حكم طاعة الوالدين في ترك المباح




أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

السؤال
الملخص:
فتاة ترعى أمًّا معها ثمانية أطفال يتامى، دلَّها عليها أبوها، لكن تلك المرأة تمتلك أشياء لا تدل على فقرها وحاجتها؛ كالهاتف الخلوي، ولها بيت كبير، وأثاث جيد، فأمرها أبوها أن تقطع الصدقة عنها، فهو يراها محتالة، فأجابته بأنها تفعل ذلك لوجه الله، وهي الآن في حيرة بين طاعة أبيها، وبين وصل هؤلاء اليتامى، وتسأل: ماذا أفعل؟
التفاصيل:
أنا فتاة عزباء أعيش مع والديَّ، بارَّةٌ بهم، لكنَّ خلافًا حدث بيني وبين والدي بخصوص امرأة أمٍّ لثمانية أطفال أيتام، أعرفها منذ عامين وقد دلَّني عليها والدي، فأصبحت - من باب المساعدة - أساعدها بما أستطيع، وأجمع لها من زميلاتي ما يتوفر معنا من مالٍ أو لبسٍ أو أكلٍ.خلال هذين العامين رأيت معها هاتفًا خلويًّا حديثًا، كما أنها تشحن بطاقة لا تقل عن عشرة دنانير شهريًّا، وهناك شخص بنى لها بيتًا كاملًا وكبيرًا، وبه أثاث على مستوى عالٍ، لكن لم أتحدث معها في شيء من ذلك، ولم أتدخل في حياتها الخاصة.فما كان من والدي إلا أن زجرني عن الذهاب إلى تلك المرأة؛ لأنها تجمع أموالًا كثيرة، وتستغل – على حد تعبيره - طيبتي وعاطفتي، واتَّضح أن الرجل الذي دلَّ أبي عليها كان أخاها، وأنه كان يعتمد الغش مع الناس بأساليبَ وطرقٍ مختلفة، وقد حكى لي أبي عن أشخاص يعرفون تلك المرأة وأهلها، فقلت له أنه حتى لو كانت تلك المرأة محتالة، فإني أضع الصدقة بيد الله عز وجل، وأُغَلِّب حسن الظن معها، ولو كانت كذلك، فإنما إثمها على نفسها، وحسابها على الله تعالى، وفي موجة غضبي، قلت لأبي كلمة أنزلتِ الحزن في قلبه: "إنه لو كان لي بيتٌ، لاتخذت قراراتي بنفسي"، فوجد في نفسه عليَّ، وقال لي: "لن أتدخل فيما تفعلين، افعلي ما بدا لكِ"، والله لقد صدرت مني هذه الكلمة بعفوية، وأنا لا أعترض على أبي في شيء، فأنا الآن في حيرة من أمري: هل أوافق أبي فيما يقول؛ لأني حزنت لحزنه مني، أو أقطع الأطفال اليتامى؟ أيهما أولى شرعًا؟ وهل يجوز لي أن أُرْضِيَهُ ظاهريًّا وأقول له: لن أذهب، ثم أذهب في الخفاء، على أنني لا أجيد الكذب، وسيظهر عليَّ، وسأعترف له، أرجو نصحي وتوجيهي، وجزاكم الله خيرًا.

الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لكِ ولأبويكِ الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: نحمد لكِ عنايتكِ بالأيتام، وحرصكِ على فعل الخير وقضاء حوائج الناس.
ثالثًا: طاعة الأبوين في المعروف واجبة بلا خلاف، بل هي من أعظم الطاعات، وقد فرَّق العلماء في تقديم طاعة الوالدين في ترك الطاعات الواجبة وبين ترك الطاعات المستحبة، فلا يجوز طاعتهما في ترك الواجب، أو فعل المحرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعةَ في معصية، إنما الطاعة في المعروف))؛ [البخاري: (7257)، ومسلم: (1840)]، وفي رواية: ((لا طاعةَ لمخلوق في معصية الله عز وجل))؛ [رواه أحمد: (1098)].
أما الطاعات المستحبة: فهل يقدم أمرهما فيهما أو لا؟
الصحيح يُقدَّم أمرهما في ترك المباح، ولا يُقدَّم في ترك الواجب أو فعل المحرم، ويقدم أمرهما فيما فيه نفع لهما، وفيما لهم فيه مسوغ شرعي؛ أي: غرض صحيح، ويقدم أمرهما فيما فيه مشقة تُدفَع، ولا ضررَ على الولد؛ قال ابن تيمية: "ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية، وإن كانا فاسقين، وهو ظاهر إطلاق أحمد، وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر، فإن شَقَّ عليه ولم يضره، وجب، وإلا فلا"؛ [الفتاوى الكبرى: (5/ 381)].
وعليه؛ فيجب عليكِ أيتها الأخت الفاضلة طاعة والدكِ في ترك الذهاب لهذه المرأة؛ لأنها طاعة مستحبة فيقدم فيها رغبة الأب، ولأن للأب مسوغًا شرعيًّا، وهي عدم احتياج المرأة وشبهة احتيالها، وكذا فيه نفع لكِ بدفع التهمة عن نفسكِ، ولكِ أن تبحثي عن غيرها وتعطيها الأموال، والله أعلم.
واعلمي أن بِرَّكِ بهما لا يزيدكِ إلا خيرًا، فالبر مفتاح كل خير، والبر يهدي إلى الجنة، وأن الله تبارك وتعالى يكتب لكِ أجرها بكرمه وفضله، ومن ثَمَّ تفوزين بأجر الطاعة وأجر البر معًا، فإذا كان غايتكِ ومبتغاكِ من أعمالكِ الصالحة، إنما هي رضا الله جل وعلا، فإن من أعظم الأسباب لحصول رضاه برَّ الوالدين.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz6fmezvKOL