بعضهم : قوله : " ثم استوى إلى السماء " يعني به : استوت ] . كما قال الشاعر :


    أقول له لما استوى في ترابه على أي دين قتل الناس مصعب


    وقال بعضهم : " ثم استوى إلى السماء " عمد لها . وقال : بل كل تارك عملا كان فيه إلى آخر فهو مستو لما عمد له ، ومستو إليه .

    وقال بعضهم : الاستواء هو العلو ، والعلو هو الارتفاع . وممن قال ذلك الربيع بن أنس .

    588 - حدثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " ثم استوى إلى السماء " يقول : ارتفع إلى السماء .

    ثم اختلف متأولو الاستواء بمعنى العلو والارتفاع ، في الذي استوى إلى السماء . فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها ، هو خالقها ومنشئها . وقال بعضهم : بل العالي عليها : الدخان الذي جعله الله للأرض سماء .

    قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاء شباب الرجل وقوته ، فيقال ، إذا صار كذلك : قد استوى الرجل . ومنها استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمره . إذا استقام بعد أود ، ومنه قول الطرماح بن حكيم :


    طال على رسم مهدد أبده وعفا واستوى به بلده
    [ ص: 430 ]

    يعني : استقام به . ومنها : الإقبال على الشيء يقال استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه . ومنها . الاحتياز والاستيلاء ، كقولهم : استوى فلان على المملكة . بمعنى احتوى عليها وحازها . ومنها : العلو والارتفاع ، كقول القائل ، استوى فلان على سريره . يعني به علوه عليه .

    وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : " ثم استوى إلى السماء فسواهن " علا عليهن وارتفع ، فدبرهن بقدرته ، وخلقهن سبع سماوات .

    والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : " ثم استوى إلى السماء " الذي هو بمعنى العلو والارتفاع ، هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك - أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر . ثم لم ينج مما هرب منه! فيقال له : زعمت أن تأويل قوله " استوى " أقبل ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علو ملك وسلطان ، لا علو انتقال وزوال . ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله . ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه ، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفا . وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #56
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(41)
    الحلقة (56)
    صــ 431إلى صــ435




    قال أبو جعفر : وإن قال لنا قائل : أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟

    قيل : بعده ، وقبل أن يسويهن سبع سماوات ، كما قال جل ثناؤه : [ ص: 431 ] ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ) [ سورة فصلت : 11 ] . والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا ، وقبل أن يسويها سبع سماوات .

    وقال بعضهم : إنما قال : " استوى إلى السماء " ولا سماء ، كقول الرجل لآخر : " اعمل هذا الثوب " وإنما معه غزل .

    وأما قوله " فسواهن " فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبرهن وقومهن . والتسوية في كلام العرب ، التقويم والإصلاح والتوطئة ، كما يقال : سوى فلان لفلان هذا الأمر . إذا قومه وأصلحه ووطأه له . فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سماواته : تقويمه إياهن على مشيئته ، وتدبيره لهن على إرادته ، وتفتيقهن بعد ارتتاقهن .

    589 - كما : حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فسواهن سبع سماوات " يقول : سوى خلقهن ، " وهو بكل شيء عليم .

    وقال جل ذكره : " فسواهن " فأخرج مكنيهن مخرج مكني الجميع ، وقد قال قبل : " ثم استوى إلى السماء " فأخرجها على تقدير الواحد . وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكني الجمع ، لأن السماء جمع واحدها سماوة ، فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل ، وما أشبه ذلك . ولذلك أنثت مرة فقيل : هذه سماء ، وذكرت أخرى فقيل : ( السماء منفطر به ) [ سورة المزمل : 18 ] ، [ ص: 432 ] كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها ، فيقال : هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل ، وما أشبه ذلك .

    وكان بعض أهل العربية يزعم أن السماء واحدة ، غير أنها تدل على السماوات ، فقيل : " فسواهن " يراد بذلك التي ذكرت وما دلت عليه من سائر السماوات التي لم تذكر معها . قال : وإنما تذكر إذا ذكرت وهي مؤنثة ، فيقال : " السماء منفطر به " كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر :


    فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها


    وكما قال أعشى بني ثعلبة :


    فإما تري لمتي بدلت فإن الحوادث أزرى بها
    [ ص: 433 ]

    وقال بعضهم : السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضا فوق أرض ، فهي في التأويل واحدة إن شئت ، ثم تكون تلك الواحدة جماعا ، كما يقال : ثوب أخلاق وأسمال ، وبرمة أعشار ، للمتكسرة ، وبرمة أكسار وأجبار . وأخلاق ، أي أن نواحيه أخلاق .

    فإن قال لنا قائل : فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سماوات ، ثم سواها سبعا بعد استوائه إليها ، فكيف زعمت أنها جماع ؟

    قيل : إنهن كن سبعا غير مستويات ، فلذلك قال جل ذكره : فسواهن سبعا . كما :

    590 - حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال محمد بن إسحاق : كان أول ما خلق الله تبارك وتعالى النور والظلمة ، ثم ميز بينهما ، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما ، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا ، ثم سمك السماوات السبع من دخان - يقال ، والله أعلم ، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبكهن . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها ، وأخرج ضحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم . ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال ، وقدر فيها الأقوات ، وبث فيها ما أراد من الخلق ، ففرغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام . ثم استوى إلى السماء وهي دخان - كما قال - فحبكهن ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كل سماء أمرها ، فأكمل [ ص: 434 ] خلقهن في يومين ، ففرغ من خلق السماوات والأرض في ستة أيام . ثم استوى في اليوم السابع فوق سماواته ، ثم قال للسماوات والأرض : ائتيا طوعا أو كرها لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعا أو كرها ، قالتا : أتينا طائعين .

    فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض وما فيها - وهن سبع من دخان ، فسواهن كما وصف . وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق ، لأنه أوضح بيانا - عن خلق السماوات ، أنهن كن سبعا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره ، وأحسن شرحا لما أردنا الاستدلال به ، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها : " ثم استوى إلى السماء " بمعنى الجميع ، على ما وصفنا . وأنه إنما قال جل ثناؤه : " فسواهن " إذ كانت السماء بمعنى الجميع ، على ما بينا .

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السماوات التي ذكرها في قوله " فسواهن " إذ كن قد خلقن سبعا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذكر خلقهن بعد ذكر خلق الأرض ؟ ألأنها خلقت قبلها ، أم بمعنى غير ذلك ؟

    قيل : قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق ، ونؤكد ذلك تأكيدا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم . [ ص: 435 ]

    591 - فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء . فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء . ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين - فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن : " ن والقلم " والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض : فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرت ، فالجبال تخر على الأرض ، فذلك قوله : ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) [ سورة النحل : 15 ] . وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين - في الثلاثاء والأربعاء - وذلك حين يقول : ( أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها ) يقول : أنبت شجرها ( وقدر فيها أقواتها ) يقول : أقواتها لأهلها ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) يقول : قل لمن يسألك : هكذا الأمر ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) [ سورة فصلت : 9 - 11 ] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها [ ص: 436 ] سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين - في الخميس والجمعة - وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض " وأوحى في كل سماء أمرها " قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا ، تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب ، استوى على العرش . فذلك حين يقول : ( خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) [ سورة الأعراف : 54 ] . ويقول : ( كانتا رتقا ففتقناهما ) [ سورة الأنبياء : 30 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #57
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(42)
    الحلقة (57)
    صــ 436إلى صــ440


    592 - وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء " قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، بعضهن تحت بعض . [ ص: 437 ]

    593 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فسواهن سبع سماوات " قال : بعضهن فوق بعض ، بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام .

    594 - حدثنا المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) [ سورة النازعات : 30 ] .

    595 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل . فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .

    قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : هو الذي أنعم عليكم ، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلا منه بذلك عليكم ، ليكون لكم بلاغا في دنياكم ومتاعا إلى موافاة آجالكم ، ودليلا لكم على وحدانية ربكم . ثم علا إلى السماوات السبع وهي دخان ، فسواهن وحبكهن ، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه ، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه .

    [ ص: 438 ] القول في تأويل قوله : ( وهو بكل شيء عليم ( 29 ) )

    يعني بقوله جل جلاله : " وهو " نفسه ، وبقوله : " بكل شيء عليم " إن الذي خلقكم ، وخلق لكم ما في الأرض جميعا ، وسوى السماوات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء ، وأتقن صنعهن ، لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب - ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم ، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم على التكذيب به منطوون . وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور ، وهم بصحته عارفون . وجحدوه وكتموا ما قد أخذت عليهم - ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوته - المواثيق وهم به عالمون . بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم .

    وقوله : " عليم " بمعنى عالم . وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو الذي قد كمل في علمه .

    596 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : العالم الذي قد كمل في علمه .
    [ ص: 439 ] القول في تأويل قوله : ( وإذ قال ربك )

    قال أبو جعفر : زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة : أن تأويل قوله : " وإذ قال ربك " وقال ربك ، وأن " إذ " من الحروف الزوائد ، وأن معناها الحذف . واعتل لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يعفر :


    فإذا وذلك لا مهاه لذكره والدهر يعقب صالحا بفساد
    [ ص: 440 ]

    ثم قال : ومعناها : وذلك لا مهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن ربع الهذلي :


    حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا


    وقال : معناه ، حتى أسلكوهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #58
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(43)
    الحلقة (58)
    صــ 441إلى صــ445


    قال أبو جعفر : والأمر في ذلك بخلاف ما قال : وذلك أن " إذ " حرف يأتي بمعنى الجزاء ، ويدل على مجهول من الوقت . وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام . إذ سواء قيل قائل : هو بمعنى التطول ، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيل آخر ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به : وهو بمعنى التطول . [ ص: 441 ]

    وليس لما ادعى الذي وصفنا قوله - في بيت الأسود بن يعفر : أن " إذا " بمعنى التطول - وجه مفهوم ، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله :


    فإذا وذلك لا مهاه لذكره


    وذلك أنه أراد بقوله : فإذا الذي نحن فيه ، وما مضى من عيشنا . وأشار بقوله " ذلك " إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه " مهاه لذكره " يعني لا طعم له ولا فضل ، لإعقاب الدهر صالح ذلك بفساد . وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع :


    حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا . . . . . . . . . . . . . . . . .


    لو أسقط منه " إذا " بطل معنى الكلام ، لأن معناه : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله . " أسلكوهم شلا " على معنى المحذوف ، فاستغنى عن ذكره بدلالة " إذا " عليه ، فحذف . كما دل - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا - على ما تفعل العرب في نظائر ذلك . وكما قال النمر بن تولب :


    فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما


    وهو يريد : أينما ذهب . وكما تقول العرب : " أتيتك من قبل ومن بعد " تريد من قبل ذلك ، ومن بعد ذلك . فكذلك ذلك في " إذا " كما يقول القائل : [ ص: 442 ] " إذا أكرمك أخوك فأكرمه ، وإذا لا فلا " يريد : وإذا لم يكرمك فلا تكرمه .

    ومن ذلك قول الآخر :


    فإذا وذلك لا يضرك ضره في يوم أسأل نائلا أو أنكد


    نظير ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر . وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : " وإذ قال ربك للملائكة " لو أبطلت " إذ " وحذفت من الكلام ، لاستحال عن معناه الذي هو به ، وفيه " إذ "

    فإن قال لنا قائل : فما معنى ذلك ؟ وما الجالب ل " إذ " إذ لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه ؟

    قيل له : قد ذكرنا فيما مضى : أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " بهذه الآيات والتي بعدها ، موبخهم مقبحا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم ، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم ، ومذكرهم - بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم - بأسه ، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته ، ومعرفهم ما كان منه من تعطفه على التائب منهم استعتابا منه لهم . فكان مما عدد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، وسخر لهم ما في السماوات من شمسها [ ص: 443 ] وقمرها ونجومها ، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع ، فكان في قوله تعالى : ذكره " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " معنى : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئا ، وخلقت لكم ما في الأرض جميعا ، وسويت لكم ما في السماء . ثم عطف بقوله : " وإذ قال ربك للملائكة " على المعنى المقتضى بقوله : " كيف تكفرون بالله " إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله : اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلت ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .

    فإن قال قائل : فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت ؟ قيل : نعم ، أكثر من أن يحصى ، من ذلك قول الشاعر :


    أجدك لن ترى بثعيلبات ولا بيدان ناجية ذمولا
    ولا متدارك والشمس طفل ببعض نواشغ الوادي حمولا


    فقال : " ولا متدارك " ولم يتقدمه فعل بلفظ يعطفه عليه ، ولا حرف [ ص: 444 ] معرب إعرابه ، فيرد " متدارك " عليه في إعرابه . ولكنه لما تقدمه فعل مجحود ب " لن " يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف ، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف ، وعامل الكلام في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرا . لأن قوله :


    أجدك لن ترى بثعيلبات


    بمعنى : " أجدك لست براء " فرد " متداركا " على موضع " ترى " كأن " لست " و " الباء " موجودتان في الكلام . فكذلك قوله : " وإذ قال ربك " لما سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قبلهم وقبل آبائهم من أياديه وآلائه ، وكان قوله : " وإذ قال ربك للملائكة " مع ما بعده من النعم التي عددها عليهم ونبههم على مواقعها رد " إذ " على موضع " وكنتم أمواتا فأحياكم " لأن معنى ذلك : اذكروا هذه من نعمي ، وهذه التي قلت فيها للملائكة . فلما كانت الأولى مقتضية " إذ " عطف ب " إذ " على موضعها في الأولى ، كما وصفنا من قول الشاعر في " ولا متدارك "
    القول في تأويل قوله : ( للملائكة )

    قال أبو جعفر : والملائكة جمع ملأك ، غير أن أحدهم ، بغير الهمزة أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز ، وذلك أنهم يقولون في واحدهم : ملك من [ ص: 445 ] الملائكة ، فيحذفون الهمز منه ، ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو همز الاسم . وإنما يحركونها بالفتح ، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها : فإذا جمعوا واحدهم ، ردوا الجمع إلى الأصل وهمزوا ، فقالوا : ملائكة .

    وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها ، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة ، فيجري كلامهم بترك همزها في حال ، وبهمزها في أخرى ، كقولهم : " رأيت فلانا " فجرى كلامهم بهمز " رأيت " ثم قالوا : " نرى وترى ويرى " فجرى كلامهم في " يفعل " ونظائرها بترك الهمز ، حتى صار الهمز معها شاذا ، مع كون الهمز فيها أصلا . فكذلك ذلك في " ملك وملائكة " جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم ، وبالهمز في جميعهم . وربما جاء الواحد مهموزا ، كما قال الشاعر :


    فلست لإنسي ولكن لملأك تحدر من جو السماء يصوب


    وقد يقال في واحدهم ، مألك ، فيكون ذلك مثل قولهم : جبذ وجذب ، وشأمل وشمأل ، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة . غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم

    " مألك " أن يجمع إذا جمع على ذلك " مآلك " ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا ، ولكنهم قد يجمعون : ملائك وملائكة كما يجمع أشعث أشاعث وأشاعثة ، ومسمع مسامع ومسامعة ، قال أمية بن أبي الصلت في جمعهم كذلك :


    وفيهما من عباد الله قوم ملائك ذللوا وهم صعاب



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #59
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(44)
    الحلقة (59)
    صــ 446إلى صــ450



    وأصل الملأك : الرسالة ، كما قال عدي بن زيد العبادي : [ ص: 446 ]


    أبلغ النعمان عني ملأكا إنه قد طال حبسي وانتظاري


    وقد ينشد : مألكا ، على اللغة الأخرى ، فمن قال : ملأكا فهو مفعل ، من لأك إليه يلأك إذا أرسل إليه رسالة ملأكة ، ومن قال : مألكا فهو مفعل من ألكت إليه آلك : إذا أرسلت إليه مألكة وألوكا ، كما قال لبيد بن ربيعة :


    وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل


    فهذا من " ألكت " ومنه قول نابغة بني ذبيان :


    ألكني يا عيين إليك قولا سأهديه ، إليك إليك عني
    [ ص: 447 ]

    وقال عبد بني الحسحاس :


    ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا


    يعني بذلك : أبلغها رسالتي . فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة ، لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ، ومن أرسلت إليه من عباده .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( إني جاعل في الأرض )

    اختلف أهل التأويل في قوله : " إني جاعل " فقال بعضهم : إني فاعل .

    ذكر من قال ذلك :

    597 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن ، وأبي بكر - يعني الهذلي ، عن الحسن ، وقتادة قالوا : قال الله تعالى ذكره لملائكته : " إني جاعل في الأرض خليفة " قال لهم : إني فاعل . [ ص: 448 ]

    وقال آخرون : إني خالق .

    ذكر من قال ذلك :

    598 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، قال : كل شيء في القرآن " جعل " فهو خلق .

    قال أبو جعفر : والصواب في تأويل قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " : أي مستخلف في الأرض خليفة ، ومصير فيها خلفا . وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة .

    وقيل : إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي " مكة "

    ذكر من قال ذلك :

    599 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ابن سابط : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ، وكانت الملائكة تطوف بالبيت ، فهي أول من طاف به ، وهي " الأرض " التي قال الله : " إني جاعل في الأرض خليفة " وكان النبي إذا هلك قومه ، ونجا هو والصالحون ، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا . فإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب ، بين زمزم والركن والمقام .
    [ ص: 449 ] القول في تأويل قوله : ( خليفة )

    والخليفة الفعيلة من قولك : خلف فلان فلانا في هذا الأمر ، إذا قام مقامه فيه بعده . كما قال جل ثناؤه ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) [ سورة يونس : 14 ] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم ، فجعلكم خلفاء بعدهم . ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ، لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خلفا . يقال منه : خلف الخليفة ، يخلف خلافة وخليفى .

    وكان ابن إسحاق يقول بما :

    600 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إني جاعل في الأرض خليفة " يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ، ليس منكم .

    وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل [ ص: 450 ] ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة يسكنها - ولكن معناها ما وصفت قبل .

    فإن قال قائل : فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرا ، فكان بنو آدم منه بدلا وفيها منه خلفا ؟

    قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك .

    601 - فحدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا . فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . ثم خلق آدم فأسكنه إياها ، فلذلك قال : " إني جاعل في الأرض خليفة "

    فعلى هذا القول : " إني جاعل في الأرض خليفة " من الجن ، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #60
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(45)
    الحلقة (60)
    صــ 451إلى صــ455



    602 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " الآية ، قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم [ ص: 451 ] الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ، فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء ، وكان الفساد في الأرض .

    وقال آخرون في تأويل قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " أي خلفا يخلف بعضهم بعضا ، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم ، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله . وهذا قول حكي عن الحسن البصري .

    ونظير له ما :

    603 - حدثني به محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال : يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم .

    604 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال الله تعالى ذكره للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة . وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها خلق .

    وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن ، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة له يحكم فيها بين خلقه بحكمه ، نظير ما :

    605 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي [ ص: 452 ] صلى الله عليه وسلم : أن الله جل ثناؤه قال للملائكة : " إني جاعل في الأرض خليفة " قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي . وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه .

    وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها ، فمن غير خلفائه ، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله - لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته - إذ سألوه : ما ذاك الخليفة؟ : إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه ، وأخرج منه خليفته .

    وهذا التأويل ، وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه ، فموافق له من وجه . فأما موافقته إياه ، فصرف متأوليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة . وأما مخالفته إياه ، فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها . وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده ، بمعنى خلافة بعضهم بعضا ، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم ، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة .

    والذي دعا المتأولين قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " - في التأويل الذي ذكر عن الحسن - إلى ما قالوا في ذلك ، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها ، إذ قال لهم ربهم : " إني جاعل في الأرض خليفة " ، " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " إخبارا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه [ ص: 453 ] جاعله في الأرض لا عن غيره . لأن المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك - وكان الله قد برأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء ، وطهره من ذلك - علم أن الذي عنى به غيره من ذريته . فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم ، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك ، وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا .

    وأغفل قائلو هذه المقالة ، ومتأولو الآية هذا التأويل ، سبيل التأويل . وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها : " إني جاعل في الأرض خليفة " لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه ، بل قالت : " أتجعل فيها من يفسد فيها " ؟ وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء ، فقالت : يا ربنا " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " كما قال ابن مسعود وابن عباس ، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل .
    [ ص: 454 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )

    قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ولم يكن آدم بعد مخلوقا ولا ذريته ، فيعلموا ما يفعلون عيانا ؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك ، أم قالت ما قالت من ذلك ظنا ؟ فذلك شهادة منها بالظن وقول بما لا تعلم . وذلك ليس من صفتها . أم ما وجه قيلها ذلك لربها ؟ [ ص: 455 ] قيل : قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا . ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك ، ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة . فروي عن ابن عباس في ذلك ما :

    606 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم " الحن " خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال : وكان اسمه الحارث ، قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي . قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت . قال : وخلق الإنسان من طين . فأول من سكن الأرض الجن . فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحن - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه . وقال : " قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد " قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه ، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه . فقال الله للملائكة الذين معه : " إني جاعل في الأرض خليفة " فقالت الملائكة مجيبين له : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " كما [ ص: 456 ] أفسدت الجن وسفكت الدماء ، وإنما بعثنا عليهم لذلك ، فقال : " إني أعلم ما لا تعلمون " يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه ، من كبره واغتراره . قال : ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم من طين لازب ، واللازب : اللزج الصلب ، من حمأ مسنون : منتن . قال : وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب . قال : فخلق منه آدم بيده ، قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى . فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل - أي فيصوت - قال : فهو قول الله : ( من صلصال كالفخار ) [ سورة الرحمن : 14 ] .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •