تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 23 من 23 الأولىالأولى ... 1314151617181920212223
النتائج 441 إلى 460 من 460

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #441
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (441)
    صــ 352إلى صــ 366




    8147 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا [ ص: 352 ] جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وما كان لنبي أن يغل " ، قال : ما كان له إذا أصاب مغنما أن يقسم لبعض أصحابه ويدع بعضا ، ولكن يقسم بينهم بالسوية .

    وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح"الياء" وضم"الغين" : إنما أنزل ذلك تعريفا للناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتم من وحي الله شيئا .

    ذكر من قال ذلك :

    8148 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " ، أي : ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة ، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القيامة .

    قال أبو جعفر : فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك : ما ينبغي لنبي أن يكون غالا - بمعنى أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم .

    يقال منه : "غل الرجل فهو يغل" ، إذا خان ، "غلولا" . ويقال أيضا منه : "أغل الرجل فهو يغل إغلالا" ، كما قال شريح : " ليس على المستعير غير المغل ضمان " ، يعني : غير الخائن . ويقال منه : "أغل الجازر" ، إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد .

    وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8149 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا [ ص: 353 ] أسباط ، عن السدي : " وما كان لنبي أن يغل " ، يقول : ما كان ينبغي له أن يخون ، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا تخونوا .

    8150 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وما كان لنبي أن يغل " ، قال : أن يخون .

    وقرأ ذلك آخرون : ( وما كان لنبي أن يغل ) بضم"الياء" وفتح"الغين" ، وهي قراءة عظم قرأة أهل المدينة والكوفة .

    واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله .

    فقال بعضهم : معناه : ما كان لنبي أن يغله أصحابه ، ثم أسقط"الأصحاب" ، فبقي الفعل غير مسمى فاعله . وتأويله : وما كان لنبي أن يخان .

    ذكر من قال ذلك :

    8151 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن أنه كان يقرأ : "وما كان لنبي أن يغل" قال عوف ، قال الحسن : أن يخان .

    8152 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "وما كان لنبي أن يغل" ، يقول : وما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه من المؤمنين - ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقد غل طوائف من أصحابه .

    8153 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وما كان لنبي أن يغل " ، قال : أن يغله أصحابه .

    8154 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن [ ص: 354 ] الربيع ، قوله : " وما كان لنبي أن يغل " ، قال الربيع بن أنس ، يقول : ما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه - قال : ذكر لنا ، والله أعلم : أن هذه الآية أنزلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقد غل طوائف من أصحابه .

    وقال آخرون منهم : معنى ذلك : وما كان لنبي أن يتهم بالغلول فيخون ويسرق . وكأن متأولي ذلك كذلك ، وجهوا قوله : " وما كان لنبي أن يغل " إلى أنه مراد به : "يغلل" ، ثم خففت"العين" من"يفعل" ، فصارت"يفعل" كما قرأ من قرأ قوله : ( فإنهم لا يكذبونك ) [ سورة الأنعام : 33 ] بتأول : يكذبونك .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( وما كان لنبي أن يغل ) بمعنى : ما الغلول من صفات الأنبياء ، ولا يكون نبيا من غل .

    وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله عز وجل أوعد عقيب قوله : " وما كان لنبي أن يغل " أهل الغلول فقال : " ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " ، الآية والتي بعدها . فكان في وعيده عقيب ذلك أهل الغلول ، الدليل الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول ، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله : " وما كان لنبي أن يغل " . لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلول ، لعقب ذلك بالوعيد على التهمة وسوء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا بالوعيد على الغلول . وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول ، بيان بين ، أنه إنما عرف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتف من صفة الأنبياء وأخلاقهم ، لأن ذلك جرم عظيم ، والأنبياء لا تأتي مثله .

    [ ص: 355 ]

    فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك : فأولى منه"وما كان لنبي أن يخونه أصحابه" ، إن كان ذلك كما ذكرت ، ولم يعقب الله قوله : "وما كان لنبي أن يغل" إلا بالوعيد على الغلول ، ولكنه إنما وجب الحكم بالصحة لقراءة من قرأ : "يغل" بضم"الياء" وفتح"الغين" ، لأن معنى ذلك : وما كان للنبي أن يغله أصحابه ، فيخونوه في الغنائم؟

    قيل له : أفكان لهم أن يغلوا غير النبي صلى الله عليه وسلم فيخونوه ، حتى خصوا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم؟

    فإن قالوا : "نعم" ، خرجوا من قول أهل الإسلام . لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط .

    وإن قال قائل : لم يكن ذلك لهم في نبي ولا غيره .

    قيل : فما وجه خصوصهم إذا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغلوله وغلول بعض اليهود بمنزلة فيما حرم الله على الغال من أموالهما ، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما؟

    وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا ، من أن الله عز وجل نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه ، ناهيا بذلك عباده عن الغلول ، وآمرا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم ، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية ، ثم عقب تعالى ذكره نهيهم عن الغلول بالوعيد عليه فقال : "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" ، الآيتين معا .
    [ ص: 356 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ومن يخن من غنائم المسلمين شيئا وفيئهم وغير ذلك ، يأت به يوم القيامة في المحشر . كما : -

    8155 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قام خطيبا فوعظ وذكر ثم قال : ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته بقرة لها خوار ، يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك! ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق [ ص: 357 ] يقول : يا رسول الله ، أغثني! فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك !

    8156 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي حيان ، عن أبى زرعة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل هذا زاد فيه [ ص: 358 ] "لا ألفين أحدكم على رقبته نفس لها صياح " .

    8157 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا أبو حيان ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا يوما ، فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره فقال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ثم ذكر نحو حديث أبي كريب ، عن عبد الرحمن .

    8158 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا حفص بن بشر ، عن يعقوب القمي قال : حدثنا حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، ينادي : يا محمد ! يا محمد ! فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك! ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رغاء يقول : يا محمد ! يا محمد ! فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد بلغتك! ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة ينادي : يا محمد ! يا محمد ! فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد بلغتك! ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعا من أدم ، [ ص: 359 ] ينادي : يا محمد ! يا محمد ! فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد بلغتك .

    8159 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أسباط بن محمد قال : حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن عبد الله بن ذكوان ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حميد قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فجاء بسواد كثير ، قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقبضه منه . فلما أتوه جعل يقول : هذا لي ، وهذا لكم . قال فقالوا : من أين لك هذا؟ قال : أهدي إلي! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك ، فخرج فخطب فقال : "أيها الناس ، ما بالي أبعث قوما إلى الصدقة ، فيجيء أحدهم بالسواد الكثير ، فإذا بعثت من يقبضه قال : "هذا لي ، وهذا لكم"! فإن كان صادقا أفلا أهدي له وهو في بيت أبيه أو في بيت أمه؟" ثم قال : "أيها الناس ، من بعثناه على عمل فغل شيئا ، جاء به يوم القيامة على عنقه يحمله ، فاتقوا الله أن يأتي أحدكم يوم القيامة على عنقه بعير له رغاء ، أو بقرة تخور ، أو شاة تثغو " .

    8160 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو معاوية وابن نمير وعبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له" ابن الأتبية " على صدقات [ ص: 360 ] بني سليم ، فلما جاء قال : "هذا لكم ، وهذا هدية أهديت لي" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا يجلس أحدكم في بيته فتأتيه هديته! ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : "أما بعد ، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله ، فيقول أحدهم : هذا الذي لكم ، وهذا هدية أهديت إلي! أفلا يجلس في بيت أبيه أو في بيت أمه فتأتيه هديته؟ والذي نفسي بيده ، لا يأخذ أحدكم من ذلك شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ، فلا أعرفن ما جاء رجل يحمل بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر! ثم رفع يده فقال : "ألا هل بلغت" ؟

    8161 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي حميد ، حدثه بمثل هذا الحديث قال : أفلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك؟ ثم رفع يده حتى إني لأنظر إلى بياض إبطيه ، ثم قال : "اللهم هل بلغت؟ " قال أبو حميد : بصر عيني وسمع أذني .

    8162 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وقال : حدثني عمي عبد الله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث : أن موسى بن جبير حدثه : أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه : أن عبد الله بن أنيس حدثه : أنه تذاكر هو وعمر يوما الصدقة فقال : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر [ ص: 361 ] غلول الصدقة : " من غل منها بعيرا أو شاة ، فإنه يحمله يوم القيامة" ؟ قال عبد الله بن أنيس : بلى .

    8163 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا أبي قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقا ، فقال : إياك ، يا سعد ، أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله رغاء! قال : لا آخذه ولا أجيء به! فأعفاه . [ ص: 362 ]

    8164 - حدثنا أحمد بن المغيرة الحمصي أبو حميد قال : حدثنا الربيع بن روح قال : حدثنا ابن عياش قال : حدثني عبيد الله بن عمر بن حفص ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه استعمل سعد بن عبادة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إياك ، يا سعد ، أن تجيء يوم القيامة تحمل على عنقك بعيرا له رغاء! فقال سعد : فإن فعلت يا رسول الله ، إن ذلك لكائن! قال : نعم! قال سعد : قد علمت يا رسول الله أني أسأل فأعطى! فأعفني . فأعفاه .

    8165 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا زيد بن حبان قال : حدثنا عبد الرحمن بن الحارث قال : حدثني جدي عبيد بن أبي عبيد - وكان أول مولود [ ص: 363 ] بالمدينة - قال : استعملت على صدقة دوس ، فجاءني أبو هريرة في اليوم الذي خرجت فيه ، فسلم ، فخرجت إليه فسلمت عليه فقال : كيف أنت والبعير؟ كيف أنت والبقر؟ كيف أنت والغنم؟ ثم قال : سمعت حبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ بعيرا بغير حقه جاء به يوم القيامة له رغاء ، ومن أخذ بقرة بغير حقها جاء بها يوم القيامة لها خوار ، ومن أخذ شاة بغير حقها جاء بها يوم القيامة على عنقه لها يعار " ، فإياك والبقر فإنها أحد قرونا وأشد أظلافا .

    8166 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا خالد بن مخلد قال : حدثني محمد ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن جده عبيد بن أبي عبيد قال : استعملت على صدقة دوس ، فلما قضيت العمل قدمت ، فجاءني أبو هريرة فسلم علي فقال : أخبرني كيف أنت والإبل ثم ذكر نحو حديثه عن زيد ، إلا أنه قال : جاء به يوم القيامة على عنقه له رغاء .

    8167 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى " ، قال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم مغنما بعث مناديا : "ألا لا يغلن رجل مخيطا فما دونه ، ألا لا يغلن رجل بعيرا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء ، ألا لا يغلن رجل فرسا ، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له حمحمة " .
    القول في تأويل قوله ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ( 161 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "ثم توفى كل نفس" ، ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها ، وافيا غير منقوص ما استحقه واستوجبه من ذلك"وهم لا يظلمون" ، يقول : لا يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم ، من غير أن يعتدي عليهم فينقصوا عما استحقوه . كما : - [ ص: 365 ]

    8168 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" ، ثم يجزى بكسبه غير مظلوم ولا متعدى عليه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ( 162 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :

    فقال بعضهم : معنى ذلك : أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول ، كمن باء بسخط من الله بغلوله ما غل؟

    ذكر من قال ذلك :

    8169 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عيينة ، عن مطرف ، عن الضحاك في قوله : " أفمن اتبع رضوان الله " ، قال : من لم يغل"كمن باء بسخط من الله" ، كمن غل .

    8170 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني سفيان بن عيينة ، عن مطرف بن طريف ، عن الضحاك قوله : " أفمن اتبع رضوان الله " ، قال : من أدى الخمس"كمن باء بسخط من الله" ، فاستوجب سخطا من الله .

    وقال آخرون في ذلك بما : -

    8171 - حدثني به ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : [ ص: 366 ] " أفمن اتبع رضوان الله " ، على ما أحب الناس وسخطوا"كمن باء بسخط من الله" ، لرضى الناس وسخطهم؟ يقول : أفمن كان على طاعتي فثوابه الجنة ورضوان من ربه ، كمن باء بسخط من الله ، فاستوجب غضبه ، وكان مأواه جهنم وبئس المصير؟ أسواء المثلان؟ أي : فاعرفوا .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية عندي ، قول الضحاك بن مزاحم . لأن ذلك عقيب وعيد الله على الغلول ، ونهيه عباده عنه . ثم قال لهم بعد نهيه عن ذلك ووعيده : أسواء المطيع لله فيما أمره ونهاه ، والعاصي له في ذلك؟ أي : إنهما لا يستويان ، ولا تستوي حالتاهما عنده . لأن لمن أطاع الله فيما أمره ونهاه ، الجنة ، ولمن عصاه فيما أمره ونهاه النار .

    فمعنى قوله : " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله " إذا : أفمن ترك الغلول وما نهاه الله عنه عن معاصيه ، وعمل بطاعة الله في تركه ذلك ، وفي غيره مما أمره به ونهاه من فرائضه ، متبعا في كل ذلك رضا الله ، ومجتنبا سخطه"كمن باء بسخط من الله" ، يعني : كمن انصرف متحملا سخط الله وغضبه ، فاستحق بذلك سكنى جهنم" يقول : ليسا سواء .

    وأما قوله : "وبئس المصير" ، فإنه يعني : وبئس المصير الذي يصير إليه ويئوب إليه من باء بسخط من الله جهنم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #442
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (442)
    صــ 367إلى صــ 381





    [ ص: 367 ] القول في تأويل قوله تعالى ( هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ( 163 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أن من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله ، مختلفو المنازل عند الله . فلمن اتبع رضوان الله ، الكرامة والثواب الجزيل ، ولمن باء بسخط من الله ، المهانة والعقاب الأليم ، كما : -

    8172 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون أي : لكل درجات مما عملوا في الجنة والنار ، إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته . .

    8173 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " هم درجات عند الله " ، يقول : بأعمالهم .

    وقال آخرون : معنى ذلك : لهم درجات عند الله ، يعني : لمن اتبع رضوان الله منازل عند الله كريمة .

    ذكر من قال ذلك :

    8174 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " هم درجات عند الله " ، قال : هي كقوله : ( " لهم درجات عند الله " ) .

    8175 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " هم درجات عند الله " ، يقول : لهم درجات عند الله .

    [ ص: 368 ]

    وقيل : قوله"هم درجات" كقول القائل : "هم طبقات" ، كما قال ابن هرمة :


    أرجما للمنون يكون قومي لريب الدهر أم درج السيول


    وأما قوله : "والله بصير بما يعملون" ، فإنه يعني : والله ذو علم بما يعمل أهل طاعته ومعصيته ، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء ، يحصي على الفريقين جميعا أعمالهم ، حتى توفى كل نفس منهم جزاء ما كسبت من خير وشر ، كما : -

    8176 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " والله بصير بما يعملون " ، يقول : إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته . .
    [ ص: 369 ] القول في تأويل قوله ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ( 164 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : لقد تطول الله على المؤمنين" إذ بعث فيهم رسولا " ، حين أرسل فيهم رسولا" من أنفسهم" ، نبيا من أهل لسانهم ، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول" يتلو عليهم آياته " ، يقول : يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله" ويزكيهم" ، يعني : يطهرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم" ويعلمهم الكتاب والحكمة " ، يعني : ويعلمهم كتاب الله الذي أنزله عليه ، ويبين لهم تأويله ومعانيه"والحكمة" ، ويعني بالحكمة ، السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيانه لهم" وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " ، يعني : وإن كانوا من قبل أن يمن الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته"لفي ضلال مبين" ، يقول : في جهالة جهلاء ، وفي حيرة عن الهدى عمياء ، لا يعرفون حقا ، ولا يبطلون باطلا .

    وقد بينا أصل"الضلالة" فيما مضى ، وأنه الأخذ على غير هدى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . .

    [ ص: 370 ]

    و"المبين" ، الذي يبين لمن تأمله بعقله وتدبره بفهمه ، أنه على غير استقامة ولا هدى .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8177 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " ، من الله عليهم من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة ، جعله الله رحمة لهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم قوله : " ويعلمهم الكتاب والحكمة " ، الحكمة ، السنة" وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " ، ليس والله كما تقول أهل حروراء : "محنة غالبة ، من أخطأها أهريق دمه" ، ولكن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قوم لا يعلمون فعلمهم ، وإلى قوم لا أدب لهم فأدبهم .

    8178 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : " لقد من الله على المؤمنين " ، إلى قوله : " لفي ضلال مبين " ، أي : لقد من الله عليكم ، يا أهل الإيمان ، إذ بعث فيكم رسولا من أنفسكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم فيما أحدثتم وفيما عملتم ، ويعلمكم الخير والشر ، لتعرفوا الخير فتعملوا به ، والشر فتتقوه ، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه ، لتستكثروا من طاعته ، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته ، فتتخلصوا بذلك من نقمته ، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته" وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين " ، أي : في عمياء من الجاهلية ، [ ص: 371 ] لا تعرفون حسنة ولا تستغفرون من سيئة ، صم عن الحق ، عمي عن الهدى .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ( 165 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أوحين أصابتكم ، أيها المؤمنون ، "مصيبة" ، وهي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد ، والجرحى الذين جرحوا منهم بأحد ، وكان المشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفرا" قد أصبتم مثليها " ، يقول : قد أصبتم ، أنتم أيها المؤمنون ، من المشركين مثلي هذه المصيبة التي أصابوا هم منكم ، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين ببدر ، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين" قلتم أنى هذا " ، يعني : قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد"أنى هذا" ، من أي وجه هذا؟ ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا ، ونحن مسلمون وهم مشركون ، وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء ، وعدونا أهل كفر بالله وشرك؟"قل" يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك" هو من عند أنفسكم " ، يقول : قل لهم : أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم ، بخلافكم أمري وترككم طاعتي ، لا من عند غيركم ، ولا من قبل أحد سواكم"إن الله على كل شيء قدير" ، يقول : إن الله على جميع ما أراد بخلقه من عفو وعقوبة ، وتفضل [ ص: 372 ] وانتقام"قدير" ، يعني : ذو قدرة . .

    ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "قل هو من عند أنفسكم" ، بعد إجماع جميعهم على أن تأويل سائر الآية على ما قلنا في ذلك من التأويل .

    فقال بعضهم : تأويل ذلك : " قل هو من عند أنفسكم " ، بخلافكم على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أشار عليكم بترك الخروج إلى عدوكم والإصحار لهم حتى يدخلوا عليكم مدينتكم ، ويصيروا بين آطامكم ، فأبيتم ذلك عليه ، وقلتم : "اخرج بنا إليهم حتى نصحر لهم فنقاتلهم خارج المدينة" .

    ذكر من قال ذلك :

    8179 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " أصيبوا يوم أحد ، قتل منهم سبعون يومئذ ، وأصابوا مثليها يوم بدر ، قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين"قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم" ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد ، حين قدم أبو سفيان والمشركون ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "أنا في جنة حصينة" ، يعني بذلك المدينة ، "فدعوا القوم أن يدخلوا علينا نقاتلهم" فقال له ناس من أصحابه من الأنصار : يا نبي الله ، إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة ، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية ، فبالإسلام أحق أن نمتنع منه! فابرز بنا إلى القوم . فانطلق رسول الله صلى الله [ ص: 373 ] عليه وسلم فلبس لأمته ، فتلاوم القوم فقالوا : عرض نبي الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره! اذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم : "أمرنا لأمرك تبع" . فأتى حمزة فقال له : يا نبي الله ، إن القوم قد تلاوموا وقالوا : "أمرنا لأمرك تبع" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز ، وإنه ستكون فيكم مصيبة . قالوا : يا نبي الله ، خاصة أو عامة؟ قال : سترونها ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بقرا تنحر ، فتأولها قتلا في أصحابه ورأى أن سيفه ذا الفقار انقصم ، فكان قتل عمه حمزة ، قتل يومئذ ، وكان يقال له : أسد الله ورأى أن كبشا عتر ، . فتأوله كبش الكتيبة ، عثمان بن أبي طلحة ، أصيب يومئذ ، وكان معه لواء المشركين .

    8180 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه غير أنه قال : " قد أصبتم مثليها " ، يقول : مثلي ما أصيب منكم" قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " ، يقول : بما عصيتم .

    8181 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة ، وكانوا قد أصابوا مثليها يوم بدر ممن قتلوا وأسروا ، فقال الله عز وجل : " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " .

    8182 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 374 ] ابن جريج ، عن عمر بن عطاء ، عن عكرمة قال : قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين ، فذلك قوله : " قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " إذ نحن مسلمون ، نقاتل غضبا لله وهؤلاء مشركون" قل هو من عند أنفسكم " ، عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ما قال .

    8183 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن : " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " ، قالوا : فإنما أصابنا هذا لأنا قبلنا الفداء يوم بدر من الأسارى ، وعصينا النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فمن قتل منا كان شهيدا ، ومن بقي منا كان مطهرا ، رضينا ربنا ! .

    8184 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن وابن جريج قالا معصيتهم أنه قال لهم : "لا تتبعوهم" ، يوم أحد ، فاتبعوهم .

    8185 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، ثم ذكر ما أصيب من المؤمنين - يعني بأحد - وقتل منهم سبعون إنسانا" أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " ، كانوا يوم بدر أسروا سبعين رجلا وقتلوا سبعين" قلتم أنى هذا " ، أي : من أين هذا" قل هو من عند أنفسكم " ، أنكم عصيتم .

    8186 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " يقول : إنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد . [ ص: 375 ]

    8187 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ثم ذكر المصيبة التي أصابتهم فقال : " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " ، أي : إن تك قد أصابتكم مصيبة في إخوانكم ، فبذنوبكم ، قد أصبتم مثليها قبل من عدوكم في اليوم الذي كان قبله ببدر ، قتلى وأسرى ، ونسيتم معصيتكم وخلافكم ما أمركم به نبيكم صلى الله عليه وسلم . أنتم أحللتم ذلك بأنفسكم . "إن الله على كل شيء قدير" ، أي : إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو ، قدير . .

    8188 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " ، الآية ، يعني بذلك : أنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد .

    وقال بعضهم : بل تأويل ذلك : " قل هو من عند أنفسكم " ، بإساركم المشركين يوم بدر ، وأخذكم منهم الفداء ، وترككم قتلهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8189 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث بن سوار ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتتقووا به على [ ص: 376 ] عدوكم ، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون أو تقتلوهم . فقالوا : بل نأخذ الفدية منهم ويقتل منا سبعون . قال : فأخذوا الفدية منهم ، وقتلوا منهم سبعين قال عبيدة : وطلبوا الخيرتين كلتيهما .

    8190 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : أنه قال في أسارى بدر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم . قالوا : بل نأخذ الفداء فنستمتع به ، ويستشهد منا بعدتهم .

    8191 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني إسماعيل ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن عبيدة السلماني وحدثني حجاج ، عن جرير ، عن محمد ، عن عبيدة السلماني عن علي قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا محمد ، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم . قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم ، فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا!! لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره! قال : فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر .
    [ ص: 377 ] القول في تأويل قوله ( وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ( 166 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والذي أصابكم"يوم التقى الجمعان" ، وهو يوم أحد ، حين التقى جمع المسلمين والمشركين . ويعني ب"الذي أصابهم" ، ما نال من القتل من قتل منهم ، ومن الجراح من جرح منهم"فبإذن الله ، " يقول : فهو بإذن الله كان يعني : بقضائه وقدره فيكم . .

    وأجاب"ما" بالفاء ، لأن"ما" حرف جزاء ، وقد بينت نظير ذلك فيما مضى قبل .

    "وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا " ، بمعنى : وليعلم الله المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا ، أصابكم ما أصابكم يوم التقى الجمعان بأحد ، ليميز أهل الإيمان بالله ورسوله المؤمنين منكم من المنافقين فيعرفونهم ، لا يخفى عليهم أمر الفريقين .

    وقد بينا تأويل قوله : " وليعلم المؤمنين " فيما مضى ، وما وجه ذلك ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال ابن إسحاق .

    8192 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين " ، أي : ما أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوكم ، فبإذني كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم ، بعد أن جاءكم [ ص: 378 ] نصري ، وصدقتكم وعدي ، ليميز بين المنافقين والمؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا منكم ، أي : ليظهروا ما فيهم .
    القول في تأويل قوله : ( وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ( 167 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وأصحابه ، الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم ، فقال لهم المسلمون : تعالوا قاتلوا المشركين معنا ، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم ، ولكنا معكم عليهم ، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتال! فأبدوا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه ، وأبدوا بألسنتهم بقولهم : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " ، غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به ، كما : -

    8193 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا ، كلهم قد حدث قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشوط بين [ ص: 379 ] أحد والمدينة ، انخزل عنهم عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس وقال : أطاعهم فخرج وعصاني! والله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس!! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم ، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوهم! فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكنا لا نرى أن يكون قتال! فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم ، قال : أبعدكم الله أعداء الله! فسيغني الله عنكم! ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    8194 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا " ، يعني : عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى عدوه من المشركين بأحد وقوله : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " ، يقول : لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم ، ولدفعنا عنكم ، ولكن لا نظن أن يكون قتال . فظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم يقول الله عز وجل : " هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " ، يظهرون لك الإيمان ، وليس في قلوبهم ، "والله أعلم بما يكتمون" ، أي : يخفون .

    8195 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني يوم أحد - في ألف رجل ، وقد وعدهم الفتح إن صبروا . فلما خرجوا ، رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة ، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم ، فلما غلبوه وقالوا له : ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا [ ص: 380 ] لترجعن معنا! قال : فذكر الله أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول ، وقول عبد الله بن جابر بن عبد الله الأنصاري حين دعاهم فقالوا : "ما نعلم قتالا ولئن أطعتمونا لترجعن معنا" ، فقال : ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت ) . .

    8196 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال عكرمة : "قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم" ، قال : نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول قال ابن جريج ، وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد "لو نعلم قتالا" ، قال : لو نعلم أنا واجدون معكم قتالا لو نعلم مكان قتال ، لاتبعناكم .

    واختلفوا في تأويل قوله"أو ادفعوا" .

    فقال بعضهم : معناه : أو كثروا ، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم .

    ذكر من قال ذلك :

    8197 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أو ادفعوا " ، يقول : أو كثروا .

    8198 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " أو ادفعوا " ، قال : بكثرتكم العدو ، وإن لم يكن قتال .

    وقال آخرون : معنى ذلك : أو رابطوا إن لم تقاتلوا .

    ذكر من قال ذلك :

    8198 م - حدثنا إسماعيل بن حفص الآيلي وعلي بن سهل الرملي قالا حدثنا [ ص: 381 ] الوليد بن مسلم قال : حدثنا عتبة بن ضمرة قال : سمعت أبا عون الأنصاري في قوله : " قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا " ، قال : رابطوا .

    وأما قوله : " والله أعلم بما يكتمون " ، فإنه يعني به : والله أعلم من هؤلاء المنافقين الذين يقولون للمؤمنين : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " ، بما يضمرون في أنفسهم للمؤمنين ويكتمونه فيسترونه من العداوة والشنآن ، وأنهم لو علموا قتالا ما تبعوهم ولا دافعوا عنهم ، وهو تعالى ذكره محيط بما هم مخفوه من ذلك ، مطلع عليه ، ومحصيه عليهم ، حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا فيفضحهم به ، ويصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ( 168 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " وليعلم الله الذين نافقوا "" الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا " .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #443
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (443)
    صــ 382إلى صــ 396




    فموضع"الذين" نصب على الإبدال من"الذين نافقوا" . وقد يجوز أن [ ص: 382 ] يكون رفعا على الترجمة عما في قوله : "يكتمون" من ذكر"الذين نافقوا" .

    فمعنى الآية : وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأحد يوم أحد فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم"وقعدوا" ، يعني : وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا - مما أخبر الله عز وجل عنهم من قيلهم - عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله"لو أطاعونا" ، يعني : لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا"ما قتلوا" يعني : ما قتلوا هنالك قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "قل" ، يا محمد ، لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين فادرأوا" ، يعني : فادفعوا .

    من قول القائل : "درأت عن فلان القتل" ، بمعنى دفعت عنه ، أدرؤه درءا" ، ومنه قول الشاعر :


    تقول وقد درأت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني


    يقول تعالى ذكره : قل لهم : فادفعوا إن كنتم ، أيها المنافقون ، صادقين في قيلكم : لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريش ، ما قتلوا هنالك بالسيف ، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم ، وتخلفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه [ عن أنفسكم ] الموت ، فإنكم قد قعدتم عن حربهم وقد تخلفتم عن جهادهم ، وأنتم لا محالة ميتون . كما : - [ ص: 383 ]

    8199 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " الذين قالوا لإخوانهم " ، الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم" لو أطاعونا ما قتلوا " الآية ، أي : أنه لا بد من الموت ، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا . وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله ، حرصا على البقاء في الدنيا ، وفرارا من الموت .

    ذكر من قال : الذين قالوا لإخوانهم هذا القول ، هم الذين قال الله فيهم : "وليعلم الذين نافقوا" .

    8200 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " الآية ، ذكر لنا أنها نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي .

    8201 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : هم عبد الله بن أبي وأصحابه .

    8202 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : هو عبد الله بن أبي الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد : " لو أطاعونا ما قتلوا " ، الآية قال ابن جريج ، عن مجاهد قال : قال جابر بن عبد الله : هو عبد الله بن أبي ابن سلول .

    8203 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا " الآية ، قال : نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي .
    [ ص: 384 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ( 169 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : "ولا تحسبن" ، ولا تظنن . كما : -

    8204 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ولا تحسبن" ، ولا تظنن .

    وقوله : "الذين قتلوا في سبيل الله" ، يعني : الذين قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمواتا" ، يقول : ولا تحسبنهم ، يا محمد ، أمواتا ، لا يحسون شيئا ، ولا يلتذون ولا يتنعمون ، فإنهم أحياء عندي ، متنعمون في رزقي ، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي ، وحبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي ، كما : -

    8205 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق وحدثني [ ص: 385 ] يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ابن إسحاق عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش . فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا! لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب! فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم . فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات . [ ص: 386 ]

    8206 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق بن الأجدع قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآيات : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله " الآية ، قال : أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا : إنه لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فيطلع الله إليهم اطلاعة فيقول : يا عبادي ، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون : ربنا ، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! ثلاث مرات - ثم يطلع فيقول : يا عبادي ، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون : ربنا ، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! إلا أنا نختار أن ترد أرواحنا في أجسادنا ، ثم تردنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى" . .

    8207 - حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : سألنا [ ص: 387 ] عبد الله عن هذه الآية ثم ذكر نحوه وزاد فيه : إني قد قضيت أن لا ترجعوا . .

    8208 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء ، ولولا عبد الله ما أخبرنا به أحد! قال : أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم ترجع إلى قناديلها ، فيطلع إليها ربها ، فيقول : ماذا تريدون؟ فيقولون : نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى .

    8209 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن [ ص: 388 ] ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهداء على بارق على نهر بباب الجنة في قبة خضراء وقال عبدة : "في روضة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا" .

    8210 - حدثنا أبو كريب ، وأنبأنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا أنه قال : في قبة خضراء وقال : يخرج عليهم فيها .

    8211 - حدثنا ابن وكيع ، وأنبأنا ابن إدريس ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

    8212 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال محمد بن إسحاق ، وحدثني الحارث بن الفضيل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد الأنصاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا .

    8213 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني أيضا يعني إسماعيل بن عياش عن ابن إسحاق ، عن الحارث بن الفضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .

    8214 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال محمد بن إسحاق ، وحدثني بعض أصحابي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أبشرك يا جابر؟ [ ص: 389 ] قال قلت : بلى ، يا رسول الله! قال : إن أباك حيث أصيب بأحد ، أحياه الله ثم قال له : ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال : يا رب ، أحب أن تردني إلى الدنيا ، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى" . .

    8215 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا ليتنا نعلم ما فعل [ ص: 390 ] إخواننا الذين قتلوا يوم أحد ! فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك القرآن : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ، وأن مساكنهم السدرة . .

    8216 - حدثت عن عمار ، وأنبأنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه إلا أنه قال : تعارف في طير خضر وبيض وزاد فيه أيضا : وذكر لنا عن بعضهم في قوله : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء " ، قال : هم قتلى بدر وأحد .

    8217 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال : قالوا : يا رب ، ألا رسول لنا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تبارك وتعالى : أنا رسولكم ، فأمر جبريل عليه السلام أن يأتي بهذه الآية : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله " ، الآيتين .

    8218 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآيات : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " ، قال : أرواح الشهداء عند الله كطير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت . قال : فاطلع إليهم ربك اطلاعة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا : ربنا ، ألسنا نسرح في الجنة في أيها شئنا! ثم اطلع عليهم الثالثة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا : تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرة أخرى! فسكت عنهم . [ ص: 391 ]

    8219 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله : أنهم قالوا في الثالثة حين قال لهم : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا : تقرئ نبينا عنا السلام ، وتخبره أن قد رضينا ورضي عنا .

    8220 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، يرغب المؤمنين في ثواب الجنة ويهون عليهم القتل : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " ، أي : قد أحييتهم ، فهم عندي يرزقون في روح الجنة وفضلها ، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه . [ ص: 392 ]

    8221 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك قال : كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر ، يبلون فيه خيرا ، يرزقون فيه الشهادة ، ويرزقون فيه الجنة والحياة في الرزق ، فلقوا المشركين يوم أحد ، فاتخذ الله منهم شهداء ، وهم الذين ذكرهم الله فقال : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا " الآية .

    8222 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر الشهداء فقال : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم " إلى قوله : " ولا هم يحزنون " ، زعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ، في قناديل من ذهب معلقة بالعرش ، فهي ترعى بكرة وعشية في الجنة ، تبيت في القناديل ، فإذا سرحن نادى مناد : ماذا تريدون؟ ماذا تشتهون؟ فيقولون : ربنا ، نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألهم ربهم أيضا : ماذا تشتهون؟ وماذا تريدون؟ فيقولون : نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألون الثالثة ، فيقولون ما قالوا : ولكنا نحب أن ترد أرواحنا في أجسادنا! لما يرون من فضل الثواب .

    8223 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا عباد قال : حدثنا إبراهيم بن معمر ، عن الحسن قال : ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حيا ما يموت . ثم تلا هذه الآية : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" .

    8224 - حدثنا محمد بن مرزوق قال : حدثنا عمر بن يونس ، عن عكرمة قال : [ ص: 393 ] حدثنا إسحاق بن أبي طلحة قال : حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة ، قال : لا أدري أربعين أو سبعين . قال : وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غارا مشرفا على الماء قعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال - أراه أبو ملحان الأنصاري - : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج حتى أتى حيا منهم ، فاحتبى أمام البيوت ثم قال : يا أهل بئر معونة ، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله . فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح ، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر ، فزت ورب الكعبة! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه ، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل قال : قال إسحاق : حدثني أنس بن مالك : إن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا ، رفع بعدما قرأناه زمانا . وأنزل الله : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) . . [ ص: 394 ]

    8225 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، [ ص: 395 ] عن الضحاك قال : لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لقوا ربهم ، فأكرمهم ، فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب ، قالوا : يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا! فقال الله تبارك وتعالى : أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم . فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " إلى قوله : "ولا هم يحزنون" . فهذا النبأ الذي بلغ الله رسوله والمؤمنين ما قال الشهداء .

    وفي نصب قوله : "فرحين" وجهان .

    أحدهما : أن يكون منصوبا على الخروج من قوله : "عند ربهم" . والآخر من قوله : "يرزقون" . ولو كان رفعا بالرد على قوله : "بل أحياء فرحون" ، كان جائزا .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 170 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من جهاد أعداء الله مع رسوله ، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه ، فهم لذلك مستبشرون بهم ، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك [ ص: 396 ] " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، يعني بذلك : لا خوف عليهم ، لأنهم قد أمنوا عقاب الله ، وأيقنوا برضاه عنهم ، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها ، للخفض الذي صاروا إليه والدعة والزلفة . .

    ونصب"أن لا" بمعنى : يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8226 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " الآية ، يقول : لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم ، لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم .

    8227 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " الآية ، قال : يقولون : إخواننا يقتلون كما قتلنا ، يلحقونا فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #444
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (444)
    صــ 397إلى صــ 411






    8228 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا عن بعضهم في قوله : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " ، قال : هم قتلى بدر وأحد ، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة ، جعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في [ ص: 397 ] الجنة ، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش . فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة ، قالوا : ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه! فإذا شهدوا قتالا تعجلوا إلى ما نحن فيه! فقال الله تعالى : إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه . ففرحوا به واستبشروا ، وقالوا : يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه ، فإذا شهدوا قتالا أتوكم! قال : فذلك قوله : "فرحين بما آتاهم الله من فضله" إلى قوله : " أجر المؤمنين " .

    8229 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " ، أي : ويسرون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم ، وأذهب الله عنهم الخوف والحزن . .

    8230 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " ، قال : هم إخوانهم من الشهداء ممن يستشهد من بعدهم"لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" حتى بلغ : "وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين" .

    8231 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما" ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " ، فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله ، فيقال : "يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا" ، فيستبشر حين يقدم عليه ، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا .
    القول في تأويل قوله [ ص: 398 ] ( يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ( 171 ) )

    قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : "يستبشرون" ، يفرحون"بنعمة من الله" ، يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه"وفضل" يقول : وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعدائه" وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " ، كما : -

    8232 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن أبي إسحاق : "يستبشرون بنعمة من الله وفضل" الآية ، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيم الثواب .

    واختلفت القرأة في قراءة قوله : "وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين" .

    فقرأ ذلك بعضهم بفتح"الألف" من"أن" بمعنى : يستبشرون بنعمة من الله وفضل ، وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين .

    وبكسر"الألف" ، على الاستئناف . واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها في قراءة عبد الله : ( " وفضل والله لا يضيع أجر المؤمنين" ) . قالوا : فذلك دليل على أن قوله : "وإن الله" مستأنف غير متصل بالأول . .

    ومعنى قوله : "لا يضيع أجر المؤمنين" ، لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه ، وعمل بما جاءه من عند الله .

    [ ص: 399 ]

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب ، قراءة من قرأ ذلك : "وأن الله" بفتح"الألف" ، لإجماع الحجة من القرأة على ذلك .
    القول في تأويل قوله تعالى ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ( 172 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين" ، المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجرح والكلوم . .

    وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك : الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو - أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش - منصرفهم عن أحد . وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد ، وهي على ثمانية أميال من المدينة ، ليرى الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم . كالذي : -

    8233 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني حسين بن عبد الله ، عن عكرمة قال : كان يوم أحد [ يوم ] السبت للنصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم أحد ، يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب [ ص: 400 ] العدو ، وأذن مؤذنه أن : "لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس" . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع ، وقال لي : "يا بني ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي! فتخلف على أخواتك" ، فتخلفت عليهن . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج معه . وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ، ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ، ليظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم .

    8234 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل ، كان شهد أحدا قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا ، أنا وأخ لي ، فرجعنا جريحين : فلما أذن [ مؤذن ] رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا منه ، فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها ثلاثا ، الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . [ ص: 401 ]

    8235 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فقال الله تبارك وتعالى : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " ، أي : الجراح ، وهم الذين ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم أحد إلى حمراء الأسد ، على ما بهم من ألم الجراح" للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " .

    8236 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " الآية ، وذلك يوم أحد ، بعد القتل والجراح ، وبعدما انصرف المشركون - أبو سفيان وأصحابه - فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " ألا عصابة تنتدب لأمر الله ، تطلب عدوها؟ فإنه أنكى للعدو ، وأبعد للسمع! فانطلق عصابة منهم على ما يعلم الله تعالى من الجهد .

    8237 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : انطلق أبو سفيان منصرفا من أحد ، حتى بلغ بعض الطريق ، ثم إنهم ندموا وقالوا : بئسما صنعتم! إنكم قتلتموهم ، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا واستأصلوهم . فقذف الله في قلوبهم الرعب ، فهزموا ، فأخبر الله رسوله ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، ثم رجعوا من حمراء الأسد ، فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " .

    8238 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 402 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الله جل وعز قذف في قلب أبي سفيان الرعب - يعني يوم أحد - بعد ما كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب"! وكانت وقعة أحد في شوال ، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد ، وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم . وإن رسول الله ندب الناس لينطلقوا معه ، ويتبعوا ما كانوا متبعين ، وقال : إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل ، فجاء الشيطان فخوف أولياءه ، فقال : "إن الناس قد جمعوا لكم"! فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : "إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد" ، لأحضض الناس . فانتدب معه أبا بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعليا ، والزبير ، وسعدا ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبا عبيدة بن الجراح ، في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله تعالى : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " .

    8239 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هاشم بن القاسم قال : حدثنا أبو سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير : يا ابن أختي ، أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر والزبير - لممن قال الله تعالى فيهم : "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" . . [ ص: 403 ]

    8240 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرت أن أبا سفيان بن حرب لما راح هو وأصحابه يوم أحد ، قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : إنهم عامدون إلى المدينة ! فقال : إن ركبوا الخيل وتركوا الأثقال : فإنهم عامدون إلى المدينة ، وإن جلسوا على الأثقال وتركوا الخيل ، فقد رعبهم الله ، وليسوا بعامديها" . فركبوا الأثقال : فرعبهم الله . ثم ندب ناسا يتبعونهم ليروا أن بهم قوة ، فاتبعوهم ليلتين أو ثلاثا ، فنزلت : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " .

    8241 - حدثني سعيد بن الربيع قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قالت لي عائشة : إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح - تعني أبا بكر والزبير . . [ ص: 404 ]

    8242 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : كان عبد الله من الذين استجابوا لله والرسول .

    قال أبو جعفر : فوعد تعالى ذكره ، محسن من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، إذا اتقى الله فخافه ، فأدى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره"أجرا عظيما" ، وذلك الثواب الجزيل ، والجزاء العظيم على ما قدم من صالح أعماله في الدنيا .
    القول في تأويل قوله ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( 173 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : "وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين" ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " .

    [ ص: 405 ]

    و"الذين" في موضع خفض مردود على"المؤمنين" ، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول .

    و"الناس" الأول ، هم قوم - فيما ذكر لنا - كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد .

    و"الناس" الثاني ، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش ، الذين كانوا معه بأحد .

    ويعني بقوله : " قد جمعوا لكم " ، قد جمعوا الرجال للقائكم والكرة إليكم لحربكم"فاخشوهم" ، يقول : فاحذروهم ، واتقوا لقاءهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم" فزادهم إيمانا " ، يقول : فزادهم ذلك من تخويف من خوفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين ، يقينا إلى يقينهم ، وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه ، وقالوا ثقة بالله وتوكلا عليه ، إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين" حسبنا الله ونعم الوكيل " ، يعني بقوله : "حسبنا الله" ، كفانا الله ، يعني : يكفينا الله" ونعم الوكيل " ، يقول : ونعم المولى لمن وليه وكفله .

    وإنما وصف تعالى نفسه بذلك ، لأن"الوكيل" ، في كلام العرب ، هو المسند إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره . فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات ، قد كانوا فوضوا أمرهم إلى الله ، ووثقوا به ، وأسندوا ذلك إليه ، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك ، وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة فقال : ونعم الوكيل الله تعالى لهم .

    [ ص: 406 ]

    واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الناس قد جمعوا لكم " .

    فقال بعضهم : قيل ذلك لهم في وجههم الذين خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد إلى حمراء الأسد ، في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين .

    ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك ، ومن قائله :

    8243 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : مر به - يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم - معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة ، مسلمهم ومشركهم ، عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة ، صفقتهم معه ، لا يخفون عليه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : والله يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء ، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا! حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟! لنكرن على بقيتهم ، فلنفرغن منهم" . فلما رأى أبو سفيان معبدا [ ص: 407 ] قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد ، قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط! . قال : ويلك! ما تقول؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل! قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم! قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر! قال : وما قلت؟ قال : قلت :


    كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردي بأسد كرام لا تنابلة
    عند اللقاء ولا خرق معازيل [ ص: 408 ] فظلت عدوا ، أظن الأرض مائلة
    لما سموا برئيس غير مخذول فقلت : ويل ابن حرب من لقائكم
    إذا تغطمطت البطحاء بالخيل إني نذير لأهل البسل ضاحية
    لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش قنابله
    وليس يوصف ما أنذرت بالقيل



    قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه . ومر به ركب من عبد القيس . فقال : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة . قال : ولم؟ قالوا : نريد الميرة . قال : فهل [ ص: 409 ] أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها ، وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا : نعم . قال : فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم! فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : "حسبنا الله ونعم الوكيل" .

    8244 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فقال الله : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ، و"الناس" الذين قالوا لهم ما قالوا النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال : إن أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم! يقول الله تبارك وتعالى : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " الآية .

    8245 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما ندموا يعني أبا سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : "ارجعوا فاستأصلوهم" ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا ، فلقوا أعرابيا فجعلوا له جعلا فقالوا له : إن لقيت محمدا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم! فأخبر الله جل ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فلقوا الأعرابي في الطريق ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل"! ثم رجعوا من حمراء الأسد . فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " . [ ص: 410 ]

    8246 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيرا واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حبال ، فقال : إن لكم علي رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدا ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي ، وأخبرتموه أني قد جمعت له جموعا كثيرة . فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعا كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل! فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينا ، وقالوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " . فأنزل الله تبارك وتعالى : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " الآية .

    8247 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم ، حتى كانوا بذي الحليفة ، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم فيقولون لهم : هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس! فقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل" . فأنزل الله تعالى فيهم : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " .

    وقال آخرون : بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له ، في غزوة بدر الصغرى ، وذلك في مسير النبي صلى الله عليه وسلم عام قابل من وقعة أحد للقاء عدوه أبي سفيان وأصحابه ، للموعد الذي كان واعده الالتقاء بها .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 411 ]

    8248 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم" ، قال : هذا أبو سفيان قال لمحمد : "موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا" ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : "عسى"! فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرا ، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا ، فذلك قوله تبارك وتعالى : "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" ، وهي غزوة بدر الصغرى .

    8249 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه وزاد فيه : وهي بدر الصغرى قال ابن جريج : لما عبى النبي صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش ، فيقولون : "قد جمعوا لكم"! يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم ، فيقول المؤمنون : "حسبنا الله ونعم الوكيل" ، حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد . قال : وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه السلام ، وقال في ذلك :


    نفرت قلوصي عن خيول محمد وعجوة منثورة كالعنجد
    واتخذت ماء قديد موعدي



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #445
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (445)
    صــ 412إلى صــ 426





    قال أبو جعفر : هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ ، وإنما هو :

    [ ص: 412 ]
    قد نفرت من رفقتي محمد وعجوة من يثرب كالعنجد
    تهوي على دين أبيها الأتلد قد جعلت ماء قديد موعدي


    وماء ضجنان لها ضحى الغد


    8250 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : كانت بدر متجرا في الجاهلية ، فخرج ناس من المسلمين يريدونه ، ولقيهم ناس من المشركين فقالوا لهم : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم "! فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة ، وقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل"! فأتوهم فلم يلقوا أحدا ، فأنزل الله عز وجل فيهم : "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم" قال ابن يحيى قال : عبد الرزاق قال : ابن عيينة : وأخبرني زكريا ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار ، فقال : "حسبنا الله ونعم الوكيل" .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : "إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش ، منصرفهم عن أحد إلى حمراء الأسد " . [ ص: 413 ] لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم : "حسبنا الله ونعم الوكيل" ، لما قيل لهم : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " ، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم بقوله : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " ، ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد .

    وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى ، فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمه . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها ، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها ، بعد سنة من غزوة أحد ، في شعبان سنة أربع من الهجرة . وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث ، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع ، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه ، ولكن قد كان قتل في وقعة الرجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى . وكانت وقعة الرجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي صلى الله عليه وسلم بدر الصغرى .
    [ ص: 414 ] القول في تأويل قوله ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ( 174 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فانقلبوا بنعمة من الله " ، فانصرف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، من وجههم الذي توجهوا فيه - وهو سيرهم في أثر عدوهم - إلى حمراء الأسد "بنعمة من الله" ، يعني : بعافية من ربهم ، لم يلقوا بها عدوا . "وفضل" ، يعني : أصابوا فيها من الأرباح بتجارتهم التي تجروا بها ، الأجر الذي اكتسبوه : "لم يمسسهم سوء" يعني : لم ينلهم بها مكروه من عدوهم ولا أذى"واتبعوا رضوان الله" ، يعني بذلك : أنهم أرضوا الله بفعلهم ذلك ، واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من اتباع أثر العدو ، وطاعتهم"والله ذو فضل عظيم" ، يعني : والله ذو إحسان وطول عليهم - بصرف عدوهم الذي كانوا قد هموا بالكرة إليهم ، وغير ذلك من أياديه عندهم وعلى غيرهم - بنعمه"عظيم" عند من أنعم به عليه من خلقه .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8251 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 415 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " ، قال : والفضل ما أصابوا من التجارة والأجر .

    8252 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : وافقوا السوق فابتاعوا ، وذلك قوله : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " . قال : الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر قال ابن جريج : ما أصابوا من البيع نعمة من الله وفضل ، أصابوا عفوه وغرته لا ينازعهم فيه أحد قال : وقوله : " لم يمسسهم سوء " ، قال : قتل" واتبعوا رضوان الله " ، قال : طاعة النبي صلى الله عليه وسلم .

    8253 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "والله ذو فضل عظيم" ، لما صرف عنهم من لقاء عدوهم .

    8254 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أطاعوا الله وابتغوا حاجتهم ، ولم يؤذهم أحد ، " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " .

    8255 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى غزوة بدر الصغرى - ببدر دراهم ، ابتاعوا بها من موسم بدر فأصابوا تجارة ، فذلك قول الله : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله " . أما"النعمة" فهي العافية ، وأما"الفضل" فالتجارة ، و"السوء" القتل .
    [ ص: 416 ] القول في تأويل قوله ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : إنما الذي قال لكم ، أيها المؤمنون : "إن الناس قد جمعوا لكم" ، فخوفوكم بجموع عدوكم ومسيرهم إليكم ، من فعل الشيطان ألقاه على أفواه من قال ذلك لكم ، يخوفكم بأوليائه من المشركين - أبي سفيان وأصحابه من قريش - لترهبوهم ، وتجبنوا عنهم ، كما : -

    8256 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، يخوف والله المؤمن بالكافر ، ويرهب المؤمن بالكافر .

    8257 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، قال : يخوف المؤمنين بالكفار .

    8258 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، يقول : الشيطان يخوف المؤمنين بأوليائه .

    8259 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، أي : أولئك الرهط ، يعني النفر من عبد القيس ، الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا ، وما ألقى الشيطان على أفواههم"يخوف أولياءه" ، أي : يرهبكم بأوليائه .

    8260 - حدثني يونس قال : أخبرنا علي بن معبد ، عن عتاب بن بشير مولى قريش ، عن سالم الأفطس في قوله : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، قال : يخوفكم بأوليائه .

    [ ص: 417 ]

    وقال آخرون : معنى ذلك ، إنما ذلكم الشيطان يعظم أمر المشركين ، أيها المنافقون ، في أنفسكم فتخافونه .

    ذكر من قال ذلك :

    8261 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر أمر المشركين وعظمهم في أعين المنافقين فقال : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " ، يعظم أولياءه في صدوركم فتخافونه .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : "يخوف أولياءه"؟ وهل يخوف الشيطان أولياءه؟ [ وكيف ] قيل إن كان معناه يخوفكم بأوليائه"يخوف أولياءه"؟ قيل : ذلك نظير قوله : ( لينذر بأسا شديدا ) [ سورة الكهف : 2 ] بمعنى : لينذركم بأسه الشديد ، وذلك أن البأس لا ينذر ، وإنما ينذر به .

    وقد كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : معنى ذلك : يخوف الناس أولياءه ، كقول القائل : "هو يعطي الدراهم ، ويكسو الثياب" ، بمعنى : هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب ، فحذف ذلك للاستغناء عنه .

    قال أبو جعفر : وليس الذي شبه [ من ] ذلك بمشتبه ، لأن"الدراهم" في قول القائل : "هو يعطي الدراهم" ، معلوم أن المعطى هي"الدراهم" ، وليس كذلك"الأولياء" - في قوله : "يخوف أولياءه" - مخوفين ، بل التخويف من الأولياء لغيرهم ، فلذلك افترقا .
    [ ص: 418 ] القول في تأويل قوله ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ( 175 ) )

    قال أبو جعفر : يقول : فلا تخافوا ، أيها المؤمنون ، المشركين ، ولا يعظمن عليكم أمرهم ، ولا ترهبوا جمعهم ، مع طاعتكم إياي ، ما أطعتموني واتبعتم أمري ، وإني متكفل لكم بالنصر والظفر ، ولكن خافون واتقوا أن تعصوني وتخالفوا أمري ، فتهلكوا"إن كنتم مؤمنين" ، يقول : ولكن خافون دون المشركين ودون جميع خلقي ، أن تخالفوا أمري ، إن كنتم مصدقي رسولي وما جاءكم به من عندي .
    القول في تأويل قوله ( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا )

    قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : ولا يحزنك ، يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر مرتدين على أعقابهم من أهل النفاق ، فإنهم لن يضروا الله بمسارعتهم في الكفر شيئا ، وكما أن مسارعتهم لو سارعوا إلى الإيمان لم تكن بنافعته ، كذلك مسارعتهم إلى الكفر غير ضارته . كما : -

    8262 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ، يعني : أنهم المنافقون . [ ص: 419 ]

    8263 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ، أي : المنافقون .
    القول في تأويل قوله ( يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم ( 176 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يريد الله أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر ، نصيبا في ثواب الآخرة ، فلذلك خذلهم فسارعوا فيه . ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من ثواب الآخرة ، لهم عذاب عظيم في الآخرة ، وذلك عذاب النار . وقال ابن إسحاق في ذلك بما : -

    8264 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة " ، أن يحبط أعمالهم .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ( 177 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه المنافقين الذين تقدم إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم : أن لا يحزنه مسارعتهم إلى الكفر ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : [ ص: 420 ] إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفر بإيمانهم فارتدوا عن إيمانهم بعد دخولهم فيه ، ورضوا بالكفر بالله وبرسوله ، عوضا من الإيمان ، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم عن إيمانهم شيئا ، بل إنما يضرون بذلك أنفسهم ، بإيجابهم بذلك لها من عقاب الله ما لا قبل لها به .

    وإنما حث الله جل ثناؤه بهذه الآيات من قوله : ( وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ) إلى هذه الآية ، عباده المؤمنين على إخلاص اليقين ، والانقطاع إليه في أمورهم ، والرضى به ناصرا وحده دون غيره من سائر خلقه ورغب بها في جهاد أعدائه وأعداء دينه ، وشجع بها قلوبهم ، وأعلمهم أن من وليه بنصره فلن يخذل ولو اجتمع عليه جميع من خالفه وحاده ، وأن من خذله فلن ينصره ناصر ينفعه نصره ، ولو كثرت أعوانه ونصراؤه ، كما : -

    8265 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان " ، أي : المنافقين"لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم" ، أي : موجع .

    8266 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هم المنافقون .
    [ ص: 421 ] القول في تأويل قوله ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ( 178 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله ، أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم .

    ويعني ب" الإملاء " ، الإطالة في العمر ، والإنساء في الأجل ، ومنه قوله جل ثناؤه : ( واهجرني مليا ) [ سورة مريم : 46 ] أي : حينا طويلا ومنه قيل : "عشت طويلا وتمليت حبيبا" . "والملا" نفسه الدهر ، "والملوان" ، الليل والنهار ، ومنه قول تميم بن مقبل :


    ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلى الملوان
    [ ص: 422 ]

    يعني : ب"الملوان" ، الليل والنهار .

    وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم " .

    فقرأ ذلك جماعة منهم : ( ولا يحسبن ) بالياء ، وبفتح"الألف" من قوله : "أنما" ، على المعنى الذي وصفت من تأويله .

    وقرأه آخرون : ( ولا تحسبن ) بالتاء و"أنما" أيضا بفتح"الألف" من"أنما" ، بمعنى : ولا تحسبن ، يا محمد ، الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم .

    فإن قال قائل : فما الذي من أجله فتحت"الألف" من قوله : "أنما" في قراءة من قرأ بالتاء ، وقد علمت أن ذلك إذا قرئ بالتاء فقد أعملت"تحسبن" ، في"الذين كفروا" ، وإذا أعملتها في ذلك ، لم يجز لها أن تقع على"أنما" لأن"أنما" إنما يعمل فيها عامل يعمل في شيئين نصبا؟

    قيل : أما الصواب في العربية ووجه الكلام المعروف من كلام العرب ، كسر"إن" إذا قرئت"تحسبن" بالتاء ، لأن"تحسبن" إذا قرئت بالتاء فإنها قد نصبت"الذين كفروا" ، فلا يجوز أن تعمل ، وقد نصبت اسما ، في"أن" . ولكني أظن أن من قرأ ذلك بالتاء في"تحسبن" وفتح الألف من"أنما" ، إنما أراد تكرير تحسبن على"أنما" ، كأنه قصد إلى أن معنى الكلام : ولا تحسبن ، يا محمد أنت ، الذين كفروا ، لا تحسبن أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، كما قال جل ثناؤه : ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ) [ سورة محمد : 18 ] بتأويل : هل ينظرون إلا الساعة ، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة . وذلك وإن كان وجها [ ص: 423 ] جائزا في العربية ، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل .



    قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ : ( ولا يحسبن الذين كفروا ) بالياء من"يحسبن" ، وبفتح الألف من"أنما" ، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم ، ثم يعمل في"أنما" نصبا لأن"يحسبن" حينئذ لم يشغل بشيء عمل فيه ، وهي تطلب منصوبين .

    وإنما اخترنا ذلك لإجماع القرأة على فتح"الألف" من"أنما" الأولى ، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة فى"يحسبن" بالياء لما وصفنا .

    وأما ألف"إنما" الثانية ، فالكسر على الابتداء ، بإجماع من القرأة عليه :

    وتأويل قوله : "إنما نملي لهم ليزدادوا إثما" ، إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثما ، يقول : يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر"ولهم عذاب مهين" ، يقول : ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الآخرة عقوبة لهم مهينة مذلة .

    وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الأثر .

    8267 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود قال : قال عبد الله : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها . وقرأ : " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " ، وقرأ : ( نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ) [ سورة آل عمران : 198 ] .
    [ ص: 424 ] القول في تأويل قوله ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : "ما كان الله ليذر المؤمنين" ، ما كان الله ليدع المؤمنين"على ما أنتم عليه" من التباس المؤمن منكم بالمنافق ، فلا يعرف هذا من هذا"حتى يميز الخبيث من الطيب" ، يعنى بذلك : "حتى يميز الخبيث" وهو المنافق المستسر للكفر"من الطيب" ، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان ، بالمحن والاختبار ، كما ميز بينهم يوم أحد عند لقاء العدو عند خروجهم إليهم .

    واختلف أهل التأويل في"الخبيث" الذي عنى الله بهذه الآية .

    فقال بعضهم فيه ، مثل قولنا .

    ذكر من قال ذلك :

    8268 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثني أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : [ ص: 425 ] " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " ، قال : ميز بينهم يوم أحد ، المنافق من المؤمن .

    8269 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " ، قال : ابن جريج ، يقول : ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب قال ابن جريج ، قال مجاهد : يوم أحد ، ميز بعضهم عن بعض ، المنافق عن المؤمن .

    8270 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " ، أي : المنافقين .

    وقال آخرون : معنى ذلك : حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد .

    ذكر من قال ذلك :

    8271 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " ، يعني الكفار . يقول : لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة : "حتى يميز الخبيث من الطيب" ، يميز بينهم في الجهاد والهجرة .

    8272 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " حتى يميز الخبيث من الطيب " ، قال : حتى يميز الفاجر من المؤمن .

    8273 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " [ ص: 426 ] قالوا : "إن كان محمد صادقا ، فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر"!! فأنزل الله : "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" ، حتى يخرج المؤمن من الكافر .

    قال أبو جعفر : والتأويل الأول أولى بتأويل الآية ، لأن الآيات قبلها في ذكر المنافقين ، وهذه في سياقتها . فكونها بأن تكون فيهم ، أشبه منها بأن تكون في غيرهم .
    القول في تأويل قوله ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم بما : -

    8274 - حدثنا به محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ، وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب ، ولكن الله اجتباه فجعله رسولا .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #446
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (446)
    صــ 427إلى صــ 441





    وقال آخرون بما : -

    8275 - حدثنا به ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ، أي : فيما يريد أن يبتليكم به ، لتحذروا ما يدخل [ ص: 427 ] عليكم فيه"ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء" ، يعلمه .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بتأويله : وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده ، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر ، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد وجهاد عدوه ، وما أشبه ذلك من صنوف المحن ، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم . غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء فيصطفيه ، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم ، بوحيه ذلك إليه ورسالته ، كما : -

    8276 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء " ، قال : يخلصهم لنفسه .

    وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الآية ، لأن ابتداءها خبر من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده - يعني بغير محن - حتى يفرق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم . ثم عقب ذلك بقوله : " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر ، دلالة واضحة على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم ، إلا بالذي ذكر أنه مميز به نعتهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه .
    [ ص: 428 ] القول في تأويل قوله ( فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ( 179 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "وإن تؤمنوا" ، وإن تصدقوا من اجتبيته من رسلي بعلمي وأطلعته على المنافقين منكم"وتتقوا" ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه" فلكم أجر عظيم " ، يقول : فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم ، ثواب عظيم ، كما : -

    8277 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا " ، أي : ترجعوا وتتوبوا"فلكم أجر عظيم" .
    القول في تأويل قوله ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :

    فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق : ( " ولا تحسبن الذين يبخلون" ) بالتاء من"تحسبن" .



    وقرأته جماعة أخر : ( ولا يحسبن ) بالياء .

    [ ص: 429 ]

    ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك .

    فقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم فاكتفى بذكر"يبخلون" من"البخل" ، كما تقول : "قدم فلان فسررت به" ، وأنت تريد : فسررت بقدومه . و"هو" ، عماد .

    وقال بعض نحويي أهل البصرة : إنما أراد بقوله : " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم ""لا يحسبن البخل هو خيرا لهم" ، فألقى الاسم الذي أوقع عليه"الحسبان" به ، هو البخل ، لأنه قد ذكر"الحسبان" وذكر ما آتاهم الله من فضله" ، فأضمرهما إذ ذكرهما . [ ص: 430 ] قال : وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا ، قال : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) ولم يقل : "ومن أنفق من بعد الفتح" ، لأنه لما قال : ( أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد ) [ سورة الحديد : 10 ] ، كان فيه دليل على أنه قد عناهم .

    وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة : إن"من" في قوله : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ) في معنى جمع . ومعنى الكلام : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم ، فكيف من أنفق من بعد الفتح؟ فالأول مكتف . وقال : في قوله "لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم " محذوف ، غير أنه لم يحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف ، لأن"هو" عائد البخل ، و"خيرا لهم" عائد الأسماء ، فقد دل هذان العائدان على أن قبلهما اسمين ، واكتفى بقوله : "يبخلون" من"البخل" .

    قال : وهذا إذا قرئ ب"التاء" ، ف"البخل" قبل"الذين" ، وإذا قرئ ب"الياء" ، ف"البخل" بعد"الذين" ، وقد اكتفى ب"الذين يبخلون" ، من البخل ، كما قال الشاعر :


    [ ص: 431 ] إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف


    كأنه قال : جرى إلى السفه ، فاكتفى عن"السفه" ب"السفيه" ، كذلك اكتفى ب"الذين يبخلون" ، من"البخل" .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( " ولا تحسبن الذين يبخلون" ) بالتاء ، بتأويل : ولا تحسبن ، أنت يا محمد ، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ثم ترك ذكر"البخل" ، إذ كان في قوله : " هو خيرا لهم " دلالة على أنه مراد في الكلام ، إذ كان قد تقدمه قوله : " الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " .

    وإنما قلنا : قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء ، لأن"المحسبة" من شأنها طلب اسم وخبر ، فإذا قرئ قوله : " ولا يحسبن الذين يبخلون " بالياء : لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله : " هو خيرا لهم " خبرا عنه . وإذا قرئ ذلك بالتاء ، كان قوله : "الذين يبخلون" اسما له قد أدى عن معنى"البخل" الذي هو اسم المحسبة المتروك ، وكان قوله : "هو خيرا لهم" خبرا لها ، فكان جاريا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح . فلذلك اخترنا القراءة ب"التاء" في ذلك على ما بيناه ، وإن كانت القراءة ب"الياء" غير خطأ ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب .

    قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك : ولا تحسبن ، يا محمد ، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال ، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات ، هو خيرا [ ص: 432 ] لهم عند الله يوم القيامة ، بل هو شر لهم عنده في الآخرة ، كما : -

    8278 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم " ، هم الذين آتاهم الله من فضله ، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ، ولم يؤدوا زكاتها .

    وقال آخرون : بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته .

    ذكر من قال ذلك :

    8279 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " إلى" سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، يعني بذلك أهل الكتاب ، أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس .

    8280 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " ، قال : هم يهود ، إلى قوله : ( والكتاب المنير ) [ سورة آل عمران : 184 ] .

    وأولى التأويلين بتأويل هذه الآية ، التأويل الأول ، وهو أنه معني ب"البخل" في هذا الموضع ، منع الزكاة ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأول قوله : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) قال : البخيل الذي منع حق الله منه ، أنه يصير ثعبانا في عنقه ولقول الله عقيب هذه الآية : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) ، فوصف جل ثناؤه قول المشركين من [ ص: 433 ] اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقير .
    القول في تأويل قوله ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "سيطوقون" ، سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاة ، طوقا في أعناقهم كهيئة الأطواق المعروفة ، كالذي : -

    8281 - حدثني الحسن بن قزعة قال : حدثنا مسلمة بن علقمة قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة ، عن أبي مالك العبدي قال : ما من عبد يأتيه ذو رحم له ، يسأله من فضل عنده فيبخل عليه ، إلا أخرج له الذي بخل به عليه شجاعا أقرع . قال : وقرأ : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " إلى آخر الآية . [ ص: 434 ]

    8282 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن أبى قزعة ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه" .

    8283 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة حجر بن بيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل أعطاه الله إياه ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه" . ثم قرأ : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " حتى انتهى إلى قوله : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " . [ ص: 435 ]

    8284 - حدثني زياد بن عبيد الله المري قال : حدثنا مروان بن معاوية وحدثني عبد الله بن عبد الله الكلابي قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد ، واللفظ ليعقوب جميعا ، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، عن أبيه . عن جده قال : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده ، فيمنعه إياه ، إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع . [ ص: 436 ]

    8285 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : ثعبان ينقر رأس أحدهم ، يقول : أنا مالك الذي بخلت به ! .

    8286 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت أبا وائل يحدث : أنه سمع عبد الله قال في هذه الآية : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : شجاع يلتوي برأس أحدهم .

    8287 - حدثني ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة قال : حدثنا خلاد بن أسلم قال : أخبرنا النضر بن شميل قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بمثله - إلا أنهما قالا قال : شجاع أسود .

    8288 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، [ ص: 437 ] عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : يجيء ماله يوم القيامة ثعبانا ، فينقر رأسه فيقول : أنا مالك الذي بخلت به! فينطوي على عنقه .

    8289 - حدثت عن سفيان بن عيينة قال : حدثنا جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله ، إلا مثل له شجاع أقرع يطوقه . ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم " الآية . [ ص: 438 ]

    8290 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثني أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما" سيطوقون ما بخلوا به " ، فإنه يجعل ماله يوم القيامة شجاعا أقرع يطوقه ، فيأخذ بعنقه ، فيتبعه حتى يقذفه في النار .

    8291 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم ، عن أبي وائل قال : هو الرجل الذي يرزقه الله مالا فيمنع قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية فيطوقها ، فيقول : ما لي ولك! فيقول : أنا مالك!

    8292 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو غسان قال : حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق قال : سألت ابن مسعود عن قوله : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : يطوقون شجاعا أقرع ينهش رأسه .

    وقال آخرون : معنى ذلك : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، فيجعل في أعناقهم طوقا من نار .

    ذكر من قال ذلك :

    8293 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : طوقا من النار . [ ص: 439 ]

    8294 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : طوقا من نار .

    8295 - حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : " سيطوقون" ، قال : طوقا من نار .

    8296 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : طوقا من نار .

    وقال آخرون : معنى ذلك : سيحمل الذين كتموا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود ، ما كتموا من ذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    8297 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس قوله : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، ألم تسمع أنه قال : ( يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) [ سورة النساء : 37\ سورة الحديد : 24 ] ، يعني أهل الكتاب : يقول : يكتمون ، ويأمرون الناس بالكتمان .

    وقال آخرون : معنى ذلك : سيكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8298 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، قال : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به ، إلى قوله : "والكتاب المنير" . [ ص: 440 ]

    8299 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " سيطوقون" ، سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية ، التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدأ قوله : " سيطوقون ما بخلوا به " ، للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد أعلم بما عنى الله تبارك وتعالى بتنزيله ، منه عليه السلام .
    القول في تأويل قوله ( ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير ( 180 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنه الحي الذي لا يموت ، والباقي بعد فناء جميع خلقه .

    فإن قال قائل : فما معنى قوله : "له ميراث السماوات والأرض" ، و"الميراث" المعروف ، هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته ، ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده؟

    قيل : إن معنى ذلك ما وصفنا ، من وصفه نفسه بالبقاء ، وإعلام خلقه أنه كتب عليهم الفناء . وذلك أن ملك المالك إنما يصير ميراثا بعد وفاته ، فإنما قال جل ثناؤه : " ولله ميراث السماوات والأرض " ، إعلاما بذلك منه عباده أن أملاك جميع [ ص: 441 ] خلقه منتقلة عنهم بموتهم ، وأنه لا أحد إلا وهو فان سواه ، فإنه الذي إذا أهلك جميع خلقه فزالت أملاكهم عنهم ، لم يبق أحد يكون له ما كانوا يملكونه غيره .

    وإنما معنى الآية : " ولا تحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، بعد ما يهلكون وتزول عنهم أملاكهم ، في الحين الذي لا يملكون شيئا ، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه .

    ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل وغيرهم من سائر خلقه ، ذو خبرة وعلم ، محيط بذلك كله ، حتى يجازي كلا منهم على قدر استحقاقه ، المحسن بالإحسان ، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره .
    القول في تأويل قوله ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق )

    قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #447
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (447)
    صــ 442إلى صــ 456







    ذكر الآثار بذلك :

    8300 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدراس ، فوجد من يهود ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ، كان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له أشيع . فقال أبو بكر رضي الله عنه [ ص: 442 ] لفنحاص : ويحك يا فنحاص ، اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل! قال فنحاص : والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم! ينهاكم عن الربا ويعطيناه! ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا! فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله! فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، انظر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت؟"فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء! فلما قال ذلك غضبت لله مما قال : فضربت وجهه . فجحد ذلك فنحاص وقال : ما قلت ذلك! فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص ، ردا عليه وتصديقا لأبي بكر : "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق" وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب : ( لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) [ سورة آل عمران : 186 ] .

    8301 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد [ ص: 443 ] بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : دخل أبو بكر فذكر نحوه ، غير أنه قال : "وإنا عنه لأغنياء ، وما هو عنا بغني ، ولو كان غنيا" ، ثم ذكر سائر الحديث نحوه .

    8302 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " ، قالها فنحاص اليهودي من بني مرثد ، لقيه أبو بكر فكلمه فقال له : يا فنحاص ، اتق الله وآمن وصدق ، وأقرض الله قرضا حسنا! فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا فقير يستقرضنا أموالنا! وما يستقرض إلا الفقير من الغني! إن كان ما تقول حقا ، فإن الله إذا لفقير! فأنزل الله عز وجل هذا ، فقال أبو بكر : فلولا هدنة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني مرثد لقتلته .

    8303 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : صك أبو بكر رجلا منهم الذين قالوا : " إن الله فقير ونحن أغنياء " ، لم يستقرضنا وهو غني؟! وهم يهود .

    8304 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : " الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " ، لم يستقرضنا وهو غني؟ قال شبل : بلغني أنه فنحاص اليهودي ، وهو الذي قال : " إن الله ثالث ثلاثة " و"يد الله مغلولة" .

    8305 - حدثنا ابن حميد قال : حدثني يحيى بن واضح قال : حدثت عن عطاء ، عن الحسن قال : لما نزلت : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) [ سورة البقرة : 245\ سورة الحديد : 11 ] قالت اليهود : إن ربكم يستقرض منكم! فأنزل الله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " . [ ص: 444 ]

    8306 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن الحسن البصري قال : لما نزلت : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قال : عجبت اليهود فقالت : إن الله فقير يستقرض! فنزلت : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " .

    8307 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" ، ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب ، لما أنزل الله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) قال : يستقرضنا ربنا ، إنما يستقرض الفقير الغني!

    8308 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ، قالت اليهود : إنما يستقرض الفقير من الغني!! قال : فأنزل الله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " .

    8309 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " ، قال : هؤلاء يهود .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود : "إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه" ، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم ، وقتلهم أنبياءهم بغير حق .

    واختلفت القرأة في قراءة قوله : "سنكتب ما قالوا وقتلهم" .

    فقرأ ذلك قرأة الحجاز وعامة قرأة العراق : ( سنكتب ما قالوا ) بالنون ، [ ص: 445 ] " وقتلهم الأنبياء بغير حق " بنصب"القتل" .

    وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين : ( " سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق" ) بالياء من"سيكتب" وبضمها ، ورفع"القتل" ، على مذهب ما لم يسم فاعله ، اعتبارا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله : "ونقول ذوقوا" ، يذكر أنها في قراءة عبد الله : "ويقال" .

    فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تنسب إلى عبد الله ، وخالف الحجة من قرأة الإسلام . وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ : "سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء" على وجه ما لم يسم فاعله ، أن يقرأ : "ويقال" ، لأن قوله : "ونقول" عطف على قوله : "سنكتب" . فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعا على مذهب ما لم يسم فاعله ، أو على مذهب ما يسمى فاعله . فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله ، والآخر على وجه ما قد سمي فاعله ، من غير معنى ألجأه على ذلك ، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب .

    قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : "سنكتب" بالنون"وقتلهم" بالنصب ، لقوله : "ونقول" ، ولو كانت القراءة في"سيكتب" [ ص: 446 ] بالياء وضمها ، لقيل : "ويقال" ، على ما قد بينا .

    فإن قال قائل : كيف قيل : "وقتلهم الأنبياء بغير حق" ، وقد ذكرت في الآثار التي رويت ، أن الذين عنوا بقوله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير " بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن من أولئك أحد قتل نبيا من الأنبياء ، لأنهم لم يدركوا نبيا من أنبياء الله فيقتلوه؟

    قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه . وإنما قيل ذلك كذلك ، لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية ، كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء ، وكانوا منهم وعلى منهاجهم ، من استحلال ذلك واستجازته . فأضاف جل ثناؤه فعل ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته ، إلى جميعهم ، إذ كانوا أهل ملة واحدة ونحلة واحدة ، وبالرضى من جميعهم فعل ما فعل فاعل ذلك منهم ، على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل .
    القول في تأويل قوله ( ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 182 ) ( 181 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "ونقول" للقائلين بأن الله فقير ونحن أغنياء ، القاتلين أنبياء الله بغير حق يوم القيامة" ذوقوا عذاب الحريق " ، يعني بذلك : عذاب نار محرقة ملتهبة .

    [ ص: 447 ]

    و"النار" اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة ، وإنما"الحريق" صفة لها يراد أنها محرقة ، كما قيل : "عذاب أليم" يعني : مؤلم ، و"وجيع" يعني : موجع .

    وأما قوله : "ذلك بما قدمت أيديكم" ، أي : قولنا لهم يوم القيامة ، " ذوقوا عذاب الحريق " ، بما أسلفت أيديكم واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا ، وبأن الله عدل لا يجور فيعاقب عبدا له بغير استحقاق منه العقوبة ، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت ، ويوفي كل عامل جزاء ما عمل ، فجازى الذين قال لهم [ ذلك ] يوم القيامة من اليهود الذين وصف صفتهم ، فأخبر عنهم أنهم قالوا : " إن الله فقير ونحن أغنياء " ، وقتلوا الأنبياء بغير حق بما جازاهم به من عذاب الحريق ، بما اكتسبوا من الآثام ، واجترحوا من السيئات ، وكذبوا على الله بعد الإعذار إليهم بالإنذار . فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالما ، ولا واضعا عقوبته في غير أهلها . وكذلك هو جل ثناؤه ، غير ظلام أحدا من خلقه ، ولكنه العادل بينهم ، والمتفضل على جميعهم بما أحب من فواضله ونعمه .
    [ ص: 448 ] القول في تأويل قوله ( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ( 183 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : لقد سمع الله قول الذين قالوا : " إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول " .

    وقوله : " الذين قالوا إن الله ، في موضع خفض ردا على قوله : " الذين قالوا إن الله فقير " .

    ويعني بقوله : "قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول" ، أوصانا ، وتقدم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه"أن لا نؤمن لرسول" ، يقول : أن لا نصدق رسولا فيما يقول إنه جاء به من عند الله من أمر ونهي وغير ذلك" حتى يأتينا بقربان تأكله النار " ، يقول : حتى يجيئنا بقربان ، وهو ما تقرب به العبد إلى ربه من صدقة .

    وهو مصدر مثل"العدوان" و"الخسران" من قولك : "قربت قربانا" .

    وإنما قال : "تأكله النار" ، لأن أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان ، كان دليلا على قبول الله منه ما قرب له ، ودلالة على صدق المقرب فيما ادعى أنه محق فيما نازع أو قال : كما : -

    8310 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " حتى يأتينا بقربان تأكله النار " ، [ ص: 449 ] كان الرجل يتصدق ، فإذا تقبل منه ، أنزلت عليه نار من السماء فأكلته .

    8311 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " بقربان تأكله النار " ، كان الرجل إذا تصدق بصدقة فتقبلت منه ، بعث الله نارا من السماء فنزلت على القربان فأكلته .

    فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : [ قل ، يا محمد ، للقائلين : إن الله عهد إلينا ] أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار : [ قد جاءكم ] رسل من قبلي بالبينات" ، يعني : بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم" وبالذي قلتم " ، يعني : وبالذي ادعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه والإقرار بنبوته ، من أكل النار قربانه إذا قرب لله دلالة على صدقه ، " فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين " ، يقول له : قل لهم : قد جاءتكم الرسل الذين كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم ، فقتلتموهم ، فلم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم" إن كنتم صادقين " في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقربان تأكله النار حجة له على نبوته؟

    قال أبو جعفر : وإنما أعلم الله عباده بهذه الآية : أن الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لن يعدوا أن يكونوا [ ص: 450 ] في كذبهم على الله وافترائهم على ربهم وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمونه صادقا محقا ، وجحودهم نبوته وهم يجدونه مكتوبا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه ، مفروضة طاعته إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيدهم الله بها ، والأدلة التي أبان صدقهم بها ، افتراء على الله ، واستخفافا بحقوقه .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ( 184 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا تعزية من الله جل ثناؤه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على الأذى الذي كان يناله من اليهود وأهل الشرك بالله من سائر أهل الملل . يقول الله تعالى له : لا يحزنك ، يا محمد ، كذب هؤلاء الذين قالوا : " إن الله فقير " ، وقالوا : " إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار " ، وافتراؤهم على ربهم اغترارا بإمهال الله إياهم ، ولا يعظمن عليك تكذيبهم إياك ، وادعاؤهم الأباطيل من عهود الله إليهم ، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذبوك وكذبوا على الله ، فقد كذبت أسلافهم من رسل الله قبلك من جاءهم بالحجج القاطعة العذر ، والأدلة الباهرة العقل ، والآيات المعجزة الخلق ، وذلك هو البينات .

    وأما"الزبر" فإنه جمع"زبور" ، وهو الكتاب ، وكل كتاب فهو : "زبور" ، ومنه قول امرئ القيس :

    [ ص: 451 ]
    لمن طلل أبصرته فشجاني؟ كخط زبور في عسيب يماني


    ويعني : ب"الكتاب" ، التوراة والإنجيل . وذلك أن اليهود كذبت عيسى وما جاء به ، وحرفت ما جاء به موسى عليه السلام من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبدلت عهده إليهم فيه ، وأن النصارى جحدت ما في الإنجيل من نعته ، وغيرت ما أمرهم به في أمره .

    وأما قوله : "المنير" ، فإنه يعني : الذي ينير فيبين الحق لمن التبس عليه ويوضحه .

    وإنما هو من"النور" والإضاءة ، يقال : "قد أنار لك هذا الأمر" ، بمعنى : أضاء لك وتبين ، "فهو ينير إنارة ، والشيء منير" ، وقد : -

    8312 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك " ، قال : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم .

    8313 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك " ، قال : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم .

    وهذا الحرف في مصاحف أهل الحجاز والعراق : "والزبر" بغير"باء" ، وهو في مصاحف أهل الشام : "وبالزبر" بالباء ، مثل الذي في"سورة فاطر" . [ 25 ] .
    [ ص: 452 ] القول في تأويل قوله ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ( 185 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود ، المكذبين برسوله ، الذين وصف صفتهم ، وأخبر عن جراءتهم على ربهم ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره ، ومرجع جميعهم إليه . لأنه قد حتم الموت على جميعهم ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك تكذيب من كذبك ، يا محمد ، من هؤلاء اليهود وغيرهم ، وافتراء من افترى علي ، فقد كذب قبلك رسل جاءوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه ، بمثل الذي جئت من أرسلت إليه ، فلك فيهم أسوة تتعزى بهم ، ومصير من كذبك وافترى علي وغيرهم ومرجعهم إلي ، فأوفي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة ، كما قال جل ثناؤه : " وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " ، يعني : أجور أعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر" فمن زحزح عن النار " ، يقول : فمن نحي عن النار وأبعد منها"فقد فاز" ، يقول : فقد نجا وظفر بحاجته .

    يقال منه : "فاز فلان بطلبته ، يفوز فوزا ومفازا ومفازة" ، إذا ظفر بها .

    وإنما معنى ذلك : فمن نحي عن النار فأبعد منها وأدخل الجنة ، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " ، يقول : وما لذات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها"إلا متاع الغرور " ، يقول : إلا متعة [ ص: 453 ] يمتعكموها الغرور والخداع المضمحل الذي لا حقيقة له عند الامتحان ، ولا صحة له عند الاختبار . فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم ، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره . يقول تعالى ذكره : ولا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها ، فإنما أنتم منها في غرور تمتعون ، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون .

    وقد روي في تأويل ذلك ما : -

    8314 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله : " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " ، قال : كزاد الراعي ، تزوده الكف من التمر ، أو الشيء من الدقيق ، أو الشيء يشرب عليه اللبن .

    فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا ، إلى أن معنى الآية : وما الحياة الدنيا إلا متاع قليل ، لا يبلغ من تمتعه ولا يكفيه لسفره . وهذا التأويل ، وإن كان وجها من وجوه التأويل ، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا . لأن"الغرور" إنما هو الخداع في كلام العرب . وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة ، لأن الشيء قد يكون قليلا وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور . وأما الذي هو في غرور ، فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور .

    و"الغرور" مصدر من قول القائل : "غرني فلان فهو يغرني غرورا" بضم"الغين" . وأما إذا فتحت"الغين" من"الغرور" ، فهو صفة للشيطان الغرور ، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته .

    وقد :

    8315 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبدة وعبد الرحيم قالا حدثنا [ ص: 454 ] محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، واقرءوا إن شئتم" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " .
    القول في تأويل قوله ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( 186 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : تعالى ذكره : " لتبلون في أموالكم " ، لتختبرن بالمصائب في أموالكم"وأنفسكم ، يعني : وبهلاك الأقرباء والعشائر من [ ص: 455 ] أهل نصرتكم وملتكم" ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني : من اليهود وقولهم : " إن الله فقير ونحن أغنياء " ، وقولهم : " يد الله مغلولة " ، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله" ومن الذين أشركوا " ، يعني النصارى "أذى كثيرا" ، والأذى من اليهود ما ذكرنا ، ومن النصارى قولهم : " المسيح ابن الله " ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله" وإن تصبروا وتتقوا " ، يقول : وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته" وتتقوا" ، يقول : وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم ، فتعملوا في ذلك بطاعته" فإن ذلك من عزم الأمور " ، يقول : فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به .

    وقيل : إن ذلك كله نزل في فنحاص اليهودي ، سيد بني قينقاع ، كالذي : -

    8316 - حدثنا به القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عكرمة في قوله : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " ، قال : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي بكر رضوان الله عليه ، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمده ، وكتب إليه بكتاب ، وقال لأبي بكر : "لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع" . فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف ، فأعطاه الكتاب ، فلما قرأه قال : "قد احتاج ربكم أن نمده"! فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع" ، [ ص: 456 ] فكف ، ونزلت : ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم ) . وما بين الآيتين إلى قوله : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم " ، نزلت هذه الآيات في بني قينقاع إلى قوله : " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك " قال ابن جريج : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم قال : "لتبلون في أموالكم وأنفسكم" ، قال : أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم ، فينظر كيف صبرهم على دينهم . ثم قال : " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني : اليهود والنصارى " ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : "عزير ابن الله" ، ومن النصارى : "المسيح ابن الله" ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب إذ يسمعون إشراكهم ، فقال الله : " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " ، يقول : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به .



    وقال آخرون : بل نزلت في كعب بن الأشرف ، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتشبب بنساء المسلمين .

    ذكر من قال ذلك :



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #448
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (448)
    صــ 447إلى صــ 472




    8317 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : " ولتسمعن من الذين أوتو الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " ، قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم . فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار ، فيهم محمد بن مسلمة ، ورجل [ ص: 457 ] يقال له أبو عبس . فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي ، فلما رآهم ذعر منهم ، فأنكر شأنهم ، وقالوا : جئناك لحاجة! قال : فليدن إلي بعضكم فليحدثني بحاجته . فجاءه رجل منهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها . فقال : والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس ، فأتوه فنادوه ، فقالت امرأته : ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب! قال : إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم .

    قال معمر : فأخبرني أيوب ، عن عكرمة : أنه أشرف عليهم فكلمهم ، فقال : أترهنوني أبناءكم؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرا . قال : فقالوا : إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال : "هذا رهينة وسق ، وهذا رهينة وسقين"! فقال : أترهنوني نساءكم؟ قالوا : أنت أجمل الناس ، ولا نأمنك! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! ولكنا نرهنك سلاحنا ، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم . فقال : ائتوني بسلاحكم ، واحتملوا ما شئتم . قالوا : فانزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا . فذهب ينزل ، [ ص: 458 ] فتعلقت به امرأته وقالت : أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك . قال : لو وجدني هؤلاء نائما ما أيقظوني! قالت : فكلمهم من فوق البيت ، فأبى عليها ، فنزل إليهم يفوح ريحه . قالوا : ما هذه الريح يا فلان؟ قال : هذا عطر أم فلان! امرأته . فدنا إليه بعضهم يشم رائحته ، ثم اعتنقه ، ثم قال : اقتلوا عدو الله! فطعنه أبو عبس في خاصرته ، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف ، فقتلوه ثم رجعوا . فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قتل سيدنا غيلة! فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه ، وما كان يحض عليهم ، ويحرض في قتالهم ويؤذيهم ، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحا ، قال : فكان ذلك الكتاب مع علي رضوان الله عليه .
    القول في تأويل قوله ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ( 187 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : واذكر أيضا من [ أمر ] هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم ، يا محمد ، إذ أخذ الله ميثاقهم ، ليبينن للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم ، وهو التوراة والإنجيل ، وأنك لله رسول مرسل بالحق ، ولا يكتمونه" فنبذوه وراء ظهورهم " ، [ ص: 459 ] يقول : فتركوا أمر الله وضيعوه . ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك ، فكتموا أمرك ، وكذبوا بك" واشتروا به ثمنا قليلا " ، يقول : وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوتك ، عوضا منه خسيسا قليلا من عرض الدنيا ثم ذم جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك فقال : " فبئس ما يشترون " .

    واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية .

    فقال بعضهم : عني بها اليهود خاصة .

    ذكر من قال ذلك :

    8318 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه ، عن ابن عباس : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " إلى قوله : "عذاب أليم" ، يعني : فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار .

    8319 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس مثله . [ ص: 460 ]

    8320 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " ، كان أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، وقال : ( اتبعوه لعلكم تهتدون ) [ سورة الأعراف : 158 ] فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم قال : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ) [ سورة البقرة : 40 ] عاهدهم على ذلك ، فقال حين بعث محمدا : صدقوه ، وتلقون الذي أحببتم عندي .

    8321 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " الآية ، قال : إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبيننه للناس ، محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، "فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا " .

    8322 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي الجحاف ، عن مسلم البطين قال : سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن هذه الآية : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال : " وإذ أخذ الله ميثاق أهل الكتاب" يهود ، "ليبيننه للناس" ، محمدا صلى الله عليه وسلم ، "ولا يكتمونه فنبذوه" .

    8323 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " ، قال : وكان فيه إن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده ، وأن محمدا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .

    وقال آخرون : عني بذلك كل من أوتي علما بأمر الدين .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 461 ]

    8324 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " الآية ، هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم شيئا فليعلمه ، وإياكم وكتمان العلم ، فإن كتمان العلم هلكة ، ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به ، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلفين ، كان يقال : "مثل علم لا يقال به ، كمثل كنز لا ينفق منه ! ومثل حكمة لا تخرج ، كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب" . وكان يقال : "طوبى لعالم ناطق ، وطوبى لمستمع واع" . هذا رجل علم علما فعلمه وبذله ودعا إليه ، ورجل سمع خيرا فحفظه ووعاه وانتفع به .

    8325 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيه عبد الله بن مسعود فقال : إن أخاكم كعبا يقرئكم السلام ، ويبشركم أن هذه الآية ليست فيكم : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " . فقال له عبد الله : وأنت فأقره السلام وأخبره أنها نزلت وهو يهودي .

    8326 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة بنحوه ، عن عبد الله وكعب .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8327 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان قال : حدثني يحيى بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرءون : وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم ، قال : من النبيين على قومهم . [ ص: 462 ]

    8328 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا قبيصة قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرءون : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) ، قال فقال : أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم .

    وأما قوله : " لتبيننه للناس " ، فإنه كما : -

    8329 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثني أبي قال : حدثنا محمد بن ذكوان قال : حدثنا أبو نعامة السعدي قال : كان الحسن يفسر قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " ، لتتكلمن بالحق ، ولتصدقنه بالعمل .

    قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة ذلك :

    فقرأه بعضهم : ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) بالتاء . وهي قراءة عظم قرأة أهل المدينة والكوفة ، على وجه المخاطب ، بمعنى : قال الله لهم : لتبيننه للناس ولا تكتمونه .

    وقرأ ذلك آخرون : ليبيننه للناس ولا يكتمونه بالياء جميعا ، على وجه الخبر عن الغائب ، لأنهم في وقت إخبار الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك عنهم ، كانوا غير موجودين ، فصار الخبر عنهم كالخبر عن الغائب .

    [ ص: 463 ]

    قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان ، صحيحة وجوههما ، مستفيضتان في قرأة الإسلام ، غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارئ فقد أصاب الحق والصواب في ذلك . غير أن الأمر في ذلك وإن كان كذلك ، فإن أحب القراءتين إلي أن أقرأ بها : ( " ليبيننه للناس ولا يكتمونه " ) ، بالياء جميعا ، استدلالا بقوله : "فنبذوه" ، إذ كان قد خرج مخرج الخبر عن الغائب على سبيل قوله : "فنبذوه" حتى يكون متسقا كله على معنى واحد ومثال واحد . ولو كان الأول بمعنى الخطاب ، لكان أن يقال : "فنبذتموه وراء ظهوركم" أولى ، من أن يقال : "فنبذوه وراء ظهورهم" .

    وأما قوله : " فنبذوه وراء ظهورهم " ، فإنه مثل لتضييعهم القيام بالميثاق وتركهم العمل به .

    وقد بينا المعنى الذي من أجله قيل ذلك كذلك ، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8330 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : أخبرنا يحيى بن أيوب البجلي ، عن الشعبي في قوله : " فنبذوه وراء ظهورهم " ، قال : إنهم قد كانوا يقرءونه ، إنما نبذوا العمل به .

    8331 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن [ ص: 464 ] ابن جريج : " فنبذوه وراء ظهورهم " ، قال : نبذوا الميثاق .

    8332 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا عثمان بن عمر قال : حدثنا مالك بن مغول : قال : نبئت عن الشعبي في هذه الآية : " فنبذوه وراء ظهورهم " ، قال : قذفوه بين أيديهم ، وتركوا العمل به .

    وأما قوله : " واشتروا به ثمنا قليلا " ، فإن معناه ما قلنا ، من أخذهم ما أخذوا على كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب ، كما : -

    8333 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " واشتروا به ثمنا قليلا " ، أخذوا طمعا ، وكتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم .

    وقوله : " فبئس ما يشترون " ، يقول : فبئس الشراء يشترون في تضييعهم الميثاق وتبديلهم الكتاب ، كما : -

    8334 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فبئس ما يشترون " ، قال : تبديل اليهود التوراة .
    [ ص: 465 ] القول في تأويل قوله ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ( 188 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : عني بذلك قوم من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو ، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا .

    ذكر من قال ذلك :

    8335 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي قالا حدثنا ابن أبي مريم قال : حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال : حدثني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو ، تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله . وإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم من السفر اعتذروا إليه ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فأنزل الله تعالى فيهم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية .

    8336 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : هؤلاء المنافقون ، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : لو قد خرجت لخرجنا معك! فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلفوا وكذبوا ، ويفرحون بذلك ، ويرون أنها حيلة احتالوا بها .

    [ ص: 466 ]

    وقال آخرون : عني بذلك قوم من أحبار اليهود ، كانوا يفرحون بإضلالهم الناس ، ونسبة الناس إياهم إلى العلم .

    ذكر من قال ذلك :

    8337 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس أو سعيد بن جبير : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " إلى قوله : "ولهم عذاب أليم" ، يعني فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار ، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة" ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، أن يقول لهم الناس علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا خير ، ويحبون أن يقول لهم الناس : قد فعلوا .

    8338 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك إلا أنه قال : وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى .

    وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من اليهود ، فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم : أهل صلاة وصيام .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 467 ]

    8339 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، فإنهم فرحوا باجتماعهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : "قد جمع الله كلمتنا ، ولم يخالف أحد منا أحدا [ أن محمدا ليس بنبي ] . وقالوا : "نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أهل الصلاة والصيام" ، وكذبوا ، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله ، قال الله : " يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " .

    8340 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : كانت اليهود أمر بعضهم بعضا ، فكتب بعضهم إلى بعض : "أن محمدا ليس بنبي ، فأجمعوا كلمتكم ، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم" ، ففعلوا وفرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .

    8341 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي [ ص: 468 ] قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .

    8342 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه ، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون : "نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة ، ونحن على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم" ، فأنزل الله فيهم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم" ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، أحبوا أن تحمدهم العرب ، بما يزكون به أنفسهم ، وليسوا كذلك .

    8343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي الجحاف ، عن مسلم البطين قال : سأل الحجاج جلساءه عن هذه الآية : " لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا " ، قال سعيد بن جبير : بكتمانهم محمدا " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : هو قولهم : "نحن على دين إبراهيم عليه السلام" .

    8344 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، هم أهل الكتاب ، أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله ، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ، ويصومون ويصلون ، ويطيعون الله . فقال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، كفرا بالله وكفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم" ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، من الصلاة والصوم ، فقال الله جل وعز لمحمد صلى الله عليه وسلم : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " . [ ص: 469 ]

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، من تبديلهم كتاب الله ، ويحبون أن يحمدهم الناس على ذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    8345 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، قال : يهود ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه ، ولا تملك يهود ذلك .

    وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام .

    ذكر من قال ذلك :

    8346 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية : " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : اليهود ، يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام .

    8347 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة عن أبي المعلى العطار ، عن سعيد بن جبير قال : هم اليهود ، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام .

    وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من اليهود ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه ، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 470 ]

    8348 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني ابن أبي مليكة : أن علقمة بن أبي وقاص أخبره : أن مروان قال لرافع : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : "لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، ليعذبنا الله أجمعين"! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود ، فسألهم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه . ثم قال : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، الآية .

    8349 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن أبي مليكة : أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره : أن مروان بن الحكم قال لبوابه : يا رافع ، اذهب إلى ابن عباس فقل له : "لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، لنعذبن جميعا"! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب! ثم تلا ابن عباس : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " إلى قوله : " أن يحمدوا بما لم يفعلوا " . قال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه ، فاستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه .

    [ ص: 471 ]

    وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من يهود ، أظهروا النفاق للنبي صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد ، والله عالم منهم خلاف ذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    8350 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن أعداء الله اليهود ، يهود خيبر ، أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به ، وأنهم متابعوه ، وهم متمسكون بضلالتهم ، وأرادوا أن يحمدهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا ، فأنزل الله تعالى : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، الآية .

    8351 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : إن أهل خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا : "إنا على رأيكم وسنتكم ، وإنا لكم ردء" . فأكذبهم الله فقال : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآيتين .

    8352 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : إن كعبا يقرأ عليك السلام ويقول : إن هذه الآية لم تنزل فيكم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : أخبروه أنها نزلت وهو يهودي .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية ، قول من قال : "عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر [ ص: 472 ] الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم ، ليبينن للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، لأن قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية ، في سياق الخبر عنهم ، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك .

    فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : لا تحسبن ، يا محمد ، الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك ، وأنك لي رسول مرسل بالحق ، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم ، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك ، وبيان أمرك للناس ، وأن لا يكتموهم ذلك ، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك ، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ، ومخالفتهم أمري ، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم ، واتباع لوحيه وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه ، وهم من ذلك أبرياء أخلياء ، لتكذيبهم رسوله ، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم ، لم يفعلوا شيئا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه" فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " .

    وقوله : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " ، فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا ، من الخسف والمسخ والرجف والقتل ، وما أشبه ذلك من عقاب الله ، ولا هم ببعيد منه ، كما : -

    8353 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " ، قال : بمنجاة من العذاب .

    قال أبو جعفر : "ولهم عذاب أليم" ، يقول : ولهم عذاب في الآخرة أيضا مؤلم ، مع الذي لهم في الدنيا معجل .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #449
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (449)
    صــ 473إلى صــ 510



    [ ص: 473 ] القول في تأويل قوله ( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ( 189 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه الذين قالوا : " إن الله فقير ونحن أغنياء " . يقول تعالى ذكره ، مكذبا لهم : لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض . فكيف يكون أيها المفترون على الله ، من كان ملك ذلك له فقيرا؟

    ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر على تعجيل العقوبة لقائلي ذلك ، ولكل مكذب به ومفتر عليه ، وعلى غير ذلك مما أراد وأحب ، ولكنه تفضل بحلمه على خلقه فقال : " والله على كل شيء قدير " ، يعني : من إهلاك قائلي ذلك ، وتعجيل عقوبته لهم ، وغير ذلك من الأمور .
    القول في تأويل قوله ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( 190 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره على قائل ذلك ، وعلى سائر خلقه ، بأنه المدبر المصرف الأشياء والمسخر ما أحب ، وأن الإغناء والإفقار إليه وبيده ، فقال جل ثناؤه : تدبروا أيها الناس واعتبروا ، ففيما أنشأته فخلقته من السماوات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم ، وفيما عقبت بينه من الليل والنهار فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم ، تتصرفون في هذا لمعاشكم ، وتسكنون في [ ص: 474 ] هذا راحة لأجسادكم معتبر ومدكر ، وآيات وعظات . فمن كان منكم ذا لب وعقل ، يعلم أن من نسبني إلى أني فقير وهو غني كاذب مفتر ، فإن ذلك كله بيدي أقلبه وأصرفه ، ولو أبطلت ذلك لهلكتم ، فكيف ينسب إلي فقر من كان كل ما به عيش ما في السماوات والأرض بيده وإليه؟ أم كيف يكون غنيا من كان رزقه بيد غيره ، إذا شاء رزقه ، وإذا شاء حرمه؟ فاعتبروا يا أولي الألباب .
    القول في تأويل قوله ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض )

    قال أبو جعفر : وقوله : " الذين يذكرون الله قياما وقعودا " من نعت"أولي الألباب" ، و"الذين" في موضع خفض ردا على قوله : "لأولي الألباب" .

    ومعنى الآية : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذاكرين الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم يعني بذلك : قياما في صلاتهم ، وقعودا في تشهدهم وفي غير صلاتهم ، وعلى جنوبهم نياما . كما : -

    8354 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 475 ] ابن جريج ، قوله : " الذين يذكرون الله قياما وقعودا " الآية ، قال : هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة ، وقراءة القرآن .

    8355 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم " ، وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم ، فاذكره وأنت على جنبك ، يسرا من الله وتخفيفا .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : "وعلى جنوبهم" : فعطف ب"على" ، وهي صفة ، على"القيام والقعود" وهما اسمان؟

    قيل : لأن قوله : " وعلى جنوبهم " في معنى الاسم ، ومعناه : ونياما ، أو : "مضطجعين على جنوبهم" ، فحسن عطف ذلك على"القيام" و"القعود" لذلك المعنى ، كما قيل : ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ) [ سورة يونس : 12 ] فعطف بقوله : " أو قاعدا أو قائما " على قوله : "لجنبه" ، لأن معنى قوله : "لجنبه" ، مضطجعا ، فعطف ب"القاعد" و"القائم" على معناه ، فكذلك ذلك في قوله : " وعلى جنوبهم " .

    وأما قوله : " ويتفكرون في خلق السماوات والأرض " ، فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك ، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شيء ، ومن هو مالك كل شيء ورازقه ، وخالق كل شيء ومدبره ، ومن هو على كل شيء قدير ، وبيده الإغناء والإفقار ، والإعزاز والإذلال ، والإحياء والإماتة ، والشقاء والسعادة .
    [ ص: 476 ] القول في تأويل قوله ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ( 191 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : " ويتفكرون في خلق السماوات والأرض " قائلين : " ربنا ما خلقت هذا باطلا " ، فترك ذكر"قائلين" ، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه .

    وقوله : " ما خلقت هذا باطلا " يقول : لم تخلق هذا الخلق عبثا ولا لعبا ، ولم تخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة ، وإنما قال : "ما خلقت هذا باطلا" ولم يقل : "ما خلقت هذه ، ولا هؤلاء" ، لأنه أراد ب"هذا" ، الخلق الذي في السماوات والأرض . يدل على ذلك قوله : " سبحانك فقنا عذاب النار " ، ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم . ولو كان المعني بقوله : " ما خلقت هذا باطلا " ، السموات والأرض ، لما كان لقوله عقيب ذلك : " فقنا عذاب النار " ، معنى مفهوم . لأن"السموات والأرض" أدلة على بارئها ، لا على الثواب والعقاب ، وإنما الدليل على الثواب والعقاب ، الأمر والنهي .

    وإنما وصف جل ثناؤه : " أولي الألباب " الذين ذكرهم في هذه الآية : أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيين قالوا : "يا ربنا لم تخلق هؤلاء باطلا عبثا سبحانك" ، يعني : تنزيها لك من أن تفعل شيئا عبثا ، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر ، لجنة أو نار .

    ثم فزعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار ، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره ، فيكونوا من أهل جهنم .
    [ ص: 477 ] القول في تأويل قوله ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ( 192 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : ربنا إنك من تدخل النار من عبادك فتخلده فيها ، فقد أخزيته . قال : ولا يخزى مؤمن مصيره إلى الجنة ، وإن عذب بالنار بعض العذاب .

    ذكر من قال ذلك :

    8356 - حدثني أبو حفص الجبيري ومحمد بن بشار قالا أخبرنا المؤمل ، أخبرنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن أنس في قوله : " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ، قال : من تخلد .

    8357 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن ابن المسيب : " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ، قال : هي خاصة لمن لا يخرج منها .

    8358 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو النعمان عارم قال : حدثنا حماد بن زيد قال : حدثنا قبيصة بن مروان ، عن الأشعث الحملي قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ، أرأيت ما تذكر من الشفاعة ، حق هو؟ قال : نعم حق . قال : قلت : يا أبا سعيد ، أرأيت قول الله تعالى : " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته [ ص: 478 ] و ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ) [ سورة المائدة : 37 ] ؟ قال فقال لي : إنك والله لا تسطو علي بشيء ، إن للنار أهلا لا يخرجون منها ، كما قال الله . قال قلت : يا أبا سعيد ، فيمن دخلوا ثم خرجوا؟ قال : كانوا أصابوا ذنوبا في الدنيا فأخذهم الله بها ، فأدخلهم بها ثم أخرجهم ، بما يعلم في قلوبهم من الإيمان والتصديق به .

    8359 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ، قال : هو من يخلد فيها .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ربنا إنك من تدخل النار ، من مخلد فيها وغير مخلد فيها ، فقد أخزي بالعذاب .

    ذكر من قال ذلك :

    8360 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا الحارث بن مسلم ، عن بحر ، عن عمرو بن دينار قال : قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة ، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت : " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته "؟ قال : [ ص: 479 ] وما أخزاه حين أحرقه بالنار! وإن دون ذلك لخزيا .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب عندي ، قول جابر : "إن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها ، وإن أخرج منها" . وذلك أن"الخزي" إنما هو هتك ستر المخزي وفضيحته ، ومن عاقبه ربه في الآخرة على ذنوبه ، فقد فضحه بعقابه إياه ، وذلك هو"الخزي" .

    وأما قوله : " وما للظالمين من أنصار " ، يقول : وما لمن خالف أمر الله فعصاه ، من ذي نصرة له ينصره من الله ، فيدفع عنه عقابه ، أو ينقذه من عذابه .
    [ ص: 480 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ( 193 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل"المنادي" الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية .

    فقال بعضهم : "المنادي" في هذا الموضع ، القرآن .

    ذكر من قال ذلك :

    8361 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : " إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " ، قال : هو الكتاب ، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم .

    8362 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا منصور بن حكيم ، عن خارجة ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله : " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " ، قال : ليس كل الناس سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن المنادي القرآن .

    وقال آخرون : بل هو محمد صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 481 ] ذكر من قال ذلك :

    8363 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " : قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم .

    8364 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " ، قال : ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول محمد بن كعب ، وهو أن يكون"المنادي" القرآن . لأن كثيرا ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات ، ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عاينه فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه ، ولكنه القرآن ، وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبرا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ) [ سورة الجن : 1 ، 2 ]

    وبنحو ذلك : -

    8365 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " إلى قوله : " وتوفنا مع الأبرار " ، سمعوا دعوة من الله فأجابوها فأحسنوا الإجابة فيها ، وصبروا عليها . ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال : وعن مؤمن الجن كيف قال . فأما مؤمن الجن فقال : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) وأما مؤمن الإنس فقال : " إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا " ، الآية .

    وقيل : " إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " ، يعني : ينادي إلى الإيمان ، كما [ ص: 482 ] قال تعالى ذكره : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) [ سورة الأعراف : 43 ] بمعنى : هدانا إلى هذا ، وكما قال الراجز :


    أوحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت


    بمعنى : أوحى إليها ، ومنه قوله : ( بأن ربك أوحى لها ) [ سورة الزلزلة : 5 ]

    وقيل : يحتمل أن يكون معناه : إننا سمعنا مناديا للإيمان ، ينادي أن آمنوا بربكم .

    فتأويل الآية إذا : ربنا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان يقول : إلى التصديق بك ، والإقرار بوحدانيتك ، واتباع رسولك ، وطاعته فيما أمرنا به ونهانا عنه مما جاء به من عندك" فآمنا ربنا" ، يقول : فصدقنا بذلك يا ربنا . " فاغفر لنا ذنوبنا " ، يقول : فاستر علينا خطايانا ، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد ، بعقوبتك إيانا عليها ، ولكن كفرها عنا ، وسيئات أعمالنا ، فامحها بفضلك ورحمتك إيانا" وتوفنا مع الأبرار " ، يعني بذلك : واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك ، في عداد الأبرار ، واحشرنا محشرهم ومعهم .

    و"الأبرار" جمع"بر" ، وهم الذين بروا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له ، حتى أرضوه فرضي عنهم .
    [ ص: 483 ] القول في تأويل قوله ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ( 194 ) )

    قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربهم أن يؤتيهم ما وعدهم ، وقد علموا أن الله منجز وعده ، وغير جائز أن يكون منه إخلاف موعد؟ قيل : اختلف في ذلك أهل البحث .

    فقال بعضهم : ذلك قول خرج مخرج المسألة ، ومعناه الخبر . قالوا : وإنما تأويل الكلام : " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار " لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة . قالوا : وليس ذلك على أنهم قالوا : "إن توفيتنا مع الأبرار ، فأنجز لنا ما وعدتنا" ، لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد ، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء ، ولكنه تفضل بابتدائه ، ثم ينجزه .

    وقال آخرون : بل ذلك قول من قائليه على معنى المسألة والدعاء لله بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله ، لا أنهم كانوا قد [ ص: 484 ] استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم ، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم ، فيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يخلف وعده . قالوا : ولو كان القوم إنما سألوا ربهم أن يؤتيهم ما وعد الأبرار ، لكانوا قد زكوا أنفسهم ، وشهدوا لها أنها ممن قد استوجب كرامة الله وثوابه . قالوا . وليس ذلك صفة أهل الفضل من المؤمنين .

    وقال آخرون : بل قالوا هذا القول على وجه المسألة ، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر ، والظفر بهم ، وإعلاء كلمة الحق على الباطل ، فيعجل ذلك لهم . قالوا : ومحال أن يكون القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به ، كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد ، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك ، ولكنهم كانوا وعدوا النصر ، ولم يوقت لهم في تعجيل ذلك لهم ، لما في تعجله من سرور الظفر وراحة الجسد .

    قال أبو جعفر : والذي هو أولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، أن هذه الصفة ، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه وداره ، مفارقا لأهل الشرك بالله إلى الله ورسوله ، وغيرهم من تباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم ، فقالوا : ربنا آتنا ما وعدتنا من نصرتك عليهم عاجلا فإنك لا تخلف الميعاد ، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم ، فعجل [ لهم ] خزيهم ، ولنا الظفر عليهم .

    يدل على صحة ذلك آخر الآية الأخرى ، وهو قوله : [ ص: 485 ] ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا ) الآيات بعدها . وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيت قولهم في شيء . وذلك أنه غير موجود في كلام العرب أن يقال : "افعل بنا يا رب كذا وكذا" ، بمعنى : "لتفعل بنا كذا وكذا" . ولو جاز ذلك ، لجاز أن يقول القائل لآخر : "أقبل إلي وكلمني" ، بمعنى : "أقبل إلي لتكلمني" ، وذلك غير موجود في الكلام ولا معروف جوازه .

    وكذلك أيضا غير معروف في الكلام : "آتنا ما وعدتنا" ، بمعنى : "اجعلنا ممن آتيته ذلك" . وإن كان كل من أعطي شيئا سنيا ، فقد صير نظيرا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه . ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك ، وإن كان قد يئول معناه إليه .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك : إنك تعلي كلمتك كلمة الحق ، بتأييدنا على من كفر بك وحادك وعبد غيرك وعجل لنا ذلك ، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك - ولا تخزنا يوم القيامة فتفضحنا بذنوبنا التي سلفت منا ، ولكن كفرها عنا واغفرها لنا . وقد : -

    8366 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : "ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك" ، قال : يستنجز موعود الله على رسله .
    [ ص: 486 ] القول في تأويل قوله ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف من أدعيتهم أنهم دعوا به ربهم ، بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرا ، ذكرا كان العامل أو أنثى .

    وذكر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما بال الرجال يذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة"؟ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية .

    8367 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، تذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر؟ فنزلت : " أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " ، الآية . [ ص: 487 ]

    8368 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت رجلا من ولد أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقول : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تبارك وتعالى : " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " .

    8369 - حدثنا الربيع بن سليمان قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن رجل من ولد أم سلمة ، عن أم سلمة : أنها [ ص: 488 ] قالت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى : " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض " .

    وقيل : " فاستجاب لهم " بمعنى : فأجابهم ، كما قال الشاعر :


    وداع دعا يا من يجيب إلى الندى؟ فلم يستجبه عند ذاك مجيب


    بمعنى : فلم يجبه عند ذاك مجيب .

    [ ص: 489 ]

    وأدخلت"من" في قوله : " من ذكر أو أنثى " على الترجمة والتفسير عن قوله : "منكم" ، بمعنى : " لا أضيع عمل عامل منكم " ، من الذكور والإناث . وليست"من" هذه بالتي يجوز إسقاطها وحذفها من الكلام في الجحد ، لأنها دخلت بمعنى لا يصلح الكلام إلا به .

    وزعم بعض نحويي البصرة أنها دخلت في هذا الموضع كما تدخل في قولهم : "قد كان من حديث" ، قال : و"من" هاهنا أحسن ، لأن النهي قد دخل في قوله : "لا أضيع" .

    وأنكر ذلك بعض نحويي الكوفة وقال : لا تدخل"من" وتخرج إلا في موضع الجحد . وقال : قوله : " لا أضيع عمل عامل منكم " ، لم يدركه الجحد ، لأنك لا تقول : "لا أضرب غلام رجل في الدار ولا في البيت" ، فتدخل ، "ولا" ، لأنه لم ينله الجحد ، ولكن"من" مفسرة .

    وأما قوله : " بعضكم من بعض " ، فإنه يعني : بعضكم أيها المؤمنون الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم من بعض ، في النصرة والملة والدين ، وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل ، على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكر منكم ولا أنثى .
    [ ص: 490 ] القول في تأويل قوله ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ( 195 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فالذين هاجروا " قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله ، إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله ، والتصديق برسوله ، " وأخرجوا من ديارهم " ، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة " وأوذوا في سبيلي " ، يعني : وأوذوا في طاعتهم ربهم ، وعبادتهم إياه مخلصين له الدين ، وذلك هو"سبيل الله" التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها"وقاتلوا" يعني : وقاتلوا في سبيل الله"وقتلوا" فيها" لأكفرن عنهم سيئاتهم " ، يعني : لأمحونها عنهم ، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي ، ولأغفرنها لهم" ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا " ، يعني : جزاء لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله"من عند الله" ، يعني : من قبل الله لهم" والله عنده حسن الثواب " ، يعني : أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه ، [ ص: 491 ] وذلك ما لا يبلغه وصف واصف ، لأنه مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، كما : -
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #450
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (450)
    صــ 473إلى صــ 510




    8370 - حدثنا عبد الرحمن بن وهب قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال : حدثني عمرو بن الحارث : أن أبا عشانة المعافري حدثه : أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره ، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان ، لم تقض حتى يموت وهي في صدره ، وأن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول : "أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة" ، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب ، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : "ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ، ونقدس لك ، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا" فيقول الرب جل ثناؤه : "هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي" . فتدخل الملائكة عليهم من كل باب : ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) . [ سورة الرعد : 24 ] [ ص: 492 ]

    قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : "وقاتلوا وقتلوا" .

    فقرأه بعضهم : ( " وقتلوا وقتلوا" ) بالتخفيف ، بمعنى : أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين .

    وقرأ ذلك آخرون : ( وقاتلوا وقتلوا ) بتشديد"قتلوا" ، بمعنى : أنهم قاتلوا المشركين وقتلهم المشركون ، بعضا بعد بعض ، وقتلا بعد قتل .

    وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين : ( وقاتلوا وقتلوا ) بالتخفيف ، بمعنى : أنهم قاتلوا المشركين وقتلوا .



    وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : "وقتلوا" بالتخفيف . "وقاتلوا" ، بمعنى : أن بعضهم قتل ، وقاتل من بقي منهم .

    قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز أن أعدوها ، إحدى هاتين القراءتين ، وهي : "وقاتلوا وقتلوا" بالتخفيف ، أو"وقتلوا" بالتخفيف"وقاتلو " لأنها القراءة المنقولة نقل وراثة ، وما عداهما فشاذ . وبأي هاتين القراءتين التي ذكرت أني لا أستجيز أن أعدوهما ، قرأ قارئ فمصيب في ذلك الصواب من القراءة ، لاستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام ، مع اتفاق معنييهما .
    [ ص: 493 ] القول في تأويل قوله ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ولا يغرنك" يا محمد " تقلب الذين كفروا في البلاد " ، يعني : تصرفهم في الأرض وضربهم فيها ، كما : -

    8371 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " ، يقول : ضربهم في البلاد .

    فنهى الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بضربهم في البلاد ، وإمهال الله إياهم ، مع شركهم ، وجحودهم نعمه ، وعبادتهم غيره . وخرج الخطاب بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعني به غيره من أتباعه وأصحابه ، كما قد بينا فيما مضى قبل من أمر الله ولكن كان بأمر الله صادعا ، وإلى الحق داعيا .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة .

    8372 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " ، والله ما غروا نبي الله ، ولا وكل إليهم شيئا من أمر الله ، حتى قبضه الله على ذلك .

    وأما قوله : " متاع قليل " ، فإنه يعني : أن تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها ، [ ص: 494 ] متعة يمتعون بها قليلا حتى يبلغوا آجالهم ، فتخترمهم منياتهم" ثم مأواهم جهنم " ، بعد مماتهم .

    و"المأوى" : المصير الذي يأوون إليه يوم القيامة ، فيصيرون فيه .

    ويعني بقوله : " وبئس المهاد " . وبئس الفراش والمضجع جهنم .
    القول في تأويل قوله ( لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ( 198 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " لكن الذين اتقوا ربهم " ، لكن الذين اتقوا الله بطاعته واتباع مرضاته ، في العمل بما أمرهم به ، واجتناب ما نهاهم عنه"لهم جنات" يعني : بساتين ، "تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" ، يقول : باقين فيها أبدا . " نزلا من عند الله " ، يعني : إنزالا من الله إياهم فيها ، أنزلوها .

    ونصب"نزلا" على التفسير من قوله : " لهم جنات تجري من تحتها الأنهار " ، [ ص: 495 ] كما يقال : "لك عند الله جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا" ، وكما يقال : "هو لك صدقة" : و"هو لك هبة" .

    وقوله : " من عند الله " يعني : من قبل الله ، ومن كرامة الله إياهم ، وعطاياه لهم .

    وقوله : " وما عند الله خير للأبرار " ، يقول : وما عند الله من الحياة والكرامة ، وحسن المآب" ، " خير للأبرار " ، مما يتقلب فيه الذين كفروا ، فإن الذي يتقلبون فيه زائل فان ، وهو قليل من المتاع خسيس ، وما عند الله من كرامته للأبرار - وهم أهل طاعته باق ، غير فان ولا زائل .

    8373 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " وما عند الله خير للأبرار " ، قال : لمن يطيع الله .

    8374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود ، عن عبد الله قال : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها . ثم قرأ عبد الله : " وما عند الله خير للأبرار " ، وقرأ هذه الآية : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ) . [ سورة آل عمران : 178 ] [ ص: 496 ]

    8375 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن فرج بن مؤمل ، عن لقمان ، عن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له ، وما من كافر إلا والموت خير له ، ومن لم يصدقني فإن الله يقول : " وما عند الله خير للأبرار " ، ويقول : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) .
    القول في تأويل قوله ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية .

    فقال بعضهم : عنى بها أصحمة النجاشي ، وفيه أنزلت .

    ذكر من قال ذلك :

    8376 - حدثنا عصام بن رواد بن الجراح قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر بن عبد الله : أن [ ص: 497 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اخرجوا فصلوا على أخ لكم" . فصلى بنا ، فكبر أربع تكبيرات ، فقال : "هذا النجاشي أصحمة " ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط! فأنزل الله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " .

    8377 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثنا أبي عن قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه . قالوا : يصلى على رجل ليس بمسلم! قال : فنزلت : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " . قال قتادة : فقالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة! فأنزل الله : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ سورة البقرة : 115 ]

    8378 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، ذكر [ ص: 498 ] لنا أن هذه الآية نزلت في النجاشي ، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وصدقوا به . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته ، قال لأصحابه : " صلوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم"! فقال أناس من أهل النفاق : "يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه"؟ فأنزل الله هذه الآية : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب " .

    8379 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، قال : نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم واسم النجاشي ، أصحمة .

    8380 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : قال عبد الرزاق ، وقال ابن عيينة : اسم النجاشي بالعربية : عطية .

    8381 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، طعن في ذلك المنافقون ، فنزلت هذه الآية : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " ، إلى آخر الآية .

    وقال آخرون : بل عنى بذلك عبد الله بن سلام ومن معه .

    ذكر من قال ذلك :

    8382 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : نزلت - يعني هذه الآية - في عبد الله بن سلام ومن معه .

    8383 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن زيد في [ ص: 499 ] قوله : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " ، الآية كلها قال : هؤلاء يهود .

    وقال آخرون : بل عنى بذلك مسلمة أهل الكتاب .

    ذكر من قال ذلك :

    8384 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم " ، من اليهود والنصارى ، وهم مسلمة أهل الكتاب .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد . وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله : "وإن من أهل الكتاب" أهل الكتاب جميعا ، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود ، ولا اليهود دون النصارى . وإنما أخبر أن من"أهل الكتاب" من يؤمن بالله . وكلا الفريقين أعني اليهود والنصارى من أهل الكتاب .

    فإن قال قائل : فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره : أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟

    قيل : ذلك خبر في إسناده نظر . ولو كان صحيحا لا شك فيه ، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف . وذلك أن جابرا ومن قال بقوله ، إنما قالوا : "نزلت في النجاشي " ، وقد تنزل الآية في الشيء ، ثم يعم بها كل من كان في معناه . فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي ، حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم [ ص: 500 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتصديق بما جاءهم به من عند الله ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين ، التوراة والإنجيل .

    فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : " وإن من أهل الكتاب " التوراة والإنجيل"لمن يؤمن بالله" فيقر بوحدانيته" وما أنزل إليكم " ، أيها المؤمنون ، يقول : وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم" وما أنزل إليهم " ، يعني : وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب ، وذلك التوراة والإنجيل والزبور" خاشعين لله ، يعني : خاضعين لله بالطاعة ، مستكينين له بها متذللين ، كما : -

    8385 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن زيد في قوله : " خاشعين لله " ، قال : الخاشع ، المتذلل لله الخائف .

    ونصب قوله : " خاشعين لله " ، على الحال من قوله : " لمن يؤمن بالله " ، وهو حال مما في"يؤمن" من ذكر"من" .

    " لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " ، يقول : لا يحرفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدلونه ، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه ، لعرض من الدنيا خسيس يعطونه على ذلك التبديل ، وابتغاء الرياسة على الجهال ، ولكن ينقادون للحق ، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنزل إليهم من كتبه ، وينتهون عما نهاهم عنه فيها ، ويؤثرون أمر الله تعالى على هوى أنفسهم .
    [ ص: 501 ] القول في تأويل قوله ( أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ( 199 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه" أولئك لهم أجرهم " ، هؤلاء الذين يؤمنون بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم" لهم أجرهم عند ربهم " ، يعني : لهم عوض أعمالهم التي عملوها ، وثواب طاعتهم ربهم فيما أطاعوه فيه"عند ربهم" يعني : مذخور ذلك لهم لديه ، حتى يصيروا إليه في القيامة ، فيوفيهم ذلك"إن الله سريع الحساب" ، وسرعة حسابه تعالى ذكره : أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها ، وبعد ما عملوها ، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك ، فيقع في الإحصاء إبطاء ، فلذلك قال : "إن الله سريع الحساب" .
    القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : "اصبروا على دينكم وصابروا الكفار ورابطوهم" .

    ذكر من قال ذلك :

    8386 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، [ ص: 502 ] عن المبارك بن مؤمل ، عن الحسن : أنه سمعه يقول في قول الله : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : أمرهم أن يصبروا على دينهم ، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سراء ولا ضراء ، وأمرهم أن يصابروا الكفار ، وأن يرابطوا المشركين .

    8387 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " ، أي : اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله" واتقوا الله لعلكم تفلحون " .

    8388 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، يقول : صابروا المشركين ، ورابطوا في سبيل الله .

    8389 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : اصبروا على الطاعة ، وصابروا أعداء الله ، ورابطوا في سبيل الله .

    8390 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : اصبروا على ما أمرتم به ، وصابروا العدو ورابطوهم .

    وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على دينكم ، وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي ، ورابطوا أعداءكم .

    ذكر من قال ذلك :

    8391 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه كان يقول في هذه الآية : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، يقول : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوي وعدوكم ، حتى يترك دينه لدينكم .

    [ ص: 503 ] وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوكم ورابطوهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8392 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا جعفر بن عون قال : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوكم ، ورابطوا على عدوكم .

    8393 - حدثني المثنى قال : حدثنا مطرف بن عبد الله المدني قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب ، فذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : "أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزلة شدة ، يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله يقول في كتابه : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " .

    [ ص: 504 ]

    وقال آخرون : معنى : "ورابطوا" ، أي : رابطوا على الصلوات ، أي : انتظروها واحدة بعد واحدة .

    ذكر من قال ذلك :

    8394 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال : حدثني داود بن صالح قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية : " اصبروا وصابروا ورابطوا "؟ قال قلت : لا! قال : إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة . [ ص: 505 ]

    8395 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جده ، عن شرحبيل ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلك الرباط" .

    8396 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا محمد بن مهاجر قال : حدثني يحيى بن يزيد ، عن زيد بن أبي أنيسة ، [ ص: 506 ] عن شرحبيل ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟" قال : قلنا : بلى يا رسول الله! قال : إسباغ الوضوء في أماكنها ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط .

    8397 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا خالد بن مخلد قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به [ ص: 507 ] الدرجات؟" قالوا : بلى يا رسول الله! قال : إسباغ الوضوء عند المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط" .

    8398 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

    [ ص: 508 ]

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بتأويل الآية ، قول من قال في ذلك : "يا أيها الذين آمنوا" ، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، "اصبروا" على دينكم وطاعة ربكم . وذلك أن الله لم يخصص من معاني"الصبر" على الدين والطاعة شيئا ، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل . فلذلك قلنا إنه عني بقوله : " اصبروا" ، الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى ، صعبها وشديدها ، وسهلها وخفيفها .

    " وصابروا" ، يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين .



    وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المعروف من كلام العرب في"المفاعلة" أن تكون من فريقين ، أو اثنين فصاعدا ، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة . فإذ كان ذلك كذلك ، فإنما أمر المؤمنين أن يصابروا غيرهم من أعدائهم ، حتى يظفرهم الله بهم ، ويعلي كلمته ، ويخزي أعداءهم ، وأن لا يكون عدوهم أصبر منهم .

    وكذلك قوله : " ورابطوا" ، معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك ، في سبيل الله .

    قال أبو جعفر : ورأى أن أصل"الرباط" ، ارتباط الخيل للعدو ، كما [ ص: 509 ] ارتبط عدوهم لهم خيلهم ، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء ، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر ، كان ذا خيل قد ارتبطها ، أو ذا رجلة لا مركب له .

    وإنما قلنا معنى : " ورابطوا" ، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم ، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني"الرباط" . وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه ، دون الخفي ، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب ، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من أهل التأويل .
    القول في تأويل قوله ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 200 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : " واتقوا الله" ، أيها المؤمنون ، واحذروه أن تخالفوا أمره أو تتقدموا نهيه"لعلكم تفلحون" ، يقول : لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد ، وتنجحوا في طلباتكم عنده ، كما : - [ ص: 510 ]

    8399 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه كان يقول في قوله : " واتقوا الله لعلكم تفلحون " ، واتقوا الله فيما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني . آخر تفسير سورة آل عمران .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #451
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (451)
    صــ 511إلى صــ 525



    [ ص: 511 ] [ ص: 512 ] [ ص: 513 ] ( الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    رَبِّ يَسِّرِ

    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )

    قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " ، احْذَرُوا ، أَيُّهَا النَّاسُ ، رَبَّكُمْ فِي أَنْ تُخَالِفُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَفِيمَا نَهَاكُمْ ، فَيَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ .

    ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْمُتَوَحِّدُ بِخَلْقِ جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، مُعَرِّفًا عِبَادَهُ كَيْفَ كَانَ مُبْتَدَأُ إِنْشَائِهِ ذَلِكَ مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ ، وَمُنَبِّهَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ بَنُو رَجُلٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَأَنَّ حَقَّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَاجِبٌ وُجُوبَ حَقِّ الْأَخِ عَلَى أَخِيهِ ، لِاجْتِمَاعِهِم ْ فِي النَّسَبِ إِلَى أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ مِنْ رِعَايَةِ بَعْضِهِمْ حَقَّ بَعْضٍ ، وَإِنْ بَعُدَ التَّلَاقِي فِي النَّسَبِ إِلَى الْأَبِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمْ ، مِثْلَ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ [ ص: 514 ] الْأَدْنَى وَعَاطِفًا بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، لِيَتَنَاصَفُوا وَلَا يَتَظَالَمُوا ، وَلِيَبْذُلَ الْقَوِيُّ مِنْ نَفْسِهِ لِلضَّعِيفِ حَقَّهُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ لَهُ ، فَقَالَ : " الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " ، يَعْنِي : مِنْ آدَمَ ، كَمَا : -

    8400 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ : أَمَّا" خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " ، فَمِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

    8401 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " ، يَعْنِي آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ .

    8402 - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : " خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " ، قَالَ : آدَمَ .

    وَنَظِيرُ قَوْلِهِ : " مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ رَجُلٌ ، قَوْلُ الشَّاعِرِ .


    أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ، ذَاكَ الْكَمَالُ


    فَقَالَ : "وَلَدَتْهُ أُخْرَى" ، وَهُوَ يُرِيدُ"الرَّجُ َ" ، فَأُنِّثَ لِلَفْظِ"الْخَل يفَةِ" . وَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ : "مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" لِتَأْنِيثِ"الن َفْسِ" ، وَالْمَعْنَى : مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ . وَلَوْ قِيلَ : "مِنْ نَفْسٍ وَاحِدٍ" ، وَأُخْرِجَ اللَّفْظُ عَلَى التَّذْكِيرِ لِلْمَعْنَى ، كَانَ صَوَابًا .
    [ ص: 515 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وخلق منها زوجها " ، وخلق من النفس الواحدة زوجها يعني ب"الزوج" ، الثاني لها . وهو فيما قال أهل التأويل ، امرأتها حواء .

    ذكر من قال ذلك :

    8403 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وخلق منها زوجها " ، قال : حواء ، من قصيري آدم وهو نائم ، فاستيقظ فقال : "أثا" بالنبطية ، امرأة .

    8404 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    8405 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وخلق منها زوجها " ، يعني حواء ، خلقت من آدم ، من ضلع من أضلاعه .

    8406 - حدثني موسى بن هارون قال : أخبرنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليها . فنام نومة ، فاستيقظ ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة ، خلقها [ ص: 516 ] الله من ضلعه ، فسألها ما أنت؟ قالت : امرأة . قال : ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إلي .

    8407 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ألقي على آدم صلى الله عليه وسلم السنة - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن عبد الله بن العباس وغيره - ثم أخذ ضلعا من أضلاعه ، من شقه الأيسر ، ولأم مكانه ، وآدم نائم لم يهب من نومته ، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضلعه تلك زوجته حواء ، فسواها امرأة ليسكن إليها ، فلما كشفت عنه السنة وهب من نومته ، رآها إلى جنبه ، فقال - فيما يزعمون ، والله أعلم - : لحمي ودمي وزوجتي! فسكن إليها .

    8408 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وخلق منها زوجها " . جعل من آدم حواء .

    وأما قوله : " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " ، فإنه يعني : ونشر منهما ، يعني من آدم وحواء " رجالا كثيرا ونساء " ، قد رآهم ، كما قال جل ثناؤه : ( كالفراش المبثوث ) [ سورة القارعة : 4 ] .

    يقال منه : "بث الله الخلق ، وأبثهم" .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 517 ]

    ذكر من قال ذلك :

    8409 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " ، وبث ، خلق .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة : "تساءلون" بالتشديد ، بمعنى : تتساءلون ، ثم أدغم إحدى"التاءين" في"السين" ، فجعلهما"سينا" مشددة .

    وقرأه بعض قرأة الكوفة : "تساءلون" ، بالتخفيف ، على مثال"تفاعلون" ،

    وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان فصيحتان أعني التخفيف والتشديد في قوله : "تساءلون به" وبأي ذلك قرأ القارئ أصاب الصواب فيه . لأن معنى ذلك ، بأي وجهيه قرئ ، غير مختلف .

    وأما تأويله : واتقوا الله ، أيها الناس ، الذي إذا سأل بعضكم بعضا سأل به ، فقال السائل للمسئول : "أسألك بالله ، وأنشدك بالله ، وأعزم عليك بالله" ، وما أشبه ذلك . يقول تعالى ذكره : فكما تعظمون ، أيها الناس ، ربكم بألسنتكم حتى تروا أن من أعطاكم عهده فأخفركموه ، فقد أتى عظيما . فكذلك فعظموه بطاعتكم إياه فيما أمركم ، [ ص: 518 ] واجتنابكم ما نهاكم عنه ، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه ، كما : -

    8410 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به " ، قال يقول : اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به .

    8411 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " واتقوا الله الذي تساءلون به " ، يقول : اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون .

    8412 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس مثله .

    8413 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : أخبرنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " تساءلون به" ، قال : تعاطفون به .

    وأما قوله : "والأرحام" ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله . فقال بعضهم : معناه : واتقوا الله الذي إذا سألتم بينكم قال السائل للمسئول : "أسألك به وبالرحم"

    ذكر من قال ذلك :

    8414 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، يقول : اتقوا الله الذي تعاطفون به والأرحام . يقول : الرجل يسأل بالله وبالرحم .

    8415 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : هو كقول الرجل : "أسألك بالله ، أسألك بالرحم" ، يعني قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " . [ ص: 519 ]

    8416 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال يقول : "أسألك بالله وبالرحم" .

    8417 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : هو كقول الرجل : "أسألك بالرحم" .

    8418 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال يقول : "أسألك بالله وبالرحم" .

    8419 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن منصور - أو مغيرة - عن إبراهيم في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : هو قول الرجل : "أسألك بالله والرحم" .

    8420 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الحسن قال : هو قول الرجل : "أنشدك بالله والرحم" .

    قال محمد : وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله : " والأرحام" بالخفض عطفا ب"الأرحام" ، على"الهاء" التي في قوله : "به" ، كأنه أراد : واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام فعطف بظاهر على مكني مخفوض . وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب ، لأنها لا تنسق بظاهر على مكني في الخفض ، [ ص: 520 ] إلا في ضرورة شعر ، وذلك لضيق الشعر . وأما الكلام ، فلا شيء يضطر المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق ، والرديء في الإعراب منه . ومما جاء في الشعر من رد ظاهر على مكني في حال الخفض ، قول الشاعر :


    نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف


    فعطف ب"الكعب" وهو ظاهر ، على"الهاء والألف" في قوله : "بينها" وهي مكنية .

    وقال آخرون : تأويل ذلك : "واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها . [ ص: 521 ]

    ذكر من قال ذلك :

    8421 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، يقول : اتقوا الله ، واتقوا الأرحام لا تقطعوها .

    8422 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : اتقوا الله ، وصلوا الأرحام ، فإنه أبقى لكم في الدنيا ، وخير لكم في الآخرة .

    8423 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، يقول : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الله في الأرحام فصلوها .

    8424 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : اتقوا الذي تساءلون به ، واتقوه في الأرحام .

    8425 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قول الله : " الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها .

    8426 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : هو قول الرجل : "أنشدك بالله والرحم" .

    8427 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الله ، وصلوا الأرحام . [ ص: 522 ]

    8428 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " الذي تساءلون به والأرحام " ، قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها .

    8429 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " الذي تساءلون به والأرحام " ، قال يقول : اتقوا الله في الأرحام فصلوها .

    8430 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، قال يقول : واتقوا الله في الأرحام فصلوها .

    8431 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبي حماد ، وأخبرنا أبو جعفر الخزاز ، عن جويبر ، عن الضحاك : أن ابن عباس كان يقرأ : " والأرحام" ، يقول : اتقوا الله لا تقطعوها .

    8432 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : اتقوا الأرحام .

    8433 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " ، أن تقطعوها .

    8434 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " واتقوا الله الذي تساءلون به " ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقرأ : ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) [ سورة الرعد : 21 ] .

    قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصبا بمعنى : واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها عطفا ب"الأرحام" ، في إعرابها بالنصب [ ص: 523 ] على اسم الله تعالى ذكره .

    قال : والقراءة التي لا نستجيز لقارئ أن يقرأ غيرها في ذلك ، النصب : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) ، بمعنى : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكني في حال الخفض ، إلا في ضرورة شعر ، على ما قد وصفت قبل .
    القول في تأويل قوله ( إن الله كان عليكم رقيبا ( 1 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : إن الله لم يزل عليكم رقيبا .

    ويعني بقوله : "عليكم" ، على الناس الذين قال لهم جل ثناؤه : " يا أيها الناس اتقوا ربكم " ، والمخاطب والغائب إذا اجتمعا في الخبر ، فإن العرب تخرج الكلام على الخطاب ، فتقول : إذا خاطبت رجلا واحدا أو جماعة فعلت هي وآخرون غيب معهم فعلا"فعلتم كذا ، وصنعتم كذا" .

    ويعني بقوله : " رقيبا" ، حفيظا ، محصيا عليكم أعمالكم ، متفقدا رعايتكم حرمة أرحامكم وصلتكم إياها ، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها ، كما : -

    8435 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الله كان عليكم رقيبا " ، حفيظا .

    8435 م - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد في قوله : " إن الله كان عليكم رقيبا " ، على أعمالكم ، يعلمها ويعرفها .

    ومنه قول أبي دؤاد الإيادي :

    [ ص: 524 ]
    كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد

    القول في تأويل قوله ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره أوصياء اليتامى . يقول لهم : وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى : [ اليتامى ] أموالهم إذا هم بلغوا الحلم ، وأونس منهم الرشد [ ص: 525 ] "ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب" ، يقول : ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم ، كما : -

    8436 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب" ، قال : الحلال بالحرام .

    8437 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    8438 - حدثني سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : الحرام مكان الحلال .

    قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث كان بالطيب ، الذي نهوا عنه ، ومعناه .

    فقال بعضهم : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من ماله والرفيع منه ، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس ، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه .

    ذكر من قال ذلك :

    8439 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : لا تعط زيفا وتأخذ جيدا .

    8440 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ومعمر عن الزهري ، قالوا : يعطي مهزولا ويأخذ سمينا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #452
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (452)
    صــ 526إلى صــ 540





    8441 - وبه عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك قال : لا تعط فاسدا ، وتأخذ جيدا . [ ص: 526 ]

    8442 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : "شاة بشاة"! ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : "درهم بدرهم"!!

    وقال آخرون : معنى ذلك : لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قدر لك من الحلال .

    ذكر من قال ذلك :

    8443 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك .

    8444 - وبه عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح مثله .

    وقال آخرون : معنى ذلك ، كالذي : -

    8445 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار ، يأخذه الأكبر وقرأ ( وترغبون أن تنكحوهن ) قال : إذا لم يكن لهم شيء : ( والمستضعفين من الولدان ) [ سورة النساء : 127 ] ، لا يورثونهم . قال : فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي أخذه خبيث .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : تأويل ذلك : ولا تتبدلوا أموال أيتامكم - أيها الأوصياء - الحرام عليكم الخبيث لكم ، [ ص: 527 ] فتأخذوا رفائعها وخيارها وجيادها . بالطيب الحلال لكم من أموالكم [ أي لا تأخذوا ] الرديء الخسيس بدلا منه .

    وذلك أن"تبدل الشيء بالشيء" في كلام العرب : أخذ شيء مكان آخر غيره ، يعطيه المأخوذ منه أو يجعله مكان الذي أخذ .

    فإذ كان ذلك معنى"التبدل" و"الاستبدال" ، فمعلوم أن الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك : هو أخذ أكبر ولد الميت جميع مال ميته ووالده ، دون صغارهم ، إلى ماله - قول لا معنى له . لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم ، فلم يستبدل مما أخذ شيئا . فما"التبدل" الذي قال جل ثناؤه : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، ولم يتبدل الآخذ مكان المأخوذ بدلا؟

    وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك : لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجيء الحلال فإنهما أيضا ، إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال : "إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها" ، ففساده نظير فساد قول ابن زيد . لأن من استعجل الحرام فأكله ، ثم آتاه الله رزقه الحلال ، فلم يبدل شيئا مكان شيء . وإن كانا قد أرادا بذلك ، أن الله جل ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجيء الحلال ، فيكون أكلهم ذلك [ ص: 528 ] سببا لحرمان الطيب منه فذلك وجه معروف ، ومذهب معقول . يحتمله التأويل . غير أن أشبه [ القولين ] في ذلك بتأويل الآية ، ما قلنا; لأن ذلك هو الأظهر من معانيه ، لأن الله جل ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها ، فلأن يكون ذلك من جنس حكم أول الآية وآخرها ، [ أولى ] من أن يكون من غير جنسه .
    القول في تأويل قوله ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولا تخلطوا أموالهم - يعني : أموال اليتامى بأموالكم - فتأكلوها مع أموالكم ، كما : -

    8446 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " ، يقول : لا تأكلوا أموالكم وأموالهم ، تخلطوها فتأكلوها جميعا .

    8447 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن مبارك ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى ، كرهوا أن يخالطوهم ، وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 529 ] فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) [ سورة البقرة : 220 ] قال : فخالطوهم واتقوا .
    القول في تأويل قوله ( إنه كان حوبا كبيرا ( 2 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره [ بقوله ] : " إنه كان حوبا كبيرا " ، إن أكلكم أموال أيتامكم ، حوب كبير .

    و"الهاء" في قوله : "إنه" دالة على اسم الفعل ، أعني"الأكل" .

    وأما"الحوب" ، فإنه الإثم ، يقال منه : "حاب الرجل يحوب حوبا وحوبا وحيابة" ، ويقال منه : "قد تحوب الرجل من كذا" ، إذا تأثم منه ، ومنه قول أمية بن الأسكر الليثي :


    وإن مهاجرين تكنفاه غداتئذ ، لقد خطئا وحابا


    ومنه قيل : "نزلنا بحوبة من الأرض ، وبحيبة من الأرض" ، إذا نزلوا بموضع سوء منها .

    و"الكبير" العظيم .

    [ ص: 530 ]

    فمعنى ذلك : إن أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم ، إثم عند الله عظيم .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8448 - حدثني محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " حوبا كبيرا " قال : إثما .

    8449 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    8450 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إنه كان حوبا كبيرا " ، قال : إثما عظيما .

    8451 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " كان حوبا " أما"حوبا" فإثما .

    8452 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " حوبا" ، قال : إثما .

    8453 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إنه كان حوبا كبيرا " يقول : ظلما كبيرا .

    8454 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " إنه كان حوبا كبيرا " قال : ذنبا كبيرا وهي لأهل الإسلام .

    8455 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا قرة بن خالد قال : سمعت الحسن يقول : " حوبا كبيرا " ، قال : إثما والله عظيما .
    [ ص: 531 ] القول في تأويل قوله ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : وإن خفتم ، يا معشر أولياء اليتامى ، أن لا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه ، وتبلغوا بصداقهن صدقات أمثالهن ، فلا تنكحوهن ، ولكن انكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم وطيبهن ، من واحدة إلى أربع ، وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة فلا تعدلوا ، فانكحوا منهن واحدة ، أو ما ملكت أيمانكم .

    ذكر من قال ذلك :

    8456 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، فقالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة صداقها ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء .

    8457 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة [ ص: 532 ] زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تبارك وتعالى : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، قالت : يا ابن أختي ، هذه اليتيمة ، تكون في حجر وليها تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها . فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال يونس بن يزيد قال ربيعة في قول الله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال يقول : اتركوهن ، فقد أحللت لكم أربعا .

    8458 - حدثنا الحسن بن الجنيد وأخبرنا سعيد بن مسلمة قالا . أنبأنا إسماعيل بن أمية ، عن ابن شهاب ، عن عروة قال : سألت عائشة أم المؤمنين فقلت : يا أم المؤمنين ، أرأيت قول الله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء "؟ قالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في جمالها ومالها ، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة صداق نسائها ، فنهوا عن ذلك : أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا فيكملوا لهن الصداق ، ثم أمروا أن ينكحوا سواهن من النساء إن لم يكملوا لهن الصداق . [ ص: 533 ]

    8459 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب قال : حدثني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثل حديث يونس ، عن ابن وهب .

    8460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري عن عروة ، عن عائشة ، مثل حديث ابن حميد ، عن ابن المبارك .

    8461 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : نزل تعني قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، الآية في اليتيمة تكون عند الرجل ، وهي ذات مال ، فلعله ينكحها لمالها ، وهي لا تعجبه ، ثم يضربها ، ويسيء صحبتها ، فوعظ في ذلك .

    [ ص: 534 ]

    قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل ، جواب قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا " ، قوله : " فانكحوا" .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : النهي عن نكاح ما فوق الأربع ، حذارا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم . وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدما ، مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به . فنهوا عن ذلك ، وقيل لهم : إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها ، من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم ، [ ص: 535 ] فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع وإن خفتم أيضا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم ، فاقتصروا على الواحدة ، أو على ما ملكت أيمانكم .

    ذكر من قال ذلك :

    8462 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك قال : سمعت عكرمة يقول في هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : كان الرجل من قريش يكون عنده النسوة ، ويكون عنده الأيتام ، فيذهب ماله ، فيميل على مال الأيتام ، قال : فنزلت هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " .

    8463 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، قال : كان الرجل يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ، فيقول الرجل : "ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان"؟ فيأخذ مال يتيمه فيتزوج به ، فنهوا أن يتزوجوا فوق الأربع .

    8464 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى .

    8465 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، فإن الرجل كان يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى ، فنهى الله عن ذلك .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن القوم كانوا يتحوبون في أموال اليتامى أن لا يعدلوا فيها ، ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدلوا فيهن ، فقيل لهم : كما خفتم أن [ ص: 536 ] لا تعدلوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع ، ولا تزيدوا على ذلك . وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضا في الزيادة على الواحدة ، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم .

    ذكر من قال ذلك :

    8466 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : كان الناس على جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه ، قال : فذكروا اليتامى ، فنزلت : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، قال : فكما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في النساء .

    8467 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) إلى : "أيمانكم" ، كانوا يشددون في اليتامى ، ولا يشددون في النساء ، ينكح أحدهم النسوة ، فلا يعدل بينهن ، فقال الله تبارك وتعالى : كما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى ، فخافوا في النساء ، فانكحوا واحدة إلى الأربع . فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم .

    8468 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " حتى بلغ"أدنى ألا تعولوا" ، يقول : كما خفتم الجور في اليتامى وهمكم ذلك ، فكذلك فخافوا في جمع النساء ، وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة [ ص: 537 ] فما دون ذلك ، فأحل الله جل ثناؤه أربعا ، ثم صيرهن إلى أربع قوله : " مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " ، يقول ، إن خفت أن لا تعدل في أربع فثلاث ، وإلا فثنتين ، وإلا فواحدة . وإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .

    8469 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، يقول : ما أحل لكم من النساء" مثنى وثلاث ورباع " ، فخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى : أن لا تقسطوا فيهن .

    8470 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : جاء الإسلام والناس على جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء فيتبعوه ، أو ينهوا عن شيء فيجتنبوه ، حتى سألوا عن اليتامى ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " .

    8471 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو النعمان عارم قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : بعث الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه ، وكانوا يسألونه عن اليتامى فأنزل الله تبارك وتعالى : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، قال : فكما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى ، فخافوا أن لا تقسطوا وتعدلوا في النساء .

    8472 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى ، وكانوا [ ص: 538 ] يعظمون شأن اليتيم ، فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم ، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية ، فقال : " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية .

    8473 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، كانوا في جاهليتهم لا يرزأون من مال اليتيم شيئا ، وهم ينكحون عشرا من النساء ، وينكحون نساء آبائهم ، فتفقدوا من دينهم شأن النساء ، فوعظهم الله في اليتامى وفي النساء ، فقال في اليتامى : ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) إلى ( إنه كان حوبا كبيرا ) ووعظهم في شأن النساء فقال : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " الآية ، وقال : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) [ سورة النساء : 22 ] .

    8474 - حدثت عن عمار عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " إلى"ما ملكت أيمانكم" ، يقول : فإن خفتم الجور في اليتامى وغمكم ذلك ، فكذلك فخافوا في جمع النساء ، قال : [ ص: 539 ] وكان الرجل يتزوج العشر في الجاهلية فما دون ذلك ، وأحل الله أربعا ، وصيرهم إلى أربع ، يقول : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ، وإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .

    وقال آخرون : معنى ذلك : فكما خفتم في اليتامى ، فكذلك فتخوفوا في النساء أن تزنوا بهن ، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء .

    ذكر من قال ذلك :

    8475 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، يقول : إن تحرجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانا وتصديقا ، فكذلك فتحرجوا من الزنا ، وانكحوا النساء نكاحا طيبا" مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .

    8476 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللاتي أنتم ولاتهن ، فلا تنكحوهن ، وانكحوا أنتم ما حل لكم منهن .

    ذكر من قال ذلك :

    8477 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل ، هو وليها ، ليس لها ولي غيره ، وليس أحد ينازعه فيها ، ولا ينكحها لمالها ، فيضربها ، ويسيء صحبتها . [ ص: 540 ]

    8478 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا يونس ، عن الحسن في هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " أي : ما حل لكم من يتاماكم من قراباتكم" مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية ، قول من قال : تأويلها : "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء ، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن ، من واحدة إلى الأربع ، فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا ، فلا تنكحوها ، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم ، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن" .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #453
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (453)
    صــ 541إلى صــ 555





    وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخلطها بغيرها من الأموال ، فقال تعالى ذكره : ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ) . ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه ، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء ، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى ، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن ، كما عرفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى ، فقال : انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ، ما أبحت لكم منهن وحللته ، مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم أيضا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة ، بأن لا تقدروا على إنصافها ، فلا تنكحوها ، [ ص: 541 ] ولكن تسروا من المماليك ، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن ، لأنهن أملاككم وأموالكم ، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر ، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور .

    ففي الكلام - إذ كان المعنى ما قلنا - متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره . وذلك أن معنى الكلام : وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها ، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم ، فلا تتزوجوا منهن إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع ، وإن خفتم أيضا في ذلك فواحدة . وإن خفتم في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم فترك ذكر قوله : "فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء" ، بدلالة ما ظهر من قوله تعالى : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .

    فإن قال قائل : فأين جواب قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى

    قيل : قوله" فانكحوا ما طاب لكم " ، غير أن المعنى الذي يدل على أن المراد بذلك ما قلنا قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " .

    وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى"الإقساط" في كلام العرب : العدل والإنصاف وأن"القسط" : الجور والحيف ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    وأما"اليتامى" ، فإنها جمع لذكران الأيتام وإناثهم في هذا الموضع .

    [ ص: 542 ]

    وأما قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، فإنه يعني : فانكحوا ما حل لكم منهن ، دون ما حرم عليكم منهن ، كما : -

    8479 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، ما حل لكم .

    8480 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير في قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، يقول : ما حل لكم .

    فإن قال قائل : وكيف قيل : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" ، ولم يقل : "فانكحوا من طاب لكم" ؟ وإنما يقال : "ما" في غير الناس .

    قيل : معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما معناه : فانكحوا نكاحا طيبا ، كما : -

    8481 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، فانكحوا النساء نكاحا طيبا .

    8481 م - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    فالمعني بقوله : " ما طاب لكم " ، الفعل ، دون أعيان النساء وأشخاصهن ، فلذلك قيل"ما" ولم يقل"من" ، كما يقال : "خذ من رقيقي ما أردت" ، إذا عنيت : خذ منهم إرادتك . ولو أردت : خذ الذي تريد منهم ، لقلت : "خذ من رقيقي من أردت منهم" . وكذلك قوله : "أو ما ملكت أيمانكم" ، بمعنى : أو ملك أيمانكم .

    [ ص: 543 ]

    وإنما معنى قوله : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" ، فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع ، كما قيل : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) [ سورة النور : 4 ] .

    وأما قوله : " مثنى وثلاث ورباع " ، فإنما ترك إجراؤهن ، لأنهن معدولات عن"اثنين" و"ثلاث" و"أربع" ، كما عدل"عمر" عن"عامر" ، و"زفر" عن"زافر" فترك إجراؤه ، وكذلك ، "أحاد" و"ثناء" و"موحد" و"مثنى" و"مثلث" و"مربع" ، لا يجري ذلك كله للعلة التي ذكرت من العدول عن وجوهه . ومما يدل على أن ذلك كذلك ، وأن الذكر والأنثى فيه سواء ، ما قيل في هذه السورة و"سورة فاطر" ، [ 1 ] : "مثنى وثلاث ورباع" يراد به"الجناح" ، و"الجناح" ذكر وأنه أيضا لا يضاف إلى ما يضاف إليه"الثلاثة" و"الثلاث" وأن"الألف واللام" لا تدخله فكان في ذلك دليل على أنه اسم للعدد معرفة ، ولو كان نكرة لدخله"الألف واللام" ، وأضيف كما يضاف"الثلاثة" و"الأربعة" . ومما يبين في ذلك قول تميم بن أبي بن مقبل :


    ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
    [ ص: 544 ]

    فرد"أحاد ومثنى" ، على"النعرات" وهي معرفة . وقد تجعلها العرب نكرة فتجريها ، كما قال الشاعر :


    وإن الغلام المستهام بذكره قتلنا به من بين مثنى وموحد
    بأربعة منكم وآخر خامس وساد مع الإظلام في رمح معبد


    ومما يبين أن"ثناء" و"أحاد" غير جارية ، قول الشاعر :


    ولقد قتلتكم ثناء وموحدا وتركت مرة مثل أمس المدبر


    [ ص: 545 ] وقول الشاعر :


    منت لك أن تلاقيني المنايا أحاد أحاد في شهر حلال


    ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز"الرباع" و"المربع" عن جهته . لم يسمع منها"خماس" ولا"المخمس" ، ولا"السباع" ولا"المسبع" ، وكذلك ما فوق"الرباع" إلا في بيت للكميت . فإنه يروى له في"العشرة" ، "عشار" وهو قوله :


    فلم يستريثوك حتى رمي ت فوق الرجال خصالا عشارا
    [ ص: 546 ]

    يريد : "عشرا ، عشرا" ، يقال : إنه لم يسمع غير ذلك .

    وأما قوله : " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " ، فإن نصب"واحدة" ، بمعنى : فإن خفتم أن لا تعدلوا فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح ، فيما أوجبه الله لهن عليكم فانكحوا واحدة منهن .

    ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالرفع ، كان جائزا ، بمعنى : فواحدة كافية ، أو : فواحدة مجزئة ، كما قال جل ثناؤه : ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) [ سورة البقرة : 282 ] .

    وإن قال لنا قائل : قد علمت أن الحلال لكم من جميع النساء الحرائر ، نكاح أربع ، فكيف قيل : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، وذلك في العدد تسع؟

    قيل : إن تأويل ذلك : فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، إما مثنى إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهما عليكم وإما ثلاث ، إن لم تخافوا ذلك وإما أربع ، إن أمنتم ذلك فيهن .

    يدل على صحة ذلك قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ، لأن المعنى : [ ص: 547 ] فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة . ثم قال : وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضا في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم .

    فإن قال قائل : فإن أمر الله ونهيه على الإيجاب والإلزام حتى تقوم حجة بأن ذلك على التأديب والإرشاد والإعلام ، وقد قال تعالى ذكره : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، وذلك أمر ، فهل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب؟

    قيل : نعم ، والدليل على ذلك قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " . فكان معلوما بذلك أن قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، وإن كان مخرجه مخرج الأمر ، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجور فيه من عدد النساء ، لا بمعنى الأمر بالنكاح ، فإن المعني به : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فتحرجتم فيهن ، فكذلك فتحرجوا في النساء ، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجور فيه منهن ، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربع .

    وقد بينا في غير هذا الموضع أن العرب تخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد ، كما قال جل ثناؤه : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [ سورة الكهف : 29 ] ، وكما قال : ( ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ) [ سورة النحل : 55\ سورة الروم : 34 ] ، فخرج ذلك مخرج الأمر ، والمقصود به التهديد والوعيد والزجر والنهي ، فكذلك قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، بمعنى النهي : فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء .

    وعلى النحو الذي قلنا في معنى قوله : " أو ما ملكت أيمانكم " قال أهل التأويل . [ ص: 548 ]

    ذكر من قال ذلك :

    8482 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، يقول : فإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .

    8483 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أو ما ملكت أيمانكم " ، السراري .

    8484 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، فإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .

    8485 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا " ، قال : في المجامعة والحب .
    القول في تأويل قوله ( ذلك أدنى ألا تعولوا ( 3 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره وإن خفتم أن لا تعدلوا في مثنى أو ثلاث أو رباع فنكحتم واحدة ، أو خفتم أن لا تعدلوا في الواحدة فتسررتم ملك أيمانكم ، فهو"أدنى" يعني : أقرب ، " ألا تعولوا " ، يقول : أن لا تجوروا ولا تميلوا .

    يقال منه : "عال الرجل فهو يعول عولا وعيالة" ، إذا مال وجار . ومنه : "عول الفرائض" ، لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص . [ ص: 549 ]

    وأما من الحاجة ، فإنما يقال : "عال الرجل عيلة" ، وذلك إذا احتاج ، كما قال الشاعر :


    وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل


    بمعنى : يفتقر .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8486 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا يونس ، عن الحسن : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، قال : العول الميل في النساء .

    8487 - حدثنا ابن حميد قال : حدثني حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، يقول : لا تميلوا .

    8488 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، أن لا تميلوا .

    8489 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    8490 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل [ ص: 550 ] قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة : " ألا تعولوا " قال : أن لا تميلوا ثم قال : أما سمعت إلى قول أبي طالب :


    بميزان قسط وزنه غير عائل


    8491 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن الزبير ، عن حريث ، عن عكرمة في هذه الآية : " ألا تعولوا " ، قال : أن لا تميلوا قال : وأنشد بيتا من شعر زعم أن أبا طالب قاله :


    بميزان قسط لا يخس شعيرة ووازن صدق وزنه غير عائل


    قال أبو جعفر ويروى هذا البيت على غير هذه الرواية :


    بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل


    8492 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " ألا تعولوا " ، قال : أن لا تميلوا . [ ص: 551 ]

    8493 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم مثله .

    8494 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي قال : كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه عليه فيه : "إني لست بميزان لا أعول" .

    8495 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثام بن علي قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك في قوله : " أدنى ألا تعولوا " ، قال : لا تميلوا .

    8496 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، أدنى أن لا تميلوا .

    8497 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ألا تعولوا " ، قال : تميلوا .

    8498 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، يقول : أن لا تميلوا .

    8499 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، يقول : تميلوا .

    8500 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أدنى ألا تعولوا " ، يعني : أن لا تميلوا .

    8501 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، يقول : ذلك أدنى أن لا تميلوا . [ ص: 552 ]

    8502 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، قال : أن لا تجوروا .

    8503 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون ، وعارم أبو النعمان قالا حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك مثله .

    8504 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد : " ذلك أدنى ألا تعولوا " قال : تميلوا .

    8505 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " ذلك أدنى ألا تعولوا " ، ذلك أقل لنفقتك ، الواحدة أقل من ثنتين وثلاث وأربع ، وجاريتك أهون نفقة من حرة" أن لا تعولوا " ، أهون عليك في العيال .
    القول في تأويل قوله ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : وأعطوا النساء مهورهن عطية واجبة ، وفريضة لازمة .

    يقال منه : "نحل فلان فلانا كذا فهو ينحله نحلة ونحلا" ، كما : -

    8506 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا [ ص: 553 ] سعيد ، عن قتادة قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، يقول : فريضة .

    8507 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، يعني ب"النحلة" ، المهر .

    8508 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، قال : فريضة مسماة .

    8509 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، قال : "النحلة" في كلام العرب ، الواجب يقول : لا ينكحها إلا بشيء واجب لها ، صدقة يسميها لها واجبة ، وليس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة ، بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق .

    وقال آخرون : بل عنى بقوله : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " ، أولياء النساء ، وذلك أنهم كانوا يأخذون صدقاتهن .

    ذكر من قال ذلك :

    8510 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن سيار ، عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج أيمه أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك ، ونزلت : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " .

    وقال آخرون : بل كان ذلك من أولياء النساء ، بأن يعطي الرجل أخته لرجل ، على أن يعطيه الآخر أخته ، على أن لا كثير مهر بينهما ، فنهوا عن ذلك . [ ص: 554 ]

    ذكر من قال ذلك :

    8511 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم حضرمي أن أناسا كانوا يعطي هذا الرجل أخته ، ويأخذ أخت الرجل ، ولا يأخذون كثير مهر ، فقال الله تبارك وتعالى : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك ، التأويل الذي قلناه . وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين النساء ، ونهاهم عن ظلمهن والجور عليهن ، وعرفهم سبيل النجاة من ظلمهن . ولا دلالة في الآية على أن الخطاب قد صرف عنهم إلى غيرهم . فإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين قيل لهم : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، هم الذين قيل لهم : " وآتوا النساء صدقاتهن " وأن معناه : وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهن نحلة ، لأنه قال في أول [ الآية ] : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، ولم يقل : "فأنكحوا" ، فيكون قوله : " وآتوا النساء صدقاتهن " ، مصروفا إلى أنه معني به أولياء النساء دون أزواجهن .

    وهذا أمر من الله أزواج النساء المدخول بهن والمسمى لهن الصداق ، أن يؤتوهن صدقاتهن ، دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسم لها في عقد النكاح صداق .
    [ ص: 555 ] القول في تأويل قوله ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ( 4 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن وهب لكم ، أيها الرجال ، نساؤكم شيئا من صدقاتهن ، طيبة بذلك أنفسهن ، فكلوه هنيئا مريئا ، كما : -

    8512 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا عمارة ، عن عكرمة : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، قال : المهر .

    8513 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثني حرمي بن عمارة قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة ، عن عكرمة ، [ عن عمارة ] في قول الله تبارك وتعالى : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، قال : الصدقات .

    8514 - حدثني المثنى قال : حدثني الحماني قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " قال : الأزواج .

    8515 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن عبيدة قال : قال لي إبراهيم : أكلت من الهنيء المريء! قلت : ما ذاك؟ قال : امرأتك أعطتك من صداقها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #454
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (454)
    صــ 556إلى صــ 570





    8516 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : دخل رجل على علقمة وهو يأكل من طعام بين يديه ، من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره ، فقال له علقمة : ادن فكل من الهنيء المريء! [ ص: 556 ]

    8517 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " ، يقول : إذا كان غير إضرار ولا خديعة ، فهو هنيء مريء ، كما قال الله جل ثناؤه .

    8518 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، قال : الصداق ، "فكلوه هنيئا مريئا" .

    8519 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " بعد أن توجبوه لهن وتحلوه ، "فكلوه هنيئا مريئا" . .

    8520 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه قال : زعم حضرمي أن أناسا كانوا يتأثمون أن يراجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته ، فقال الله تبارك وتعالى : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " .

    8521 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " ، يقول : ما طابت به نفسا في غير كره أو هوان ، فقد أحل الله لك ذلك أن تأكله هنيئا مريئا .

    وقال آخرون : بل عنى بهذا القول أولياء النساء ، فقيل لهم : إن طابت أنفس النساء اللواتي إليكم عصمة نكاحهن ، بصدقاتهن نفسا ، فكلوه هنيئا مريئا .

    ذكر من قال ذلك :

    8522 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا سيار ، عن أبي صالح في قوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، قال : كان الرجل [ ص: 557 ] إذا زوج ابنته ، عمد إلى صداقها فأخذه ، قال : فنزلت هذه الآية في الأولياء : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " .

    قال أبو جعفر وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويل الذي قلنا وأن الآية مخاطب بها الأزواج . لأن افتتاح الآية مبتدأ بذكرهم ، وقوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " في سياقه .

    وإن قال قائل : فكيف قيل : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، وقد علمت أن معنى الكلام : فإن طابت لكم أنفسهن بشيء؟ وكيف وحدت"النفس" ، والمعنى للجميع؟ وذلك أنه تعالى ذكره قال : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " .

    قيل : أما نقل فعل النفوس إلى أصحاب النفوس ، فإن ذلك المستفيض في كلام العرب . من كلامها المعروف : "ضقت بهذا الأمر ذراعا وذرعا""وقررت بهذا الأمر عينا" ، والمعنى! ضاق به ذرعي ، وقرت به عيني ، كما قال الشاعر :


    إذا التياز ذو العضلات قلنا : إليك ، إليك"! ضاق بها ذراعا
    [ ص: 558 ]

    فنقل صفة"الذراع" إلى"رب الذراع" ، ثم أخرج"الذراع" مفسرة لموقع الفعل .

    وكذلك وحد"النفس" في قوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا إذ كانت"النفس" مفسرة لموقع الخبر .

    وأما توحيد"النفس" من النفوس ، لأنه إنما أراد"الهوى" ، و"الهوى" يكون جماعة ، كما قال الشاعر :


    بها جيف الحسرى ، فأما عظامها فبيض ، وأما جلدها فصليب


    وكما قال الآخر :


    في حلقكم عظم وقد شجينا
    [ ص: 559 ]

    وقال بعض نحويي الكوفة : جائز في"النفس" في هذا الموضع الجمع والتوحيد ، " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " و"أنفسا" ، و"ضقت به ذراعا" و"ذرعا" و"أذرعا" ، لأنه منسوب إليك وإلى من تخبر عنه ، فاكتفى بالواحد عن الجمع لذلك ، ولم يذهب الوهم إلى أنه ليس بمعنى جمع ، لأن قبله جمعا .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن"النفس" وقع موقع الأسماء التي تأتي بلفظ الواحد ، مؤدية معناه إذا ذكر بلفظ الواحد ، وأنه بمعنى الجمع عن الجميع .

    وأما قوله : "هنيئا" ، فإنه مأخوذ من : "هنأت البعير بالقطران" ، إذا جرب فعولج به ، كما قال الشاعر :


    متبذلا تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب
    [ ص: 560 ]

    فكأن معنى قوله : "فكلوه هنيئا مريئا" ، فكلوه دواء شافيا .

    يقال منه : "هنأني الطعام ومرأني" ، أي صار لي دواء وعلاجا شافيا ، "وهنئني ومرئني" بالكسر ، وهي قليلة . والذين يقولون هذا القول ، يقولون : "يهنأني ويمرأني" ، والذين يقولون : "هنأني" يقولون : "يهنيني ويمريني" . فإذا أفردوا قالوا : "قد أمرأني هذا الطعام إمراء" . ويقال : "هنأت القوم" إذا علتهم ، سمع من العرب من يقول : "إنما سميت هانئا لتهنأ" ، بمعنى : لتعول وتكفي .
    القول في تأويل قوله ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في" السفهاء" الذين نهى الله جل ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم .

    فقال بعضهم : هم النساء والصبيان .

    ذكر من قال ذلك :

    8523 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال [ ص: 561 ] حدثنا إسرائيل ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير قال : اليتامى والنساء .

    8524 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : لا تعطوا الصغار والنساء .

    8525 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن الحسن قال : المرأة والصبي .

    8526 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن شريك ، عن أبي حمزة ، عن الحسن قال : النساء والصغار ، والنساء أسفه السفهاء .

    8527 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : "السفهاء" ابنك السفيه ، وامرأتك السفيهة . وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الله في الضعيفين ، اليتيم والمرأة " .

    8528 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا حميد ، عن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن السدي قال : يرده إلى عبد الله قال : النساء والصبيان .

    8529 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، أما"السفهاء" ، فالولد والمرأة .

    8530 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، يعني بذلك ولد الرجل وامرأته ، وهي أسفه السفهاء .

    8531 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : "السفهاء" الولد ، [ ص: 562 ] والنساء أسفه السفهاء ، فيكونوا عليكم أربابا .

    8532 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : أولادكم ونساؤكم .

    8533 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك قال : النساء والصبيان .

    8534 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : النساء والولدان .

    8535 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا ابن أبي غنية ، عن الحكم : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : النساء والولدان .

    8536 - حدثنا بشر بن معاذ : قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " ، أمر الله بهذا المال أن يخزن فتحسن خزانته ، ولا يملكه المرأة السفيهة والغلام السفيه .

    8537 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل ، عن أبي مالك قال : النساء والصبيان .

    8538 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : امرأتك [ ص: 563 ] وبنيك وقال : "السفهاء" ، الولدان ، والنساء أسفه السفهاء .

    وقال آخرون : بل"السفهاء" ، الصبيان خاصة .

    ذكر من قال ذلك :

    8539 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : هم اليتامى .

    8540 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثني أبي ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد قال : "السفهاء" ، اليتامى .

    8541 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، يقول : لا تنحلوا الصغار .

    وقال آخرون : بل عنى بذلك : السفهاء من ولد الرجل .

    ذكر من قال ذلك :

    8542 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : لا تعط ولدك السفيه مالك فيفسده ، الذي هو قوامك بعد الله تعالى .

    8543 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، يقول : لا تسلط السفيه من ولدك فكان ابن عباس يقول : نزل ذلك في السفهاء ، وليس اليتامى من ذلك في شيء . [ ص: 564 ]

    8544 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أنه قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه .

    8545 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " الآية ، قال : لا تعط السفيه من ولدك رأسا ولا حائطا ، ولا شيئا هو لك قيما من مالك .

    وقال آخرون : بل"السفهاء" في هذا الموضع ، النساء خاصة دون غيره .

    ذكر من قال ذلك :

    8546 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم حضرمي أن رجلا عمد فدفع ماله إلى امرأته ، فوضعته في غير الحق ، فقال الله تبارك وتعالى : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " .

    8547 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن حميد ، عن مجاهد : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : النساء .

    8548 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثنا سفيان ، عن الثوري ، عن حميد ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : هن النساء . [ ص: 565 ]

    8549 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " ، قال : نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم ، وهن سفهاء من كن أزواجا أو أمهات أو بنات .

    8550 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    8551 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا هشام ، عن الحسن قال : المرأة .

    8552 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : النساء من أسفه السفهاء .

    8553 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن أبي عوانة ، عن عاصم ، عن مورق قال : مرت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارة وهيئة ، فقال لها ابن عمر : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " .

    وقال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا ، أن الله جل ثناؤه عم بقوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، فلم يخصص سفيها دون سفيه . فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله ، صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا ، ذكرا كان أو أنثى .

    و"السفيه" الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله ، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره ذلك .

    وإنما قلنا ما قلنا ، من أن المعني بقوله : " ولا تؤتوا السفهاء " هو من وصفنا دون غيره ، لأن الله جل ثناؤه قال في الآية التي تتلوها : " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " ، فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا [ ص: 566 ] بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد ، وقد يدخل في"اليتامى" الذكور والإناث ، فلم يخصص بالأمر بدفع ما لهم من الأموال ، الذكور دون الإناث ، ولا الإناث دون الذكور .

    وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم ، إليهم ، وأجيز للمسلمين مبايعتهم ومعاملتهم ، غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم ، وحظر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم .

    فإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن"السفهاء" الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم ، هم المستحقون الحجر والمستوجبون أن يولى عليهم أموالهم ، وهم من وصفنا صفتهم قبل ، وأن من عدا ذلك فغير سفيه ، لأن الحجر لا يستحقه من قد بلغ وأونس رشده .

    وأما قول من قال : "عنى بالسفهاء النساء خاصة" ، فإنه جعل اللغة على غير وجهها . وذلك أن العرب لا تكاد تجمع"فعيلا" على"فعلاء" إلا في جمع الذكور ، أو الذكور والإناث . وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم ، جمعوه على : "فعائل" و"فعيلات" ، مثل : "غريبة" ، تجمع"غرائب" و"غريبات" ، فأما"الغرباء" ، فجمع"غريب" .

    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم " ،

    فقال بعضهم : عنى بذلك : لا تؤتوا السفهاء من النساء والصبيان على [ ص: 567 ] ما ذكرنا من اختلاف من حكينا قوله قبل أيها الرشداء ، أموالكم التي تملكونها ، فتسلطوهم عليها فيفسدوها ويضيعوها ، ولكن ارزقوهم أنتم منها إن كانوا ممن تلزمكم نفقته ، واكسوهم ، وقولوا لهم قولا معروفا .

    وقد ذكرنا الرواية عن جماعة ممن قال ذلك ، منهم : أبو موسى الأشعري ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وحضرمي ، وسنذكر قول الآخرين الذين لم يذكر قولهم فيما مضى قبل .

    8554 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها " ، يقول : لا تعط امرأتك وولدك مالك ، فيكونوا هم الذين يقومون عليك ، وأطعمهم من مالك واكسهم .

    8555 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا " ، يقول : لا تسلط السفيه من ولدك على مالك ، وأمره أن يرزقه منه ويكسوه .

    8556 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال : لا تعط السفيه من مالك شيئا هو لك .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : "ولا تؤتوا السفهاء أموالهم" ، ولكنه أضيف إلى الولاة ، لأنهم قوامها ومدبروها .

    ذكر من قال ذلك :

    8557 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، [ ص: 568 ]

    [ هو مال اليتيم يكون عندك ، يقول : لا تؤته إياه ، وأنفقه عليه حتى يبلغ . وإنما أضاف إلى الأولياء فقال : "أموالكم" ، لأنهم قوامها ومدبروها ] .

    قال أبو جعفر : وقد يدخل في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، أموال المنهيين عن أن يؤتوهم ذلك ، وأموال"السفهاء" . لأن قوله : "أموالكم" غير مخصوص منها بعض الأموال دون بعض . ولا تمنع العرب أن تخاطب قوما خطابا ، فيخرج الكلام بعضه خبر عنهم ، وبعضه عن غيب ، وذلك نحو أن يقولوا : "أكلتم يا فلان أموالكم بالباطل" ، فيخاطب الواحد خطاب الجمع ، بمعنى : أنك وأصحابك أو وقومك أكلتم أموالكم . فكذلك قوله : " ولا تؤتوا السفهاء " ، معناه : لا تؤتوا أيها الناس ، سفهاءكم أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم ، فيضيعوها .

    وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره قد عم بالنهي عن إيتاء السفهاء الأموال كلها ، ولم يخصص منها شيئا دون شيء ، كان بينا بذلك أن معنى قوله : " التي جعل الله لكم قياما " ، إنما هو التي جعل الله لكم ولهم قياما ، ولكن السفهاء دخل ذكرهم في ذكر المخاطبين بقوله : "لكم" .

    وأما قوله : " التي جعل الله لكم قياما " ، فإن"قياما" و"قيما" و"قواما" في [ ص: 569 ] معنى واحد . وإنما"القيام" أصله"القوام" ، غير أن"القاف" التي قبل"الواو" لما كانت مكسورة ، جعلت"الواو""ياء" لكسرة ما قبلها ، كما يقال : "صمت صياما" ، "وصلت صيالا" ، ويقال منه : "فلان قوام أهل بيته" و"قيام أهل بيته" .

    واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأ بعضهم : " التي جعل الله لكم قيما" بكسر"القاف" وفتح"الياء" بغير"ألف" .

    وقرأه آخرون : "قياما" بألف .

    قال محمد : والقراءة التي نختارها : "قياما" بالألف ، لأنها القراءة المعروفة في قراءة أمصار الإسلام ، وإن كانت الأخرى غير خطأ ولا فاسد . وإنما اخترنا ما اخترنا من ذلك ، لأن القراءات إذا اختلفت في الألفاظ واتفقت في المعاني ، فأعجبها إلينا ما كان أظهر وأشهر في قرأة أمصار الإسلام .

    وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : "قياما" قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    8558 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك : " أموالكم التي جعل الله لكم قياما " ، التي هي قوامك بعد الله .

    8559 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أموالكم التي جعل الله لكم قياما " ، فإن المال هو [ ص: 570 ] قيام الناس ، قوام معايشهم . يقول : كن أنت قيم أهلك ، فلا تعط امرأتك [ وولدك ] مالك ، فيكونوا هم الذين يقومون عليك .

    8560 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " يقول الله سبحانه : لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة ، فتعطيه امرأتك أو بنيك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم . ولكن أمسك مالك وأصلحه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم . قال : وقوله : " قياما" ، بمعنى : قوامكم في معايشكم .

    8561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن قوله : " قياما" قال : قيام عيشك .

    8562 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا بكر بن شرود ، عن مجاهد أنه قرأ : " التي جعل الله لكم قياما " ، بالألف ، يقول : قيام عيشك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #455
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (455)
    صــ 571إلى صــ 585





    8563 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : [ ص: 571 ] " أموالكم التي جعل الله لكم قياما " ، قال : لا تعط السفيه من ولدك شيئا ، هو لك قيم من مالك .

    وأما قوله : " وارزقوهم فيها واكسوهم " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

    فأما الذين قالوا : إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، [ أموال ] أولياء السفهاء ، لا أموال السفهاء ، فإنهم قالوا : "معنى ذلك : وارزقوا ، أيها الناس ، سفهاءكم من نسائكم وأولادكم ، من أموالكم طعامهم ، وما لا بد لهم منه من مؤنهم وكسوتهم" .

    وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ، وسنذكر من لم يذكر من قائليه .

    8564 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أمروا أن يرزقوا سفهاءهم - من أزواجهم وأمهاتهم وبناتهم - من أموالهم .

    8565 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    8566 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس قوله : " وارزقوهم" ، قال : يقول : أنفقوا عليهم .

    8567 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وارزقوهم فيها واكسوهم " ، يقول : أطعمهم من مالك واكسهم .

    وأما الذين قالوا : "إنما عنى بقوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، أموال السفهاء أن لا يؤتيهموها أولياؤهم" ، فإنهم قالوا : "معنى قوله : [ ص: 572 ] " وارزقوهم فيها واكسوهم " ، وارزقوا ، أيها الولاة ولاة أموال السفهاء ، سفهاءكم من أموالهم ، طعامهم وما لا بد لهم من مؤنهم وكسوتهم . وقد مضى ذكر ذلك .

    قال أبو جعفر : وأما الذي نراه صوابا في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " من التأويل ، فقد ذكرناه ، ودللنا على صحة ما قلنا في ذلك بما أغنى عن إعادته .

    فتأويل قوله : " وارزقوهم فيها واكسوهم " ، على التأويل الذي قلنا في قوله : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " وأنفقوا على سفهائكم من أولادكم ونسائكم الذين تجب عليكم نفقتهم من طعامهم وكسوتهم في أموالكم ، ولا تسلطوهم على أموالكم فيهلكوها وعلى سفهائكم منهم ، ممن لا تجب عليكم نفقته ، ومن غيرهم الذين تلون أنتم أمورهم ، من أموالهم فيما لا بد لهم من مؤنهم في طعامهم وشرابهم وكسوتهم . لأن ذلك هو الواجب من الحكم في قول جميع الحجة ، لا خلاف بينهم في ذلك ، مع دلالة ظاهر التنزيل على ما قلنا في ذلك .
    القول في تأويل قوله ( وقولوا لهم قولا معروفا ( 5 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :

    فقال بعضهم : معنى ذلك : عدهم عدة جميلة من البر والصلة .

    ذكر من قال ذلك :

    8568 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 573 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وقولوا لهم قولا معروفا " ، قال : أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفا في البر والصلة يعني النساء ، وهن السفهاء عنده .

    8569 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " وقولوا لهم قولا معروفا " ، قال : عدة تعدهم .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : ادعوا لهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8570 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وقولوا لهم قولا معروفا " ، إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه ، فقل لهم قولا معروفا ، قل لهم : "عافانا الله وإياك" ، "وبارك الله فيك" .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصحة ، ما قاله ابن جريج . وهو أن معنى قوله : " وقولوا لهم قولا معروفا " ، أي : قولوا ، يا معشر ولاة السفهاء ، قولا معروفا للسفهاء : "إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم ، وخلينا بينكم وبينها ، فاتقوا الله في أنفسكم وأموالكم" ، وما أشبه ذلك من القول الذي فيه حث على طاعة الله ، ونهي عن معصيته .
    [ ص: 574 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وابتلوا اليتامى " ، واختبروا عقول يتاماكم في أفهامهم ، وصلاحهم في أديانهم ، وإصلاحهم أموالهم ، كما : -

    8571 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : " وابتلوا اليتامى " ، قالا يقول : اختبروا اليتامى .

    8572 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما" ابتلوا اليتامى " ، فجربوا عقولهم .

    8573 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وابتلوا اليتامى " ، قال : عقولهم .

    8574 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وابتلوا اليتامى " ، قال : اختبروهم .

    8575 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح " ، قال : اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو . إذا عرف أنه قد أنس منه رشد ، دفع إليه ماله . قال : وذلك بعد الاحتلام .

    قال أبو جعفر : وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"الابتلاء" الاختبار ، بما فيه الكفاية عن إعادته .

    وأما قوله : " إذا بلغوا النكاح " ، فإنه يعني : إذا بلغوا الحلم : كما : -

    8576 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن [ ص: 575 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " حتى إذا بلغوا النكاح " ، حتى إذا احتلموا .

    8577 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " حتى إذا بلغوا النكاح " ، قال : عند الحلم .

    8578 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " حتى إذا بلغوا النكاح " ، قال : الحلم .
    القول في تأويل قوله ( فإن آنستم منهم رشدا )

    قال أبو جعفر : يعني قوله : " فإن آنستم منهم رشدا " ، فإن وجدتم منهم وعرفتم ، كما : -

    8579 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإن آنستم منهم رشدا " ، قال : عرفتم منهم .

    يقال : "آنست من فلان خيرا - وبرا" بمد الألف"إيناسا" ، و"أنست به آنس أنسا" ، بقصر ألفها ، إذا ألفه .

    وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله : ( فإن أحسيتم منهم رشدا ) ، بمعنى : أحسستم ، أي : وجدتم .

    [ ص: 576 ]

    واختلف أهل التأويل في معنى : "الرشد" الذي ذكره الله في هذه الآية .

    فقال بعضهم : معنى"الرشد" في هذا الموضع ، العقل والصلاح في الدين .

    ذكر من قال ذلك :

    8580 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإن آنستم منهم رشدا " ، عقولا وصلاحا .

    8581 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإن آنستم منهم رشدا " ، يقول : صلاحا في عقله ودينه .

    وقال آخرون : معنى ذلك : صلاحا في دينهم ، وإصلاحا لأموالهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8582 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثني أبي ، عن مبارك ، عن الحسن قال : رشدا في الدين ، وصلاحا ، وحفظا للمال .

    8583 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإن آنستم منهم رشدا " ، في حالهم ، والإصلاح في أموالهم .

    وقال آخرون : بل ذلك العقل ، خاصة .

    ذكر من قال ذلك :

    8584 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قال : لا ندفع إلى اليتيم ماله وإن أخذ بلحيته ، وإن كان شيخا ، حتى يؤنس منه رشده ، العقل . [ ص: 577 ]

    8585 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " آنستم منهم رشدا " ، قال : العقل .

    8586 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا أبو شبرمة ، عن الشعبي قال : سمعته يقول : إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده .

    وقال آخرون : بل هو الصلاح والعلم بما يصلحه .

    ذكر من قال ذلك :

    8587 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فإن آنستم منهم رشدا " ، قال : صلاحا وعلما بما يصلحه .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى"الرشد" في هذا الموضع ، العقل وإصلاح المال لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك ، لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله ، وحوز ما في يده عنه ، وإن كان فاجرا في دينه . وإذ كان ذلك إجماعا من الجميع ، فكذلك حكمه إذا بلغ وله مال في يدي وصي أبيه ، أو في يد حاكم قد ولي ماله لطفولته واجب عليه تسليم ماله إليه ، إذا كان عاقلا بالغا ، مصلحا لماله غير مفسد ، لأن المعنى الذي به يستحق أن يولى على ماله الذي هو في يده ، هو المعنى الذي به يستحق أن يمنع يده من ماله الذي هو في يد ولي ، فإنه لا فرق بين ذلك .

    وفي إجماعهم على أنه غير جائز حيازة ما في يده في حال صحة عقله وإصلاح [ ص: 578 ] ما في يده ، الدليل الواضح على أنه غير جائز منع يده مما هو له في مثل ذلك الحال ، وإن كان قبل ذلك في يد غيره ، لا فرق بينهما . ومن فرق بين ذلك ، عكس عليه القول في ذلك ، وسئل الفرق بينهما من أصل أو نظير ، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

    فإذ كان ما وصفنا من الجميع إجماعا ، فبين أن"الرشد" الذي به يستحق اليتيم ، إذا بلغ فأونس منه ، دفع ماله إليه ، ما قلنا من صحة عقله وإصلاح ماله .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره ولاة أموال اليتامى . يقول الله لهم : فإذا بلغ أيتامكم الحلم ، فآنستم منهم عقلا وإصلاحا لأموالهم ، فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تحبسوها عنهم .

    وأما قوله : " فلا تأكلوها إسرافا " ، يعني : بغير ما أباحه الله لك ، كما : -

    8588 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن : " ولا تأكلوها إسرافا " ، يقول : لا تسرف فيها .

    8589 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا [ ص: 579 ] أسباط ، عن السدي : " ولا تأكلوها إسرافا " ، قال : يسرف في الأكل .

    وأصل"الإسراف" : تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح . وربما كان ذلك في الإفراط ، وربما كان في التقصير . غير أنه إذا كان في الإفراط ، فاللغة المستعملة فيه أن يقال : "أسرف يسرف إسرافا" وإذا كان كذلك في التقصير ، فالكلام منه : "سرف يسرف سرفا" ، يقال : "مررت بكم فسرفتكم" ، يراد منه : فسهوت عنكم وأخطأتكم ، كما قال الشاعر :


    أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف


    يعني بقوله : "ولا سرف" ، لا خطأ فيه ، يراد به : أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطئونها .
    [ ص: 580 ] القول في تأويل قوله ( وبدارا أن يكبروا )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وبدارا" ، ومبادرة . وهو مصدر من قول القائل : "بادرت هذا الأمر مبادرة وبدارا" .

    وإنما يعني بذلك جل ثناؤه ولاة أموال اليتامى . يقول لهم : لا تأكلوا أموالهم إسرافا - يعني ما أباح الله لكم أكله - ولا مبادرة منكم بلوغهم وإيناس الرشد منهم ، حذرا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمه إليهم ، كما : -

    8590 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إسرافا وبدارا " ، يعني : أكل مال اليتيم مبادرا أن يبلغ ، فيحول بينه وبين ماله .

    8591 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن : " ولا تأكلوها إسرافا وبدارا " ، يقول : لا تسرف فيها ولا تبادره .

    8592 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وبدارا " ، تبادرا أن يكبروا فيأخذوا أموالهم .

    8593 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إسرافا وبدارا " ، قال : هذه لولي اليتيم يأكله ، جعلوا له أن يأكل معه ، إذا لم يجد شيئا يضع يده معه ، فيذهب يؤخره ، يقول : "لا أدفع إليه ماله" ، وجعلت تأكله تشتهي أكله ، لأنك إذا لم تدفعه إليه لك فيه نصيب ، وإذا دفعته إليه فليس لك فيه نصيب .

    [ ص: 581 ]

    وموضع"أن" في قوله : " أن يكبروا" نصب ب"المبادرة" ، لأن معنى الكلام : لا تأكلوها مبادرة كبرهم .
    القول في تأويل قوله ( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ومن كان غنيا " ، من ولاة أموال اليتامى على أموالهم ، فليستعفف بماله عن أكلها - بغير الإسراف والبدار أن يكبروا - بما أباح الله له أكلها به ، كما : -

    8594 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش وابن أبي ليلى ، عن الحكم عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : " ومن كان غنيا فليستعفف " ، قال : بغناه من ماله ، حتى يستغني عن مال اليتيم .

    8595 - وبه قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : " ومن كان غنيا فليستعفف " بغناه .

    8596 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : [ ص: 582 ] " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : من مال نفسه ، ومن كان فقيرا منهم ، إليها محتاجا ، فليأكل بالمعروف .

    قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في"المعروف" الذي أذن الله جل ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به ، إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها .

    فقال بعضهم : ذلك هو القرض يستقرضه من ماله ثم يقضيه .

    ذكر من قال ذلك :

    8597 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت .

    8598 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن عطية ، عن زهير ، عن العلاء بن المسيب ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : وهو القرض .

    8599 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر قال : سمعت يونس ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، أنه قال في هذه الآية : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : الذي ينفق من مال اليتيم ، يكون عليه قرضا .

    8600 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة عن قوله : [ ص: 583 ] ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ، قال : إنما هو قرض ، ألا ترى أنه قال : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم "؟ قال : فظننت أنه قالها برأيه .

    8601 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا هشام ، عن محمد ، عن عبيدة في قوله : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، وهو عليه قرض .

    8602 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن سلمة بن علقمة ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : المعروف القرض ، ألا ترى إلى قوله : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم

    8603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة مثل حديث هشام .

    8604 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، يعني القرض .

    8605 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، يقول : إن كان غنيا ، فلا يحل له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئا ، وإن كان فقيرا فليستقرض منه ، فإذا وجد ميسرة فليعطه ما استقرض منه ، فذلك أكله بالمعروف . [ ص: 584 ]

    8606 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي يذكر ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير قال : يأكل قرضا بالمعروف .

    8607 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حجاج ، عن سعيد بن جبير قال : هو القرض ، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر يعني قوله : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " .

    8608 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي قال : حدثنا حماد قال : سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : إن أخذ من ماله قدر قوته قرضا ، فإن أيسر بعد قضاه ، وإن حضره الموت ولم يوسر ، تحلله من اليتيم . وإن كان صغيرا تحلله من وليه .

    8609 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : فليأكل قرضا .

    8610 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : هو القرض .

    8611 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ، فإن أكل منه شيئا قضاه . [ ص: 585 ]

    8612 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فليأكل بالمعروف " ، قال : قرضا .

    8613 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    8614 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فليأكل بالمعروف " ، قال : سلفا من مال يتيمه .

    8615 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعن حماد ، عن سعيد بن جبير " فليأكل بالمعروف " ، قالا هو القرض قال الثوري : وقاله الحكم أيضا ، ألا ترى أنه قال : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم

    8616 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا حجاج ، عن مجاهد قال : هو القرض ، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر يعني : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " .

    8617 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : " فليأكل بالمعروف " ، قال : القرض ، ألا ترى إلى قوله : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم

    8618 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل قال : قرضا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #456
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السابع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (456)
    صــ 586إلى صــ 599




    8619 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير قال : إذا احتاج الولي أو افتقر فلم يجد شيئا ، أكل من مال [ ص: 586 ] اليتيم وكتبه ، فإن أيسر قضاه ، وإن لم يوسر حتى تحضره الوفاة ، دعا اليتيم فاستحل منه ما أكل .

    8620 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، من مال اليتيم ، بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل منه .

    واختلف قائلو هذا القول في معنى : "أكل ذلك بالمعروف" . فقال بعضهم : أن يأكل من طعامه بأطراف الأصابع ، ولا يلبس منه .

    ذكر من قال ذلك :

    8621 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن السدي قال : أخبرني من سمع ابن عباس يقول : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : بأطراف أصابعه .

    8622 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، عمن سمع ابن عباس يقول ، فذكر مثله .

    8623 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، يقول : " ومن كان غنيا " من ولي مال اليتيم ، فليستعفف عن أكله" ومن كان فقيرا " ، من ولي مال اليتيم ، فليأكل معه بأصابعه ، لا يسرف في الأكل ، ولا يلبس . [ ص: 587 ]

    8624 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا حرمي بن عمارة قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة ، عن عكرمة في مال اليتيم : يدك مع أيديهم ، ولا تتخذ منه قلنسوة .

    8625 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء وعكرمة قالا تضع يدك مع يده .

    وقال آخرون : بل"المعروف" في ذلك : أن يأكل ما يسد جوعه ، ويلبس ما وارى العورة .

    ذكر من قال ذلك :

    8626 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : إن المعروف ليس بلبس الكتان ولا الحلل ، ولكن ما سد الجوع ووارى العورة .

    8627 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : كان يقال : ليس المعروف بلبس الكتان والحلل ، ولكن المعروف ما سد الجوع ووارى العورة .

    8628 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم نحوه .

    8629 - حدثنا علي بن سهل قال حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا أبو معبد قال : سئل مكحول عن والي اليتيم ، ما أكله بالمعروف إذا كان فقيرا؟ قال : يده مع يده . قيل له : فالكسوة؟ قال : يلبس من ثيابه ، فأما أن يتخذ من ماله مالا لنفسه فلا .

    8630 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " فليأكل بالمعروف " ، قال : ما سد الجوع ووارى [ ص: 588 ] العورة . أما إنه ليس لبوس الكتان والحلل .

    وقال آخرون : بل ذلك"المعروف" ، أكل تمره ، وشرب رسل ماشيته ، بقيامه على ذلك ، فأما الذهب والفضة ، فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض .

    ذكر من قال ذلك :

    8631 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أموال أيتام؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها ، فقال ابن عباس : ألست تبغي ضالتها؟ قال : بلى! قال : ألست تهنأ جرباها؟ قال : بلى! قال : ألست تلط حياضها؟ قال : بلى! قال : ألست تفرط عليها يوم وردها؟ قال : بلى! قال : فأصب من رسلها يعني : من لبنها .

    8632 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح في إبلي [ ص: 589 ] وأفقر ، فماذا يحل لي من ألبانها؟ قال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسقى عليها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب .

    8633 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية في هذه الآية : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : من فضل الرسل والتمرة .

    8634 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية في والي مال اليتيم قال : يأكل من رسل الماشية ومن التمرة لقيامه عليه ، ولا يأكل من المال . وقال : ألا ترى أنه قال : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم

    8635 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال سمعت داود ، عن رفيع أبي العالية قال : رخص لولي اليتيم أن يصيب من الرسل ويأكل من التمرة ، وأما الذهب والفضة فلا بد أن ترد . ثم قرأ : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم " ، [ ص: 590 ] ألا ترى أنه قال : "لا بد من أن يدفع"؟

    8636 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن أنه قال : إنما كانت أموالهم إذ ذاك النخل والماشية ، فرخص لهم إذا كان أحدهم محتاجا أن يصيب من الرسل .

    8637 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي في قوله : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : إذا كان فقيرا أكل من التمر ، وشرب من اللبن ، وأصاب من الرسل .

    8638 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، ذكر لنا أن عم ثابت بن رفاعة وثابت يومئذ يتيم في حجره من الأنصار ، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله؟ قال : أن تأكل بالمعروف ، من غير أن تقي مالك بماله ، ولا تتخذ من ماله وفرا . وكان اليتيم يكون له الحائط من النخل ، فيقوم وليه على صلاحه وسقيه ، فيصيب من تمرته ، أو تكون له الماشية ، فيقوم وليه على صلاحها ، أو يلي علاجها [ ص: 591 ] ومئونتها ، فيصيب من جزازها وعوارضها ورسلها . فأما رقاب المال وأصول المال ، فليس له أن يستهلكه .

    8639 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : "ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، يعني ركوب الدابة وخدمة الخادم . فإن أخذ من ماله قرضا في غنى ، فعليه أن يؤديه ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا .

    وقال آخرون منهم : له أن يأكل من جميع المال ، إذا كان يلي ذلك ، وإن أتى على المال ، ولا قضاء عليه .

    ذكر من قال ذلك :

    8640 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح ، عن أبي أويس ، عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعا ، عن القاسم بن محمد قال : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عما يصلح لولي اليتيم قال : إن كان غنيا فليستعفف ، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . [ ص: 592 ]

    8641 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن عمر بن الخطاب كان يقول : يحل لولي الأمر ما يحل لولي اليتيم : من كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " .

    8642 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا الفضل بن عطية ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : إذا احتاج فليأكل بالمعروف ، فإن أيسر بعد ذلك فلا قضاء عليه .

    8643 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا ذكر الله تبارك وتعالى مال اليتامى فقال : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، ومعروف ذلك : أن يتقي الله في يتيمه .

    8644 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى قضاء على ولي اليتيم إذا أكل وهو محتاج .

    8645 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : " فليأكل بالمعروف " ، في الوصي ، قال : لا قضاء عليه .

    8646 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : إذا عمل فيه ولي اليتيم أكل بالمعروف .

    8647 - حدثنا بشر بن محمد قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : إذا احتاج أكل بالمعروف من المال طعمة من الله له . [ ص: 593 ]

    8648 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن البصري قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن في حجري يتيما ، أفأضربه؟ قال : فيما كنت ضاربا منه ولدك؟ قال : أفأصيب من ماله؟ قال : بالمعروف ، غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله .

    8649 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن الزبير بن موسى ، عن الحسن البصري ، مثله .

    8650 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء أنه قال : يضع يده مع أيديهم فيأكل معهم ، كقدر خدمته وقدر عمله .

    8651 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : والي اليتيم ، إذا كان محتاجا ، يأكل بالمعروف لقيامه بماله .

    8652 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله تبارك وتعالى : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، قال : إن استغنى كف ، وإن كان فقيرا أكل بالمعروف . قال : أكل بيده معهم ، لقيامه على أموالهم ، وحفظه إياها ، يأكل مما يأكلون منه . وإن استغنى كف عنه ولم يأكل منه شيئا .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : "المعروف" [ ص: 594 ] الذي عناه الله تبارك وتعالى في قوله : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه ، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه ، فغير جائز له أكله .

    وذلك أن الجميع مجمعون على أن والي اليتيم لا يملك من مال يتيمه إلا القيام بمصلحته . فلما كان إجماعا منهم أنه غير مالكه ، وكان غير جائز لأحد أن يستهلك مال أحد غيره ، يتيما كان رب المال أو مدركا رشيدا وكان عليه إن تعدى فاستهلكه بأكل أو غيره ، ضمانه لمن استهلكه عليه ، بإجماع من الجميع وكان والي اليتيم سبيله سبيل غيره في أنه لا يملك مال يتيمه كان كذلك حكمه فيما يلزمه من قضائه إذا أكل منه ، سبيله سبيل غيره ، وإن فارقه في أن له الاستقراض منه عند الحاجة إليه ، كما له الاستقراض عليه عند حاجته إلى ما يستقرض عليه ، إذا كان قيما بما فيه مصلحته .

    ولا معنى لقول من قال : "إنما عنى بالمعروف في هذا الموضع ، أكل والي اليتيم من مال اليتيم ، لقيامه عليه على وجه الاعتياض على عمله وسعيه" . لأن لوالي اليتيم أن يؤاجر نفسه منه للقيام بأموره ، إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك بأجرة معلومة ، كما يستأجر له غيره من الأجراء ، وكما يشتري له من يعينه ، غنيا كان الوالي أو فقيرا .

    وإذ كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره قد دل بقوله : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " ، على أن أكل مال اليتيم إنما أذن لمن أذن له من ولاته في حال الفقر والحاجة وكانت الحال التي للولاة [ ص: 595 ] أن يؤجروا أنفسهم من الأيتام مع حاجة الأيتام إلى الأجراء ، غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر كان معلوما أن المعنى الذي أبيح لهم من أموال أيتامهم في كل أحوالهم ، غير المعنى الذي أبيح لهم ذلك فيه في حال دون حال .

    ومن أبى ما قلنا ، ممن زعم أن لولي اليتيم أكل مال يتيمه عند حاجته إليه على غير وجه القرض ، استدلالا بهذه الآية قيل له : أمجمع على أن الذي قلت تأويل قوله : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف

    فإن قال : لا!

    قيل له : فما برهانك على أن ذلك تأويله ، وقد علمت أنه غير مالك مال يتيمه؟

    فإن قال : لأن الله أذن له بأكله!

    قيل له : أذن له بأكله مطلقا أم بشرط؟

    فإن قال : بشرط ، وهو أن يأكله بالمعروف .

    قيل له : وما ذلك"المعروف"؟ وقد علمت القائلين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن ذلك هو أكله قرضا وسلفا؟

    ويقال لهم أيضا مع ذلك : أرأيت المولى عليهم في أموالهم من المجانين والمعاتيه ، ألولاة أموالهم أن يأكلوا من أموالهم عند حاجتهم إليه على غير وجه القرض لا الاعتياض من قيامهم بها ، كما قلتم ذلك في أموال اليتامى فأبحتموها لهم؟ فإن قالوا : ذلك لهم خرجوا من قول جميع الحجة .

    وإن قالوا : ليس ذلك لهم .

    قيل لهم : فما الفرق بين أموالهم وأموال اليتامى ، وحكم ولاتهم واحد : في أنهم ولاة أموال غيرهم؟ [ ص: 596 ]

    فلن يقولوا في أحدهما شيئا إلا ألزموا في الآخر مثله .

    ويسألون كذلك عن المحجور عليه : هل لمن يلي ماله أن يأكل ماله عند حاجته إليه؟ نحو سؤالناهم عن أموال المجانين والمعاتيه .
    القول في تأويل قوله عز وجل ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا دفعتم ، يا معشر ولاة أموال اليتامى ، إلى اليتامى أموالهم"فأشهدوا عليهم" ، يقول : فأشهدوا على الأيتام باستيفائهم ذلك منكم ، ودفعكموه إليهم ، كما : -

    8653 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " ، يقول : إذا دفع إلى اليتيم ماله ، فليدفعه إليه بالشهود ، كما أمره الله تعالى .
    القول في تأويل قوله ( وكفى بالله حسيبا ( 6 ) )

    قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وكفى بالله كافيا من الشهود الذين يشهدهم والي اليتيم على دفعه مال يتيمه إليه ، كما : -

    8654 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وكفى بالله حسيبا " ، يقول : شهيدا . [ ص: 597 ]

    يقال منه : "قد أحسبني الذي عندي" ، يراد به : كفاني . وسمع من العرب : "لأحسبنكم من الأسودين" يعني به : من الماء والتمر"والمحسب" من الرجال : المرتفع الحسب ، "والمحسب" ، المكفي .
    القول في تأويل قوله ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ( 7 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : للذكور من أولاد الرجل الميت حصة من ميراثه ، وللإناث منهم حصة منه ، من قليل ما خلف بعده وكثيره ، حصة مفروضة ، واجبة معلومة مؤقتة .

    وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث ، كما : -

    8655 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كانوا لا يورثون النساء ، فنزلت : " وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " . [ ص: 598 ]

    8656 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : نزلت في أم كحلة وابنة كحلة ، وثعلبة وأوس بن سويد ، وهم من الأنصار . كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها ، فقالت : يا رسول الله ، توفي زوجي وتركني وابنته ، فلم نورث! فقال عم ولدها : يا رسول الله ، لا تركب فرسا ، ولا تحمل كلا ولا تنكى عدوا ، يكسب عليها ولا تكتسب! فنزلت : " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا " . [ ص: 599 ]

    8657 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " ، قال : كان النساء لا يورثن في الجاهلية من الآباء ، وكان الكبير يرث ، ولا يرث الصغير وإن كان ذكرا ، فقال الله تبارك وتعالى : " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " إلى قوله : " نصيبا مفروضا " .

    قال أبو جعفر : ونصب قوله : " نصيبا مفروضا " ، وهو نعت للنكرة ، لخروجه مخرج المصدر ، كقول القائل : "لك علي حق واجبا" . ولو كان مكان قوله : " نصيبا مفروضا " اسم صحيح ، لم يجز نصبه . لا يقال : "لك عندي حق درهما" فقوله : " نصيبا مفروضا " ، كقوله : نصيبا فريضة وفرضا ، كما يقال : "عندي درهم هبة مقبوضة" .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #457
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثامن
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (457)
    صــ 7إلى صــ 21




    [ ص: 7 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ( 8 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية ، هل هو محكم أو منسوخ ؟

    فقال بعضهم : هو محكم .

    ذكر من قال ذلك :

    8658 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : محكمة ، وليست منسوخة يعني قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى الآية .

    8659 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .

    8660 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا هي محكمة .

    8661 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : واجب ، ما طابت به أنفس أهل الميراث .

    [ ص: 8 ] 8662 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين ، قال : هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم .

    8663 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا : هي محكمة ، ليست بمنسوخة .

    8664 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن ، عن سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هي واجبة على أهل الميراث ، ما طابت به أنفسهم .

    8665 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : أنه سئل عن قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا فقال سعيد : هذه الآية يتهاون بها الناس . قال : وهما وليان ، أحدهما يرث ، والآخر لا يرث . والذي يرث هو الذي أمر أن يرزقهم قال : يعطيهم قال : والذي لا يرث هو الذي أمر أن يقول لهم قولا معروفا . وهي محكمة وليست بمنسوخة .

    8666 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم بنحو ذلك وقال : هي محكمة وليست بمنسوخة .

    8667 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن مطرف ، عن الحسن قال : هي ثابتة ، ولكن الناس بخلوا وشحوا .

    8668 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا منصور والحسن قالا : هي محكمة وليست بمنسوخة .

    8669 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : هي قائمة يعمل بها .

    8670 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 9 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، ما طابت به الأنفس حقا واجبا .

    8671 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن والزهري قالا في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه قال : هي محكمة .

    8672 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا منصور ، عن قتادة ، عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس : هذه الآية : وآية الاستئذان : ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) [ سورة النور : 58 ] ، وهذه الآية : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) [ سورة الحجرات : 13 ] .

    8673 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : هي ثابتة .

    وقال آخرون : منسوخة .

    ذكر من قال ذلك :

    8674 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد أنه قال في هذه الآية : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين قال : كانت هذه الآية قسمة قبل المواريث ، فلما أنزل الله المواريث لأهلها ، جعلت الوصية لذوي القرابة الذين يحزنون ولا يرثون .

    8675 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن قتادة قال : سألت سعيد بن المسيب عن هذه الآية : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين قال : هي منسوخة .

    [ ص: 10 ] 8676 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الميراث ، فلما كانت الفرائض والمواريث نسخت .

    8677 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : نسختها آية الميراث .

    8678 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك مثله .

    8679 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى الآية ، إلى قوله : قولا معروفا ، وذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك الفرائض ، فأعطى كل ذي حق حقه ، فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى .

    8680 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : نسختها المواريث .

    وقال آخرون : " هي محكمة وليست بمنسوخة ، غير أن معنى ذلك : وإذا حضر القسمة ، يعني بها قسمة الميت ماله بوصيته لمن كان يوصي له به " . قالوا : وأمر بأن يجعل وصيته في ماله لمن سماه الله تعالى في هذه الآية .

    ذكر من قال ذلك :

    8681 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد : أن عبد الله بن عبد الرحمن قسم ميراث أبيه ، وعائشة حية ، فلم يدع في الدار أحدا إلا أعطاه ، وتلا هذه الآية : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه . قال [ ص: 11 ] القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب ، إنما هذه الوصية يريد الميت أن يوصي لقرابته . .

    8682 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني ابن أبي مليكة : أن القاسم بن محمد أخبره ، أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ، فذكر نحوه .

    8684 - حدثنا عمران بن موسى الصفار قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا داود ، عن سعيد بن المسيب في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين قال : أمر أن يوصي بثلثه في قرابته .

    8684 - حدثنا ابن المبارك قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن سعيد بن المسيب قال : إنما ذلك عند الوصية في ثلثه .

    8685 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن سعيد بن المسيب : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، قال : هي الوصية من الناس .

    8686 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين قال : القسمة الوصية ، كان الرجل إذا أوصى قالوا : " فلان يقسم ماله " . فقال : " ارزقوهم منه " . يقول : أوصوا لهم . يقول للذي يوصي : وقولوا لهم قولا معروفا فإن لم توصوا لهم ، فقولوا لهم خيرا .

    [ ص: 12 ] قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : " هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وإنما عنى بها الوصية لأولي قربى الموصي وعنى باليتامى والمساكين : أن يقال لهم قول معروف " .

    وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة من غيره ، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره - أن شيئا من أحكام الله تبارك وتعالى التي أثبتها في كتابه أو بينها على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - غير جائز فيه أن يقال له ناسخ لحكم آخر ، أو منسوخ بحكم آخر ، إلا والحكمان اللذان قضي لأحدهما بأنه ناسخ والآخر بأنه منسوخ - ناف كل واحد منهما صاحبه ، غير جائز اجتماع الحكم بهما في وقت واحد بوجه من الوجوه ، وإن كان جائزا صرفه إلى غير النسخ ، أو تقول بأن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ ، حجة يجب التسليم لها .

    وإذ كان ذلك كذلك ، لما قد دللنا في غير موضع وكان قوله تعالى ذكره : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، محتملا أن يكون مرادا به : وإذا حضر قسمة مال قاسم ماله بوصية ، أولو قرابته واليتامى والمساكين ، فارزقوهم منه - يراد : فأوصوا لأولي قرابتكم الذين لا يرثونكم منه ، وقولوا لليتامى والمساكين قولا معروفا ، كما قال في موضع آخر : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) [ سورة البقرة : 180 ] ، ولا يكون منسوخا بآية الميراث - لم يكن لأحد صرفه إلى أنه منسوخ بآية الميراث ، إذ كان لا دلالة على أنه منسوخ بها من كتاب أو سنة ثابتة ، وهو محتمل من التأويل ما بينا .

    [ ص: 13 ] وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل قوله : وإذا حضر القسمة ، قسمة الموصي ماله بالوصية ، أولو قرابته واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، يقول : فاقسموا لهم منه بالوصية ، يعني : فأوصوا لأولي القربى من أموالكم وقولوا لهم ، يعني الآخرين ، وهم اليتامى والمساكين قولا معروفا ، يعني : يدعى لهم بخير ، كما قال ابن عباس وسائر من ذكرنا قوله قبل .

    وأما الذين قالوا : " إن الآية منسوخة بآية المواريث " والذين قالوا : " هي محكمة ، والمأمور بها ورثة الميت " فإنهم وجهوا قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، يقول : فأعطوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك ، وسنذكر بقية من قال ذلك ممن لم نذكره :

    8687 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين ، أمر الله - جل ثناؤه - المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ويتاماهم من الوصية ، إن كان أوصى ، وإن لم تكن وصية ، وصل إليهم من مواريثهم .

    8688 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإذا حضر القسمة أولو القربى الآية ، يعني : عند قسمة الميراث .

    8689 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة : أن أباه أعطاه من ميراث المصعب ، حين قسم ماله .

    8690 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا [ ص: 14 ] عوف ، عن ابن سيرين قال : كانوا يرضخون لهم عند القسمة .

    8691 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن مطر ، عن الحسن عن حطان : أن أبا موسى أمر أن يعطوا إذا حضر قسمة الميراث : أولو القربى واليتامى والمساكين والجيران من الفقراء .

    8692 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي ، ومحمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال : قسم أبو موسى بهذه الآية : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين " .

    8693 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد ويحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن حطان ، عن أبي موسى في هذه الآية : " وإذا حضر القسمة " الآية قال : قضى بها أبو موسى .

    8694 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن العلاء بن بدر في الميراث إذا قسم قال : كانوا يعطون منه التابوت والشيء الذي يستحيى من قسمته .

    8695 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن الحسن وسعيد بن جبير ، كانا يقولان : ذاك عند قسمة الميراث .

    8696 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي العالية والحسن قالا : يرضخون ويقولون قولا معروفا ، في هذه الآية : وإذا حضر القسمة .

    ثم اختلف الذين قالوا : " هذه الآية محكمة ، وأن القسمة لأولي القربى [ ص: 15 ] واليتامى والمساكين واجبة على أهل الميراث ، إن كان بعض أهل الميراث صغيرا فقسم عليه الميراث ولي ماله " .

    فقال بعضهم : ليس لولي ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئا ، لأنه لا يملك من المال شيئا ، ولكنه يقول لهم قولا معروفا . قالوا : والذي أمره الله بأن يقول لهم معروفا ، هو ولي مال اليتيم إذا قسم مال اليتيم بينه وبين شركاء اليتيم ، إلا أن يكون ولي ماله أحد الورثة ، فيعطيهم من نصيبه ، ويعطيهم من يجوز أمره في ماله من أنصبائهم . قالوا : فأما من مال الصغير ، فالذي يولى عليه ماله ، لا يجوز لولي ماله أن يعطيهم منه شيئا .

    ذكر من قال ذلك :

    8697 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي سعيد قال : سألت سعيد بن جبير ، عن هذه الآية : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه قال : إن كان الميت أوصى لهم بشيء ، أنفذت لهم وصيتهم ، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم ، وإن كانوا صغارا قال وليهم : إني لست أملك هذا المال وليس لي ، وإنما هو للصغار . فذلك قوله : وقولوا لهم قولا معروفا .

    8698 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا قال : هما وليان ، ولي يرث ، وولي لا يرث . فأما الذي يرث فيعطى ، وأما الذي لا يرث فقولوا له قولا معروفا .

    8699 - حدثني ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثني داود ، عن الحسن وسعيد بن جبير كانا يقولان : ذلك عند قسمة الميراث . إن كان الميراث لمن قد أدرك ، فله أن يكسو منه وأن يطعم الفقراء والمساكين . وإن كان [ ص: 16 ] الميراث ليتامى صغار ، فيقول الولي : " إنه ليتامى صغار " ويقول لهم قولا معروفا .

    8700 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي سعد ، عن سعيد بن جبير قال : إن كانوا كبارا رضخوا ، وإن كانوا صغارا اعتذروا إليهم .

    8701 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سليمان الشيباني ، عن عكرمة : وإذا حضر القسمة أولو القربى قال : كان ابن عباس يقول : إذا ولي شيئا من ذلك ، يرضخ لأقرباء الميت . وإن لم يفعل ، اعتذر إليهم وقال لهم قولا معروفا .

    8702 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ، هذه تكون على ثلاثة أوجه : أما وجه ، فيوصي لهم وصية ، فيحضرون ويأخذون وصيتهم وأما الثاني ، فإنهم يحضرون فيقتسمون إذا كانوا رجالا فينبغي لهم أن يعطوهم وأما الثالث ، فتكون الورثة صغارا ، فيقوم وليهم إذا قسم بينهم ، فيقول للذين حضروا : " حقكم حق ، وقرابتكم قرابة ، ولو كان لي في الميراث نصيب لأعطيتكم ، ولكنهم صغار ، فإن يكبروا فسيعرفون [ ص: 17 ] حقكم " فهذا القول المعروف .

    8703 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن رجل ، عن سعيد أنه قال : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا قال : إذا كان الوارث عند القسمة ، فكان الإناء والشيء الذي لا يستطاع أن يقسم ، فليرضخ لهم . وإن كان الميراث لليتامى ، فليقل لهم قولا معروفا .

    وقال آخرون منهم : ذلك واجب في أموال الصغار والكبار لأولي القربى واليتامى والمساكين ، فإن كان الورثة كبارا تولوا عند القسمة إعطاءهم ذلك ، وإن كانوا صغارا تولى إعطاء ذلك منهم ولي مالهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8704 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، فحدث عن محمد ، عن عبيدة : أنه ولي وصية ، فأمر بشاة فذبحت وصنع طعاما ، لأجل هذه الآية ، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي قال : وقال الحسن : لم تنسخ ، كانوا يحضرون فيعطون الشيء والثوب الخلق قال يونس : إن محمد بن سيرين ولي وصية - أو قال : أيتاما - فأمر بشاة فذبحت ، فصنع طعاما كما صنع عبيدة .

    8705 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا يزيد قال : أخبرنا هشام بن حسان ، عن محمد : أن عبيدة قسم ميراث أيتام ، فأمر بشاة فاشتريت من مالهم ، [ ص: 18 ] وبطعام فصنع ، وقال : لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي . ثم قرأ هذه الآية : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، الآية .

    قال أبو جعفر : فكأن من ذهب من القائلين القول الذي ذكرناه عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، ومن قال : " يرضخ عند قسمة الميراث لأولي القربى واليتامى والمساكين " تأول قوله : فارزقوهم منه ، فأعطوهم منه وكأن الذين ذهبوا إلى ما قال عبيدة وابن سيرين ، تأولوا قوله : " فارزقوهم منه " فأطعموهم منه .

    واختلفوا في تأويل قوله : وقولوا لهم قولا معروفا .

    فقال بعضهم : هو أمر من الله - تعالى ذكره - ولاة اليتامى أن يقولوا لأولي قرابتهم ولليتامى والمساكين إذا حضروا قسمتهم مال من ولوا عليه ماله من الأموال بينهم وبين شركائهم من الورثة فيها ، أن يعتذروا إليهم ، على نحو ما قد ذكرناه فيما مضى من الاعتذار ، كما :

    8706 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : وقولوا لهم قولا معروفا قال : هو الذي لا يرث ، أمر أن يقول لهم قولا معروفا . قال يقول : " إن هذا المال لقوم غيب ، أو ليتامى صغار ، ولكم فيه حق ، ولسنا نملك أن نعطيكم منه شيئا " . قال : فهذا القول المعروف .

    وقال آخرون : بل المأمور بالقول المعروف الذي أمر - جل ثناؤه - أن يقال له ، هو الرجل الذي يوصي في ماله و " القول المعروف " هو الدعاء لهم بالرزق والغنى وما أشبه ذلك من قول الخير ، وقد ذكرنا قائلي ذلك أيضا فيما مضى .
    [ ص: 19 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ( 9 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك : فقال بعضهم : " وليخش " ليخف الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله - أن يأمره بتفريق ماله وصية منه فيمن لا يرثه ، ولكن ليأمره أن يبقي ماله لولده ، كما لو كان هو الموصي ، يسره أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ، وأن لا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم عن التصرف والاحتيال .

    ذكر من قال ذلك :

    8707 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم إلى آخر الآية ، فهذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه يوصي بوصية تضر بورثته ، فأمر الله سبحانه الذي سمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة .

    8708 - حدثنا علي قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ، يعني : الذي يحضره الموت فيقال له : " تصدق من مالك ، وأعتق ، وأعط منه في سبيل الله " . فنهوا أن يأمروه بذلك يعني أن من حضر [ ص: 20 ] منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق أو الصدقة أو في سبيل الله ، ولكن يأمره أن يبين ماله وما عليه من دين ، ويوصي في ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون ، ويوصي لهم بالخمس أو الربع . يقول : أليس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف يعني صغارا أن يتركهم بغير مال ، فيكونوا عيالا على الناس ؟ فلا ينبغي أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولا أولادكم ، ولكن قولوا الحق من ذلك .

    8709 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ، قال يقول : من حضر ميتا فليأمره بالعدل والإحسان ، ولينهه عن الحيف والجور في وصيته ، وليخش على عياله ما كان خائفا على عياله لو نزل به الموت .

    8710 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا قال : إذا حضرت وصية ميت فمره بما كنت آمرا نفسك بما تتقرب به إلى الله ، وخف في ذلك ما كنت خائفا على ضعفة ، لو تركتهم بعدك . يقول : فاتق الله وقل قولا سديدا ، إن هو زاغ .

    8711 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ، الرجل يحضره الموت ، فيحضره القوم عند الوصية ، فلا ينبغي لهم أن يقولوا له : " أوص بمالك كله ، وقدم لنفسك ، فإن الله سيرزق عيالك " ولا يتركوه يوصي بماله كله ، يقول للذين حضروا : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ، فيقول : كما [ ص: 21 ] يخاف أحدكم على عياله لو مات - إذ يتركهم صغارا ضعافا لا شيء لهم - الضيعة بعده ، فليخف ذلك على عيال أخيه المسلم ، فيقول له القول السديد .

    8712 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب قال : ذهبت أنا والحكم بن عتيبة إلى سعيد بن جبير ، فسألناه عن قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا الآية ، قال قال : الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : " اتق الله ، صلهم ، أعطهم ، برهم " ولو كانوا هم الذين يأمرهم بالوصية ، لأحبوا أن يبقوا لأولادهم .

    8713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير في قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا قال : يحضرهم اليتامى فيقولون : " اتق الله ، وصلهم ، وأعطهم " فلو كانوا هم ، لأحبوا أن يبقوا لأولادهم .

    8714 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ، الآية ، يقول : إذا حضر أحدكم من حضره الموت عند وصيته ، فلا يقل : " أعتق من مالك ، وتصدق " فيفرق ماله ويدع أهله عيلا ولكن مروه فليكتب ماله من دين وما عليه ، ويجعل من ماله لذوي قرابته خمس ماله ، ويدع سائره لورثته .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #458
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثامن
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (458)
    صــ 22إلى صــ 36







    8715 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم [ ص: 22 ] الآية قال : هذا يفرق المال حين يقسم ، فيقول الذين يحضرون : " أقللت ، زد فلانا " فيقول الله تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ، فليخش أولئك ، وليقولوا فيهم مثل ما يحب أحدهم أن يقال في ولده بالعدل إذا أكثر : " أبق على ولدك " .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : وليخش الذين يحضرون الموصي وهو يوصي الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا فخافوا عليهم الضيعة من ضعفهم وطفولتهم أن ينهوه عن الوصية لأقربائه ، وأن يأمروه بإمساك ماله والتحفظ به لولده ، وهم لو كانوا من أقرباء الموصي ، لسرهم أن يوصي لهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8716 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب قال : ذهبت أنا والحكم بن عتيبة ، فأتينا مقسما فسألناه يعني عن قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا الآية فقال : ما قال سعيد بن جبير ؟ فقلنا : كذا وكذا . فقال : ولكنه الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : " اتق الله وأمسك عليك مالك ، فليس أحد أحق بمالك من ولدك " ولو كان الذي يوصي ذا قرابة لهم ، لأحبوا أن يوصي لهم .

    8717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : قال مقسم : هم الذين يقولون : " اتق الله وأمسك عليك مالك " فلو كان ذا قرابة لهم لأحبوا أن يوصي لهم .

    8718 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن [ ص: 23 ] أبيه قال : زعم حضرمي وقرأ : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ، قال قالوا : حقيق أن يأمر صاحب الوصية بالوصية لأهلها ، كما أن لو كانت ذرية نفسه بتلك المنزلة ، لأحب أن يوصي لهم ، وإن كان هو الوارث ، فلا يمنعه ذلك أن يأمره بالذي يحق عليه ، فإن ولده لو كانوا بتلك المنزلة أحب أن يحث عليه ، فليتق الله هو ، فليأمره بالوصية ، وإن كان هو الوارث ، أو نحوا من ذلك .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك ، أمر من الله ولاة اليتامى أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم ، ولا يأكلوا أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا ، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصغار بعدهم لهم بالإحسان إليهم ، لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارا .

    [ ص: 24 ] ذكر من قال ذلك :

    8719 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ، يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف ، يخاف عليهم العيلة والضيعة ، ويخاف بعده أن لا يحسن إليه من يليهم ، يقول : فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى ، فليحسن إليهم ، ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا ، فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ، يكفهم الله أمر ذريتهم بعدهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8720 - حدثنا إبراهيم بن عطية بن رديح بن عطية قال : حدثني عمي محمد بن رديح ، عن أبيه ، عن السيباني قال : كنا بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك ، وفينا ابن محيريز وابن الديلمي ، وهانئ بن كلثوم قال : فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان . قال : فضقت ذرعا بما سمعت . قال : فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشر ، بودي أنه لا يولد لي ولد أبدا ! قال : فضرب بيده على منكبي وقال : يابن أخي ، لا تفعل ، فإنه ليست من نسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء ، وإن أبى . قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم الله فيك ؟ قال : قلت : بلى ! قال : فتلا عند ذلك هذه الآية : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا . .

    [ ص: 25 ] قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالآية ، قول من قال : تأويل ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم العيلة لو كانوا فرقوا أموالهم في حياتهم ، أو قسموها وصية منهم بها لأولي قرابتهم وأهل اليتم والمسكنة ، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيلة عليهم بعدهم ، مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب ، فليأمروا من حضروه وهو يوصي لذوي قرابته - وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك - بماله بالعدل وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ، وهو أن يعرفوه ما أباح الله له من الوصية ، وما اختاره للموصين من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته .

    وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية أولى من غيره من التأويلات ، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل : من أن معنى قوله : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " : وإذا حضر القسمة أولو القربي واليتامى والمساكين فأوصوا لهم - بما قد دللنا عليه من الأدلة .

    فإذا كان ذلك تأويل قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين الآية ، فالواجب أن يكون قوله تعالى ذكره : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ، تأديبا منه عباده في أمر الوصية بما أذنهم فيه ، إذ كان ذلك عقيب الآية التي قبلها في حكم الوصية ، وكان أظهر معانيه ما قلنا ، فإلحاق حكمه بحكم ما قبله أولى ، مع اشتباه معانيهما ، من صرف حكمه إلى غيره بما هو له غير مشبه . [ ص: 26 ] وبمعنى ما قلنا في تأويل قوله : وليقولوا قولا سديدا ، قال من ذكرنا قوله في مبتدأ تأويل هذه الآية ، وبه كان ابن زيد يقول .

    8721 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا قال : يقول قولا سديدا ، يذكر هذا المسكين وينفعه ، ولا يجحف بهذا اليتيم وارث المؤدي ولا يضر به ، لأنه صغير لا يدفع عن نفسه ، فانظر له كما تنظر إلى ولدك لو كانوا صغارا .

    و " السديد " من الكلام ، هو العدل والصواب .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ( 10 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، يقول : بغير حق ، إنما يأكلون في بطونهم نارا يوم القيامة ، بأكلهم أموال اليتامى ظلما في الدنيا ، نار جهنم " وسيصلون " بأكلهم " سعيرا " كما :

    8722 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا قال : إذا قام الرجل يأكل مال اليتيم ظلما ، يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه ومن أذنيه وأنفه وعينيه ، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم .

    [ ص: 27 ] 8723 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : أخبرني أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري قال : حدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة أسري به قال : نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم ، قلت : يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " . .

    8724 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا قال : قال أبي : إن هذه لأهل الشرك ، حين كانوا لا يورثونهم ، ويأكلون أموالهم .

    وأما قوله : وسيصلون سعيرا ، فإنه مأخوذ من " الصلا " و " الصلا " الاصطلاء بالنار ، وذلك التسخن بها ، كما قال الفرزدق :


    وقاتل كلب الحي عن نار أهله ليربض فيها والصلا متكنف
    [ ص: 28 ] وكما قال العجاج :


    وصاليات للصلا صلي
    ثم استعمل ذلك في كل من باشر بيده أمرا من الأمور ، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك ، كما قال الشاعر : [ ص: 29 ]
    لم أكن من جناتها علم الل ه وإني بحرها اليوم صالي


    فجعل ما باشر من شدة الحرب وأذى القتال ، بمنزلة مباشرة أذى النار وحرها .

    واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة المدينة والعراق : ( وسيصلون سعيرا ) بفتح " الياء " على التأويل الذي قلناه .

    وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض الكوفيين : " وسيصلون " بضم " الياء " بمعنى : يحرقون .

    من قولهم : " شاة مصلية " يعني : مشوية .

    قال أبو جعفر : والفتح بذلك أولى من الضم ، لإجماع جميع القرأة على فتح " الياء " في قوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) [ سورة الليل : 15 ] ، ولدلالة قوله : ( إلا من هو صالي الجحيم ) [ سورة الصافات : 163 ] ، على أن الفتح بها أولى من الضم .

    [ ص: 30 ] وأما " السعير " : فإنه شدة حر جهنم ، ومنه قيل : " استعرت الحرب " إذا اشتدت ، وإنما هو " مسعور " ثم صرف إلى " سعير " كما قيل : " كف خضيب " و " لحية دهين " وإنما هي " مخضوبة " صرفت إلى " فعيل " .

    فتأويل الكلام إذا : وسيصلون نارا مسعرة ، أي : موقودة مشعلة شديدا حرها .

    وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن الله - جل ثناؤه - قال : ( وإذا الجحيم سعرت ) ، [ سورة التكوير : 12 ] ، فوصفها بأنها مسعورة .

    ثم أخبر - جل ثناؤه - أن أكلة أموال اليتامى يصلونها وهي كذلك . ف " السعير " إذا في هذا الموضع ، صفة للجحيم على ما وصفنا .
    القول في تأويل قوله تعالى ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : يوصيكم الله ، يعهد الله إليكم ، في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ، يقول : يعهد إليكم ربكم إذا مات الميت منكم وخلف أولادا ذكورا وإناثا ، فلولده الذكور والإناث ميراثه أجمع بينهم ، للذكر منهم مثل حظ الأنثيين ، إذا لم يكن له وارث غيرهم ، سواء فيه صغار ولده وكبارهم وإناثهم ، في أن جميع ذلك بينهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين .

    [ ص: 31 ] ورفع قوله : " مثل " بالصفة ، وهي " اللام " التي في قوله : " للذكر " ولم ينصب بقوله : " يوصيكم الله " لأن " الوصية " في هذا الموضع عهد وإعلام بمعنى القول ، و " القول " لا يقع على الأسماء المخبر عنها . فكأنه قيل : يقول الله تعالى ذكره لكم : في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين .

    قال أبو جعفر : وقد ذكر أن هذه الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - تبيينا من الله الواجب من الحكم في ميراث من مات وخلف ورثة ، على ما بين . لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ، ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ، ولا للنساء منهم . وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية . فأخبر الله - جل ثناؤه - أن ما خلفه الميت بين من سمى وفرض له ميراثا في هذه الآية ، وفي آخر هذه السورة ، فقال في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم : لهم ميراث أبيهم ، إذا لم يكن له وارث غيرهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين .

    ذكر من قال ذلك :

    8725 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ، كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الصغار من الغلمان ، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة يقال لها أم كجة ، وترك خمس أخوات ، فجاءت الورثة يأخذون ماله ، فشكت أم كجة ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية : [ ص: 32 ] فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ثم قال في أم كجة : ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن .

    8726 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ، وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين ، كرهها الناس أو بعضهم ، وقالوا : " تعطى المرأة الربع والثمن وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير ، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة ! ! اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينساه ، أو نقول له فيغيره " . فقال بعضهم : يا رسول الله ، أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ، ونعطي الصبي الميراث وليس يغني شيئا ؟ ! وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، لا يعطون الميراث إلا من قاتل ، يعطونه الأكبر فالأكبر .

    وقال آخرون : بل نزل ذلك من أجل أن المال كان للولد قبل نزوله ، وللوالدين الوصية ، فنسخ الله تبارك وتعالى ذلك بهذه الآية .

    ذكر من قال ذلك :

    8727 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أو عطاء ، عن ابن عباس في قوله : يوصيكم الله في أولادكم [ ص: 33 ] قال : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد ، وللزوج الشطر والربع ، وللزوجة الربع والثمن .

    8728 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين قال : كان ابن عباس يقول : كان المال ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله تبارك وتعالى من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، ثم ذكر نحوه .

    8729 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد عن ابن عباس مثله .

    وروي عن جابر بن عبد الله ما : -

    8730 - حدثنا به محمد بن المثنى قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض ، فتوضأ ونضح علي من وضوئه ، فأفقت فقلت : يا رسول الله ، إنما يرثني كلالة ، فكيف بالميراث ؟ فنزلت آية الفرائض . [ ص: 34 ] 8731 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : حدثني محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه في بني سلمة يمشيان ، فوجداني لا أعقل ، فدعا بماء فتوضأ ثم رش علي ، فأفقت فقلت : يا رسول الله ، كيف أصنع في مالي ؟ فنزلت يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين . . .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : " فإن كن " فإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين ، ويعني بقوله : " نساء " بنات الميت ، " فوق اثنتين " يقول : أكثر في العدد من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ، يقول : فلبناته الثلثان مما ترك بعده من ميراثه ، دون سائر ورثته ، إذا لم يكن الميت خلف ولدا ذكرا معهن . واختلف أهل العربية في المعنى بقوله : فإن كن نساء .

    فقال بعض نحويي البصرة بنحو الذي قلنا : فإن كان المتروكات نساء وهو أيضا قول بعض نحويي الكوفة . [ ص: 35 ] وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك ، فإن كان الأولاد نساء ، وقال : إنما ذكر الله الأولاد فقال : يوصيكم الله في أولادكم ، ثم قسم الوصية فقال : فإن كن نساء ، وإن كان الأولاد نساء ، وإن كان الأولاد واحدة ، ترجمة منه بذلك عن " الأولاد " .

    قال أبو جعفر : والقول الأول الذي حكيناه عمن حكيناه عنه من البصريين ، أولى بالصواب في ذلك عندي . لأن قوله : " وإن كن " لو كان معنيا به " الأولاد " لقيل : " وإن كانوا " لأن " الأولاد " تجمع الذكور والإناث . وإذا كان كذلك ، فإنما يقال ، " كانوا " لا " كن " .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : " وإن كانت " : وإن كانت المتروكة ابنة واحدة " فلها النصف " يقول : فلتلك الواحدة نصف ما ترك الميت من ميراثه ، إذا لم يكن معها غيرها من ولد الميت ذكر ولا أنثى .

    [ ص: 36 ] فإن قال قائل : فهذا فرض الواحدة من النساء وما فوق الاثنتين ، فأين فريضة الاثنتين ؟

    قيل : فريضتهم بالسنة المنقولة نقل الوراثة التي لا يجوز فيها الشك .

    وأما قوله : " ولأبويه " فإنه يعني : ولأبوي الميت لكل واحد منهما السدس ، من تركته وما خلف من ماله ، سواء فيه الوالدة والوالد ، لا يزداد واحد منهما على السدس إن كان له ولد ، ذكرا كان الولد أو أنثى ، واحدا كان أو جماعة .

    فإن قال قائل : فإن كان كذلك التأويل ، فقد يجب أن لا يزاد الوالد مع الابنة الواحدة على السدس من ميراثه عن ولده الميت . وذلك إن قلته - قول خلاف لما عليه الأمة مجمعة ، من تصييرهم باقي تركة الميت مع الابنة الواحدة بعد أخذها نصيبها منها - لوالده أجمع !



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #459
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثامن
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (459)
    صــ 37إلى صــ 51




    قيل : ليس الأمر في ذلك كالذي ظننت ، وإنما لكل واحد من أبوي الميت السدس من تركته مع ولده ، ذكرا كان الولد أو أنثى ، واحدا كان أو جماعة ، فريضة من الله له مسماة . فإما زيد على ذلك من بقية النصف مع الابنة الواحدة [ ص: 37 ] إذا لم يكن غيره وغير ابنة للميت واحدة ، فإنما زيدها ثانيا بقرب عصبة الميت إليه ، إذ كان حكم كل ما أبقته سهام الفرائض ، فلأولى عصبة الميت وأقربهم إليه ، بحكم ذلك لها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الأب أقرب عصبة ابنه وأولاها به ، إذا لم يكن لابنه الميت ابن .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : فإن لم يكن له ، فإن لم يكن للميت " ولد " ذكر ولا أنثى وورثه أبواه ، دون غيرهما من ولد وارث فلأمه الثلث ، يقول : فلأمه من تركته وما خلف بعده - ثلث جميع ذلك .

    فإن قال قائل : فمن الذي له الثلثان الآخران .

    قيل له : الأب .

    فإن قال : بماذا ؟ [ ص: 38 ] قلت : بأنه أقرب أهل الميت إليه ، ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان الباقيان ، إذ كان قد بين على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعباده أن كل ميت فأقرب عصبته به أولى بميراثه ، بعد إعطاء ذوي السهام المفروضة سهامهم من ميراثه .

    وهذه العلة ، هي العلة التي من أجلها سمي للأم ما سمي لها ، إذا لم يكن الميت خلف وارثا غير أبويه ، لأن الأم ليست بعصبة في حال للميت . فبين الله - جل ثناؤه - لعباده ما فرض لها من ميراث ولدها الميت ، وترك ذكر من له الثلثان الباقيان منه معه ، إذ كان قد عرفهم في جملة بيانه لهم من له بقايا تركة الأموال بعد أخذ أهل السهام سهامهم وفرائضهم ، وكان بيانه ذلك ، مغنيا لهم على تكرير حكمه مع كل من قسم له حقا من ميراث ميت ، وسمى له منه سهما .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس )

    قال أبو جعفر : إن قال قائل : وما المعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة ، وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد ؟

    قلت : اختلاف حكمهما مع الإخوة الجماعة والأخ الواحد ، فكان في إبانة [ ص: 39 ] الله - جل ثناؤه - لعباده حكمهما فيما يرثان من ولدهما الميت مع إخوته ، غنى وكفاية عن أن حكمهما فيما ورثا منه غير متغير عما كان لهما ، ولا أخ للميت ولا وارث غيرهما . إذ كان معلوما عندهم أن كل مستحق حقا بقضاء الله ذلك له ، لا ينتقل حقه الذي قضى به له ربه - جل ثناؤه - عما قضى به له إلى غيره ، إلا بنقل الله ذلك عنه إلى من نقله إليه من خلقه . فكان في فرضه تعالى ذكره للأم ما فرض إذا لم يكن لولدها الميت وارث غيرها وغير والده ولا أخ - الدلالة الواضحة للخلق أن ذلك المفروض وهو ثلث مال ولدها الميت حق لها واجب حتى يغير ذلك الفرض من فرض لها . فلما غير تعالى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الجماعة ، وترك تغييره مع الأخ الواحد ، علم بذلك أن فرضها غير متغير عما فرض لها إلا في الحال التي غيره فيها من لزم العباد طاعته ، دون غيرها من الأحوال .

    ثم اختلف أهل التأويل في عدد الإخوة الذين عناهم الله تعالى ذكره بقوله : " فإن كان له إخوة " .

    فقال جماعة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان ، ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كل زمان : عنى الله - جل ثناؤه - بقوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، أنثيين كانتا أو كن إناثا ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا ، أو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى . واعتل كثير ممن قال ذلك ، بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جل [ ص: 40 ] ثناؤه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه ، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده .

    وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : بل عنى الله - جل ثناؤه - بقوله : فإن كان له إخوة ، جماعة أقلها ثلاثة . وكان ينكر أن يكون الله - جل ثناؤه - حجب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة . فكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث ، وما بقي فللأب ، كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد .

    ذكر الرواية عنه بذلك :

    8732 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا ابن أبي فديك قال : حدثني ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال : لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله : فإن كان له إخوة ، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان رحمه الله هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوارثه الناس ومضى في الأمصار ؟ [ ص: 41 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن المعني بقوله : فإن كان له إخوة - اثنان من إخوة الميت فصاعدا ، على ما قاله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة ، وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك .

    فإن قال قائل : وكيف قيل في الأخوين " إخوة " وقد علمت أن ل " الأخوين " في منطق العرب مثالا لا يشبه مثال " الإخوة " في منطقها ؟

    قيل : إن ذلك وإن كان كذلك ، فإن من شأنها التأليف بين الكلامين يتقارب معنياهما ، وإن اختلفا في بعض وجوههما . فلما كان ذلك كذلك ، وكان مستفيضا في منطقها منتشرا مستعملا في كلامها : " ضربت من عبد الله وعمرو رءوسهما ، وأوجعت منهما ظهورهما " وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال : " أوجعت منهما ظهريهما " وإن كان مقولا " أوجعت ظهريهما " كما قال الفرزدق :


    بما في فؤادينا من الشوق والهوى فيبرأ منهاض الفؤاد المشعف
    [ ص: 42 ] غير أن ذلك وإن كان مقولا فأفصح منه : " بما في أفئدتنا " كما قال - جل ثناؤه - : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) [ سورة التحريم : 4 ] .

    فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الإنسان واحدا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين ، بلفظ الجميع - أفصح في منطقها وأشهر في كلامها وكان " الأخوان " شخصين ، كل واحد منهما غير صاحبه ، من نفسين مختلفين ، أشبه معنياهما معنى ما كان في الإنسان من [ ص: 43 ] أعضائه واحدا لا ثاني له ، فأخرج اثناهما بلفظ اثني العضوين اللذين وصفت ، فقيل " إخوة " في معنى " الأخوين " كما قيل " ظهور " في معنى " الظهرين " و " أفواه " في معنى " فموين " و " قلوب " في معنى " قلبين " .

    وقد قال بعض النحويين : إنما قيل " إخوة " لأن أقل الجمع اثنان . وذلك أن ذلك ضم شيء إلى شيء صارا جميعا بعد أن كانا فردين ، فجمعا ليعلم أن الاثنين جمع .

    قال أبو جعفر : وهذا وإن كان كذلك في المعنى ، فليس بعلة تنبئ عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملا مستفيضا على ألسن العرب لاثنيه بمثال وصورة غير مثال ثلاثة فصاعدا منه وصورتها . لأن من قال : " أخواك قاما " فلا شك أنه قد علم أن كل واحد من " الأخوين " فرد ضم أحدهما إلى الآخر فصارا جميعا بعد أن كانا شتى . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فلا تستجيز العرب في كلامها أن يقال : " أخواك قاموا " فيخرج قولهم " قاموا " وهو لفظ للخبر عن الجميع ، خبرا عن " الأخوين " وهما بلفظ الاثنين . لأن كل ما جرى به الكلام على ألسنتهم معروفا عندهم بمثال وصورة ، إذا غيره مغير عما قد عرفوه فيهم ، [ ص: 44 ] نكروه . فكذلك " الأخوان " وإن كان مجموعين ضم أحدهما إلى صاحبه ، فلهما مثال في المنطق وصورة غير مثال الثلاثة منهم فصاعدا وصورتهم . فغير جائز أن يغير أحدهما إلى الآخر إلا بمعنى مفهوم . وإذا كان ذلك كذلك ، فلا قول أولى بالصحة مما قلنا قبل .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : ولم نقصت الأم عن ثلثها بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدا ؟

    قيل : اختلفت العلماء في ذلك .

    فقال بعضهم : نقصت الأم عن ذلك دون الأب ، لأن على الأب مؤنهم دون أمهم .

    ذكر من قال ذلك :

    8733 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ، ويحجبها ما فوق ذلك . وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من [ ص: 45 ] الثلث لأن أباهم يلي نكاحهم والنفقة عليهم دون أمهم .

    وقال آخرون : بل نقصت الأم السدس ، وقصر بها على سدس واحد ، معونة لإخوة الميت بالسدس الذي حجبوا أمهم عنه .

    ذكر من قال ذلك :

    8734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : السدس الذي حجبته الإخوة الأم - لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أمهم .

    وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا القول ، وذلك ما :

    8735 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .

    قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب أن يقال في ذلك : إن الله تعالى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس ، لما هو أعلم به من مصلحة خلقه وقد يجوز أن يكون ذلك كان لما ألزم الآباء لأولادهم وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك . وليس ذلك مما كلفنا علمه ، وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا .

    وأما الذي روي عن طاوس عن ابن عباس ، فقول لما عليه الأمة مخالف . وذلك أنه لا خلاف بين الجميع : أن لا ميراث لأخي ميت مع والده . فكفى إجماعهم على خلافه شاهدا على فساده .
    [ ص: 46 ] القول في تأويل قوله تعالى ( من بعد وصية يوصي بها أو دين )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : من بعد وصية يوصي بها أو دين ، أن الذي قسم الله تبارك وتعالى لولد الميت الذكور منهم والإناث ولأبويه من تركته من بعد وفاته ، إنما يقسمه لهم على ما قسمه لهم في هذه الآية من بعد قضاء دين الميت الذي مات وهو عليه من تركته ، ومن بعد تنفيذ وصيته في بابها بعد قضاء دينه كله . فلم يجعل تعالى ذكره لأحد من ورثة الميت ، ولا لأحد ممن أوصى له بشيء ، إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته ، وإن أحاط بجميع ذلك . ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه - شركاء ورثته فيما بقي لما أوصى لهم به ، ما لم يجاوز ذلك ثلثه . فإن جاوز ذلك ثلثه ، جعل الخيار في إجازة ما زاد على الثلث من ذلك أو رده إلى ورثته : إن أحبوا أجازوا الزيادة على ثلث ذلك ، وإن شاءوا ردوه . فأما ما كان من ذلك إلى الثلث ، فهو ماض عليهم .

    وعلى كل ما قلنا من ذلك الأمة مجمعة . وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك خبر ، وهو ما :

    8736 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث الأعور ، عن علي رضي الله عنه قال : إنكم تقرءون هذه الآية : من بعد وصية يوصي بها أو دين ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية .

    8737 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضوان الله عليه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله .

    [ ص: 47 ] 8738 - حدثنا أبو السائب قال : حدثنا حفص بن غياث قال : حدثنا أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله .

    8739 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه : من بعد وصية يوصي بها أو دين قال : يبدأ بالدين قبل الوصية .

    قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق : ( يوصي بها أو دين ) .

    وقرأه بعض أهل مكة والشأم والكوفة ، " يوصى بها " على معنى ما لم يسم فاعله .

    [ ص: 48 ] قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) على مذهب ما قد سمي فاعله ، لأن الآية كلها خبر عمن قد سمي فاعله . ألا ترى أنه يقول : ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ؟ فكذلك الذي هو أولى بقوله : يوصي بها أو دين ، أن يكون خبرا عمن قد سمي فاعله ، لأن تأويل الكلام : ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد من بعد وصية يوصي بها أو دين يقضى عنه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : آباؤكم وأبناؤكم ، هؤلاء الذين أوصاكم الله به فيهم - من قسمة ميراث ميتكم فيهم على ما سمي لكم وبينه في هذه الآية - آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ، يقول : أعطوهم حقوقهم من ميراث ميتهم الذي أوصيتكم أن تعطوهموها ، فإنكم لا تعلمون أيهم أدنى وأشد نفعا لكم في عاجل دنياكم وآجل أخراكم .

    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " . [ ص: 49 ] فقال بعضهم : يعني بذلك : أيهم أقرب لكم نفعا في الآخرة .

    ذكر من قال ذلك :

    8740 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله ، آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ، يقول : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله سبحانه يشفع المؤمنين بعضهم في بعض .

    وقال آخرون : معنى ذلك ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا في الدنيا .

    ذكر من قال ذلك :

    8741 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : أيهم أقرب لكم نفعا ، في الدنيا .

    8742 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    8743 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ، قال بعضهم : في نفع الآخرة ، وقال بعضهم : في نفع الدنيا .

    وقال آخرون في ذلك بما قلنا .

    ذكر من قال ذلك :

    8744 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ، قال : أيهم خير لكم في الدين والدنيا ، [ ص: 50 ] الوالد أو الولد الذين يرثونكم ، لم يدخل عليكم غيرهم فرض لهم المواريث ، لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ( 11 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : فريضة من الله ، " وإن كان له إخوة فلأمه السدس " فريضة ، يقول : سهاما معلومة موقتة بينها الله لهم .

    ونصب قوله : " فريضة " على المصدر من قوله : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " فريضة " فأخرج " فريضة " من معنى الكلام ، إذ كان معناه ما وصفت .

    وقد يجوز أن يكون نصبه على الخروج من قوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس " فريضة " فتكون " الفريضة " منصوبة على الخروج من قوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، كما تقول : " هو لك هبة ، وهو لك صدقة مني عليك " . [ ص: 51 ] وأما قوله : إن الله كان عليما حكيما ، فإنه يعني - جل ثناؤه - : أن الله لم يزل ذا علم بما يصلح خلقه ، أيها الناس ، فانتهوا إلى ما يأمركم ، يصلح لكم أموركم . " حكيما " يقول : لم يزل ذا حكمة في تدبيره ، وهو كذلك فيما يقسم لبعضكم من ميراث بعض ، وفيما يقضي بينكم من الأحكام ، لا يدخل حكمه خلل ولا زلل ، لأنه قضاء من لا تخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة .
    القول في تأويل قوله ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - " ولكم " أيها الناس نصف ما ترك أزواجكم بعد وفاتهن من مال وميراث " إن لم يكن لهن ولد " يوم يحدث بهن الموت ، لا ذكر ولا أنثى فإن كان لهن ولد أي : فإن كان لأزواجكم يوم يحدث لهن الموت ولد ذكر أو أنثى فلكم الربع مما تركن من مال وميراث ، ميراثا لكم عنهن من بعد وصية يوصين بها أو دين يقول : ذلكم لكم ميراثا عنهن ، مما يبقى من تركاتهن وأموالهن ، من بعد قضاء ديونهن التي يمتن وهي عليهن ، ومن بعد إنفاذ وصاياهن الجائزة إن كن أوصين بها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #460
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,720

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثامن
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (460)
    صــ 52إلى صــ 66


    [ ص: 52 ] القول في تأويل قوله ( ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ولأزواجكم - أيها الناس - ربع ما تركتم بعد وفاتكم من مال وميراث ، إن حدث بأحدكم حدث الوفاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى فإن كان لكم ولد يقول : فإن حدث بأحدكم حدث الموت وله ولد ذكر أو أنثى واحدا كان الولد أو جماعة فلهن الثمن مما تركتم يقول : فلأزواجكم حينئذ من أموالكم وتركتكم التي تخلفونها بعد وفاتكم - الثمن من بعد قضاء ديونكم التي حدث بكم حدث الوفاة وهي عليكم ، ومن بعد إنفاذ وصاياكم الجائزة التي توصون بها .

    وإنما قيل : من بعد وصية توصون بها أو دين فقدم ذكر الوصية على ذكر الدين ؛ لأن معنى الكلام : إن الذي فرضت لمن فرضت له منكم في هذه الآيات - إنما هو له من بعد إخراج أي هذين كان في مال الميت منكم ، من وصية أو دين . فلذلك كان سواء تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين ، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية ؛ لأنه لم يرد من معنى ذلك إخراج الشيئين : " الدين والوصية " من ماله ، فيكون ذكر الدين أولى أن يبدأ به من ذكر الوصية .
    [ ص: 53 ] القول في تأويل قوله ( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة .

    ثم اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأ ذلك عامة قرأة أهل الإسلام : ( وإن كان رجل يورث كلالة ) ، يعني : وإن كان رجل يورث متكلل النسب .

    ف " الكلالة " على هذا القول مصدر من قولهم : " تكلله النسب تكللا وكلالة " بمعنى : تعطف عليه النسب .

    وقرأه بعضهم : " وإن كان رجل يورث كلالة " بمعنى : وإن كان رجل يورث من يتكلله ، بمعنى : من يتعطف عليه بنسبه من أخ أو أخت .

    واختلف أهل التأويل في " الكلالة " .

    فقال بعضهم : هي ما خلا الوالد والولد .

    ذكر من قال ذلك :

    8745 - حدثنا الوليد بن شجاع السكوني قال : حدثني علي بن مسهر ، عن عاصم ، عن الشعبي قال : قال أبو بكر - رحمة الله عليه - : إني قد رأيت في الكلالة رأيا فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء : إن الكلالة ما خلا الولد والوالد . فلما [ ص: 54 ] استخلف عمر - رحمة الله عليه - قال : إني لأستحيي من الله - تبارك وتعالى - أن أخالف أبا بكر في رأي رآه .

    8746 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عاصم الأحول قال : حدثنا الشعبي : أن أبا بكر رحمه الله قال في الكلالة : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله : هو ما دون الولد والوالد . قال : فلما كان عمر رحمه الله قال : إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر .

    8747 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي : أن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالا : الكلالة من لا ولد له ولا والد .

    8748 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثني أبي ، عن عمران بن حدير ، عن السميط قال : كان عمر رجلا أيسر ، فخرج يوما وهو يقول بيده [ ص: 55 ] هكذا ، يديرها ، إلا أنه قال : أتى علي حين ولست أدري ما الكلالة ، ألا وإن الكلالة ما خلا الولد والوالد .

    8749 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن أبي بكر قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد .

    8750 - حدثني يونس قال : أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .

    8751 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن جريج يحدث ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .

    8752 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد .

    8753 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا [ ص: 56 ] أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، عن ابن عباس بمثله .

    8754 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد السلولي ، عن ابن عباس قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد .

    8755 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة قال : الكلالة من لم يترك ولدا ولا والدا .

    8756 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد قال : ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن من مات ولم يدع ولدا ولا والدا ، أنه كلالة .

    8757 - حدثنا تميم بن المنتصر قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد قال : ما رأيتهم إلا قد أجمعوا أن الكلالة الذي ليس له ولد ولا والد .

    8758 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد .

    8759 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن أبي [ ص: 57 ] إسحاق ، عن سليم بن عبد قال : أدركتهم وهم يقولون ، إذا لم يدع الرجل ولدا ولا والدا ، ورث كلالة .

    8760 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ، والكلالة الذي لا ولد له ولا والد ، لا أب ولا جد ، ولا ابن ولا ابنة ، فهؤلاء الإخوة من الأم .

    8761 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم قال في الكلالة : ما دون الولد والوالد .

    8762 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : الكلالة كل من لا يرثه والد ولا ولد ، وكل من لا ولد له ولا والد فهو يورث كلالة ، من رجالهم ونسائهم .

    8763 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والزهري وأبي إسحاق ، قال : الكلالة من ليس له ولد ولا والد .

    8764 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن محمد ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة وأبي إسحاق مثله .

    وقال آخرون : " الكلالة ما دون الولد " وهذا قول عن ابن عباس ، وهو الخبر الذي ذكرناه قبل من رواية طاوس عنه : أنه ورث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين .

    وقال آخرون : الكلالة ما خلا الوالد .

    ذكر من قال ذلك :

    8765 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة قال : [ ص: 58 ] سألت الحكم عن الكلالة قال : فهو ما دون الأب .

    واختلف أهل العربية في الناصب للكلالة .

    فقال بعض البصريين : إن شئت نصبت " كلالة " على خبر " كان " وجعلت " يورث " من صفة " الرجل " . وإن شئت جعلت " كان " تستغني عن الخبر نحو " وقع " وجعلت نصب " كلالة " على الحال ، أي : يورث كلالة ، كما يقال : " يضرب قائما " .

    وقال بعضهم قوله : " كلالة " خبر " كان " لا يكون الموروث كلالة ، وإنما الوارث الكلالة .

    قال أبو جعفر والصواب من القول في ذلك عندي أن " الكلالة " منصوب على الخروج من قوله : " يورث " وخبر " كان " " يورث " . و " الكلالة " وإن كانت منصوبة بالخروج من " يورث " فليست منصوبة على الحال ، ولكن على المصدر من معنى الكلام ؛ لأن معنى الكلام : وإن كان رجل يورث متكلله النسب كلالة ، ثم ترك ذكر " متكلله " اكتفاء بدلالة قوله : " يورث " عليه .

    واختلف أهل العلم في المسمى " كلالة " .

    فقال بعضهم : " الكلالة " الموروث ، وهو الميت نفسه ، يسمى بذلك إذا ورثه غير والده وولده .

    ذكر من قال ذلك :

    8766 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا [ ص: 59 ] أسباط ، عن السدي قوله في الكلالة قال : الذي لا يدع والدا ولا ولدا .

    8767 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كنت آخر الناس عهدا بعمر رحمه الله ، فسمعته يقول : القول ما قلت . قلت : وما قلت ؟ قال : الكلالة من لا ولد له .

    8768 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ويحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .

    [ ص: 60 ] وقال آخرون : " الكلالة " هي الورثة الذين يرثون الميت ، إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم ، إذا لم يكونوا ولدا ولا والدا ، على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك .

    وقال آخرون : بل " الكلالة " الميت والحي جميعا .

    ذكر من قال ذلك :

    8769 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا والد أو الحي كلهم " كلالة " هذا يرث بالكلالة ، وهذا يورث بالكلالة .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله هؤلاء ، وهو أن " الكلالة " الذين يرثون الميت ، من عدا ولده ووالده ، وذلك لصحة الخبر الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أنه قال : قلت : يا رسول الله ؟ إنما يرثني كلالة ، فكيف بالميراث وبما :

    8770 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد قال : كنا مع حميد بن عبد الرحمن في سوق الرقيق قال : فقام من عندنا ثم رجع ، فقال : هذا آخر ثلاثة من بني سعد حدثوني هذا الحديث ، قالوا : مرض سعد بمكة مرضا شديدا ، قال : فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده . فقال : يا رسول الله ، لي مال كثير ، وليس لي وارث إلا كلالة ، فأوصي بمالي كله ؟ فقال : لا .

    [ ص: 61 ] 8771 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن العلاء بن زياد قال : جاء شيخ إلى عمر رضي الله عنه فقال : إني شيخ ، وليس لي وارث إلا كلالة أعراب متراخ نسبهم ، أفأوصي بثلث مالي ؟ قال : لا .

    فقد أنبأت هذه الأخبار عن صحة ما قلنا في معنى " الكلالة " وأنها ورثة الميت دون الميت ، ممن عدا والده وولده .
    القول في تأويل قوله ( وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " وله أخ أو أخت " وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت يعني : أخا أو أختا من أمه كما :

    8772 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم ، عن سعد أنه كان يقرأ : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت [ ص: 62 ] قال : سعد : لأمه .

    8773 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء قال : سمعت القاسم بن ربيعة يقول : قرأت على سعد : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت قال سعد : لأمه .

    8774 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة بن قانف قال : قرأت على سعد ، فذكر نحوه .

    8775 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : أخبرنا هشيم قال : أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة قال : سمعت سعد بن أبي وقاص قرأ : " وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت من أمه " .

    8776 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وله أخ أو أخت فهؤلاء الإخوة من الأم : إن كان واحدا فله السدس ، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء .

    8778 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت ، [ ص: 63 ] فهؤلاء الإخوة من الأم ، فهم شركاء في الثلث ، سواء الذكر والأنثى .

    قال أبو جعفر : وقوله : فلكل واحد منهما السدس ، إذا انفرد الأخ وحده أو الأخت وحدها ، ولم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه ، فله السدس من ميراث أخيه لأمه . فإن اجتمع أخ وأخت ، أو أخوان لا ثالث معهما لأمهما ، أو أختان كذلك ، أو أخ وأخت ليس معهما غيرهما من أمهما فلكل واحد منهما من ميراث أخيهما لأمهما السدس " فإن كانوا أكثر من ذلك " يعني : فإن كان الإخوة والأخوات لأم الميت الموروث كلالة أكثر من اثنين فهم شركاء في الثلث ، يقول : فالثلث الذي فرضت لاثنيهم إذا لم يكن غيرهما من أمهما ميراثا لهما من أخيهما الميت الموروث كلالة - شركة بينهم ، إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددهم على عدد رءوسهم ، لا يفضل ذكر منهم على أنثى في ذلك ، ولكنه بينهم بالسوية .

    فإن قال قائل : وكيف قيل : وله أخ أو أخت ، ولم يقل : " لهما أخ أو أخت " وقد ذكر قبل ذلك " رجل أو امرأة " فقيل : " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة " ؟ قيل : إن من شأن العرب إذا قدمت ذكر اسمين قبل الخبر ، فعطفت أحدهما على الآخر " ب " أو " ثم أتت بالخبر ، أضافت الخبر إليهما أحيانا ، وأحيانا إلى أحدهما ، وإذا أضافت إلى أحدهما ؛ كان سواء عندها إضافة ذلك إلى أي الاسمين - اللذين ذكرتهما - أضافته ، فتقول : " من كان عنده غلام أو جارية فليحسن إليه " يعني : فليحسن إلى الغلام - و " فليحسن إليها " يعني : فليحسن إلى الجارية - و " فليحسن إليهما " .

    [ ص: 64 ] وأما قوله : فلكل واحد منهما السدس ، وقد تقدم ذكر الأخ والأخت بعطف أحدهما على الآخر ، والدلالة على أن المراد بمعنى الكلام أحدهما في قوله : " وله أخ أو أخت " فإن ذلك إنما جاز ، لأن معنى الكلام : فلكل واحد من المذكورين السدس .
    القول في تأويل قوله ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ( 12 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : من بعد وصية يوصي بها ، أي : هذا الذي فرضت لأخي الميت الموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته ، إنما هو لهم من بعد قضاء دين الميت الذي كان عليه يوم حدث به حدث الموت من تركته ، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يوصي بها في حياته لمن أوصى له بها بعد وفاته ، كما :

    8779 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : من بعد وصية يوصي بها أو دين ، والدين أحق ما بدئ به من جميع المال ، فيؤدى عن أمانة الميت ، ثم الوصية ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم .

    وأما قوله : غير مضار ، فإنه يعني تعالى ذكره : من بعد وصية يوصي بها ، غير مضار ورثته في ميراثهم عنه ، كما :

    8780 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، [ ص: 65 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : غير مضار ، قال : في ميراث أهله .

    8781 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : غير مضار ، قال : في ميراث أهله .

    8782 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : غير مضار وصية من الله ، وإن الله تبارك وتعالى كره الضرار في الحياة وعند الموت ، ونهى عنه ، وقدم فيه ، فلا تصلح مضارة في حياة ولا موت .

    8783 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال : حدثنا عبيدة بن حميد وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية : غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ، قال : الضرار في الوصية من الكبائر .

    8784 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الضرار في الوصية من الكبائر .

    8785 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .

    8786 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الحيف في الوصية من الكبائر .

    8787 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى قالا : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الضرار والحيف في الوصية من الكبائر .

    [ ص: 66 ] 8788 - حدثني موسى بن سهل الرملي قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر قال : حدثنا عمر بن المغيرة قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الضرار في الوصية من الكبائر " .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •