من أنواع الاستدلال لدى أهل الجاهلية،
يستدلون على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حظهم،
كما قال جل وعلا في قصة نوح مخبرا عن قول قوم نوح - وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ
، وهذا ليس خاصا بجاهلية دون جاهلية من الجاهليات التي سبقت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو كثير فاشٍ،
فأهل الجاهلية الماضون لم يزالوا يستدلون بهذا الدليل؛ يستدلون بضَعْف المتبعين للحق في الجاه، وضعفهم في الدنيا على بلادة أذهانهم، ثم يستدلون بهذه المقدمة الفاسدة على أنهم ليسوا بأحقَّ بالهدى منهم، وإنما ذلك دليل بطلانه؛ لأنه لا يصل إلى معرفة الشيء بأنه حق إلا ذووا العقول وذووا الأفهام، فما دام أن أهل الجاه وأهل العقل عندهم لم يتبعوا الرسل، وذلك لأنهم تأملوا، كما يزعمون وأهل الحق الذين اتبعوا الرسل كانت عندهم عجلة، وقلة فهم ولهذا اتبعوا الرسل، هذا كثير، واستشهد عليه الإمام رحمه الله تعالى، بقصة قوم نوح فإن قوم نوح قالوا لنوح عليه السلام (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) فذكروا شيئين، ذكرهما الشيخ رحمه الله تعالى.
الأول: عدم الفهم لديهم بأنهم لم يتدبروا واستعجلوا.
والثانية: أن ليس لهم فضل مال يعني ليس لديهم حظ.
قوله (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني أنهم ظهر لهم الرأي بدون تأمل، فأول رأي ظهر؛ اتبعوه ولم يتأملوه ولم يتدبروه لقلة فهمهم، وهذا .. يتفق مع ما أورده المصنف رحمه الله تعالى، فإنهم عند قوم نوح استعجلوا ولم يتدبروا، اتبعوه في بادئ الرأي فيما ظهر لهم من رأيهم، ولو تأملوا واستيقنوا الرأي واستخيروه وتحققوا منه وتدبروه وتأملوا العواقب فيه وتأملوا أسراره لم يتبعوا، وذلك تلك العجلة وذلك الأمر الذي حصل منهم وهو عدم التدبر دليل على قلة أفهامهم، وهذا مظنة عدم الوصول إلى الحق، فأبطلوا الدين وأبطلوا صحة ما جاء به نوح عليه السلام بأنهم جعلوا الذين اتبعوه ما اتبعوه إلا لضعف أفهامهم كما قال الشيخ رحمه الله تعالى.
فإذا كان كذلك، كان هذا الدليل مستقيما موافقا لأحد أوجه التفسير المنقولة عن أهل العلم، والقراءة الأخرى التي قرأها أبو عمر (بَادِئَ الرَّاي)، (بَادِئَ) بهمز، من البدء وهو الأولوية يعني أن اتباعهم له كان من عجلة، وإنما اتبعوه في بادئ ذي بدء، أول ما نظروا برأيهم، برايهم اتبعوه، فهذا من البدء وهو الأولوية، وعلى هذا فيكون المعنى على هذا الوجه من التفسير أنهم استعجلوا أيضا، فيتفق مع ما فهمه الإمام المصنف رحمه الله تعالى، يتفق ما جاءت به القراءتان جميعا؛ قراءة الجمهور (بَادِي الرَّأْيِ) في أنّ معنى البدوّ هو الظهور بالمعنى الثالث؛ وهو أنه ظهر لهم ذلك من غير تدبر ولا تأمل، وكذلك على قراءة أبي عمر (بَادِئَ الرَّاي) وذلك من الأولية وعدم التدبر والاستعجال.
وهذا الذي ذكره رحمه الله تعالى، أردفه بقوله في استدلالهم
بأن أولئك الذين اتبعوا نوحا ليسوا بأهل حظ لقلة فهمه وعدم حظهم،
وذلك لأنهم قالوا لنوح ومن معه (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)
، ذلك أنهم جعلوا مقياس الفضل هو كثرة الحظ في الدنيا،
والفضل هنا فُسِّر بأنه الحظ في الدنيا من جاه أو مال، (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)
يعني لستم بأهل جاه فوق جاهنا فتَفضلون علينا،
ولستم بأهل مال فوق مالنا فتفضلون علينا،
فكان المقياس عندهم كما سيأتي في المسألة التي بعدها هو مقياس الفضل، هو الجاه والمال يعني الحظوظ الدنيوية،
وهذا كثير في كل جاهلية،
في كل جاهلية كثير هذا،
كل رسول يأتي تكون الحجة عند أولئك متنوعة
منها أن الذين اتبعوه هم الضِّعاف، وفي قوله تعالى ?وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(2 0)اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[يس:20-21]
في سورة يس ذلك الرجل المؤمن الذي أتى من أقصى المدينة ليسعى بشرح الإيمان،
قال طائفة من أهل العلم بالتفسير إن قوله هنا (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)
فيه تنبيه على أنه من فقراء الناس ومن عدم أشرافهم، ليس من الأشراف، وإنما هو من الضعفة، وأما الأشراف فالعادتهم أنهم يسكنون وسط المدينة، إذ هي المجتمع، وأما أقصى المدينة، إنما يسكنه الذين ليسوا بذي جِدَة ولا جاه ولا شرف،
وهكذا جاء رجل إلى موسى ?وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ?[القصص:20]،
فهذا الاحتجاج كثير في أن الذين يتبعون الرسل إنما هم الضعفاء،
وهذا فهمه هرقل عظيم الروم
حينما سأل أبا سفيان الأسئلة المشهورة التي رواها البخاري وغيره،
فقال له من تلك الأسئلة:
هل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟
قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
قال هرقل: وكذلك الأنبياء إنما يتبعهم الضعفاء.
وهذا عام في كل رسالة فكل أهل جاهلية يستدلون بهذا الدليل،
وقريش أيضا واجهت النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما رغب أن يكون الذين يؤمنون به من أشراف القوم ومن عليتهم ومن سادتهم
فانصرف إليهم عن النفر المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، رغبة في إسلام أولئك، لأنه لو أسلم الكبراء لحصل من الخير الشيء الكثير،

فأنزل الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم

قوله - وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا?[الكهف:28]، وكذلك قوله عَبَسَ وَتَوَلَّى ان جاءه الاعمى وما يدريك لعله يزكى
وهذا الأمر ظاهر لا يحتاج إلى مزيد إطالة.
كذلك في هذه الأمة، دخلت هذه الشعبة من شعب الجاهلية في هذه الأمة:
فممن دخلت إليه هذه الشبهة الذين يعتزّون بعلومهم الخلْفية من أصحاب الكلام ونحوهم، فإنهم لم يعتنوا بفقه النصوص الشرعية لزعمهم أنها إنما هي ظواهر يفهما كل أحد، وأما البواطن والأسرار فإنما خاصة بذوي العقول النيرة، فجحدوا ما أنزله الله جل وعلا من الآيات البينات وحرفوها وأولوا بعضا منها وردوا طائفة أخرى؛ لأجل أفهامهم، واحتقروا أهل السنة والجماعة لأجل أنهم لا يفهمون فهمهم، فهُم لم يعرفوا علم الكلام ولم يعرفوا الأصول القطعية المستقاة من المنطق؛ منطق اليونان، ونحو ذلك مما يعتزون به.
كذلك شغّب على أهل الحديث فيما مضى من الزمان وعلى فقههم في النصوص طائفة من غلاة الفقهاء الذين اتهموا من يتبع ظواهر النصوص ويأخذ بالفقه مستقًا من النصوص ولو لم يكن عنده رسوخ قدم في كل العلوم، رموهم بأوصاف بشعة، حتى إن بعضهم سماهم الحمير، كما قال ابن العربي المالكي في أحد أقواله في وصف الظاهرية، قال: فلما أتى هؤلاء الحمير الذين كذا وكذا. وصفهم بأوصاف يعني بشعة، لأجل أن في الأندلس كان هناك معركة محتدمة بين أتباع ابن حزم الظاهري وبين فقهاء المالكية، والتوسط لو راموا التوسط كان ممكنا، لكنهم ردوا على هؤلاء وتنقصوهم، تنقصوا أفهامهم ووصفوهم ببلادة الفهم وبلادة الذهن ونحو ذلك لأحل هذا الأمر، لأجل اتباعهم للنصوص.

كذلك بعض الذين عاصروا الدعوة من العلماء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى،
فإنهم رموا أتباع الدعوة بأنهم لا يفهمون بأنهم عوام، وبأنهم ليس عندهم مشاركة في العلوم، ليس عندهم معرفة إلا بعض المسائل في العقيدة وبفقه الحنابلة لا غير،
فاتهموهم في بعض ما دعوا إليه من المسائل التي دلائلها كالشمس في رابعة النهار،
اتهموهم بأنهم لم يفهموا الحق ولم يعرفوا المراد منه......... الواجب على اهل الحق أن يبينوا الحق بدليله، ولا يستهزئوا بالخلق لا يستهزئوا بالناس في علومم، بل إذا أخطأ المخطئ يقال هذا مخطئ والصواب كذا, يبين الحق بدليله, تبين المسألة بحججها براهينها التي توضح المراد منها ، دون دخول في هذا الأمر لأنه إذا قال فلان هذا فهمه كذا، فإنه يزيد شيئا فشيئا حتى تسلط عليه هذه الشعبة، فيتدرج في الأمر حتى إذا أتى ذلك الضعيف في الفهم عنده، اذا أتى بحق واضح جعله باطلا؛ لأجل أنه ضعيف الفهم، والواجب على المؤمن أن يأخذ الحق ممن جاء به، ولا يستدل على بطلان الشىء أن امن أتى به ليس بأهل أن يأتي بذلك، وهذا كما ترى ظاهر في فئام في هذا الزمان.
شرح مسائل الجاهلية للشيخ صالح ال الشيخ