أطفالنا بين تربية الحوار وتربية الإجبار
خلف أحمد محمود




الحوار ظاهرة إنسانية ومطلب ضروري للإنسان منذ بدء الخليقة فعن طريق الحوار يستطيع الإنسان حسم الكثير من المشكلات والأزمات التي تعترض طريق حياته والتي كثيراً لاتجدي وسائل الإجبار والقوة الغاشمة في حلها وحسمها، وإذا كان الحوار ضرورياً للإنسان فهو أيضا ضروري للمجتمع، فالمجتمع الذي تسود بين أفراده آداب وأخلاقيات الحوار يعتبر مجتمعاً متآلفاً تسوده المحبة وتغذيه علاقات التفاهم وتحركه روح الانسجام، وإذا كنا ننشد هذا المجتمع فلابد أولاً أن نتجه إلى الأسرة باعتبارها اللبنة الأولى في صرح المجتمع، فإذا كان أفراد الأسرة تسود بينهم روح الحوار فإن ذلك يصب في صالح المجتمع، وإذا حدث العكس فإن ذلك ينعكس على العلاقات التي تسود بين أفراد المجتمع وإذا ألقينا نظرة عابرة على حال معظم الأسر المسلمة في هذا العصر نجد أنها أصبحت بعيدة كل البعد عن أسس وآداب الحوار فيما بينها فنرى على سبيل المثال الأب يصرخ دائما في وجه أبنائه ويعمد في معظم الأحوال على فرض رأيه عليهم بالقوة والإجبار والأم هي الأخرى تصرخ وتعاني وينشأ الطفل وسط هذا الصراخ فتلبسه هو الآخر روح الصراخ فيتعلم منذ أن تتفتح عيناه على الدنيا أن الصراخ يحل المشكلة، وكلما علا صوته كلما أسرعت الحلول إلى مشكلته وأجيبت مطالبه بصرف النظر عن عدالة ما صرخ من أجله ومعقوليته، وإذا ما حاول الكلام وأراد التعرف إلى مبادئ الحياة لايجد من الأسرة من يشرح ويوضح له كنه الشيء الذي يسأل عنه، وإذا جاء إلى مجلس الكبار نبذ كما لو كان شيئاً مقززاً لا يسمح له بالحديث ولا يقبل منه تعليق فينشأ الطفل وسط هذا الجو الصارم ويشب على افتقاد أسلوب الحوار في حياته، هذه الأمور تتطلب منا أن نعمل جاهدين على تربية أطفالنا على آداب وأساسيات الحوار منذ نعومة أظفارهم حتى تتشرب نفوسهم مبادئ الحوار وتتفتح عقولهم على التفاهم والفكر الصحيح الذي يخلق منهم مواطنين صالحين لمجتمعهم وأمتهم·


كيف نربي أطفالنا على الحوار؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما الدور الذي يجب أن تقوم به الأسرة من أجل غرس مبادئ وآساسيات الحوار في نفوس أطفالها وجعلهم يعتمدون الحوار كأساس ضروري في حياتهم وعند تعاملهم مع الآخرين·

أولاً:
يجب على الوالدين أن تكون هذه الصفة مطبوعة في داخلهم حتى يمكن نقلها إلى الأبناء، فلابد أن يكون هناك حوار بنَّاء بين الوالدين يقوم على التفاهم والعقلانية واحترام كل طرف للآخر حتى عند الخلاف في وجهات النظر فلا يكون هذا الخلاف مجرد أهواء تتناطح بل يجب أن يكونوا كالزهور التي تتلاقح وتتكامل بحثا عن نبض فتي وحيوية متجددة تمدها النضارة والنماء ذلك لأن التعود على الأخذ والعطاء والمشاورة بين الزوجين حتى عند الخلاف في الرأي صفات طيبة لا تنتج إلا خيراً حيث ينشأ الطفل ويشب وسط هذا الجو الأسري المنسجم والمتفاهم فتزرع في نفسه بذور الحوار وتترعرع وتنمو من خلال ما يرى ويعايش أمامه من انسجام وتآلف وتفاهم بين الوالدين·

ثانياً:
على الوالدين تهيئة أطفالهم للدخول في حوار مباشر معهم وذلك بتخصيص أمسية يجمع رب الأسرة أطفاله حوله ويقص عليهم بعض القصص والمواعظ والمواقف التي ينتهج خلالها أسلوب الحوار والاستجواب وطرح الأسئلة المشوِّقة التي تفتح المجال أمام الطفل للتعبير عما يجيش داخل صدره من أفكار وآراء والتصريح بما اعترضه من مواقف خلال تعامله مع الآخرين، فإن مثل هذه الأمسيات تقوي أولاً الصلة بين رب الأسرة وأبنائه ومن ناحية أخرى تغرس صفة الإيجابية والصراحة في نفس الطفل وقد أثبت خبراء التربية بعد تجارب عديدة أن الحوار المباشر بين رب الأسرة وأبنائه وجها لوجه من أنجح وسائل الاتصال وأقواها أثراً فضلا عن تميزه بالحيوة والتجارب وأنه يعطي فرصة أكبر للتفاهم للوصول إلى نتائج طيبة·


ثالثاً:
يجب على رب الأسرة أن يكون واسع الصدر من حيث الإصغاء التام للابن لسماع كل ما يجيش في صدره ويجول في نفسه من أسئلة واستفسارات، ولنا في الرسول [ خير مثل وأعظم قدوة في ذلك فقد كان [ يصغي كل الأصغاء إلى من يحدثه ويسأله ويقبل عليه بكليته ويلاطفه فعن أنس ] قال: >ما رأيت رجلا التقم أذن النبي [ يعني يكلمه سرا، فينحي رأسه عنه (أي يرفعه عنه) حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه· وما رأيت رسول الله [ أخذ بيد رجل فترك يده، حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده< (رواه أبو داود)

رابعاً:
كما يجب على رب الأسرة في أثناء الحوار مع أطفاله أن يقبل عليهم جميعا بنظراته وتوجيهاته فلا يقبل على أحد منهم ويتجاهل الآخرين بل يجب أن يشملهم جميعاً بالنظرات والتوجيهات والملاطفة حتى يشعر كل ابن بأن الأب يخصه ويريده بهذا الحديث من خلال نظرات الاهتمام والرعاية التي يحوطه ويخصه بها، فعن >عمرو بن العاص< قال >كان رسول الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم يتألفه بذلك· وكان يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم< (روه الطبراني باسناد حسن)

خامساً:
إعطاء الحوار حقه بين الأب وأولاده فلا يكون حديثه وحواره معهم مختصراً مخلا يفوق مداركهم العقلية ولا طويلا مملا يشعرهم بالسأم والضيق كما يجب أن يراعي خلاله عقل أطفاله وقدرة استيعابهم حتى يكون الحديث اوقع في نفس الطفل وأكثر شوقاً الى قلبه وأكثر استيعابا لمعطيات هذا الحوار والهدف منه فعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: >ما كان رسول اللّه [ يسرد الحديث كسردكم هذا يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه< (رواه الشيخان) وعنها أيضاً قالت: >كان كلامه [ فصلا يفهمه كل من سمعه< (رواه ابو داود)


أخيراً:
وفي النهاية نقول: إذا كانت الأسرة المسلمة في هذا العصر تنشد التربية السليمة والفكر الصحيح لأبنائها فإن ذلك لن يتحقق ألا ببناء هذه التربية على أساس المناعة الذاتية، هذه المناعة التي لا تتحقق إلا بالحوار الهادئ الموضوعي البعيد عن الصراخ والضجيج وبطريق المناقشة الصريحة بين الأب وأبنائه لا لمجرد أمور ونواه يقولها الأب أو الأم للابن في صغره ولا يكاد يفهمها أو يلقي لها بالاً ذلك أن فتح قنوات الحوار بين الأب وأبنائه ينتج ثماراً طيبة صالحة واعدة، ولو عدنا إلى الأمر الإلهي الذي يقول وجادلهم بالتي هي أحسن وطبقناه في البيت لأحبنا صغارنا واحترمونا أكثر من أن يخافونا ولأنتجنا علماء ودعاة متميزين يعرفون كيف يقارعون الحجة بالحجة وكيف يضبطون أعصابهم وتصرفاتهم إذا ما كانت الغلبة لحجة غيرهم·