تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 23 الأولىالأولى 123456789101112 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 460

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(5)
    الحلقة (21)
    صــ 243إلى صــ 250


    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الصَّلَاةَ )

    284 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا جُوَيْبَرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ : " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " : يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ .

    وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى :


    لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا


    يَعْنِي بِذَلِكَ : دَعَا لَهَا ، وَكَقَوْلِ الْأَعْشَى أَيْضًا .


    وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ [ ص: 243 ]


    وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ سُمِّيَتْ "صَلَاةً " ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُتَعَرِّضٌ لِاسْتِنْجَاحِ طَلِبَتِهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ ، مَعَ مَا يَسْأَلُ رَبَّهُ مِنْ حَاجَاتِهِ ، تَعَرُّضَ الدَّاعِي بِدُعَائِهِ رَبَّهُ اسْتِنْجَاحَ حَاجَاتِهِ وَسُؤْلَهُ .
    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 ) )

    اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا : -

    285 - حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ احْتِسَابًا بِهَا .

    286 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .

    287 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسُورِهِمْ وَجُهْدِهِمْ ، حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ : سَبْعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ ، مِمَّا يَذْكُرُ فِيهِنَّ الصَّدَقَاتِ ، هُنَّ الْمُثْبَتِاتُ النَّاسِخَاتُ .

    وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا : -

    288 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ [ ص: 244 ] النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " : هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ . وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ .

    وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ وَأَحَقُّهَا بِصِفَةِ الْقَوْمِ : أَنْ يَكُونُوا كَانُوا لِجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، مُؤَدِّينَ ، زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ ، مِنْ أَهْلٍ وَعِيَالٍ وَغَيْرُهُمْ ، مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ وَصَفَهُمْ إِذْ وَصَفَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ ، فَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ . فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِذْ لَمْ يَخْصُصْ مَدْحَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا دُونَ نَوْعٍ بِخَبَرٍ وَلَا غَيْرِهِ - أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِجَمِيعِ مَعَانِي النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا مَنْ طِيبِ مَا رَزَقَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ ، وَذَلِكَ الْحَلَالُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَشُبْهُ حَرَامٌ .
    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ )

    قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنِ الْمَنْعُوتِينَ بِهَذَا النَّعْتِ ، وَأَيُّ أَجْنَاسِ النَّاسِ هُمْ . غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلٌ :

    289 - فَحَدَّثْنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ " : أَيْ يُصَدِّقُونَكَ [ ص: 245 ] بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ ، وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ .

    290 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " : هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 ) )

    قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : أَمَّا الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا صِفَةٌ لِلدَّارِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ : 64 . وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِمَصِيرِهَا آخِرَةً لِأُولَى كَانَتْ قَبْلَهَا ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ : "أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، فَلَمْ تَشْكُرْ لِيَ الْأُولَى وَلَا الْآخِرَةَ " ، وَإِنَّمَا صَارَتْ آخِرَةً لِلْأُولَى ، لِتَقَدُّمِ الْأُولَى أَمَامَهَا . فَكَذَلِكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ، سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَقَدُّمِ الدَّارِ الْأُولَى أَمَامَهَا ، فَصَارَتِ التَّالِيَةُ لَهَا آخِرَةً . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْخَلْقِ ، كَمَا سُمِّيَتِ الدُّنْيَا "دُنْيَا " لِدُنُوِّهَا مِنَ الْخَلْقِ . [ ص: 246 ]

    وَأَمَّا الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ - بِمَا أَنْزَلَ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَنْزَلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ - مِنْ إِيقَانِهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ، فَهُوَ إِيقَانُهُمْ بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِهِ جَاحِدِينَ : مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِخَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . كَمَا : -

    291 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) : أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ ، أَيْ ، لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ قَبْلَكَ ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ .

    وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ صَرَّحَ عَنْ أَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا - وَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا مِنْ نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ - تَعْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَمِّ كَفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ - بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ - مُصَدِّقُونَ ، وَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مُكَذِّبُونَ ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّنْزِيلِ جَاحِدُونَ ، وَيَدَّعُونَ مَعَ جُحُودِهِمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ بِقَوْلِهِ : ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) . وَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ : أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ هَدًى لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى - خَاصَّةً ، دُونَ مَنْ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، وَادَّعَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الرُّسُلِ [ ص: 247 ] وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكُتُبِ . ثُمَّ أَكَّدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ - بِقَوْلِهِ : ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ هُمْ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْخَسَارِ .
    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ )

    اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " : فَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَت َيْنِ ، أَعْنِي : الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعَرَبِ ، وَالْمُؤْمِنِين َ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ . وَإِيَّاهُمْ جَمِيعًا وَصَفَ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْهُ ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

    ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ :

    292 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مَرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمَّا " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " ، الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ : " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " .

    وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [ ص: 248 ] بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ .

    وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ ، وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ .

    وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْآخَرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) فِي مَحَلِّ خَفْضٍ ، وَمَحَلِّ رَفْعٍ .

    فَأَمَّا الرَّفْعُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ قِبَلِ الْعَطْفِ عَلَى مَا فِي " يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " مِنْ ذِكْرِ "الَّذِينَ " ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ ، أَوْ يَكُونَ " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " ، مُرَافِعُهَا .

    وَأَمَّا الْخَفْضُ فَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى "الْمتقين " ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى "الَّذِينَ " اتَّجَهَ لَهَا وَجْهَانِ مِنَ الْمَعْنَى : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ هِيَ وَ "الَّذِينَ " الْأُولَى ، مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ . وَذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ "الم " ، نَزَلَتْ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً فِي الْإِعْرَابِ عَلَى "الْمتقين " بِمَعْنَى الْخَفْضِ ، وَهُمْ فِي الْمَعْنَى صِنْفٌ غَيْرُ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ . وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَأَى أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْأُولَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ "الم " ، غَيْرُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْآخِرَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيَانِ الْأُولَتَيْنِ .

    وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةً فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى الِائْتِنَافِ ، إِذْ كَانَتْ مُبْتَدَأً بِهَا بَعْدَ تَمَامِ آيَةٍ وَانْقِضَاءِ قِصَّةٍ . وَقَدْ يَجُوزُ الرَّفْعُ فِيهَا أَيْضًا بِنْيَةِ الِائْتِنَافِ ، إِذْ كَانَتْ فِي مُبْتَدَأِ آيَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ .

    فَالرَّفْعُ إِذًا يَصِحُّ فِيهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، وَالْخَفْضُ مِنْ وَجْهَيْنِ .

    وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ عِنْدِي بِقَوْلِهِ ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) مَا ذَكَرْتُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنْ تَكُونَ "أُولَئِكَ " إِشَارَةً إِلَى الْفَرِيقَيْنِ ، أَعْنِي : [ ص: 249 ] الْمُتَّقِينَ ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَتَكُونُ "أُولَئِكَ " مَرْفُوعَةً بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ " عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ "; وَأَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلُ مِنَ الْكَلَامِ ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ .

    وَإِنَّمَا رَأَيْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَعَتَ الْفَرِيقَيْنِ بِنَعْتِهِمُ الْمَحْمُودِ ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ . فَلَمْ يَكُنْ عَزَّ وَجَلَّ لِيَخُصَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالثَّنَاءِ ، مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِيمَا اسْتَحَقَّا بِهِ الثَّنَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ . كَمَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي عَدْلِهِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْجَزَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ ، فَيَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِالْجَزَاءِ دُونَ الْآخَرِ ، وَيَحْرِمُ الْآخَرَ جَزَاءَ عَمَلِهِ . فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّنَاءِ بِالْأَعْمَالِ ، لِأَنَّ الثَّنَاءَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْجَزَاءِ .

    وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : أَنَّهُمْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ ، بِتَسْدِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ ، وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ . كَمَا : -

    293 - حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، [ ص: 250 ] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " : أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(6)
    الحلقة (22)
    صــ 251إلى صــ 256


    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وأولئك هم المفلحون ( 5 ) )

    وتأويل قوله : " وأولئك هم المفلحون " أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنان ، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب . كما : -

    294 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وأولئك هم المفلحون ) أي الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا .

    ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح ، إدراك الطلبة والظفر بالحاجة ، قول لبيد بن ربيعة :


    اعقلي ، إن كنت لما تعقلي ، ولقد أفلح من كان عقل


    يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا ، ومنه قول الراجز :


    عدمت أما ولدت رياحا جاءت به مفركحا فركاحا
    تحسب أن قد ولدت نجاحا! أشهد لا يزيدها فلاحا


    يعني : خيرا وقربا من حاجتها . والفلاح مصدر من قولك : أفلح فلان يفلح إفلاحا وفلاحا وفلحا . والفلاح أيضا : البقاء ، ومنه قول لبيد :


    نحل بلادا ، كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير


    يريد البقاء ، ومنه أيضا قول عبيد :


    أفلح بما شئت ، فقد يدرك بالض عف ، وقد يخدع الأريب


    يريد : عش وابق بما شئت ، وكذلك قول نابغة بني ذبيان :


    وكل فتى ستشعبه شعوب وإن أثرى ، وإن لاقى فلاحا


    أي نجاحا بحاجته وبقاء .
    القول في تأويل قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )

    اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفيمن نزلت . فكان ابن عباس يقول ، كما : -

    295 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " إن الذين كفروا " ، أي بما أنزل إليك من ربك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك .

    وكان ابن عباس يرى أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توبيخا لهم في جحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به ، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله إليهم وإلى الناس كافة .

    296 - وقد حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها ، نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ، من المنافقين من الأوس والخزرج . كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم . [ ص: 252 ]

    وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر ، وهو ما : -

    297 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول .

    وقال آخرون بما : -

    298 - حدثت به عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : آيتان في قادة الأحزاب : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) ، قال : وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) سورة إبراهيم : 28 ، 29 ، قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر .

    وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عنه . وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب . [ ص: 253 ]

    فأما مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس ، فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون ، وأن الإنذار غير نافعهم ، ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة - لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادة الأحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر - علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية .

    وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك ، فهي أن قول الله جل ثناؤه ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب ، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله . فأولى الأمور بحكمة الله ، أن يتلي ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم ، وذم أسبابهم وأحوالهم ، وإظهار شتمهم والبراءة منهم . لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم - فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل .

    وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل ، الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته - بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه ، فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك ، هو الذي أنزل الكتاب على موسى . إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد [ ص: 254 ] صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي ، وأن ما جاء به فمن عند الله . وأنى يمكن ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ، ولا يحسب ، فيقال قرأ الكتب فعلم ، أو حسب فنجم ؟ وانبعث على أحبار قراء كتبة - قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم - يخبرهم عن مستور عيوبهم ، ومصون علومهم ، ومكتوم أخبارهم ، وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم . إن أمر من كان كذلك لغير مشكل ، وإن صدقه لبين .

    ومما ينبئ عن صحة ما قلنا - من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه - اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم ، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه السلام ، بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين ، واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم - في قوله : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) سورة البقرة : 40 وما بعدها ، واحتجاجه لنبيه عليهم ، بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته . فإذ كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب ، وآخرا عن مشركيهم ، فأولى أن يكون وسطا : - عنهم . إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع ، إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدأ به من معانيه ، فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه . [ ص: 255 ]

    وأما معنى الكفر في قوله " إن الذين كفروا " فإنه الجحود . وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس وكتموا أمره ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .

    وأصل الكفر عند العرب : تغطية الشيء ، ولذلك سموا الليل "كافرا " ، لتغطية ظلمته ما لبسته ، كما قال الشاعر :


    فتذكرا ثقلا رثيدا ، بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر


    وقال لبيد بن ربيعة :


    في ليلة كفر النجوم غمامها


    يعني غطاها . فكذلك الأحبار من اليهود غطوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه الناس - مع علمهم بنبوته ، ووجودهم صفته في كتبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) سورة البقرة : 159 ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .
    [ ص: 256 ]

    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )

    وتأويل "سواء " : معتدل . مأخوذ من التساوي ، كقولك : "متساو هذان الأمران عندي " ، و "هما عندي سواء " ، أي هما متعادلان عندي ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( فانبذ إليهم على سواء ) سورة الأنفال : 58 ، يعني : أعلمهم وآذنهم بالحرب ، حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر . فكذلك قوله " سواء عليهم " : معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم ، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم . ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات :


    تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها


    يعني بذلك : معتدل عندها في السير الليل والنهار ، لأنه لا فتور فيه . ومنه قول الآخر


    وليل يقول المرء من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها


    لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(7)
    الحلقة (23)
    صــ 257إلى صــ 262

    وأما قوله : ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر ; لأنه وقع موقع "أي " كما تقول : "لا نبالي أقمت أم [ ص: 257 ] قعدت " ، وأنت مخبر لا مستفهم ، لوقوع ذلك موقع "أي " . وذلك أن معناه إذا قلت ذلك : ما نبالي أي هذين كان منك . فكذلك ذلك في قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم - حسن في موضعه مع سواء : "أفعلت أم لم تفعل " .

    وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع "سواء " ، وليس باستفهام ، لأن المستفهم إذا استفهم غيره فقال : "أزيد عندك أم عمرو ؟ " مستثبت صاحبه أيهما عنده . فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الآخر . فلما كان قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " بمعنى التسوية ، أشبه ذلك الاستفهام ، إذ أشبهه في التسوية . وقد بينا الصواب في ذلك .

    فتأويل الكلام إذا : معتدل يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها ، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي ، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك ، وأن يبينوه للناس ، ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، فإنهم لا يؤمنون ، ولا يرجعون إلى الحق ، ولا يصدقون بك وبما جئتهم به . كما : -

    299 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ .
    [ ص: 258 ]

    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم )

    قال أبو جعفر : وأصل الختم : الطبع . والخاتم هو الطابع . يقال منه : ختمت الكتاب ، إذا طبعته .

    فإن قال لنا قائل : وكيف يختم على القلوب ، وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف ؟

    قيل : فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم ، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تدرك المسموعات ، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات - نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف .

    فإن قال : فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها ؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار ، أم هي بخلاف ذلك ؟

    قيل : قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك ، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم :

    300 - فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بإصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى هكذا ، حتى ضم أصابعه كلها ، قال : ثم يطبع عليه بطابع . قال [ ص: 259 ] مجاهد : وكانوا يرون أن ذلك : الرين .

    301 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : القلب مثل الكف ، فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يرون أنه الران .

    302 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال مجاهد : نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه الطبع ، والطبع : الختم . قال ابن جريج : الختم ، الختم على القلب والسمع .

    303 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : الران أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الأقفال ، والأقفال أشد ذلك كله . [ ص: 260 ]

    وقال بعضهم : إنما معنى قوله " ختم الله على قلوبهم " إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم ، وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق ، كما يقال : "إن فلانا لأصم عن هذا الكلام " ، إذا امتنع من سماعه ، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا .

    قال أبو جعفر : والحق في ذلك عندي ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما : -

    304 - حدثنا به محمد بن بشار قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : حدثنا ابن عجلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقلت قلبه ، فإن زاد زادت حتى تغلق قلبه ، فذلك "الران " الذي قال الله جل ثناؤه : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) سورة المطففين : 14 . [ ص: 261 ]

    فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر منها مخلص ، فذلك هو الطبع . والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) ، نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف ، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها . فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم ، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها .

    ويقال لقائلي القول الثاني ، الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، هو وصفهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دعوا إليه من الإقرار بالحق تكبرا : أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة ، وإعراضهم عن الإقرار بما دعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللواحق به - أفعل منهم ، أم فعل من الله تعالى ذكره بهم ؟

    فإن زعموا أن ذلك فعل منهم - وذلك قولهم - قيل لهم : فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم . وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان ، وتكبره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم - ختما من الله على قلبه وسمعه ، وختمه على قلبه وسمعه ، فعل الله عز وجل دون الكافر ؟

    فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبره وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه ، فلما كان الختم سببا لذلك ، جاز أن يسمى مسببه به - تركوا قولهم ، وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم ، معنى غير كفر الكافر ، وغير تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به . وذلك دخول فيما أنكروه . [ ص: 262 ]

    وهذه الآية من أوضح الدليل على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله ، لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم ، ثم لم يسقط التكليف عنهم ، ولم يضع عن أحد منهم فرائضه ، ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بل أخبر أن لجميعهم منه عذابا عظيما على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه ، مع حتمه القضاء عليهم مع ذلك ، بأنهم لا يؤمنون .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وعلى أبصارهم غشاوة )

    قال أبو جعفر : وقوله ( وعلى أبصارهم غشاوة ) خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم . وذلك أن "غشاوة " مرفوعة بقوله " وعلى أبصارهم " ، فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ ، وأن قوله " ختم الله على قلوبهم " ، قد تناهى عند قوله " وعلى سمعهم " .

    وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين :

    أحدهما : اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها ، وانفراد المخالف لهم في ذلك ، وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون . وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدا على خطئها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(8)
    الحلقة (24)
    صــ 263إلى صــ 268

    والثاني : أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله ، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا موجود في لغة أحد من العرب . وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى : ( وختم على سمعه وقلبه ) ، ثم قال : ( وجعل على بصره غشاوة ) [ ص: 263 ] سورة الجاثية : 23 ، فلم يدخل البصر في معنى الختم . وذلك هو المعروف في كلام العرب ، فلم يجز لنا ، ولا لأحد من الناس ، القراءة بنصب الغشاوة ، لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت ، وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية .

    وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل ، روي الخبر عن ابن عباس :

    305 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي الحسين بن الحسن ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، والغشاوة على أبصارهم . [ ص: 264 ]

    فإن قال قائل : وما وجه مخرج النصب فيها ؟

    قيل له : أن تنصبها بإضمار "جعل " ، كأنه قال : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ثم أسقط "جعل " ، إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه . وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع ، إذ كان موضعه نصبا ، وإن لم يكن حسنا إعادة العامل فيه على "غشاوة " ، ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضا ، كما قال تعالى ذكره : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق ) ، ثم قال : ( وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين ) ، سورة الواقعة : 17 - 22 ، فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة ، إتباعا لآخر الكلام أوله . ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور العين ، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه :


    علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها
    [ ص: 265 ]

    ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به ، ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل ، وكما قال الآخر :


    ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا


    وكان ابن جريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله " وعلى سمعهم " ، وابتداء الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه ، ويتأول فيه من كتاب الله ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) سورة الشورى : 24 .

    306 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى ذكره : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) ، وقال : ( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) [ سورة الجاثية : 23 ] .

    والغشاوة في كلام العرب : الغطاء ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص :


    تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها


    ومنه يقال : تغشاه الهم : إذا تجلله وركبه ، ومنه قول نابغة بني ذبيان : [ ص: 266 ]


    هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما


    يعني بذلك : تجلله وخالطه .

    وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود ، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها ، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه ، وفيما حدد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم ، فلا يسمعون من محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوته ، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه وصحة أمره . وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى ، فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردى .

    وبنحو ما قلنا في ذلك ، روي الخبر عن جماعة من أهل التأويل :

    307 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) ، أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك ، حتى يؤمنوا به ، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .

    308 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول [ ص: 267 ] الله صلى الله عليه وسلم : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " يقول : فلا يعقلون ولا يسمعون . ويقول : "وجعل على أبصارهم غشاوة " يقول : على أعينهم فلا يبصرون .

    وأما آخرون ، فإنهم كانوا يتأولون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم ، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر .

    309 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : هاتان الآيتان إلى ( ولهم عذاب عظيم ) هم ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) سورة إبراهيم : 28 ، وهم الذين قتلوا يوم بدر ، فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان بن حرب ، والحكم بن أبي العاص .

    310 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، قال : أما القادة فليس فيهم مجيب ولا ناج ولا مهتد .

    وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب ، فكرهنا إعادته .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولهم عذاب عظيم ( 7 ) )

    وتأويل ذلك عندي ، كما قاله ابن عباس وتأوله : [ ص: 268 ]

    311 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم . قال : فهذا في الأحبار من يهود ، فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم .
    " القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( 8 ) )

    قال أبو جعفر : أما قوله : " ومن الناس " ، فإن في "الناس " وجهين :

    أحدهما : أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه ، وإنما واحدهم "إنسان " ، وواحدتهم "إنسانة " .

    والوجه الآخر : أن يكون أصله "أناس " أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرفتان ، فأدغمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون ، كما قيل في ( لكنا هو الله ربي ) سورة الكهف : 38 ، على ما قد بينا في "اسم الله " الذي هو الله . وقد زعم بعضهم أن "الناس " لغة غير "أناس " ، وأنه سمع العرب تصغره "نويس " من الناس ، وأن الأصل لو كان "أناس" لقيل في التصغير : "أنيس" ، فرد إلى أصله .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(9)
    الحلقة (25)
    صــ 269إلى صــ 274

    وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم . [ ص: 269 ]

    ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم :

    312 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم .

    وقد سمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبي بن كعب ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .

    313 - حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، حتى بلغ : ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) قال : هذه في المنافقين .

    314 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة ، في نعت المنافقين .

    315 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    316 حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 270 ]

    317 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) هم المنافقون .

    318 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) إلى ( فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم ) ، قال : هؤلاء أهل النفاق .

    319 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) قال : هذا المنافق ، يخالف قوله فعله ، وسره علانيته ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه .

    وتأويل ذلك : أن الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته ، واستقر بها قراره ، وأظهر الله بها كلمته ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذل بها من فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن ، وأبدوا له العداوة والشنآن ، حسدا وبغيا ، إلا نفرا منهم هداهم الله للإسلام فأسلموا ، كما قال جل ثناؤه : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) سورة البقرة : 109 ، وطابقهم سرا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ ص: 271 ] وبغيهم الغوائل ، قوم - من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه - وكانوا قد عسوا في شركهم وجاهليتهم قد سموا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم ، وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار ، حذار القتل على أنفسهم ، والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام . فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حذارا على أنفسهم - : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث ، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ، ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك ، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم . وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، فخلوا بهم قالوا : ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) . فإياهم عنى جل ذكره بقوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، يعني بقوله تعالى خبرا عنهم : آمنا بالله - : وصدقنا بالله .

    وقد دللنا على أن معنى الإيمان : التصديق ، فيما مضى قبل من كتابنا هذا .

    وقوله : ( وباليوم الآخر ) ، يعني : بالبعث يوم القيامة ، وإنما سمي يوم القيامة " اليوم الآخر " ، لأنه آخر يوم ، لا يوم بعده سواه .

    فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاع للآخرة ولا فناء ، ولا زوال ؟ [ ص: 272 ]

    قيل : إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوما . فيوم القيامة يوم لا ليل بعده ، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام . ولذلك سماه الله جل ثناؤه "اليوم الآخر " ، ونعته بالعقيم . ووصفه بأنه يوم عقيم ، لأنه لا ليل بعده .

    وأما تأويل قوله : " وما هم بمؤمنين " ، ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان ، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم ، وضد ما في عزائم نفوسهم .

    وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية : من أن الإيمان هو التصديق بالقول ، دون سائر المعاني غيره . وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق ، أنهم قالوا بألسنتهم : " آمنا بالله وباليوم الآخر " ، ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك .

    وقوله " وما هم بمؤمنين " ، يعني بمصدقين " فيما يزعمون أنهم به مصدقون .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( يخادعون الله والذين آمنوا )

    قال أبو جعفر : وخداع المنافق ربه والمؤمنين ، إظهاره [ ص: 273 ] بلسانه من القول والتصديق ، خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ، ليدرأ عن نفسه ، بما أظهر بلسانه ، حكم الله عز وجل - اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب ، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار - من القتل والسباء . فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله .

    فإن قال قائل : وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟

    قيل : لا تمتنع العرب من أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف ، فنجا بذلك مما خافه - مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية . فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر مستبطن . وذلك من فعله - وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها ، أنه يعطيها أمنيتها ، ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرعها به كأس عذابها ، ومزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعته نفسه ، ظنا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال جل ثناؤه : " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " ، إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم - غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .

    وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، كان ابن زيد يقول .

    320 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد عن قول الله جل ذكره : ( يخادعون الله والذين آمنوا ) إلى [ ص: 274 ] آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا ، أنهم مؤمنون بما أظهروا .

    وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه الزاعمين : أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا ، بعد علمه بوحدانيته ، وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده ، والإقرار بكتبه ورسله - عنده . لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق ، وخداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون ، وأنهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به - مخدوعون . ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه ، واعتقاد الكفر به ، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون ، وهم على الكفر مصرون .

    فإن قال لنا قائل : قد علمت أن "المفاعلة " لا تكون إلا من فاعلين ، كقولك : ضاربت أخاك ، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه . فأما إذا كان الفعل من أحدهما ، فإنما يقال : ضربت أخاك ، وجلست إلى أبيك ، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه : خادع الله والمؤمنين ؟

    قيل : قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة أعني "يخادع " بصورة "يفاعل " ، وهو بمعنى "يفعل " ، في حروف أمثالها شاذة من منطق العرب ، نظير قولهم : قاتلك الله ، بمعنى قتلك الله .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(10)
    الحلقة (26)
    صــ 275إلى صــ 280


    وليس القول في ذلك عندي كالذي قال ، بل ذلك من "التفاعل " الذي لا يكون إلا من اثنين ، كسائر ما يعرف من معنى "يفاعل ومفاعل " في كل كلام العرب . وذلك : أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه - على ما قد تقدم [ ص: 275 ] وصفه - والله تبارك اسمه خادعه ، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده ، كالذي أخبر في قوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) سورة آل عمران : 178 ، وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الآخرة بقوله : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) سورة الحديد : 13 ، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام ب "يفاعل ومفاعل " . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول : لا تكون المفاعلة إلا من شيئين ، ولكنه إنما قيل : " يخادعون الله " عند أنفسهم ، بظنهم أن لا يعاقبوا ، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم ، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته ، وما يخدعون إلا أنفسهم . قال : وقد قال بعضهم : " وما يخدعون " يقول : يخدعون أنفسهم بالتخلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وما يخدعون إلا أنفسهم )

    إن قال قائل : أو ليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين - بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم ، وإن [ ص: 276 ] كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟

    قيل : خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين . لأنا إذا قلنا ذلك ، أوجبنا لهم حقيقة خدعة جازت لهم على المؤمنين . كما أنا لو قلنا : قتل فلان فلانا ، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان . ولكنا نقول : خادع المنافقون ربهم والمؤمنين ، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم ، كما قال جل ثناؤه ، دون غيرها ، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر ، فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه : قاتل فلان فلانا فلم يقتل إلا نفسه ، فتوجب له مقاتلة صاحبه ، وتنفي عنه قتله صاحبه ، وتوجب له قتل نفسه . فكذلك تقول : "خادع المنافق ربه والمؤمنين فلم يخدع إلا نفسه " ، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين ، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه ، لأن الخادع هو الذي قد صحت الخديعة له ، ووقع منه فعلها . فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم ، لأن ما كان لهم من مال وأهل ، فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم - في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها - فيستنقذوه بخداعهم منهم ، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم ، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة ، والله بما يخفون من أمورهم عالم . وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه ، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه . فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه غير لاحقه من خداعه إياه مكروه ، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ، ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها ، والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه ، ولا عارف باطلاعه على ضميره ، وأن إمهال مستدرجه إياه ، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع - من استحقاقه عقوبة مستدرجه ، [ ص: 277 ] بكثرة إساءته ، وطول عصيانه إياه ، وكثرة صفح المستدرج ، وطول عفوه عنه أقصى غاية فإنما هو خادع نفسه لا شك ، دون من حدثته نفسه أنه له مخادع . ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه ، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته .

    وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به ، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها ، لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) دون ( وما يخادعون ) لأن لفظ "المخادع " غير موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولفظ "خادع " موجب تثبيت خديعة على صحة . ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين - بنفاقه ، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) .

    ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ : ( وما يخدعون ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ : ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضاد في المعنى ، وذلك غير جائز من الله جل وعز .
    القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وما يشعرون ( 9 ) )

    يعني بقوله جل ثناؤه " وما يشعرون " ، وما يدرون . يقال : ما شعر فلان بهذا الأمر ، وهو لا يشعر به - إذا لم يدر ولم يعلم - شعرا وشعورا . وقال الشاعر : [ ص: 278 ]


    عقوا بسهم ولم يشعر به أحد ثم استفاءوا وقالوا : حبذا الوضح


    يعني بقوله : لم يشعر به ، لم يدر به أحد ولم يعلم . فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين : أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم ، بإملائه لهم واستدراجه إياهم ، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة ، ومنهم لأنفسهم خديعة ، ولها في الآجل مضرة . كالذي - :

    321 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قوله : ( وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) ، قال : ما يشعرون أنهم ضروا أنفسهم ، بما أسروا من الكفر والنفاق . وقرأ قول الله تعالى ذكره : ( يوم يبعثهم الله جميعا ) ، قال : هم المنافقون حتى بلغ ( ويحسبون أنهم على شيء ) سورة المجادلة : 18 ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( في قلوبهم مرض )

    قال أبو جعفر : وأصل المرض : السقم ، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان . فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا ، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره [ ص: 279 ] عن مرض قلوبهم ، الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب ، أنه معني به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد - استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لجأ :


    وسبحت المدينة ، لا تلمها ، رأت قمرا بسوقهم نهارا


    يريد : وسبح أهل المدينة ، فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة ، عن الخبر عن أهلها . ومثله قول عنترة العبسي :


    هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ؟ إن كنت جاهلة بما لم تعلمي


    يريد : هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : "يا خيل الله اركبي " ، يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا . والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .

    فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : ( في قلوبهم مرض ) إنما يعني : في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين ، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله - مرض وسقم . فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه ، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم .

    والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه : هو شكهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله ، وتحيرهم فيه ، فلا هم به موقنون إيقان إيمان ، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ، ولكنهم ، كما وصفهم الله عز وجل ، مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما يقال : فلان يمرض في هذا الأمر [ ص: 280 ] أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه .

    وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك ، تظاهر القول في تفسيره من المفسرين .

    ذكر من قال ذلك :

    322 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " في قلوبهم مرض " أي شك .

    323 - وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : المرض : النفاق .

    324 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في قلوبهم مرض " يقول : في قلوبهم شك .

    325 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " في قلوبهم مرض " قال : هذا مرض في الدين ، وليس مرضا في الأجساد ، قال : وهم المنافقون .

    326 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله " في قلوبهم مرض " قال : في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه .

    327 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " في قلوبهم مرض " قال : هؤلاء أهل النفاق ، والمرض الذي في قلوبهم : الشك في أمر الله تعالى ذكره .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(11)
    الحلقة (27)
    صــ 281إلى صــ 286

    328 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) حتى بلغ ( في قلوبهم مرض ) [ ص: 281 ] قال : المرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فزادهم الله مرضا )

    قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين ، هو الشك في اعتقادات قلوبهم وأديانهم ، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون .

    فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم ، نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة ، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه - التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة ، إذ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف ، من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك . كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك ، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به ، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه - إيمانا . كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) [ ص: 282 ] [ سورة التوبة : 124 ، 125 ] . فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم ، هو ما وصفنا . والتي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم ، هو ما بينا . وذلك هو التأويل المجمع عليه .

    ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل :

    329 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فزادهم الله مرضا " قال : شكا .

    330 - حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فزادهم الله مرضا " يقول : فزادهم الله ريبة وشكا .

    331 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة : " فزادهم الله مرضا " يقول : فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله .

    332 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " قال : زادهم رجسا ، وقرأ قول الله عز وجل : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) قال : شرا إلى شرهم ، وضلالة إلى ضلالتهم .

    333 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فزادهم الله مرضا " قال : زادهم الله شكا .
    [ ص: 283 ]

    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولهم عذاب أليم )

    قال أبو جعفر : والأليم : هو الموجع . ومعناه : ولهم عذاب مؤلم . بصرف " مؤلم " إلى " أليم " كما يقال : ضرب وجيع بمعنى موجع ، والله بديع السماوات والأرض ، بمعنى مبدع . ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :


    أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع


    بمعنى المسمع . ومنه قول ذي الرمة :


    وترفع من صدور شمردلات يصد وجوهها وهج أليم


    ويروى " يصك " وإنما الأليم صفة للعذاب ، كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم . وهو مأخوذ من الألم ، والألم : الوجع . كما :

    334 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الأليم ، الموجع .

    335 - حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الأليم ، الموجع . [ ص: 284 ]

    336 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله " أليم " قال : هو العذاب الموجع . وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( بما كانوا يكذبون ( 10 ) )

    اختلفت القرأة في قراءة ذلك فقرأه بعضهم : ( بما كانوا يكذبون ) مخففة الذال مفتوحة الياء ، وهي قراءة عظم قرأة أهل الكوفة . وقرأه آخرون : " يكذبون " بضم الياء وتشديد الذال ، وهي قراءة عظم أهل المدينة والحجاز والبصرة .

    وكأن الذين قرءوا ذلك ، بتشديد الذال وضم الياء ، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد اليسير من العذاب ، فكيف بالأليم منه ؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا . وذلك : أن الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة ، بأنهم يكذبون بدعواهم الإيمان ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم ، خداعا لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين ، فقال : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا ) [ ص: 285 ] بذلك من قيلهم ، مع استسرارهم الشك والريبة ، ( وما يخدعون ) بصنيعهم ذلك ( إلا أنفسهم ) دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ( وما يشعرون ) بموضع خديعتهم أنفسهم ، واستدراج الله عز وجل إياهم بإملائه لهم ، ( في قلوبهم ) شك النفاق وريبته والله زائدهم شكا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم في قيلهم ذلك كذبة ، لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم . فأولى في حكمة الله جل جلاله ، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم ، دون ما لم يجر له ذكر من أفعالهم . إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل ، وهو : أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم ، ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم .

    فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوئ أفعال المنافقين - أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم . فهذا هذا ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا ، وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا ، وأن الصواب من التأويل ما تأولنا ، من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ) [ سورة المنافقون : 1 ، 2 ] . والآية [ ص: 286 ] الأخرى في المجادلة : ( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ) [ سورة المجادلة : 16 ] . فأخبر جل ثناؤه أن المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون . ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم ، على ذلك من كذبهم . ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة : " ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " لكانت القراءة في السورة الأخرى : " والله يشهد إن المنافقين " لمكذبون ، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب لا على الكذب . وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله : " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم - أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : " بما كانوا يكذبون " بمعنى الكذب ، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب - حق - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذكر - نظير الذي في سورة المنافقين سواء .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(12)
    الحلقة (28)
    صــ 287إلى صــ 292

    وقد زعم بعض نحويي البصرة أن " ما " من قول الله تبارك اسمه " بما كانوا يكذبون " اسم للمصدر ، كما أن " أن " و " الفعل " اسمان للمصدر في قولك : أحب أن تأتيني ، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم . قال : وأدخل " كان " ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما يقال : ما أحسن ما كان عبد الله ، فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه ، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ، ويقول : إنما ألغيت " كان " في التعجب ، لأن الفعل قد تقدمها ، فكأنه قال : " حسنا كان زيد " و " حسن كان زيد " يبطل " كان " ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء ، إذا جاءت قبل " كان " ووقعت " كان " بينها وبين الأسماء . وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال ، فلشبه الصفات والأسماء ب " فعل " و " يفعل " اللتين لا يظهر عمل [ ص: 287 ] " كان " فيهما . ألا ترى أنك تقول : " يقوم كان زيد " ولا يظهر عمل " كان " في " يقوم " وكذلك " قام كان زيد " فلذلك أبطل عملها مع " فاعل " تمثيلا ب " فعل " و " يفعل " وأعملت مع " فاعل " أحيانا لأنه اسم ، كما تعمل في الأسماء . فأما إذا تقدمت " كان " الأسماء والأفعال ، وكان الاسم والفعل بعدها ، فخطأ عنده أن تكون " كان " مبطلة . فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه ، وتأول قول الله عز وجل بما كانوا يكذبون أنه بمعنى : الذي يكذبونه .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض )

    اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية :

    فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول : لم يجئ هؤلاء بعد .

    337 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن علي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت المنهال بن عمرو يحدث ، عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان ، قال : ما جاء هؤلاء بعد ، الذين ( إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) . [ ص: 288 ]

    338 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان ، أنه قال في هذه الآية : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : ما جاء هؤلاء بعد .

    وقال آخرون بما :

    339 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، هم المنافقون . أما " لا تفسدوا في الأرض " فإن الفساد ، هو الكفر والعمل بالمعصية .

    340 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) يقول : لا تعصوا في الأرض ( قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : فكان فسادهم ذلك معصية الله جل ثناؤه ، لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته ، فقد أفسد في الأرض ، لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة . [ ص: 289 ]

    وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : إن قول الله تبارك اسمه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة .

    وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية : " ما جاء هؤلاء بعد " أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبرا منه عمن هو جاء منهم بعدهم ولما يجئ بعد ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد .

    وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين ، وأن هذه الآيات فيهم نزلت . والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن ، من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير .

    والإفساد في الأرض ، العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه ، وتضييع ما أمر الله بحفظه ، فذلك جملة الإفساد ، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ سورة البقرة : 30 ] ، يعنون بذلك : أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك ؟ فكذلك صفة أهل النفاق : مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله ، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا . فذلك إفساد المنافقين في أرض الله ، وهم [ ص: 290 ] يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها . فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته ، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته - بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون - بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره ، والأليم من عذابه ، والعار العاجل بسب الله إياهم وشتمه لهم ، فقال تعالى : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم ، أدل الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين : إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه ، بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( قالوا إنما نحن مصلحون ( 11 ) )

    وتأويل ذلك كالذي قاله ابن عباس ، الذي :

    341 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( إنما نحن مصلحون ) ، أي قالوا : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب .

    وخالفه في ذلك غيره .

    342 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) ، قال : إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى مصلحون . [ ص: 291 ]

    قال أبو جعفر : وأي الأمرين كان منهم في ذلك ، أعني في دعواهم أنهم مصلحون ، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون . فسواء بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاح ، أو في أديانهم ، وفيما ركبوا من معصية الله ، وكذبهم المؤمنين فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون ، لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين ، وهم عند الله مسيئون ، ولأمر الله مخالفون . لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوة اليهود وحربهم مع المسلمين ، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله ، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين . فكان لقاؤهم اليهود - على وجه الولاية منهم لهم - ، وشكهم في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظم الفساد ، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى : في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود ، فقال جل ثناؤه فيهم : ( ألا إنهم هم المفسدون ) دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض ، ( ولكن لا يشعرون )
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( 12 ) )

    وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم . إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ، ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه ، قالوا : إنما نحن مصلحون لا مفسدون ، ونحن على رشد وهدى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالون . فكذبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم فقال : ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمر الله عز وجل ، المتعدون حدوده ، الراكبون معصيته ، التاركون فروضه ، وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين ، [ ص: 292 ] وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين .
    القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس )

    قال أبو جعفر : وتأويل قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون : ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) : صدقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، كما صدق به الناس . ويعني ب " الناس " المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله . كما :

    343 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) ، يقول : وإذا قيل لهم صدقوا كما صدق أصحاب محمد ، قولوا : إنه نبي ورسول ، وإن ما أنزل عليه حق ، وصدقوا بالآخرة ، وأنكم مبعوثون من بعد الموت .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(13)
    الحلقة (29)
    صــ 293إلى صــ 298

    وإنما أدخلت الألف واللام في " الناس " وهم بعض الناس لا جميعهم ، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم ، وإنما معناه : آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر . فلذلك أدخلت الألف واللام فيه ، كما أدخلتا في قوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) [ ص: 293 ] [ سورة آل عمران : 173 ] ، لأنه أشير بدخولها إلى ناس معروفين عند من خوطب بذلك .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء )

    قال أبو جعفر : والسفهاء جمع سفيه ، كما العلماء جمع عليم ، والحكماء جمع حكيم . والسفيه : الجاهل ، الضعيف الرأي ، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار . ولذلك سمى الله عز وجل النساء والصبيان سفهاء ، فقال تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) [ سورة النساء : 5 ] ، فقال عامة أهل التأويل : هم النساء والصبيان ، لضعف آرائهم ، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضار التي تصرف إليها الأموال .

    وإنما عنى المنافقون بقيلهم : أنؤمن كما آمن السفهاء - إذ دعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، والإقرار بالبعث فقيل لهم : آمنوا كما آمن [ الناس ] - أصحاب محمد وأتباعه من المؤمنين المصدقين به ، من أهل الإيمان واليقين ، والتصديق بالله ، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه ، وباليوم الآخر . فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم : أنؤمن كما آمن أهل الجهل ، ونصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام ؟ كالذي :

    344 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن [ ص: 294 ] عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) ، يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

    345 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

    346 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : " قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء " قال : هذا قول المنافقين ، يريدون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

    347 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) يقولون : أنقول كما تقول السفهاء ؟ يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، لخلافهم لدينهم .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ( 13 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعته لهم ، ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنهم هم الجهال في أديانهم ، [ ص: 295 ] الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم ، من الشك والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته ، وفيما جاء به من عند الله ، وأمر البعث ، لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك وهم يحسبون أنهم إليها يحسنون . وذلك هو عين السفه ، لأن السفيه إنما يفسد من حيث يرى أنه يصلح ، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ ، فكذلك المنافق : يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه ، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به ، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها ، كما وصفهم به ربنا جل ذكره ، فقال : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) ، وقال : ( ألا إنهم هم السفهاء ) - دون المؤمنين المصدقين بالله وبكتابه ، وبرسوله وثوابه وعقابه - ( ولكن لا يعلمون ) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية .

    348 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم السفهاء ) ، يقول : الجهال ، ( ولكن لا يعلمون ) ، يقول : ولكن لا يعقلون .

    وأما وجه دخول الألف واللام في " السفهاء " فشبيه بوجه دخولهما في " الناس " في قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) ، وقد بينا العلة في دخولهما هنالك ، والعلة في دخولهما في " السفهاء " نظيرتها في دخولهما في " الناس " هنالك ، سواء .

    والدلالة التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من الله لا يستحقها إلا المعاند ربه ، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظير دلالة الآيات الأخر التي قد تقدم ذكرنا تأويلها في قوله " ولكن لا يشعرون " ونظائر ذلك .
    [ ص: 296 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم )

    قال أبو جعفر : وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جل ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسوله والمؤمنين ، فقال تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) . ثم أكذبهم تعالى ذكره بقوله : ( وما هم بمؤمنين ) ، وأنهم بقيلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا . وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون - للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسوله - بألسنتهم : آمنا وصدقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ودرءا لهم عنها ، وأنهم إذا خلوا إلى مردتهم وأهل العتو والشر والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم ، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شيء مردته - قالوا لهم : " إنا معكم " أي إنا معكم على دينكم ، وظهراؤكم على من خالفكم فيه ، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، " إنما نحن مستهزئون " بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه ، كالذي :

    349 - حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم ، قالوا : إنا على دينكم . وإذا خلوا إلى أصحابهم ، وهم شياطينهم ، قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون . [ ص: 397 ]

    350 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم ) قال : إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول ( قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه ( إنما نحن مستهزئون ) .

    351 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، أما شياطينهم ، فهم رءوسهم في الكفر .

    352 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) أي رؤسائهم في الشر ( قالوا إنما نحن مستهزئون ) .

    353 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر عن قتادة في قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : المشركون .

    354 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار .

    355 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل بن عباد ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : أصحابهم من المنافقين والمشركين .

    356 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي [ ص: 198 ] جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إخوانهم من المشركين ، ( قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .

    357 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : إذا أصاب المؤمنين رخاء قالوا : إنا نحن معكم ، إنما نحن إخوانكم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين .

    358 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وقال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين .

    فإن قال لنا قائل : أرأيت قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ؟ فكيف قيل : ( خلوا إلى شياطينهم ) ، ولم يقل خلوا بشياطينهم ؟ فقد علمت أن الجاري بين الناس في كلامهم : " خلوت بفلان " أكثر وأفشى من : " خلوت إلى فلان " ومن قولك : إن القرآن أفصح البيان!

    قيل : قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب . فكان بعض نحويي البصرة يقول : يقال " خلوت إلى فلان " إذا أريد به : خلوت إليه في حاجة خاصة . لا يحتمل - إذا قيل كذلك - إلا الخلاء إليه في قضاء الحاجة . فأما إذا قيل : " خلوت به " احتمل معنيين : أحدهما الخلاء به في الحاجة ، والآخر في السخرية به . فعلى هذا القول ، ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، لا شك أفصح منه لو قيل " وإذا خلوا بشياطينهم " لما في قول القائل : " إذا خلوا بشياطينهم " من التباس المعنى على سامعيه ، الذي هو منتف عن قوله : " وإذا خلوا إلى شياطينهم " فهذا أحد الأقوال .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(14)
    الحلقة (30)
    صــ 299إلى صــ 304

    والقول الآخر : فأن توجه معنى قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، " وإذا [ ص: 299 ] خلوا مع شياطينهم " إذ كانت حروف الصفات يعاقب بعضها بعضا ، كما قال الله مخبرا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين : ( من أنصاري إلى الله ) [ سورة الصف : 14 ] ، يريد : مع الله . وكما توضع " على " في موضع " من " و " في " و " عن " و " الباء " كما قال الشاعر :


    إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها


    بمعنى عني .

    وأما بعض نحويي أهل الكوفة ، فإنه كان يتأول أن ذلك بمعنى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب ل " إلى " المعنى الذي دل عليه الكلام : من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم ، لا قوله " خلوا " وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع " إلى " غيرها ، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها .

    وهذا القول عندي أولى بالصواب ، لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها . ول " إلى " في كل موضع دخلت من الكلام حكم ، وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها .
    [ ص: 300 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( إنما نحن مستهزئون ( 14 ) )

    أجمع أهل التأويل جميعا - لا خلاف بينهم - على أن معنى قوله : ( إنما نحن مستهزئون ) : إنما نحن ساخرون . فمعنى الكلام إذا : وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مردتهم من المنافقين والمشركين قالوا : إنا معكم على ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، ومعاداته ومعاداة أتباعه ، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، بقيلنا لهم إذا لقيناهم : آمنا بالله وباليوم الآخر كما :

    359 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا : ( إنما نحن مستهزئون ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

    360 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي : إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم .

    361 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : ( إنما نحن مستهزئون ) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونسخر بهم .

    362 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
    [ ص: 301 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الله يستهزئ بهم )

    قال أبو جعفر : اختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله ، الذي ذكر أنه فاعله بالمنافقين ، الذين وصف صفتهم . فقال بعضهم : استهزاؤه بهم ، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعل بهم يوم القيامة في قوله تعالى : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ) [ سورة الحديد : 13 ، 14 ] . الآية . وكالذي أخبرنا أنه فعل بالكفار بقوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) [ سورة آل عمران : 178 ] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول ، ومتأولي هذا التأويل .

    وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم ، توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصي الله والكفر به ، كما يقال : " إن فلانا ليهزأ منه منذ اليوم ، ويسخر منه " يراد به توبيخ الناس إياه ولومهم له ، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، كما قال عبيد بن الأبرص :


    سائل بنا حجر ابن أم قطام ، إذ ظلت به السمر النواهل تلعب
    [ ص: 302 ]

    فزعموا أن السمر - وهي القنا - لا لعب منها ، ولكنها لما قتلتهم وشردتهم ، جعل ذلك من فعلها لعبا بمن فعلت ذلك به . قالوا : فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بمن استهزأ به من أهل النفاق والكفر به : إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، وإما إملاؤه لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة ، أو توبيخه لهم ولائمته إياهم . قالوا : وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسخرية .

    وقال آخرون قوله : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ سورة النساء : 142 ] على الجواب ، كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به : " أنا الذي خدعتك " ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه . قالوا : وكذلك قوله : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) [ سورة آل عمران : 54 ] ، و " الله يستهزئ بهم " على الجواب . والله لا يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم .

    وقال آخرون : قوله : ( إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ) ، وقوله : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ سورة النساء : 142 ] ، وقوله : ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) [ سورة التوبة : 79 ] ، ( نسوا الله فنسيهم ) [ سورة التوبة : 67 ] ، وما أشبه ذلك ، إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ، ومعاقبهم عقوبة الخداع . فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم ، مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان . كما قال جل ثناؤه : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ سورة الشورى : 40 ] ، ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة ، إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية ، وأن الأخرى عدل ، لأنها من الله جزاء [ ص: 303 ] للعاصي على المعصية ، فهما - وإن اتفق لفظاهما - مختلفا المعنى . وكذلك قوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) [ سورة البقرة : 194 ] ، فالعدوان الأول ظلم ، والثاني جزاء لا ظلم ، بل هو عدل ، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه ، وإن وافق لفظه لفظ الأول .

    وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك ، مما هو خبر عن مكر الله جل وعز بقوم ، وما أشبه ذلك .

    وقال آخرون : إن معنى ذلك : أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا : إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما نظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون . يعنون : إنا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حق ولا هدى . قالوا : وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء ، فأخبر الله أنه " يستهزئ بهم " فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم .

    والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا : أن معنى الاستهزاء في كلام العرب : إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرا ، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنا . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(15)
    الحلقة (31)
    صــ 305إلى صــ 310

    فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم ، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ، المدخلهم في عداد من يشمله اسم الإسلام ، وإن كانوا لغير ذلك [ ص: 304 ] مستبطنين - أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك ، بضمائر قلوبهم ، وصحائح عزائمهم ، وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - مع علم الله عز وجل بكذبهم ، واطلاعه على خبث اعتقادهم ، وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم به مصدقون ، حتى ظنوا في الآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا ، أنهم واردون موردهم . وداخلون مدخلهم . والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقتهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه ، وتفريقه بينهم وبينهم - معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ، ما أعد منه لأعدى أعدائه وشر عباده ، حتى ميز بينهم وبين أوليائه ، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم - وإن كان جزاء لهم على أفعالهم ، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له - كان بهم - بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم : من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء ، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين - إلى أن ميز بينهم وبينهم - مستهزئا ، وبهم ساخرا ، ولهم خادعا ، وبهم ماكرا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل ، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم ، أو عليه فيها غير عادل ، بل ذلك معناه في كل أحواله ، إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره . [ ص: 305 ]

    وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس :

    363 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " الله يستهزئ بهم " قال : يسخر بهم للنقمة منهم .

    وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره : الله يستهزئ بهم " إنما هو على وجه الجواب ، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة ، فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه ، وأوجبه لها . وسواء قال قائل : لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به ، أو قال : لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم .

    ويقال لقائل ذلك : إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم ، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم ، وعن آخرين أنه أغرقهم ، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك ، ولم نفرق بين شيء منه . فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه ، بزعمك : أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به ، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به ؟

    ثم نعكس القول عليه في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .

    فإن لجأ إلى أن يقول : إن الاستهزاء عبث ولعب ، وذلك عن الله عز وجل منفي .

    قيل له : إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء ، أفلست [ ص: 306 ] تقول : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " و " مكر الله بهم " وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية ؟

    فإن قال : " لا " كذب بالقرآن ، وخرج عن ملة الإسلام .

    وإن قال : " بلى " قيل له : أفنقول من الوجه الذي قلت : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " - " يلعب الله بهم " و " يعبث " - ولا لعب من الله ولا عبث ؟

    فإن قال : " نعم " ! وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه ، وعلى تخطئة واصفه به ، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه .

    وإن قال : لا أقول : " يلعب الله بهم " ولا " يعبث " وقد أقول " يستهزئ بهم " و " يسخر منهم "

    قيل : فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث ، والهزء والسخرية ، والمكر والخديعة . ومن الوجه الذي جاز قيل هذا ، ولم يجز قيل هذا ، افترق معنياهما . فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر .

    وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا ، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه . وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ويمدهم )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ويمدهم ) ، فقال بعضهم بما :

    364 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - [ ص: 307 ] وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يمدهم " يملي لهم .

    وقال آخرون بما :

    365 - حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة عن مجاهد : " يمدهم " قال : يزيدهم .

    وكان بعض نحويي البصرة يتأول ذلك أنه بمعنى : يمد لهم ، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب : الغلام يلعب الكعاب ، يراد به يلعب بالكعاب . قال : وذلك أنهم قد يقولون : " قد مددت له وأمددت له " في غير هذا المعنى ، وهو قول الله تعالى ذكره : ( وأمددناهم ) [ سورة الطور : 22 ] ، وهذا من : " مددناهم " قال : ويقال : قد " مد البحر فهو ماد " و " أمد الجرح فهو ممد " وحكي عن يونس الجرمي أنه كان يقول : ما كان من الشر فهو " مددت " وما كان من الخير فهو " أمددت " ثم قال : وهو كما فسرت لك ، إذا أردت أنك تركته فهو " مددت له " وإذا أردت أنك أعطيته قلت : " أمددت "

    وأما بعض نحويي الكوفة فإنه كان يقول : كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو " مددت " بغير ألف ، كما تقول : " مد النهر ، ومده نهر آخر غيره " إذا اتصل به فصار منه ، وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو بألف ، كقولك : " أمد الجرح " لأن المدة من غير الجرح ، وأمددت الجيش بمدد .

    وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله : " ويمدهم " : أن يكون بمعنى يزيدهم ، على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم ، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله [ ص: 308 ] ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ سورة الأنعام : 110 ] ، يعني نذرهم ونتركهم فيه ، ونملي لهم ليزدادوا إثما إلى إثمهم .

    ولا وجه لقول من قال : ذلك بمعنى " يمد لهم " لأنه لا تدافع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل : " مد النهر نهر آخر " بمعنى : اتصل به فصار زائدا ماء المتصل به بماء المتصل - من غير تأول منهم . ذلك أن معناه : مد النهر نهر آخر . فكذلك ذلك في قول الله : ( ويمدهم في طغيانهم يعمهون )
    القول في تأويل قوله : ( في طغيانهم )

    قال أبو جعفر : و " الطغيان " " الفعلان " من قولك : " طغى فلان يطغى طغيانا " إذا تجاوز في الأمر حده فبغى . ومنه قول الله : ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ سورة العلق : 6 ، 7 ] ، أي يتجاوز حده . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :


    ودعا الله دعوة لات هنا بعد طغيانه ، فظل مشيرا


    وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله ( ويمدهم في طغيانهم ) ، [ ص: 309 ] أنه يملي لهم ، ويذرهم يبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون . كما :

    366 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( في طغيانهم يعمهون ) ، قال : في كفرهم يترددون .

    367 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في طغيانهم " في كفرهم .

    368 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( في طغيانهم يعمهون ) ، أي في ضلالتهم يعمهون .

    369 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " في طغيانهم " في ضلالتهم .

    370 - وحدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " في طغيانهم " قال : طغيانهم كفرهم وضلالتهم .
    القول في تأويل قوله : ( يعمهون ( 15 ) )

    قال أبو جعفر : والعمه نفسه : الضلال . يقال منه : عمه فلان يعمه عمهانا وعموها ، إذا ضل . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مضلة من المهامه :


    ومخفق من لهله ولهله من مهمه يجتبنه في مهمه
    [ ص: 310 ]
    أعمى الهدى بالجاهلين العمه


    و " العمه " جمع عامه ، وهم الذين يضلون فيه فيتحيرون . فمعنى قوله إذا : ( في طغيانهم يعمهون ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه ، وعلاهم رجسه ، يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا .

    وبنحو ما قلنا في " العمه " جاء تأويل المتأولين .

    371 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يعمهون " يتمادون في كفرهم .

    372 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يعمهون " قال : يتمادون .

    373 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " يعمهون " قال : يترددون .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(17)
    الحلقة (32)
    صــ 311إلى صــ 315


    374 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " يعمهون " : المتلدد . [ ص: 311 ]

    375 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( في طغيانهم يعمهون ) ، قال : يترددون .

    376 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    377 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .

    378 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، عن مجاهد ، مثله .

    379 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، " يعمهون " قال : يترددون .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى )

    قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى ، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم : باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمت أن معنى الشراء المفهوم : اعتياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه ، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة ، لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا ؟ [ ص: 312 ]

    قيل : قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فنذكر ما قالوا فيه ، ثم نبين الصحيح من التأويل في ذلك إن شاء الله :

    380 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، أي الكفر بالإيمان .

    381 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، يقول : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .

    382 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى .

    383 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، آمنوا ثم كفروا .

    384 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك : " أخذوا الضلالة وتركوا الهدى " - وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به ، فقالوا : كذلك المنافق والكافر ، قد أخذا مكان الإيمان الكفر ، فكان ذلك منهما شراء [ ص: 313 ] للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى ، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التي أخذاها .

    وأما الذين تأولوا أن معنى قوله " اشتروا " : " استحبوا " فإنهم لما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفار في موضع آخر ، فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى ، فقال : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ سورة فصلت : 17 ] ، صرفوا قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) إلى ذلك . وقالوا : قد تدخل " الباء " مكان " على " و " على " مكان " الباء " كما يقال : مررت بفلان ، ومررت على فلان ، بمعنى واحد ، وكقول الله جل ثناؤه : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) [ سورة آل عمران : 75 ] ، أي على قنطار . فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء : أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى . وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه " اشتروا " إلى معنى اختاروا ، لأن العرب تقول : اشتريت كذا على كذا ، واستريته - يعنون اخترته عليه .

    ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة


    فقد أخرج الكاعب المسترا ة من خدرها وأشيع القمار


    يعني بالمستراة : المختارة .

    وقال ذو الرمة ، في الاشتراء بمعنى الاختيار :


    يذب القصايا عن شراة كأنها جماهير تحت المدجنات الهواضب


    .

    يعني بالشراة : المختارة . [ ص: 314 ]

    وقال آخر في مثل ذلك :


    إن الشراة روقة الأموال وحزرة القلب خيار المال


    قال أبو جعفر : وهذا ، وإن كان وجها من التأويل ، فلست له بمختار . لأن الله جل ثناؤه قال : ( فما ربحت تجارتهم ) ، فدل بذلك على أن معنى قوله ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) معنى الشراء الذي يتعارفه الناس ، من استبدال شيء مكان شيء ، وأخذ عوض على عوض .

    وأما الذين قالوا : إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا ، فإنه لا مئونة عليهم ، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم . لأن الأمر إذا كان كذلك ، فقد تركوا الإيمان ، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى . وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع ، ولكن دلائل أول الآيات في نعوتهم إلى آخرها ، دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ، ولا دخلوا في ملة الإسلام ، أوما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ في نعتهم ، إلى أن أتى على صفتهم ، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم : بدعواهم التصديق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم ، واستهزاء في نفوسهم بالمؤمنين ، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون . يقول الله جل جلاله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، ثم اقتص قصصهم إلى قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ؟ [ ص: 315 ] فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟

    فإن كان قائل هذه المقالة ظن أن قوله : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر ، فلذلك قيل لهم " اشتروا " - فإن ذلك تأويل غير مسلم له ، إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره ، وقد يكون بمعنى الاختيار ، وبغير ذلك من المعاني . والكلمة إذا احتملت وجوها ، لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها .

    قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا ، باكتسابه الكفر الذي وجد منه ، بدلا من الإيمان الذي أمر به . أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) [ سورة البقرة : 108 ] وذلك هو معنى الشراء ، لأن كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بديلا منه . فكذلك المنافق والكافر ، استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق ، فأضلهما الله ، وسلبهما نور الهدى ، فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(18)
    الحلقة (33)
    صــ 316إلى صــ 320


    القول في تأويل قوله : ( فما ربحت تجارتهم )

    قال أبو جعفر : وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالة بالهدى - خسروا ولم يربحوا ، لأن الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه [ ص: 316 ] بدلا هو أنفس من سلعته المملوكة أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به . فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي ابتاعها به ، فهو الخاسر في تجارته لا شك . فكذلك الكافر والمنافق ، لأنهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى ، والخوف والرعب على الحفظ والأمن ، واستبدلا في العاجل : بالرشاد الحيرة ، وبالهدى الضلالة ، وبالحفظ الخوف ، وبالأمن الرعب - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب ، فخابا وخسرا ، ذلك هو الخسران المبين .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول .

    385 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [ ص: 317 ] : قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) ؟ وهل التجارة مما تربح أو توكس ، فيقال : ربحت أو وضعت ؟

    قيل : إن وجه ذلك على غير ما ظننت . وإنما معنى ذلك : فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشتروا ، ولا فيما شروا . ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا ، وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لآخر : خاب سعيك ، ونام ليلك ، وخسر بيعك ، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام ، فقال : ( فما ربحت تجارتهم ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة ، كما النوم في الليل . فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك ، عن أن يقال : فما ربحوا في تجارتهم ، وإن كان ذلك معناه ، كما قال الشاعر :


    وشر المنايا ميت وسط أهله كهلك الفتاة أسلم الحي حاضره


    يعني بذلك : وشر المنايا منية ميت وسط أهله ، فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك ، عن إظهار ما ترك إظهاره ، وكما قال رؤبة بن العجاج :


    حارث! قد فرجت عني همي فنام ليلي وتجلى غمي


    فوصف بالنوم الليل ، ومعناه أنه هو الذي نام ، وكما قال جرير بن الخطفى :


    وأعور من نبهان أما نهاره فأعمى ، وأما ليله فبصير


    فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ، ومراده وصف النبهاني بذلك .
    القول في تأويل قوله : ( وما كانوا مهتدين ( 16 ) )

    يعني بقوله جل ثناؤه ( وما كانوا مهتدين ) : ما كانوا رشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى ، واستبدالهم الكفر بالإيمان ، واشترائهم النفاق بالتصديق والإقرار .
    [ ص: 318 ] القول في تأويل قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( 17 ) )

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، وقد علمت أن " الهاء والميم " من قوله " مثلهم " كناية جماع - من الرجال أو الرجال والنساء - و " الذي " دلالة على واحد من الذكور ؟ فكيف جعل الخبر عن واحد مثلا لجماعة ؟ وهلا قيل : مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا ؟ وإن جاز عندك أن تمثل الجماعة بالواحد ، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم ، أن يقول : كأن هؤلاء ، أو كأن أجسام هؤلاء ، نخ لة ؟

    قيل : أما في الموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من المنافقين ، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسن ، وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك : ( تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) [ سورة الأحزاب : 19 ] ، يعني كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت - وكقوله : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ سورة لقمان : 28 ] بمعنى : إلا كبعث نفس واحدة .

    وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال ، في الطول وتمام الخلق ، بالواحدة من النخيل ، فغير جائز ، ولا في نظائره ، لفرق بينهما .

    فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد ، فإنما جاز ، لأن المراد من [ ص: 319 ] الخبر عن مثل المنافقين ، الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرديئة ، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر . والاستضاءة - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنى واحد ، لا معان مختلفة . فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد ، من الأشياء المختلفة الأشخاص .

    وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، قولا وهم به مكذبون اعتقادا ، كمثل استضاءة الموقد نارا . ثم أسقط ذكر الاستضاءة ، وأضيف المثل إليهم ، كما قال نابغة بني جعدة :


    وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب


    يريد : كخلالة أبي مرحب ، فأسقط " خلالة " إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه على ما حذف منه . فكذلك القول في قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام ، أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حسن حذف ذكر الاستضاءة ، وإضافة المثل إلى أهله . والمقصود بالمثل ما ذكرنا . فلما وصفنا ، جاز وحسن قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد ، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى .

    وأما إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام ، بشيء - فالصواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة ، والواحد بالواحد ، لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الآخرين .

    ولذلك من المعنى ، افترق القول في تشبيه الأفعال والأسماء . فجاز تشبيه أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحد - بفعل الواحد ، [ ص: 320 ] ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل . فيقال : ما أفعالكم إلا كفعل الكلب ، ثم يحذف فيقال : ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب ، وأنت تعني : إلا كفعل الكلب ، وإلا كفعل الكلاب . ولم يجز أن تقول : ما هم إلا نخلة ، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطول والتمام .

    وأما قوله : ( استوقد نارا ) ، فإنه في تأويل : أوقد ، كما قال الشاعر :


    وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب


    يريد : فلم يجبه . فكان معنى الكلام إذا مثل استضاءة هؤلاء المنافقين في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم ، من قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وصدقنا بمحمد وبما جاء به ، وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم مثل استضاءة موقد نار بناره ، حتى أضاءت له النار ما حوله ، يعني : ما حول المستوقد .

    وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة : أن " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " بمعنى الذين ، كما قال جل ثناؤه : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] ، وكما قال الشاعر :


    فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(19)
    الحلقة (34)
    صــ 321إلى صــ 325

    قال أبو جعفر : والقول الأول هو القول ، لما وصفنا من العلة . وقد أغفل قائل [ ص: 321 ] ذلك فرق ما بين " الذي " في الآيتين وفي البيت . لأن " الذي " في قوله : " والذي جاء بالصدق " قد جاءت الدلالة على أن معناها الجمع ، وهو قوله : ( أولئك هم المتقون ) ، وكذلك " الذي " في البيت ، وهو قوله " دماؤهم " وليست هذه الدلالة في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " فذلك فرق ما بين " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " وسائر شواهده التي استشهد بها على أن معنى " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " بمعنى الجماع . وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره ، إلا بحجة يجب التسليم لها .

    ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فروي عن ابن عباس فيه أقوال :

    أحدها ما :

    386 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ضرب الله للمنافقين مثلا فقال : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه ، فتركهم في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق . والآخر ما :

    387 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) إلى آخر الآية : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز ، كما سلب صاحب النار ضوءه . ( وتركهم في ظلمات ) يقول : في عذاب . [ ص: 322 ]

    والثالث : ما

    388 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) ، زعم أن أناسا دخلوا في الإسلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينا هو كذلك ، إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى . فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلال من الحرام ، والخير من الشر ، فبينا هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر . وأما النور ، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وكانت الظلمة نفاقهم . والآخر : ما

    389 - حدثني به محمد بن سعيد ، قال : حدثني أبي سعيد بن محمد قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) إلى " فهم لا يرجعون " ضربه الله مثلا للمنافق . وقوله : ( ذهب الله بنورهم ) قال : أما النور ، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به . وأما الظلمة ، فهي ضلالتهم وكفرهم يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك .

    وقال آخرون : بما

    390 - حدثني به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) ، وإن المنافق تكلم [ ص: 323 ] بلا إله إلا الله ، فأضاءت له في الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازى بها المسلمين ، ووارث بها المسلمين ، وحقن بها دمه وماله . فلما كان عند الموت ، سلبها المنافق ، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في علمه .

    391 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " هي : لا إله إلا الله ، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا ، وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا بها دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .

    392 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " قال : أما النور ، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمات ، فهي ضلالتهم وكفرهم .

    وقال آخرون بما :

    393 - حدثني به محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " قال : أما إضاءة النار ، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى ، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة . [ ص: 324 ]

    394 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى ، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة .

    395 - حدثني القاسم ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

    396 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ضرب مثل أهل النفاق فقال : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " قال : إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها . كذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .

    397 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين . كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار ، فتركهم في ظلمات لا يبصرون .

    وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة ، والضحاك ، وما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وذلك : أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين - الذين وصف صفتهم وقص قصصهم ، من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " لا المعلنين بالكفر المجاهرين [ ص: 325 ] بالشرك ، ولو كان المثل لمن آمن إيمانا صحيحا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحا - على ما ظن المتأول قول الله جل ثناؤه : ( كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) : أن ضوء النار مثل لإيمانهم الذي كان منهم عنده على صحة ، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن هناك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق . وأنى يكون خداع ونفاق ممن لم يبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها ، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها ؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد ، ومن الخداع بريء . وإذ كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان : حال إيمان ظاهر ، وحال كفر ظاهر ، فقد سقط عن القوم اسم النفاق ؛ لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين ، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين . ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقين .

    وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ، ما ينبئ عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم : أن القوم كانوا مؤمنين ، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه ، إلى الكفر الذي هو نفاق . وذلك قول إن قاله ، لم تدرك صحته إلا بخبر مستفيض ، أو ببعض المعاني الموجبة صحته . فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته ، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(20)
    الحلقة (35)
    صــ 326إلى صــ 330

    فإذ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك ، فأولى تأويلات الآية بالآية : مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به ، وقولهم له وللمؤمنين : آمنا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، حتى حكم لهم بذلك [ ص: 326 ] في عاجل الدنيا بحكم المسلمين : في حقن الدماء والأموال ، والأمن على الذرية من السباء ، وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقد النار بالنار ، حتى إذا ارتفق بضيائها ، وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة ، خمدت النار وانطفأت ، فذهب نوره ، وعاد المستضيء به في ظلمة وحيرة .

    وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء ، مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه - تخيل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادع ، حتى سولت له نفسه - إذ ورد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق . أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ، ثم أخبر خبرهم عند ورودهم عليه : ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ) [ سورة المجادلة : 18 ] ، ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة ، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا : من الكذب والإفك ، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا ، حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال ، واستهزاء بأنفسهم وخداع ، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة ، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا واصلوا سعيرا . فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له ، فبقي في ظلمته حيران تائها ، يقول الله جل ثناؤه : [ ص: 327 ] ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ) [ سورة الحديد : 13 - 15 ] .

    فإن قال لنا قائل : إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالى ذكره " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " : خمدت وانطفأت ، وليس ذلك بموجود في القرآن . فما دلالتك على أن ذلك معناه ؟

    قيل : قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار ، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :


    عصيت إليها القلب ، إني لأمرها سميع ، فما أدري أرشد طلابها!


    يعني بذلك : فما أدري أرشد طلابها أم غي ، فحذف ذكر " أم غي " إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها ، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير :


    فلما لبسن الليل ، أو حين ، نصبت له من خذا آذانها وهو جانح
    [ ص: 328 ]

    يعني : أو حين أقبل الليل ، في نظائر لذلك كثيرة ، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها . فكذلك قوله : " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " لما كان فيه وفيما بعده من قوله : " ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " [ ص: 329 ] دلالة على المتروك كافية من ذكره - اختصر الكلام طلب الإيجاز .

    وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده ، نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النار . لأن معنى الكلام : فكذلك المنافقون ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد ، بانطفاء ناره وخمودها ، فبقي في ظلمة لا يبصر .

    و " الهاء والميم " في قوله " ذهب الله بنورهم " عائدة على " الهاء والميم " في قوله " مثلهم "
    القول في تأويل قول الله : ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ( 18 ) )

    قال أبو جعفر : وإذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه : " ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " هو ما وصفنا - من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة ، عند هتك أستارهم ، وإظهاره فضائح أسرارهم ، وسلبه ضياء أنوارهم ، من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون ، وفي حنادسها لا يبصرون ، فبين أن قوله جل ثناؤه : " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، صم بكم عمي فهم لا يرجعون ، مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، أو كمثل صيب من السماء .

    وإذ كان ذلك معنى الكلام : فمعلوم أن قوله : " صم بكم عمي " يأتيه الرفع من وجهين ، والنصب من وجهين :

    فأما أحد وجهي الرفع : فعلى الاستئناف ، لما فيه من الذم . وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم ، فتنصب وترفع ، وإن كان خبرا عن معرفة ، كما قال الشاعر :


    لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك
    والطيبين معاقد الأزر


    فيروى : " النازلون " و " النازلين " وكذلك " الطيبون " و " الطيبين " على ما وصفت من المدح . [ ص: 330 ]

    والوجه الآخر : على نية التكرير من " أولئك " فيكون المعني حينئذ : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، أولئك صم بكم عمي فهم لا يرجعون .

    وأما أحد وجهي النصب : فأن يكون قطعا مما في " مهتدين " من ذكر " أولئك " لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة ، والصم نكرة .

    والآخر : أن يكون قطعا من " الذين " لأن " الذين " معرفة و " الصم " نكرة .

    وقد يجوز النصب فيه أيضا على وجه الذم ، فيكون ذلك وجها من النصب ثالثا .

    فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وجه رواية علي بن أبي طلحة عنه ، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد ، وهو الاستئناف .

    وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين : أحدهما : الذم ، والآخر : القطع من " الهاء والميم " اللتين في " تركهم " أو من ذكرهم في " لا يبصرون "

    وقد بينا القول الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك . والقراءة التي هي القراءة ، الرفع دون النصب؛ لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين . وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم .

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين : أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين ، بل هم صم عنهما فلا يسمعونهما ، لغلبة خذلان الله عليهم ، بكم عن القيل بهما فلا ينطقون بهما ، والبكم : الخرس ، وهو جماع أبكم ، عمي عن أن يبصروهما فيعقلوهما ، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(21)
    الحلقة (36)
    صــ 331إلى صــ 335


    وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل :

    398 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، [ ص: 331 ] عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " صم بكم عمي " عن الخير .

    399 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " صم بكم عمي " يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه .

    400 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " بكم " هم الخرس .

    401 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله " صم بكم عمي " : صم عن الحق فلا يسمعونه ، عمي عن الحق فلا يبصرونه ، بكم عن الحق فلا ينطقون به .
    القول في تأويل قوله : ( فهم لا يرجعون ( 18 ) )

    قال أبو جعفر : وقوله " فهم لا يرجعون " إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى ، وصممهم عن سماع الخير والحق ، وبكمهم عن القيل بهما ، وعماهم عن إبصارهما ، أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم ، ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم . فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدا ، أو يقولوا حقا ، أو يسمعوا داعيا إلى الهدى ، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم ، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب [ ص: 332 ] والمشركين وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشى على أبصارهم .

    وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    402 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " فهم لا يرجعون " أي : لا يتوبون ولا يذكرون .

    403 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فهم لا يرجعون " : فهم لا يرجعون إلى الإسلام .

    وقد روي عن ابن عباس قول يخالف معناه معنى هذا الخبر ، وهو ما :

    404 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فهم لا يرجعون " أي : فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه .

    وهذا تأويل ظاهر التلاوة بخلافه . وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون - عن اشترائهم الضلالة بالهدى - إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق ، من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت وحال دون حال . وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ، ينبئ أن ذلك من صفتهم محصور على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين ، وأن لهم السبيل إلى الرجوع [ ص: 333 ] عنه . وذلك من التأويل دعوى باطلة ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبر تقوم بمثله الحجة فيسلم لها .
    القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( أو كصيب من السماء )

    قال أبو جعفر : والصيب الفيعل من قولك : صاب المطر يصوب صوبا ، إذا انحدر ونزل ، كما قال الشاعر :


    فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب


    وكما قال علقمة بن عبدة :


    كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب
    [ ص: 334 ] فلا تعدلي بيني وبين مغمر ، سقيت روايا المزن حين تصوب


    يعني : حين تنحدر . وهو في الأصل " صيوب " ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة ، صيرتا جميعا ياء مشددة ، كما قيل : سيد ، من ساد يسود ، وجيد ، من جاد يجود . وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة ، تصيرهما جميعا ياء مشددة .

    وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    405 - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله " أو كصيب من السماء " قال : القطر .

    406 - حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال لي عطاء : الصيب ، المطر .

    407 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قال : الصيب ، المطر .

    408 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 335 ] السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الصيب ، المطر .

    409 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي سعد ، قال : حدثني عمي الحسين ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، مثله .

    410 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " أو كصيب " يقول : المطر .

    411 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

    412 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، وعمرو بن علي ، قالا حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصيب الربيع .

    413 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصيب ، المطر .

    414 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : الصيب ، المطر .

    415 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الصيب المطر .

    416 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : " أو كصيب من السماء " قال : أو كغيث من السماء .

    417 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان : الصيب ، الذي فيه المطر . [ ص: 336 ]

    418 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، في قوله : " أو كصيب من السماء " قال : المطر .

    قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر مثل إضاءة موقد نار بضوء ناره ، على ما وصف جل ثناؤه من صفته ، أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء ، تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة . وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه .

    فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين : أهما مثلان للمنافقين ، أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين ، فكيف قيل : " أو كصيب " و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام ، ولم يقل " وكصيب " بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما ، فما وجه ذكر الآخر ب " أو " ؟ وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه ، كقول القائل : " لقيني أخوك أو أبوك " وإنما لقيه أحدهما ، ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما ، مع علمه أن أحدهما قد لقيه . وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء ، أو عزوب علم شيء عنه ، فيما أخبر أو ترك الخبر عنه .

    قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . و " أو " - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو ، إما بسابق من الكلام قبلها ، وإما بما يأتي بعدها ، كقول توبة بن الحمير :


    وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
    [ ص: 337 ]

    ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال ، ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها ، وضعها موضعها ، وكذلك قول جرير :


    نال الخلافة أو كانت له قدرا ، كما أتى ربه موسى على قدر


    وكما قال الآخر :


    فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على بجير أو عفاق
    على المرأين إذ مضيا جميعا لشأنهما ، بحزن واشتياق


    فقد دل بقوله " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر ، بل أراد أن يبكيهما جميعا . فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه " أو كصيب من السماء " لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب " أو " أو ب " الواو " وكذلك وجه حذف " المثل " من قوله " أو كصيب " لما كان قوله : [ ص: 338 ] " كمثل الذي استوقد نارا " دالا على أن معناه : كمثل صيب ، حذف " المثل " واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " على أن معناه : أو كمثل صيب ، من إعادة ذكر المثل ؛ طلب الإيجاز والاختصار .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(22)
    الحلقة (37)
    صــ 336إلى صــ 340


    417 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان : الصيب ، الذي فيه المطر . [ ص: 336 ]

    418 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، في قوله : " أو كصيب من السماء " قال : المطر .

    قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر مثل إضاءة موقد نار بضوء ناره ، على ما وصف جل ثناؤه من صفته ، أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء ، تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة . وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه .

    فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين : أهما مثلان للمنافقين ، أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين ، فكيف قيل : " أو كصيب " و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام ، ولم يقل " وكصيب " بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما ، فما وجه ذكر الآخر ب " أو " ؟ وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه ، كقول القائل : " لقيني أخوك أو أبوك " وإنما لقيه أحدهما ، ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما ، مع علمه أن أحدهما قد لقيه . وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء ، أو عزوب علم شيء عنه ، فيما أخبر أو ترك الخبر عنه .

    قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . و " أو " - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو ، إما بسابق من الكلام قبلها ، وإما بما يأتي بعدها ، كقول توبة بن الحمير :


    وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
    [ ص: 337 ]

    ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال ، ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها ، وضعها موضعها ، وكذلك قول جرير :


    نال الخلافة أو كانت له قدرا ، كما أتى ربه موسى على قدر


    وكما قال الآخر :


    فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على بجير أو عفاق
    على المرأين إذ مضيا جميعا لشأنهما ، بحزن واشتياق


    فقد دل بقوله " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر ، بل أراد أن يبكيهما جميعا . فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه " أو كصيب من السماء " لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب " أو " أو ب " الواو " وكذلك وجه حذف " المثل " من قوله " أو كصيب " لما كان قوله : [ ص: 338 ] " كمثل الذي استوقد نارا " دالا على أن معناه : كمثل صيب ، حذف " المثل " واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " على أن معناه : أو كمثل صيب ، من إعادة ذكر المثل ؛ طلب الإيجاز والاختصار .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ( 19 ) )

    قال أبو جعفر : فأما الظلمات ، فجمع ، واحدها ظلمة .

    أما الرعد ، فإن أهل العلم اختلفوا فيه :

    فقال بعضهم : هو ملك يزجر السحاب .

    ذكر من قال ذلك :

    419 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد ، ملك يزجر السحاب بصوته .

    420 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .

    421 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

    422 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم قال : أنبأنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قال : الرعد ، ملك من الملائكة يسبح . [ ص: 339 ]

    423 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا محمد بن يعلى ، عن أبي الخطاب البصري ، عن شهر بن حوشب ، قال : الرعد ، ملك موكل بالسحاب يسوقه ، كما يسوق الحادي الإبل ، يسبح . كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه ، فهي الصواعق التي رأيتم .

    424 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ، ملك من الملائكة اسمه الرعد ، وهو الذي تسمعون صوته .

    425 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبد الملك بن حسين ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ، ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير .

    426 - وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : الرعد اسم ملك ، وصوته هذا تسبيحه ، فإذا اشتد زجره السحاب ، اضطرب السحاب واحتك . فتخرج الصواعق من بينه .

    427 - حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عفان . قال : حدثنا أبو عوانة ، عن [ ص: 340 ] موسى البزار ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح ، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه .

    428 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، وشبابة ، قالا حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد ملك يزجر السحاب .

    429 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عتاب بن زياد ، عن عكرمة ، قال : الرعد ملك في السحاب ، يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل .

    430 - وحدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الرعد خلق من خلق الله جل وعز ، سامع مطيع لله جل وعز .

    431 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : إن الرعد ملك يؤمر بإزجاء السحاب فيؤلف بينه ، فذلك الصوت تسبيحه .

    432 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الرعد ملك .

    433 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه ، أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرعد ملك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(23)
    الحلقة (38)
    صــ 341إلى صــ 345



    434 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم ، مولى ابن عباس ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد ملك . [ ص: 341 ]

    435 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا عمر بن الوليد الشني ، عن عكرمة ، قال : الرعد ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل .

    436 - حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس إذا سمع الرعد ، قال : سبحان الذي سبحت له ، قال : وكان يقول : إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه .

    وقال آخرون : إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصاعد ، فيكون منه ذلك الصوت .

    ذكر من قال ذلك :

    437 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الجلد ، إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : " كتبت تسألني عن الرعد ، فالرعد الريح .

    438 - حدثني إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه قال : كتب ابن عباس [ ص: 342 ] إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد ريح .

    قال أبو جعفر : فإن كان الرعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد ، فمعنى الآية : أو كصيب من السماء فيه ظلمات وصوت رعد . لأن الرعد إن كان ملكا يسوق السحاب ، فغير كائن في الصيب ، لأن الصيب إنما هو ما تحدر من صوب السحاب ، والرعد إنما هو في جو السماء يسوق السحاب . على أنه لو كان فيه ثم لم يكن له صوت مسموع ، فلم يكن هنالك رعب يرعب به أحد ، لأنه قد قيل : إن مع كل قطرة من قطر المطر ملكا ، فلا يعدو الملك الذي اسمه " الرعد " لو كان مع الصيب ، إذا لم يكن مسموعا صوته ، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض ، في أن لا رعب على أحد بكونه فيه . فقد علم - إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس - أن معنى الآية : أو كمثل غيث تحدر من السماء فيه ظلمات وصوت رعد ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس ، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته . وإن كان الرعد ما قاله أبو الجلد فلا شيء في قوله : " فيه ظلمات ورعد " متروك . لأن معنى الكلام حينئذ : فيه ظلمات ورعد الذي هو ما وصفنا صفته .

    وأما البرق ، فإن أهل العلم اختلفوا فيه : فقال بعضهم بما :

    439 - حدثنا مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، - ح - وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثني عبد الرحمن بن مهدي ، - ح - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قالوا جميعا : حدثنا سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن أشوع ، عن ربيعة [ ص: 343 ] بن الأبيض ، عن علي ، قال : البرق مخاريق الملائكة .

    440 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عبد الملك بن الحسين ، عن أبي مالك ، عن السدي ، عن ابن عباس : البرق مخاريق بأيدي الملائكة ، يزجرون بها السحاب .

    441 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه ، أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرعد الملك ، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد .

    وقال آخرون : هو سوط من نور يزجي به الملك السحاب .

    ذكر من قال ذلك :

    442 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، بذلك .

    وقال آخرون : هو ماء .

    ذكر من قال ذلك :

    443 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الجلد ، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : " كتبت إلي تسألني عن البرق ، فالبرق الماء "

    444 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق ماء . [ ص: 344 ]

    445 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن رجل ، من أهل البصرة من قرائهم ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد - رجل من أهل هجر - يسأله عن البرق ، فكتب إليه : " كتبت إلي تسألني عن البرق ، وإنه من الماء "

    وقال آخرون : هو مصع ملك .

    446 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : البرق ، مصع ملك .

    447 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، قال : بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه ، وجه إنسان ، ووجه ثور ، ووجه نسر ، ووجه أسد ، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق .

    448 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي قال : في كتاب الله : الملائكة حملة العرش ، لكل ملك منهم وجه إنسان وثور وأسد ، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق [ ص: 345 ] . وقال أمية بن أبي الصلت :


    رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى ، وليث مرصد


    449 - حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : البرق ملك .

    450 - وقد حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق ، يصيب منه من يشاء .

    قال أبو جعفر : وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد . وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر علي رضي الله عنه أنها هي البرق ، هي السياط التي هي من نور ، التي يزجي بها الملك السحاب ، كما قال ابن عباس . ويكون إزجاء الملك بها السحاب مصعه إياه . وذلك أن المصاع عند العرب أصله : المجالدة بالسيوف ، ثم تستعمله في كل شيء جولد به في حرب وغير حرب ، كما قال أعشى بني ثعلبة ، وهو يصف جواري يلعبن بحليهن ويجالدن به .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(24)
    الحلقة (39)
    صــ 346إلى صــ 350



    إذا هن نازلن أقرانهن
    وكان المصاع بما في الجون

    يقال منه : ماصعه مصاعا . وكأن مجاهدا إنما قال : " مصع ملك " إذ كان السحاب لا يماصع الملك ، وإنما الرعد هو المماصع له ، فجعله مصدرا من مصعه يمصعه مصعا .

    وقد ذكرنا ما في معنى " الصاعقة " ما قال شهر بن حوشب فيما مضى .

    وأما تأويل الآية ، فإن أهل التأويل مختلفون فيه :

    فروي عن ابن عباس في ذلك أقوال : أحدها ما

    451 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " : أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب ، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت ، يكاد البرق يخطف أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق - كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ، أي يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين .

    والآخر ما [ ص: 347 ]

    452 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى " إن الله على كل شيء قدير " أما الصيب فالمطر . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله ، فيه رعد شديد وصواعق وبرق ، فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده ، وحسن إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا ، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه ، فإذا كثرت أموالهم ، وولد لهم الغلمان ، وأصابوا غنيمة أو فتحا ، مشوا فيه ، وقالوا : إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق . فاستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان يمشيان ، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا [ ص: 348 ] إذا هلكت أموالهم ، وولد لهم الجواري ، وأصابهم البلاء ، قالوا : هذا من أجل دين محمد ، فارتدوا كفارا ، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما .

    والثالث ما

    453 - حدثني به محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء " كمطر ، " فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى آخر الآية ، هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس ، فإذا خلا وحده عمل بغيره ، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك . وأما الظلمات فالضلالة ، وأما البرق فالإيمان ، وهم أهل الكتاب . [ ص: 349 ]

    وإذا أظلم عليهم ، فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه .

    والرابع ما

    454 - حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء " وهو المطر ، ضرب مثله في القرآن يقول : " فيه ظلمات " يقول : ابتلاء ، " ورعد " يقول فيه تخويف " وبرق يكاد البرق يخطف أبصارهم " يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين ، " كلما أضاء لهم مشوا فيه " يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا اطمأنوا ، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر يقول : " وإذا أظلم عليهم قاموا " كقوله : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) [ سورة الحج : 11 ] .

    ثم اختلف سائر أهل التأويل بعد في ذلك ، نظير ما روي عن ابن عباس من الاختلاف :

    455 - فحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إضاءة البرق وإظلامه ، على نحو ذلك المثل .

    456 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 350 ]

    457 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    458 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قول الله : " فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى قوله " وإذا أظلم عليهم قاموا " فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة أو سلوة من عيش ، قال : أنا معكم وأنا منكم ، وإذا أصابته شديدة حقحق والله عندها ، فانقطع به ، فلم يصبر على بلائها ، ولم يحتسب أجرها ، ولم يرج عاقبتها .

    459 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " فيه ظلمات ورعد وبرق " يقول : أجبن قوم لا يسمعون شيئا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت والله محيط بالكافرين ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال : " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه " يقول : هذا المنافق ، إذا كثر ماله ، وكثرت ماشيته ، وأصابته عافية قال : لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير " وإذا أظلم عليهم قاموا " يقول : إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء ، قاموا متحيرين .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(25)
    الحلقة (40)
    صــ 351إلى صــ 355





    460 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فيه ظلمات ورعد وبرق " قال : مثلهم [ ص: 351 ] كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ، ولها مطر ورعد وبرق على جادة ، فلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها ، وإذا ذهب البرق تحيروا . وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك تحير ووقع في الظلمة ، فكذلك قوله : " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " ثم قال : في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس ، " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم "

    قال أبو جعفر :

    461 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان الباهلي ، عن الضحاك بن مزاحم ، " فيه ظلمات " قال : أما الظلمات فالضلالة ، والبرق الإيمان .

    462 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله : " فيه ظلمات ورعد وبرق " فقرأ حتى بلغ : " إن الله على كل شيء قدير " قال : هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين ، كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق .

    463 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظن أنه يراد به ، وأنه الموت ، كراهية له ، والمنافق أكره خلق الله للموت - كما إذا كانوا بالبراز في المطر ، فروا من الصواعق .

    464 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " قال : مثل ضرب للكافر . [ ص: 352 ]

    وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه ، فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقاربات المعاني ، لأنها جميعا تنبئ عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلا ومثل ما فيه من ظلمات لضلالته ، وما فيه من ضياء برق لنور إيمانه ، واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه ، لضعف جنانه ونخب فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته ، ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه ، وقيامه في الظلام ، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه .

    فتأويل الآية إذا - إذ كان الأمر على ما وصفنا - أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به ، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين ، وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر ، مكذبون ، ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون ، على عمى منهم ، وجهالة بما هم عليه من الضلالة لا يدرون أي الأمرين اللذين قد شرعا لهم [ فيه ] الهداية ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم ، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وجلون ، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون ، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا . كمثل غيث سرى ليلا في مزنة ظلماء [ ص: 353 ] وليلة مظلمة يحدوها رعد ، ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه ، كثير خطرانه ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه ، وينهبط منها تارات صواعق ، تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق .

    فالصيب مثل لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق ، والظلمات التي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب . وأما الرعد والصواعق ، فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه ، إما في العاجل وإما في الآجل ، أن يحل بهم ، مع شكهم في ذلك : هل هو كائن أم غير كائن ؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل ؟ مثل . فهم من وجلهم ، أن يكون ذلك حقا ، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم ، مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات ، وذلك تأويل قوله جل ثناؤه " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " يعني بذلك : يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار ، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها ، حذرا على نفسه منها .

    وقد ذكرنا الخبر الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان : إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم [ ص: 354 ] في آذانهم فرقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يذكروا بشيء فيقتلوا . فإن كان ذلك صحيحا - ولست أعلمه صحيحا إذ كنت بإسناده مرتابا - فإن القول الذي روي عنهما هو القول ، وإن يكن غير صحيح ، فأولى بتأويل الآية ما قلنا ، لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصتهم ، أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون ، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم . وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم . فكذلك ذلك في هذه الآية .

    وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به ، كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه ، وذلك من المثل نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق . وكذلك قوله " حذر الموت " جعله جل ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلكهم الذي توعدوه بساحتهم كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه ، حذر العطب والموت على نفسه ، أن تزهق من شدتها .

    وإنما نصب قوله " حذر الموت " على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك : " زرتك تكرمة لك " تريد بذلك : من أجل تكرمتك ، وكما قال جل ثناؤه ، ( ويدعوننا رغبا ورهبا ) [ سورة الأنبياء : 90 ] على التفسير للفعل .

    وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله : " حذر الموت " حذرا من الموت . [ ص: 355 ]

    465 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عنه .

    وذلك مذهب من التأويل ضعيف ، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من الموت ، فيكون معناه ما قال إنه يراد به ، حذرا من الموت ، وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم .

    وكان قتادة وابن جريج يتأولان قوله : " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " أن ذلك من الله جل ثناؤه صفة للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت ، ويتأولان في ذلك قوله : ( يحسبون كل صيحة عليهم ) [ سورة المنافقون ] .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •