لمحة عن أوروبا العصور الوسطى
لقد حاول البعض أن يحصر العصور الوسطى بين 476، عندما سقطت الإمبراطورية في الغرب سنة 1453، وهي السنة التي سقطت فيها القسطنطينية في أيدي العثمانيين وانتهت فيها حرب المائة عام بين انجلترا وفرنسا[1].
إلا أن الناظر إلى التاريخ بتعمق يدرك أنه ليس من الحكمة ولا من الواقعية تحديد سنة بعينها لتكون حدًا فاصلًا بين عصر وعصر، لأن حلقات التاريخ متداخلة بشكل معقد.
على أنه من الممكن اعتبار القرن الرابع بداية العصر الوسيط لما حدث فيه من تطورات ضخمة على الصعيد السياسي والديني والجغرافي فقد تفاعلت فيه مختلف العناصر الأساسية التي كيفت تاريخ أوروبا العصور الوسطى..
وما قيل في القرن الرابع يمكن أن يقال في القرن الخامس عشر الذي حدث في آخره ما يسمى بحركة النهضة، حيث تحرك العقل الأوربي من كثير من القيود الكنسية فأبدع في مجالات متعددة.
ولا شك أن إلقاء نظرة موجزة على أوروبا في العصر الوسيط يساعدنا إلى حد بعيد في استقراء دوافع الحروب الصليبية ومعرفة أسبابها، ويكشف لنا النقاب عن مختلف العوامل والمؤثرات التي تفاعلت فنتجت عنها تلك الحروب.
أ- أحوال الإمبراطورية الرومانية:
كاذبا أعظم وحدة حضارية وسياسية عرفها التاريخ هي هذه الامبواطورلة التي بلغت من القوة والاتساع مالم يبلغه غيرها في تاريخ البشر، فقد امتدت من المحيط الأطلسي غربًا حتى الفرات شرقًا. وتمكنت السلطة المركزية من إحكام سيطرتها على هذه المساحات الضخمة وذلك بوضع قوانين تناسب ذلك العدد الكبير من الشعوب. كما تمكنت الإمبراطورية من استيعاب شعوب ذات حضارات قديمة إلى جانب شعوب حديثة المولد. فازدهرت الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأهل هذه الإمبراطورية وتركت لهم الحرية الفكرية والاعتقادية... فشهدت بذلك أزهى عصورها.
لم تكن هذه الإمبراطورية ملكية دستورية، ولكنها لم تكن كذلك عسكرية بحتة أو استبدادية مطلقة، حيث ساد العرف والقانون وتمسكت بكثير من مظاهر العصر الجمهوري[2].
ب- الضعف ومظاهر الانهيار:
بدأت هذه الإمبراطورية بعد ذلك تضعف شيئًا فشيئًا وقد بدا ذلك واضحًا في القرن الثالث للميلاد عندما انعدم النظام وتحكمت القوات العسكرية في عزل الأباطرة وإقامة غيرهم.. ثم بدأت الفرق الإمبراطورية في مختلف الولايات تتحكم في اختيار قادتها دون الرجوع إلى الإمبراطور إلى غير ذلك من مظاهر التفكك والاضمحلال، وأصبح النظام استبداديًا يعتمد على الجيش في تنفيذ إرادة الإمبراطور والضغط على الأهالي الذين بدءوا يتبرمون من الضرائب وغيرها وظهرت الحروب الأهلية.
أما في الخارج فقد زاد ضغط الجرمان كما تضاعف الخطر الفارسي على الولايات الآسيوية وفي أواخر القرن الثالث ظهرت بكل وضوح العوامل التي أدت إلى اضمحلال الإمبراطورية الرومانية ثم سقوطها حيث تفاقمت المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية في الداخل، وازدادت الأخطار الخارجية بشكل بارز وبدأت بعض الولايات تتجه نحو الانفصال عن جسم الإمبراطورية مستجيبة بذلك إلى طموح الأهالي الذين عمهم الاستياء والنقمة.
وبدأت الحكومة المركزية في محاولات يائسة للإصلاح كالفاعل بين السلطتين المدنية والعسكرية في الولاية وتصغير مساحة الولاية.
وساءت الحالة الاقتصادية نتيجة للحروب الأهلية وفرضت الضرائب الجمركية، وازدادت نسبتها.. كما أن الضرائب التي تفرض على الأرض قد تحرر منها كبار الملاك وفرضت على المستأجرين، وبذلك اختل بناء الجامع الروماني حيث ازداد الغني غنى وازداد الفقيد فقرًا، وتناقصت الطبقة الوسطى بشكل سريع وتدهور الإنتاج وانخفضت قيمة العملة التي لم يتردد بعض الأباطرة في تزويرها فارتفعت الأسعار ارتفاعًا جنونيًا وعمت النقمة وكثرت الثورات، واتسع نطاق أعمال السلب والقرصنة.
إذًا.. وضع داخلي متفجر صحبته أخطار خارجية جسيمة وبذلك أصبحت الإمبراطورية على شفا الهاوية، رغم إن بعض الأباطرة أحسوا بخطورة الوضع فسعوا للإصلاح..
ج- بارقة أمل..
وكان من أبرز هؤلاء الأباطرة المصلحين قسطنطين، نظرًا للأعمال الهـامة التي قام بها والتي كان لها أثر واضح في تغيير وجه التاريخ الأوربي، وقد قام بخطوتين على جانب كبير من الأهمية حيث اعترف رسميًا بالديانة المسيحية ونقل عاصمة الإمبراطورية من روما القديمة إلى روما جديدة شيدها على ضفاف البسفور.
ومن أهم التغييرات التي قام بها:
• التفرقة بين السلطتين الحربية والمدنية في الولايات.
• إدخال مبدأ الحكم الوراثي، وقد اعتمدت أسرته في ذلك على تأييد الجيش من جهة وعلى الدعامة الدينية من جهة أخرى.
• إنقاص عدد أفراد القوة العسكرية، والمواصلة في سياسة فتح الباب أمام الجرمان للانخراط في سلك الجيش كجنود نظاميين.
• مضاعفة الضرائب والخدمات الجمركية.
• إنزال طبقة الصناع إلى مرتبة العبودية بجعل الحرب والأعمال وراثية.
• أما في الجانب الديني فإن اعتناقه واعترافه بها رسميًا كان له أعظم الأثر فيما وصلت إليه المسيحية من مجد وعظمة بعد ذلك. وكان أن وجدت المسيحية متنفسًا كبيرًا بعد أن كانت تعاني من الضغوط والقتل والتشريد في صفوف رجالها. ولم تلبث الكنيسة أن حصلت على امتيازات هامة بوصفها راعية الديانة الرسمية للدولة.
وبعد قسطنطين قسمت الإمبراطورية بين أبنائه الثلاثة إلى أن تمكن أحدهم - وهو قسطنطيوس - من توحيدها مرة أخرى سنة 350.
د- إلى الانهيار من جديد:
سرعان ما بدأت الإمبراطورية ذلك تتعرض لعوامل الانحلال السريع عندما اشتدت هجمات الأعداء على حدودها دون أن تفلح جهود الأباطرة في صد تلك الهجمات أو في وقف تيار الانحلال، فبدأت قبائل القوط تتسرب داخل الأراضي الإمبراطورية تحت ضغط الهون الآسيويين.
وفي هذا الوقت أخذت الكنيسة تظهر على درجة كبيرة من القوة والثروة وأصبح مصير الإمبراطورية معلقًا بين الجرمان ورجال الكنيسة.
ثم انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين شرقي وغربي بين ابني (ثيودسيوس) وهو مظهر من مظاهر التفكك والانحلال الذي لم تفعل جهود المصلحين من الأباطرة قبل ذلك إلا أن أخرت وقوعه[3]، ولم يكد القرن الخامس ينتصف حتى كانت الإمبراطورية الرومانية في الغرب قد مزقت إربًا لضياع معظم أجزائها في أيدي القوى الخارجية من البرابرة وغيرهم.
هـ- سقوط الإمبراطورية في الغرب وقيام المماليك الجرمانية:
توالت الضربات على الإمبراطورية الغربية فسقطت سنة 476، وأصبح الأمل الوحيد في الكنيسة التي التف حولها الإيطاليون طوال القرون التالية ورأوا فيها الزعيم والسند الكفيلين بحمايتهم[4]. وقد قامت ست ممالك جرمانية في غرب أوروبا على أنقاض الإمبراطورية الرومانية.
وهذه الممالك هي: مملكة أودواكي في إيطاليا - الوندال في شمال إفريقيا - القوط الغربيون من اللوار حتى جبل طارق - البرجنديون في وادي الرون ووادي الساؤون - دولة الفرنجة على المز والراين الأدنى - وصغرى هذه الممالك الجرمانية وهي مملكة السويفي في الجهات المعروفة حاليًا بأمم البرتغال وغاليسيا.
ومن أهم هذه الممالك الست دولة الفرنجة التي يعتبر قيامها أهم حدث في تاريخ الغزوات الجرمانية لأنها كانت حركة توسعية أكثر منها هجرة تتصرف بطابع الغزو[5].
وقد احتفظ الفرنجة بأصولهم وحضارتهم وحيويتهم الجرمانية بينما ذابت بقية الشعوب الجرمانية في المحيط اللاتيني الذي استقرت فيه.
وقد اعتنق الفرنجة الـمسيحية، والمهم في هذا هو أنهم اعتنقوها على عذابها الإثناسيوسي أو الغربي مخالفين في ذلك بقية الشعوب الجرمانية التي ظلت ممقوتة في الغرب بسبب أريوسيتها، فاكتسب الفرنجة بذلك عطف الكاثوليك وتأييدهم في جميع أرجاء غرب أوروبا وقام بذلك نوع من التعاون والارتباط والتآلف بين الفرنجة والنرمان وظهر ملوك الفرنجة في ثوب حماة المسيحية ورجالها في الغربة مما مهد لإيجاد نوع من التحالف بين البابوية وملوك الفرنجة مما كان له أبعد الأثر في مستقبل أوروبا العصور الوسطى.
وقد توسع الفرنجة في الاتجاهين الشرقي والشمالي إضافة إلى توسعهم في الجهات الغربية والجنوبية، وذلك عندما أخذ الأهالي من الرومان الكاثوليك في بقية أنحاء "غاليا" يتمنون الدخول تحت حكم الفرنجة الذين يتفقون معهم في المذهب، وقد ظهر هذا التوسع بوضوح خاصة عندما أنزل الفرنجة بالألمان هزيمة ساحقة حتى اضطروا إلى الدخول تحت حماية ملك القوط الشرقيين. على أن اعتناق الفرنجة للمذهب الكاثوليكي لم يلبث إن أثار روح البغضاء والكراهية بينهم وبين غيرهم من طوائف الجرمان الأريوسيين في غاليا مثل البرجنديين والقوط الغربيين وغيرهم.
و- صراعات بين الغزاة:
أما البرجنديون فقد استطاع كلوفـس ملك الفرنجة إجبارهم على دفع الجزية - رمز التبعية – وأما القوط الغربيون فقد قتل ملكهم واستولى على جزء من مملكته، إلى أن تدخل ملك القوط الشماليين وحل الموقف وتم الاتفاق على أن يحتفظ كلوفس بجزء من مملكة القوط الغربيين في حين احتفظ ملك القوط الشرقيين بالجزء الآخر.
وقد اعتبر الفرنجة أن الملك إرث يقسم بين سائر أبناء الملك كسائر أنواع الإرث.. ولذلك فقد قسم كلوفس المملكة بين أبنائه الأربعة وكان لهذا الأمر أثره في مستقبل دوله الفرنجة. وقد تواصلت مقومات هذه الدولة - رغم ذلك التقسيم - وخاصة وأن كلوبترا استطاع توحيد مملكة الفرنجة من جديد بعد وفاة إخوته الثلاثة. إلا أن هذه المملكة العريضة لم تلبث أن انقسمت مرة أخرى لتظهر فيها بكل وضوح الخلافات التاريخية والجنسية بين مختلف الأقسام.
ثم غزا القوط الشرقيون إيطاليا في شكل هجرة عامة اصطحبوا فيها ناءهم وماشيتهم وكان زعميهم ثيوديك يعتبر أعظم شخصية سياسية في عصره وقد دخل إيطاليا صديقًا لا عدوًا، وتمتعت في عهده بحكم قوي حازم، وبالرغم من ذلك فقد ظل الخلاف المذهبي يحول دون حسن التفاهم بين الاثناسيوسيين والأريوسيين، ولم يتمكن ثيودريك رغم كل الجهود التي بذلها من إقامة مملكة قوطية آمنة ثابتة الأركان في إيطاليا، ولم تخضع له هذه الحقيقة المؤلمة إلا في أواخر أيامه عندما قام إمبراطور الدولة البيزنطية باضطهاد كبير للأريوسيين. ولما لم يجد تدخل ثيودريك قام بحملة أكبر شناعة ضد الكاثوليك في إيطاليا. وعندما مات ثودريك اختفى القوط الشرقيون من صفحة التاريخ كأمة قائمة بذاتها.
أما بريطانيا فقد انسحبت منها الفرق الرومانية في أوائل القرن الخامس ثم تلاحقت عليها الأحداث إلى أن توارت تمامًا من مسرح التاريخ، حتى إذا ما ظهرت من جديد كانت قد اتخذت صيغة جديدة وأصبحت إنجلترا لا بريطانيا، ذلك أن عناصر مختلفة من التيتون المقيمين على شواطئ بحر الشمال وفي شبه جزيرة جتلاند (مثل الإنجليز والسكسون والجوت) واصلت غاراتها على بريطانيا وخاصة بعد انسحاب الجيوش الرومانية في أواخر النصف الأول من القرن الخامس فاصطحبوا معهم نساءهم قصد الإقامة، فطردوا أهل البلاد الأصليين مما جعل المسيحية تختفي مؤقتًا من البلاد.
ولم يكن لهؤلاء الغزاة وحدة سياسية تربط البلاد تحت سيطرتهم وإنما أقاموا سبع ممالك قبلية عرفت باسم المالك السبع واستمرت المنازعات بين هذه الممالك حتى استطاع اثلبرت- وهو أحد الملوك السبع - أن يفرض سيطرته عليها جميعًا. وكان هذا الملك قد تزوج من أميرة فرنجية مسيحية في الوقت الذي وصل إنجلترا القديس أوغسطين الصغير مبعوثًا من البابا جريجوري وكان لهاذين العاملين أثر كبير في انتشار المسيحية بخطى حثيثة من جديد في هذه البلاد؛ حتى غدت الكنيسة أكبر قوة حضارية تعمل على نشر المدنية والوحدة القومية بين ربوعها.
وهكذا يتضح أن الغزوات التي قام بها البرابرة قد تركت أثرًا واضحًا في المجتمع الروماني وأدت إلى تحطيم الإمبراطورية الرومانية في الغرب ولم تفلح جهود الإمبراطور البيزنطي في استرداد الأقاليم المفقودة..
أما من الناحية الاقتصادية فإن الامبراطورية الرومانية كانت تشكو أعوام التدهور الاقتصادي قبل أن تقوم جموع الجرمان بغزو أراضيها، ذلك الغزو الذي زاد الطين بلة لما صحبه من حروب نتج عنها التدمير والخراب وتوقفت التجارة والصناعة والزراعة.
ولعل الناحية التي ظلت ثابتة في التطورات الجديدة هي الكنيسة الكاثوليكية التي احتواها الجرمان ولم يمسوها بسوء، حتى ازدادت في ذلك العصر قوة ونفوذًا، والواقع أن الأخطار التي ألقت بالعالم الروماني من جهة وسقوط الإمبراطورية الغربية من جهة أخرى جعلا الكنيسة الغربية تبدو في صورة القوة الوحيدة التي يمكنها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراث الماضي. كما أصبح القساوسة بمثابة الزعماء الطبيعيين الذين التف حولهم الناس وسط الأزمة الحادة التي أحاطت بهم.
من كتاب: الدوافع العقيدية للحروب الصليبية
[1] أوروبا العصور الوسطى. (سعيد عبد الفتاح عاشور ص 6 ج1).
[2] المرجع نفسه ص 93 ج 1.
[3] أوروبا العصور الوسطى. (سعيد عبد الفتاح عاشور ص 31 ج1).
[4] المرجع نفسه ص 80 ج1.
[5] المرجع نفسه ص 96 ج1.
منقول