الكتاب والحكمة: السردية الأخلاقية للقرآن
مقدمة
كل شيءٍ يبدأ وينتهي بحكمة الله عز وجلّ، هذه هي الفكرة الأساسية التي تغذّي الحكاية التي يرويها القرآن منذ بداية الوجود البشري إلى مستقبله النهائي، وبخلافِ الكتاب المقدس (الإنجيل) حيث الكشفية التاريخية لعهد الله مع البشرية تُقتفى من خلال الترتيب المتتابع للنص، فإنّ السردية الأخلاقية في القرآن يجب أن يعاد بناؤها من مقاطع متفرّقةٍ عبر صفحاته، من ناحيةٍ معينة فإنّ هذا يعكس مبادئَ أكثرَ عموميةً للبنية القرآنية، ومن ناحية أخرى فهي متناسقة تمامًا مع العناية التي توليها للأنماط الميتافيزيقية للحالة الإنسانية الأعمّ بدلًا من تاريخ شعوب معينة بذاتها، فالحكمة الإلهية هي الثابت الذي ينبئ بخلقه لهذا العالم كما ينبئ بكمال عدله ورحمته سبحانه في الحياة الآخرة.
ومن خلال تسليط الضوء على هذا المنظور وعرض القصة القرآنية الروحية للأفراد والمجتمعات، فمن الممكن أن نبيّن العلاقة بين المفاهيم الجوهرية للنظرة القرآنية للكون والعالم، السردية المتّبعة ترتكز على أربعة مراحلَ مختلفة مقسّمةٍ كالآتي: الميثاق، الفطرة، النبوة والآخرة.
الميثاق
إن التاريخ الإنساني وفقًا للقرآن الكريم يتملّك المعنى الأخلاقي فقط لوجود مكوّن المسؤولية الأخلاقية لدى الإنسان، وهذا المعنى قد صوّره القرآن في الآية 72 من سورة الأحزاب بعبارةٍ قويةٍ وجيزة ترتعد فيها أعظم مخلوقات الطبيعة لعرض الأمانة: “إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”.
ويعظُم تأثير الآية من خلال تجسيد السموات والأرض والجبال بأفعال صيغ الجمع “فَأَبَيْنَ” و “وَأَشْفَقْنَ” المخصصة للكائنات العاقلة، ويمكن أن تفسّر الأمانة هنا كرمز للمسؤولية الأخلاقية المقبولة إنسانيًا مما يمكنها أن تكوّن شكلًا من أشكال الميثاق مع الله عز وجل، ثم عاهد البشر ربّهم أنهم سيوحدونه ويكرّسون حياتهم لعبادته وهذه هي الغاية الكبرى من الوجود الإنساني، وقد ذكر القرآن هذه الفكرة في سورة (الذاريات:56) : “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”.
الميثاق القرآني يتميز بتركيبة تبادلية، فالبشر ملزومون بالوفاء بعهدهم، وبالمقابل فلا يُتصور أن الله عز وجل “الحكيم” سيخلف وعده لهم (الرعد:31)، وخُلِقت هذه الحياة الدنيا كساحة اختبار لهم كما ذُكِر في القرآن في سورة الملك الآية 2: ” ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”، وعندما يعودون لربهم فهم موعودون بالجزاء على ما فعلوه في الحياة الدنيا بناءً على الحالة الداخلية لقلوبهم (الشعراء:89) وأفعال جوارحهم (النور:24).
ومع ذلك فقد ذكر في سورة الأنعام 54: “كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ”، وهكذا يتوازن عدل الله مع رحمته كسمةٍ ظاهرة لله، ويمكننا أن نلحظ نفس الشيء على المستوى الإنساني حيث إن طبيعة العدل مسبوقة بالإحسان.
في الإنجيل المسيحي، تمت تسمية العهدين القديم والجديد بذلك وفقاً لمسمىً إنجليزي عتيق لـ”الميثاق”، والفكرة أن ميثاقاً قديماً مع ولي من الأولياء كإبراهيم في سفر التكوين 17، والذي جُدّد مع الإسرائيليين من بعده، قد حلّ محله أو كمّله ميثاقٌ جديدٌ آخر لأتباع المسيح، القرآن من جهةٍ أخرى يقدّم ميثاقاً دائماً مع كل البشرية كما بيّن ذلك في سورة الأعراف 172-173: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)”
الآيتان تستحضران لحظةً زمنيةً قديمة ارتبطت فيها البشرية جمعاء بميثاقٍ مع الله مؤكدين طاعتهم له، الآية الأولى تقرّب القارئ مباشرةً من المشهد حيث حصل الميثاق جاعلة القرّاء على مقربة من الحدث، أما النداء الإلهي في الآية والاستجابة له يمكن أن يعطي مؤشرًا حول النزعة الطبيعية عند البشر نحو الميل للإيمان بالله وطاعته، والمعطى المنطقي لهذه الشهادة هو إقامة حجّة عليهم يوم القيامة في حال إنكارهم لمسؤوليتهم كعبيدٍ لله أو لوم أسلافهم على عدم إيمانهم، إذن فالميثاق هو توكيد تمّ لعلاقةٍ سابقة موجودةٍ بين الرب والعباد يكون فيها العباد ليس فقط مدركين للآثار الأخلاقية الأوّلية المترتبة عليها فحسب، بل ومؤكدين للمُساءلة أمام الخالق، هنا يتّضح المفهوم المركزي للدين في أن يعيش المرء حياته بصفتها صفقةً لدَينٍ سيحاسبه الله عليه يوم الدين.
في المرحلة الأولية للتاريخ تم توثيق خلقِ كل مخلوقٍ على أنه دَينٌ تجاه الله، ثم تلت تلك المرحلة هذه المرحلة الدنيوية حيث يصرف البشر حياتهم في عبادة خالقهم موفين بالعديد من “الالتزامات” والتي وُضعت لهم بأمر إلهي، وفي اليوم الآخر المحتوم سيكون إمّا صفقةً رابحة أو خاسرة مستمرة إلى الأبد.
قصة آدم في القرآن تحاكي حياة أحفاده وسلالته، راسمةً لهم المجال الأخلاقي لحياتهم عبر تقديم مفاهيم كالاستخلاف والطاعة والإثم والتوبة، سجلت لنا الآية 30 من سورة البقرة حواراً بين الله وملائكته حيث يقول لهم:” إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” وتقول الملائكة في نفس الآية: “أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ” فيقول الله عز وجل:” إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”.
هناك نقاشٌ عريض في كل من الأدبيات التفسيرية المبكرة والدراسات الأكاديمية الحديثة حول معنى الخليفة في هذا السياق، مقترحةً بعض الاحتمالات الممكن كـ: الوريث، والنائب، والبديل، والعامل، والحاكم، يقدم الراغب الأصفهاني (ت 422 هـ/1031م) تحليلاً ثاقباً لمصطلح الخلافة باعتباره تمثيلًا لشخصٍ آخر إما لغائبٍ أو متوفىً أو عاجزٍ أو تكريماً للممثل نفسه، بما أن المعاني الثلاثة الأولى لا يمكن نسبتها لله، فإن المعنى النهائي لممثل أو نائب مكرّمٍ يناسب سياق فعل الخلق في الآية السابقة.
يكشف هذا المعنى عن سؤالين مهمين: ما هو معنى نائب أو ممثل الله؟ ولماذا قد تنسب الملائكة الفساد وسفك الدماء لمثل هذه الشخصية المكرمة؟ يتّضح من البيان الأولي ومن الرد الملائكي أن كلمة “خليفة” ليست محصورةً في آدم وحده، ولكنها شاملة لكل سلالته من الخلق الآدمي، هذا الأسلوب متوافق مع الاستخدام العربي حيث يستخدم اسم شيخ القبيلة أوالعشيرة للإشارة إلى أفراد ذات القبيلة، وكما تبيّن الآيات 31-33 من سورة البقرة، فإن البشر يتميزون بمكانة خاصةٍ بسبب قدرتهم على تعلم الأشياء في نطاق المخلوقات: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)”
تعليم آدم الأسماء قد يرمز لقدرة البشر على تكوين نوع من التقييمات الأخلاقية، كما يرمز لسلطةٍ على باقي المخلوقات وقوةٍ قادرةٍ على استزراع الأرض لأجل البشرية، وعلى النقيض فإن الإشارة إلى الإفساد في الأرض وإراقة الدماء فيه إلماحةٌ لما يملكه البشر من إرادةٍ حرة وإمكانيةٍ لرفض دورهم المناط بهم، والملائكة متفاجئون أن الله سيودع مسؤوليةً كهذه لمخلوقٍ غير قادرٍعلى ممارسة السلطة بعدالة كاملة، في صورةٍ مغايرةٍ تماماً لما هم عليه من الطاعة المطلقة لله عز وجل، والجواب “إنّي أعلمُ ما لا تعلمونَ” قد يشيرُ لتفوق الإنسانية المُعيبة ولكن ذات الإرادة الحرة، على نظيرتها الملائكية الكاملة الطاعة والتي لا إرادة لها، ومن المحتمل أيضاً أنها إشارةٌ هنا للهدى الذي سيرسله الله على يد رسله وأتباعهم لجلب الهداية وإقامة العدل.
ويكمل السياق القرآني أصداء هذين الجانبين السلبي والإيجابي للكائن البشري، فأشارت الآية 34 إلى الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم تكريماً له ورفض إبليس للسجود وقد شمله الأمر، وقدّمت لنا الآية 35 أول التزامٍ وطاعةٍ لأول كائنين بشريين: ” وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ”
، وكان عصيانهما للطاعة سبباً أدّى لنزولهما لهذا العالم كما في الآية 36.
يهمس الشيطان لآدم: “قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ” (طه:120)، وفي هذا دليل على أنه وبرغم طبيعة الجنة الساحرة فإن آدم علم أنه حتماً سيموت ويُواجه حسابه، ويبدو أن جاذبية الشجرة كانت أنها ستعطيه طريقاً مختصراً للفردوس دون المرور بحالة الموت، كما قال الشيطان: “وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ” الأعراف 20، بالإضافة إلى أن حقيقة أن الله أخبر الملائكة قُبيل ذلك أنه سيستخلف في الأرض خليفةً فيه إشارة لعلم الله المسبق بمحصلة هذا الاختبار، كما يوضح للبشر النماذج الأساسية للطاعة والإثم والتوبة، ثم بعد ذلك: “فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ” والتي غالباً ما تُفسر أنها دعاء الاستغفار في ” قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (الأعراف:23)، وتُكمل الآية: ” فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”، وأخيراً عندما أمر الله آدم وزوجه أن يهبطا لعالم الدنيا أعطاهم وعده الإلهي بالهداية والإرشاد في إشارة للتدبير المستقبلي للوحي، كما أخبرهم أين ستنتهي قصة البشر فإما في عودةٍ دائمةٍ للجنة وإما عذابَ الجحيم (البقرة 38-39).
الفطرة
قادت قصة آدم إلى النزول البشري لهذه الحياة الدنيا، لكن ما هي الحالة الأخلاقية لهذا المنزل الجديد وللمولودين فيه؟ إن الحالة التي يرسمها القرآن تُظهِر أن لعالمنا فضائل أساسية يُتوقع من البشر أن يتفاعلوا معها، وبما أن الميدان صمّم للمسؤوليات الامتحانية للدين والاستخلاف فمن المناسب لذلك أن يكون الخلق ذاته أتى مع ضبط أخلاقي مدمج، وهي فكرةٌ ذكرها القرآن توريةً تحت مسمى الميزان (الرحمن 7-12): “وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)”
إن وضع الله عز وجل للميزان يوحي إلى اختبار قدرة البشر (والجن) على العيش وفقًا له، فوضع الميزان بين وصف السماء ووصف الأرض بنباتاتها وحيواناتها يعني أنه أمر طبيعي وقابل للتطبيق كونياً في أنحاء النظام المخلوق، والأمر الإلهي: “وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ” يستثمر استعارةً مجازية للمجتمع العادل، ويقاس مستوى الفعل الإنساني بشكل يعكس الصورة الدينية لدى الإنسان لقياس العدالة الأرضية وفقاً للمعيار الموضوع من الله، ويشير هذا التوصيف إلى موضوع الحرية الأخلاقية حيث إن الأمر بإقامة العدل يفترض احتمالية أن المخاطب قد لا يلتزم بذلك، وهذا يؤكد اختلافنا عن الحيوانات والتي تصنف بجانب النباتات كمجرد مُتلقٍ وليس ممثل للخيارات الأخلاقية.
ونظرًا لكون البشر جزءًا من هذا النظام المخلوق فمن المنطقي أنهم سيعكسون تركيبات مقياسه، وهذا الأمر طُرح في القرآن تحت مفهوم “الفطرة”: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (الروم:30). هذه الآية قد تقرأ كتأييد قرآني لفكرة أن البشر بطبيعتهم يتجهون لتحصيل الإيمان والأخلاق، وهذا قد يكون ناتجًا عن ميثاق الأمانة (الأحزاب:72) وقد يكون السبب أنه لم يُعرف من خالف من الأرواح البشرية في الإشهاد (الأعراف:172) وكما هي متربطة في أدبيات علم التفسير.
هذه القراءة للفطرة على أنها ميلٌ قائمٌ للنفس البشرية نحو معرفة الله وعبادته يتواجه مع نزعتها نحو الإغراء الشيطاني وخداعها من قبل متع الحياة الدنيا، وبرغم أن هذا قد يقود لانهيار هذه الحالة البريئة الابتدائية فإنه لا وجود لمفهوم الخطيئة الأصلية في الرؤية الكونية القرآنية، ومثلما تحوي قصة سقوط آدم قي ثناياها الغفران والعفو: تبدأ حياة كل إنسان من نفس النقطة كآدم بالعودة إلى حالة الفطرة واختباره مجدداً كما سبق، وإذا تم التسليم بوجود إطار أخلاقي موضوعي للعالم فإن السؤال المعرفي حول ما إذا كان ذلك معروفاً قبل وصول الوحي أم لا يظل باقيًا، يجب التمييز أولًا بين ما يمكن معرفته وماهو معروف عادةً في أي مجتمع، ينتقد القرآن جزءًا كبيرًا من البشرية باعتبارهم ضالين عن الحق: “وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ” (الأنعام:116).
انطلاقًا من التفسير السابق للميثاق والمعيار فإنه من المنطقي فهم أن القرآن يؤكد أن القواعد الأخلاقية الأساسية معروفةٌ بشكل عقلاني للإنسان في حالة الفطرة، وبالرغم من ذلك فإن السؤال متوازن بدقة مع التفسيرات التي تتحدى هذا الافتراض، ومن الآيات التوضيحية المتنازع عليها: ” وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا” (الإسراء:15)، والتي يمكن أن تُفهم كموقف متطرف أن الالتزام الأخلاقي للإنسان مبني على ما أُنزِلت به الرسل، أو أن تُفهم كبيان لسنة الله عز وجل في إرسال النُذُر قبل تدمير قومٍ ما كما هو مذكور عادةً في القرآن.
تكمن الصعوبة في استخدام آياتٍ كهذه الآية الماضية لتأييد الفكرة السابقة أن الآية يجب أن تنفصل عن سياقها النصي لتخدم حجّة تنبع من التساؤلات اللاهوتية، لا القرآنية، تشير الآيات 4-7 في سورة الإسراء إلى نبذةٍ تاريخية من التحذيرات والعقوبات التي وقعت على بني إسرائيل، بينما تبدأ الآية التي تلي الآية 15 من نفس السورة ب:” وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً” مما يشير إلى أن معنى الآية توصيفي وليس إلزامي: أي أن من السنة الإلهية في التعامل مع الأقوام السابقة أن يرسل الله لهم المنذرين لهم قبل أن يأخذهم كم توضح الآية التي تليها: “وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا” (الإسراء:17).
يتبع