تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 20 من 23 الأولىالأولى ... 1011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 381 إلى 400 من 460

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #381
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(367)
    الحلقة (381)
    صــ 7 إلى صــ 24




    [ ص: 7 ] القول في تأويل قوله تعالى ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : الذين يربون .

    و " الإرباء " الزيادة على الشيء ، يقال منه : " أربى فلان على فلان " إذا زاد عليه " يربي إرباء " والزيادة هي " الربا " " وربا الشيء " إذا زاد على ما كان عليه فعظم " فهو يربو ربوا " . وإنما قيل للرابية [ رابية ] ؛ لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها من قولهم : " ربا يربو " . ومن ذلك قيل : " فلان في رباوة قومه " يراد أنه في رفعة وشرف منهم . فأصل " الربا " الإنافة والزيادة ، ثم يقال : " أربى فلان " أي أناف [ ماله حين ] صيره زائدا . وإنما قيل للمربي : " مرب " ؛ لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه . ولذلك قال - جل ثناؤه - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ) . [ آل عمران : 131 ] . [ ص: 8 ]

    وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :

    ذكر من قال ذلك :

    6235 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني ؟ فيؤخر عنه .

    6236 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    6237 - حدثني بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : أن ربا أهل الجاهلية : يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى ، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء ، زاده وأخر عنه .

    قال أبو جعفر : فقال - جل ثناؤه - : الذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا " لا يقومون " في الآخرة من قبورهم " إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يعني بذلك : يتخبله الشيطان في الدنيا ، وهو الذي يخنقه فيصرعه " من المس " يعني : من الجنون .

    وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6238 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 9 ] عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يوم القيامة في أكل الربا في الدنيا .

    6239 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    6240 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : ذلك حين يبعث من قبره .

    6241 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : " خذ سلاحك للحرب " وقرأ : " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : ذلك حين يبعث من قبره .

    6242 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " الآية . قال : يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق .

    6243 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : [ ص: 10 ] " الذين يأكلون الربا لا يقومون " الآية ، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة ، بعثوا وبهم خبل من الشيطان .

    6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : هو التخبل الذي يتخبله الشيطان من الجنون .

    6245 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان . وهي في بعض القراءة : ( " لا يقومون يوم القيامة " ) .

    6246 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطا ، كالذي يتخبطه الشيطان من المس .

    6247 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يعني : من الجنون .

    6248 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " . قال : هذا مثلهم يوم القيامة ، لا يقومون يوم القيامة مع الناس إلا كما يقوم الذي يخنق من الناس ، كأنه خنق ، كأنه مجنون . [ ص: 11 ]

    قال أبو جعفر : ومعنى قوله : " يتخبطه الشيطان من المس " يتخبله من مسه إياه . يقال منه : " قد مس الرجل وألق ، فهو ممسوس ومألوق " كل ذلك إذا ألم به اللمم فجن . ومنه قول الله - عز وجل - : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) [ الأعراف : 201 ] ومنه قول الأعشى :


    وتصبح عن غب السرى وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق


    فإن قال لنا قائل : أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله ، أيستحق هذا الوعيد من الله ؟

    قيل : نعم ، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل ، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا ، فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا ، ومقبحا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ، وفي قوله - جل ثناؤه - : [ ص: 12 ] ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) [ سورة البقرة : 278 - 279 ] الآية ، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك ، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا ، وأن سواء العمل به وأكله وأخذه وإعطاؤه ، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله :

    6249 - " لعن الله آكل الربا ، ومؤكله ، وكاتبه ، وشاهديه إذا علموا به " .
    القول في تأويل قوله : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا )

    قال أبو جعفر : يعني ب " ذلك " - جل ثناؤه - : ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون فقال - تعالى ذكره - : هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم ، وسوء ما حل بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون : " إنما البيع " الذي أحله الله لعباده " مثل الربا " ؛ وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الربا من أهل الجاهلية ، كان إذا حل مال أحدهم [ ص: 13 ] على غريمه ، يقول الغريم لغريم الحق : " زدني في الأجل وأزيدك في مالك " . فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : " هذا ربا لا يحل " . فإذا قيل لهما ذلك قالا " سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال " . فكذبهم الله في قيلهم فقال : " وأحل الله البيع " .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 275 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - : وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع " وحرم الربا " يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل ، وتأخيره دينه عليه . يقول - عز وجل - : فليست الزيادتان - اللتان إحداهما من وجه البيع والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل - سواء . وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل وأحللت الأخرى منهما ، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها ، فيستفضل فضلها . فقال الله - عز وجل - : ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا ؛ لأني أحللت البيع ، وحرمت الربا ، والأمر أمري والخلق خلقي ، أقضي فيهم ما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي ، ولا أن يخالف أمري ، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي . [ ص: 14 ]

    ثم قال - جل ثناؤه - : " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى " يعني ب " الموعظة " التذكير والتخويف الذي ذكرهم وخوفهم به في آي القرآن ، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب . يقول - جل ثناؤه - : فمن جاءه ذلك " فانتهى " عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه " فله ما سلف " يعني : ما أكل ، وأخذ فمضى قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك " وأمره إلى الله " يعني : وأمر آكله - بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم وبعد انتهاء آكله عن أكله - إلى الله في عصمته وتوفيقه ، إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه ، وإن شاء خذله عن ذلك " ومن عاد " يقول : ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم ، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم من قوله : " إنما البيع مثل الربا " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يعني : ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار ، يعني نار جهنم ، فيها خالدون .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6250 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله " أما " الموعظة " فالقرآن ، وأما " ما سلف " فله ما أكل من الربا .
    [ ص: 15 ] القول في تأويل قوله تعالى ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ( 276 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - عز وجل - بقوله : " يمحق الله الربا " ينقص الله الربا فيذهبه كما : -

    6251 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس : " يمحق الله الربا " قال : ينقص .

    وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

    6252 - " الربا وإن كثر فإلى قل " . .

    وأما قوله : " ويربي الصدقات " فإنه - جل ثناؤه - يعني أنه يضاعف أجرها ، يربها وينميها له .

    وقد بينا معنى " الربا " قبل " والإرباء " وما أصله بما فيه الكفاية من إعادته . [ ص: 16 ]

    فإن قال لنا قائل : وكيف إرباء الله الصدقات ؟

    قيل : إضعافه الأجر لربها ، كما قال - جل ثناؤه - : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) [ سورة البقرة : 261 ] ، وكما قال : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) [ سورة البقرة : 245 ] وكما : -

    6253 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا عباد بن منصور عن القاسم : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله - عز وجل - يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل - : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) [ سورة التوبة : 104 ] و " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " . . [ ص: 17 ]

    6254 - حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال : حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة ولا أراه إلا قد رفعه قال : إن الله - عز وجل - يقبل الصدقة ، ولا يقبل إلا الطيب . " . [ ص: 18 ]

    6255 - حدثني محمد بن عمر بن علي المقدمي قال : حدثنا ريحان بن سعيد قال : حدثنا عباد عن القاسم عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل - : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) . . [ ص: 19 ]

    6256 - حدثني محمد بن عبد الملك قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه ، ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله . وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال : " في كف الله - عز وجل - حتى تكون مثل أحد ، فتصدقوا " . .

    6257 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال [ ص: 20 ] سمعت يونس عن صاحب له ، عن القاسم بن محمد قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - عز وجل - يقبل الصدقة بيمينه ، ولا يقبل منها إلا ما كان طيبا ، والله يربي لأحدكم لقمته كما يربي أحدكم مهره وفصيله ، حتى يوافى بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد " . . [ ص: 21 ]

    قال أبو جعفر : وأما قوله : " والله لا يحب كل كفار أثيم " فإنه يعني به : والله لا يحب كل مصر على كفر بربه ، مقيم عليه ، مستحل أكل الربا وإطعامه " أثيم " متماد في الإثم ، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه ، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه ، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 277 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - عز وجل - بأن الذين آمنوا يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله ، وبما جاء به من عند ربهم من تحريم الربا وأكله ، وغير ذلك من سائر شرائع دينه " وعملوا الصالحات " التي أمرهم الله - عز وجل - بها ، والتي ندبهم إليها " وأقاموا الصلاة " المفروضة بحدودها ، وأدوها بسننها " وآتوا الزكاة " المفروضة عليهم في أموالهم ، بعد الذي سلف منهم من أكل الربا قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم " لهم أجرهم " يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصدقتهم " عند ربهم " يوم حاجتهم إليه في معادهم ولا خوف عليهم " يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم من أكل ما كانوا أكلوا من الربا بما كان من إنابتهم وتوبتهم إلى الله - عز وجل - من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم ، [ ص: 22 ] وتصديقهم بوعد الله ووعيده " ولا هم يحزنون " على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به ، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى ، وهم على تركهم ما تركوا من ذلك في الدنيا ابتغاء رضوانه في الآخرة ، فوصلوا إلى ما وعدوا على تركه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ( 278 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " يا أيها الذين آمنوا " صدقوا بالله وبرسوله " اتقوا الله " يقول : خافوا الله على أنفسكم فاتقوه بطاعته فيما أمركم به ، والانتهاء عما نهاكم عنه " وذروا " يعني : ودعوا " ما بقي من الربا " يقول : اتركوا طلب ما بقي لكم من فضل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تربوا عليها " إن كنتم مؤمنين " يقول : إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم بأفعالكم . .

    قال أبو جعفر : وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم ، فكانوا قد قبضوا بعضه منهم ، وبقي بعض ، فعفا الله - جل ثناؤه - لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية ، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه .

    ذكر من قال ذلك :

    6258 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " إلى : " ولا تظلمون " قال : نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة ، كانا [ ص: 23 ] شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله " ذروا ما بقي " من فضل كان في الجاهلية " من الربا " .

    6259 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع . فلما كان الفتح ، استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير . فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " إلى " ولا تظلمون " . فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عتاب وقال : " إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب " وقال ابن جريج عن عكرمة قوله : " اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " قال : كانوا يأخذون الربا على بني المغيرة ، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة ، بنو عمرو بن عمير ، فهم الذين كان لهم الربا على بني المغيرة ، فأسلم عبد ياليل وحبيب وربيعة وهلال ومسعود .

    6260 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا جويبر ، [ ص: 24 ] عن الضحاك في قوله : " اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " قال : كان ربا يتبايعون به في الجاهلية ، فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( فإن لم تفعلوا ) فإن لم تذروا ما بقي من الربا .

    واختلف القرأة في قراءة قوله : " فأذنوا بحرب من الله ورسوله " .

    فقرأته عامة قرأة أهل المدينة : " فأذنوا " بقصر الألف من " فآذنوا " وفتح ذالها ، بمعنى كونوا على علم وإذن .

    وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين : " فآذنوا " بمد الألف من قوله : " فأذنوا " وكسر ذالها ، بمعنى فآذنوا غيركم ، أعلموهم وأخبروهم بأنكم على حربهم .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " فأذنوا " بقصر ألفها وفتح ذالها ، بمعنى اعلموا ذلك واستيقنوه ، وكونوا على إذن من الله - عز وجل - لكم بذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #382
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(368)
    الحلقة (382)
    صــ 25 إلى صــ 42




    وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله - عز وجل - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يقر على المقام عليه ، وأن يقتل المرتد عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام ، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يؤذنوه . فإذ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون كان مشركا مقيما [ ص: 25 ] على شركه الذي لا يقر عليه ، أو يكون كان مسلما فارتد وأذن بحرب . فأي الأمرين كان ، فإنما نبذ إليه بحرب ، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عزم على ذلك . لأن الأمر إن كان إليه فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب ، لم يلزمهم حربه ، وليس ذلك حكمه في واحدة من الحالين ، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها .

    وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6261 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " إلى قوله : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) : فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه ، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع ، وإلا ضرب عنقه .

    6262 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : " خذ سلاحك للحرب " .

    6263 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال : حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله .

    6264 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون ، فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا . [ ص: 26 ]

    6265 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، مثله .

    6266 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " أوعد الآكل الربا بالقتل .

    6267 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : قوله : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله .

    قال أبو جعفر : وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله : ( فأذنوا بحرب من الله ) إيذان من الله - عز وجل - لهم بالحرب والقتل ، لا أمر لهم بإيذان غيرهم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " إن تبتم " فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله - عز وجل - " فلكم رءوس أموالكم " من الديون التي لكم على الناس ، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم ، كما :

    6268 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " والمال الذي لهم على ظهور الرجال ، جعل لهم [ ص: 27 ] رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية ، فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا .

    6269 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال : وضع الله الربا ، وجعل لهم رءوس أموالهم .

    6270 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " قال : ما كان لهم من دين ، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم ، ولا يزدادوا عليه شيئا .

    6271 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " الذي أسلفتم ، وسقط الربا .

    6272 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم الفتح : " ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله ، وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب " .

    6273 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته : " إن كل ربا موضوع ، وأول ربا يوضع ربا العباس " . .
    [ ص: 28 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لا تظلمون ولا تظلمون ( 279 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : " لا تظلمون " بأخذكم رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم ، دون أرباحها التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم ، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه ، أو لم يكن لكم قبل " ولا تظلمون " يقول : ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل ، يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه ، لأن ما زاد على رءوس أموالكم لم يكن حقا لكم عليه ، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6274 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون " فتربون " ولا تظلمون " فتنقصون .

    6275 - وحدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " قال : لا تنقصون من أموالكم ، ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " وإن كان " ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم " ذو عسرة " يعني : معسرا برءوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء ، فأنظروهم إلى ميسرتهم . [ ص: 29 ]

    وقوله : " ذو عسرة " مرفوع ب " كان " فالخبر متروك ، وهو ما ذكرنا . وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها ، ولو وجهت " كان " في هذا الموضع ، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفي بنفسه التام ، لكان وجها صحيحا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر . فيكون تأويل الكلام عند ذلك : وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم ، فنظرة إلى ميسرة .

    وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب : ( وإن كان ذا عسرة ) ، بمعنى وإن كان الغريم ذا عسرة " فنظرة إلى ميسرة " . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائز القراءة به عندنا ، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين .

    وأما قوله : ( فنظرة إلى ميسرة ) ، فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة ، كما قال : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ) [ سورة البقرة : 196 ] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل ، فأغنى عن تكريره . .

    و " الميسرة " المفعلة من " اليسر " مثل " المرحمة " و " المشأمة " .

    ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بالدين الذي لكم ، فيصير من أهل اليسر به .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . [ ص: 30 ]

    ذكر من قال ذلك :

    6277 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الربا .

    6278 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا هشام عن ابن سيرين : أن رجلا خاصم رجلا إلى شريح قال : فقضى عليه وأمر بحبسه ، قال : فقال رجل عند شريح : إنه معسر ، والله يقول في كتابه : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ! قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا ! وإن الله قال في كتابه : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) [ سورة النساء : 58 ] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه .

    6279 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : ذلك في الربا .

    6280 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن الشعبي أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أي فلان ، إن كنت موسرا فأد ، وإن كنت معسرا فإلى ميسرة .

    6281 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن أيوب عن محمد قال : جاء رجل إلى شريح فكلمه فجعل يقول : إنه معسر ، إنه معسر ! ! قال : فظننت أنه يكلمه في محبوس ، فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار ، [ ص: 31 ] فأنزل الله - عز وجل - : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " وقال الله - عز وجل - : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ، فما كان الله - عز وجل - يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه ، أدوا الأمانات إلى أهلها .

    6282 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله .

    6283 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النظرة في الأمانة ، ولكن يؤدي الأمانة إلى أهلها .

    6284 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وإن كان ذو عسرة فنظرة " برأس المال " إلى ميسرة " يقول : إلى غنى .

    6285 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " هذا في شأن الربا .

    6286 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) ، هذا في شأن الربا ، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم . [ ص: 32 ]

    6287 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " يعني المطلوب .

    6288 - حدثني ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : الموت .

    6289 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل عن جابر عن محمد بن علي مثله .

    6290 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : هذا في الربا .

    6291 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك عن منصور عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت ، أو إلى فرقة .

    6292 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم : " فنظرة إلى ميسرة " قال : ذلك في الربا .

    6293 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا مندل عن ليث عن مجاهد : " فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ، ولا يزد عليه . وكان إذا حل دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه ، زاد عليه وأخره .

    6294 - وحدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا مندل عن ليث عن مجاهد : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ولا يزد عليه . [ ص: 33 ]

    وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أي وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا .

    ذكر من قال ذلك :

    6295 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدقوا خير لكم . قال : وكذلك كل دين على مسلم ، فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه . وإنما جعل النظرة في الحلال ، فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك .

    6296 - حدثني علي بن حرب قال : حدثنا ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الدين .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " أنه معني به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رءوس أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، أو إنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلى ميسرتهم . فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه ، أو لزمه [ ص: 34 ] من قبل الإرباء - إليه ، إن كان موسرا . وإن كان معسرا ، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه .

    غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا ، وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه ، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن دين كل ذي دين ، في مال غريمه ، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته . فإذا عدم ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال له بعينه .

    فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم فقد بطل دين رب المال ، وذلك ما لا يقوله أحد .

    ويكون في رقبته ، فإن يكن كذلك ، فمتى عدمت نفسه فقد بطل دين رب الدين ، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد .

    فقد تبين إذا ، إذ كان ذلك كذلك ، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل ، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه سبيل ؛ لأنه غير مانعه حقا ، له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بمطله إياه بالحبس .
    [ ص: 35 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ( 280 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل وعز بذلك : وأن تتصدقوا برءوس أموالكم على هذا المعسر " خير لكم " أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته ، لتقبضوا رءوس أموالكم منه إذا أيسر " إن كنتم تعلمون " موضع الفضل في الصدقة ، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه .

    واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : " وأن تصدقوا " برءوس أموالكم على الغني والفقير منهم " خير لكم " .

    ذكر من قال ذلك :

    6297 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم " ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية . فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا " وأن تصدقوا خير لكم " يقول : أن تصدقوا بأصل المال ، خير لكم .

    6298 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة : [ ص: 36 ] " وأن تصدقوا " أي برأس المال ، فهو خير لكم .

    6299 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم : ( وأن تصدقوا خير لكم ) قال : من رءوس أموالكم .

    6300 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى عن سفيان عن المغيرة عن إبراهيم بمثله .

    6301 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم : " وأن تصدقوا خير لكم " قال : أن تصدقوا برءوس أموالكم .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم - نحو ما قلنا في ذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    6302 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وأن تصدقوا خير لكم " قال : وأن تصدقوا برءوس أموالكم على الفقير ، فهو خير لكم ، فتصدق به العباس .

    6303 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم ) ، يقول : وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك .

    6304 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك في قوله : ( وأن تصدقوا خير لكم ) ، يعني : على المعسر ، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال ، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل .

    6305 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم عن [ ص: 37 ] جويبر عن الضحاك : وأن تصدقوا برءوس أموالكم خير لكم من نظرة إلى ميسرة . فاختار الله - عز وجل - الصدقة على النظارة .

    6306 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم " قال : من النظرة " إن كنتم تعلمون " .

    6307 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك : ( فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم ) ، والنظرة واجبة ، وخير الله - عز وجل - الصدقة على النظرة ، والصدقة لكل معسر ، فأما الموسر فلا .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال : معناه : " وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم " لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين . وإلحاقه بالذي يليه أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه .

    قال أبو جعفر : وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا ، هن آخر آيات نزلت من القرآن .

    ذكر من قال ذلك :

    6308 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قال : كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا ، [ ص: 38 ] وإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسرها ، فدعوا الربا والريبة .

    6039 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود عن عامر : أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد ، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم ، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم ، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا ، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم " . [ ص: 39 ]

    6310 - حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا قبيصة قال : حدثنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن الشعبي عن ابن عباس قال : آخر ما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الربا ، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا ، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس .
    القول في تأويل قوله تعالى ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ( 281 ) )

    قال أبو جعفر : وقيل : هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن .

    ذكر من قال ذلك :

    6311 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا أبو تميلة قال : حدثنا الحسين بن واقد [ ص: 40 ] عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " .

    6312 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله . . . " الآية ، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت .

    6313 - حدثني محمد بن عمارة قال : حدثنا سهل بن عامر قال : حدثنا مالك بن مغول عن عطية قال : آخر آية نزلت : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " .

    [ ص: 41 ] 6314 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن السدي قال : آخر آية نزلت : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " .

    6315 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة عن عبيد بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس وحجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس آخر آية نزلت من القرآن : " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " قال ابن جريج : يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث بعدها تسع ليال ، وبدئ يوم السبت ، ومات يوم الاثنين .

    6316 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين .

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : واحذروا أيها الناس يوما ترجعون [ ص: 42 ] فيه إلى الله " فتلقونه فيه ، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم ، أو بمخزيات تخزيكم ، أو بفاضحات تفضحكم ، فتهتك أستاركم ، أو بموبقات توبقكم ، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به ، وإنه يوم مجازاة بالأعمال ، لا يوم استعتاب ، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة ، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة ، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح ، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت ، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها ، وهم لا يظلمون . وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها ، وبالحسنة عشر أمثالها ؟ ! كلا بل عدل عليك أيها المسيء ، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن ، فاتقى امرؤ ربه ، وأخذ منه حذره ، وراقبه أن يهجم عليه يومه ، وهو من الأوزار ظهره ثقيل ، ومن صالحات الأعمال خفيف ، فإنه - عز وجل - حذر فأعذر ، ووعظ فأبلغ .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #383
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(369)
    الحلقة (383)
    صــ 43 إلى صــ 60



    . [ ص: 43 ]
    القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله : " إذا تداينتم " يعني : إذا تبايعتم بدين ، أو اشتريتم به ، أو تعاطيتم أو أخذتم به " إلى أجل مسمى " يقول : إلى وقت معلوم وقتموه بينكم . وقد يدخل في ذلك القرض والسلم ، وكل ما جاز [ فيه ] السلم مسمى أجل بيعه يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه . ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة . كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى ، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه .

    وكان ابن عباس يقول نزلت هذه الآية في السلم خاصة .

    ذكر الرواية عنه بذلك :

    6317 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يحيى بن عيسى الرملي عن سفيان عن ابن أبي نجيح قال قال ابن عباس في : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " قال : السلم في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم . [ ص: 44 ]

    6318 - حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال : حدثنا يحيى بن الصامت قال : حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن أبي حيان عن ابن أبي نجيح عن ابن عباس : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " قال : نزلت في السلم ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم .

    6319 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء عن سفيان عن أبي حيان عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " في السلم ، في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم .

    6320 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن محبب قال : حدثنا سفيان عن [ ص: 45 ] أبي حيان التيمي عن رجل ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " في السلف في الحنطة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم .

    6321 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي ، عن قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله - عز وجل - قد أحله وأذن فيه . ويتلو هذه الآية : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " [ ص: 46 ]

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما وجه قوله : " بدين " وقد دل بقوله : " إذا تداينتم " عليه ؟ وهل تكون مداينة بغير دين ، فاحتيج إلى أن يقال " بدين " ؟ قيل : إن العرب لما كان مقولا عندها : " تداينا " بمعنى تجازينا ، وبمعنى : تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله : " بدين " المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله : " تداينتم " حكمه ، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة .

    وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [ سورة الحجر : 30\ سورة ص : 73 ] ، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع .
    [ ص: 47 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فاكتبوه )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " فاكتبوه " فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى من بيع كان ذلك أو قرض .

    واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه ، هل هو واجب أو هو ندب .

    فقال بعضهم : هو حق واجب وفرض لازم .

    ذكر من قال ذلك :

    6322 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " قال : من باع إلى أجل مسمى أمر أن يكتب ، صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى .

    6323 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " قال : فمن ادان دينا فليكتب ، ومن باع فليشهد .

    6324 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " فكان هذا واجبا .

    6325 - وحدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بمثله وزاد فيه ، قال : ثم قامت الرخصة والسعة . قال : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ) [ ص: 48 ] .

    6326 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي ، كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ قالوا : وكيف يكون ذلك ؟ قال : رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد ، فلما حل ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه ، فلم يستجب له ، لأنه قد عصى ربه .

    وقال آخرون : كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا ، فنسخه قوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) .

    ذكر من قال ذلك :

    6327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن ابن شبرمة عن الشعبي قال : لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد ، لقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " قال ابن عيينة قال ابن شبرمة عن الشعبي : إلى هذا انتهى .

    6328 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود عن عامر في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " حتى بلغ هذا المكان : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " قال : رخص من ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه . [ ص: 49 ]

    6329 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون عن عمرو عن عاصم عن الشعبي قال : إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب .

    6330 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : فكانوا يرون أن هذه الآية : " فإن أمن بعضكم بعضا " نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود ، رخصة ورحمة من الله .

    6331 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال غير عطاء : نسخت الكتاب والشهادة : " فإن أمن بعضكم بعضا " .

    6332 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : نسخ ذلك قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " قال : فلولا هذا الحرف ، لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء ، أو برهن . فلما جاءت هذه نسخت هذا كله ، صار إلى الأمانة .

    6333 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي قال : سألت الحسن قلت : كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد ؟ قال : ألم تر أن الله - عز وجل - يقول : " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ؟

    6334 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا [ ص: 50 ] داود عن عامر في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " حتى بلغ هذا المكان : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " قال : رخص في ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه .

    6335 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن داود عن الشعبي في قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " قال : إن أشهدت فحزم ، وإن لم تشهد ففي حل وسعة .

    6336 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قلت للشعبي : أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشيء أحتم عليه أن يشهد ؟ قال : فقرأ إلى قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " قد نسخ ما كان قبله .

    6337 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال : حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة ، [ عن أبيه ] ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " إلى : " فإن أمن بعضكم بعضا " قال : هذه نسخت ما قبلها .
    [ ص: 51 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين " كاتب بالعدل " يعني : بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما ، بما لا يحيف ذا الحق حقه ، ولا يبخسه ، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل ، ولا يلزمه ما ليس عليه ، كما :

    6338 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " قال : اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه حقا ، ولا يزيدن فيه باطلا .

    وأما قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " فإنه يعني : ولا يأبين كاتب استكتب ذلك ، أن يكتب بينهم كتاب الدين ، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك ، وحرمه كثيرا من خلقه .

    وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك ، [ ص: 52 ] نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق .

    ذكر من قال ذلك :

    6339 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " ولا يأب كاتب " قال : واجب على الكاتب أن يكتب .

    6340 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب " أواجب أن لا يأبى أن يكتب ؟ قال : نعم قال : ابن جريج ، وقال مجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب .

    6341 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " بمثله .

    6342 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن جابر عن عامر وعطاء قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت ، فلا تأب أن تكتب لهم .

    ذكر من قال : " هي منسوخة " . قد ذكرنا جماعة ممن قال : " كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها " وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني .

    6343 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن [ ص: 53 ] جويبر عن الضحاك : " ولا يأب كاتب " قال : كانت عزيمة ، فنسختها : ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .

    6344 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر . عن أبيه ، عن الربيع : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " فكان هذا واجبا على الكتاب .

    وقال آخرون : هو على الوجوب ، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه .

    ذكر من قال ذلك :

    6345 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " يقول : لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله - عز وجل - أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم ، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل ، وأمر الله فرض لازم ، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب . ولا دلالة تدل على أن أمره - جل ثناؤه - باكتتاب الكتب في ذلك ، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد ، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه ، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه .

    ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " . لأن ذلك إنما أذن الله - تعالى ذكره - به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب . فأما والكتاب والكاتب موجودان فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله - تعالى ذكره - به في قوله : " فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " . [ ص: 54 ]

    وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة على السبيل التي قد بيناها . فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر ، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء .

    ولو وجب أن يكون قوله : ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) ناسخا قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " - لوجب أن يكون قوله : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) [ سورة المائدة : 6 ] ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر الذي فرضه الله - عز وجل - بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) [ سورة المائدة : 6 ] وأن يكون قوله في كفارة الظهار : ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) [ سورة المجادلة : 4 ] ناسخا قوله : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) [ سورة المجادلة : 3 ] . فيسأل القائل إن قول الله - عز وجل - : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ناسخ قوله : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " : ما الفرق بينه وبين قائل في التيمم وما ذكرنا قوله فزعم أن كل ما أبيح في حال [ ص: 55 ] الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخ بقوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) ؟

    فإن قال : الفرق بيني وبينه أن قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " كلام منقطع عن قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله : " فرهان مقبوضة " . وإنما عنى بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضا " : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " فأمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته .

    قيل له : وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيل بقوله : " ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " ؟

    وأما الذين زعموا أن قوله : " فاكتبوا " وقوله : " ولا يأب كاتب " على وجه الندب والإرشاد ، فإنهم يسألون البرهان على دعواهم في ذلك ، ثم يعارضون بسائر أمر الله - عز وجل - الذي أمر في كتابه ، ويسألون الفرق بين ما ادعوا في ذلك وأنكروه في غيره . فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله .

    ذكر من قال : " العدل " في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " : الحق . [ ص: 56 ]
    القول في تأويل قوله تعالى ( فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : " فليكتب " الكاتب وليملل الذي عليه الحق " وهو الغريم المدين يقول : ليتول المدين إملال كتاب ما عليه من دين رب المال على الكاتب " وليتق الله ربه " المملي الذي عليه الحق ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئا أن ينقصه منه ظلما أو يذهب به منه تعديا ، فيؤخذ به حيث لا يقدر على قضائه إلا من حسناته ، أو أن يتحمل من سيئاته ، كما :

    6346 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " فليكتب وليملل الذي عليه الحق " فكان هذا واجبا - " وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا " يقول : لا يظلم منه شيئا .

    6347 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا يبخس منه شيئا " قال : لا ينقص من حق هذا الرجل شيئا إذا أملى .
    [ ص: 57 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا " فإن كان المدين الذي عليه المال " سفيها " يعني : جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يمله على الكاتب ، كما : -

    6348 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " أما السفيه : فالجاهل بالإملاء والأمور .

    وقال آخرون : بل " السفيه " في هذا الموضع الذي عناه الله : الطفل الصغير .

    ذكر من قال ذلك :

    6349 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو ، حدثنا أسباط عن السدي : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " أما السفيه فهو الصغير .

    6350 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا " قال : هو الصبي الصغير ، فليملل وليه بالعدل .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : " السفيه في هذا الموضع : الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه " لما قد بينا قبل من أن معنى " السفه " في كلام العرب : الجهل . [ ص: 58 ]

    وقد يدخل في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " كل جاهل بصواب ما يمل من خطئه من صغير وكبير ، وذكر وأنثى . غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادا بها كل جاهل بموضع خطأ ما يمل وصوابه من بالغي الرجال الذين لا يولى عليهم والنساء . لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " والصبي ومن يولى عليه لا يجوز مداينته ، وأن الله - عز وجل - قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفيه الضعيف ومن لا يستطيع إملاله ،ففي فصله - جل ثناؤه - الضعيف من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميز بين صفاتهم غير الصنفين الآخرين .

    وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن الموصوف بالسفه منهم دون الضعف هو ذو القوة على الإملال ، غير أنه وضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه وأن الموصوف بالضعف منهم هو العاجز عن إملاله ، وإن كان شديدا رشيدا ، إما لعي لسانه أو خرس به وأن الموصوف بأنه لا يستطيع أن يمل هو الممنوع من إملاله ، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيمل عليه ، وإما لغيبته عن موضع الإملال ، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب .

    فوضع الله جل وعز عنهم فرض إملال ذلك ، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم بترك الإملال من أجلها ، وأمر عند سقوط فرض ذلك عليهم ولي [ ص: 59 ] الحق بإملاله فقال : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " يعني : ولي الحق .

    ولا وجه لقول من زعم أن " السفيه " في هذا الموضع هو الصغير ، وأن " الضعيف " هو الكبير الأحمق ؛ لأن ذلك إن كان كما قال يوجب أن يكون قوله : " أو لا يستطيع أن يمل هو " هو العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال ، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل ، وإما لغيبته عن موضع الكتاب . وإذا كان ذلك كذلك معناه ، لبطل معنى قوله : " فليملل وليه بالعدل " لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا ، ولا يجوز حكم أحد في ماله إلا بأمره . وفي صحة معنى ذلك ما يقضي على فساد قول من زعم أن " السفيه " في هذا الموضع هو الطفل الصغير أو الكبير الأحمق .

    ذكر من قال ذلك :

    6351 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " يقول : ولي الحق .

    6352 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " قال يقول : إن كان عجز عن ذلك أمل صاحب الدين بالعدل . [ ص: 60 ]

    ذكر الرواية عمن قال : " عنى بالضعيف في هذا الموضع : الأحمق " وبقوله : " فليملل وليه بالعدل " ولي السفيه والضعيف .

    6353 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو " قال : أمر ولي السفيه أو الضعيف أن يمل بالعدل .

    6354 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما الضعيف فهو الأحمق .

    6355 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : أما الضعيف فالأحمق .

    6356 - حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا " لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك ، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه .

    وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك .

    وأما قوله : " فليملل وليه بالعدل " فإنه يعني : بالحق .
    القول في تأويل قوله تعالى ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : واستشهدوا على حقوقكم شاهدين .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #384
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(370)
    الحلقة (384)
    صــ 61 إلى صــ 78




    يقال : " فلان " شهيدي على هذا المال ، وشاهدي عليه " . [ ص: 61 ]

    وأما قوله : " من رجالكم " فإنه يعني من أحراركم المسلمين دون عبيدكم ودون أحراركم الكفار ، كما : -

    6357 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " قال : الأحرار .

    6358 - حدثني يونس قال أخبرنا علي بن سعيد عن هشيم عن داود بن أبي هند عن مجاهد مثله .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : فإن لم يكونا رجلين فليكن رجل وامرأتان على الشهادة . ورفع " الرجل والمرأتان " بالرد على " الكون " . وإن شئت قلت : فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان على ذلك . وإن شئت : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يشهدون عليه . وإن قلت : فإن لم يكونا رجلين فهو رجل وامرأتان ، كان صوابا . كل ذلك جائز .

    ولو كان " فرجلا وامرأتين " نصبا كان جائزا على تأويل " فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين " . [ ص: 62 ]

    وقوله : " ممن ترضون من الشهداء " يعني : من العدول المرتضى دينهم وصلاحهم ، كما : -

    6359 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " يقول : في الدين " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " وذلك في الدين " ممن ترضون من الشهداء " يقول : عدول .

    6360 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " أمر الله - عز وجل - أن يشهدوا ذوي عدل من رجالهم " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء " .
    القول في تأويل قوله ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) بفتح " الألف " من " أن " ونصب " تضل " و " تذكر " بمعنى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . وهو عندهم من المقدم الذي معناه التأخير . لأن " التذكير " عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان " تضل " . لأن المعنى ما وصفنا في قولهم . وقالوا : إنما نصبنا " تذكر " لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله فصار جوابه [ ص: 63 ] مردودا عليه ، كما تقول في الكلام : " إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى " بمعنى إنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل - أو : إذا سأل . فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة . ولكن قوله : " أن يسأل " لما تقدم اتصل بما قبله وهو قوله : " ليعجبني " ففتح " أن " ونصب بها ، ثم أتبع ذلك قوله : " يعطى " فنصبه بنصب قوله : " ليعجبني أن يسأل " نسقا عليه ، وإن كان في معنى الجزاء .

    وقرأ ذلك آخرون كذلك ، غير أنهم كانوا يقرءونه بتسكين " الذال " من ( تذكر ) وتخفيف كافها . وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك .

    وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه : فتصير إحداهما الأخرى ذكرا باجتماعهما ، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها ، جازت كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين ، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد ، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحد من الذكور ، فكأن كل واحدة منهما - في قول متأولي ذلك بهذا المعنى - صيرت صاحبتها معها ذكرا . وذهب إلى قول العرب : " لقد أذكرت بفلان أمه " أي ولدته ذكرا " فهي تذكر به " " وهي امرأة مذكر " إذا كانت تلد الذكور من الأولاد . وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينة أنه كان يقوله . [ ص: 64 ]

    6361 - حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس تأويل قوله : " فتذكر إحداهما الأخرى " من الذكر بعد النسيان ، إنما هو من الذكر ، بمعنى أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر .

    وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى " الذكر " بعد النسيان .

    وقرأ ذلك آخرون : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) " بكسر " إن " من قوله : " إن تضل " ورفع " تذكر " وتشديده ، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها ذكرتها الأخرى من تثبيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك وانقطاع ذلك عما قبله . ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية .

    وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذها عنه . وإنما نصب الأعمش " تضل " لأنها في محل جزم بحرف الجزاء ، وهو " إن " . وتأويل الكلام على [ ص: 65 ] قراءته " إن تضلل " فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى حركها إلى أخف الحركات ، ورفع " تذكر " بالفاء ؛ لأنه جواب الجزاء .

    قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك قراءة من قرأه بفتح " أن " من قوله : " أن تضل إحداهما " وبتشديد الكاف من قوله : " فتذكر إحداهما الأخرى " . ونصب الراء منه بمعنى : فإن لم يكونا رجلين ، فليشهد رجل وامرأتان ، كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى .

    وأما نصب " فتذكر " فبالعطف على " تضل " وفتحت " أن " بحلولها محل " كي " وهي في موضع جزاء ، والجواب بعده ، اكتفاء بفتحها أعني بفتح " أن " من " كي " ونسق الثاني - أعني : " فتذكر " - على " تضل " ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر ، قد دل عليه وأدى عن معناه وعمله - أي عن " كي " .

    وإنما اخترنا ذلك في القراءة ، لإجماع الحجة من قدماء القرأة والمتأخرين على ذلك ، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءته في ذلك بما انفرد به عنهم . ولا يجوز ترك قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بينهم إلى غيرها . وأما اختيارنا " فتذكر " بتشديد الكاف ، فإنه بمعنى ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى ، وتعريفها بأنها [ نسيت ] ذلك ، لتذكر . فالتشديد به أولى من التخفيف . [ ص: 66 ]

    وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه ، فتأويل خطأ لا معنى له ، لوجوه شتى :

    أحدها : أنه خلاف لقول جميع أهل التأويل .

    والثاني : أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها ، إنما هو ذهابها عنها ونسيانها إياها ، كضلال الرجل في دينه إذا تحير فيه فعدل عن الحق . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة ، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرا معها ، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها ؟ وللضالة منهما في شهادتها حينئذ لا شك أنها إلى التذكير أحوج منها إلى الإذكار ، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضعفت صاحبتها عن ذكر شهادتها شحذتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته ، فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك ، كما يقال للشيء القوي في عمله : " ذكر " وكما يقال للسيف الماضي في ضربه : " سيف ذكر " و " رجل ذكر " يراد به : ماض في عمله ، قوي البطش ، صحيح العزم .

    فإن كان ابن عيينة هذا أراد ، فهو مذهب من مذاهب تأويل ذلك ، [ ص: 67 ] إلا أنه إذا تئول ذلك كذلك ، صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه ، وإن خالفت القراءة بذلك المعنى القراءة التي اخترناها . ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله : " فتذكر " . ولا نعلم أحدا تأول ذلك كذلك ، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى . فالصواب في قراءته - إذ كان الأمر عاما على ما وصفنا - ما اخترنا .

    ذكر من تأول قوله : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " نحو تأويلنا الذي قلنا فيه :

    6362 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " علم الله أن ستكون حقوق ، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة ، فخذوا بثقة الله ، فإنه أطوع لربكم ، وأدرك لأموالكم . ولعمري لئن كان تقيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا ، وإن كان فاجرا فبالحري أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودا .

    6363 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " يقول : أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى .

    6364 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، [ ص: 68 ] عن السدي : " أن تضل إحداهما " يقول : تنسى إحداهما الشهادة ، فتذكرها الأخرى .

    6365 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " أن تضل إحداهما " يقول : إن تنس إحداهما تذكرها الأخرى .

    6366 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " قال : كلاهما لغة ، وهما سواء ، ونحن نقرأ : " فتذكر " .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الحال التي نهى الله الشهداء عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية .

    فقال بعضهم : معناه : لا يأب الشهداء أن يجيبوا ، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق .

    ذكر من قال ذلك :

    6367 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " كان الرجل يطوف في الحواء العظيم فيه القوم ، فيدعوهم إلى الشهادة ، فلا يتبعه أحد منهم . قال : وكان قتادة يتأول هذه الآية : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ليشهدوا لرجل على رجل .

    6368 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : كان الرجل يطوف في القوم [ ص: 69 ] الكثير يدعوهم ليشهدوا ، فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله - عز وجل - : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " .

    6369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلى شهادة .

    وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء ، إلا أنهم قالوا : يجب فرض ذلك على من دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره . فأما إذا وجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخير ، إن شاء أجاب ، وإن شاء لم يجب .

    ذكر من قال ذلك :

    6370 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان عن جابر عن الشعبي قال : " لا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - قال : إن شاء شهد ، وإن شاء لم يشهد ، فإذا لم يوجد غيره شهد .

    وقال آخرون : معنى ذلك : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - للشهادة على من أراد الداعي إشهاده عليه ، والقيام بما عنده من الشهادة - من الإجابة .

    ذكر من قال ذلك :

    6371 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا أبو عامر عن الحسن : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : قال الحسن : الإقامة والشهادة .

    6372 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر [ ص: 70 ] في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : كان الحسن يقول : جمعت أمرين : لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد ، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة .

    6373 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " يعني : من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده ، ولا يحل له أن يأبى إذا ما دعي .

    6374 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هشيم عن يونس عن الحسن : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : لإقامتها ، ولا يبدأ بها إذا دعاه ليشهده ، وإذا دعاه ليقيمها .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها .

    ذكر من قال ذلك :

    6375 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا شهد .

    6376 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك .

    6377 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " يقول : إذا كانوا قد أشهدوا .

    6378 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كانت عندك شهادة فدعيت .

    6379 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ليث عن [ ص: 71 ] مجاهد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كانت شهادة فأقمها ، فإذا دعيت لتشهد فإن شئت فاذهب ، وإن شئت فلا تذهب .

    6380 - حدثنا سوار بن عبد الله قال : حدثنا عبد الملك بن الصباح عن عمران بن حدير قال : قلت لأبي مجلز : ناس يدعونني لأشهد بينهم ، وأنا أكره أن أشهد بينهم ؟ قال : دع ما تكره ، فإذا شهدت فأجب إذا دعيت .

    6381 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن جابر عن عامر قال : الشاهد بالخيار ما لم يشهد .

    6382 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا هشيم عن يونس عن عكرمة في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " . قال : لإقامة الشهادة .

    6383 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هشيم عن أبي عامر عن عطاء قال : في إقامة الشهادة .

    6384 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا أبو عامر المزني قال سمعت عطاء يقول : ذلك في إقامة الشهادة يعني قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " .

    6385 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا أبو حرة ، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال : أدعى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها . قال : فلا تجب إن شئت .

    6386 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا هشيم عن مغيرة قال : سألت إبراهيم [ ص: 72 ] قلت : أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى ؟ قال : فلا تشهد إن شئت .

    6387 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا أبو عامر عن عطاء قال : للإقامة .

    6388 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كانوا قد شهدوا .

    6389 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال أخبرنا ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : هو الذي عنده الشهادة .

    6390 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " يقول : لا يأب الشاهد أن يتقدم فيشهد إذا كان فارغا .

    6391 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : هم الذين قد شهدوا . قال : ولا يضر إنسانا أن يأبى أن يشهد إن شاء . قلت لعطاء : ما شأنه ؟ إذا دعي أن يكتب وجب عليه أن لا يأبى ، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء ! قال : كذلك يجب على الكاتب أن يكتب ، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء ، الشهداء كثير .

    6392 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتي يؤدي شهادة ويقيمها .

    6393 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : [ ص: 73 ] " ولا يأب الشهداء " قال : كان الحسن يتأولها : إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها .

    6394 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : إذا كتب الرجل شهادته أو أشهد لرجل فشهد ، والكاتب الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مقطع الحق ، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهدوا عليه .

    وقال آخرون : هو أمر من الله - عز وجل - الرجل والمرأة بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق ابتداء ، لا لإقامة الشهادة ، ولكنه أمر ندب لا فرض .

    ذكر من قال ذلك :

    6395 - حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال : حدثنا أبو قتيبة عن فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال : أمرت أن تشهد ، فإن شئت فاشهد ، وإن شئت فلا تشهد .

    6396 - حدثني أبو العالية قال : حدثنا أبو قتيبة عن محمد بن ثابت العصري عن عطاء ، بمثله .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : " [ معنى ] [ ص: 74 ] ذلك : ولا يأب الشهداء من الإجابة إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي عليه ما عليه للذي هو له " .

    وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره ، لأن الله - عز وجل - قال : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم " الشهداء " . وغير جائز أن يلزمهم اسم " الشهداء " إلا وقد استشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم " الشهداء " . فأما قبل أن يستشهدوا على شيء ، فغير جائز أن يقال لهم " شهداء " . لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم ، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له " شاهد " بمعنى أنه سيشهد ، أو أنه يصلح لأن يشهد . وإذ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره ، أو من قد أقام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم كان معلوما أن المعني بقوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " من وصفنا صفته ممن قد استرعي شهادة ، أو شهد فدعي إلى القيام بها ؛ لأن الذي لم يستشهد ولم يسترع شهادة قبل الإشهاد غير مستحق اسم " شهيد " ولا " شاهد " لما قد وصفنا قبل .

    مع أن في دخول " الألف واللام " في " الشهداء " دلالة واضحة على أن المسمى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة ، أشخاص معلومون قد عرفوا بالشهادة ، [ ص: 75 ] وأنهم الذين أمر الله - عز وجل - أهل الحقوق باستشهادهم بقوله : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء " . وإذ كان ذلك كذلك ، كان معلوما أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعدما استشهدوا فشهدوا . ولو كان ذلك أمرا لمن أعرض من الناس فدعي إلى الشهادة يشهد عليها لقيل : ولا يأب شاهد إذا ما دعي .

    غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن الذي نقول به في الذي يدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلح للشهادة ، فإن الفرض عليه إجابة داعيه إليها ، كما فرض على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه ، ففرض عليه أن يكتب كما فرض على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام ، فحضره جاهل بالإيمان وبفرائض الله فسأله تعليمه وبيان ذلك له أن يعلمه ويبينه له . ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداء ليشهد على ما أشهد عليه بهذه الآية ، ولكن بأدلة سواها ، وهي ما ذكرنا . وإن فرضا على الرجل إحياء ما قدر على إحيائه من حق أخيه المسلم .

    " والشهداء " جمع " شهيد " .
    [ ص: 76 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ولا تسأموا ، أيها الذين تداينون الناس إلى أجل أن تكتبوا صغير الحق ، يعني قليله أو كبيره يعني أو كثيره إلى أجله إلى أجل الحق ، فإن الكتاب أحصى للأجل والمال .

    6397 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن شريك عن ليث عن مجاهد : " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " قال : هو الدين .

    ومعنى قوله : " ولا تسأموا " : لا تملوا . يقال منه : " سئمت فأنا أسأم سآمة وسأمة " ومنه قول لبيد :


    ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس : كيف لبيد ؟


    ومنه قول زهير :


    سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين عاما لا أبالك يسأم


    يعني مللت .

    وقال بعض نحويي البصريين : تأويل قوله : " إلى أجله " إلى أجل الشاهد . ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه . وقد بينا القول فيه .
    [ ص: 77 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ذلكم أقسط عند الله )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " ذلكم " اكتتاب كتاب الدين إلى أجله .

    ويعني بقوله : " أقسط " أعدل عند الله .

    يقال منه : " أقسط الحاكم فهو يقسط إقساطا ، وهو مقسط " إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه . فإذا جار قيل : " قسط فهو يقسط قسوطا " . ومنه قول الله - عز وجل - : ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) [ سورة الجن : 15 ] ، يعني الجائرون .

    وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6398 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " ذلكم أقسط عند الله " يقول : أعدل عند الله .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وأقوم للشهادة )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وأصوب للشهادة .

    وأصله من قول القائل : " أقمت من عوجه " إذا سويته فاستوى .

    وإنما كان الكتاب أعدل عند الله وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه ، [ ص: 78 ] لأنه يحوي الألفاظ التي أقر بها البائع والمشتري ورب الدين والمستدين على نفسه ، فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم ، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب ، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك ، كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام ، مع غير ذلك من الأسباب . وهو أعدل عند الله ، لأنه قد أمر به . واتباع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانحراف عنه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وأدنى ألا ترتابوا )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " وأدنى " وأقرب من " الدنو " وهو القرب .

    ويعني بقوله : " أن لا ترتابوا " أن لا تشكوا في الشهادة ، كما : -

    6399 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي " ذلك أدنى أن لا ترتابوا " يقول : أن لا تشكوا في الشهادة .

    وهو " تفتعل " من " الريبة " .

    ومعنى الكلام : ولا تملوا أيها القوم أن تكتبوا الحق الذي لكم قبل من داينتموه من الناس إلى أجل صغيرا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرا ، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله وأصوب لشهادة شهودكم عليه ، وأقرب لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #385
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(371)
    الحلقة (385)
    صــ 79 إلى صــ 97



    [ ص: 79 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها )

    قال أبو جعفر : ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم ما وجب لهم قبلهم من حق عن مبايعة بالنقود الحاضرة يدا بيد ، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك ؛ لأن كل واحد منهم - أعني من الباعة والمشترين - يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدا ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة ، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابا بما وجب لهم قبلهم ، وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم . فلذلك قال - تعالى ذكره - : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " يقول : فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرة .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6400 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " يقول : معكم بالبلد ترونها ، فتأخذ وتعطي ، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها . [ ص: 80 ]

    6401 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك . " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " إلى قوله : " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " قال : أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ، وأمر ما كان يدا بيد أن يشهد عليه ، صغيرا كان أو كبيرا ، ورخص لهم أن لا يكتبوه .

    واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة : ( إلا أن تكون تجارة حاضرة ) بالرفع .

    وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب . وذلك وإن كان جائزا في العربية ، إذ كانت العرب تنصب النكرات والمنعوتات مع " كان " وتضمر معها في " كان " مجهولا فتقول : " إن كان طعاما طيبا فأتنا به " وترفعها فتقول : " إن كان طعام طيب فأتنا به " فتتبع النكرة خبرها بمثل إعرابها فإن الذي أختار من القراءة ثم لا أستجيز القراءة بغيره الرفع في " التجارة الحاضرة " ؛ لإجماع القرأة على ذلك ، وشذوذ من قرأ ذلك نصبا عنهم ، ولا يعترض بالشاذ على الحجة . ومما جاء نصبا قول الشاعر :


    أعيني هلا تبكيان عفاقا إذا كان طعنا بينهم وعناقا
    [ ص: 81 ]

    وقول الآخر :


    ولله قومي أي قوم لحرة إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
    ! !

    وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات ، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءها . و " كان " من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب ، فإذا رفعوهما جميعهما ، تذكروا إتباع النكرة خبرها ، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة " كان " لمنصوب ومرفوع . ووجدوا النكرة يتبعها خبرها ، وأضمروا في " كان " مجهولا لاحتمالها الضمير .

    وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك : " إلا أن تكون تجارة حاضرة " إنما قرأه على معنى : إلا أن يكون تجارة حاضرة ، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أن يقرأ " يكون " بالياء ، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب ، وألزمه غير ما يلزمه . وذلك أن العرب إذا جعلوا مع " كان " نكرة مؤنثا بنعتها أو خبرها ، أنثوا " كان " مرة ، وذكروها أخرى ، فقالوا : " إن كانت جارية صغيرة فاشتروها ، وإن كان جارية صغيرة فاشتروها " تذكر " كان " - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رفعت - أحيانا ، وتؤنث أحيانا . [ ص: 82 ]

    وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : " إلا أن تكون تجارة حاضرة " مرفوعة فيه " التجارة الحاضرة " لأن " تكون " بمعنى التمام ، ولا حاجة بها إلى الخبر ، بمعنى : إلا أن توجد أو تقع أو تحدث . فألزم نفسه ما لم يكن لها لازما ، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك ، إذ لم يكن يجدك ل " كان " منصوبا ، ووجد " التجارة الحاضرة " مرفوعة ، وأغفل جواز قوله : " تديرونها بينكم " أن يكون خبرا ل " كان " فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم .

    والذي قال من حكينا قوله من البصريين غير خطأ في العربية ، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه وفي المعنى أصح : وهو أن يكون في قوله : " تديرونها بينكم " وجهان : أحدهما أنه في موضع نصب ، على أنه حل محل خبر " كان " و " التجارة الحاضرة " اسمها . والآخر : أنه في موضع رفع على إتباع " التجارة الحاضرة " لأن خبر النكرة يتبعها . فيكون تأويله : إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وأشهدوا إذا تبايعتم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم ، عاجل ذلك وآجله ، ونقده ونسائه ، فإن إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدا بيد ونقدا ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على من بعتموه شيئا أو ابتعتم منه . لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوف المضرة على كل من الفريقين . أما على المشتري فأن يجحد البائع [ ص: 83 ] البيع ، وله بينة على ملكه ما قد باع ، ولا بينة للمشتري منه على الشراء منه ، فيكون القول حينئذ قول البائع مع يمينه ويقضى له به ، فيذهب مال المشتري باطلا وأما على البائع فأن يجحد المشتري الشراء ، وقد زال ملك البائع عما باع ووجب له قبل المبتاع ثمن ما باع ، فيحلف على ذلك ، فيبطل حق البائع قبل المشتري من ثمن ما باعه . فأمر الله - عز وجل - الفريقين بالإشهاد ، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر .

    ثم اختلفوا في معنى قوله : " وأشهدوا إذا تبايعتم " أهو أمر من الله واجب بالإشهاد عند المبايعة ، أم هو ندب ؟

    فقال بعضهم : " هو ندب ، إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد " .

    ذكر من قال ذلك :

    6402 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن الربيع عن الحسن وشقيق عن رجل عن الشعبي في قوله : " وأشهدوا إذا تبايعتم " قال : إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد ، ألم تسمع إلى قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " ؟

    6403 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا الربيع بن صبيح قال : قلت للحسن : أرأيت قول الله - عز وجل - : " وأشهدوا إذا تبايعتم " ؟ قال : إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد عليه فلا بأس .

    6404 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن الربيع بن صبيح قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ، قول الله - عز وجل - : " وأشهدوا إذا تبايعتم " أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة ، أترى [ ص: 84 ] بأسا أن لا أشهد عليه ؟ قال : إن أشهدت فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد فلا بأس .

    6405 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا يزيد بن زريع عن داود عن الشعبي : " وأشهدوا إذا تبايعتم " قال : إن شاءوا أشهدوا ، وإن شاءوا لم يشهدوا .

    وقال آخرون : " الإشهاد على ذلك واجب " .

    ذكر من قال ذلك :

    6406 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم . أمر الله ما كان يدا بيد أن يشهدوا عليه ، صغيرا كان أو كبيرا .

    6407 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد . وما كان من بيع إلى أجل فأمر الله أن يكتب ويشهد عليه . وذلك في المقام .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن الإشهاد على كل مبيع ومشتر حق واجب وفرض لازم ، لما قد بينا : من أن كل أمر لله ففرض [ ص: 85 ] إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد .

    وقد دللنا على وهي قول من قال : ذلك منسوخ بقوله : " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " فيما مضى فأغنى عن إعادته .
    القول في تأويل قوله تعالى ( و لا يضار كاتب ولا شهيد )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : ذلك نهي من الله الكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله ، فيكتب هذا ما لم يملله المملي ، ويشهد هذا بما لم يستشهده المستشهد .

    ذكر من قال ذلك :

    6408 - حدثني الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله : " " ولا يضار كاتب ولا شهيد " " ولا يضار كاتب " فيكتب ما لم يمل عليه " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

    6409 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن يونس قال : كان الحسن يقول : " لا يضار كاتب " فيزيد شيئا أو يحرف " ولا شهيد " قال : لا يكتم الشهادة ، ولا يشهد إلا بحق . [ ص: 86 ]

    6410 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : اتقى الله شاهد في شهادته ، لا ينقص منها حقا ولا يزيد فيها باطلا . اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه حقا ولا يزيدن فيه باطلا .

    6411 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب ما لم يملل " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

    6411 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب ما لم يملل " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

    6412 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن قتادة نحوه .

    6413 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب غير الذي أملي عليه . قال : والكتاب يومئذ قليل ، ولا يدرون أي شيء يكتب ، فيضار فيكتب غير الذي أملي عليه ، فيبطل حقهم . قال : والشهيد يضار فيحول شهادته ، فيبطل حقهم .

    قال أبو جعفر : فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء : ولا يضارر كاتب ولا شهيد ، ثم أدغمت " الراء " في " الراء " لأنهما من جنس ، وحركت إلى الفتح وموضعها جزم ، لأن الفتح أخف الحركات .

    وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل : معنى ذلك : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة . [ ص: 87 ]

    ذكر من قال ذلك :

    6414 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج عن عطاء في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : أن يؤديا ما قبلهما .

    6415 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء . " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ؟ قال : " لا يضار " أن يؤديا ما عندهما من العلم .

    6416 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال أخبرنا ابن المبارك عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال : " لا يضار " كاتب ولا شهيد " قال : أن يدعوهما ، فيقولان : إن لنا حاجة .

    6417 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء ومجاهد : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قالا واجب على الكاتب أن يكتب " ولا شهيد " قالا إذا كان قد شهد اقبله .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يضار المستكتب والمستشهد الكاتب والشهيد " . وتأويل الكلمة على مذهبهم : ولا يضارر ، على وجه ما لم يسم فاعله .

    ذكر من قال ذلك :

    6418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة قال كان عمر يقرأ : " ولا يضارر كاتب ولا شهيد " . [ ص: 88 ]

    6419 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك قال : كان ابن مسعود يقرأ : ( ولا يضارر ) .

    6420 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد أنه كان يقرأ : " ولا يضارر كاتب ولا شهيد " وأنه كان يقول في تأويلها : ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبه وشاهده إلى أن يشهد ، ولعله أن يكون في شغل أو حاجة ، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته وقال مجاهد : لا يقم عن شغله وحاجته ، فيجد في نفسه أو يحرج .

    6421 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني : إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت ! فيضاره بذلك ، وهو مكتف بغيره . فنهاه الله - عز وجل - عن ذلك وقال : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " .

    6422 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بد; فيقول : خلوا سبيله .

    6423 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن يونس عن عكرمة في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول : فلا يضاره .

    6424 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : لا يأت الرجل فيقول : انطلق فاكتب لي ، واشهد لي ، فيقول : إن لي حاجة فالتمس غيري ! فيقول : اتق الله ، فإنك قد أمرت أن تكتب لي ! فهذه المضارة ، ويقول : دعه والتمس غيره ، والشاهد بتلك المنزلة . [ ص: 89 ]

    6425 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد ، فيقول الكاتب أو الشاهد : إن لنا حاجة ! فيقول الذي يدعوهما : إن الله - عز وجل - أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ! يقول الله - عز وجل - لا يضارهما .

    6426 - حدثت عن الحسن قال سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما على حاجة مهمة ، فيقولان : إنا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا ! فيقول : والله لقد أمركما أن تجيبا ! فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما ، يعني : لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما .

    6427 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له : اكتب لي ! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته ولا شاهدا من شهودك وهو مشغول ، فتقول : اذهب فاشهد لي ! تحبسه عن حاجته ، وأنت تجد غيره .

    6428 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : لما نزلت هذه الآية : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي ! فيقول : إني مشغول أو : لي حاجة ، فانطلق إلى غيري ! فيلزمه ويقول : إنك [ ص: 90 ] قد أمرت أن تكتب لي ! فلا يدعه ويضاره بذلك وهو يجد غيره . ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي فاشهد لي ! فيقول : انطلق إلى غيري فإني مشغول أو لي حاجة ! فيلزمه ويقول : قد أمرت أن تتبعني . فيضاره بذلك ، وهو يجد غيره ، فأنزل الله - عز وجل - : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " .

    6429 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : إن لي حاجة فدعني ! فيقول : اكتب لي " ولا شهيد " كذلك .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " بمعنى : ولا يضارهما من استكتب هذا أو استشهد هذا ، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه ، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل .

    وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب من غيره ، لأن الخطاب من الله - عز وجل - في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه : " افعلوا أو : لا تفعلوا " إنما هو خطاب لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون . فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم ، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب ، كقوله : " وليكتب بينكم كاتب " وكقوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " وما أشبه ذلك . فالوجه إذ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " [ بأن يكون [ ص: 91 ] الأمر مردودا على المستكتب والمستشهد ] ، أشبه منه بأن يكون مردودا على الكاتب والشهيد . ومع ذلك فإن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل : وإن يفعلا فإنه فسوق بهما ، لأنهما اثنان ، وأنهما غير مخاطبين بقوله : " ولا يضار " بل النهي بقوله : " ولا يضار " نهي للغائب غير المخاطب . فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية ، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وإن تضاروا الكاتب أو الشاهد وما نهيتم عنه من ذلك " فإنه فسوق بكم " يعني : إثم بكم ومعصية .

    واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم بنحو الذي قلنا .

    ذكر من قال ذلك :

    6430 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " يقول : إن تفعلوا غير الذي آمركم به فإنه فسوق بكم . [ ص: 92 ]

    6431 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " والفسوق المعصية .

    6432 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " الفسوق العصيان .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وإن يضار كاتب فيكتب غير الذي أملى المملي ، ويضار شهيد فيحول شهادته ويغيرها " فإنه فسوق بكم " يعني : فإنه كذب .

    ذكر من قال ذلك :

    6433 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " الفسوق الكذب . قال : هذا فسوق ، لأنه كذب الكاتب فحول كتابه فكذب ، وكذب الشاهد فحول شهادته ، فأخبرهم الله أنه كذب .

    قال أبو جعفر : وقد دللنا فيما مضى على أن المعني بقوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " إنما معناه : لا يضارهما المستكتب والمستشهد بما فيه الكفاية .

    فقوله : " وإن تفعلوا " إنما هو إخبار من يضارهما بحكمه فيهما ، وأن من يضارهما فقد عصى ربه وأثم به ، وركب ما لا يحل له ، وخرج عن طاعة ربه في ذلك .
    [ ص: 93 ] القول في تأويل قوله تعالى ( واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ( 282 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " واتقوا الله " وخافوا الله أيها المتداينون في الكتاب والشهود أن تضاروهم ، وفي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه . ويعني بقوله : " ويعلمكم الله ، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم ، فاعملوا به " والله بكل شيء عليم " يعني : [ بكل شيء ] من أعمالكم وغيرها ، يحصيها عليكم ، ليجازيكم بها .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6434 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك قوله : " ويعلمكم الله " قال : هذا تعليم علمكموه فخذوا به .
    [ ص: 94 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته القرأة في الأمصار جميعا ( كاتبا ) ، بمعنى : ولم تجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى " فرهان مقبوضة " .

    وقرأ جماعة من المتقدمين : ( ولم تجدوا كاتبا ) ، بمعنى : ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيل ، إما بتعذر الدواة والصحيفة ، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة .

    والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار : " ولم تجدوا كاتبا " بمعنى : من يكتب ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين .

    [ قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - ] : وإن كنتم ، أيها المتداينون في سفر بحيث لا تجدون كاتبا يكتب لكم ، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيل ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ، ليكون ثقة لكم بأموالكم .

    ذكر من قال ما قلنا في ذلك :

    6435 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " فمن كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم يجد كاتبا ، فرخص له [ ص: 95 ] في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن .

    6436 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا " يقول : كاتبا يكتب لكم " فرهان مقبوضة " .

    6437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : ما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله - عز وجل - أن يكتب ويشهد عليه ، وذلك في المقام . فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [ كاتبا ] ، فرهان مقبوضة .

    ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها :

    6438 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس : " فإن لم تجدوا كتابا " يعني بالكتاب الكاتب والصحيفة والدواة والقلم .

    6439 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني أبي ، عن ابن عباس أنه قرأ : " فإن لم تجدوا كتابا " قال : ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبا .

    6440 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد ، كان يقرؤها : " فإن لم تجدوا كتابا " ويقول : ربما وجد الكاتب ولم توجد الصحيفة أو المداد ، ونحو هذا من القول .

    6441 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا " يقول : مدادا ، - يقرؤها كذلك - يقول : فإن لم تجدوا مدادا ، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة " فرهن مقبوضة " قال : لا يكون الرهن إلا في السفر . [ ص: 96 ]

    6442 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد بن زيد عن شعيب بن الحبحاب قال : إن أبا العالية كان يقرؤها " فإن لم تجدوا كتابا " قال أبو العالية : توجد الدواة ولا توجد الصحيفة .

    قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : " فرهان مقبوضة " .

    فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : ( فرهان مقبوضة ) ، بمعنى جماع " رهن " كما " الكباش " جماع " كبش " و " البغال " جماع " بغل " و " النعال " جماع " نعل " .

    وقرأ ذلك جماعة آخرون : ( فرهن مقبوضة ) على معنى جمع " رهان " " ورهن " جمع الجمع ، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع " رهن " : ، مثل " سقف وسقف " .

    وقرأه آخرون : ( فرهن ) مخففة الهاء على معنى جماع " رهن " كما تجمع " السقف سقفا " . قالوا : ولا نعلم اسما على " فعل " يجمع على " فعل وفعل " إلا " الرهن والرهن " . و " السقف والسقف " .

    قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه : " فرهان مقبوضة " . لأن ذلك الجمع المعروف لما كان من اسم على " فعل " كما يقال : " حبل وحبال " و " كعب وكعاب " ونحو ذلك من الأسماء . فأما جمع " الفعل " على " الفعل أو الفعل " فشاذ قليل ، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل : " سقف وسقف وسقف " " وقلب وقلب وقلب " من : " قلب النخل " . " وجد وجد " للجد الذي هو بمعنى الحظ . وأما ما جاء من جمع " فعل " على " فعل " [ ص: 97 ] ف " ثط ، وثط " و " ورد وورد " و " خود وخود " .

    وإنما دعا الذي قرأ ذلك : " فرهن مقبوضة " إلى قراءته فيما أظن كذلك ، مع شذوذه في جمع " فعل " أنه وجد " الرهان " مستعملة في رهان الخيل ، فأحب صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل ، الذي هو بغير معنى " الرهان " الذي هو جمع " رهن " ووجد " الرهن " مقولا في جمع " رهن " كما قال قعنب :

    بانت سعاد وأمسى دونها عدن وغلقت عندها من قلبك الرهن
    القول في تأويل قوله تعالى ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : فإن كان المدين أمينا عند رب المال والدين فلم يرتهن منه في سفره رهنا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته " فليتق الله " المدين " ربه " يقول : فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده ، أو يلط دونه ، أو يحاول الذهاب به ، فيتعرض من عقوبة الله لما لا قبل له ، به وليؤد دينه الذي ائتمنه عليه إليه .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #386
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(372)
    الحلقة (386)
    صــ 98 إلى صــ 115



    وقد ذكرنا قول من قال : " هذا الحكم من الله - عز وجل - ناسخ الأحكام التي [ ص: 98 ] في الآية قبلها : من أمر الله - عز وجل - بالشهود والكتاب " . وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وقد : -

    6443 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " إنما يعني بذلك : في السفر ، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبا ، فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا .

    قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله الضحاك من أنه ليس لرب الدين ائتمان المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر ، فكما قال لما قد دللنا على صحته فيما مضى قبل .

    وأما ما قاله من أن الأمر في الرهن أيضا كذلك ، مثل الائتمان : في أنه ليس لرب الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر فإنه قول لا معنى له ، لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : -

    6444 - أنه اشترى طعاما نساء ، ورهن به درعا له .

    فجائز للرجل أن يرهن بما عليه ، ويرتهن بماله من حق في السفر والحضر - لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن معلوما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن - حين رهن من ذكرنا - غير واجد كاتبا ولا شهيدا ، لأنه لم يكن متعذرا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتب والشاهد ، غير أنهما إذا تبايعا برهن ، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد ، أو كان البيع [ ص: 99 ] أو الدين إلى أجل مسمى أن يكتبا ذلك ويشهدا على المال والرهن . وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك ، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيل .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ( 283 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا خطاب من الله - عز وجل - للشهود الذين أمر المستدين ورب المال بإشهادهم ، فقال لهم : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " - ولا تكتموا أيها الشهود بعدما شهدتم شهادتكم عند الحكام ، كما شهدتم على ما شهدتم عليه ، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذ له بحقه .

    ثم أخبر الشاهد - جل ثناؤه - ما عليه في كتمان شهادته ، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان ، فقال : " ومن يكتمها " . يعني : ومن يكتم شهادته " فإنه آثم قلبه " يقول : فاجر قلبه ، مكتسب بكتمانه إياها معصية الله ، كما : -

    6445 - حدثني المثنى قال أخبرنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " فلا يحل لأحد أن يكتم شهادة هي عنده ، وإن كانت على نفسه والوالدين ، ومن يكتمها فقد ركب إثما عظيما .

    6446 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي [ ص: 100 ] قوله : " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " يقول : فاجر قلبه .

    6447 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لأن الله يقول : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [ سورة المائدة : 72 ] ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، لأن الله - عز وجل - يقول : " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " .

    وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : " على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ، ويخبر بها حيث استخبر " .

    6448 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن محمد بن مسلم قال أخبرنا عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها ، ولا تقل : " أخبر بها عند الأمير " أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي .

    وأما قوله : " والله بما تعملون عليم " فإنه يعني : " بما تعملون " في شهادتكم من إقامتها والقيام بها ، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها ، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها " عليم " يحصيه عليكم ، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم ، إما خيرا وإما شرا على قدر استحقاقكم .
    [ ص: 101 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " لله ما في السماوات وما في الأرض " لله ملك كل ما في السماوات وما في الأرض من صغير وكبير ، وإليه تدبير جميعه ، وبيده صرفه وتقليبه ، لا يخفى عليه منه شيء ، لأنه مدبره ومالكه ومصرفه .

    وإنما عنى بذلك - جل ثناؤه - كتمان الشهود الشهادة ، يقول : لا تكتموا الشهادة أيها الشهود ، ومن يكتمها يفجر قلبه ، ولن يخفى علي كتمانه ذلك ، لأني بكل شيء عليم ، وبيدي صرف كل شيء في السماوات والأرض وملكه ، أعلم خفي ذلك وجليه ، فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة وعيدا من الله بذلك من كتمها ، وتخويفا منه له به . ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرائهم ممن انطوى كشحا على معصية فأضمرها ، أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه - من المحاسبة عليها فقال : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " يقول : وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حق رب المال الجحود والإنكار ، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم ، وغير ذلك من سيئ أعمالكم " يحاسبكم به الله " يعني [ ص: 102 ] بذلك : يحتسب به عليكم من أعمالكم ، فمجاز من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله ، وغافر لمن شاء منكم من المسيئين .

    ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .

    فقال بعضهم بما قلنا : من أنه عنى به الشهود في كتمانهم الشهادة ، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها .

    ذكر من قال ذلك :

    6449 - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال : حدثنا ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " يقول : يعني في الشهادة .

    6450 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : في الشهادة .

    6451 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : سئل داود عن قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فحدثنا عن [ ص: 103 ] عكرمة قال : هي الشهادة إذا كتمتها .

    6452 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن عمرو وأبي سعيد : أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : في الشهادة .

    6453 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن السدي عن الشعبي في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : في الشهادة .

    6454 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها .

    6455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن عكرمة في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " يعني كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها .

    وقال آخرون : " بل نزلت هذه الآية إعلاما من الله تبارك وتعالى عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه " .

    ثم اختلف متأولو ذلك كذلك .

    فقال بعضهم : " ثم نسخ الله ذلك بقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) [ سورة البقرة : 286 ] "

    ذكر من قال ذلك :

    6456 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا إسحاق بن سليمان عن مصعب بن [ ص: 104 ] ثابت عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : لما نزلت : " لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " اشتد ذلك على القوم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لمؤاخذون بما نحدث به أنفسنا ! هلكنا ! فأنزل الله - عز وجل - : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) الآية إلى قوله : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ، قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله : نعم ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) إلى آخر الآية قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله - عز وجل - : نعم .

    6457 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع وحدثنا سفيان بن وكيع [ ص: 105 ] قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سمعنا وأطعنا وسلمنا . قال : فألقى الله - عز وجل - الإيمان في قلوبهم ، قال : فأنزل الله - عز وجل - : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ) قال أبو كريب : فقرأ : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال فقال : قد فعلت ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال : قد فعلت ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال : قال : قد فعلت ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) قال : قد فعلت . [ ص: 106 ]

    6458 - حدثني أبو الرداد المصري عبد الله بن عبد السلام قال : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد عن حيوة بن شريح قال سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول : قال ابن شهاب حدثني سعيد ابن مرجانة قال : جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " . ثم قال ابن عمر : لئن آخذنا بهذه الآية ، لنهلكن ! ثم بكى ابن عمر حتى سالت دموعه . قال ثم جئت عبد الله بن العباس فقلت : يا أبا عباس ، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، ثم قال : لئن واخذنا بهذه الآية لنهلكن ! ثم بكى حتى سالت دموعه ! فقال ابن عباس : يغفر الله لعبد الله بن عمر ! لقد فرق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها كما فرق ابن عمر منها ، فأنزل الله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، فنسخ الله الوسوسة ، وأثبت القول والفعل .

    6459 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن مرجانة يحدث : أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية " لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، فقال : والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن ! ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه ، فقال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس [ ص: 107 ] فذكرت له ما تلا ابن عمر ، وما فعل حين تلاها ، فقال عبد الله بن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ! لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر ، فأنزل الله بعدها ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) إلى آخر السورة . قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله - عز وجل - أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل .

    6460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر قال سمعت الزهري يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : قرأها ابن عمر فبكى وقال : إنا لمؤاخذون بما نحدث به أنفسنا ! فبكى حتى سمع نشيجه ، فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له ، فقال : رحم الله ابن عمر ! لقد وجد المسلمون نحوا مما وجد ، حتى نزلت : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

    6461 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال : كنت عند ابن عمر فقال : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية ، فبكى . فدخلت على ابن عباس فذكرت له ذلك ، فضحك ابن عباس فقال : يرحم الله ابن عمر ! [ ص: 108 ] أوما يدري فيم أنزلت ؟ إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غما شديدا وقالوا : يا رسول الله ، هلكنا ! فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قولوا : " سمعنا وأطعنا " فنسختها : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) إلى قوله : ( وعليها ما اكتسبت ) فتجوز لهم من حديث النفس ، وأخذوا بالأعمال .

    6462 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم : أن أباه قرأ : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فدمعت عينه ، فبلغ صنيعه ابن عباس ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ! لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت ، فنسختها الآية التي بعدها : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) . [ ص: 109 ]

    6463 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال : نسخت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " - ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .

    6464 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قالوا : أنؤاخذ بما حدثنا به أنفسنا ، ولم تعمل به جوارحنا ؟ قال : فنزلت هذه الآية : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ، قال : ويقول : قد فعلت . قال : فأعطيت هذه الأمة خواتيم " سورة البقرة " لم تعطها الأمم قبلها . [ ص: 110 ]

    6465 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح قال : حدثنا إسماعيل عن عامر : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " قال : فنسختها الآية بعدها ، قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

    6466 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : نسختها الآية التي بعدها : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وقوله : " وإن تبدوا " قال : يحاسب بما أبدى من سر أو أخفى من سر ، فنسختها التي بعدها .

    6467 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا سيار عن الشعبي قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " قال : فكان فيها شدة ، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، قال : فنسخت ما كان قبلها .

    6468 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن ابن عون قال : ذكروا عند الشعبي : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " حتى بلغ ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، قال : فقال الشعبي : إلى هذا صار ، رجعت إلى آخر الآية .

    6469 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال : قال ابن مسعود : كانت المحاسبة قبل أن تنزل : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها .

    6470 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد [ ص: 111 ] قال سمعت الضحاك يذكر ، عن ابن مسعود نحوه .

    6471 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن بيان ، عن الشعبي قال : نسخت " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

    6472 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وسفيان عن جابر عن مجاهد وعن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد قالوا : نسخت هذه الآية ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " الآية .

    6473 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة وعامر بمثله .

    6474 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد عن حميد عن الحسن في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " إلى آخر الآية ، قال : محتها : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

    6475 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : أنه قال : نسخت هذه الآية يعني قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) الآية التي كانت قبلها : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .

    6476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : نسختها قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .

    6477 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال حدثني ابن زيد قال : لما نزلت هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " إلى آخر [ ص: 112 ] الآية ، اشتدت على المسلمين ، وشقت مشقة شديدة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو وقع في أنفسنا شيء لم نعمل به وأخذنا الله به ؟ قال : " فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : " سمعنا وعصينا " ! قالوا : بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله ! قال : فنزل القرآن يفرجها عنهم : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " إلى قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، قال : فصيره إلى الأعمال ، وترك ما يقع في القلوب .

    6478 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا هشيم عن سيار عن أبي الحكم عن الشعبي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : نسخت هذه الآية التي بعدها : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

    6479 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وسوست به أنفسهم وما عملوا ، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن عمل أحدنا وإن لم يعمل أخذنا به ؟ والله ما نملك الوسوسة ! ! فنسخها الله بهذه الآية التي بعد بقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) الآية ، فكان حديث النفس مما لم تطيقوا .

    6480 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : نسختها قوله : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) . [ ص: 113 ]

    وقال آخرون ممن قال معنى ذلك : " الإعلام من الله - عز وجل - عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم ، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه " " هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والله - عز وجل - محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أسروه في أنفسهم ونووه وأرادوه ، فيغفره للمؤمنين ، ويؤاخذ به أهل الكفر والنفاق " .

    ذكر من قال ذلك :

    6481 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فإنها لم تنسخ ، ولكن الله - عز وجل - إذا جمع الخلائق يوم القيامة ، يقول الله - عز وجل - : " إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي " فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله : " يحاسبكم به الله " يقول : يخبركم . وأما أهل الشك والريب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) [ سورة البقرة : 225 ] ، من الشك والنفاق .

    6482 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فذلك سر عملكم وعلانيته ، يحاسبكم به الله ، فليس من عبد [ ص: 114 ] مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل به ، فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات ، وإن هو لم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن ، والله يرضى سر المؤمنين وعلانيتهم . وإن كان سوءا حدث به نفسه ، اطلع الله عليه وأخبره به يوم تبلى السرائر ، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به ، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه ، كما قال : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم ) [ سورة الأحقاف : 16 ] .

    6483 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) ، الآية ، قال : قال ابن عباس : إن الله يقول يوم القيامة : " إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت " .

    6484 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا علي بن عاصم قال أخبرنا بيان عن بشر عن قيس بن أبي حازم قال : إذا كان يوم القيامة قال الله - عز وجل - يسمع الخلائق : " إنما كان كتابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم ، فأما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه ولا يعلمونه ، أنا الله أعلم بذلك كله منكم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذب من شئت " .

    6485 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " كان ابن عباس يقول : إذا دعي الناس للحساب أخبرهم الله بما كانوا يسرون في أنفسهم مما لم يعملوه فيقول : " إنه كان لا يعزب عني شيء ، وإني مخبركم بما كنتم تسرون من السوء ، ولم تكن حفظتكم عليكم مطلعين عليه " . فهذه المحاسبة . [ ص: 115 ]

    6486 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة عن عبيد بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس نحوه .

    6487 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : هي محكمة ، لم ينسخها شيء يقول : " يحاسبكم به الله " يقول : يعرفه الله يوم القيامة : " إنك أخفيت في صدرك كذا وكذا " ! لا يؤاخذه .

    6488 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال : هي محكمة لم تنسخ .

    6489 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : من الشك واليقين .

    6490 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " يقول : في الشك واليقين .

    6491 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #387
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(373)
    الحلقة (387)
    صــ 116 إلى صــ 132





    قال أبو جعفر : فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة : وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم ، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم ، فلم يطلع عليه أحد من خلقي ، أحاسبكم به ، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان ، وأعذب أهل الشرك والنفاق في ديني . [ ص: 116 ]

    وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه ، وعلى ما قاله الربيع بن أنس ، فإن تأويلها : إن تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي ، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه ، يعلمكم به الله يوم القيامة ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .

    وأما قول مجاهد ، فشبيه معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة .

    وقال آخرون ممن قال : " هذه الآية محكمة ، وهي غير منسوخة " ووافقوا الذين قالوا : " معنى ذلك : أن الله - عز وجل - أعلم عباده ما هو فاعل بهم فيما أبدوا وأخفوا من أعمالهم " معناها : إن الله محاسب جميع خلقه بجميع ما أبدوا من سيئ أعمالهم ، وجميع ما أسروه ، ومعاقبهم عليه . غير أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه ، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون منها .

    ذكر من قال ذلك :

    6492 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " الآية ، قال : كانت عائشة رضي الله عنها تقول : من هم بسيئة فلم يعملها ، أرسل الله عليه من الهم والحزن مثل الذي هم به من السيئة فلم يعملها ، فكانت كفارته .

    6493 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال [ ص: 117 ] سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : كانت عائشة تقول : كل عبد يهم بمعصية ، أو يحدث بها نفسه ، حاسبه الله بها في الدنيا ، يخاف ويحزن ويهتم .

    6494 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني أبو تميلة عن عبيد عن الضحاك قال : قالت عائشة في ذلك : كل عبد هم بسوء ومعصية ، وحدث نفسه به ، حاسبه الله في الدنيا ، يخاف ويحزن ويشتد همه ، لا يناله من ذلك شيء ، كما هم بالسوء ولم يعمل منه شيئا .

    6495 - حدثنا الربيع قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " و ( من يعمل سوءا يجز به ) [ سورة النساء : 123 ] فقالت : ما سألني عنها أحد مذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا عائشة ، هذه متابعة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة ، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها فيجدها في ضبنه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير . [ ص: 118 ]

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال : " إنها محكمة ، وليست بمنسوخة " . وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر ، هو له ناف من كل وجوهه . وليس في قوله جل وعز : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " نفي الحكم الذي أعلم عباده بقوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " . لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبة ، ولا مؤاخذة بما حوسب عليه العبد من ذنوبه .

    وقد أخبر الله - عز وجل - عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون : ( يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) [ ص: 119 ] [ سورة الكهف : 49 ] . فأخبر أن كتبهم محصية عليهم صغائر أعمالهم وكبائرها ، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائر الذنوب وكبائرها - بموجب إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأهل الطاعة له ، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين ؛ لأن الله - عز وجل - وعدهم العفو عن الصغائر باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) [ سورة النساء : 31 ] . فذلك محاسبة الله عباده المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم ، غير موجب لهم منه عقوبة ، بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها ، ليعرفهم تفضله عليهم بعفوه لهم عنها ، كما بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخبر الذي : -

    6496 - حدثني به أحمد بن المقدام قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أبي ، عن قتادة عن صفوان بن محرز عن ابن عمر عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يدني الله عبده المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بسيئاته يقول : هل تعرف ؟ فيقول : نعم ! فيقول : سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم ! ثم يظهر له حسناته فيقول : ( هاؤم اقرءوا كتابيه ) [ سورة الحاقة : 19 ] أو كما قال وأما الكافر فإنه ينادي به على رءوس الأشهاد .

    6497 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد ، وهشام وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال أخبرنا هشام قالا جميعا في حديثهما عن [ ص: 120 ] قتادة عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : " هل تعرف كذا " ؟ فيقول : " رب اغفر " - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : " فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " . قال : فيعطى صحيفة حسناته - أو : كتابه - بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رءوس الأشهاد : ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) . [ سورة هود : 18 ] . [ ص: 121 ]

    أن الله يفعل بعبده المؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله ، حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها . فكذلك فعله - تعالى ذكره - في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما أخفاه من ذلك ، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه ، فيستره عليه . وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال : " فيغفر لمن يشاء " .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن قوله : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب ، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير ؟

    قيل : إن ذلك كذلك ، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله ، أو ترك ما أمر بفعله .

    فإن قال : فإذ كان ذلك كذلك ، فما معنى وعيد الله - عز وجل - إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله : " ويعذب من يشاء " إن كان لها ما كسبت وعليها [ ص: 122 ] ما اكتسبت ، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا - : من هم بذنب ، أو إرادة لمعصية - لم تكتسبه جوارحنا ؟

    قيل له : إن الله - جل ثناؤه - قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله ، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها ، وإنما الوعيد من الله - عز وجل - بقوله : " ويعذب من يشاء " على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله ، والمرية في وحدانيته ، أو في نبوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من عند الله ، أو في المعاد والبعث - من المنافقين ، على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد ، ومن قال بمثل قولهما إن تأويل قوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " على الشك واليقين .

    غير أنا نقول إن المتوعد بقوله : " ويعذب من يشاء " هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله ، وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا والموعود الغفران بقوله : " فيغفر لمن يشاء " هو الذي إخفاء ما يخفيه الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداء تحليله وإباحته ، فحرمه على خلقه - جل ثناؤه - أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله ، مما كان جائزا ابتداء إباحة تركه ، فأوجب فعله على خلقه . فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به ، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك [ ص: 123 ] بالتقدم عليه - لم يكن مأخوذا به ، كما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

    6498 - " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه " .

    فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ، ثم لا يعاقبهم عليه . فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه ، فذلك هو الهالك المخلد في النار الذي أوعده - جل ثناؤه - العذاب الأليم بقوله : " ويعذب من يشاء " .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : " وإن تبدوا ما في أنفسكم " أيها الناس ، فتظهروه " أو تخفوه " فتنطوي عليه نفوسكم " يحاسبكم به الله " فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له ، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( والله على كل شيء قدير ( 284 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : والله - عز وجل - على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة ، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله - عز وجل - ونبوة أنبيائه ، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه ، وعلى غير ذلك من الأمور قادر .
    [ ص: 124 ] القول في تأويل قوله تعالى ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : صدق الرسول يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقر " بما أنزل إليه " يعني : بما أوحي إليه من ربه من الكتاب ، وما فيه من حلال وحرام ، ووعد وعيد ، وأمر ونهي ، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها .

    وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية عليه قال : يحق له .

    6499 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قال : ويحق له أن يؤمن .

    وقد قيل : إنها نزلت بعد قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير " لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لعلكم تقولون : " سمعنا وعصينا " كما قالت بنو إسرائيل ! فقالوا : [ ص: 125 ] بل نقول : " سمعنا وأطعنا " ! فأنزل الله لذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول أصحابه : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " يقول : وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله ، الآيتين . وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل .

    قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكتبه " .

    فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق ( وكتبه ) على وجه جمع " الكتاب " على معنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله .

    وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( وكتابه ) ، بمعنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .

    وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : " وكتابه " ويقول : الكتاب أكثر من الكتب . وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [ سورة العصر : 1 - 2 ] ، بمعنى جنس " الناس " وجنس " الكتاب " كما يقال : " ما أكثر درهم فلان وديناره " ويراد به جنس الدراهم والدنانير . وذلك وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا ، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع ؛ لأن الذي قبله جمع ، والذي بعده كذلك - أعني بذلك : " وملائكته وكتبه ورسله " - فإلحاق " الكتب " في الجمع لفظا به ، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد ، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده ، وبمعناه .
    [ ص: 126 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لا نفرق بين أحد من رسله )

    قال أبو جعفر : وأما قوله : " لا نفرق بين أحد من رسله " فإنه أخبر - جل ثناؤه - بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك . ففي الكلام في قراءة من قرأ : " لا نفرق بين أحد من رسله " بالنون ، متروك ، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه . وذلك المتروك هو " يقولون " . وتأويل الكلام : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله . وترك ذكر " يقولون " لدلالة الكلام عليه ، كما ترك ذكره في قوله : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم ) [ سورة الرعد : 23 - 24 ] ، بمعنى : يقولون : سلام .

    وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين : ( لا نفرق بين أحد من رسله ) ب " الياء " بمعنى : والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله ، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض ، ولكنهم يصدقون بجميعهم ، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله ، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته ، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى ، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجحدوا نبوته ، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله ، وأقروا ببعضه ، كما : -

    6500 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " لا نفرق بين أحد من رسله " كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا : فلان نبي ، وفلان ليس نبيا ، وفلان نؤمن به ، وفلان لا نؤمن به .

    قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون : [ ص: 127 ] " لا نفرق بين أحد من رسله " لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط بمعنى ما وصفنا من : يقولون لا نفرق بين أحد من رسله ولا يعترض بشاذ من القراءة على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( 285 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وقال الكل من المؤمنين : " سمعنا " قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه " وأطعنا " يعني : أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له وقوله : " غفرانك ربنا " يعني : وقالوا : " غفرانك ربنا " بمعنى : اغفر لنا ربنا غفرانك ، كما يقال : " سبحانك " بمعنى : نسبحك سبحانك .

    وقد بينا فيما مضى أن " الغفران " و " المغفرة " الستر من الله على ذنوب من [ ص: 128 ] غفر له ، وصفحه له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة ، وعفوه عن العقوبة - عليه .

    وأما قوله : " وإليك " المصير " فإنه يعني - جل ثناؤه - أنهم قالوا : وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا ، فاغفر لنا ذنوبنا .

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما الذي نصب قوله : " غفرانك " ؟

    قيل له : وقوعه وهو مصدر موقع الأمر . وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر ، وأدت عن معنى الأمر نصبتها ، فيقولون : " شكرا لله يا فلان " و " حمدا له " بمعنى : اشكر الله واحمده . " والصلاة ، الصلاة " بمعنى صلوا . ويقولون في الأسماء : " الله الله يا قوم " ولو رفع بمعنى هو الله ، أو هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر كان جائزا ، كما قال الشاعر :


    إن قوما منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاح لجديرون بالوفاء إذا قا
    ل أخو النجدة : السلاح السلاح ! !


    ولو كان قوله : " غفرانك ربنا " جاء رفعا في القراءة ، لم يكن خطأ ، بل كان صوابا على ما وصفنا .

    وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثناء من [ ص: 129 ] الله عليه وعلى أمته ، قال له جبريل - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - عز وجل - قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء ، فسل ربك .

    6501 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن بيان ، عن حكيم بن جابر قال : لما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " قال جبريل : إن الله - عز وجل - قد أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه ! فسأل : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى آخر السورة .
    القول في تأويل قوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها ، فلا يضيق عليها ولا يجهدها . [ ص: 130 ]

    وقد بينا فيما مضى قبل أن " الوسع " اسم من قول القائل : " وسعني هذا الأمر " مثل " الجهد " و " الوجد " من : " جهدني هذا الأمر " و " وجدت منه " كما : -

    6502 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " قال : هم المؤمنون ، وسع الله عليهم أمر دينهم ، فقال الله - جل ثناؤه - : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ سورة الحج : 78 ] ، وقال : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ سورة البقرة : 185 ] ، وقال : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ سورة التغابن : 16 ] .

    6503 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس قال : لما نزلت ، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا : يا رسول الله ، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان ! كيف نتوب من الوسوسة ؟ كيف نمتنع منها ؟ فجاء جبريل - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآية " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة .

    6504 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " وسعها طاقتها . وكان حديث النفس مما لم يطيقوا .
    [ ص: 131 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " لها " للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها . يقول : لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير " وعليها " يعني : وعلى كل نفس " ما اكتسبت " ما عملت من شر ، كما : -

    6505 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت " أي : من خير " وعليها ما اكتسبت " أي : من شر - أو قال : من سوء .

    6506 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط . عن السدي . " لها ما كسبت " يقول : ما عملت من خير " وعليها ما اكتسبت " يقول : وعليها ما عملت من شر .

    6507 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة مثله .

    6508 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن الزهري عن عبد الله بن عباس : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " عمل اليد والرجل واللسان .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها ، ولا يضيق عليها في أمر دينها ، فيؤاخذها بهمة إن همت ، ولا بوسوسة إن عرضت لها ، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها .
    [ ص: 132 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )

    قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله - عز وجل - عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه ، وما يقولونه في دعائهم إياه . ومعناه : قولوا : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا " شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله " أو أخطأنا " في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه ، على غير قصد منا إلى معصيتك ، ولكن على جهالة منا به وخطأ ، كما : -

    6509 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " إن نسينا شيئا مما افترضته علينا أو أخطأنا ، [ فأصبنا ] شيئا مما حرمته علينا .

    6510 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، قال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - عز وجل - تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #388
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(374)
    الحلقة (388)
    صــ 133 إلى صــ 146



    6511 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط قال زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال له جبريل - صلى الله عليه وسلم - : فقل ذلك يا محمد . [ ص: 133 ]

    قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن يؤاخذ الله - عز وجل - عباده بما نسوا أو أخطئوا ، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك ؟

    قيل : إن " النسيان " على وجهين : أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط ، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به ، وضعف عقله عن احتماله .

    فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط ، فهو ترك منه لما أمر بفعله . فذلك الذي يرغب العبد إلى الله - عز وجل - في تركه مؤاخذته به ، وهو " النسيان " الذي عاقب الله - عز وجل - به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة ، فقال في ذلك : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) [ سورة طه : 115 ] ، وهو " النسيان " الذي قال - جل ثناؤه - : ( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) [ سورة الأعراف : 51 ] . فرغبة العبد إلى الله - عز وجل - بقوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا كفرا بالله - عز وجل - . فإن ذلك إذا كان كفرا بالله ، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة ، لأن الله - عز وجل - قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به ، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ . وإنما تكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته ، ومثل نسيانه صلاة أو صياما باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما .

    وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته ، فإن ذلك من العبد غير معصية ، وهو به غير آثم ، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له ، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب ، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه ، كالرجل [ ص: 134 ] يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه ، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه ، ولكن بعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه ، وما أشبه ذلك من النسيان ، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته ، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه .

    وكذلك " الخطأ " وجهان :

    أحدهما : من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة ، فذلك خطأ منه ، وهو به مأخوذ . يقال منه : " خطئ فلان وأخطأ " فيما أتى من الفعل ، و " أثم " إذا أتى ما يأثم فيه وركبه ، ومنه قول الشاعر :


    الناس يلحون الأمير إذا هم خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

    يعني : أخطئوا الصواب ، وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه ، إلا ما كان من ذلك كفرا .

    والآخر منهما : ما كان عنه على وجه الجهل به ، والظن منه بأن له فعله كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع أو يؤخر [ ص: 135 ] صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها ، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل ، فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد الذي وضع الله - عز وجل - عن عباده الإثم فيه ، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به .

    وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى ، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة ، فأما على وجه مسألته الصفح ، فما لا وجه له عندهم

    وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا )

    قال أبو جعفر : ويعني بذلك - جل ثناؤه - : قولوا : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا " يعني ب " الإصر " العهد ، كما قال - جل ثناؤه - : ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) [ سورة آل عمران : 81 ] . وإنما عنى بقوله : " ولا تحمل علينا إصرا ) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه " كما حملته على الذين من قبلنا " يعني : على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها ، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة . فعلم الله - عز وجل - أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها [ ص: 136 ] أو أخطئوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم ، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه مثل الذي أحل بمن قبلهم .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6512 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " لا تحمل علينا إصرا " قال : لا تحمل علينا عهدا وميثاقا كما حملته على الذين من قبلنا . يقول : كما غلظ على من قبلنا .

    6513 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن قيس الحضرمي عن مجاهد في قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " قال : عهدا

    6514 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " إصرا " قال : عهدا .

    6515 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله : " إصرا " يقول : عهدا .

    6516 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " والإصر : العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود .

    6517 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " قال : عهدا لا نطيقه ولا نستطيع [ ص: 137 ] القيام به " كما حملته على الذين من قبلنا " اليهود والنصارى فلم يقوموا به فأهلكتهم .

    6518 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك : " إصرا " قال : المواثيق .

    6519 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " الإصر " العهد . ( وأخذتم على ذلكم إصري ) [ سورة آل عمران 81 ] ، قال : عهدي .

    6520 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وأخذتم على ذلكم إصري ) ، قال : عهدي .

    وقال آخرون : " معنى ذلك : ولا تحمل علينا ذنوبا وإثما كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم فتمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم " .

    ذكر من قال ذلك :

    6521 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية بن الوليد عن علي بن هارون عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح في قوله : " ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال : لا تمسخنا قردة وخنازير .

    6522 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفارة .

    وقال آخرون : " معنى " الإصر " بكسر الألف : الثقل " . [ ص: 138 ]

    ذكر من قال ذلك :

    6523 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " يقول : التشديد الذي شددته على من قبلنا من أهل الكتاب .

    6524 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال سألته - يعني مالكا - عن قوله : " ولا تحمل علينا إصرا " قال : الإصر ، الأمر الغليظ .

    قال أبو جعفر : فأما " الأصر " بفتح الألف : فهو ما عطف الرجل على غيره من رحم أو قرابة ، يقال : " أصرتني رحم بيني وبين فلان عليه " بمعنى : عطفتني عليه . " وما يأصرني عليه " أي : ما يعطفني عليه . " وبيني وبينه آصرة رحم تأصرني عليه أصرا " يعني به : عاطفة رحم تعطفني عليه .
    القول في تأويل قوله ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وقولوا أيضا : ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به ، لثقل حمله علينا .

    وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه .

    ذكر من قال ذلك :

    6525 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " تشديد يشدد به ، كما شدد على من كان قبلكم . [ ص: 139 ]

    6526 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قوله : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق .

    6527 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه .

    6528 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " مسخ القردة والخنازير .

    6529 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال : حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال : حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سالم بن شابور في قوله : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال : الغلمة .

    6530 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم .

    قال أبو جعفر : وإنما قلنا إن تأويل ذلك : ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به ، على نحو الذي قلنا في ذلك ، لأنه عقيب مسألة المؤمنين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا ، وأن لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم ، [ ص: 140 ] فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسير في الدين أولى مما خالف ذلك المعنى .
    القول في تأويل قوله ( واعف عنا واغفر لنا )

    قال أبو جعفر : وفي هذا أيضا من قول الله - عز وجل - خبرا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " لأنهم عقبوا ذلك بقولهم : " واعف عنا " مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه ، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه . وإن خف ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6531 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " واعف عنا " قال : اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به .

    وكذلك قوله : " واغفر لنا " يعني : واستر علينا زلة إن أتيناها فيما بيننا وبينك ، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها .

    وقد دللنا على معنى " المغفرة " فيما مضى قبل . [ ص: 141 ]

    6532 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " واغفر لنا " إن انتهكنا شيئا مما نهيتنا عنه .
    القول في تأويل قوله ( وارحمنا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك ، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله ، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا ، فوفقنا لما يرضيك عنا ، كما : -

    6533 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد قوله : " وارحمنا " قال يقول : لا ننال العمل بما أمرتنا به ، ولا ترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك . قال : ولم ينج أحد إلا برحمتك .
    القول في تأويل قوله ( أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ( 286 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " أنت مولانا " أنت ولينا بنصرك ، دون من عاداك وكفر بك ، لأنا مؤمنون بك ، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا ، فأنت ولي من أطاعك ، وعدو من كفر بك فعصاك " فانصرنا " لأنا حزبك [ ص: 142 ] " على القوم الكافرين " الذين جحدوا وحدانيتك ، وعبدوا الآلهة والأنداد دونك ، وأطاعوا في معصيتك الشيطان .

    و " المولى " في هذا الموضع " المفعل " من : " ولي فلان أمر فلان ، فهو يليه ولاية ، وهو وليه ومولاه " . وإنما صارت " الياء " من " ولى " " ألفا " لانفتاح " اللام " قبلها ، التي هي عين الاسم .

    وقد ذكروا أن الله - عز وجل - لما أنزل هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استجاب الله له في ذلك كله .

    ذكر الأخبار التي جاءت بذلك :

    6534 - حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال : حدثنا ورقاء عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " قال : قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما انتهى إلى قوله : " غفرانك ربنا " قال الله - عز وجل - : " قد غفرت لكم . فلما قرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال الله - عز وجل - : لا أحملكم . فلما قرأ : " واغفر لنا " قال الله تبارك وتعالى : قد غفرت لكم . فلما قرأ : " وارحمنا " قال الله - عز وجل - : " قد رحمتكم " فلما قرأ : " وانصرنا على القوم الكافرين " قال الله - عز وجل - : قد نصرتكم عليهم . [ ص: 143 ]

    6535 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد ، قل : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقالها ، فقال جبريل : قد فعل . وقال له جبريل : قل : " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " فقالها ، فقال جبريل : قد فعل . فقال : قل " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " فقالها ، فقال جبريل - صلى الله عليه وسلم - : قد فعل . فقال : قل : " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " فقالها ، فقال جبريل : قد فعل . [ ص: 144 ]

    6536 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط قال : زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقال له جبريل : فعل ذلك يا محمد " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " فقال له جبريل في كل ذلك : فعل ذلك يا محمد .

    6537 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع وحدثنا سفيان قال : حدثنا أبي عن سفيان عن آدم بن سليمان ، مولى خالد قال سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أنزل الله - عز وجل - : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " إلى قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال فقال : قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " فقال : قد فعلت " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال : قد فعلت " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " قال : قد فعلت .

    6538 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا إسحاق بن سليمان عن مصعب بن ثابت عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : أنزل الله - عز وجل - : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال : أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله - عز وجل - : نعم .

    6539 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد عن سفيان عن آدم بن [ ص: 145 ] سليمان عن سعيد بن جبير : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال ويقول : قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال ويقول : قد فعلت . فأعطيت هذه الأمة خواتيم " سورة البقرة " ولم تعطها الأمم قبلها .

    6540 - حدثنا علي بن حرب الموصلي قال : حدثنا ابن فضيل قال : حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله - عز وجل - : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " إلى قوله : " غفرانك ربنا " قال : قد غفرت لكم " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى قوله : " لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال : لا أؤاخذكم " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال : لا أحمل عليكم إلى قوله : " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا " إلى آخر السورة ، قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ، ورحمتكم ، ونصرتكم على القوم الكافرين . [ ص: 146 ] وروي عن الضحاك بن مزاحم أن إجابة الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة :

    6541 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " : كان جبريل عليه السلام يقول له : سلها ! فسألها نبي الله ربه جل ثناءه ، فأعطاه إياها ، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة .

    6542 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان عن أبي إسحاق : أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة : " وانصرنا على القوم الكافرين " قال : آمين . آخر تفسير سورة البقرة






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #389
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (389)
    صــ 150 إلى صــ 165



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ

    أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ : الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ( 1 ) )

    قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : قَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : " الم " فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ الْبَيَانُ عَنْ قَوْلِهِ : " اللَّهُ " .

    وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ : " لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ خَاصَّةٌ بِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ وَلَا تَجُوزُ إِلَّا لَهُ لِانْفِرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّ ةِ ، وَتَوَحُّدِهِ بِالْأُلُوهِيَّ ةِ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا دُونَهُ فَمِلْكُهُ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَخَلْقُهُ ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ احْتِجَاجًا مِنْهُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - عَلَيْهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ إِذْ كَانَ كَذَلِكَ ، فَغَيْرُ جَائِزَةٍ لَهُمْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ ، وَلَا إِشْرَاكُ أَحَدٍ مَعَهُ فِي سُلْطَانِهِ ، إِذْ كَانَ كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ فَمِلْكُهُ ، وَكُلُّ مُعَظَّمٍ غَيْرُهُ فَخَلْقُهُ ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ إِفْرَادُ الطَّاعَةِ لِمَالِكِهِ ، وَصَرْفُ خِدْمَتِهِ إِلَى مَوْلَاهُ وَرَازِقِهِ [ ص: 150 ] وَمُعَرِّفًا مَنْ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ - يَوْمَ أَنْزَلَ ذَلِكَ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَنْزِيلِهِ ذَلِكَ إِلَيْهِ ، وَإِرْسَالِهِ بِهِ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - مُقِيمًا عَلَى عِبَادَةِ وَثَنٍ أَوْ صَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ إِنْسِيٍّ أَوْ مَلَكٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ بَنُو آدَمَ مُقِيمَةً عَلَى عِبَادَتِهِ وَإِلَاهَتِهِ ، وَمُتَّخِذَهُ دُونَ مَالِكِهِ وَخَالِقِهِ إِلَهًا وَرَبًّا أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَمُنْعَدِلٌ عَنِ الْمَحَجَّةِ ، وَرَاكِبٌ غَيْرَ السَّبِيلِ الْمُسْتَقِيمَة ِ ، بِصَرْفِهِ الْعِبَادَةَ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَا أَحَدَ لَهُ الْأُلُوهِيَّةُ غَيْرُهُ .

    قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ ابْتَدَأَ اللَّهُ بِتَنْزِيلِهِ فَاتِحَتَهَا بِالَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ : مِنْ نَفْيِ " الْأُلُوهِيَّةِ " أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِ ، وَوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالَّذِي وَصَفَهَا بِهِ فِي ابْتِدَائِهَا ؛ احْتِجَاجًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّصَارَى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَجْرَانَ فَحَاجُّوهُ فِي عِيسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَأَلْحَدُوا فِي اللَّهِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ عِيسَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا ، احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ كَانَ عَلَى مَثَلِ مَقَالَتِهِمْ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَوْا إِلَّا الْمُقَامَ عَلَى [ ص: 151 ] ضَلَالَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ ، فَأَبَوْا ذَلِكَ ، وَسَأَلُوا قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ، فَقَبِلَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ ، وَانْصَرَفُوا إِلَى بِلَادِهِمْ .

    غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ - وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَإِيَّاهُمْ قَصَدَ بِالْحِجَاجِ - فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَعْنَاهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ مَعَنَاهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ ، وَاتِّخَاذِ مَا سِوَى اللَّهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَمَعْبُودًا مَعْمُومُونَ بِالْحُجَّةِ الَّتِي حَجَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا مَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهِ ، وَمَحْجُوجُونَ فِي الْفُرْقَانِ الَّذِي فَرَقَ بِهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ .

    ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي نُزُولِ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الَّذِينَ وَصَفْنَا صِفَتَهُمْ مِنَ النَّصَارَى : -

    6543 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفْدُ نَجْرَانَ : سِتُّونَ رَاكِبًا فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ ، فِي الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَيْهِمْ يَئُولُ أَمْرُهُمْ : " الْعَاقِبُ " أَمِيرُ الْقَوْمِ وَذُو رَأْيِهِمْ وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ ، وَالَّذِي لَا يُصْدِرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ ، وَاسْمُهُ " عَبْدُ الْمَسِيحِ " وَ " السَّيِّدُ " ثِمَالُهُمْ وَصَاحِبُ رَحْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِم ْ ، وَاسْمُهُ " الْأَيْهَمُ " وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أَسْقُفُّهُمْ وَحَبْرُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَصَاحِبُ مِدْرَاسِهِمْ . وَكَانَ أَبُو حَارِثَةَ قَدْ شَرُفَ فِيهِمْ وَدَرَسَ كُتُبَهُمْ حَتَّى حَسُنَ عِلْمُهُ فِي دِينِهِمْ ، فَكَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّ ةِ قَدْ شَرَّفُوهُ وَمَوَّلُوهُ وَأَخْدَمُوهُ ، وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ ، وَبَسَطُوا عَلَيْهِ الْكَرَامَاتِ ؛ لِمَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِمْ . [ ص: 152 ] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ : قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِهِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ جُبَبٌ وَأَرْدِيَةٌ ، فِي [ جِمَالِ رِجَالِ ] بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : يَقُولُ بَعْضُ مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمئِذٍ : مَا رَأَيْنَا بِعَدَهُمْ وَفْدًا مِثْلَهُمْ ! وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَقَامُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " دَعُوهُمْ ، فَصَلَّوْا إِلَى الْمَشْرِقِ .

    قَالَ : وَكَانَتْ تَسْمِيَةُ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَئُولُ إِلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ : " الْعَاقِبُ " وَهُوَ " عَبْدُ الْمَسِيحِ " وَالسَّيِّدُ ، وَهُوَ " الْأَيْهَمُ " " وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ " أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، وَأَوْسٌ ، وَالْحَارِثُ ، وَزَيْدٌ ، وَقَيْسٌ ، وَيَزِيدُ ، وَنُبَيْهٌ ، وَخُوَيْلِدٌ ، وَعَمْرٌو ، وَخَالِدٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ . وَيُحَنَّسُ : فِي سِتِّينَ رَاكِبًا . فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ : " أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ " ، وَ " الْعَاقِبُ " عَبْدُ الْمَسِيحِ ، وَ " الْأَيْهَمُ " السَّيِّدُ ، وَهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّ ةِ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ مَعَ اخْتِلَافٍ مِنْ أَمْرِهِمْ . يَقُولُونَ : " هُوَ اللَّهُ " وَيَقُولُونَ : " هُوَ وَلَدُ اللَّهِ " وَيَقُولُونَ : " هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّصْرَانِيَّ ةِ .

    فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ : " هُوَ اللَّهُ " بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَيُبْرِئُ الْأَسْقَامَ ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ ؛ لِيَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ . [ ص: 153 ]

    وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ : " إِنَّهُ وَلَدُ اللَّهِ " أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : " لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعَلِّمُ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ ، شَيْءٌ لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ قَبْلَهُ " .

    وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ : " إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " بِقَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : " فَعَلْنَا ، وَأَمَرْنَا ، وَخَلَقْنَا ، وَقَضَيْنَا " . فَيَقُولُونَ : " لَوْ كَانَ وَاحِدًا مَا قَالَ : إِلَّا " فَعَلْتُ ، وَأَمَرْتُ وَقَضَيْتُ ، وَخَلَقْتُ " وَلَكِنَّهُ هُوَ وَعِيسَى وَمَرْيَمُ " .

    فَفِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ ، وَذَكَرَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ قَوْلَهُمْ .

    فَلَّمَا كَلَّمَهُ الْحَبْرَانِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَسْلِمَا . قَالَا : قَدْ أَسْلَمْنَا . قَالَ : إِنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا ، فَأَسْلِمَا . قَالَا : بَلَى قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ . قَالَ : كَذَبْتُمَا ، يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ دُعَاؤُكُمَا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَدًا ، وَعِبَادَتُكُمَ ا الصَّلِيبَ ، وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ . قَالَا : فَمَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمَا فَلَمْ يُجِبْهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ كُلِّهُ صَدْرَ " سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ " إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا . فَقَالَ : " الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "
    ، فَافْتَتَحَ السُّورَةَ بِتَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِمَّا قَالُوا ، وَتَوْحِيدِهِ إِيَّاهَا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ رَدًّا عَلَيْهِمْ مَا ابْتَدَعُوا مِنَ الْكُفْرِ ، وَجَعَلُوا مَعَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَاحْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ فِي صَاحِبِهِمْ ؛ لِيُعَرِّفَهُمْ بِذَلِكَ ضَلَالَتَهُمْ ، فَقَالَ : " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " أَيْ : لَيْسَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي أَمْرِهِ . [ ص: 154 ]

    6544 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ : " الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " قَالَ : إِنَّ النَّصَارَى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَاصَمُوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَقَالُوا لَهُ : مَنْ أَبُوهُ ؟ وَقَالُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ - لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا - فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ ، وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفَنَاءُ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : أَفَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا مَا عُلِّمَ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ ، فَهَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ وَلَا يُحْدِثُ الْحَدَثَ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا ، ثُمَّ غُذِّيَ كَمَا يُغَذَّى الصَّبِيُّ ، ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ ، وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ ؟ قَالُوا بَلَى . قَالَ : فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ ؟ قَالَ : فَعَرَفُوا ، ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا جُحُودًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "
    [ ص: 155 ] القول في تأويل قوله ( الحي القيوم ( 2 ) )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في ذلك .

    فقرأته قرأة الأمصار ( الحي القيوم ) .

    وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما : الحي القيام .

    وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ : الحي القيم .

    6545 - حدثنا بذلك أبو كريب قال : حدثنا عثام بن علي قال : حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال سمعت علقمة يقرأ : " الحي القيم " .

    قلت : أنت سمعته ؟ قال : لا أدري .

    6546 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن علقمة مثله .

    وقد روي عن علقمة خلاف ذلك ، وهو ما : -

    6547 - حدثنا أبو هشام قال : حدثنا عبد الله قال : حدثنا شيبان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن علقمة أنه قرأ : " الحي القيام " .

    قال أبو جعفر : والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك ، ما جاءت به قرأة المسلمين نقلا مستفيضا - عن غير تشاعر ولا تواطؤ - وراثة ، وما كان مثبتا في مصاحفهم ، وذلك قراءة من قرأ " الحي القيوم " .
    [ ص: 156 ] القول في تأويل قوله ( الحي ) "

    اختلف أهل التأويل في معنى قوله : " الحي " .

    فقال بعضهم : معنى ذلك من الله - تعالى ذكره - : أنه وصف نفسه بالبقاء ، ونفى الموت - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها .

    ذكر من قال ذلك :

    6548 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل قال حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " الحي " الذي لا يموت ، وقد مات عيسى وصلب في قولهم يعني في قول الأحبار الذين حاجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى أهل نجران .

    6549 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الحي " قال : يقول : حي لا يموت .

    وقال آخرون : معنى " الحي " الذي عناه الله - عز وجل - في هذه الآية ، ووصف به نفسه : أنه المتيسر له تدبير كل ما أراد وشاء ، لا يمتنع عليه شيء أراده ، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد .

    وقال آخرون : معنى ذلك أن له الحياة الدائمة التي لم تزل له صفة ، ولا تزال كذلك . وقالوا : إنما وصف نفسه بالحياة ؛ لأن له حياة كما وصفها [ ص: 157 ] بالعلم ؛ لأن لها علما ، وبالقدرة ؛ لأن لها قدرة .

    قال أبو جعفر : ومعنى ذلك عندي : أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناء لها ولا انقطاع ، ونفى عنها ما هو حال بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله . فأخبر عباده أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة ، والحي الذي لا يموت ولا يبيد ، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربا ، ويبيد كل من ادعى من دونه إلها . واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى ، فلا يكون إلها يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت ، وأن الإله هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى ، وذلك الله الذي لا إله إلا هو .
    القول في تأويل قوله ( القيوم )

    قال أبو جعفر : قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك ، والذي نختار منه ، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك .

    فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أن القرأة قرأت بها فمتقارب . ومعنى ذلك كله : القيم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحب من تغيير وتبديل وزيادة ونقص كما : -

    6550 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى بن ميمون قال : حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - جل ثناؤه - : " الحي القيوم " قال : القائم على كل شيء . [ ص: 158 ]

    6551 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

    6552 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " القيوم " قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه .

    وقال آخرون : " معنى ذلك : القيام على مكانه " . ووجهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوال معه ولا انتقال ، وأن الله - عز وجل - إنما نفى عن نفسه بوصفها بذلك التغير والتنقل من مكان إلى مكان ، وحدوث التبدل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم .

    ذكر من قال ذلك :

    6553 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " القيوم " القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول ، وقد زال عيسى في قولهم يعني في قول الأحبار الذين حاجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجران في عيسى عن مكانه الذي كان به ، وذهب عنه إلى غيره .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع ، وأن ذلك وصف من الله - تعالى ذكره - نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء ، في رزقه والدفع عنه ، وكلاءته وتدبيره وصرفه في قدرته من قول العرب : " فلان قائم بأمر هذه البلدة " يعني بذلك : المتولي تدبير أمرها . [ ص: 159 ]

    ف " القيوم " إذ كان ذلك معناه " الفيعول " من قول القائل : " الله يقوم بأمر خلقه " . وأصله " القيووم " غير أن " الواو " الأولى من " القيووم " لما سبقتها " ياء " ساكنة وهي متحركة قلبت " ياء " فجعلت هي و " الياء " التي قبلها " ياء " مشددة ؛ لأن العرب كذلك تفعل ب " الواو " المتحركة إذا تقدمتها " ياء " ساكنة .

    وأما " القيام " فإن أصله " القيوام " وهو " الفيعال " من " قام يقوم " سبقت " الواو " المتحركة من " قيوام " " ياء " ساكنة ، فجعلتا جميعا " ياء " مشددة .

    ولو أن " القيوم " " فعول " كان " القووم " ولكنه " الفيعول " . وكذلك " القيام " لو كان " الفعال " لكان " القوام " كما قيل : " الصوام والقوام " وكما قال - جل ثناؤه - : ( كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ) [ سورة المائدة : 8 ] ، ولكنه " الفيعال " فقيل : " القيام " .

    وأما " القيم " فهو " الفيعل " من " قام يقوم " سبقت " الواو " المتحركة " ياء " ساكنة فجعلتا " ياء " مشددة ، كما قيل : " فلان سيد قومه " من " ساد يسود " و " هذا طعام جيد " من " جاد يجود " وما أشبه ذلك .

    وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ ؛ لأنه قصد به قصد المبالغة في المدح ، فكان " القيوم " و " القيام " و " القيم " أبلغ في المدح من " القائم " وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته - إن شاء الله - " القيام " ؛ لأن ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من " الياء " " الواو " فيقولون للرجل الصواغ : [ ص: 160 ] " الصياغ " ويقولون للرجل الكثير الدوران : " الديار " . وقد قيل إن قول الله - جل ثناؤه - : ( لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ سورة نوح : 26 ] إنما هو " دوار " " فعالا " من " دار يدور " ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز ، وأقرت كذلك في المصحف .
    القول في تأويل قوله ( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه )

    قال أبو جعفر : يقول - جل ثناؤه - : يا محمد إن ربك ورب عيسى ورب كل شيء هو الرب الذي أنزل عليك الكتاب يعني ب " الكتاب " القرآن " بالحق " يعني : بالصدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل ، وفيما خالفك فيه محاجوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم " مصدقا لما بين يديه " يعني - بذلك القرآن - أنه مصدق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله ، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده ؛ لأن منزل جميع ذلك واحد ، فلا يكون فيه اختلاف ، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6554 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، [ ص: 161 ] عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " مصدقا لما بين يديه " . قال : لما قبله من كتاب أو رسول .

    6555 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " مصدقا لما بين يديه " لما قبله من كتاب أو رسول .

    6556 - حدثني محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " نزل عليك الكتاب بالحق " أي بالصدق فيما اختلفوا فيه .

    6557 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه " يقول : القرآن " مصدقا لما بين يديه " من الكتب التي قد خلت قبله .

    6558 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال حدثني ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه " يقول : مصدقا لما قبله من كتاب ورسول .
    القول في تأويل قوله - جل ثناؤه - ( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ( 3 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " وأنزل التوراة " على موسى " والإنجيل " على عيسى " من قبل " يقول : من قبل الكتاب الذي نزله عليك ويعني بقوله : " هدى للناس " بيانا للناس من الله فيما اختلفوا فيه [ ص: 162 ] من توحيد الله وتصديق رسله ، ونعتيك يا محمد بأنك نبيي ورسولي ، وفي غير ذلك من شرائع دين الله ، كما : -

    6559 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس " هما كتابان أنزلهما الله فيهما بيان من الله ، وعصمة لمن أخذ به وصدق به ، وعمل بما فيه .

    6560 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وأنزل التوراة والإنجيل " التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، كما أنزل الكتب على من كان قبله .
    القول في تأويل قوله ( وأنزل الفرقان )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : وأنزل الفصل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزاب وأهل الملل في أمر عيسى وغيره .

    وقد بينا فيما مضى أن " الفرقان " إنما هو " الفعلان " من قولهم : " فرق الله [ ص: 163 ] بين الحق والباطل " فصل بينهما بنصره الحق على الباطل ، إما بالحجة البالغة ، وإما بالقهر والغلبة بالأيد والقوة .

    وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أن بعضهم وجه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى وبعضهم إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع .

    ذكر من قال : معناه : " الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب " :

    6561 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وأنزل الفرقان " أي الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره .

    ذكر من قال : معنى ذلك : " الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام " :

    6562 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وأنزل الفرقان " هو القرآن ، أنزله على محمد ، وفرق به بين الحق والباطل ، فأحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه ، وشرع فيه شرائعه ، وحد فيه حدوده ، وفرض فيه فرائضه ، وبين فيه بيانه ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته .

    6563 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " وأنزل الفرقان " قال : الفرقان ، القرآن ، فرق بين الحق والباطل . [ ص: 164 ]

    قال أبو جعفر : والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك ، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع وأن يكون معنى " الفرقان " في هذا الموضع فصل الله بين نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين حاجوه في أمر عيسى ، وفي غير ذلك من أموره ، بالحجة البالغة القاطعة عذرهم وعذر نظرائهم من أهل الكفر بالله .

    وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب ، لأن إخبار الله عن تنزيله القرآن - قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه " . ولا شك أن ذلك " الكتاب " هو القرآن لا غيره ، فلا وجه لتكريره مرة أخرى ، إذ لا فائدة في تكريره ، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداء .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ( 4 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهيته ، وأن عيسى عبد له ، واتخذوا المسيح إلها وربا أو ادعوه لله ولدا لهم عذاب من الله شديد يوم القيامة .

    و " الذين كفروا " هم الذين جحدوا آيات الله و " آيات الله " أعلام الله وأدلته وحججه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #390
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (390)
    صــ 165 إلى صــ 182




    [ ص: 165 ]

    وهذا القول من الله - عز وجل - ينبئ عن معنى قوله : " وأنزل الفرقان " أنه معني به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل ؛ لأنه عقب ذلك بقوله : " إن الذين كفروا بآيات الله " يعني : إن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقان الذي أنزله فرقا بين المحق والمبطل " لهم عذاب شديد " وعيد من الله لمن عاند الحق بعد وضوحه له ، وخالف سبيل الهدى بعد قيام الحجة عليه ثم أخبرهم أنه " عزيز " في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم ، ولا يحول بينه وبينه حائل ، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحد وأنه " ذو انتقام " ممن جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه ، وبعد وضوحها له ومعرفته بها .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6564 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام " أي إن الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته بما جاء منه فيها .

    6565 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع ، " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام "
    [ ص: 166 ] القول في تأويل قوله ( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( 5 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء . يقول : فكيف يخفى علي يا محمد - وأنا علام جميع الأشياء - ما يضاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم ، في مقالتهم التي يقولونها فيه ؟ ! كما : -

    6566 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " أي : قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى ، إذ جعلوه ربا وإلها ، وعندهم من علمه غير ذلك ، غرة بالله وكفرا به .
    القول في تأويل قوله ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : الله الذي يصوركم فيجعلكم صورا أشباحا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب ، فيجعل هذا ذكرا وهذا أنثى ، وهذا أسود وهذا أحمر . يعرف عباده بذلك أن جميع من اشتملت عليه أرحام النساء ممن صوره وخلقه كيف شاء وأن عيسى ابن مريم ممن صوره في [ ص: 167 ] رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحب ، وأنه لو كان إلها لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه ، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحام عليه مشتملة ، وإنما تشتمل على المخلوقين ، كما : -

    6567 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " أي : قد كان عيسى ممن صور في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه ، كما صور غيره من بني آدم ، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل ؟

    6568 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع : " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " أي : أنه صور عيسى في الرحم كيف شاء .

    قال آخرون في ذلك ما : -

    6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن يخلق ، بعث الله ملكا يصورها . فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه ، فيخلطه في المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصورها كما يؤمر ، فيقول : أذكر أو أنثى ؟ أشقي أو سعيد ، وما رزقه ؟ وما عمره ؟ وما أثره ؟ [ ص: 168 ] وما مصائبه ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك . فإذا مات ذلك الجسد ، دفن حيث أخذ ذلك التراب .

    6570 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " قادر والله ربنا أن يصور عباده في الأرحام كيف يشاء من ذكر أو أنثى ، أو أسود أو أحمر ، تام خلقه وغير تام .
    القول في تأويل قوله ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( 6 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا القول تنزيه من الله - تعالى ذكره - نفسه أن يكون له في ربوبيته ند أو مثل ، أو أن تجوز الألوهة لغيره وتكذيب منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى ، ولجميع من ادعى مع الله معبودا ، أو أقر بربوبية غيره . ثم أخبر - جل ثناؤه - خلقه بصفته ، وعيدا منه لمن عبد غيره أو أشرك في عبادته أحدا سواه ، فقال : " هو العزيز " الذي لا ينصر من أراد الانتقام منه أحد ، ولا ينجيه منه وأل ولا لجأ ، وذلك لعزته التي يذل لها كل مخلوق ، ويخضع لها كل موجود . ثم أعلمهم أنه " الحكيم " [ ص: 169 ] في تدبيره وإعذاره إلى خلقه ، ومتابعة حججه عليهم ، ليهلك من هلك منهم عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، كما : -

    6571 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : ثم قال - يعني الرب - عز وجل - - إنزاها لنفسه وتوحيدا لها مما جعلوا معه : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " قال : العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء ، والحكيم في عذره وحجته إلى عباده .

    6572 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " يقول : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره .
    القول في تأويل قوله ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، هو الذي أنزل عليك الكتاب يعني ب " الكتاب " القرآن . [ ص: 170 ]

    وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمي القرآن " كتابا " بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    وأما قوله : " منه آيات محكمات " فإنه يعني : من الكتاب آيات . يعني ب " الآيات " آيات القرآن .

    وأما " المحكمات " فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأمر وزجر ، وخبر ومثل ، وعظة وعبر ، وما أشبه ذلك .

    ثم وصف - جل ثناؤه - : هؤلاء " الآيات المحكمات " بأنهن " هن أم الكتاب " . يعني بذلك : أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود ، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم ، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم .

    وإنما سماهن " أم الكتاب " لأنهن معظم الكتاب ، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه ، وكذلك تفعل العرب ، تسمي الجامع معظم الشيء " أما " له . فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر : " أمهم " والمدبر معظم أمر القرية والبلدة " أمها " .

    وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته .

    ووحد " أم الكتاب " ولم يجمع فيقول : هن أمهات الكتاب ، وقد قال : " هن " لأنه أراد جميع الآيات المحكمات " أم الكتاب " لا أن كل آية منهن " أم الكتاب " . ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن " أم الكتاب " [ ص: 171 ] لكان لا شك قد قيل : " هن أمهات الكتاب " . ونظير قول الله - عز وجل - : " هن أم الكتاب " على التأويل الذي قلنا في توحيد " الأم " وهي خبر ل " هن " قوله - تعالى ذكره - : ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) [ سورة المؤمنون : 50 ] ولم يقل : آيتين ، لأن معناه : وجعلنا جميعهما آية . إذ كان المعنى واحدا فيما جعلا فيه للخلق عبرة . ولو كان مرادا الخبر عن كل واحد منهما على انفراده ، بأنه جعل للخلق عبرة ، لقيل : وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة . وذلك أن مريم ولدت من غير رجل ، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيا ، فكان في كل واحد منهما للناس آية .

    وقد قال بعض نحويي البصرة : إنما قيل : " هن أم الكتاب " ولم يقل : " هن أمهات الكتاب " على وجه الحكاية ، كما يقول الرجل : " ما لي أنصار " فتقول : " أنا أنصارك " أو : " ما لي نظير " فتقول : " نحن نظيرك " . قال : وهو شبيه : " دعني من تمرتان " وأنشد لرجل منفقعس :


    تعرضت لي بمكان حل تعرض المهرة في الطول

    تعرضا لم تأل عن قتلا لي
    [ ص: 172 ]

    " حل " أي : يحل به . على الحكاية ، لأنه كان منصوبا قبل ذلك ، كما يقول : " نودي : الصلاة الصلاة " يحكي قول القائل : " الصلاة الصلاة " .

    وقال : قال بعضهم : إنما هي : " أن قتلا لي " ولكنه جعله " عينا " لأن " أن " في لغته تجعل موضعها " عن " والنصب على الأمر ، كأنك قلت : " ضربا لزيد " .

    قال أبو جعفر : وهذا قول لا معنى له . لأن كل هذه الشواهد التي استشهدها ، لا شك أنهن حكايات حاكيهن ، بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن وأن معلوما أن الله - جل ثناؤه - لم يحك عن أحد قوله : " أم الكتاب " فيجوز أن يقال : أخرج ذلك مخرج الحكاية عمن قال ذلك كذلك .

    وأما قوله : " وأخر " فإنها جمع " أخرى " . [ ص: 173 ]

    ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف " أخر " .

    فقال بعضهم : لم يصرف " أخر " من أجل أنها نعت ، واحدتها " أخرى " كما لم تصرف " جمع " و " كتع " لأنهن نعوت .

    وقال آخرون : إنما لم تصرف " الأخر " لزيادة الياء التي في واحدتها ، وأن جمعها مبني على واحدها في ترك الصرف . قالوا : وإنما ترك صرف " أخرى " كما ترك صرف " حمراء " و " بيضاء " في النكرة والمعرفة لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو . ثم افترق جمع " حمراء " و " أخرى " فبني جمع " أخرى " على واحدته فقيل : " فعل " و " أخر " فترك صرفها كما ترك صرف " أخرى " وبني جمع " حمراء " و " بيضاء " على خلاف واحدته فصرف ، فقيل : " حمر " و " بيض " فلاختلاف حالتهما في الجمع ، اختلف إعرابهما عندهم في الصرف . ولاتفاق حالتيهما في الواحدة ، اتفقت حالتاهما فيها .

    وأما قوله : " متشابهات " فإن معناه : متشابهات في التلاوة ، مختلفات في المعنى ، كما قال - جل ثناؤه - : ( وأتوا به متشابها ) [ سورة البقرة : 25 ] ، يعني في المنظر ، مختلفا في المطعم وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال : ( إن البقر تشابه علينا ) [ سورة البقرة : 70 ] ، يعنون بذلك : تشابه علينا في الصفة ، وإن اختلفت أنواعه . [ ص: 174 ]

    فتأويل الكلام إذا : إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن ، منه آيات محكمات بالبيان ، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين ، وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني .

    وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " وما المحكم من آي الكتاب ، وما المتشابه منه ؟

    فقال بعضهم : " المحكمات " من آي القرآن ، المعمول بهن ، وهن الناسخات أو المثبتات الأحكام " والمتشابهات " من آيه المتروك العمل بهن المنسوخات .

    ذكر من قال ذلك :

    6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا العوام ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " منه آيات محكمات " قال : هي الثلاث الآيات من هاهنا : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) [ سورة الأنعام : 151 ، 152 ] ، إلى ثلاث آيات ، والتي في " بني إسرائيل " : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ سورة الإسراء : 23 - 39 ] ، إلى آخر الآيات . [ ص: 175 ]

    6574 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " المحكمات : ناسخه ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وما يؤمن به ويعمل به قال : " وأخر متشابهات " والمتشابهات : منسوخه ، ومقدمه ومؤخره ، وأمثاله وأقسامه ، وما يؤمن به ولا يعمل به .

    6575 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وأخر متشابهات " فالمحكمات التي هي أم الكتاب : الناسخ الذي يدان به ويعمل به . والمتشابهات ، هن المنسوخات التي لا يدان بهن .

    6576 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى قوله : " كل من عند ربنا " أما " الآيات المحكمات " : فهن الناسخات التي يعمل بهن وأما " المتشابهات " فهن المنسوخات .

    6577 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " و " المحكمات " : الناسخ الذي يعمل به ، ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه وأما " المتشابهات " : فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به .

    6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " آيات محكمات " قال : المحكم ما يعمل به .

    6579 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن [ ص: 176 ] أبيه ، عن الربيع : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " قال : " المحكمات " الناسخ الذي يعمل به و " المتشابهات " : المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به .

    6580 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " قال : الناسخات " وأخر متشابهات " قال : ما نسخ وترك يتلى .

    6581 - حدثني ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم قال : المحكم ، ما لم ينسخ وما تشابه منه ما نسخ .

    6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " قال : الناسخ " وأخر متشابهات " قال : المنسوخ .

    6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ يحدث قال أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك يقول في قوله : " منه آيات محكمات " يعني الناسخ الذي يعمل به " وأخر متشابهات " يعني المنسوخ ، يؤمن به ولا يعمل به .

    6584 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سلمة عن الضحاك : " منه آيات محكمات " قال : ما لم ينسخ " وأخر متشابهات " قال : ما قد نسخ .

    وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه " والمتشابه " منها : ما أشبه بعضه بعضا في المعاني ، وإن اختلفت ألفاظه .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 177 ]

    6585 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " منه آيات محكمات " ما فيه من الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو " متشابه " يصدق بعضه بعضا وهو مثل قوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) [ سورة البقرة : 26 ] ، ومثل قوله : ( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) [ سورة الأنعام : 125 ] ، ومثل قوله : ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) [ سورة محمد : 17 ] .

    6586 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

    وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد " والمتشابه " منها : ما احتمل من التأويل أوجها .

    ذكر من قال ذلك :

    6587 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " فيهن حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه " وأخر متشابهات " في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق . [ ص: 178 ]

    وقال آخرون : معنى " المحكم " : ما أحكم الله فيه من آي القرآن ، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم ، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته " والمتشابه " هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور ، بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني .

    ذكر من قال ذلك :

    6588 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد وقرأ : ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) [ سورة هود : 1 ] ، قال : وذكر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربع وعشرين آية منها : وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها . ثم قال : ( تلك من أنباء الغيب ) [ سورة هود : 49 ] ، ثم ذكر ( وإلى عاد ) ، فقرأ حتى بلغ ( واستغفروا ربكم ) ثم مضى . ثم ذكر صالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا وفرغ من ذلك . وهذا تبيين ذلك ، تبيين " أحكمت آياته ثم فصلت " قال : والمتشابه ذكر موسى في أمكنة [ ص: 179 ] كثيرة ، وهو متشابه ، وهو كله معنى واحد . ومتشابه : ( فاسلك فيها ) ( احمل فيها ) ، ( اسلك يدك ) ( أدخل يدك ) ، ( حية تسعى ) ( ثعبان مبين ) قال : ثم ذكر هودا في عشر آيات منها ، وصالحا في ثماني آيات منها ، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى ، ولوطا في ثماني آيات منها ، وشعيبا في ثلاث عشرة آية ، وموسى في أربع آيات ، كل هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة ، فانتهى ذلك إلى مائة آية من سورة هود ، ثم قال : ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ) [ سورة هود : 100 ] . وقال في المتشابه من القرآن : من يرد الله به البلاء والضلالة يقول : ما شأن هذا لا يكون هكذا ؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا ؟

    وقال آخرون : بل " المحكم " من آي القرآن : ما عرف العلماء تأويله ، وفهموا معناه وتفسيره و " المتشابه " : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه ، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدنيا ، وما أشبه ذلك ، فإن ذلك لا يعلمه أحد . وقالوا : إنما سمى الله من آي الكتاب " المتشابه " الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو " الم " و " المص " و " المر " و " الر " وما أشبه ذلك ، لأنهن متشابهات في الألفاظ ، وموافقات حروف حساب الجمل . وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله ، ويعلموا نهاية أكل [ ص: 180 ] محمد وأمته ، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك ، وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها ، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله .

    قال أبو جعفر : وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب : أن هذه الآية نزلت فيه ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته ، في تأويل ذلك في تفسير قوله : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [ سورة البقرة : 2 ]

    قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية . وذلك أن جميع ما أنزل الله - عز وجل - من آي القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنما أنزله عليه بيانا له ولأمته وهدى للعالمين ، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه ، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل . فإذ كان ذلك كذلك ، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة ، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى [ وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة ] وذلك [ ص: 181 ] كقول الله - عز وجل - : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) [ سورة الأنعام : 158 ] ، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن تلك الآية التي أخبر الله - جل ثناؤه - عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك ، هي طلوع الشمس من مغربها . فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته ، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام . فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب ، وأوضحه لهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفسرا . والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه ، هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية ، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا . وذلك هو العلم الذي استأثر الله - جل ثناؤه - به دون خلقه ، فحجبه عنهم . وذلك وما أشبهه ، هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته من قبل قوله : " الم " و " المص " و " الر " و " المر " ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات التي أخبر الله - جل ثناؤه - أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله ، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله .

    فإذ كان المتشابه هو ما وصفنا ، فكل ما عداه فمحكم ؛ لأنه لن يخلو من أن يكون محكما بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد ، وقد استغنى بسماعه عن بيان يبينه أو يكون محكما ، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في [ ص: 182 ] معان كثيرة . فالدلالة على المعنى المراد منه ، إما من بيان الله - تعالى ذكره - عنه ، أو بيان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأمته . ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينا .
    القول في تأويل قوله ( هن أم الكتاب )

    قال أبو جعفر : قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه . ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه ، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله .

    فقال بعضهم : معنى قوله : " هن أم الكتاب " هن اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام ، نحو قولنا الذي قلنا فيه .

    ذكر من قال ذلك :

    6589 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا إسحاق بن سويد عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية : " محكمات هن أم الكتاب " . قال يحيى : هن اللاتي فيهن الفرائض والحدود وعماد الدين وضرب لذلك مثلا فقال : " أم القرى " مكة ، " وأم خراسان " مرو ، " وأم المسافرين " الذي يجعلون إليه أمرهم ، ويعنى بهم في سفرهم ، قال : فذاك أمهم .

    6590 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " هن أم الكتاب " قال : هن جماع الكتاب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #391
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (391)
    صــ 183 إلى صــ 197


    وقال آخرون : بل يعني بذلك فواتح السور التي منها يستخرج القرآن .

    ذكر من قال ذلك :

    6591 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا إسحاق بن سويد عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية : " منه آيات محكمات هن أم الكتاب " قال : " أم الكتاب " فواتح السور ، منها يستخرج القرآن - ( الم ذلك الكتاب ) ، منها استخرجت " البقرة " و ( الم الله لا إله إلا هو ) منها استخرجت " آل عمران " .
    القول في تأويل قوله ( فأما الذين في قلوبهم زيغ )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحراف عنه .

    يقال منه : " زاغ فلان عن الحق ، فهو يزيغ عنه زيغا وزيغانا وزيغوغة وزيوغا " و " أزاغه الله " - إذا أماله - " فهو يزيغه " ومنه قوله - جل ثناؤه - : ( ربنا لا تزغ قلوبنا ) لا تملها عن الحق ( بعد إذ هديتنا ) [ سورة آل عمران : 8 ] . [ ص: 184 ]

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل : -

    ذكر من قال ذلك :

    6592 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال حدثني ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " أي : ميل عن الهدى .

    6593 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : " في قلوبهم زيغ " قال : شك .

    6594 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

    6595 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " قال : من أهل الشك .

    6596 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " أما الزيغ فالشك .

    6597 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد : قال : " زيغ " شك قال ابن جريج : " الذين في قلوبهم زيغ " المنافقون .
    القول في تأويل قوله ( فيتبعون ما تشابه منه )

    قال [ ص: 185 ] أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فيتبعون ما تشابه " ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات ، ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزيغ عن محجة الحق ، تلبيسا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه ، كما : -

    6598 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " فيتبعون ما تشابه منه " فيحملون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبسون ، فلبس الله عليهم .

    6599 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فيتبعون ما تشابه منه " أي : ما تحرف منه وتصرف ، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة .

    6600 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله : " فيتبعون ما تشابه منه " قال : الباب الذي ضلوا منه وهلكوا فيه ابتغاء تأويله .

    وقال آخرون في ذلك بما : [ ص: 186 ]

    6601 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي في قوله : " فيتبعون ما تشابه منه " يتبعون المنسوخ والناسخ فيقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مكان هذه الآية ، فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى ؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نسخت ؟ وما باله يعد العذاب من عمل عملا يعذبه [ في ] النار ، وفي مكان آخر : من عمله فإنه لم يوجب النار ؟

    واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية .

    فقال بعضهم : عني به الوفد من نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاجوه بما حاجوه به ، وخاصموه بأن قالوا : ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته ؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر .

    ذكر من قال ذلك :

    6602 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قال : عمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى نجران - فخاصموا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : بلى ! قالوا : فحسبنا ! فأنزل الله - عز وجل - : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " ثم [ ص: 187 ] إن الله - جل ثناؤه - : أنزل ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) [ سورة آل عمران : 59 ] ، الآية .

    وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب ، وأخيه حيي بن أخطب ، والنفر الذين ناظروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قدر مدة أكله وأكل أمته ، وأرادوا علم ذلك من قبل قوله : " الم و " المص " و " المر " و " الر " فقال الله - جل ثناؤه - فيهم : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " - يعني هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق " فيتبعون ما تشابه منه " يعني : معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات " ابتغاء الفتنة " .

    وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل في أول السورة التي تذكر فيها " البقرة " .

    وقال آخرون : بل عنى الله - عز وجل - بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات ، وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك ، إما في كتابه وإما على لسان رسوله .

    ذكر من قال ذلك :

    6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبائية ، فلا أدري من هم ! ولعمري لقد كان في أهل بدر [ ص: 188 ] والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار خبر لمن استخبر ، وعبرة لمن استعبر ، لمن كان يعقل أو يبصر . إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ كثير بالمدينة والشأم والعراق ، وأزواجه يومئذ أحياء . والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط ، ولا رضوا الذي هم عليه ، ولا مالئوهم فيه ، بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم ونعته الذي نعتهم به ، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ، ويعادونهم بألسنتهم ، وتشتد والله عليهم أيديهم إذا لقوهم . ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع ، ولكنه كان ضلالا فتفرق . وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافا كثيرا . فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل . فهل أفلحوا فيه يوما أو أنجحوا ؟ يا سبحان الله ؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم ؟ لو كانوا على هدى ، قد أظهره الله وأفلجه ونصره ، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه . فهم كما رأيتهم كلما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم ، وأكذب أحدوثتهم ، وأهراق دماءهم . إن كتموا كان قرحا في قلوبهم ، وغما عليهم . وإن أظهروه أهراق الله دماءهم . ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه . والله [ ص: 189 ] إن اليهودية لبدعة ، وإن النصرانية لبدعة ، وإن الحرورية لبدعة ، وإن السبائية لبدعة ، ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي .

    6604 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " طلب القوم التأويل فأخطئوا التأويل وأصابوا الفتنة ، فاتبعوا ما تشابه منه ، فهلكوا من ذلك . لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان وذكر نحو حديث عبد الرزاق عن معمر ، عنه .

    6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى قوله " وما يذكر إلا أولو الألباب " فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم . [ ص: 190 ]

    6606 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة أنها قالت : قرأ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وما يذكر إلا أولو الألباب " قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال : يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله ، فاحذرهم قال مطر عن أيوب أنه قال : فلا تجالسوهم ، فهم الذين عنى الله فاحذروهم . [ ص: 191 ]

    6607 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو معناه .

    6608 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه .

    6609 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرنا الحارث ، عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " الآية كلها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، والذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، أولئك الذين قال الله ، فلا تجالسوهم . [ ص: 192 ]

    6610 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن إبراهيم عن ابن أبي مليكة قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عائشة قالت : تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " ثم قرأ إلى آخر الآيات ، فقال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم .

    6611 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزع رسول الله [ ص: 193 ] - صلى الله عليه وسلم - : " يتبعون ما تشابه منه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد حذركم الله ، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم .

    6612 - حدثنا علي قال : حدثنا الوليد عن نافع بن عمر عن [ ابن أبي مليكة ، حدثتني ] عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتموهم فاحذروهم ، ثم نزع : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " ولا يعملون بمحكمه . [ ص: 194 ]

    6613 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال أخبرنا عمي قال أخبرني شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم .

    6614 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا خالد بن نزار عن نافع عن ابن أبي مليكة عن عائشة في هذه الآية " هو الذي أنزل عليك الكتاب " الآية " يتبعها " يتلوها ، ثم يقول : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم ، فهم الذين عنى الله . [ ص: 195 ]

    6615 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى آخر الآية ، قال : هم الذين سماهم الله ، فإذا أريتموهم فاحذروهم .

    قال أبو جعفر : والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية ، أنها نزلت في الذين جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله ، إما [ ص: 196 ] في أمر عيسى ، وإما في مدة أكله وأكل أمته .

    وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمتشابهه في مدته ومدة أمته أشبه ، لأن قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله " دال على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قبل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله . فأما أمر عيسى وأسبابه ، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، وبينه لهم . فمعلوم أنه لم يعن به إلا ما كان خفيا عن الآجال .
    القول في تأويل قوله ( ابتغاء الفتنة )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : ابتغاء الشرك .

    ذكر من قال ذلك :

    6616 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ابتغاء الفتنة " قال : إرادة الشرك .

    6617 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( ابتغاء الفتنة ) يعني الشرك . [ ص: 197 ]

    وقال آخرون : معنى ذلك : ابتغاء الشبهات .

    ذكر من قال ذلك :

    6618 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ابتغاء الفتنة " قال : الشبهات بها أهلكوا .

    6619 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " ابتغاء الفتنة " الشبهات ، قال : هلكوا به .

    6620 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد : " ابتغاء الفتنة " قال : الشبهات . قال : والشبهات ما أهلكوا به .

    6621 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ابتغاء الفتنة " أي اللبس .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : " إرادة الشبهات واللبس " .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #392
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (392)
    صــ 198 إلى صــ 212



    فمعنى الكلام إذا : فأما الذين في قلوبهم هيل عن الحق وحيف عنه فيتبعون من آي الكتاب ما تشابهت ألفاظه ، واحتمل صرف صارفه في وجوه التأويلات - باحتماله المعاني المختلفة - إرادة اللبس على نفسه وعلى غيره ، احتجاجا به على باطله الذي مال إليه قلبه ، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه . [ ص: 198 ]

    قال أبو جعفر : وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك ، فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله بدعة فمال قلبه إليها ، تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن ، ثم حاج به وجادل به أهل الحق ، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين ، وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك ، كائنا من كان ، وأي أصناف المبتدعة كان من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية ، أو كان سبئيا ، أو حروريا ، أو قدريا ، أو جهميا ، كالذي قال - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا رأيتم الذين يجادلون به ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم " ، وكما : -

    6622 - حدثني يونس قال أخبرنا سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه ، عن ابن عباس - وذكر عنده الخوارج وما يلفون عند القرآن ، فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويهلكون عند متشابهه ! وقرأ ابن عباس : " وما يعلم تأويله إلا الله " الآية .

    قال أبو جعفر : وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله : " ابتغاء الفتنة " لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهل شرك ، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله اللبس على المسلمين ، والاحتجاج به عليهم ، ليصدوهم [ ص: 199 ] عما هم عليه من الحق ، فلا معنى لأن يقال : " فعلوا ذلك إرادة الشرك " وهم قد كانوا مشركين .
    القول في تأويل قوله ( وابتغاء تأويله )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " التأويل " الذي عنى الله - جل ثناؤه - بقوله : " وابتغاء تأويله " .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمر أمته من قبل الحروف المقطعة من حساب الجمل " الم " و " المص " و " الر " و " المر " وما أشبه ذلك من الآجال .

    ذكر من قال ذلك :

    6623 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس أما قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله " يعني تأويله يوم القيامة " إلا الله " .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : " عواقب القرآن " . وقالوا : " إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله - جل ثناؤه - شرعها لأهل الإسلام قبل مجيئه ، فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك " .

    ذكر من قال ذلك :

    6624 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وابتغاء تأويله " أرادوا أن يعلموا تأويل القرآن - وهو عواقبه - قال [ ص: 200 ] الله : " وما يعلم تأويله إلا الله " وتأويله عواقبه متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ ؟

    وقال آخرون : معنى ذلك : " وابتغاء تأويل ما تشابه من آي القرآن ، يتأولونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريف في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزيغ ، وما ركبوه من الضلالة " .

    ذكر من قال ذلك :

    6625 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وابتغاء تأويله " وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم " خلقنا " و " قضينا " .

    قال أبو جعفر : والقول الذي قاله ابن عباس من أن " ابتغاء التأويل " الذي طلبه القوم من المتشابه هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة والذي ذكرنا عن السدي من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هو جاء قبل مجيئه أولى بالصواب ، وإن كان السدي قد أغفل معنى ذلك من وجه صرفه إلى حصره على أن معناه : أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكم قبل ذلك .

    وإنما قلنا : إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم ، بمتشابه آي القرآن - أولى بتأويل قوله : " وابتغاء تأويله " [ ص: 201 ] لما قد دللنا عليه قبل من إخبار الله - جل ثناؤه - أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله . ولا شك أن معنى قوله : " قضينا " " فعلنا " قد علم تأويله كثير من جهلة أهل الشرك فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم .
    القول في تأويل قوله ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : وما يعلم وقت قيام الساعة ، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته ، وما هو كائن ، إلا الله ، دون من سواه من البشر الذين أملوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة . وأما الراسخون في العلم فيقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " - لا يعلمون ذلك ، ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم ، العلم بأن الله هو العالم بذلك دون من سواه من خلقه .

    واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، وهل " الراسخون " معطوف على اسم " الله " ، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه ، أم هم مستأنف ذكرهم ، بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون : آمنا بالمتشابه وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله ؟

    فقال بعضهم : معنى ذلك : وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلمه . وأما الراسخون في العلم ، فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون : آمنا بالمتشابه والمحكم ، وأن جميع ذلك من عند الله .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 202 ]

    6626 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا خالد بن نزار عن نافع عن ابن أبي مليكة عن عائشة قوله : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " قالت : كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه ، ولم يعلموا تأويله .

    6627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : كان ابن عباس يقول : ( وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [ في العلم ] آمنا به )

    6628 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني ابن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة : كان أبي يقول في هذه الآية " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .

    6629 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا عبيد الله عن أبي نهيك الأسدي قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " فيقول : إنكم تصلون هذه الآية ، وإنها مقطوعة : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا . [ ص: 203 ]

    6630 - حدثنا المثنى قال : حدثنا ابن دكين قال : حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : " والراسخون في العلم " انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا " آمنا به كل من عند ربنا " .

    6631 - حدثني يونس قال أخبرنا أشهب عن مالك في قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله " قال : ثم ابتدأ فقال : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " وليس يعلمون تأويله .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .

    ذكر من قال ذلك :

    6632 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله .

    6633 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ، ويقولون : " آمنا به " .

    6634 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " والراسخون في العلم يعلمون تأويله ، ويقولون : " آمنا به " .

    6635 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ويقولون : " آمنا به " .

    6636 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما يعلم تأويله " الذي أراد ، ما أراد " إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " فكيف يختلف ، وهو قول واحد [ ص: 204 ] من رب واحد ؟ ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضا ، فنفذت به الحجة ، وظهر به العذر ، وزاح به الباطل ، ودمغ به الكفر .

    قال أبو جعفر : فمن قال القول الأول في ذلك ، وقال : إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك ، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله ، فإنه يرفع " الراسخين في العلم " بالابتداء في قول البصريين ، ويجعل خبره : " يقولون آمنا به " . وأما في قول بعض الكوفيين ، فبالعائد من ذكرهم في " يقولون " . وفي قول بعضهم : بجملة الخبر عنهم ، وهي : " يقولون " .

    ومن قال القول الثاني ، وزعم أن الراسخين يعلمون تأويله ، عطف ب " الراسخين " على اسم " الله " فرفعهم بالعطف عليه .

    قال أبو جعفر : والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو : " يقولون " لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله - عز وجل - في هذه الآية ، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبي : ( ويقول الراسخون في العلم ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرؤه . وفي قراءة عبد الله : ( إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون ) .

    قال أبو جعفر : وأما معنى " التأويل " في كلام العرب ، فإنه التفسير والمرجع والمصير . وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى : [ ص: 205 ]

    على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا

    وأصله من : " آل الشيء إلى كذا " - إذا صار إليه ورجع " يئول أولا " و " أولته أنا " صيرته إليه . وقد قيل إن قوله : ( وأحسن تأويلا ) [ سورة النساء : 59 \ سورة الإسراء : 35 ] أي جزاء . وذلك أن " الجزاء " هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه .

    ويعني بقوله : " تأول حبها " : تفسير حبها ومرجعه . وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه ، فآل من الصغر إلى العظم ، فلم يزل ينبت حتى أصحب ، فصار قديما ، كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب فصار كبيرا مثل أمه . [ ص: 206 ] وقد ينشد هذا البيت :


    على أنها كانت توابع حبها
    توالي ربعي السقاب فأصحبا


    القول في تأويل قوله ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به )

    قال أبو جعفر : يعني ب " الراسخين في العلم " العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووعوه فحفظوه حفظا ، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شك ولا لبس .

    وأصل ذلك من : " رسوخ الشيء في الشيء " وهو ثبوته وولوجه فيه . يقال منه : " رسخ الإيمان في قلب فلان ، فهو يرسخ رسخا ورسوخا " .

    وقد روي في نعتهم خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما : -

    6637 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال : حدثنا محمد بن عبد الله قال : حدثنا فياض بن محمد الرقي قال : حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من الراسخ في العلم ؟ قال : " من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام به قلبه ، وعف بطنه ، فذلك الراسخ في العلم . [ ص: 207 ]

    6638 - حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا فياض الرقي قال : حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي قال : وكان أدرك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الراسخين في العلم فقال : من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام به قلبه ، وعف بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ في العلم .

    وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنما سمى الله - عز وجل - هؤلاء القوم " الراسخين [ ص: 208 ] في العلم " بقولهم : " آمنا به كل من عند ربنا " .

    ذكر من قال ذلك :

    6639 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، قال : " الراسخون " الذين يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .

    6640 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " والراسخون في العلم " هم المؤمنون ، فإنهم يقولون : " آمنا به " بناسخه ومنسوخه " كل من عند ربنا " .

    6641 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قال ابن عباس قال عبد الله بن سلام : " الراسخون في العلم ) وعلمهم قولهم قال ابن جريج : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " وهم الذين يقولون ( ربنا لا تزغ قلوبنا ) ويقولون : ( ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ) الآية .

    وأما تأويل قوله : " يقولون آمنا به " فإنه يعني أن الراسخين في العلم يقولون : صدقنا بما تشابه من آي الكتاب ، وأنه حق وإن لم نعلم تأويله ، وقد : -

    6642 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سلمة بن نبيط عن الضحاك : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " قال : المحكم والمتشابه .
    [ ص: 209 ] القول في تأويل قوله ( كل من عند ربنا )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " كل من عند ربنا " كل المحكم من الكتاب والمتشابه منه " من عند ربنا " وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - كما : -

    6643 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس في قوله : " كل من عند ربنا " قال : يعني ما نسخ منه وما لم ينسخ .

    6644 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " قالوا : " كل من عند ربنا " آمنوا بمتشابهه ، وعملوا بمحكمه .

    6645 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " كل من عند ربنا " يقولون : المحكم والمتشابه من عند ربنا .

    6646 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " نؤمن بالمحكم وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به ، وهو من عند الله كله .

    6647 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " والراسخون في العلم " يعملون به ، يقولون : نعمل بالمحكم ونؤمن به ، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به ، وكل من عند ربنا . [ ص: 210 ]

    قال أبو جعفر : واختلف أهل العربية في حكم " كل " إذا أضمر فيها . فقال بعض نحويي البصريين : إنما جاز حذف المراد الذي كان معها الذي " الكل " إليه مضاف في هذا الموضع ، لأنها اسم ، كما قال : ( إنا كل فيها ) [ سورة غافر : 48 ] ، بمعنى : إنا كلنا فيها . قال : ولا يكون " كل " مضمرا فيها وهي صفة ، لا يقال : " مررت بالقوم كل " وإنما يكون فيها مضمر إذا جعلتها اسما . لو كان : " إنا كلا فيها " على الصفة لم يجز ، لأن الإضمار فيها ضعيف لا يتمكن في كل مكان .

    وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفة أو اسم سواء . لأنه غير جائز أن يحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر ، وغير جائز أن تكون كافية منه في حال ، ولا تكون كافية في أخرى . وقال : سبيل " الكل " و " البعض " في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه بمعنى واحد في كل حال ، صفة كانت أو اسما .

    قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أولى بالقياس ؛ لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حال لدلالتها عليها ، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها فهي كافية منه .
    [ ص: 211 ] القول في تأويل قوله ( وما يذكر إلا أولو الألباب ( 7 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به إلا أولو العقول والنهى ، وقد : -

    6648 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما يذكر إلا أولو الألباب " يقول : وما يذكر في مثل هذا يعني في رد تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم ، حتى يتسقا على معنى واحد " إلا أولو الألباب " .
    القول في تأويل قوله ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ( 8 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : أن الراسخين في العلم يقولون : آمنا بما تشابه من آي كتاب الله ، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه . ويقولون أيضا : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " يعني أنهم يقولون رغبة منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الذي لا يعلمه غير الله : يا ربنا ، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك " لا تزغ قلوبنا " [ ص: 212 ] لا تملها فتصرفها عن هداك بعد إذ هديتنا له ، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه " وهب لنا " يا ربنا " من لدنك رحمة " يعني : من عندك رحمة ، يعني بذلك : هب لنا من عندك توفيقا وثباتا للذي نحن عليه من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه " إنك أنت الوهاب " يعني : إنك أنت المعطي عبادك التوفيق والسداد للثبات على دينك ، وتصديق كتابك ورسلك ، كما : -

    6649 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " أي : لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا " وهب لنا من لدنك رحمة " .

    قال أبو جعفر : وفي مدح الله - جل ثناؤه - هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم ، وأن يعطيهم رحمة منه معونة لهم للثبات على ما هم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون ما أبان عن خطأ قول الجهلة من القدرية : أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها جور . لأن ذلك لو كان كما قالوا ، لكان الذين قالوا : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " بالذم أولى منهم بالمدح . لأن القول لو كان كما قالوا ، لكان القوم إنما سألوا ربهم بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم أن لا يظلمهم ولا يجور عليهم . وذلك من السائل جهل ، لأن الله - جل ثناؤه - لا يظلم عباده ولا يجور عليهم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #393
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (393)
    صــ 213 إلى صــ 227


    وقد أعلم عباده ذلك ونفاه عن نفسه بقوله : [ ص: 213 ] ( وما ربك بظلام للعبيد ) [ سورة فصلت : 46 ] . ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها . وفي فساد ما قالوا من ذلك الدليل الواضح على أن عدلا من الله - عز وجل - إزاغة من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته ، فلذلك استحق المدح من رغب إليه في أن لا يزيغه ، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها ، ووضعه مسألته موضعها ، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برغبته إلى ربه في ذلك ، مع محله منه وكرامته عليه .

    6650 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ! ثم قرأ : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " إلى آخر الآية .

    6651 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أسماء ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحوه . [ ص: 214 ]

    6652 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال : حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ! قالت : قلت : يا رسول الله ، وإن القلب ليقلب ؟ قال : نعم ، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه ، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه ، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : بلى; قولي : اللهم رب النبي محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن . [ ص: 215 ]

    6653 - حدثني محمد بن منصور الطوسي قال : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري قال : حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . فقال له بعض أهله : يخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به ؟ ! قال : إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى ، يقول بهما هكذا وحرك أبو أحمد إصبعيه قال أبو جعفر : وإن الطوسي وسق بين إصبعيه . [ ص: 216 ]

    6654 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا أبو معاوية قال : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن أنس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قلنا : يا رسول الله ، قد آمنا بك ، وصدقنا بما جئت به ، فيخاف علينا ؟ ! قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله ، يقلبها تبارك وتعالى . [ ص: 217 ]

    6655 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا بشر بن بكر وحدثني علي بن سهل قال : حدثنا أيوب بن بشر جميعا ، عن ابن جابر قال : سمعت بسر بن عبيد الله قال سمعت أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النواس بن سمعان الكلابي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن : إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك - والميزان بيد الرحمن ، يرفع أقواما ويخفض آخرين إلى يوم القيامة . [ ص: 218 ]

    6656 - حدثني عمر بن عبد الملك الطائي قال : حدثنا محمد بن عبيدة قال : حدثنا الجراح بن مليح البهراني عن الزبيدي عن جويبر عن سمرة بن فاتك الأسدي - وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الموازين بيد الله ، يرفع أقواما ويضع أقواما ، وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه . [ ص: 219 ]

    6657 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال أخبرنا ابن المبارك عن [ ص: 220 ] حيوة بن شريح قال أخبرني أبو هانئ الخولاني : أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرف كيف يشاء . ثم يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك .

    6658 - حدثنا الربيع بن سليمان قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال : حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم ثبت قلبي على دينك . قالت : قلت : يا رسول الله ، وإن القلوب لتقلب ؟ قال : نعم ، ما من خلق الله من بني آدم بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله ، إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه ، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب .
    [ ص: 221 ] القول في تأويل قوله ( ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ( 9 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - أنهم يقولون أيضا مع قولهم : آمنا بما تشابه من آي كتاب ربنا ، كل المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا : يا ربنا " إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد " .

    وهذا من الكلام الذي استغني بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره . وذلك أن معنى الكلام : ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة ، فاغفر لنا يومئذ واعف عنا ، فإنك لا تخلف وعدك : أن من آمن بك ، واتبع رسولك ، وعمل بالذي أمرته به في كتابك ، أنك غافره يومئذ .

    وإنما هذا من القوم مسألة ربهم أن يثبتهم على ما هم عليه من حسن بصيرتهم ، بالإيمان بالله ورسوله ، وما جاءهم به من تنزيله ، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم ، فإنه إذا فعل ذلك بهم ، وجبت لهم الجنة ، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عباده أنه يدخله الجنة .

    فالآية وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر ، فإن تأويلها من القوم مسألة ودعاء ورغبة إلى ربهم .

    وأما معنى قوله : " ليوم لا ريب فيه " فإنه : لا شك فيه . وقد بينا ذلك بالأدلة على صحته فيما مضى قبل . [ ص: 222 ]

    ومعنى قوله : " ليوم " في يوم . وذلك يوم يجمع الله فيه خلقه لفصل القضاء بينهم في موقف العرض والحساب .

    " والميعاد " " المفعال " من " الوعد " .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار ( 10 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " إن الذين كفروا " إن الذين جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم الذين في قلوبهم زيغ فهم يتبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا " يعني بذلك أن أموالهم وأولادهم لن تنجيهم من عقوبة الله إن أحلها بهم - عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تبينهم واتباعهم المتشابه طلب اللبس - فتدفعها عنهم ، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئا ، وهم في الآخرة " وقود النار " يعني بذلك حطبها .
    [ ص: 223 ] القول في تأويل قوله ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ( 11 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا عند حلول عقوبتنا بهم ، كسنة آل فرعون وعادتهم " والذين من قبلهم " من الأمم الذين كذبوا بآياتنا ، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا ، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا حين جاءهم بأسنا ، كالذين عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربهم من قبل آل فرعون : من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم .

    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " كدأب آل فرعون " .

    فقال بعضهم : معناه : كسنتهم .

    ذكر من قال ذلك :

    6659 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " كدأب آل فرعون " يقول : كسنتهم .

    وقال بعضهم : معناه : كعملهم .

    ذكر من قال ذلك :

    6660 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان [ ص: 224 ] وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان جميعا ، عن جويبر عن الضحاك : " كدأب آل فرعون " قال : كعمل آل فرعون .

    6661 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا جويبر عن الضحاك في قوله : " كدأب آل فرعون " قال : كعمل آل فرعون .

    6662 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " كدأب آل فرعون " قال : كفعلهم ، كتكذيبهم حين كذبوا الرسل وقرأ قول الله : ( مثل دأب قوم نوح ) [ سورة غافر : 31 ] ، أن يصيبكم مثل الذي أصابهم عليه من عذاب الله . قال : الدأب العمل .

    6663 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح عن أبي حمزة عن جابر عن عكرمة ومجاهد في قوله : " كدأب آل فرعون " قال : كفعل آل فرعون ، كشأن آل فرعون .

    6664 - حدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله : " كدأب آل فرعون " قال : كصنع آل فرعون .

    وقال آخرون : معنى ذلك : كتكذيب آل فرعون .

    ذكر من قال ذلك :

    6665 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم " ذكر الذين كفروا وأفعال تكذيبهم ، كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب .

    قال أبو جعفر : وأصل " الدأب " من : " دأبت في الأمر دأبا " إذا أدمنت [ ص: 225 ] العمل والتعب فيه . ثم إن العرب نقلت معناه إلى الشأن ، والأمر ، والعادة ، كما قال امرؤ القيس بن حجر :


    وإن شفائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول كدأبك من أم الحويرث قبلها
    وجارتها أم الرباب بمأسل

    يعني بقوله : " كدأبك " كشأنك وأمرك وفعلك . يقال منه : " هذا دأبي ودأبك أبدا " . يعني به فعلي وفعلك ، وأمري وأمرك ، وشأني وشأنك ، يقال منه : " دأبت دؤوبا ودأبا " . وحكي عن العرب سماعا : " دأبت دأبا " مثقلة محركة الهمزة ، كما قيل : " هذا شعر ، ونهر " فتحرك ثانيه لأنه حرف من الحروف الستة ، فألحق " الدأب " إذ كان ثانيه من الحروف الستة ، كما قال الشاعر :


    له نعل لا تطبي الكلب ريحها وإن وضعت بين المجالس شمت


    وأما قوله : " والله شديد العقاب " فإنه يعني به : والله شديد عقابه لمن كفر به وكذب رسله بعد قيام الحجة عليه .
    [ ص: 226 ] القول في تأويل قوله ( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ( 12 ) )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في ذلك .

    فقرأه بعضهم : ( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون ) بالتاء ، على وجه الخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون . واحتجوا لاختيارهم قراءة ذلك بالتاء بقوله : ( قد كان لكم آية في فئتين ) . قالوا : ففي ذلك دليل على أن قوله : " ستغلبون " كذلك ، خطاب لهم . وذلك هو قراءة عامة قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين . وقد يجوز لمن كانت نيته في هذه الآية : أن الموعودين بأن يغلبوا ، هم الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول ذلك لهم أن يقرأه بالياء والتاء . لأن الخطاب بالوحي حين نزل لغيرهم ، فيكون نظير قول القائل في الكلام : " قلت للقوم : إنكم مغلوبون " و " قلت لهم : إنهم مغلوبون " . وقد ذكر أن في قراءة عبد الله : ( " قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم " ) [ سورة الأنفال : 38 ] ، وهي في قراءتنا : ( إن ينتهوا يغفر لهم ) .

    وقرأت ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( سيغلبون ويحشرون ) ، على معنى : قل لليهود : سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلى جهنم . ومن قرأ ذلك [ ص: 227 ] كذلك على هذا التأويل ، لم يجز في قراءته غير الياء .

    قال أبو جعفر : والذي نختار من القراءة في ذلك قراءة من قرأه بالتاء ، بمعنى : قل يا محمد للذين كفروا من يهود بني إسرائيل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إليك ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله : " ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " .

    وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك ، على قراءته بالياء ، لدلالة قوله : ( قد كان لكم آية في فئتين ) ، على أنهم بقوله : " ستغلبون " مخاطبون خطابهم بقوله : " قد كان لكم " فكان إلحاق الخطاب بمثله من الخطاب أولى من الخطاب بخلافه من الخبر عن غائب .

    وأخرى أن : -

    6666 - أبا كريب حدثنا قال : حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا يوم بدر فقدم المدينة ، جمع يهود في سوق بني قينقاع . فقال : يا معشر يهود ، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا ! فقالوا : يا محمد ، لا تغرنك نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تأت مثلنا ! ! فأنزل الله - عز وجل - في ذلك من قولهم : " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " إلى قوله : " لأولي الأبصار " .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #394
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (394)
    صــ 228 إلى صــ 242


    [ ص: 228 ]

    6667 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال : لما أصاب الله قريشا يوم بدر ، جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود في سوق بني قينقاع حين قدم المدينة ثم ذكر نحو حديث أبي كريب عن يونس .

    6668 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعهم بسوق بني قينقاع ، ثم قال : يا معشر اليهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم ! فقالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا كقومك ! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة ! إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس .

    6669 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال : ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم : " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " إلى " لأولي الأبصار " .

    6670 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن عكرمة في قوله : " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " قال فنحاص اليهودي في يوم بدر : لا يغرن محمدا أن غلب قريشا وقتلهم ! إن قريشا لا تحسن القتال ! فنزلت هذه الآية : " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " . [ ص: 229 ]

    قال أبو جعفر : فكل هذه الأخبار تنبئ عن أن المخاطبين بقوله : " ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " هم اليهود المقول لهم : " قد كان لكم آية في فئتين " الآية - وتدل على أن قراءة ذلك بالتاء ، أولى من قراءته بالياء .

    ومعنى قوله : " وتحشرون " وتجمعون ، فتجلبون إلى جهنم .

    وأما قوله : " وبئس المهاد " وبئس الفراش جهنم التي تحشرون إليها . وكان مجاهد يقول كالذي : -

    6671 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " وبئس المهاد " قال : بئسما مهدوا لأنفسهم .

    6672 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
    القول في تأويل قوله ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : قل ، يا محمد ، للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك : " قد كان لكم آية " يعني : علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون وعبرة ، كما : -

    6673 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : [ ص: 230 ] " قد كان لكم آية " عبرة وتفكر .

    6674 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع مثله إلا أنه قال : ومتفكر .

    " في فئتين " يعني : في فرقتين وحزبين و " الفئة " الجماعة من الناس . " التقتا " للحرب ، وإحدى الفئتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر ، والأخرى مشركو قريش .

    " فئة تقاتل في سبيل الله " جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه ، وهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " وأخرى كافرة " وهم مشركو قريش ، كما : -

    6675 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله " أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر " وأخرى كافرة " فئة قريش الكفار .

    6676 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس مثله .

    6677 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن [ ص: 231 ] جريج عن عكرمة : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله " محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " وأخرى كافرة " قريش يوم بدر .

    6678 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " قد كان لكم آية في فئتين " قال : في محمد وأصحابه ، ومشركي قريش يوم بدر .

    6679 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

    6680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله " قال : ذلك يوم بدر ، التقى المسلمون والكفار .

    قال أبو جعفر : ورفعت : " فئة تقاتل في سبيل الله " وقد قيل قبل ذلك : " في فئتين " بمعنى : إحداهما تقاتل في سبيل الله - على الابتداء ، كما قال الشاعر :

    فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت [ ص: 232 ]

    وكما قال ابن مفرغ :

    فكنت كذي رجلين : رجل صحيحة
    ورجل بها ريب من الحدثان فأما التي صحت فأزد شنوءة ،
    وأما التي شلت فأزد عمان

    وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه ، إذا كان مع المكرر خبر ترده على إعراب الأول مرة ، وتستأنفه ثانية بالرفع ، وتنصبه في التام من الفعل والناقص ، وقد جر ذلك كله ، فخفض على الرد على أول الكلام ، كأنه يعني إذا خفض ذلك : فكنت كذلك رجلين : كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة . وكذلك الخفض في قوله : " فئة " جائز على الرد على قوله : " في فئتين التقتا " في فئة تقاتل في سبيل الله .

    وهذا وإن كان جائزا في العربية ، فلا أستجيز القراءة به ، لإجماع الحجة من القرأة على خلافه . ولو كان قوله : " فئة " جاء نصبا ، كان جائزا أيضا على قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا " مختلفتين .

    [ ص: 233 ] القول في تأويل قوله ( يرونهم مثليهم رأي العين )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته قرأة أهل المدينة : ( ترونهم ) بالتاء ، بمعنى : قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، والأخرى كافرة ، ترون المشركين مثلي المسلمين رأي العين . يريد بذلك عظتهم ، يقول : إن لكم عبرة ، أيها اليهود ، فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين ، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم .

    وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين : ( يرونهم مثليهم ) بالياء ، بمعنى : يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدر . فتأويل الآية على قراءتهم : قد كان لكم ، يا معشر اليهود ، عبرة ومتفكر في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم هؤلاء المشركين في كثرة عددهم .

    فإن قال قائل : وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء ؟ وأي الفئتين رأت صاحبتها مثليها ؟ الفئة المسلمة هي التي رأت المشركة مثليها ، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك ، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك ؟

    قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك .

    فقال بعضهم : الفئة التي رأت الأخرى مثلي أنفسها الفئة المسلمة رأت عدد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة ، قللها الله - عز وجل - في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها ، ثم قللها في حال أخرى فرأتها مثل عدد أنفسها . [ ص: 234 ]

    ذكر من قال ذلك :

    6681 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره ، عن مرة الهمداني عن ابن مسعود : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " قال : هذا يوم بدر . قال عبد الله بن مسعود : قد نظرنا إلى المشركين ، فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ، وذلك قول الله - عز وجل - : ( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ) [ سورة الأنفال : 44 ]

    فمعنى الآية على هذا التأويل : قد كان لكم ، يا معشر اليهود ، آية في فئتين التقتا : إحداهما مسلمة والأخرى كافرة ، كثير عدد الكافرة ، قليل عدد المسلمة ، ترى الفئة القليل عددها الكثير عددها أمثالا أنها إنما تكثر من العدد بمثل واحد ، فهم يرونهم مثليهم . فيكون أحد المثلين عند ذلك : العدد الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم ، والمثل الآخر الضعف الزائد على عددهم . فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله - عز وجل - المؤمنين أنه قللهم في أعينهم .

    والمعنى الآخر منه : التقليل الثاني ، على ما قاله ابن مسعود : وهو أن أراهم عدد المشركين مثل عددهم ، لا يزيدون عليهم . فذلك التقليل الثاني الذي قال الله - جل ثناؤه - : ( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ) .

    وقال آخرون من أهل هذه المقالة : إن الذين رأوا المشركين مثلي أنفسهم ، هم [ ص: 235 ] المسلمون . غير أن المسلمين رأوهم على ما كانوا به من عددهم لم يقللوا في أعينهم ، ولكن الله أيدهم بنصره . قالوا : ولذلك قال الله - عز وجل - لليهود : قد كان لكم فيهم عبرة ، يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم مثل الذي أحل بأهل بدر على أيديهم .

    ذكر من قال ذلك :

    6682 - حدثنا محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " أنزلت في التخفيف يوم بدر ، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وكان المشركون مثليهم ، فأنزل الله عز وجل : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " وكان المشركون ستة وعشرين وستمائة ، فأيد الله المؤمنين . فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين .

    قال أبو جعفر : وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر . وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين .

    فقال بعضهم : كان عددهم ألفا وقال بعضهم : ما بين التسعمائة إلى الألف .

    ذكر من قال : " كان عددهم ألفا " .

    6683 - حدثني هارون بن إسحاق الهمداني قال : حدثنا مصعب بن المقدام قال : حدثنا إسرائيل قال : حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي قال : سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر ، فسبقنا المشركين إليها ، فوجدنا فيها رجلين ، منهم ، رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط . فأما القرشي فانفلت ، وأما مولى [ ص: 236 ] عقبة فأخذناه ، فجعلنا نقول : كم القوم ؟ فيقول : هم والله كثير شديد بأسهم ! فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه ، حتى انتهوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : كم القوم ؟ فقال : هم والله كثير شديد بأسهم ! فجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يخبره كم هم ، فأبى . ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله : " كم ينحرون من الجزر ؟ قال : عشرة كل يوم . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : القوم ألف .

    6684 - حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي قال : حدثنا إسحاق بن منصور عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين - يوم بدر ، فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا .

    ذكر من قال : " كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف " :

    6685 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - نفرا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ، فأصابوا راوية من قريش : فيها أسلم ، غلام بني الحجاج ، وعريض أبو يسار غلام بني العاص . فأتوا بهما [ ص: 237 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهما : كم القوم ؟ قالا كثير ! قال : ما عدتهم ؟ قالا لا ندري ! قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا يوما تسعا ، ويوما عشرا . قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : القوم ما بين التسعمائة إلى الألف .

    6686 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " ذلكم يوم بدر ، ألف المشركون أو قاربوا ، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا .

    6687 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة " إلى قوله : " رأي العين " قال : يضعفون عليهم ، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ، يوم بدر .

    6688 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " قال : كان ذلك يوم بدر ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، وكان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وثلاثة عشر .

    6689 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وبضعة عشر ، والمشركون ما بين التسعمائة إلى الألف . [ ص: 238 ]

    قال أبو جعفر : فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر . فإذ كان ما قاله من حكينا قوله - ممن ذكر أن عددهم كان زائدا على التسعمائة - [ صحيحا ] ، فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود ، أولى بتأويل الآية .

    وقال آخرون : كان عدد المشركين زائدا على التسعمائة ، فرأى المسلمون عددهم على غير ما كانوا به من العدد . وقالوا : أرى الله المسلمين عدد المشركين قليلا آية للمسلمين . قالوا : وإنما عنى الله - عز وجل - بقوله : " يرونهم مثليهم " المخاطبين بقوله : " قد كان لكم آية في فئتين " . قالوا : وهم اليهود ، غير أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب ، لأنه أمر من الله - جل ثناؤه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ذلك لهم ، فحسن أن يخاطب مرة ، ويخبر عنهم على وجه الخبر مرة أخرى ، كما قال : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) [ سورة يونس : 22 ]

    وقالوا : فإن قال لنا قائل : فكيف قيل : " يرونهم مثليهم رأي العين " وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين ؟

    قلنا لهم : كما يقول القائل وعنده عبد : " أحتاج إلى مثله " فأنت محتاج إليه وإلى مثله ، ثم يقول : " أحتاج إلى مثليه " فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله ، وإلى مثلي ذلك المثل . وكما يقول الرجل : " معي ألف وأحتاج [ ص: 239 ] إلى مثليه " . فهو محتاج إلى ثلاثة . فلما نوى أن يكون " الألف " داخلا في معنى " المثل " صار " المثل " اثنين ، والاثنان ثلاثة . قال : ومثله في الكلام : " أراكم مثلكم " كأنه قال : أراكم ضعفكم " وأراكم مثليكم " . يعني : أراكم ضعفيكم . قالوا : فهذا على معنى ثلاثة أمثالهم .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة المسلمة مثلي عددهم .

    وهذا أيضا خلاف ما دل عليه ظاهر التنزيل ؛ لأن الله - جل ثناؤه - قال في كتابه : ( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ) [ سورة الأنفال : 44 ] ، فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الأخرى .

    قال أبو جعفر : وقرأ آخرون ذلك : ( ترونهم ) بضم التاء ، بمعنى : يريكموهم الله مثليهم .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه القراءات بالصواب قراءة من قرأ : " يرونهم " بالياء ، بمعنى : وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم - يعني : مثلي عدد [ ص: 240 ] المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال ، فكان حزرهم إياهم كذلك ، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول ، فحزروهم مثل عدد المسلمين ، ثم تقليلا ثالثا ، فحزروهم أقل من عدد المسلمين ، كما : -

    6690 - حدثني أبو سعيد البغدادي قال : حدثنا إسحاق بن منصور عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا .

    وقد روي عن قتادة أنه كان يقول : لو كانت : " ترونهم " لكانت " مثليكم " .

    6691 - حدثني المثنى قال حدثني عبد الرحمن بن أبي حماد عن ابن المبارك عن معمر عن قتادة بذلك .

    قال أبو جعفر : ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ، ما أبان عن اختلاف حزر المسلمين يومئذ عدد المشركين في الأوقات المختلفة ، فأخبر الله - عز وجل - - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين - اليهود ، على [ ص: 241 ] ما كان به عندهم ، مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين إعلاما منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره ، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم ، وليحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين ، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدر .

    وأما قوله : " رأي العين " فإنه مصدر " رأيته " يقال : " رأيته رأيا ورؤية " و " رأيت في المنام رؤيا حسنة " غير مجراة . يقال : " هو مني رأي العين ، ورئاء العين " بالنصب والرفع ، يراد : حيث يقع عليه بصري ، وهو من " الرأي " مثله . و " القوم رئاء " إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا .

    فمعنى ذلك : يرونهم - حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم - مثليهم .
    [ ص: 242 ] القول في تأويل قوله ( والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ( 13 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " والله يؤيد " يقوي " بنصره من يشاء " .

    من قول القائل : " قد أيدت فلانا بكذا " إذا قويته وأعنته " فأنا أؤيده تأييدا " . و " فعلت " منه : " إدته فأنا أئيده أيدا " ومنه قول الله - عز وجل - : ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد ) [ سورة ص : 17 ] ، يعني : ذا القوة .

    قال أبو جعفر : وتأويل الكلام : قد كان لكم يا معشر اليهود ، في فئتين التقتا ، إحداهما تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم ، فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم ، على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم - معتبر ومتفكر ، والله يقوي بنصره من يشاء .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #395
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (395)
    صــ 243 إلى صــ 257


    [ ص: 243 ] وقال - جل ثناؤه - " إن في ذلك " يعني : إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم : من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها ، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها " لعبرة " يعني : لمتفكرا ومتعظا لمن عقل وادكر فأبصر الحق ، كما : -

    6692 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " يقول : لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر ، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم .

    6693 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع مثله .
    القول في تأويل قوله ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة )

    قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - : زين للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عد . وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثروا الدنيا وحب الرياسة فيها ، على اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد علمهم بصدقه .

    وكان الحسن يقول : من زينها ما أحد أشد لها ذما من خالقها !!

    6694 - حدثني بذلك أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا أبو الأشعث عنه . [ ص: 244 ]

    6695 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن عطاء عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال قال عمر : لما نزل : " زين للناس حب الشهوات " قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا ! فنزلت : ( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) [ سورة آل عمران : 15 ] ، الآية .

    وأما " القناطير " فإنها جمع " القنطار " .

    واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار .

    فقال بعضهم : هو ألف ومئتا أوقية .

    ذكر من قال ذلك :

    6696 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن أبي حصين عن سالم بن أبي الجعد عن معاذ بن جبل قال : القنطار : ألف ومئتا أوقية .

    6697 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو بكر بن عياش قال : حدثنا أبو حصين عن سالم بن أبي الجعد عن معاذ مثله .

    6698 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرنا - يعني حفص بن ميسرة - عن أبي مروان عن أبي طيبة عن ابن عمر قال : القنطار ألف ومئتا أوقية .

    6699 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا القاسم بن مالك المزني قال أخبرني العلاء بن المسيب عن عاصم بن أبي النجود قال : القنطار ألف ومئتا أوقية .

    6700 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة مثله . [ ص: 245 ]

    6701 - حدثني زكريا بن يحيى الضرير قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبى ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : القنطار ألف أوقية ومئتا أوقية .

    وقال آخرون : القنطار ألف دينار ومئتا دينار .

    ذكر من قال ذلك :

    6702 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا يونس عن الحسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القنطار ألف ومئتا دينار . [ ص: 246 ]

    6703 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا يونس عن الحسن قال : القنطار : ألف ومئتا دينار .

    6704 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثنا أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : القنطار ألف ومئتا دينار ، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال .

    6705 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : " القناطير المقنطرة " يعني : المال الكثير من الذهب والفضة ، والقنطار ألف ومئتا دينار ، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال .

    وقال آخرون : القنطار اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار .

    ذكر من قال ذلك :

    6706 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : القنطار اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار .

    6707 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال : القنطار ألف دينار ، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم .

    6708 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن : أن القنطار اثنا عشر ألفا .

    6709 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال أخبرنا عوف عن الحسن : القنطار اثنا عشر ألفا . [ ص: 247 ]

    6710 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا . . . . . . . . قال أخبرنا عوف عن الحسن : اثنا عشر ألفا .

    6711 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن بمثله .

    6712 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هشيم عن عوف عن الحسن قال : القنطار ألف دينار ، دية أحدكم .

    وقال آخرون : هو ثمانون ألفا من الدراهم ، أو مائة رطل من الذهب .

    ذكر من قال ذلك :

    6713 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان التيمي عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : القنطار ثمانون ألفا .

    6714 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هشيم عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : القنطار ثمانون ألفا .

    6715 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من ذهب ، أو ثمانون ألفا من الورق .

    6716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة قال : القنطار مائة رطل من ذهب ، أو ثمانون ألف درهم من ورق .

    6717 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان عن إسماعيل ، عن أبي صالح قال : القنطار مائة رطل .

    6718 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن [ ص: 248 ] السدي : القنطار يكون مائة رطل ، وهو ثمانية آلاف مثقال .

    وقال آخرون : القنطار سبعون ألفا .

    ذكر من قال ذلك :

    6719 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : " القناطير المقنطرة " قال : القنطار : سبعون ألف دينار .

    6720 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

    6721 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا عمر بن حوشب قال سمعت عطاء الخراساني قال : سئل ابن عمر عن القنطار فقال : سبعون ألفا .

    وقال آخرون : هي ملء مسك ثور ذهبا .

    ذكر من قال ذلك :

    6722 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا سالم بن نوح قال : حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال : ملء مسك ثور ذهبا .

    6723 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا أبو الأشعث عن أبي نضرة : ملء مسك ثور ذهبا . [ ص: 249 ]

    وقال آخرون : هو المال الكثير .

    ذكر من قال ذلك :

    6724 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : " القناطير المقنطرة " المال الكثير ، بعضه على بعض .

    وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب : أن العرب لا تحد القنطار بمقدار معلوم من الوزن ، ولكنها تقول : " هو قدر وزن " .

    قال أبو جعفر : وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك ، لأن ذلك لو كان محدودا قدره عندها ، لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف .

    قال أبو جعفر : فالصواب في ذلك أن يقال : هو المال الكثير ، كما قال الربيع بن أنس ، ولا يحد قدر وزنه بحد على تعسف . وقد قيل ما قيل مما روينا .

    وأما " المقنطرة " فهي المضعفة ، وكأن " القناطير " ثلاثة ، و " المقنطرة " تسعة . وهو كما قال الربيع بن أنس : المال الكثير بعضه على بعض ، كما : -

    6725 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " القناطير المقنطرة من الذهب والفضة " والمقنطرة المال الكثير بعضه على بعض . [ ص: 250 ]

    6726 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله : " القناطير المقنطرة " يعني : المال الكثير من الذهب والفضة .

    وقال آخرون : معنى " المقنطرة " : المضروبة دراهم أو دنانير .

    ذكر من قال ذلك :

    6727 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما قوله : " المقنطرة " فيقول : المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم .

    وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " وآتيتم إحداهن قنطارا " - خبر لو صح سنده ، لم نعده إلى غيره . وذلك ما : -

    6728 - حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي قال حدثني عمرو بن أبي سلمة قال : حدثنا زهير بن محمد قال حدثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) [ سورة النساء : 20 ] ، قال : ألفا مئين يعني ألفين .
    [ ص: 251 ] القول في تأويل قوله ( والخيل المسومة )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " المسومة " .

    فقال بعضهم : هي الراعية .

    ذكر من قال ذلك :

    6729 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن حبيب بن [ ص: 252 ] أبي ثابت عن سعيد بن جبير : " الخيل المسومة " قال : الراعية ، التي ترعى .

    6730 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير ، مثله .

    6731 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير مثله .

    6732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير : هي الراعية ، يعني : السائمة .

    6733 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن طلحة القناد قال سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول : الراعية .

    6734 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " والخيل المسومة " . قال : الراعية .

    6735 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن ، : " والخيل المسومة " : المسرحة في الرعي .

    6736 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " والخيل المسومة ، قال : الخيل الراعية .

    6737 - حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن ليث عن مجاهد : أنه كان يقول : الخيل الراعية .

    وقال آخرون : " المسومة " : الحسان .

    ذكر من قال ذلك :

    6738 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن حبيب قال : قال مجاهد : " المسومة " المطهمة .

    6739 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد في قوله : " والخيل المسومة " قال : المطهمة الحسان . [ ص: 253 ]

    6740 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " والخيل المسومة " قال : المطهمة حسنا .

    6741 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

    6742 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان عن حبيب عن مجاهد : المطهمة .

    6743 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال : سألت عكرمة عن " الخيل المسومة " قال : تسويمها ، حسنها .

    6744 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال : سمعت عكرمة يقول : " الخيل المسومة " قال : تسويمها : الحسن .

    6745 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " الخيل المسومة والأنعام " الرائعة .

    وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غير موسى قال : الراعية .

    وقال آخرون : " الخيل المسومة " المعلمة . [ ص: 254 ]

    ذكر من قال ذلك :

    6746 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " والخيل المسومة " يعني : المعلمة .

    6747 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " والخيل المسومة " وسيماها شيتها .

    6748 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " والخيل المسومة " قال : شية الخيل في وجوهها .

    وقال غيرهم : " المسومة " المعدة للجهاد .

    ذكر من قال ذلك :

    6749 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " والخيل المسومة " قال : المعدة للجهاد .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " والخيل المسومة " المعلمة بالشيات ، الحسان ، الرائعة حسنا من رآها . لأن " التسويم " في كلام العرب : هو الإعلام . فالخيل الحسان معلمة بإعلام الله إياها بالحسن من ألوانها وشياتها وهيئاتها ، وهي " المطهمة " أيضا . ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل :

    بضمر كالقداح مسومات عليها معشر أشباه جن

    [ ص: 255 ]

    يعني ب " المسومات " المعلمات ، وقول لبيد :

    وغداة قاع القرنتين أتينهم
    زجلا يلوح خلالها التسويم

    فمعنى تأويل من تأول ذلك : " المطهمة ، والمعلمة ، والرائعة " واحد .

    وأما قول من تأوله بمعنى الراعية ، فإنه ذهب إلى قول القائل : " أسمت الماشية فأنا أسيمها إسامة " إذا رعيتها الكلأ والعشب ، كما قال الله [ ص: 256 ] - عز وجل - : ( ومنه شجر فيه تسيمون ) [ سورة النحل : 10 ] ، بمعنى : ترعون ، ومنه قول الأخطل :

    مثل ابن بزعة أو كآخر مثله
    أولى لك ابن مسيمة الأجمال !

    يعني بذلك راعية الأجمال . فإذا أريد أن الماشية هي التي رعت ، قيل : " سامت الماشية تسوم سوما " ولذلك قيل : " إبل سائمة " بمعنى راعية ، غير أنه غير مستفيض في كلامهم : " سومت الماشية " بمعنى أرعيتها ، وإنما يقال إذا أريد ذلك : " أسمتها " . [ ص: 257 ]

    فإذ كان ذلك كذلك ، فتوجيه تأويل " المسومة " إلى أنها " المعلمة " بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها أصح .

    وأما الذي قاله ابن زيد : من أنها المعدة في سبيل الله ، فتأويل من معنى " المسومة " بمعزل .
    القول في تأويل قوله ( والأنعام والحرث )

    قال أبو جعفر : ف " الأنعام " جمع " نعم " وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه : من الضأن والمعز والبقر والإبل .

    وأما " الحرث " فهو الزرع .

    وتأويل الكلام : زين للناس حب الشهوات من النساء ، ومن البنين ، ومن كذا ، ومن كذا ، ومن الأنعام والحرث .
    القول في تأويل قوله ( ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ( 14 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " ذلك " جميع ما ذكر في هذه الآية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة [ ص: 258 ] والأنعام والحرث . فكنى بقوله : " ذلك " عن جميعهن . وهذا يدل على أن " ذلك " يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني ، ويكنى به عن جميع ذلك .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #396
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (396)
    صــ 258 إلى صــ 272




    وأما قوله : " متاع الحياة الدنيا " فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يستمتع به في الدنيا أهلها أحياء ، فيتبلغون به فيها ، ويجعلونه وصلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم ، التي زين لهم حبها في عاجل دنياهم ، دون أن تكون عدة لمعادهم ، وقربة لهم إلى ربهم ، إلا ما أسلك في سبيله ، وأنفق منه فيما أمر به .

    وأما قوله : " والله عنده حسن المآب " فإنه يعني بذلك - جل ثناؤه - : وعند الله حسن المآب يعني : حسن المرجع ، كما : -

    6750 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " والله عنده حسن المآب " يقول : حسن المنقلب ، وهي الجنة .

    وهو مصدر على مثال " مفعل " من قول القائل : " آب الرجل إلينا " إذا رجع " فهو يئوب إيابا وأوبة وأيبة ومآبا " غير أن موضع الفاء منها مهموز ، والعين مبدلة من " الواو " إلى " الألف " بحركتها إلى الفتح . فلما كان حظها الحركة إلى الفتح ، وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها - وهو فاء الفعل - انقلبت فصارت " ألفا " كما قيل : " قال " فصارت عين الفعل " ألفا " لأن حظها الفتح . " والمآب " مثل " المقال " و " المعاد " و " المجال " [ ص: 259 ] كل ذلك " مفعل " منقولة حركة عينه إلى فائه ، فمصيرة واوه أو ياؤه " ألفا " لفتحة ما قبلها .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : " والله عنده حسن المآب " وقد علمت ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب ؟

    قيل : إن ذلك معني به خاص من الناس ، ومعنى ذلك : والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم . وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها .

    فإن قال : وما " حسن المآب " ؟ قيل : هو ما وصفه به - جل ثناؤه - وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مخلدا فيها ، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله .
    القول في تأويل قوله ( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ( 15 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - : قل ، يا محمد ، للناس الذين زين لهم حب الشهوات من النساء والبنين ، وسائر ما ذكر ربنا - جل ثناؤه - : " أؤنبئكم " أأخبركم وأعلمكم " بخير من ذلكم " يعني : بخير وأفضل لكم " من [ ص: 260 ] ذلكم " يعني : مما زين لكم في الدنيا حب شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا .

    ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام .

    فقال بعضهم : تناهى ذلك عند قوله : " من ذلكم " ثم ابتدأ الخبر عما للذين اتقوا عند ربهم ، فقيل : " للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " فلذلك رفع " الجنات " .

    ومن قال هذا القول لم يجز في قوله : " جنات تجري من تحتها الأنهار " إلا الرفع ، وذلك أنه خبر مبتدأ غير مردود على قوله : " بخير " فيكون الخفض فيه جائزا . وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم ، ففيه إبانة عن معنى " الخير " الذي أمر الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : للناس : أؤنبئكم به ؟ " والجنات " على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله : " للذين اتقوا عند ربهم " .

    وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول ، إلا أنهم قالوا : إن جعلت اللام التي في قوله : " للذين " من صلة " الإنباء " جاز في " الجنات " الخفض والرفع : الخفض على الرد على " الخير " والرفع على أن يكون قوله : " للذين اتقوا " خبر مبتدأ ، على ما قد بيناه قبل .

    وقال آخرون : بل منتهى الاستفهام قوله : " عند ربهم " ثم ابتدأ : " جنات تجري من تحتها الأنهار " . وقالوا : تأويل الكلام : " قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم " ثم كأنه قيل : " ماذا لهم " . أو : " ما ذاك " ؟ فقال : هو " جنات تجري من تحتها الأنهار " الآية . [ ص: 261 ]

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله : " بخير من ذلكم " والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله : " للذين اتقوا عند ربهم جنات " فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر ، وهو إبانة عن معنى " الخير " الذي قال : أؤنبئكم به ؟ فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير . قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : وأما قوله : " خالدين فيها " فمنصوب على القطع

    ومعنى قوله : " للذين اتقوا " للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه . " عند ربهم " يعني بذلك : لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم . " والجنات " البساتين ، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى وأن قوله : " تجري من تحتها الأنهار " يعني به : من تحت الأشجار ، وأن " الخلود " فيها دوام البقاء فيها ، وأن " الأزواج المطهرة " هن نساء الجنة اللواتي طهرن من كل [ ص: 262 ] أذى يكون بنساء أهل الدنيا ، من الحيض والمني والبول والنفاس وما أشبه ذلك من الأذى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    وقوله : " ورضوان من الله " يعني : ورضى الله ، وهو مصدر من قول القائل : " رضي الله عن فلان فهو يرضى عنه رضى " منقوص " ورضوانا ورضوانا ومرضاة " . فأما " الرضوان " بضم الراء ، فهو لغة قيس ، وبه كان عاصم يقرأ .

    قال أبو جعفر : وإنما ذكر الله - جل ثناؤه - فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير رضوانه ، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة ، كما : -

    6751 - حدثنا ابن بشار قال حدثني أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله تبارك وتعالى : أعطيكم أفضل من هذا ! فيقولون : أي ربنا ، أي شيء أفضل من هذا ؟ قال : رضواني .

    وقوله : " والله بصير بالعباد " يعني بذلك : والله ذو بصر بالذي يتقيه من عباده فيخافه ، فيطيعه ، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعده للذين اتقوه على حب ما زين له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدد منها تعالى [ ص: 263 ] ذكره وبالذي لا يتقيه فيخافه ، ولكنه يعصيه ويطيع الشيطان ويؤثر ما زين له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال ، على ما عنده من النعيم المقيم عالم - تعالى ذكره - بكل فريق منهم ، حتى يجازي كلهم عند معادهم إليه جزاءهم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
    القول في تأويل قوله ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ( 16 ) )

    قال أبو جعفر : ومعنى ذلك . قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا ، [ الذين ] يقولون : " ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار " .

    وقد يحتمل " الذين يقولون " وجهين من الإعراب : الخفض على الرد على " الذين " الأولى ، والرفع على الابتداء ، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها " الذين " الأولى ، فيكون رفعها نظير قول الله - عز وجل - : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) [ سورة التوبة : 111 ] ، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها : ( التائبون العابدون ) [ سورة التوبة : 112 ] . ولو كان جاء ذلك مخفوضا كان جائزا .

    ومعنى قوله : " الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا " : الذين يقولون : إننا صدقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك " فاغفر لنا ذنوبنا " يقول : فاستر علينا ذنوبنا ، بعفوك عنها ، وتركك عقوبتنا عليها " وقنا عذاب النار " [ ص: 264 ] ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها . وإنما معنى ذلك : لا تعذبنا يا ربنا بالنار .

    وإنما خصوا المسألة بأن يقيهم عذاب النار ، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه .

    وأصل قوله : " قنا " من قول القائل : " وقى الله فلانا كذا " يراد : دفع عنه " فهو يقيه " . فإذا سأل بذلك سائل قال : " قني كذا " .
    القول في تأويل قوله ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : " الصابرين " الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس .

    ويعني ب " الصادقين " الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرار به وبرسوله وما جاء به من عنده ، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه .

    ويعني ب " القانتين " المطيعين له .

    وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها ، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    وقد كان قتادة يقول في ذلك بما : -

    6752 - حدثنا به بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة [ ص: 265 ] قوله : " الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين " " الصادقين " : قوم صدقت أفواههم واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، وصدقوا في السر والعلانية " والصابرين " قوم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن محارمه " والقانتون " هم المطيعون لله .

    وأما " المنفقون " فهم المؤتون زكوات أموالهم ، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها ، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم - جل ثناؤه - بإنفاقها فيها .

    وأما " الصابرين " و " الصادقين " وسائر هذه الحروف ، فمخفوض ردا على قوله : " الذين يقولون ربنا إننا آمنا " والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله : " الذين يقولون " خفض ، ردا على قوله : " للذين اتقوا عند ربهم " .
    القول في تأويل قوله ( والمستغفرين بالأسحار ( 17 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم .

    فقال بعضهم : هم المصلون بالأسحار .

    ذكر من قال ذلك :

    6753 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " والمستغفرين بالأسحار " هم أهل الصلاة .

    6754 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة : " والمستغفرين بالأسحار " قال : يصلون بالأسحار . [ ص: 266 ]

    وقال آخرون : هم المستغفرون .

    ذكر من قال ذلك :

    6755 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حريث بن أبي مطر عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : رب أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر ، فاغفر لي . فنظرت فإذا ابن مسعود .

    6756 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله - عز وجل - : " والمستغفرين بالأسحار " قال : حدثني سليمان بن موسى قال : حدثنا نافع : أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع ، أسحرنا ؟ فيقول : لا . فيعاود الصلاة ، فإذا قلت : نعم ! قعد يستغفر ويدعو حتى يصبح .

    6757 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن بعض البصريين ، عن أنس بن مالك قال : أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة .

    6758 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا زيد بن الحباب قال : حدثنا أبو يعقوب الضبي قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة ، كتب من المستغفرين بالأسحار .

    وقال آخرون : هم الذين يشهدون الصبح في جماعة . [ ص: 267 ]

    ذكر من قال ذلك :

    6759 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال قلت لزيد بن أسلم : من " المستغفرين بالأسحار " ، قال : هم الذين يشهدون الصبح .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله : " والمستغفرين بالأسحار " قول من قال : هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها .

    " بالأسحار " وهى جمع " سحر " .

    وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء . وقد يحتمل أن يكون معناه : تعرضهم لمغفرته بالعمل والصلاة ، غير أن أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء .
    القول في تأويل قوله ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( 18 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وشهدت الملائكة ، وأولو العلم .

    ف " الملائكة " معطوف بهم على اسم " الله " و " أنه " مفتوحة ب " شهد " .

    قال أبو جعفر : وكان بعض البصريين يتأول قوله : " شهد الله " قضى الله ، ويرفع " الملائكة " بمعنى : والملائكة شهود وأولو العلم . [ ص: 268 ]

    وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من " أنه " على ما ذكرت من إعمال " شهد " في " أنه " الأولى ، وكسر الألف من " إن " الثانية وابتدائها . سوى أن بعض المتأخرين من أهل العربية ، كان يقرأ ذلك جميعا بفتح ألفيهما ، بمعنى : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وأن الدين عند الله الإسلام - فعطف ب " أن الدين " على " أنه " الأولى ، ثم حذف " واو " العطف ، وهى مرادة في الكلام . واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) الآية . ثم قال : " أن الدين " بكسر " إن " الأولى ، وفتح " أن " الثانية بإعمال " شهد " فيها ، وجعل " أن " الأولى اعتراضا في الكلام غير عامل فيها " شهد " وأن ابن مسعود قرأ : " شهد الله أنه لا إله إلا هو " بفتح " أن " وكسر " إن " من : " إن الدين عند الله الإسلام " على معنى إعمال " الشهادة " في " أن " الأولى ، و " أن " الثانية مبتدأة . فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود . فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت جميع قرأة أهل الإسلام المتقدمين منهم والمتأخرين ، بدعوى تأويل على ابن عباس وابن مسعود ، زعم أنهما قالاه وقرآ به . وغير معلوم ما ادعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة . وكفى شاهدا على خطأ قراءته ، خروجها من قراءة أهل الإسلام .

    قال أبو جعفر : فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتح الألف من " أنه " الأولى ، وكسر الألف من " إن " الثانية ، أعني من قوله : [ ص: 269 ] " إن الدين عند الله الإسلام " ابتداء .

    وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدال على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية ، في فتح " أن " من قوله : " أن الدين " وهو ما : -

    6760 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة " إلى " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " قال : الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس أن الدين عند الله الإسلام .

    فهذا التأويل يدل على أن " الشهادة " إنما هي عاملة في " أن " الثانية التي في قوله : " أن الدين عند الله الإسلام " . فعلى هذا التأويل جائز في " أن " الأولى وجهان من التأويل :

    أحدهما : أن تكون الأولى منصوبة على وجه الشرط ، بمعنى : شهد الله بأنه واحد فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية ، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم " والشهادة " عاملة في " أن " الثانية ، كأنك قلت : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، لإنه واحد ، ثم تقدم " لأنه واحد " فتفتحها على ذلك التأويل .

    والوجه الثاني : أن تكون " إن " الأولى مكسورة بمعنى الابتداء ، لأنها معترض بها " والشهادة " واقعة على " أن " الثانية : فيكون معنى الكلام : شهد [ ص: 270 ] الله فإنه لا إله إلا هو - والملائكة ، أن الدين عند الله الإسلام ، كقول القائل : " أشهد - فإني محق - أنك مما تعاب به برئ " ف " إن " الأولى مكسورة ، لأنها معترضة " والشهادة " واقعة على " أن " الثانية .

    قال أبو جعفر : وأما قوله : " قائما بالقسط " فإنه بمعنى : أنه الذي يلي العدل بين خلقه .

    " والقسط " هو العدل من قولهم : " هو مقسط " و " قد أقسط " إذا عدل .

    ونصب " قائما " على القطع .

    وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من " هو " التي في " لا إله إلا هو " .

    وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حال من اسم " الله " الذي مع قوله : " شهد الله " فكان معناه : شهد الله القائم بالقسط أنه لا إله إلا هو . وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك : ( وأولو العلم القائم بالقسط ) ، ثم حذفت " الألف واللام " من " القائم " فصار نكرة وهو نعت لمعرفة فنصب .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي ، قول من جعله قطعا ، [ ص: 271 ] على أنه من نعت الله - جل ثناؤه - لأن " الملائكة وأولي العلم " معطوفون عليه . فكذلك الصحيح أن يكون قوله : " قائما " حالا منه .

    وأما تأويل قوله : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " فإنه نفى أن يكون شيء يستحق العبودة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه .

    ويعني ب " العزيز " الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه " الحكيم " في تدبيره ، فلا يدخله خلل .

    قال أبو جعفر : وإنما عنى - جل ثناؤه - بهذه الآية نفي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيسى من البنوة ، وما نسب إليه سائر أهل الشرك من أن له شريكا ، واتخاذهم دونه أربابا . فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالق كل ما سواه ، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه ، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه . فبدأ - جل ثناؤه - بنفسه ، تعظيما لنفسه ، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها ، كما سن لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره ، مؤدبا خلقه بذلك . [ ص: 272 ]

    والمراد من الكلام الخبر عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدسوه من ملائكته وعلماء عباده . فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثير منهم - وأهل العلم منهم منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى ، وقول من اتخذ ربا غيره من سائر الخلق ، فقال : شهدت الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو ، وأن كل من اتخذ ربا دون الله فهو كاذب احتجاجا منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجوه من وفد نجران في عيسى .

    واعترض بذكر الله وصفته على ما بينت كما قال - جل ثناؤه - : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) [ سورة الأنفال : 41 ] ، افتتاحا باسمه الكلام ، فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادة بما وصفناه من نفي الألوهة عن غيره ، وتكذيب أهل الشرك به .

    فأما ما قال الذي وصفنا قوله : من أنه عنى بقوله : " شهد " قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم ، لأن " الشهادة " معنى " والقضاء " غيرها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #397
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (397)
    صــ 273 إلى صــ 287


    [ ص: 273 ]

    وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك .

    6761 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم " بخلاف ما قالوا - يعني : بخلاف ما قال وفد نجران من النصارى " قائما بالقسط " أي بالعدل .

    6762 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " بالقسط " بالعدل .
    القول في تأويل قوله ( إن الدين عند الله الإسلام )

    قال أبو جعفر : ومعنى " الدين " في هذا الموضع : الطاعة والذلة من قول الشاعر :

    ويوم الحزن إذ حشدت معد وكان الناس ، إلا نحن دينا

    [ ص: 274 ] يعني بذلك : مطيعين على وجه الذل ، ومنه قول القطامي :


    كانت نوار تدينك الأديانا


    يعني : تذلك . وقول الأعشى ميمون بن قيس :

    هو دان الرباب إذ كرهوا الد ين دراكا بغزوة وصيال


    يعني بقوله : " دان " ذلل وبقوله : " كرهوا الدين " الطاعة .

    وكذلك " الإسلام " وهو الانقياد بالتذلل والخشوع ، والفعل منه : " أسلم " بمعنى : دخل في السلم ، كما يقال : " أقحط القوم " إذا دخلوا في القحط ، [ ص: 275 ]

    " وأربعوا " إذا دخلوا في الربيع فكذلك " أسلموا " إذا دخلوا في السلم ، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة .

    فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل قوله : " إن الدين عند الله الإسلام " : إن الطاعة التي هي الطاعة عنده ، الطاعة له ، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذلة ، وانقيادها له بالطاعة فيما أمر ونهى ، وتذللها له بذلك من غير استكبار عليه ، ولا انحراف عنه ، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6763 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " إن الدين عند الله الإسلام " والإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ، ودل عليه أولياءه ، لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به .

    6764 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قال حدثنا أبو العالية في قوله : " إن الدين عند الله الإسلام " قال : " الإسلام " الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا شريك له ، [ ص: 276 ] وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وسائر الفرائض لهذا تبع .

    6765 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : ( أسلمنا ) [ سورة الحجرات : 14 ] ، قال : دخلنا في السلم ، وتركنا الحرب .

    6766 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " إن الدين عند الله الإسلام " أي : ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للرب ، والتصديق للرسل .
    القول في تأويل قوله ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو " الكتاب " الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى ، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم ، وتشتتت بها كلمتهم ، وباين بها بعضهم بعضا; حتى استحل بها بعضهم دماء بعض " إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " يعني : إلا من بعد ما علموا الحق فيما اختلفوا فيه من أمره ، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفرية مبطلون . فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل ، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله ، على علم منهم بخطأ [ ص: 277 ] ما قالوه ، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه ، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلاف الذي هم عليه ، تعديا من بعضهم على بعض ، وطلب الرياسات والملك والسلطان ، كما : -

    6767 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " قال : قال أبو العالية ، إلا من بعد ما جاءهم الكتاب والعلم " بغيا بينهم " يقول : بغيا على الدنيا ، وطلب ملكها وسلطانها ، فقتل بعضهم بعضا على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس .

    6768 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع عن ابن عمر : أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية : " إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " يقول : بغيا على الدنيا ، وطلب ملكها وسلطانها . من قبلها والله أتينا ! ما كان علينا من يكون علينا ، بعد أن يأخذ فينا كتاب الله وسنة نبيه ، ولكنا أتينا من قبلها .

    6769 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قال : إن موسى لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل ، فاستودعهم التوراة ، وجعلهم أمناء عليه ، كل حبر جزءا منه ، واستخلف موسى يوشع بن نون . فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث ، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى [ ص: 278 ] أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشر والاختلاف . وكان ذلك كله من قبل الذين أوتوا العلم ، بغيا بينهم على الدنيا ، طلبا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها ، فسلط الله عليهم جبابرتهم ، فقال الله : " إن الدين عند الله الإسلام " إلى قوله : " والله بصير بالعباد " .

    فقول الربيع بن أنس هذا يدل على أنه كان عنده أنه معني بقوله : " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب " اليهود من بني إسرائيل ، دون النصارى منهم ، وغيرهم .

    وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعني به النصارى الذين أوتوا الإنجيل .

    ذكر من قال ذلك :

    6770 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم " الذي جاءك ، أي أن الله الواحد الذي ليس له شريك " بغيا بينهم " يعني بذلك النصارى .
    [ ص: 279 ] القول في تأويل قوله ( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ( 19 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : ومن يجحد حجج الله وأعلامه التي نصبها ذكرى لمن عقل ، وأدلة لمن اعتبر وتذكر ، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا ، فمجازيه بها في الآخرة ، فإنه - جل ثناؤه - " سريع الحساب " يعني : سريع الإحصاء . وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله ، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفهم ، أو يعونه بقلوبهم ، ولكنه يحفظ ذلك عليهم ، بغير كلفة ولا مؤونة ، ولا معاناة لما يعانيه غيره من الحساب .

    وبنحو الذي قلنا في معنى " سريع الحساب " كان مجاهد يقول :

    6771 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب " قال : إحصاؤه عليهم .

    6772 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب " إحصاؤه .
    [ ص: 280 ] القول في تأويل قوله ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : فإن حاجك : يا محمد ، النفر من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه ، فخاصموك فيه بالباطل ، فقل : انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي . وإنما خص جل ذكره بأمره بأن يقول : " أسلمت وجهي لله " لأن الوجه أكرم جوارح ابن آدم عليه ، وفيه بهاؤه وتعظيمه ، فإذا خضع وجهه لشيء ، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه .

    وأما قوله : " ومن اتبعني " فإنه يعني : وأسلم من اتبعني أيضا وجهه لله معي . و " من " معطوف بها على " التاء " في " أسلمت " كما : -

    6773 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فإن حاجوك " أي : بما يأتونك به من الباطل من قولهم : " خلقنا ، وفعلنا ، وجعلنا ، وأمرنا " فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق " فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني " .
    [ ص: 281 ] القول في تأويل قوله ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " وقل " يا محمد ، للذين أوتوا الكتاب " من اليهود والنصارى " والأميين " الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب " أأسلمتم " يقول : قل لهم : هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين ، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم ، وأنتم تعلمون أنه لا رب غيره ولا إله سواه " فإن أسلموا " يقول : فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له " فقد اهتدوا " يعني : فقد أصابوا سبيل الحق ، وسلكوا محجة الرشد .

    فإن قال قائل : وكيف قيل : " فإن أسلموا فقد اهتدوا " عقيب الاستفهام ؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل : " هل تقوم ؟ فإن تقم أكرمك " ؟

    قيل : ذلك جائز ، إذا كان الكلام مرادا به الأمر ، وإن خرج مخرج الاستفهام ، كما قال - جل ثناؤه - : ( ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) [ سورة المائدة : 91 ] ، يعني : انتهوا ، وكما قال - جل ثناؤه - مخبرا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى : ( يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) [ سورة المائدة : 112 ] ، وإنما هو مسألة ، كما يقول الرجل : " هل أنت [ ص: 282 ] كاف عنا " ؟ بمعنى : اكفف عنا ، وكما يقول الرجل للرجل : " أين ، أين " ؟ بمعنى : أقم فلا تبرح ، ولذلك جوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله : ( هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم آمنوا ) [ سورة الصف : 10 ، 11 ] ، ففسرها بالأمر ، وهي في قراءتنا على الخبر . فالمجازاة في قراءتنا على قوله : " هل أدلكم " وفي قراءة عبد الله على قوله : " آمنوا " على الأمر ، لأنه هو التفسير .

    وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل :

    6774 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين " الذين لا كتاب لهم " أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا " الآية .

    6775 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس : " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين " قال : الأميون الذين لا يكتبون .
    [ ص: 283 ] القول في تأويل قوله ( وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ( 20 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " وإن تولوا " وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين ، فإنما أنت رسول مبلغ ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي ، وأداء ما كلفتك من طاعتي " والله بصير بالعباد " يعني بذلك : والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام ، وبمن يتولى منهم عنه معرضا فيرد عليك ما أرسلتك به إليه ، فيعصيك بإبائه الإسلام .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " إن الذين يكفرون بآيات الله " أي : يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها من أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، كما : -

    6776 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : ثم جمع أهل الكتابين جميعا ، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا ، [ ص: 284 ] من اليهود والنصارى فقال : " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق " إلى قوله : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " .

    وأما قوله : " ويقتلون النبيين بغير حق " فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رسل الله الذين كانوا يرسلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله ، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها ، نحو زكريا وابنه يحيى ، وما أشبههما من أنبياء الله .
    القول في تأويل قوله ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرأة الأمصار : ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ) ، بمعنى القتل .

    وقرأه بعض المتأخرين من قرأة الكوفة : ( ويقاتلون ) ، بمعنى القتال ، تأولا منه قراءة عبد الله بن مسعود ، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله : ( وقاتلوا ) ، فقرأ الذي وصفنا أمره من القراءة بذلك التأويل : ( ويقاتلون ) .

    قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه : " ويقتلون " لإجماع الحجة من القرأة عليه به ، مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله . [ ص: 285 ]

    ذكر من قال ذلك :

    6777 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن معقل بن أبي مسكين في قول الله : " ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " قال : كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكرون [ قومهم ] - ولم يكن يأتيهم كتاب - فيقتلون ، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم ، فيذكرون قومهم فيقتلون ، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .

    6778 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : " ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " قال : هؤلاء أهل الكتاب ، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكرونهم ، فيقتلونهم .

    6779 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج قال قال ابن جريج في قوله : " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " قال : كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب ، كان الوحي يأتي إليهم فيذكرون قومهم فيقتلون على ذلك ، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .

    6780 - حدثني أبو عبيد الوصابي محمد بن حفص قال : حدثنا ابن حمير قال : حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد عن مكحول عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي عن أبي عبيدة بن الجراح قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ [ ص: 286 ] قال : " رجل قتل نبيا ، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف . ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " إلى أن انتهى إلى " وما لهم من ناصرين " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ! فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم ، وهم الذين ذكر الله - عز وجل - .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه ، الذين ينهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه .
    [ ص: 287 ] القول في تأويل قوله ( فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ( 22 ) ( 21 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فبشرهم بعذاب أليم " فأخبرهم يا محمد وأعلمهم أن لهم عند الله عذابا مؤلما لهم وهو الموجع .

    وأما قوله : " أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة " فإنه يعني بقوله : " أولئك " الذين يكفرون بآيات الله . ومعنى ذلك أن الذين ذكرناهم ، هم " الذين حبطت أعمالهم " يعني : بطلت أعمالهم " في الدنيا والآخرة " . فأما في الدنيا ، فلم ينالوا بها محمدة ولا ثناء من الناس ، لأنهم كانوا على ضلال وباطل ، ولم يرفع الله لهم بها ذكرا ، بل لعنهم وهتك أستارهم ، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم ، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمة ، فذلك حبوطها في الدنيا . وأما في الآخرة ، فإنه أعد لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه ، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بورا لا ثواب لها ، لأنها كانت كفرا بالله ، فجزاء أهلها الخلود في الجحيم .

    وأما قوله : " وما لهم من ناصرين " فإنه يعني : وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله ، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه ، فيستنقذهم منه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #398
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (398)
    صــ 288 إلى صــ 302



    [ ص: 288 ] القول في تأويل قوله ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ( 23 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " ألم تر " يا محمد " إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " يقول : الذين أعطوا حظا من الكتاب " يدعون إلى كتاب الله " .

    واختلف أهل التأويل في " الكتاب " الذي عنى الله بقوله : " يدعون إلى كتاب الله " .

    فقال بعضهم : هو التوراة ، دعاهم إلى الرضى بما فيها ، إذ كانت الفرق المنتحلة الكتب تقر بها وبما فيها : أنها كانت أحكام الله قبل أن ينسخ منها ما نسخ .

    ذكر من قال ذلك :

    6781 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال حدثني سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت المدراس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له نعيم بن عمرو ، والحارث [ ص: 289 ] بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : " على ملة إبراهيم ودينه . فقالا فإن إبراهيم كان يهوديا ! فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلموا إلى التوراة ، فهي بيننا وبينكم ! فأبيا عليه ، فأنزل الله - عز وجل - : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " إلى قوله : " ما كانوا يفترون " .

    6782 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بيت المدراس فذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلما إلى التوراة وقال أيضا : فأنزل الله فيهما : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب .

    وقال بعضهم : بل ذلك كتاب الله الذي أنزله على محمد ، وإنما دعيت طائفة منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بينهم بالحق ، فأبت .

    ذكر من قال ذلك :

    6783 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون [ ص: 290 ] " أولئك أعداء الله اليهود ، دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، وإلى نبيه ليحكم بينهم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ثم تولوا عنه وهم معرضون .

    6784 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " الآية قال : هم اليهود ، دعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم ، ثم يتولون وهم معرضون !

    6785 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قوله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم " قال : كان أهل الكتاب يدعون إلى كتاب ليحكم بينهم بالحق يكون ، وفي الحدود . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الإسلام ، فيتولون عن ذلك .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عهده ، ممن قد أوتي علما بالتوراة أنهم دعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرون أنه من عند الله - وهو التوراة - في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا [ ص: 291 ] تنازعوا فيه ، ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه ، كان أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمر نبوته ، ويجوز أن يكون ذلك كان أمر إبراهيم خليل الرحمن ودينه ، ويجوز أن يكون ذلك ما دعوا إليه من أمر الإسلام والإقرار به ، ويجوز أن يكون ذلك كان في حد . فإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم فيه إلى حكم التوراة ، فأبى الإجابة فيه وكتمه بعضهم .

    ولا دلالة في الآية على أي ذلك كان من أي ، فيجوز أن يقال : هو هذا دون هذا . ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك ، لأن المعنى الذي دعوا إلى حكمه ، هو مما كان فرضا عليهم الإجابة إليه في دينهم ، فامتنعوا منه ، فأخبر الله - جل ثناؤه - عنهم بردتهم ، وتكذيبهم بما في كتابهم ، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به . فلن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدا وما جاء به من الحق مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرون به .

    ومعنى قوله : " ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه ، معرضا عنه منصرفا ، وهو بحقيقته وحجته عالم . [ ص: 292 ]

    وإنما قلنا إن ذلك " الكتاب " هو التوراة ، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين ، وبالتوراة بزعمهم مصدقين ، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرون ، أبلغ ، وللعذر أقطع .
    القول في تأويل قوله ( ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ( 24 ) )

    يعني - جل ثناؤه - بقوله : " بأنهم قالوا " بأن هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق : من أجل قولهم : " لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " وهي أربعون يوما ، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل ثم يخرجنا منها ربنا ، اغترارا منهم " بما كانوا يفترون " يعني : بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل ، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله قد وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحدا من ولده النار إلا تحلة القسم . فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم ، وأخبر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون ، دون المؤمنين بالله ورسله وما جاءوا به من عنده . [ ص: 293 ]

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    6786 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " قالوا : لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل ، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا قال الله - عز وجل - : " وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون " أي قالوا : " نحن أبناء الله وأحباؤه " .

    6787 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " الآية ، قال : قالوا : لن نعذب في النار إلا أربعين يوما ، قال : يعني اليهود قال : وقال قتادة مثله وقال : هي الأيام التي نصبوا فيها العجل . يقول الله - عز وجل - : " وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون " حين قالوا : " نحن أبناء الله وأحباؤه " .

    6788 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قال مجاهد قوله : " وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون " قال : غرهم قولهم : " لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " .
    [ ص: 294 ] القول في تأويل قوله ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ( 25 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فكيف إذا جمعناهم " فأي حال يكون حال هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول ، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله ، واغترارهم بربهم ، وافترائهم الكذب ؟ وذلك من الله - عز وجل - وعيد لهم شديد ، وتهديد غليظ .

    وإنما يعني بقوله : " فكيف إذا جمعناهم . . . " الآية : فما أعظم ما يلقون من عقوبة الله وتنكيله بهم إذا جمعهم ليوم يوفى كل عامل جزاء عمله على قدر استحقاقه ، غير مظلوم فيه ، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم ، ولا يؤاخذ إلا بما عمل ، يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لا يخاف أحد من خلقه منه يومئذ ظلما ولا هضما .

    فإن قال قائل : وكيف قيل : " فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه " ولم يقل : في يوم لا ريب فيه ؟

    قيل : لمخالفة معنى " اللام " في هذا الموضع معنى " في " . وذلك أنه لو كان مكان " اللام " " في " لكان معنى الكلام : فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة ، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب ؟ وليس ذلك المعنى في دخول " اللام " ولكن معناه مع " اللام " : فكيف إذا جمعناهم لما يحدث في يوم لا ريب فيه ، ولما يكون في ذلك اليوم من فصل الله القضاء بين خلقه ، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب ؟ فمع " اللام " في " ليوم لا ريب فيه " نية فعل ، وخبر مطلوب قد [ ص: 295 ] ترك ذكره ، أجزأت دلالة دخول " اللام " في " اليوم " عليه منه . وليس ذلك مع " في " فلذلك اختيرت " اللام " فأدخلت في " اليوم " دون " في " .

    وأما تأويل قوله : " لا ريب فيه " فإنه : لا شك في مجيئه . وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية ، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .

    وعنى بقوله : " ووفيت " ووفى الله " كل نفس ما كسبت " يعني : ما عملت من خير وشر " وهم لا يظلمون " يعني أنه لا يبخس المحسن جزاء إحسانه ، ولا يعاقب مسيئا بغير جرمه .
    القول في تأويل قوله ( قل اللهم )

    قال أبو جعفر : أما تأويل : " قل اللهم " فإنه : قل يا محمد : يا الله .

    واختلف أهل العربية في نصب " ميم " " اللهم " وهو منادى ، وحكم المنادى المفرد غير المضاف الرفع وفي دخول " الميم " فيه ، وهو في الأصل " الله " بغير " ميم " . [ ص: 296 ] فقال بعضهم : إنما زيدت فيه " الميمان " لأنه لا ينادى ب " يا " كما ينادى الأسماء التي لا " ألف " فيها ولا " لام " . وذلك أن الأسماء التي لا " ألف " ولا " لام " فيها تنادى ب " يا " كقول القائل : " يا زيد ، ويا عمرو " . قال : فجعلت " الميم " فيه خلفا من " يا " كما قالوا : " فم ، وابنم ، وهم ، وزرقم ، وستهم " وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف ، ثم يبدل مكانه " ميم " . قال : فكذلك حذفت من " اللهم " " يا " التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا ، وجعلت " الميم " خلفا منها في آخر الاسم . [ ص: 297 ]

    وأنكر ذلك من قولهم آخرون ، وقالوا : قد سمعنا العرب تنادي : " اللهم " ب " يا " كما تناديه ولا " ميم " فيه . قالوا : فلو كان الذي قال هذا القول مصيبا في دعواه ، لم تدخل العرب " يا " وقد جاءوا بالخلف منها . وأنشدوا في ذلك سماعا من العرب :

    وما عليك أن تقولي كلما صليت أو كبرت يا أللهما
    اردد علينا شيخنا مسلما


    ويروى : " سبحت أو كبرت " . قالوا : ولم نر العرب زادت مثل هذه " الميم " إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل : " الفم ، وابنم ، وهم " قالوا : ونحن نرى أنها كلمة ضم إليها " أم " بمعنى : " يا ألله أمنا بخير " فكثرت في الكلام فاختلطت به . قالوا : فالضمة التي في " الهاء " من همزة " أم " لما تركت انتقلت إلى ما قبلها . قالوا : ونرى أن قول العرب : " هلم إلينا " مثلها . إنما كان " هلم " " هل " ضم إليها " أم " فتركت على نصبها . قالوا : من العرب من يقول إذا طرح " الميم " : " يا الله اغفر لي " و " يا ألله اغفر لي " بهمز " الألف " من " الله " مرة ، ووصلها أخرى ، فمن حذفها أجراها على أصلها ، لأنها " ألف ولام " مثل " الألف واللام " اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين . ومن همزها توهم أنها من الحرف ، [ ص: 298 ] إذ كانت لا تسقط منه ، وأنشدوا في همز الألف منها :

    مبارك هو ومن سماه على اسمك اللهم يا ألله


    قالوا : وقد كثرت " اللهم " في الكلام ، حتى خففت ميمها في بعض اللغات ، وأنشدوا :

    كحلفة من أبي رياح يسمعها اللهم الكبار


    والرواة تنشد ذلك :


    يسمعها لاهه الكبار
    [ ص: 299 ]

    وقد أنشده بعضهم :
    يسمعها الله والله كبار
    القول في تأويل قوله ( مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : يا مالك الملك ، يا من له ملك الدنيا والآخرة خالصا دون وغيره ، كما : -

    6789 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله : " قل اللهم مالك الملك " أي رب العباد الملك ، لا يقضي فيهم غيرك .

    وأما قوله : " تؤتي الملك من تشاء " فإنه يعني : تعطى الملك من تشاء ، فتملكه وتسلطه على من تشاء .

    وقوله : " وتنزع الملك ممن تشاء " يعني : وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه ، [ ص: 300 ] فترك ذكر " أن تنزعه منه " اكتفاء بدلالة قوله : " وتنزع الملك ممن تشاء " عليه ، كما يقال : " خذ ما شئت وكن فيما شئت " يراد : خذ ما شئت أن تأخذه ، وكن فيما شئت أن تكون فيه; وكما قال - جل ثناؤه - : ( في أي صورة ما شاء ركبك ) [ سورة الانفطار : 8 ] يعني : في أي صورة شاء أن يركبك فيها ركبك .

    وقيل : إن هذه الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوابا لمسألته ربه أن يجعل ملك فارس والروم لأمته .

    ذكر من قال ذلك :

    6790 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : وذكر لنا : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه - جل ثناؤه - أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته ، فأنزل الله - عز وجل - : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " إلى " إنك على كل شيء قدير " .

    6791 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة قال : ذكر لنا والله أعلم : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه - عز وجل - أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، ثم ذكر مثله .

    وروي عن مجاهد أنه كان يقول : معنى " الملك " في هذا الموضع : النبوة .

    ذكر الرواية عنه بذلك :

    6792 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء " قال : النبوة . [ ص: 301 ]

    6793 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
    القول في تأويل قوله ( وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ( 26 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - : " وتعز من تشاء " بإعطائه الملك والسلطان ، وبسط القدرة له " وتذل من تشاء " بسلبك ملكه ، وتسليط عدوه عليه " بيدك الخير " أي : كل ذلك بيدك وإليك ، لا يقدر على ذلك أحد ، لأنك على كل شيء قدير ، دون سائر خلقك ، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأميين من العرب إلها وربا يعبدونه من دونك ، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربا ، كما : -

    6794 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله : " تؤتي الملك من تشاء " الآية ، أي : إن ذلك بيدك لا إلى غيرك " إنك على كل شيء قدير " أي : لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك .
    [ ص: 302 ] القول في تأويل قوله ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " تولج " تدخل ، يقال منه : " قد ولج فلان منزله " إذا دخله ، " فهو يلجه ولجا وولوجا ولجة " - و " أولجته أنا " إذا أدخلته .

    ويعني بقوله : " تولج الليل في النهار " تدخل ما نقصت من ساعات الليل في ساعات النهار ، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا " وتولج النهار في الليل " وتدخل ما نقصت من ساعات النهار في ساعات الليل ، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار ، كما : -

    6795 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة ، والنهار تسع ساعات ، وتدخل النهار في الليل حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة ، والليل تسع ساعات .

    6796 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما نقص من النهار يجعله في الليل ، وما نقص من الليل يجعله في النهار .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #399
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (399)
    صــ 303 إلى صــ 317




    6797 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل [ ص: 303 ] " قال : ما ينقص من أحدهما في الآخر ، يعتقبان أو : يتعاقبان ، شك أبو عاصم ذلك من الساعات .

    6798 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " ما ينقص من أحدهما في الآخر ، يتعاقبان ذلك من الساعات .

    6799 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " نقصان الليل في زيادة النهار ، ونقصان النهار في زيادة الليل .

    6800 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " قال : هو نقصان أحدهما في الآخر .

    6801 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " قال : يأخذ الليل من النهار ، ويأخذ النهار من الليل . يقول : نقصان الليل في زيادة النهار ، ونقصان النهار في زيادة الليل .

    6802 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " يعني أنه يأخذ أحدهما من الآخر ، فيكون الليل أحيانا أطول من النهار ، والنهار أحيانا أطول من الليل . [ ص: 304 ]

    6803 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " قال : هذا طويل وهذا قصير ، أخذ من هذا فأولجه في هذا ، حتى صار هذا طويلا وهذا قصيرا .

    القول في تأويل قوله ( وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : " تأويل ذلك : أنه يخرج الشيء الحي من النطفة الميتة ، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحي " .

    ذكر من قال ذلك :

    6804 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة .

    6805 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : الناس الأحياء من النطف والنطف ميتة ، ويخرجها من الناس الأحياء ، والأنعام .

    6806 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله . [ ص: 305 ]

    6807 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " فذكر نحوه .

    6808 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " فالنطفة ميتة تكون ، تخرج من إنسان حي ، ويخرج إنسان حي من نطفة ميتة .

    6809 - حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي قال : حدثنا أشعث السجستاني قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله . " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : تخرج النطفة من الرجل ، والرجل من النطفة .

    6810 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : تخرج الحي من هذه النطفة الميتة ، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحي .

    6811 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " الآية ، قال : الناس الأحياء من النطف ، والنطف الميتة من الناس الأحياء ، ومن الأنعام والنبت كذلك قال ابن جريج : وسمعت يزيد بن عويمر يخبر ، عن سعيد بن جبير قال : إخراجه النطفة من الإنسان ، وإخراجه الإنسان من النطفة . [ ص: 306 ]

    6812 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : النطفة ميتة ، فتخرج منها أحياء " وتخرج الميت من الحي " تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء ، والحب ميت تخرج منه حيا " وتخرج الميت من الحي " تخرج من هذا الحي حبا ميتا .

    وقال آخرون : معنى ذلك : " أنه يخرج النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والسنبل من الحب ، والحب من السنبل ، والبيض من الدجاج ، والدجاج من البيض " .

    ذكر من قال ذلك .

    6813 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا أبو تميلة قال : حدثنا عبد الله ، عن عكرمة قوله : " تخرج الحي من الميت " قال : هي البيضة تخرج من الحي وهي ميتة ، ثم يخرج منها الحي .

    6814 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله . " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : النخلة من النواة والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة .

    وقال آخرون : " معنى ذلك : أنه يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن " .

    ذكر من قال ذلك :

    6815 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " يعني المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، والمؤمن عبد حي الفؤاد ، والكافر عبد ميت الفؤاد . [ ص: 307 ]

    6816 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال الحسن في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن .

    6819 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث ، عن سعيد بن عمرو ، عن الحسن قرأ : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : تخرج المؤمن من الكافر ، وتخرج الكافر من المؤمن .

    6820 - حدثني حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، أو عن ابن مسعود وأكبر ظني أنه عن سلمان قال : إن الله - عز وجل - خمر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال : أربعين يوما - ثم قال بيده فيه ، فخرج كل طيب في يمينه ، وخرج كل خبيث في يده الأخرى ، ثم خلط بينهما ، ثم خلق منها آدم ، فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن . [ ص: 308 ]

    6821 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على بعض نسائه ، فإذا بامرأة حسنة النعمة ، فقال : من هذه ؟ قالت إحدى خالاتك ! قال : إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب ! وأي خالاتي هذه ؟ قالت : خالدة ابنة الأسود بن عبد يغوث . قال : سبحان الذي يخرج الحي من الميت ! وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافرا .

    6822 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " قال : هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنا ، وأن المؤمن يلد كافرا ؟ فقال : هو كذلك . [ ص: 309 ]

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب ، تأويل من قال : " يخرج الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء من النطف الميتة وذلك إخراج الحي من الميت ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء وذلك إخراج الميت من الحي " .

    وذلك أن كل حي فارقه شيء من جسده ، فذلك الذي فارقه منه ميت . فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه ، ثم ينشئ الله منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما أحياء . وكذلك حكم كل شيء حي زايله شيء منه ، فالذي زايله منه ميت . وذلك هو نظير قوله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) [ سورة البقرة : 28 ] .

    وأما تأويل من تأوله بمعنى الحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة ، والبيضة من الدجاجة ، والدجاجة من البيضة ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن فإن ذلك ، وإن كان له وجه مفهوم ، فليس ذلك الأغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام . وتوجيه معاني كتاب الله - عز وجل - إلى الظاهر المستعمل في الناس ، أولى من توجيهها إلى الخفي القليل في الاستعمال .

    واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته جماعة منهم : ( تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ) بالتشديد ، وتثقيل " الياء " من " الميت " بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد مات ، ومما لم يمت . [ ص: 310 ]

    وقرأت جماعة أخرى منهم : ( تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ) بتخفيف " الياء " من " الميت " بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد مات ، دون الشيء الذي لم يمت ، ويخرج الشيء الميت ، دون الشيء الذي لم يمت ، من الشيء الحي .

    وذلك أن " الميت " مثقل " الياء " عند العرب : ما لم يمت وسيموت ، وما قد مات .

    وأما " الميت " مخففا ، فهو الذي قد مات ، فإذا أرادوا النعت قالوا : " إنك مائت غدا ، وإنهم مائتون " . وكذلك كل ما لم يكن بعد ، فإنه يخرج - على هذا المثال - الاسم منه . يقال : " هو الجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك " وإذا أريد معنى الاسم قيل : " هو الجواد بنفسه والطيبة نفسه " .

    قال أبو جعفر : فإذا كان ذلك كذلك ، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب ، قراءة من شدد " الياء " من " الميت " . لأن الله - جل ثناؤه - يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجل فصارت ميتة ، وسيخرجه منها بعد أن تفارقه وهي في صلب الرجل " ويخرج الميت من الحي " النطفة التي تصير بخروجها من الرجل الحي ميتا ، وهي قبل خروجها منه حية . فالتشديد أبلغ في المدح وأكمل في الثناء .
    [ ص: 311 ] القول في تأويل قوله ( وترزق من تشاء بغير حساب ( 27 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : أنه يعطى من يشاء من خلقه فيجود عليه ، بغير محاسبة منه لمن أعطاه ، لأنه لا يخاف دخول انتقاص في خزائنه ، ولا الفناء على ما بيده ، كما : -

    6823 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وترزق من تشاء بغير حساب " قال : يخرج الرزق من عنده بغير حساب ، لا يخاف أن ينقص ما عنده تبارك وتعالى .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : اللهم يا مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ، دون من ادعى الملحدون أنه لهم إله ورب وعبدوه دونك ، أو اتخذوه شريكا معك ، أو أنه لك ولد وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء وتقدر بها على كل شيء ، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ، فتنقص من هذا وتزيد في هذا ، وتنقص من هذا وتزيد في هذا ، وتخرج من ميت حيا ومن حي ميتا ، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك ، لا يقدر على ذلك أحد سواك ، ولا يستطيعه غيرك ، كما : -

    6824 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ، أي : بتلك القدرة يعني : بالقدرة التي تؤتي [ ص: 312 ] الملك بها من تشاء وتنزعه ممن تشاء " وترزق من تشاء بغير حساب " لا يقدر على ذلك غيرك ، ولا يصنعه إلا أنت . أي : فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله : من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، والخلق للطير من الطين ، والخبر عن الغيوب ، لتجعله آية للناس ، وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه - فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه : تمليك الملوك ، وأمر النبوة ووضعها حيث شئت ، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ، وإخراج الحي من الميت والميت من الحي ، ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب . فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه ، ولم أملكه إياه ، فلم تكن لهم في ذلك عبرة وبينة : أن لو كان إلها ، لكان ذلك كله إليه ، وهو في علمهم يهرب من الملوك ، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد ! !
    [ ص: 313 ] القول في تأويل قوله ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة )

    قال أبو جعفر : وهذا نهي من الله - عز وجل - للمؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وظهورا ، ولذلك كسر " يتخذ " لأنه في موضع جزم بالنهي ، ولكنه كسر " الذال " منه ، للساكن الذي لقيه وهي ساكنة .

    ومعنى ذلك : لا تتخذوا ، أيها المؤمنون ، الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم ، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتدلونهم على عوراتهم ، فإنه من يفعل ذلك " فليس من الله في شيء " يعني بذلك : فقد برئ من الله وبرئ الله منه ، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر " إلا أن تتقوا منهم تقاة " إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم ، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم ، وتضمروا لهم العداوة ، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ، ولا تعينوهم على مسلم بفعل ، كما : -

    6825 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " قال : نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين ، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين ، فيظهرون لهم اللطف ، ويخالفونهم في الدين . وذلك قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة [ ص: 314 ]

    6826 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ، قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر بن زنبر ، وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة ، لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم ! فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم ولزومهم ، فأنزل الله - عز وجل - : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " إلى قوله : " والله على كل شيء قدير " .

    6827 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " يقول : لا يتخذ المؤمن كافرا وليا من دون المؤمنين .

    6828 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين " إلى " إلا أن تتقوا منهم تقاة " أما " أولياء " فيواليهم في دينهم ، ويظهرهم على عورة المؤمنين ، فمن فعل هذا فهو مشرك ، فقد برئ الله منه إلا أن يتقي تقاة ، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم ، والبراءة من المؤمنين .

    6829 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان ، [ ص: 315 ] عن ابن جريج ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " قال : التقاة التكلم باللسان ، وقلبه مطمئن بالإيمان .

    6830 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة ، قال : ما لم يهرق دم مسلم ، وما لم يستحل ماله .

    6831 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، إلا مصانعة في الدنيا ومخالقة .

    6832 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    6833 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " إلى " إلا أن تتقوا منهم تقاة " قال : قال أبو العالية : التقية باللسان وليس بالعمل .

    6834 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " قال : التقية باللسان . من حمل على أمر يتكلم به وهو لله معصية ، فتكلم مخافة على نفسه ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فلا إثم عليه ، إنما التقية باللسان .

    6835 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " فالتقية باللسان . من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله ، فيتكلم به مخافة [ ص: 316 ] الناس وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن ذلك لا يضره . إنما التقية باللسان .

    وقال آخرون : معنى : " إلا أن تتقوا منهم تقاة ، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة .

    ذكر من قال ذلك :

    6836 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقية " نهى الله المؤمنين أن يوادوا الكفار أو يتولوهم دون المؤمنين . وقال الله : " إلا أن تتقوا منهم تقية " الرحم من المشركين ، من غير أن يتولوهم في دينهم ، إلا أن يصل رحما له في المشركين .

    6837 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء " قال : لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في دينه ، وقوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " قال : أن يكون بينك وبينه قرابة ، فتصله لذلك .

    6838 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " قال : صاحبهم في الدنيا معروفا ، الرحم وغيره . فأما في الدين فلا .

    قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله قتادة تأويل له وجه ، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية : إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة فالأغلب من معاني هذا الكلام : إلا أن تخافوا منهم مخافة . فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية . إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم . ووجهه قتادة إلى أن تأويله : إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة ، فتصلون رحمها . وليس ذلك الغالب على [ ص: 317 ] معنى الكلام . والتأويل في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمل فيهم .

    وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : " إلا أن تتقوا منهم تقاة "

    فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) ، على تقدير " فعلة " مثل : " تخمة ، وتؤدة وتكأة " من " اتقيت " .

    وقرأ ذلك آخرون : " إلا أن تتقوا منهم تقية " ، على مثال " فعيلة " .

    قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة عندنا ، قراءة من قرأها : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " لثبوت حجة ذلك بأنه القراءة الصحيحة ، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ .
    القول في تأويل قوله - عز وجل - ( ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ( 28 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك ، ويخوفكم الله من نفسه أن تركبوا معاصيه ، أو توالوا أعداءه ، فإن لله مرجعكم ومصيركم بعد مماتكم ، ويوم حشركم لموقف الحساب يعني بذلك : متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به ، وأتيتم ما نهاكم عنه من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، نالكم من عقاب ربكم ما لا قبل لكم به ، يقول : فاتقوه واحذروه أن ينالكم ذلك منه ، فإنه شديد العقاب .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #400
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,463

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء السادس
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
    الحلقة (400)
    صــ 318 إلى صــ 332



    [ ص: 318 ] القول في تأويل قوله ( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير ( 29 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " قل " يا محمد ، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " إن تخفوا ما في صدوركم " من موالاة الكفار فتسروه ، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه " يعلمه الله " فلا يخفى عليه . يقول : فلا تضمروا لهم مودة ولا تظهروا لهم موالاة ، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به ، لأنه يعلم سركم وعلانيتكم ، فلا يخفى عليه شيء منه ، وهو محصيه عليكم حتى يجازيكم عليه بالإحسان إحسانا ، وبالسيئة مثلها ، كما : -

    6839 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أخبرهم أنه يعلم ما أسروا من ذلك وما أعلنوا ، فقال : " إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه " .

    وأما قوله : " ويعلم ما في السموات وما في الأرض " فإنه يعني أنه إذا كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان ، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميل إليهم بالمودة والمحبة ، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا .

    وأما قوله : " والله على كل شيء قدير " فإنه يعني : والله قدير على معاجلتكم بالعقوبة على موالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين ، وعلى ما يشاء من الأمور كلها ، لا يتعذر عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه شيء طلبه .
    [ ص: 319 ]

    القول في تأويل قوله - عز وجل - ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا موفرا ، " وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " يعني غاية بعيدة ، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه ، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم .

    وكان قتادة يقول في معنى قوله : " محضرا " ما : -

    6840 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا " يقول : موفرا .

    قال أبو جعفر : وقد زعم [ بعض ] أهل العربية أن معنى ذلك : واذكر يوم تجد . وقال : إن ذلك إنما جاء كذلك ، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر ، كأنه قيل لهم : اذكروا كذا وكذا ، لأنه في القرآن في غير موضع : " واتقوا يوم كذا ، وحين كذا " .

    وأما " ما " التي مع " عملت " فبمعنى " الذي " ولا يجوز أن تكون جزاء ، لوقوع " تجد " عليه . وأما قوله : " وما عملت من سوء " فإنه معطوف على قوله : " ما " الأولى ، و " عملت " صلة بمعنى الرفع ، لما قيل : " تود " . [ ص: 320 ] فتأويل الكلام : يوم تجد كل نفس الذي عملت من خير محضرا ، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا

    " والأمد " الغاية التي ينتهى إليها ، ومنه قول الطرماح :


    كل حي مستكمل عدة ال عمر ، ومود إذا انقضى أمده


    يعني : غاية أجله . وقد : -

    6841 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " مكانا بعيدا .

    6842 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " أمدا بعيدا " قال : أجلا .

    6843 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا [ ص: 321 ] عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " قال : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئة يستلذها .
    القول في تأويل قوله ( ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ( 30 ) )

    قال أبو جعفر : يقول - جل ثناؤه - : ويحذركم الله نفسه : أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم ، فتوافونه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ، وهو عليكم ساخط ، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به . ثم أخبر - عز وجل - أنه رءوف بعباده رحيم بهم ، وأن من رأفته بهم : تحذيره إياهم نفسه ، وتخويفهم عقوبته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه ، كما : -

    6844 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو ، عن الحسن في قوله : " ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد " ، قال : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه .
    [ ص: 322 ] القول في تأويل قوله ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ( 31 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الآية فيه . فقال بعضهم : أنزلت في قوم قالوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنا نحب ربنا " فأمر الله جل وعز نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم : " إن كنتم صادقين فيما تقولون ، فاتبعوني ، فإن ذلك علامة صدقكم فيما قلتم من ذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    6845 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن بكر بن الأسود قال : سمعت الحسن يقول : قال قوم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، إنا نحب ربنا ! فأنزل الله - عز وجل - : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " فجعل اتباع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - علما لحبه ، وعذاب من خالفه .

    6846 - حدثني المثنى قال : حدثنا علي بن الهيثم قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن أبي عبيدة قال : سمعت الحسن يقول : قال أقوام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، إنا لنحب ربنا ! فأنزل الله جل وعز بذلك قرآنا : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " فجعل الله اتباع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - علما لحبه ، وعذاب من خالفه . [ ص: 323 ]

    6847 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، قال : كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله ، يقولون : إنا نحب ربنا ! فأمرهم الله أن يتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل اتباع محمد علما لحبه .

    6848 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " إن كنتم تحبون الله الآية ، قال : إن أقواما كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزعمون أنهم يحبون الله ، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل ، فقال : " إن كنتم تحبون الله " الآية ، كان اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - تصديقا لقولهم .

    وقال آخرون : بل هذا أمر من الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى : إن كان الذي تقولونه في عيسى من عظيم القول ، إنما يقولونه تعظيما لله وحبا له ، فاتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - .

    ذكر من قال ذلك :

    6849 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قل إن كنتم تحبون الله " أي : إن كان هذا من قولكم - يعني : في عيسى - حبا لله وتعظيما له ، فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " أي : ما مضى من كفركم " والله غفور رحيم " . [ ص: 324 ]

    قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قول محمد بن جعفر بن الزبير . لأنه لم يجر لغير وفد نجران في هذه السورة ولا قبل هذه الآية ، ذكر قوم ادعوا أنهم يحبون الله ، ولا أنهم يعظمونه ، فيكون قوله . " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني " جوابا لقولهم ، على ما قاله الحسن .

    وأما ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه ، فلا خبر به عندنا يصح ، فيجوز أن يقال إن ذلك كذلك ، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال . إلا أن يكون الحسن أراد بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفد نجران من النصارى ، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه .

    فإذ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا ، ولا في الآية دليل على ما وصفنا ، فأولى الأمور بنا أن نلحق تأويله بالذي عليه الدلالة من آي السورة ، وذلك هو ما وصفنا . لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها ، خبر عنهم ، واحتجاج من الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ودليل على بطول قولهم في المسيح . فالواجب أن تكون هي أيضا مصروفة المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها .

    قال أبو جعفر : فإذا كان الأمر على ما وصفنا ، فتأويل الآية : قل ، يا محمد ، للوفد من نصارى نجران : إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله ، وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون ، حبا منكم ربكم فحققوا قولكم الذي تقولونه ، إن كنتم صادقين ، باتباعكم إياي ، فإنكم تعلمون أني لله رسول إليكم ، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه ، فإنه إن اتبعتموني وصدقتموني على [ ص: 325 ] ما أتيتكم به من عند الله يغفر لكم ذنوبكم ، فيصفح لكم عن العقوبة عليها ، ويعفو لكم عما مضى منها ، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين ، رحيم بهم وبغيرهم من خلقه .
    القول في تأويل قوله ( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ( 32 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : قل ، يا محمد ، لهؤلاء الوفد من نصارى نجران : أطيعوا الله والرسول محمدا ، فإنكم قد علمتم يقينا أنه رسولي إلى خلقي ، ابتعثته بالحق ، تجدونه مكتوبا عندكم في الإنجيل ، فإن تولوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك ، وأعرضوا عنه ، فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر بجحد ما عرف من الحق ، وأنكره بعد علمه ، وأنهم منهم ، بجحودهم نبوتك ، وإنكارهم الحق الذي أنت عليه ، بعد علمهم بصحة أمرك ، وحقيقة نبوتك ، كما : -

    6850 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قل أطيعوا الله والرسول " فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم " فإن تولوا " على كفرهم " فإن الله لا يحب الكافرين " .
    [ ص: 326 ] القول في تأويل قوله ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ( 33 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : إن الله اجتبى آدم ونوحا واختارهما لدينهما وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه ؛ لأنهم كانوا أهل الإسلام . فأخبر الله - عز وجل - أنه اختار دين من ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته .

    وإنما عنى ب آل إبراهيم وآل عمران المؤمنين .

    وقد دللنا على أن آل الرجل أتباعه وقومه ، ومن هو على دينه .

    وبالذي قلنا في ذلك روي القول عن ابن عباس أنه كان يقوله .

    6851 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " قال : هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد ، يقول الله - عز وجل - : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ) [ سورة آل عمران : 68 ] ، وهم المؤمنون .

    6852 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " رجلان نبيان اصطفاهما الله على العالمين .

    6853 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " قال : ذكر الله أهل بيتين صالحين ، ورجلين صالحين ، ففضلهم [ ص: 327 ] على العالمين ، فكان محمد من آل إبراهيم .

    6854 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم " إلى قوله : " والله سميع عليم " قال : فضلهم الله على العالمين بالنبوة ، على الناس كلهم ، كانوا هم الأنبياء الأتقياء المصطفين لربهم .
    القول في تأويل قوله ( ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ( 34 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك : إن الله اصطفى آل إبراهيم وآل عمران " ذرية بعضها من بعض " .

    ف " الذرية " منصوبة على القطع من " آل إبراهيم وآل عمران " لأن " الذرية " نكرة ، " وآل عمران " معرفة .

    ولو قيل نصبت على تكرير " الاصطفاء " لكان صوابا ؛ لأن المعنى : اصطفى ذرية بعضها من بعض .

    وإنما جعل بعضهم من بعض " في الموالاة في الدين ، والمؤازرة على الإسلام والحق . كما قال - جل ثناؤه - : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) [ سورة التوبة : 71 ] وقال في موضع آخر : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) [ سورة التوبة : 67 ] يعني : أن دينهم واحد وطريقتهم واحدة ، فكذلك قوله : [ ص: 328 ] " ذرية بعضها من بعض " إنما معناه : ذرية دين بعضها دين بعض ، وكلمتهم واحدة ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته كما : -

    6855 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ذرية بعضها من بعض " يقول : في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له .

    وقوله : " والله سميع عليم " يعني بذلك : والله ذو سمع لقول امرأة عمران ، وذو علم بما تضمره في نفسها ، إذ نذرت له ما في بطنها محررا .
    القول في تأويل قوله ( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ( 35 ) )

    يعني بقوله - جل ثناؤه - : " إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني " ف " إذ " من صلة " سميع " .

    وأما " امرأة عمران " فهي أم مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه . وكان اسمها فيما ذكر لنا حنة ابنة فاقوذ بن قبيل ، كذلك : -

    6856 - حدثنا به محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في نسبه وقال غير ابن حميد : ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل .

    فأما زوجها " عمران " فإنه : عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن [ ص: 329 ] أحزيق بن يوثم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا كذلك : -

    6857 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في نسبه .

    وأما قوله : " رب إني نذرت لك ما في بطني محررا " فإن معناه : إني جعلت لك يا رب نذرا أن لك الذي في بطني محررا لعبادتك . يعني بذلك : حبسته على خدمتك وخدمة قدسك في الكنيسة ، عتيقة من خدمة كل شيء سواك ، مفرغة لك خاصة .

    ونصب " محررا " على الحال مما في الصفة من ذكر " الذي " .

    " فتقبل مني " أي : فتقبل مني ما نذرت لك يا رب " إنك أنت السميع [ ص: 330 ] العليم " يعني : إنك أنت يا رب " السميع " لما أقول وأدعو " العليم " لما أنوي في نفسي وأريد ، لا يخفى عليك سر أمري وعلانيته .

    وكان سبب نذر حنة ابنة فاقوذ امرأة عمران الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا ، ما : -

    6858 - حدثنا به ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : تزوج زكريا وعمران أختين ، فكانت أم يحيى عند زكريا ، وكانت أم مريم عند عمران ، فهلك عمران وأم مريم حامل بمريم ، فهي جنين في بطنها . قال : وكانت - فيما يزعمون - قد أمسك عنها الولد حتى أسنت ، وكانوا أهل بيت من الله - جل ثناؤه - بمكان . فبينا هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخا له ، فتحركت نفسها للولد ، فدعت الله أن يهب لها ولدا ، فحملت بمريم ، وهلك عمران . فلما عرفت أن في بطنها جنينا ، جعلته لله نذيرة و " النذيرة " أن تعبده لله ، فتجعله حبيسا في الكنيسة ، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا .

    6859 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال ثم ذكر امرأة عمران وقولها : " رب إني نذرت لك ما في بطني محررا أي نذرته . تقول : جعلته عتيقا لعبادة الله ، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا " فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " .

    6860 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال : حدثنا محمد بن ربيعة [ ص: 331 ] قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : " محررا " قال : خادما للبيعة .

    6861 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد قال : خادما للكنيسة .

    6862 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح قال : أخبرنا إسماعيل ، عن الشعبي في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررا " قال : فرغته للعبادة .

    6863 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررا " قال : جعلته في الكنيسة ، وفرغته للعبادة .

    6864 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل ، عن الشعبي نحوه .

    6865 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررا " قال : للكنيسة يخدمها .

    6866 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    6867 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : " إني نذرت لك ما في بطني محررا " قال : خالصا ، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا .

    6868 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، [ ص: 332 ] عن سعيد بن جبير : " إني نذرت لك ما في بطني محررا " قال : للبيعة والكنيسة .

    6869 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " إني نذرت لك ما في بطني محررا " قال : محررا للعبادة .

    6870 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا " الآية ، كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها ، وكانوا إنما يحررون الذكور ، وكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها ، يقوم عليها ويكنسها .

    6871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررا ، قال : نذرت ولدها للكنيسة .

    6872 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " قال : وذلك أن امرأة عمران حملت ، فظنت أن ما في بطنها غلام ، فوهبته لله محررا لا يعمل في الدنيا .

    6873 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها . قال : وكانوا إنما يحررون الذكور ، فكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها ، يقوم عليها ويكنسها .

    6874 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك في قوله : " إني نذرت لك ما في بطني محررا " قال : جعلت ولدها لله ، وللذين يدرسون الكتاب ويتعلمونه .

    6875 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة : أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة : أن امرأة عمران كانت عجوزا عاقرا تسمى حنة ، وكانت لا تلد ، فجعلت تغبط النساء لأولادهن .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •