تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 21 من 22 الأولىالأولى ... 111213141516171819202122 الأخيرةالأخيرة
النتائج 401 إلى 420 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #401
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ هود
    المجلد التاسع
    صـ 3411 الى صـ 3425
    الحلقة (400)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 6 ] وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين

    وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها أي ما تعيش به. وإنما جيء بـ (على) [ ص: 3411 ] اعتبارا لسبق الوعد به، وتحقيقا لوصوله إليها البتة، بطريق التكفل الشبيه بالإيجاب ويعلم مستقرها أي مسكنها في الدنيا، أو في الصلب ومستودعها أي بعد الموت، أو في الرحم كل أي من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين أي مسطور في كتاب عنده تعالى، مبين عن جميع ذلك.

    ثم بين تعالى عظيم قدرته وتكوينه وإبداعه بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 7 ] وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين

    وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام من الأحد إلى الجمعة وكان عرشه على الماء أي ما كان تحته قبل خلق السماوات والأرض، وارتفاعه فوقها إلا الماء. وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض -كذا في (الكشاف)-.

    وقال القاضي: أي لم يكن بينهما حائل، لا أنه كان موضوعا على متن الماء.

    قال قتادة: ينبئنا تعالى في هذه الآية كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض.

    روى الإمام أحمد عن أبي رزين -واسمه: لقيط بن عامر العقيلي- قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: « كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، [ ص: 3412 ] ثم خلق العرش بعد ذلك » . ورواه الترمذي وحسنه وقال: قال أحمد: يريد بالعماء أنه ليس معه شيء.

    وقال البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات): (العماء) ممدود كما رأيته مقيدا كذلك، ومعناه السحاب الرقيق، أي فوق سحاب، مدبرا له، وعاليا عليه. كما قال تعالى: أأمنتم من في السماء يعني من فوق السماء. وقوله: (ما فوقه هواء) أي ما فوق السحاب هواء. وكذلك قوله (وما تحته هواء) أي ما تحت السحاب هواء.

    وقد قيل: إن ذلك (العمى) مقصور، بمعنى لا شيء ثابت، لأنه مما عمي عن الخلق، فكأنه قال في جوابه: كان قبل أن يخلق الخلق، ولم يكن شيء غيره. و (ما) فيهما نافية. أي: ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء، ولا تحته هواء ; لأنه إذا كان غير موجود فلا يثبت له هواء بوجه. انتهى ملخصا.

    وقال ابن الأثير: العماء في اللغة السحاب الرقيق، وقيل الكثيف، وقيل هو الضباب. وفي الحديث حذف، أي أين كان عرش ربنا؟ دل عليه قوله تعالى: وكان عرشه على الماء

    وحكى بعضهم أنه العمى المقصور. قال: وهو كل أمر لا يدركه الفطن.

    وقال أبو عبيد: إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء!.

    قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته.

    وقوله تعالى: ليبلوكم أيكم أحسن عملا أي أخلصه، متعلق بـ (خلق) أي: خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلهن مساكن لعباده، وينعم عليهم بفنون النعم، [ ص: 3413 ] فيعبدوه وحده، ويتسابقوا في العمل الذي يرضيه. ولما كان الابتلاء والاختبار لمن تخفى عليه عاقبة الأمور; قيل: إنه هنا تمثيل واستعارة، فشبه معاملته تعالى عباده في خلق المنافع لهم، وتكليفهم شكره، وإثابتهم إن شكروا، وعقوبتهم إن كفروا، بمعاملة المختبر مع المختبر، ليعلم حاله ويجازيه، فاستعير له الابتلاء على سبيل التمثيل (ليبلوكم) موضع (ليعاملكم). ويصح أن يكون مجازا مرسلا، لتلازم العلم والاختبار. أي: خلق ذلك ليعلم، أي: ليظهر تعلق علمه الأزلي بذلك.

    قال القاشاني: جعل غاية خلق الأشياء ظهور أعمال الناس. أي: خلقناهم لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء، أيكم أحسن عملا، فإن علم الله قسمان: قسم يتقدم وجود الشيء في اللوح، وقسم يتأخر وجوده في مظاهر الخلق، والبلاء الذي هو الاختبار هو هذا القسم -انتهى-.

    ونحو هذه الآية قوله تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا وقوله: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم وقوله سبحانه: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

    وقوله تعالى ولئن قلت أي لأهل مكة إنكم مبعوثون أي: محيون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا أي القول بالبعث، أو القرآن المتضمن لذكره إلا سحر مبين أي مثله في الخديعة والبطلان.
    [ ص: 3414 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 8 ] ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون

    ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة أي جماعة من الأوقات محصورة. والعذاب هو عقاب الآخرة، أو عذاب الدنيا ببدر، أو هلاك المستهزئين الذين ماتوا قبل بدر ليقولن أي استهزاء ما يحبسه أي عنا. ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم أي دار ونزل بهم ما كانوا به يستهزئون أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون.

    لطيفة:

    (الأمة) تستعمل في الكتاب والسنة في معان متعددة، فيراد بها الأمد، كما هنا، وقوله في يوسف: وادكر بعد أمة والإمام المقتدى به، كقوله: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله والملة والدين كآية: إنا وجدنا آباءنا على أمة والجماعة كآية: ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون وقوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت -أفاده ابن كثير-.

    ثم أخبر سبحانه عن الإنسان، وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين، بقوله تعالى:
    [ ص: 3415 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 9 ] ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس كفور

    ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة أي: نعمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس أي قنوط عن عودها، قطوع رجاءه من فضله تعالى، من غير صبر ولا تسليم لقضائه كفور عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله، كأنه لم ير خيرا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 10 ] ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور

    ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني أي المصائب التي ساءتني إنه لفرح أي أشر بطر فخور أي على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 11 ] إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير

    إلا الذين صبروا أي على الضراء، إيمانا بالله واستسلاما لقضائه وعملوا الصالحات أي في الرخاء والشدة، شكرا لآلائه، سابقها ولاحقها: أولئك لهم مغفرة أي لذنوبهم بتلك الشدة وأجر كبير أي على الصبر والأعمال الصالحة.

    تنبيه:

    قال القاشاني قدس سره: ينبغي للإنسان أن يكون في الفقر والغنى، والشدة والرخاء، والمرض والصحة، واثقا بالله، متوكلا عليه، لا يحتجب عنه بوجود نعمة، ولا بسعيه [ ص: 3416 ] وتصرفه في الكسب، ولا بقوته وقدرته في الطلب ولا بسائر الأسباب والوسائط ; لئلا يحصل اليأس عند فقدان تلك الأسباب، والكفران والبطر والأشر عند وجودها، فيبعد بها عن الله تعالى، وينساه فينساه الله، بل يرى الإعطاء والمنع منه دون غيره. فإن أتاه رحمة من صحة أو نعمة شكره أولا برؤية ذلك منه، وشهود المنعم في صورة النعمة، وذلك بالقلب، ثم بالجوارح باستعمالها في مراضيه وطاعته، والقيام بحقوقه تعالى فيها، ثم باللسان بالحمد والثناء متيقنا بأنه القادر على سلبها، محافظا عليها بشكرها، مستزيدا إياها، اعتمادا على قوله تعالى: لئن شكرتم لأزيدنكم

    قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا وصلت إليكم أطراف النعم، فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر. ثم إن نزعها منه. فليصبر ولا يتأسف عليها، عالما بأنه هو الذي نزع دون غيره ; لمصلحة تعود إليه، فإن الرب تعالى كالوالد المشفق في تربيته إياه، بل أرأف وأرحم، فإن الوالد محجوب عما يعلمه تعالى، إذ لا يرى إلا عاجل مصالحه وظاهرها، وهو العالم بالغيب والشهادة، فيعلم ما فيه صلاحه عاجلا وآجلا، راضيا بفعله، راجيا إعادة أحسن ما نزع منها إليه، إذ القانط من رحمته بعيد منه، لا يستوسع رحمته لضيق وعائه، محجوب عن ربوبيته، لا يرى عموم فيض رحمته ودوامه. ثم إذا أعادها لم يفرح بوجودها، كما لم يحزن بفقدانها، ولا يفخر بها على الناس، فإن ذلك من الجهل، وظهور النفس، وإلا لعلم أن ذلك ليس منه وله، وبأي سبب يسوغ له فخر بما ليس له ومنه؟ بل لله، ومن الله.

    وقوله تعالى: إلا الذين صبروا استثناء من (الإنسان) أي هذا النوع يؤوس كفور، فرح فخور، في الحالين، إلا الذين صبروا مع الله واقفين معه، في حالة الضراء والنعماء والشدة والرخاء، كما قال عمر رضي الله عنه: الفقر والغنى مطيتان، لا أبالي أيهما أمتطي. انتهى.
    [ ص: 3417 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 12 ] فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل

    فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أي بتلاوته عليهم، وتبليغه إليهم، أن يقولوا أي مخافة أن يقولوا، تعاميا عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفى صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة، وتماديا في العناد على وجه الاقتراح لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز والملائكة، زعما أن الرسول متبوع، لا بد له من الإنفاق على أتباعه، ولا يتأتى مع عدم سلطنته إلا بإلقاء الكنز عليه، أو مجيء ملك معه يصدق برسالته، فقال تعالى: إنما أنت نذير أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، غير مبال بما صدر منهم من الاقتراح والله على كل شيء وكيل أي فيحفظ ما يقولون ويجازيهم عليه، فكل أمرك إليه، وبلغ وحيه بقلب منشرح، غير مبال بهم.

    لطائف:

    الأولى: قال القاشاني: لما لم يقبلوا كلامه صلى الله عليه وسلم بالإرادة، وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة، وقابلوه بالعناد والاستهزاء، ضاق صدره، ولم ينبسط للكلام، إذ الإرادة تجذب الكلام، وقبول المستمع يزيد نشاط المتكلم، ويوجب بسطه فيه، وإذا لم يجد المتكلم محلا قابلا لم يتسهل له، وبقي كربا عنده، فشجعه الله تعالى بذلك، وهيج قوته ونشاطه بقوله: إنما أنت نذير فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين: إما رفع الحجاب أن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك، ثم كل الهداية إليه.

    [ ص: 3418 ] الثانية: لا يخفى أن (لعل) للترجي، وهو، وإن اقتضى التوقع، إلا أنه لا يلزم من توقع الشيء وقوعه، ولا ترجح وقوعه ; لوجود ما يمنع منه وتوقع ما لا يقع منه، المقصود تحريضه على تركه، وتهييج داعيته.

    وقيل: (لعل) هنا للتبعيد لا للترجي، فإنها تستعمل كذلك، كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا، لمن لا يقدر عليه. فالمعنى: لا نترك.

    وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري كما في الحديث: « لعلنا أعجلناك » .

    وقيل: هي لتوقع الكفار، فكما تكون لتوقع المتكلم، وهو الأصل ; لأن معاني الإنشاءات قائمة به- تكون لتوقع المخاطب أو غيره، ممن له ملابسة بمعناه كما هنا. فالمعنى: إنك بلغت الجهد في تبليغهم أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه -كذا في (العناية)-.

    الثالثة: إنما عدل عن (ضيق) الصفة المشبهة إلى (ضائق) اسم الفاعل ; ليدل على أنه ضيق عارض، غير ثابت; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا. وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل، فيقولون في سيد سائد، وفي جواد جائد، وفي سمين سامن، قال:


    بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شحوبها


    وظاهر كلام أبي حيان أنه مقيس. وقيل إنه لمشابهة (تارك). ومنه يعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة -كذا في (العناية)-.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3419 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 13 ] أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين

    أم يقولون افتراه أي ما يوحى إليك، وفي (أم) وجهان منقطعة مقدرة بـ (بل والهمزة الإنكارية) أي: بل أيقولون. ومتصلة والتقدير: أيكتفون بما أوحينا إليك، وهو ما في الإعجاز، أم يقولون ليس من عند الله.

    قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا أي للاستعانة من استطعتم أي من الإنس والجن، وقوله: من دون الله متعلق بـ " ادعوا" ، أي متجاوزين الله تعالى إن كنتم صادقين أي في أني افتريته، فأنتم عرب فصحاء مثلي، لا سيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 14 ] فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنـزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون

    فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنـزل بعلم الله أي بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها وأن لا إله إلا هو أي واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله، وأن توحيده واجب، والإشراك به ظلم عظيم فهل أنتم مسلمون أي مبايعون بالإسلام، منقادون لتوحيد الله، وتصديق رسوله بعد هذه الحجة القاطعة؟.

    [ ص: 3420 ] لطائف:

    الأولى: قيل: تحدوا أولا بعشر سور، فلما عجزوا تحدوا بسورة. وذهب المبرد إلى أن الأمر بالعكس، ووجهه بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، وهي الأنواع التسعة المنظومة في قول بعضهم:


    ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل حلال، حرام، محكم متشابه
    بشير نذير، قصة عظة مثل


    فلما عجزوا عن ذلك، أمرهم بالإتيان بعشر سور مثله في النظم، وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، ويشهد له توصيفها بـ (مفتريات).

    وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد، وإبطال الشرك، فتعين أن يكون لإثبات النبوة بإظهار معجزة، وهي السورة الفذة. والتحدي بعشر وقع بعد تعنتهم واستهزائهم، واقتراحهم آيات غير القرآن; لزعمهم أنه مفترى، فمقامه يناسبه التكثير; لأنه أمر مفترى عندهم، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله -كذا في (العناية)-.

    الثانية: ضمير (لكم) للنبي صلى الله عليه وسلم وجمع للتعظيم، كما في قول من قال:


    وإن شئت حرمت النساء سواكم


    أو له وللمؤمنين ; لأنهم أتباعه في الأمر بالتحدي. وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام، ويناصبوا معه لمعارضة المعارضين، كما كانوا يفعلونه في الجهاد. وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان، ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: فاعلموا إلخ. وجوز أن يكون الخطاب في الكل للمشركين من جهته عليه السلام، داخلا تحت الأمر بالتحدي، والضمير في (لم يستجيبوا) لـ (من استطعتم) أي: فإن لم يستجب لكم سائر من تجأرون إليهم في مهماتكم إلى [ ص: 3421 ] المعاونة ; فاعلموا أن ذلك خارج عن دائرة قدرة البشر، وأنه منزل من خالق القوى والقدر -كذا في أبي السعود-.
    ثم بين تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة -وهم الكفار- بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 15 ] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون

    من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أي: نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 16 ] أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون

    أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها أي وحبط في الآخرة ما صنعوه، أي لم يكن لهم ثواب عليه. وجوز تعلق الظرف بـ " صنعوا" والضمير للدنيا. كما عاد عليه في قوله: نوف إليهم أعمالهم فيها وباطل ما كانوا يعملون أي كان عملهم في نفسه باطلا ; لأنه لم يعمل لغرض صحيح.

    ونظير هذه الآية قوله تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك [ ص: 3422 ] وما كان عطاء ربك محظورا وقوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نـزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب

    لطيفة:

    في إعراب (باطل) وجهان:

    الأول: كونه خبرا مقدما، و (ما كانوا) مبتدأ مؤخرا، و (ما) مصدرية أو موصولة، والكلام من عطف الجمل.

    والثاني: كونه عطفا على الأخبار قبله، أي: أولئك باطل ما كانوا يعملون. و ما كانوا يعملون فاعل بـ " باطل" ورجح هذا بقراءة زيد بن علي رضي الله عنهما: (وبطل) ماضيا معطوفا على (حبط).

    ثم أشار تعالى إلى صفة المؤمنين، في مقابلة أولئك بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 17 ] أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون

    أفمن كان على بينة من ربه أي برهان نير، عظيم الشأن، يدل على حقية ما ثبت عليه من الإسلام، وهو القرآن ويتلوه أي يتبعه شاهد منه أي من القرآن نفسه، يشهد له بكونه من عند الله تعالى، وهو إعجازه. وفسرت " البينة" أيضا بالإسلام، سماه بينة لغاية ظهوره، إذ هو دين الفطرة، قبل تدنيسها برجس الوثنية و (الشاهد) بالقرآن، [ ص: 3423 ] فالضمير للرب تعالى. ومن قبله أي القرآن كتاب موسى وهو التوراة. أي: ويتلو تلك البينة من قبله كتاب موسى، مقررا لذلك أيضا. وقوله تعالى: إماما أي: مقتدى به في الدين ورحمة أي نعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع. أولئك أي من كان على بينة يؤمنون به أي بالقرآن فلهم الجنة، ومن يكفر به من الأحزاب يعني أهل مكة، ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلوات الله عليه: فالنار موعده فلا تك في مرية منه أي شك من القرآن أو من الموعد إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون أي به، إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.

    لطائف:

    الأولى: (من) في قوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه مبتدأ حذف خبره، لإغناء الحال عن ذكره، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيرا. وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم، وبين مصيرهم ومآلهم -كذا قال أبو السعود-.

    وفي (شرح الكشاف) أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا، على أنها موصولة، فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف; لدلالة الفاء، أي: يعقبونهم أو يقربونهم. والاستفهام للإنكار، فيفيد أنه لا تقارب بينهم، فضلا عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون

    الثانية: قرئ ((كتاب موسى)) بالنصب عطفا على الضمير في (يتلوه) أي يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه، يعني من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى ; لما يجدونه مكتوبا عندهم، و (يتلو) من التلاوة، فتكون الآية كقوله تعالى: وشهد شاهد من بني إسرائيل -والله أعلم-.

    [ ص: 3424 ] الثالثة: (الأحزاب) جمع حزب، والحزب جماعة الناس. ويطلق (الأحزاب) على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا كل نبي قبله، وهو إطلاق شرعي، وعليه حمل الأكثر الآية; لكون السورة مكية، إلا أن اللفظ يتناوله، وكل من شاكلهم من سائر الطوائف.

    وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار » . قال سعيد: كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث، فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده قال: الملل كلها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 18 ] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين

    ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا كقوله للملائكة (بنات لله)، وللأصنام (شفعاء عند الله) أولئك يعرضون على ربهم أي يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم، ويقول الأشهاد من الملائكة والنبيين والجوارح: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ، لظلمهم بالكذب على الله. قيل: ولا يبعد أن تكون الآية للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، [ ص: 3425 ] فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه؟! كما مر في يونس في قوله تعالى: ولا يفلح الساحر
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 19 ] الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون

    الذين يصدون عن سبيل الله أي عن دينه القويم، كل من يقدرون على صده. ويبغونها عوجا أي يطلبونها معوجة بالكفر، أو يصفونها لهم بالاعوجاج وهم بالآخرة هم كافرون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 20 ] أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون

    أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض أي: يعجزونه تعالى أن يعاقبهم في الدنيا وما كان لهم من دون الله من أولياء أي يمنعونهم من عقابه، يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع لتصامهم عن الحق، وبغضهم له، وما كانوا يبصرون لتعاميهم عن آيات الله، وإعراضهم غاية الإعراض، كما قال الله: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وقال تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب الآية.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #402
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ هود
    المجلد التاسع
    صـ 3426 الى صـ 3440
    الحلقة (401)





    [ ص: 3426 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 21 ] أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

    أولئك الذين خسروا أنفسهم أي: سعادتها وراحتها، أو بتسليمها لعبادة الأوثان وتركها ما خلقت له من عبادته تعالى، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة، كما قيل:


    إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب


    وضل عنهم ما كانوا يفترون أي غاب عنهم الآلهة وشفاعتها، ولم تجدهم شيئا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 22 ] لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون

    لا جرم أي حقا، أو لا محالة أنهم في الآخرة هم الأخسرون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 23 ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

    إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أي خشعوا له وحده، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 24 ] مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون

    مثل الفريقين أي الكفار والمؤمنين كالأعمى والأصم مثل للكافر والبصير والسميع مثل للمؤمنين هل يستويان أي الفريقان مثلا أي حالا وصفة أفلا تذكرون أي بضرب الأمثال وتدبرها.

    [ ص: 3427 ] ثم قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل ما يثبت فيه فؤاده، ليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم، ومقاساتهم الشدائد من جهتهم، وليعلم قومه أن رسالته كرسالة من تقدمه، وأن سنة الله فيهم معروفة، كما قال تعالى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 25 ] ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين

    ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه وكانت امتلأت الأرض من شركهم وشرورهم إني لكم نذير مبين أي بأني، وقرئ بالكسر. أي: فقال إني لكم نذير مبين، أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 26 ] أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم

    أن لا تعبدوا إلا الله (الباء) مقدرة هنا للتعدية، و (لا) ناهية. أي أرسلناه متلبسا بالنهي عن عبادة غير الله. إني أخاف عليكم أي إن عبدتم غيره عذاب يوم أليم أي مؤلم في الدنيا والآخرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 27 ] فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين

    فقال الملأ الذين كفروا من قومه أي السادة والكبراء، ما نراك إلا [ ص: 3428 ] بشرا مثلنا أي: لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا.

    قال القاشاني: أي فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق ما نراك إلا بشرا مثلنا لكونهم ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، الذي هو عقل المعاش، لا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طورا بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها.

    وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا أي فقراؤنا الأدنون منا ; إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، كما قال تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون

    وقوله تعالى: بادي الرأي أي بديهة الرأي; لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر. قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية ; لقصر تصرفه على كسب المعاش، والوقوف على حده. وأما أتباع نوح عليه السلام، فإنهم أصحاب همم بعيدة، وعقول حائمة حول القدس، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها.

    تنبيه:

    (بادي) قرأه أبو عمرو بالهمزة، والباقون بالياء.

    فأما الأول فمعناه أول الرأي. بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل، أول وهلة.

    وأما الثاني: فيحتمل أن أصله ما تقدم، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفا، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو، كعلا يعلو. والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما، هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما (نراك) أو (اتبعك).

    قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا بمن اتبعه من وجهين:

    أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة.

    [ ص: 3429 ] والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في اتباعه، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به -انتهى-.

    أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم، أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، بل أتباعه هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأدنون، ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب، ما يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفته، كما قال تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ولما سأل هرقل ملك الروم، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.

    وأما الثاني: فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل; لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولا بد من اتباعه حالتئذ لكل ذي فطنة، ولا يتردد إلا غبي أو عيي، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام.

    وقوله تعالى: وما نرى لكم خطاب لنوح وأتباعه علينا من فضل أي تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة; لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال.

    قال الزمخشري: كان الأشراف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم. ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحدا من الله، وإنما يبعده ولا يرفعه، بل يضعه، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوة، والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، [ ص: 3430 ] مصغرين لشأن الدنيا، وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله!

    وقوله تعالى: بل نظنكم كاذبين أي فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 28 ] قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون

    قال أي نوح يا قوم أرأيتم أي: أخبروني إن كنت على بينة أي برهان من ربي وآتاني رحمة أي هداية خاصة كشفية من عنده أي فوق طور العقل من العلوم اللدنية، ومقام النبوة فعميت عليكم أي لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخليقة عن الحقيقة أنلزمكموها وأنتم لها كارهون يعني أنكرهكم على قبولها، ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، و لا إكراه في الدين فالاستفهام للإنكار، أي لا نقدر على ذلك، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم، واتركوا إنكاركم، وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها، ورد عن الإعراض عنها، بأسلوب فائق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 29 ] ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون

    ويا قوم لا أسألكم عليه أي على تبليغ التوحيد مالا إن أجري إلا على الله [ ص: 3431 ] قال القاشاني: أي الغرض عندكم من كل أمر، محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، فتنبهوا لغرضي، وأنتم عقلاء بزعمكم.

    ثم لما بين أن لا وجه لكراهة دعوته ; إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئا، فلم يبق إلا خسة أتباعه، ولا ترتفع إلا بطردهم، قال وما أنا بطارد الذين آمنوا أي لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، وطردهم قد يكون مانعا لهم من الإيمان أو لأمثالهم. ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه. ولو كان طردهم سبب إيمانكم ولم يرتدوا، أخاف من طردهم شكايتهم، وهذا معنى قوله: إنهم ملاقو ربهم أي فيخاصمون طاردهم عنده. أو المعنى: إنهم يلاقونه ويفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟

    ثم أشار إلى أن خستهم ليست مانعة من الإيمان; إذ لا تلحقهم، بقوله: ولكني أراكم قوما تجهلون أي فتخافون لحوق خستهم، لمشاركتكم إياهم في الإيمان من جهلكم ; إذ الخسيس لا تترك مشاركته في كل شيء. أو تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه، لذهاب عقولكم في الدنيا. أو تسفهون وتؤذون المؤمنين، وتدعونهم أراذل، أو تجهلون أنهم خير منكم، كما قال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

    ثم أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه تعالى بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 30 ] ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون

    ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أي: فإن أفادكم طردهم تعززكم، فإني أستوجب قهره بطردهم، ومن يدفعه عني؟ وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعا، وإنما لم يصرح به إشعارا بأنه غني عن البيان، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به [ ص: 3432 ] من كرامتهم بإيمانهم بالله واليوم الآخر. أفلا تذكرون تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟

    تنبيه:

    قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن، وتحريم الاستخفاف به، وإن كان فقيرا عادما للجاه، متعلقا بالحرف الوضيعة; لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء، لما طلبوا طرد من عدوه من الأراذل. وهي نظير قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي

    ثم أشار إلى أنه عليه السلام بشر مثلهم، أوثر بالوحي والرسالة فلا يدعي ما ليس له، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 31 ] ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين

    ولا أقول لكم عندي خزائن الله أي رزقه وأمواله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك أي أنا أدعي الفضل بالنبوة، لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالاطلاع على الغيب، ولا بالملكية، حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك ولا أقول للذين تزدري أعينكم أي تحتقرهم، وهم الفقراء المؤمنون لن يؤتيهم الله خيرا أي في الدنيا والآخرة، لهوانهم عليه، كما تقولون ; إذ الخير عندي ما عند الله، لا المال الله أعلم بما في أنفسهم أي من الخير، مني ومنكم، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه.

    [ ص: 3433 ] قاله القاشاني: وحمل غيره هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله إرشادا إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا، ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة. إني إذا أي إذا قلت ذلك لمن الظالمين أي لبخس حقهم، وحط قدرهم ; فإن الإيمان الظاهر منهم، رفع شأنهم، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي، كما هو الظاهر منهم ; فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير، بعد ما آمنوا، كان ظالما. وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 32 ] قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين

    قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا أي: أطلته، أو أتيته بأنواعه، فأتنا بما تعدنا أي من العذاب إن كنت من الصادقين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 33 ] قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين

    قال إنما يأتيكم به الله إن شاء يعني أنه ليس موكولا إلي، وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وما أنتم بمعجزين أي بالهرب أو بدفعه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 34 ] ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون

    ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ ص: 3434 ] أي أي شيء يجديه إبلاغي ونصحي، بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب، إن كان الله يريد إغواءكم ليدمركم؟ هو ربكم أي مالك أمركم وإليه ترجعون أي بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 35 ] أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون

    أم يقولون أي قوم نوح افتراه أي النصح، فهو من تتمة نبأ نوح، أو ضمير الجمع لكفار مكة، يعنون افتراء محمد صلوات الله عليه لنبأ نوح، جيء به معترضا في تضاعيفه، تحقيقا له، وتأكيدا لوقوعه، وتشويقا للسامعين إلى استماعه ; إذ بقي منها الأهم وهو نتيجته قل إن افتريته فعلي إجرامي أي إثم كسب ذنبي وأنا بريء مما تجرمون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 36 ] وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون

    وأوحي إلى نوح أي بعد مبالغته في بذل الوسع في النصح مع عدم نفعه إياهم: أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس أي لا تحزن بما كانوا يفعلون أي من التكذيب والإيذاء، فقد انتهى أمرهم، وحان وقت الانتقام منهم. وقيل: المعنى لا تبتئس، أي لإهلاكهم شفقة عليهم ; لأنهم إنما يهلكون بما كانوا يفعلون من معاندتهم معك، فليسوا محلا لشفقتك ولا لرحمتنا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 37 ] واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون

    واصنع الفلك أي للتخلص من عذابهم بأعيننا أي بحفظنا وكلاءتنا، كأن [ ص: 3435 ] معه من الله عز وجل حفاظا وحراسا، يكلأونه بأعينهم من التعدي من الكفرة، ومن الزيغ في الصنعة ووحينا أي إليك، كيف تصنعها، وتعليمنا وإلهامنا. قيل لم يكن قبله سفينة. ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي ولا تدعني، في استدفاع العذاب عنهم بشفاعتك إنهم مغرقون أي محكوم عليهم بالطوفان، وقد وجب ذلك، فلا سبيل إلى كفه، كقوله تعالى: يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 38 ] ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون

    ويصنع الفلك حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة. وقيل: تقديره وأخذ يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه أي هزئوا به، بمعالجة السفينة قال إن تسخروا منا أي في صنع الفلك فإنا نسخر منكم أي لجهلكم كما تسخرون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 39 ] فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم

    فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه أي في الدنيا فيجعله محلا للسخرية ويحل عليه عذاب مقيم أي في الآخرة، يدوم معه الخزي.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3436 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 40 ] حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل

    حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلاك قومه. و " حتى" غاية لقوله (ويصنع) وما بينهما حال من الضمير فيه، و سخروا منه جواب " كلما" . وفار التنور أي وجه الأرض، أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر -أقوال حكاها اللغويون والمفسرون- زاد بعضهم احتمال أن يكون هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: (حمي الوطيس) والوطيس التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه، وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده، كأنه قيل: واشتد الأمر، وقوي انهمار الماء ونبوعه. وهذا الإيجاز في مجازه الرهيب، قد بينته آيات أخر، وهي: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر الآيات، ومما يؤيده شموله لشدة الأمر من السماء والأرض، فيطابق هذه الآيات. وأما غيره فمقصور على ناحية الأرض فقط، وجلي أن الأمر كان أعم -والله أعلم-.

    قلنا احمل فيها أي في السفينة من كل زوجين أي: صنفين من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض اثنين أي ذكرا وأنثى.

    قال أبو البقاء: يقرأ " كل" بالإضافة، وفيه وجهان:

    أحدهما: أن مفعول " احمل" " اثنين" و " من" حال.

    والثاني: أن (من) زائدة والمفعول (كل)، و (اثنين) توكيد. ويقرأ من [ ص: 3437 ] كل (بالتنوين)، فـ (زوجين) مفعول (احمل)، و (اثنين) توكيد له، و (من) متعلقة بـ (احمل) أو حال. انتهى.

    وأهلك أي: من يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك إلا من سبق عليه أي وجب عليه القول أي بالإغراق بسبب ظلمه، ومن آمن أي احمله معك فيها. قال أبو السعود: وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في (آمن) محافظة على لفظ (من) للإيذان بقلتهم، كما أعرب عنه قوله عز قائلا: وما آمن معه إلا قليل
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 41 ] وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم

    وقال أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين اركبوا فيها أي السفينة بسم الله مجراها ومرساها قال الزمخشري: يجوز أن يكون كلاما واحدا، وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل (بسم الله) بـ (اركبوا) حالا من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها، ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران، كالإجراء والإرسال، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم: (خفوق النجم) و (مقدم الحاج) ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء. وانتصابهما، بما في (بسم الله) من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول.

    والكلامان: أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة، أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله، فرست. ويجوز أن يقحم الاسم، كقوله:


    ثم اسم السلام عليكما


    ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي بقدرته وأمره. ومعنى قولنا: (جملة [ ص: 3438 ] مقتضبة) أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن يكون غير مقتضبة، بأن تكون في موضع الحال من ضمير (الفلك) كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله، بمعنى التقدير، كقوله: فادخلوها خالدين –انتهى-.

    تنبيهات:

    الأول: قرأ الإخوان -حمزة والكسائي وحفص- (مجراها) بفتح الميم، والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضم ميم (مرساها). وقد قرأ ابن مسعود والثقفي (مرساها) بفتح الميم أيضا. وقرئ بضم الميم وكسر الراء والسين وياء بعدهما، بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله.

    الثاني: ما وقع بعد الراء من الألفات المنقلبة عن الياء، التي للتأنيث، أو للإلحاق، أماله حمزة والكسائي وأبو عمرو، ووافقهم حفص في إمالة (مجراها) هنا، ولم يمل غيره.

    الثالث: أخذ بعضهم من الوجه الأول في بسم الله مجراها ومرساها أعني تقدير قائلين، استحباب التسمية، وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء، وهو مؤيد بقوله تعالى في سورة المؤمنون: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين وقوله تعالى: والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك، والندب إليه أيضا.

    [ ص: 3439 ] وقوله تعالى: إن ربي لغفور رحيم جملة مستأنفة، بيان للموجب للإنجاء، أي لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم، أو تعليل لـ (اركبوا) لما فيه من الإشارة إلى النجاة، فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 42 ] وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين

    وهي تجري بهم متصل بمحذوف دل عليه (اركبوا)، أي فاركبوا مسمين وهي تجري، وهم فيها. في موج كالجبال وذلك أنه لما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض تعاظمت المياه، وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعا، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من أمواجه كالجبال.

    ونادى نوح ابنه وكان في معزل أي في متنحى عن أبيه يا بني اركب معنا أي ادخل في ديننا، واصحبنا في السفينة ولا تكن مع الكافرين أي في الدين والانعزال، الهالكين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 43 ] قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين

    قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي فلا أغرق قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي لا مانع اليوم من بلائه، وهو الطوفان، إلا الراحم وهو الله تعالى. أو لا عاصم إلا مكان من رحم، وهم المؤمنون، يعني السفينة. أو لا عاصم، [ ص: 3440 ] بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله. أو (إلا) منقطعة، أي لكن من رحمه فهو المعصوم.

    قال الناصر: الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران من غير الجنس. أي: فيكون منقطعا. أي لكن المرحوم يعصم، على الأول. ولكن الراحم يعصم من أراد، على الثاني.

    وزاد الزمخشري خامسا وهو: لا عاصم إلا مرحوم، على أنه من الجنس، بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم، والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة، والكل جائز، وبعضها أقرب من بعض -انتهى-.

    وحال بينهما الموج أي: صار حائلا بين نوح وابنه، أو بين ابنه والجبل، لارتفاعه فوقه فكان أي ابنه مع كونه فوق الجبل من المغرقين أي الهالكين بالغرق.

    وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه، فكان ذلك أمرا مقرر الوقوع، غير مفتقر إلى البيان. وفي إيراد (كان) دون (صار) مبالغة في كونه منهم -أفاده أبو السعود- وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 44 ] وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين

    وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض، ولم يبق ممن كفر بالله ديار، أمر تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله بإنجاء من نجا، وإهلاك من هلك.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #403
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ هود
    المجلد التاسع
    صـ 3441 الى صـ 3455
    الحلقة (402)





    [ ص: 3441 ] ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئا فشيئا، وظهرت رؤوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل.

    و بعدا مصدر منصوب بمقدر، أي وبعدوا بعدا. يقال: بعد بعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء كـ (جدعا) و (تعسا). و (اللام) متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة بـ (قيل) أي قيل لأجلهم هذا القول.

    والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك، ولتذكر ما سبق من قوله: ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون

    تنبيه:

    هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها. وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها، ومن أوسعهم مجالا في مضمار معارفها، الإمام السكاكي، فقد أطال وأطاب في كتابه (المفتاح) وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه.

    قال عليه الرحمة في بحث (البلاغة والفصاحة)، وتعريفه الأولى بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد. وإلى اللفظ، وهو كونه عربيا أصليا، جاريا على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، أكثر في الاستعمال، ما صورته:

    وإذ قد وقفت على البلاغة، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج، آية أكشف لك فيها، عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك، ثم إن ساعدك الذوق، أدركت منها ما قد أدرك من تحدوا بها، وهي قوله، علت كلمته: وقيل يا أرض ابلعي ماءك إلى الظالمين

    [ ص: 3442 ] والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية.

    أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها، فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء، فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من الماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى ; بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتى منه، لكمال هيبته، العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود، تصويرا لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مواده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته [ ص: 3443 ] بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام، فقال جل وعلا: (وقيل) على سبيل المجاز -أي المرسل- عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو: يا أرض ويا سماء. ثم قال كما ترى: يا أرض ويا سماء، مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغؤور الماء في الأرض البلع، الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم، للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي. ثم استعار الماء للغذاء، استعارة بالكناية، تشبيها له بالغذاء ; لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار، تقوي الآكل بالطعام. وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء. ثم قال: ماءك بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيها لاتصال الماء بالأرض، باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان. ثم أمر على سبيل الاستعارة، وخاطب في الأمر قائلا: أقلعي لمثل ما تقدم في ابلعي ثم قال: وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا لم يصرح بمن غاض الماء، ولا بمن قضي الأمر، وسوى السفينة. وقال: " بعدا" كما لم يصرح بقائل: يا أرض ويا سماء في صدر الآية، سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة [ ص: 3444 ] لا يكتنه، قهار لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره -جلت عظمته- قائل يا أرض ويا سماء، ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره. ثم ختم الكلام بالتعريض ; تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير، ختم إظهار ; لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان، وتلك الصورة الهائلة، ما كانت إلا لظلمهم.

    وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها، لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرض، بالكسر ; لإمداد التهاون، ولم يقل: يا أيتها الأرض ; لقصد الاختصار مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب بالمقام. واختير لفظ (الأرض) دون سائر أسمائها، لكونه أخف وأدور. واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأرض، مع قصد المطابقة. واختير لفظ (ابلعي) على (ابتلعي) لكونه أخصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (أقلعي) أوفر. وقيل ماءك بالإفراد دون الجمع، لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها [ ص: 3445 ] مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد (الأرض) و (السماء). وإنما لم يقل ابلعي بدون المفعول، أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظرا إلى مقام ورود الأمر، الذي هو مقام عظمة وكبرياء. ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع (أقلعي) احترازا عن الحشو المستغنى عنه، وهو -أي الاختصار- الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت. واختير (غيض) على (غيض) المشدد لكونه أخصر، وقيل (الماء)، دون أن يقال: ماء طوفان السماء. وكذا الأمر دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا من إهلاك قومه، لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك. ولم يقل: سويت على الجودي، بمعنى أقرت، على نحو: (قيل) و (غيض) و (قضي) في البناء للمفعول، اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله وهي تجري بهم في موج مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قيل: بعدا للقوم دون أن يقال: ليبعد القوم، طلبا للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول " بعدا" وحده، منزلة ليبعدوا بعدا، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع " بعدا" الدال على معنى أن البعد حق لهم، ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.

    وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل: فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر، فقيل: " يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي" دون أن يقال: ابلعي يا أرض، وأقلعي يا سماء، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة، من تقديم التنبيه، ليمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى، قصدا بذلك [ ص: 3446 ] لمعنى الترشيح. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، وابتدئ به لابتداء الطوفان منها، وبنزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى، ثم أتبعها قوله وغيض الماء لاتصاله بقصة الماء، وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك، فبلعت ماءها، ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء، فأقلعت عن إرساله، وغيض الماء النازل من السماء فغاض). ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: وقضي الأمر أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة، وهو قوله واستوت على الجودي ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.

    وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية، فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشبك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها، وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.

    وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما نرى عربية، مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم [ ص: 3447 ] في الرقة. ولله در شأن التنزيل! لا يتأمل العالم آية من آياته، إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت ; لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير (بعد علم الأصول) أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه. ولكم من آية من آيات القرآن، تراها قد ضيعت حقها، واستلبت ماءها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون، ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا -انتهى كلام السكاكي-.

    وقد تصدى أبو حيان أيضا في تفسيره المسمى بـ (النهر) للطائفها، وساق أحدا وعشرين نوعا من البديع. وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة فيها سماها (النهر المورود في تفسير آية هود) أورد تلك الأنواع البديعية أيضا، وهي: المناسبة، والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة، والتمثيل، والإرداف، والتعليل، وصحة التقسيم، والاحتراس، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم، والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3448 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 45] ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين

    ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي إعلام بأن نوحا حملته شفقة الأبوة، وتعطف الرحم والقرابة، على طلب نجاته ; لشدة تعلقه به، واهتمامه بأمره. وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة، وحسن السؤال فقال: وإن وعدك الحق ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي، وإنما قال ذلك لفهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية، والرحم النسبية، وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله: إلا من سبق عليه القول ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول، فاستعطف ربه بالاسترحام، وعرض بقوله: وأنت أحكم الحاكمين إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 46] قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين

    قال يا نوح إنه ليس من أهلك أي الموعود إنجاؤهم، بل من المستثنين لكفرهم، أو ليس منهم أصلا، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولا علاقة بين المؤمن والكافر.

    قال القاشاني: أي أن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية، واللحمة المعنوية، والاتصال الحقيقي لا الصوري. كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته. ألا وإن عدو محمد من عصى الله، وإن قربت لحمته.

    إنه عمل غير صالح بين انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح، تنبيها على أن أهله [ ص: 3449 ] هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته، وإنه لتماديه في الفساد والغي، كأن نفسه عمل غير صالح، وتلويحا بأن سبب النجاة ليس إلا الصلاح، لا قرابته منك بحسب الصورة، فمن لا صلاح له، لا نجاة له، وهذا سر إيثار غير صالح على (عمل فاسد).

    وقد قرأ يعقوب والكسائي (عمل) بلفظ الماضي، والباقون بلفظ المصدر، بجعله نفس العمل، مبالغة، كما بينا.

    فلا تسألني ما ليس لك به علم أي لا تلتمس مني ملتمسا أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتى تقف على كنهه. قالوا: والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه أصلا، إما لأنه لا يهم، أو لأنه قامت القرائن على حاله، كما هنا، لا عن السؤال للاسترشاد.

    إني أعظك أن تكون من الجاهلين أي أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم. وقد تنبه، عليه السلام، عند ذلك التأديب الإلهي، والعتاب الرباني، وتعوذ بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 47] قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين

    قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي أي ما فرط مني وترحمني أي بالوقوف على ما تحب وترضى أكن من الخاسرين أي الذين خسروا أنفسهم، بالاحتجاب عن علمك وحكمتك.

    تنبيه:

    ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه، ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته، ربيبه. وأيده بعضهم بقراءة علي: (ونادى نوح ابنها) -والله أعلم-.

    ثم أنبأ تعالى عما قيل لنوح، بعد أن أرست السفينة على الجودي، بقوله:
    [ ص: 3450 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 48] قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم

    قيل يا نوح اهبط أي انزل من السفينة بسلام منا أي: سلامة وبركات عليك وعلى أمم ممن معك أي في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان وأمم أي ومنهم أمم سنمتعهم أي في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها ثم يمسهم منا عذاب أليم أي في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.

    لطيفة:

    ذهب العلماء، في الطوفان، مذاهب شتى. فالأكثرون على أنه عم الأرض بأسرها، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم. ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه:

    قال تقي الدين المقريزي في (الخطط): إن جميع أهل الشرائع، أتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا الطوفان. وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط، وأن أولاد (كيومرت) الذي هو عندهم (الإنسان الأول) كانوا بالبلاد الشرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم، ولا إلى الهند والصين، والحق ما عليه أهل الشرائع، وأن نوحا عليه السلام، لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة، نزل بهم، وهم ثمانون رجلا سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك، ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة. ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: وجعلنا ذريته هم الباقين اهـ.

    [ ص: 3451 ] ونحوه في الكامل لابن الأثير.

    وقال ابن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته، ذهب بعمران الأرض أجمع، بما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة، ولم يعقبوا، فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وعاد أبا ثانيا للخليقة -انتهى.

    قال بعضهم (في تقرير عموم الطوفان، مبرهنا عليه) إن مياه الطوفان قد تركت آثارا عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف، حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها، وبعضها مدفون على مقربة منه، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية، وآثار بشرية، مما يثبت أن طوفانا قادها إلى ذاك المكان، وجمعها قسرا فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت، وظلت شهادة على ما كان، بأمر الخالق تعالى -انتهى-.

    وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان، وعموم رسالة نوح، فأجاب بما صورته:

    أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث، على فرض صحة سنده، فهو آحاد لا يوجب اليقين. والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ، ومريد الاطلاع، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ، أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية، أو عدم الثقة بها، ولا يتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني. أما مسألة عموم الطوفان في نفسها، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم. فأهل الكتاب، وعلماء الأمة الإسلامية; على أن الطوفان كان [ ص: 3452 ] عاما لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال; لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاما، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما، لمجرد حكايات عن أهل الصين، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز. بل على كل من يعتقد بالدين، ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها، وينصرف عنها إلى التأويل، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل، وعناء شديد، وعلم غزير في طبقات الأرض، وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى، نقلية وعقلية. ومن هدي برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف، ولا يسمع له قول، ولا يسمح له ببث جهالاته، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاما، إذ لم يكن العمران قائما إلا بقوم نوح، فكان عاما لهم، وإن كان من جهة خاصا بهم ; إذ ليس ثم غيرهم، قال:

    هبط آدم إلى الأرض، وهو ليس بأمة، إذا مضت عليها قرون ولدت أمما، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل القرون، ونمو عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلا قليلا من آدم إلى نوح ثمانية آباء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافا وآلافا، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام، وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين! أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان، من المكان الخاص الذي سبق به البيان ; فلا برهان. وإن كانت في غير ذلك المكان، فإن لم يكن وضعها إنسان، كما وجدها إنسان; كان نقل الجوارح [ ص: 3453 ] والكواسر لتلك العظام، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان. بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام، تعلم أن الطوفان خاص عام: خاص بمكان، عام سائر المكان -والله أعلم-.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 49] تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين

    تلك إشارة إلى قصة نوح عليه السلام من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا أي الإيحاء إليك، والإخبار بها. وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها; إذ لم يخالط غيرهم، وأنهم مع كثرتهم لم يسمعوها، فكيف بواحد منهم؟ فاصبر أي على تبليغ الرسالة، وأذى قومك، كما صبر نوح، وتوقع في العاقبة لك، ولمن كذبك، نحو ما قيض لنوح ولقومه -كذا في (الكشاف)- إن العاقبة أي في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالنعيم الأبدي للمتقين أي عن الشرك والمعاصي.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 50] وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون

    وإلى عاد أخاهم هودا عطف على قوله (نوحا). أي: وأرسلنا إلى عاد و (أخاهم) بمعنى (واحدا) منهم كما يقولون: (يا أخا العرب) قال يا قوم اعبدوا الله [ ص: 3454 ] أي: وحده، ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون أي باتخاذ الأوثان شركاء، وجعلها شفعاء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 51] يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون

    يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني إنما خاطب كل رسول به قومه، إزاحة للتهمة، وتمحيضا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامعأفلا تعقلون أي تتفكرون، إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجرا، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك، أو تتدبرون الصواب من الخطأ.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 52] ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين

    ويا قوم استغفروا ربكم أي من الوقوف مع الهوى بالشرك ثم توبوا إليه أي من عبادة غيره، بالتوجه إلى التوحيد يرسل السماء عليكم مدرارا أي كثير الدر، أي الأمطار، منصوب على الحال من (السماء). ولم يؤنث مع أنه من مؤنث، إما لأن المراد بالسماء السحاب أو المطر، فذكر على المعنى، أو (مفعال) للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو الهاء حذفت من (مفعال) على طريق النسب -أفاده السمين-: ويزدكم قوة إلى قوتكم" أي مضمومة إليها أو معها. أي شدة إلى شدتكم بالقوة البدنية، أو بالمال أو البنين. وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه، بكثرة المطر، وزيادة القوة; لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، حراصا على التقوي بما ذكر، لثراء مالهم، [ ص: 3455 ] وترهيب أعدائهم، وقد كانوا مثلا في القوة، كما قالوا: من أشد منا قوة ولا تتولوا أي: تعرضوا عما أدعوكم إليه مجرمين أي مصرين على إجرامكم وآثامكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 53] قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين

    قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي بحجة تدل على صحة دعواك، وذلك لقصور فهمهم، وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان; لمكان الغشاوات الطبيعية، وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة وما نحن بتاركي آلهتنا أي عبادتها عن قولك حال من ضمير (تاركي) أي تركا صادرا عن قولك، أو (عن) للتعليل، كهي في قوله: إلا عن موعدة أي لأجلها، فتتعلق (بتاركي) والأول أبلغ; لدلالته على كونه علة فاعلية، ولا يفيده (الباء واللام). وهذا كقولهم في الأعراف: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا

    وما نحن لك بمؤمنين أي مصدقين. إقناط له من الإجابة.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #404
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ هود
    المجلد التاسع
    صـ 3456 الى صـ 3470
    الحلقة (403)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 54] إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون [ 55] من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون

    إن نقول إلا اعتراك أي مسك بعض آلهتنا بسوء أي بجنون، لسبك [ ص: 3456 ] إياها، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، ومن ثم تتكلم بما تتكلم.

    قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة، غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الأخير دال على جهل مفرط، وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. قال إني أشهد الله أي علي واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه قال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يواجه، بهذا الكلام، رجل واحد أمة عطاشا إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه، وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: ثم اقضوا إلي ولا تنظرون أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله، وشهادة العباد، فيقول الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أني لا أفعله. ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه، عليه السلام، دون إمهال بقوله: فكيدوني جميعا أي أنتم وآلهتكم ثم لا تنظرون يعني إن صح ما لوحتم به، من كون آلهتكم لها تأثير في ضر، فكونوا معها فيه، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال.

    قال أبو السعود: فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا، وعلى البراءة كليهما، وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلا مفردا بين الجم الغفير، والجمع الكثير، من عتاة عاد، الغلاظ الشداد. وقد خاطبهم بما خاطبهم، وحقرهم وآلهتهم، وهيجهم على مباشرة مبادئ المضادة والمضارة، وحثهم على التصدي لأسباب المعازة والمعارة، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع، حيث قال:
    [ ص: 3457 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 56] إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم

    إني توكلت على الله ربي وربكم أي فلا تصلون إلي بسوء لتوكلي على الله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أي مالك لها، قادر عليها، يصرفها كيف شاء.

    قال القاشاني: بين وجوب التوكل على الله، وكونه حصنا حصينا، أولا بأن ربوبيته شاملة لكل أحد، ومن يرب يدبر أمر المربوب ويحفظه، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه، ثم بأن كل ذي نفس تحت قهره وسلطانه، أسير في يد تصرفه ومملكته وقدرته عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره، لا حراك به بنفسه، كالميت، فلا حاجة إلى الاحتراز منه -انتهى-.

    والناصية: منبت الشعر من مقدم الرأس، وتطلق على الشعر النابت فيها أيضا، تسمية للحال باسم المحل. يقال: نصوت الرجل: أخذت بناصيته.

    وفي (العناية): وقولهم: ناصيته بيده، أي منقاد له. والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط، مجازا أو كناية.

    وقوله تعالى: إن ربي على صراط مستقيم تعليل لما يدل عليه التوكل، من عدم قدرتهم على إضراره، أي هو على طريق الحق والعدل في ملكه، فلا يسلطكم علي، إذ لا يضيع عنده معتصم به، ولا يفوته ظالم.

    قال في (العناية): هو تمثيل واستعارة; لأنه مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم، كمن وقف على الجادة فحفظها، ودفع ضرر السابلة بها.

    [ ص: 3458 ] وهو كقوله: إن ربك لبالمرصاد والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه، إما بطريق الاكتفاء، لظهور المراد، وإما للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به دونهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 57] فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ

    فإن تولوا أي: تتولوا، بحذف إحدى التاءين فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم أي فقامت الحجة عليكم ويستخلف ربي قوما غيركم استئناف بالوعيد لهم. أي: فيهلكهم، ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم ولا تضرونه شيئا أي بتوليكم; لاستحالته عليه، بل تضرون أنفسكم. أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء. إن ربي على كل شيء حفيظ أي رقيب عليه مهيمن، فلا تخفى عليه أعمالكم، فيجازيكم بحسبها، أو حافظ حاكم مستول على كل شيء، فلا يمكن أن يضره شيء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 58] ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ

    ولما جاء أمرنا أي عذابنا، أو أمرنا بالعذاب، وهو الريح العقيم: نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وقد بين في غير آية، منها قوله: وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية

    [ ص: 3459 ] فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ فالجواب: لا تكرير فيه ; لأن الأول إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله، والثاني بيان ما نجوا منه، وأنه أمر شديد عظيم لا سهل، فهو للامتنان عليهم، وتحريض لهم على الإيمان. أو الأول إنجاء من عذاب الدنيا، والثاني من عذاب الآخرة، تعريضا بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ. ويرجح الأول بملاءمته لمقتضى المقام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 59] وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد

    وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله تأنيث اسم الإشارة، باعتبار القبيلة. وصيغة البعيد لتحقيرهم، أو لتنزيلهم منزلة البعيد; لعدمهم. وإذا كانت الإشارة لمصارعهم، فهي للبعيد المحسوس، وتعدى الجحود بالباء حملا له على الكفر ; لأنه المراد. أو بتضمينه معناه، كما أن (كفر) جرى مجرى (جحد). فتعدى بنفسه في قوله: كفروا ربهم وقيل (كفر) كـ (شكر) يتعدى بنفسه وبالحرف. وظاهر كلام القاموس: أن (جحد) كذلك.

    والمعنى: كفروا بالله، وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته. وجمع (الرسل)، مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه الصلاة والسلام; تفظيعا لحالهم، وإظهارا لكمال كفرهم وعنادهم، ببيان أن عصيانهم له، عليه الصلاة والسلام، عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين; لاتفاق كلمتهم على التوحيد: لا نفرق بين أحد من رسله -كذا في (العناية) وأبي السعود-.

    [ ص: 3460 ] واتبعوا أي أطاعوا في الشرك أمر كل جبار عنيد لا يستدل بدليل، ولا يقبله من غيره. يريد رؤساءهم وكبراءهم، ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 60] وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود

    وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة أي جعلت تابعة لهم في الدارين، أي لازمة.

    قال أبو السعود: والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة، فكأنها لا تفارقهم، وإن ذهبوا كل مذهب، بل تدور معهم حيثما داروا. ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم. يعني: أنهم لما اتبعوهم أتبعوا ذلك جزاء وفاقا.

    ألا إن عادا كفروا ربهم إذ عبدوا غيره -وتقدم تعدية (كفر)-: ألا بعدا لعاد قوم هود دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم والمقت، ما لا يخفى فظاعته. وتكرير حرف التنبيه وإعادة (عاد) للمبالغة في تهويل حالهم، والحث على الاعتبار بنبئهم. و (قوم هود) عطف بيان لـ (عاد) فائدته النسبة بذكره عليه السلام، الذي إنما استحقوا الهلاك بسببه، كأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه. وتناسب الآي بذلك أيضا، فإن قبلها: واتبعوا أمر كل جبار عنيد وقبل ذلك (حفيظ) و (غليظ)، وغير ذلك مما هو على وزن (فعيل) المناسب لـ (فعول) في القوافي -والله أعلم-.
    [ ص: 3461 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 61] وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب

    وإلى ثمود عطف على ما سبق بيانه من قوله: وإلى عاد أي وأرسلنا إلى ثمود، وهي قبيلة من العرب: أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض أي كونكم منها وحده، فإنه خلق آدم، ومواد النطف التي خلق نسله منها، من التراب واستعمركم فيها أي عمركم فيها، أو جعلكم عمارها، أي جعلكم قادرين على عمارتها، كقوله تعالى في الأعراف: وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاستغفروه أي من الشرك، ثم توبوا إليه بالتوحيد إن ربي قريب مجيب أي قريب الرحمة لمن استغفره، مجيب دعاءه بالقبول.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 62] قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب

    قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أي كانت تلوح فيك مخايل الخير، وأمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاورا في الأمور، ومسترشدا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أن لا خير فيك. كذا في (الكشاف).

    [ ص: 3462 ] أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا أي من الأوثان وإننا لفي شك مما تدعونا إليه أي من التوحيد مريب أي موقع في الريبة، وهي قلق النفس، وانتفاء الطمأنينة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 63] قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير

    قال يا قوم أرأيتم أي أخبروني إن كنت على بينة أي حجة ظاهرة، وبرهان وبصيرة من ربي وآتاني منه رحمة أي هداية ونبوة، فمن ينصرني من الله أي ينجيني من عذابه، إن عصيته أي بالمجاراة معكم في أهوائكم فما تزيدونني أي باستتباعكم إياي، غير تخسير أي غير أن تجعلوني خاسرا بتعريضي لسخط الله. أو فما تزيدونني، بما تقولون إلا تبصرة بكم بأن أنسبكم إلى الخسران.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 64] ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب

    ويا قوم هذه ناقة الله الإضافة للتشريف، والإعلام بمباينتها لما يجانسها من حيث الخلقة والخلق لكم آية أي معجزة دالة على صدق نبوتي فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب من فرط غضب الله عليكم، لاجترائكم على آياته المنسوبة إليه.

    ثم أخبر بأنهم لم يسمعوا قوله، ولم يطيعوا، بعد رؤية هذه الآية، فقال سبحانه:
    [ ص: 3463 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 65] فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب

    فعقروها أي قتلوها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب أي مردود.

    قال في (الإكليل): استدل به في إمهال الخصم ونحوه ثلاثة؛ وفيه دليل على أن لـ (لمثلاثة) نظرا في الشرع، ولهذا شرعت في (الخيار) ونحوه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 66] فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز

    فلما جاء أمرنا أي عذابنا، وهو الصيحة، كما سيبين نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة أي بسبب رحمة عظيمة منا ومن خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة إن ربك هو القوي العزيز أي القادر على كل شيء، والغالب عليه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 67] وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين

    وأخذ الذين ظلموا الصيحة أي من جهة السماء، فرجفوا لها رجفة الهلاك فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي هامدين موتى لا يتحركون. ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 68] كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود

    كأن لم يغنوا أي كأنهم لم يقيموا فيها أي في مساكنهم ألا إن ثمودا [ ص: 3464 ] كفروا ربهم أي فأهلكهم ألا بعدا لثمود أي: هلاكا ولعنة; لبعدهم عن صراطه. وقد قدمنا الكلام على تفصيل نبئهم في الأعراف بما يغني عن إعادته هنا، فليراجع.

    ثم أشار تعالى إلى نبأ لوط وهلاك قومه، وهو النبأ الرابع من أنباء هذه السورة، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 69] ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ

    ولقد جاءت رسلنا أي الملائكة الذين أرسلناهم لإهلاك قوم لوط إبراهيم بالبشرى أي بولد وولده. ثم بين أنهم قدموا على التبشير ما يفيد سرورا، ليكون التبشير سرورا فوق سرور، بقوله تعالى: قالوا سلاما أي سلمنا عليك سلاما، قال سلام أي عليكم سلام، أو سلام عليكم، رفعه، إجابة بأحسن من تحيتهم ; لأن الرفع أدل على الثبوت من النصب.

    ثم أشار إلى إحسان ضيافتهم بقوله: فما لبث أن جاء بعجل حنيذ أي مشوي، أو سمين يقطر ودكه، لقوله: بعجل سمين

    وفي (ما) ثلاثة أوجه: أظهرها أنها نافية، وفاعل (لبث) إما ضمير (إبراهيم)، و أن جاء مقدر بحرف جر متعلق به، أي: ما أبطأ في، أو بأن أو عن (أن جاء)، وإما (أن جاء) أي فما أبطأ، ولا تأخر مجيئه بعجل. وثاني الأوجه أنها مصدرية، وثالثها: أنها بمعنى (الذي) وهي فيهما مبتدأ، و (أن جاء) خبره على حذف مضاف. أي: فلبثته، أو الذي لبثه قدر مجيئه.
    [ ص: 3465 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 70] فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط

    فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أي لا يمدون إليه أيديهم نكرهم أي أنكرهم، وأوجس أي أحس منهم خيفة لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروها. والضيف إذا هم بفتك لا يأكل من الطعام، في عادتهم. قالوا أي له لما علموا منه الخوف بإخباره لهم، كما في آية قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل كما قيل هنا لا تخف أي إنا لا نأكل لأنا ملائكة، ولم ننزل بالعذاب عليكم إنا أرسلنا إلى قوم لوط أي لإهلاكهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 71] وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب

    وامرأته قائمة فضحكت أي سرورا بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الخبائث، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب أي يولد له. والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة، أو أنها حكيا بعد أن ولدا وسميا بذلك. وفي توجيه البشارة إليها هنا، مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى، كآية فبشرناه بغلام حليم وبشروه بغلام عليم إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورودها، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن الآخر، والمقام أمس بذكره وأبلغ. أو للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك، وخرق العادة فيه، كما لوح به تعجبها في قوله تعالى:
    [ ص: 3466 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 72] قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب

    قالت يا ويلتى أي يا عجبي. وأصله للدعاء بالويل ونحوه، في جزع التفجع لشدة مكروه يدهم النفس، ثم استعمل في التعجب. وألفه بدل من ياء المتكلم، ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن (يا ويلتي). وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت.

    أألد وأنا عجوز أي امرأة مسنة -والأفصح ترك الهاء معها- وسمع من بعض العرب (عجوزة)- حكاه يونس- وهذا بعلي أي زوجي إبراهيم شيخا إن هذا أي التولد من هرمين لشيء عجيب أي غريب، لم تجر به العادة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 73] قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد

    قالوا أتعجبين من أمر الله أي أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين؟.

    قال الزمخشري: وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ; لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب. وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم، في قولهم: رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة، فليست بمكان عجب. والكلام مستأنف، علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: (إياك والتعجب) فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم -انتهى-.

    [ ص: 3467 ] فالجملة خبرية، وجوز كونها دعائية. و (أهل البيت) نصب على النداء أو التخصيص; لأن أهل البيت مدح لهم ; إذ المراد أهل بيت خليل الرحمن.

    إنه حميد أي مستحق للمحامد، لما وهبه من جلائل النعم مجيد أي كريم واسع الإحسان، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر. وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن، وتمجده; إذ شرفها بما شرف.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 74] فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط

    فلما ذهب عن إبراهيم الروع أي خيفة إرادة المكروه منهم بعرفانهم وجاءته البشرى أي بدل الروع يجادلنا في قوم لوط أي في هلاكهم، استعطافا لدفعه.

    روي أنه قال: أتهلك البار مع الأثيم، أتهلكها وفيهم خمسون بارا؟ حاشا لك!.

    فقيل له: إن وجد فيهم خمسون بارا فنصفح عن الجميع لأجلهم!.

    فقال: أو أربعون؟.

    فقيل: أو أربعون!.

    وهكذا إلى أن قال: أو عشرة، فقيل له. لا نهلكها من أجل العشرة، إلا أنه ليس فيها عشرة أبرار، بل جميعهم منهمك في الفاحشة. فقال: إن فيها لوطا! فقيل: نحن أعلم بمن فيها لننجينه.

    و (يجادلنا) جواب (لما) جيء به مضارعا على حكاية الحال. أو أن (لما) كـ (لو) تقلب المضارع ماضيا، كما أن (إن) تقلب الماضي مستقبلا، أو الجواب محذوف، والمذكور دليله أو متعلق به.
    [ ص: 3468 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 75] إن إبراهيم لحليم أواه منيب

    إن إبراهيم لحليم أي غير عجول على الانتقام من المسيء أواه كثير التأسف منيب أي راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضاه. والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة; بيان الحامل على المجادلة، وهو رقة القلب وفرط الترحم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 76] يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود

    يا إبراهيم أي قيل له: يا إبراهيم أعرض عن هذا أي الجدال إنه قد جاء أمر ربك أي حكمه بهلاكهم وإنهم آتيهم عذاب غير مردود أي بجدال، ولا بدعاء، ولا بغيرهما.

    فوائد:

    قال بعض المفسرين: لهذه الآيات ثمرات: وهي أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة، وهلاك العاصي نعمة، لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق، كما في آخر الآية، وهي: فبشرناها بإسحاق إلخ وفسرت بهلاك قوم لوط.

    ومنها: استحباب نزول المبشر على المبشر; لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك.

    ومنها: أنه يستحب للمبشر تلقي ذلك بالطاعة، شكرا لله تعالى على ما بشر به.

    وحكى الأصم أنهم جاؤوه في أرض يعمل فيها، فلما فرغ غرز مسحاته، وصلى ركعتين.

    ومنها: أن السلام مشروع، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل; لقول إبراهيم: سلام بالرفع، كما تقدم سره -انتهى-.

    [ ص: 3469 ] ومنها: مشروعية الضيافة، والمبادرة إليها، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها.

    ومنها: استحباب خدمة الضيف، ولو للمرأة لقول مجاهد وامرأته قائمة أي في خدمة أضياف إبراهيم. قال في (الوجيز): وكن لا يحتجبن، كعادة العرب ونازلة البوادي، أو كانت عجوزا، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق.

    ومنها: جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول، وأن صوتها ليس بعورة. كذا في (الإكليل).

    ومنها: أن امرأة الرجل من أهل بيته، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته. ويأتي ذلك أيضا في آية فأسر بأهلك

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 77] ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب

    ولما جاءت رسلنا لوطا أي بعد منصرفها من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان مقيما في (بلوط ممرا) التي بـ (حبرون)، المدينة المعروفة اليوم بـ (الخليل): سيء بهم أي ساءه مجيئهم لأنهم أتوه على صورة مرد، حسان الوجوه، فخاف أن يقصدهم قومه، لظنه أنهم بشر وضاق بهم ذرعا يقال: ضاق بالأمر ذرعه وذراعه، وضاق به ذرعا، أي ضعفت طاقته، لم يجد من المكروه فيه مخلصا.

    قال الجوهري: أصل الذرع بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدك إليه فلم تنله. وقيل: وجه التمثيل: أن القصير الذراع لا ينال ما يناله الطويل الذراع، ولا يطيق طاقته، فضرب مثلا للذي سقطت قوته، دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه.

    وقال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، والأصل فيه، أن البعير يذرع بيديه [ ص: 3470 ] في سيره ذرعا، على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طوقه طاق به ذرعا عن ذلك وضعف، ومد عنقه، فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة.

    و (ذرعا) تمييز، لأنه خرج مفسرا محولا. والأصل: ضاق ذرعي به، وشاهد الذراع قوله:

    وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها ذراعا ولم يصبح لها وهو خاشع

    وقال هذا يوم عصيب أي شديد. وكيف لا يشتد عليه، وقد ألم المحذور، كما قال تعالى:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #405
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ هود
    المجلد التاسع
    صـ 3471 الى صـ 3485
    الحلقة (404)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 78] وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد

    وجاءه قومه يهرعون إليه أي يسرعون كأنما يدفعون دفعا. وقرئ مبنيا للفاعل. ومن قبل أي قبل مجيئهم كانوا يعملون السيئات أي الفواحش ويكثرونها، [ ص: 3471 ] فمرنوا عليها، وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا مسرعين مجاهرين، لا يكفهم حياء، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها. وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره، أي: لما عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك قال أي لوط يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، أي فتزوجوهن. أو كان ذلك مبالغة في تواضعه لهم، وإظهارا لشدة امتعاضه، مما أوردوا عليه، طمعا في أن يستحيوا منه، ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا ضيوفه -هذا ملخص ما في (الكشاف)- ومن تابعه- وظاهر أنه، عليه السلام، كان واثقا بأن قومه لا يؤثرونهن بوجه ما، مهما أطرى وأطنب وشوق ورغب، فكان إظهاره وقاية ضيفانه، وفداءهم بهن، مع وثوقه المذكور وجزمه- مبالغة في الاعتناء بحمايتهم، وقياما بالواجب في مثل هذا الخطب الفادح الفاضح، الذي يدوم عاره وشناره، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكن لكيلا ينسب إلى قصور، وليعلم أن لا غاية وراء هذا لمن لا ركن له من عشيرة أو قبيلة، فذلك غاية الغايات في حيطتهم ووقايتهم.

    وفي قوله: هن أطهر لكم من التشويق، على مرأى من ضيفانه ومسمع، ما فيه من زيادة الكرم والإكرام، ورعاية الذمام. وبالجملة فهو ترغيب بمحال الوقوع باطنا، وإعذار لنزلائه ظاهرا -والله أعلم- وفي هذا إرشاد إلى التطهر بالطرق المسنونة، وهي النكاح. وإشارة إلى تناهي وقاحة أولئك بما استأهلوا به أخذهم الآتي.

    فاتقوا الله أي أن تعصوه بما هو أشد من الزنى خبثا.

    ولا تخزون في ضيفي أي ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره ; فقد خزي الرجل، وذلك من عراقة الكرم، وأصالة المروءة. و تخزون مجزوم بحذف النون، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة، وقرئ بإثباتها على الأصل.

    أليس منكم رجل رشيد أي فيرعوي عن القبيح، ويهتدي إلى الصواب.
    [ ص: 3472 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 79] قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد

    قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي: حاجة; إذ لا نريدهن، وفي تصدير كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم، أي: والله لقد علمت، إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقا وجازما بعدم رغبتهم فيهن، وأيد ذلك قولهم: وإنك لتعلم ما نريد استشهادا بعلمه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 80] قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد

    قال لو أن لي بكم قوة أي بدفعكم قوة، بالبدن أو الولد أو آوي إلى ركن شديد أي عشيرة كثيرة، لأنه كان غريبا عن قومه، شبهها بركن الجبل في الشدة والمنعة. أي: لفعلت بكم ما فعلت، وصنعت ما صنعت.

    تنبيه:

    قال الإمام ابن حزم رحمه الله في (الملل):

    ظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: « رحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد » إنكار على لوط عليه السلام. ولا تخالف بين القولين، بل كلاهما حق، لأن لوطا عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين. وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة، وأشد ركن. ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من [ ص: 3473 ] الناس، فقد قال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض فهذا الذي طلب لوط عليه السلام. وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه تعالى. فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله عليه السلام. تالله! ما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبر أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد، يعني من نصر الله له بالملائكة. ولم يكن لوط علم بذلك. ومن اعتقد أن لوطا كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد ; فقد كفر، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر. وهذا أيضا ظن سخيف; إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات، وهو دائبا يدعو إليه، هذا الظن. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 81] قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب

    قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك أي إلى إضرارك بإضرارنا فأسر بأهلك بقطع من الليل أي بطائفة من آخره، أي ببقية سواد منه عند السحر، وهو وقت استغراقهم في النوم، فلا يمكنهم التعرض له ولا لأهله. وقرئ " فأسر" بالقطع والوصل.

    ولا يلتفت منكم أحد أي لا ينظر إلى ورائه، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم أي من العذاب، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت فهلكت.

    قال في (الإكليل): فيه أن المرأة والأولاد من الأهل.

    [ ص: 3474 ] إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب أي موعدهم بالهلاك الصبح، والجملة كالتعليل للأمر بالإسراء، أو جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب، أو ذكرت ليتعجل في السير، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء، للتباعد عن موقع العذاب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 82] فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود

    فلما جاء أمرنا أي عذابنا جعلنا عاليها سافلها أي: فقلبت تلك المدن ونبتها بسكانها جميعا. وأمطرنا عليها حجارة من سجيل أي طين متحجر، كقوله: حجارة من طين منضود أي يرسل بعضه في إثر بعض متتابعا.

    قال المهايمي: اتصل بعضه ببعض، ليرجموا رجم الزناة، بما يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 83] مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد

    مسومة عند ربك معلمة عنده وما هي أي تلك الحجارة من الظالمين أي بالشرك وغيره ببعيد فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها، وملابسون بها. وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وقيل: الضمير للقرى، أي هي قريبة من ظالمي مكة، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بـ (البحر الميت)، لأن مياهه لا تغذي شيئا من جنس الحيوان، وبـ (بحر الزفت) أيضا ; لأنه ينبعث من عمق مقره إلى سطحه، فيطفو فوقه، وبـ (بحيرة لوط) والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئا.

    [ ص: 3475 ] قال أبو السعود: وتذكير (بعيد) على تأويل (الحجارة) بالحجر، أو إجرائه على موصوف مذكر، أي بشيء بعيد، أو لأنه على زنة المصدر، كـ (الزفير) و (الصهيل). والمصادر يستوي في الوصف بها، المذكر والمؤنث.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 84 ] وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط

    وإلى مدين أي وأرسلنا إلى مدين، عطف على ما قبله و(مدين) بلد بين الحجاز والشام، على مقربة من (معان) ويطلق على أهلها، وهم قوم من العرب كانوا يعمرونها.

    أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان أي لتبخسوا الناس أشياءهم بالباطل. إني أراكم بخير أي: نعمة وثروة في رزقكم ومعيشتكم، وعافية وتمتع في وجودكم. يعني: فلا تتعرضوا لزوال ذلك عنكم بما تأتونه مما تنهون عنه، كما قال سبحانه: وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط أي مهلك، أو لا يشذ منه أحد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 85 ] ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين

    ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط أي العدل.

    قال الزمخشري: فإن قلت: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء، فما فائدة قوله: أوفوا ؟

    [ ص: 3476 ] قلت: نهوا أولا عن عين القبح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ; لأن في التصريح بالقبيح نعيا على المنهي، وتسييرا له. ثم ورد الأمر بالإيفاء، الذي هو حسن في العقول، مصرحا بلفظه لزيادة ترغيب فيه، وبعث عليه، وجيء به مقيدا (بالقسط) أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان أمرا بما هو الواجب ; لأن ما جاوز العدل فضل، وأمر مندوب إليه، وفيه توقيف على أن الموفي عليه أن ينوي بالوفاء القسط ; لأن الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل. فهذه ثلاث فوائد. انتهى-.

    ولا تبخسوا الناس أشياءهم أي لا تنقصوهم حقوقهم بطريق من الطرق، كالكيل والوزن وغيرهما، فهو تعميم بعد تخصيص; لأنه أعم من أن يكون في المقدار وغيره. والبخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس، قال زهير:


    أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ بخس درهم ألا تستحي منا ملوك وتتقي
    محارمنا. لا تتقي الدم بالدم


    وروي (مكس درهم). يريد زهير: أخذ الخراج، وما هو اليوم في الأسواق من رسوم وظلم. وكان قوم شعيب يأخذون من كل شيء يباع شيئا، كما تفعل السماسرة، [ ص: 3477 ] أو كانوا يمكسون الناس، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك -كذا في (الكشاف) و (شرحه).

    قال القاشاني: لما رأى شعيب عليه السلام، ضلالتهم بالشرك، واحتجابهم عن الحق بالجبت، وتهالكهم على كسب الحطام بأنواع الرذائل، وتماديهم في الحرص على جمع المال بأسوأ الخصال -نهاهم عن ذلك، وقال: إني أراكم بخير في استعدادكم من إمكان حصول كمال وقبول هداية، وإني أخاف عليكم إحاطة خطيئاتكم ; لاحتجابكم عن الحق، ووقوفكم مع الغير، وصرف أفكاركم بالكلية إلى طلب المعاش، وإعراضكم عن المعاد، وقصور هممكم على إحراز الفاسدات الفانيات، عن تحصيل الباقيات الصالحات، فلازموا التوحيد والعدالة واعتزلوا عن الشرك والظلم، الذي هو جماع الرذائل وأم الغوائل.

    ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي لا تعملوا فيها الفساد. يعم أيضا تنقيص الحقوق وغيره، كالسرقة والشرك، والدعاء إليه، والصد عن الإيمان ونحوها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 86 ] بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ

    بقيت الله أي ثوابه الباقي على وفاء الكيل والوزن، أو ما أبقاه عليكم بعد التنزه عن الحرام، أو ما تفضل عليكم من الربح بعد وفائهما خير لكم أي في دينكم ودنياكم إن كنتم مؤمنين فإن المؤمن يبارك له، إذا تنزه عن الحرام. أو مصدقين بما أقول.

    وقال القاشاني: أي إن كنتم مصدقين ببقاء شيء، فما يبقى لكم عند الله من الكمالات والسعادات الأخروية، خير لكم من تلك المكاسب الفانية التي تشقون بها، وتشقون على أنفسكم في كسبها وتحصيلها، ثم تتركونها بالموت، ولا يبقى منها معكم شيء إلا وبال التبعات والعذاب اللازم، لما في نفوسكم من رواسخ الهيئات.

    وما أنا عليكم بحفيظ أي رقيب لأحفظكم عن القبائح وأكفكم عنها بسيطرة. وإنما أنا مبلغ نذير.
    [ ص: 3478 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 87 ] قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد

    قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أي من الأصنام، أجابوا به أمرهم بالتوحيد على الاستهزاء والتهكم بصلواته، والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة، فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر. وقرئ: (أصلاتك) بالإفراد -قاله القاضي.

    أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء من نقص ونحوه إنك لأنت الحليم الرشيد أي الموصوف بالحلم والرشد في قومك، يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك، وما شهرت به. كما قال قوم صالح عليه السلام: قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أو قالوا ذلك تهكما به، والمراد أنه على الضد من ذلك. قيل: وهذا أرجح; لأنه أنسب بتهكمهم قبله، والأدق هو الأول لمماثلته لما خوطب به صالح، وتعقيبه بمثل ما عقب به، وهو قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 88 ] قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

    قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي أي أخبروني إن كنت على برهان يقيني مما أتاني ربي من العمل والنبوة ورزقني منه رزقا حسنا أي مالا حلالا [ ص: 3479 ] مكتسبا بلا بخس وتطفيف، أو حكمة ونبوة، وكمالا وتكميلا، بالاستقامة على التوحيد، هل يصح لي أن أخون الوحي، وأترك النهي عن الشرك والظلم، والإصلاح بالتزكية والتحلية. وهو اعتذار عما أنكروه عليه من تغيير المألوف، والنهي عن دين الآباء. وحذف جواب (أرأيتم) لما دل عليه في مثله، كما مر في نبأ نوح وصالح عليهما السلام، وعلى خصوصيته هنا من قوله: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه أي: وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه، لأستبد به دونكم، فلو كان صوابا لآثرته، ولم أعرض عنه، فضلا عن أن أنهى عنه -أفاده القاضي-.

    وفي (التاج): يقال: خالفه إلى الشيء: عصاه إليه، أو قصده بعد ما نهاه عنه، وهو من ذلك.

    قال القاشاني: أي ما أقصد إلى جر المنافع الدنيوية الفانية، بارتكاب الظلم الذي أنهاكم عنه.

    إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت أي إصلاح نفوسكم بالتزكية، والتهيئة لقبول الحكمة، ما دمت مستطيعا متمكنا منه. وما توفيقي إلا بالله أي: وما كوني موفقا للإصلاح إلا بمعونة الله وتأييده. عليه توكلت أي أعتمد وإليه أنيب أي: أرجع في السراء والضراء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 89 ] ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد

    ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أي لا يكسبنكم عداوتي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح من الغرق والريح والصيحة وما [ ص: 3480 ] قوم لوط منكم ببعيد فإن منازلهم قريبة منكم، وقد علمتم ما نزل بهم من قلب الأرض، وإمطار الحجارة. وذلك لأن مخالفة الرسل تقتضي أحد هذه الأمور.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 90 ] واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود

    واستغفروا ربكم أي من عبادة الأصنام ثم توبوا إليه أي بالتوحيد، أو بالرجوع عن البخس والتطفيف إن ربي رحيم أي للمستغفرين التائبين ودود أي مبالغ في المحبة لهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 91 ] قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز

    قالوا يا شعيب ما نفقه أي ما نفهم كثيرا مما تقول كالتوحيد، وحرمة البخس. يعنون أنهم لا يقبلونه، أو قالوا ذلك استهانة به، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول! أو جعلوا كلامه هذيانا وتخليطا لا ينفعهم كثير منه، و(الكثير) مراد به الكل، أو قالوه فرارا من المكابرة.

    قال أبو السعود: الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه. أي: ما نفهم مرادك، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه، وضاقت عليهم الحيل، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا، سوى الصدود عن منهاج الحق، والسلوك إلى سبيل الشقاء، كما هو ديدن المفحم المحجوج، يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد. فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل ما لا يفهم معناه، ولا يدرك فحواه، وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من [ ص: 3481 ] المؤاخذة والعقاب. ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة، ولذلك قالوا: وإنا لنراك فينا ضعيفا أي لا قوة لك، فتمتنع منا إن أردنا بك سوءا ولولا رهطك أي قومك وأنهم على ملتنا لرجمناك أي قتلناك برمي الأحجار، أو شر قتلة وما أنت علينا بعزيز أي لا تعز علينا ولا تكرم، حتى نكرمك ونمنعك من الرجم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 92 ] قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط

    قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله أي من أمره ووحيه ودينه واتخذتموه وراءكم ظهريا أي نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر، لا يعبأ به، و (الظهري) منسوب إلى الظهر، والكسر من تغييرات النسب، كما قالوا: (إمسي) بالكسر في النسبة إلى (أمس) و (دهري) بالضم في النسبة إلى (الدهر): إن ربي بما تعملون محيط أي عالم، لا يخفى عليه، فيجازيكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 93 ] ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب

    ويا قوم اعملوا على مكانتكم أي غاية تمكنكم واستطاعتكم، أو على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، من كفركم وعداوتكم إني عامل أي على مكانتي التي كنت عليها من الثبات على الإسلام والمصابرة.

    سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب أي منتظر لهلاككم. وفي زيادة (معكم) إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.

    [ ص: 3482 ] قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون ؟ قلت: إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون! فوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة، كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين، وأبلغهما الاستئناف; اهـ - أي للإشعار بأنه مما يسأل عنه، ويعتني به، ولذا كان أبلغ في التهويل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 94 ] ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين

    ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا إنما ذكره بالواو، كما في قصة عاد، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط، فإنه ذكر بعد الوعد، وذلك قوله: وعد غير مكذوب وقوله: إن موعدهم الصبح فلذلك جاء بفاء السببية. أفاده القاضي.

    وأخذت الذين ظلموا الصيحة أي بالعذاب فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي ميتين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 95 ] كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود

    كأن لم يغنوا أي يقيموا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود شبههم بهم، لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة، وكانوا قريبا منهم في المنزل، نظراءهم في الكفر وقطع الطريق، وكانوا أعرابا مثلهم.
    [ ص: 3483 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 96 ] ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين

    ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي التسع وسلطان مبين وهو العصا. وكانت أبهر معجزاته، فلذا خصت، أو هو الآيات، والعطف للإشارة إلى الجمع بين كونها آيات وسلطانا واضحا على رسالته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 97 ] إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد

    إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون أي بالكفر بموسى، أو طريقة فرعون الجائرة.

    قال الزمخشري: هذا تجهيل لمتبعيه، حيث شايعوه على أمره، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل. وذلك أنه ادعى الإلهية، وهو بشر مثلهم، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد، فاتبعوه وسلموا له دعواه، وتتابعوا على طاعته.

    وما أمر فرعون برشيد أي بمرشد، أو ذي رشد، وإنما هو غي وضلال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 98 ] يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود

    يقدم قومه يوم القيامة أي يتقدمهم إلى النار، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال فأوردهم النار أي يوردهم. وإيثار لفظ الماضي للدلالة على تحققه والقطع به. وشبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء، وأتباعه بالواردة، والنار بالماء الذي يردونه.

    ثم قيل: وبئس الورد المورود أي بئس الورد الذي يردونه النار، لأن الورد -وهو النصيب من الماء- إنما يراد لتسكين الظمأ، وتبريد الكبد، والنار على الضد من ذلك.
    [ ص: 3484 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 99 ] وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود

    وأتبعوا في هذه أي الدنيا لعنة ويوم القيامة أي يلعنون في الدنيا والآخرة، فهي تابعة لهم، أين كانوا، فـ (يوم) معطوف على محل (في) هذه; لا ابتداء كلام.

    بئس الرفد المرفود أي بئس العطاء المعطى، وهي اللعنة في الدارين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 100 ] ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد

    ذلك إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم من أنباء القرى أي المهلكة نقصه عليك أي بالوحي منها قائم أي باق ينظر إليها، قد باد أهلها وحصيد أي ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 101 ] وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب

    وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم ولكن ظلموا أنفسهم أي بتعريضها لما أوجبه من الشرك وعبادة الأوثان والظلم: فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب أي إهلاك وتخسير.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 102 ] وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد

    وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد فيه [ ص: 3485 ] إشعار بظلمهم وإعلام بسنته تعالى في أخذ الظالمين التي لا تتبدل، وإنذار كل ظالم ظلم نفسه، أو غيره، من سوء العاقبة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 103 ] إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود

    إن في ذلك أي فيما قص في هذه السورة، أو في أخذ الظالمين لآية أي لعبرة لمن خاف عذاب الآخرة فيعتبر بها عن موجباته ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود أي يشهده الأولون والآخرون، وأهل السماء والأرض.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 104 ] وما نؤخره إلا لأجل معدود

    وما نؤخره أي ذلك اليوم إلا لأجل معدود أي لمدة محدودة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 105 ] يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد

    يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه أي بإذن الله تعالى، كقوله تعالى: لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا فمنهم شقي وسعيد
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 106 ] فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق

    فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق الزفير إخراج النفس مع صوت ممدود، والشهيق: رده. كني بهما عن الغم والكرب، لأنه يعلو معه النفس غالبا. أو شبه صراخهم بأصوات الحمير.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #406
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ هود
    المجلد التاسع
    صـ 3486 الى صـ 3500
    الحلقة (405)




    [ ص: 3486 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 107 ] خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد [ 108 ] وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ

    خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ أي: غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية.

    وفي التوقيت بـ (السماوات والأرض) وجهان: أحدهما: أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع، كقول العرب: (ما أقام ثبير)، و (ما لاح كوكب) و (ما طما البحر) ونحوها، لا تعليق قرارهم في الدارين بدوام هذه السماوات والأرض، فإن النصوص دالة على تأبيد قرارهم، وانقطاع دوامهما.

    وثانيهما: أن يراد سماوات الآخرة وأرضها، إذ لا بد لأهلها من مظل ومقل، قال تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وقوله: وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء

    فإن قلت: ما معنى الاستثناء بالمشيئة، وقد ثبت خلود أهل الدارين فيهما من غير استثناء؟ فالجواب ما قدمناه في قوله تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله يعني أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن، للدلالة على الثبوت والاستمرار.

    [ ص: 3487 ] والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل.

    وقد أشار لهذا ابن كثير بقوله: يعني أن دوامهم ليس أمرا واجبا بذاته، بل موكول إلى مشيئته تعالى.

    وابن عطية بقوله: هذا على طريق الاستثناء الذي ندب الشارع إلى استعماله في كل كلام، كقوله: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع.

    وللمفسرين هنا وجوه كثيرة، وما ذكرناه أحقها وأبدعها.

    ولما قص تعالى قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحله بهم من نقمة، وما أعد لهم من عذابه قال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 109 ] فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص

    فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء أي في شك من عبادتهم، في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم. وفيه تسلية له صلوات الله عليه، وعدة بالانتقام، ووعيد لهم. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل أي فهم سواء في الإشراك، وقد بلغك ما نزل بآبائهم، فسيحل بهم مثله. وهو استئناف معلل للنهي عن المرية. وإنا لموفوهم نصيبهم أي من العذاب، كما وفى لآبائهم غير منقوص
    [ ص: 3488 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 110 ] ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب

    ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة فاختلف فيه أي آمن به قوم، وكفر به آخرون، كما اختلف هؤلاء في القرآن. ولولا كلمة سبقت من ربك يعني ما أشير إليه في قوله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم لقضي بينهم أي باستئصالهم. وإنهم أي هؤلاء، وهم كفار مكة لفي شك منه أي القرآن مريب أي موقع للناس في الريبة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 111 ] وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير

    وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير أي فلا يخفى عليه شيء منه، وسيجزيهم عليه. والتنوين في (كلا) عوض عن المضاف، أي وإن كل المختلفين فيه.

    تنبيه:

    في هذه الآية قراءات: قرئ (إن) و (لما) مخففتين ومشددتين، وبتخفيف (إن) وتشديد (لما)، وبعكسها، وهذه الأربع قراءات كلها متواترة.

    فأما الأولى: ففيها إعمال (إن) المخففة، وهي لغة ثابتة عن العرب، واللام في (لما) لأمر الابتداء، داخلة في خبر (إن). و (ما) إما موصولة بمعنى (الذين) واقعة على من يعقل، واللام في (ليوفينهم) جواب قسم مضمر، أي: وإن كلا للذين، والله ليوفينهم. وإما نكرة موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفة (ما) أي: وإن كلا لخلق، أو [ ص: 3489 ] لفريق، والله ليوفينهم. وقيل: اللام الأولى موطئة للقسم، ولما اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ، فصل بينهما بـ (ما) فهي زائدة لإصلاح اللفظ. وقيل: اللام المذكورة هي الفارقة بين المخففة والنافية. وقيل: إنها جواب القسم كررت تأكيدا.

    وأما الثانية: وهي تشديدهما، فـ (إن) على حالها، وما بعدها منصوب على أنه اسمها، و (لما) بمعنى (إلا) أو جازمة بمعنى (لم) ومجزومها محذوف، أي لما يمهلوا، أو لما يوفوا أعمالهم إلى الآن، وسيوفونها.

    وأما الثالثة: وهي تخفيف (إن) وتشديد (لما)، فـ (إن) مخففة عاملة كما تقدم، و (لما) بمعنى (إلا) أو جازمة أيضا، أو (إن) نافية بمنزلة (ما) و (لما) بمعنى (إلا) و (كلا) منصوب بمضمر، أي: وما أرى كلا إلا.

    وأما الرابعة: وهي تشديد (إن) وتخفيف (لما) فواضحة، فـ (إن) هي المشددة عملت عملها.

    والكلام في (اللام) و (ما) مثل ما تقدم أولا من الوجوه الأربعة في (اللام) والثلاثة في (ما).

    وثمت قراءات أخر فلتراجع في (السمين) وغيره.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 112 ] فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير .

    فاستقم كما أمرت أي في القرآن، و (الكاف) للتشبيه، أو بمعنى (على) ومن تاب معك أي من الشرك، وهم المؤمنون. ولا تطغوا أي تجاوزوا حدود الله إنه بما تعملون بصير أي فيجازيكم به. قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله والمؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر، وينهى عن الطغيان، وهو البغي، فإنه مصرعة، ولو كان على مشرك.
    [ ص: 3490 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 113 ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون

    ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أي أنفسهم بالشرك والمعاصي، أي: لا تسكنوا إليهم. ولا تطمئنوا إليهم ; لما يفضي الركون من الرضا بشركهم وتقويتهم، وتوهين جانب الحق. فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعون عذابه عنكم بركونكم إليهم. ثم لا تنصرون أي لا تمنعون مما يراد بكم. والقصد تبعيد المؤمنين عن موادة المشركين المحادين لله ولرسوله، والثقة بهم، وهم أعظم عقبة في الصد عن سبيل الله ; لأن ذلك ينافي الإيمان.

    قيل: الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى أهله، فكيف بمن ينغمس في حمأته؟

    تنبيه:

    قال بعض المفسرين اليمانيين: الآية صريحة بأن الركون إلى الظلمة محرم وكبيرة، لأنه تعالى توعد بالنار. ولكن ما هو الركون الذي أراده تعالى؟ قلنا: في ذلك وجوه؟

    فروي عن ابن عباس والأصم أن المعنى: لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم.

    وقيل: ترضوا بأعمالهم. عن أبي العالية.

    وقيل: تلحقوا بالمشركين. -عن قتادة-.

    وقيل: تداهنوا الظلمة -عن السدي وابن زيد.

    وقيل: الدخول معهم في ظلمهم، وإظهار الرضا بفعلهم، وإظهار موالاتهم. فأما إذا دخل عليهم لدفع شرهم فيجوز، لأنه تعالى أمر بالرفق في مخالطة الكفار، والظلمة أولى.

    قال الزمخشري: النهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين [ ص: 3491 ] إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمل قوله: ولا تركنوا فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله: إلى الذين ظلموا أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين.

    وحكي أن الموفق صلى خلف الإمام، فقرأ بهذه الآية، فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟ انتهى.

    قال اليماني: قد وسع العلماء في ذلك وشددوا، والحالات تختلف، والأعمال بالنيات، والتفصيل أولى، فإن كانت المخالطة لدفع منكر، أو استعانة عليه، أو رجاء تركهم الظلم، أو استكفاء شرورهم فلا حرج في ذلك، وربما وجب، وإن كان لإيناسهم وإقرارهم فلا. انتهى.

    وأقول: كل هذا مبني على عموم الآية، وأما إن كانت في مشركي مكة، اعتمادا على سباق الآية وسياقها ; فالمراد منها ما ذكرناه أولا -والله أعلم-.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 114 ] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين

    وأقم الصلاة طرفي النهار أي غدوة وعشية وزلفا من الليل أي وساعات منه، وهي ساعاته القريبة من آخر النهار. من (أزلفه) إذا قربه، وازدلف إليه. وصلاة الغدوة: الفجر، وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشي، وصلاة الزلف المغرب والعشاء -كذا في الكشاف-.

    والآية كقوله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر [ ص: 3492 ] في جمعهما للصلوات الخمس جمعا بالغا غاية اللطف في بلاغة الإيجاز. وانتصاب (طرفي النهار) على الظرف لإضافته إليه. و (زلفا) قرأها العامة بضم ففتح، جمع زلفة، كظلمة وظلم. وقرئ بضمهما، إما على أنه جمع زلفة أيضا، ولكن ضمت عينه إتباعا لفائه; أو على أنه اسم مفرد كعنق. أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف.

    وقرئ بإسكان اللام، إما بالتخفيف، فيكون فيها ما تقدم، أو على أن السكون على أصله، فهو كبسرة وبسر، من غير إتباع.

    وقرئ (زلفى) كحبلى، بمعنى قريبة، أو على إبدال الألف من التنوين ; إجراء للوصل مجرى الوقف. ونصبه إما على الظرفية بعطفه على (طرفي النهار) لأن المراد به الساعات، أو على عطفه على (الصلاة) فهو مفعول به.

    والزلفة عند ثعلب أول ساعات الليل.

    وقال الأخفش: مطلق ساعات الليل، وأصل معناه القرب. يقال ازدلف أي اقترب و (من الليل) صفة زلفا -كذا في (العناية)-.

    إن الحسنات أي التي من جملتها، بل عمدتها، ما أمرت به من الصلوات يذهبن السيئات أي التي قلما يخلو منها البشر، أي يكفرنها. ذلك أي إقامة الصلوات في الأوقات المذكورة ذكرى للذاكرين أي ذكرى له تعالى، وإحضار للقلب معه، وتصفية من كدورات اللهو والنسيان لعظمته.

    وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه; أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، وأنا هذا، فاقض في ما شئت! فقال له عمر رضي الله عنه: لقد سترك الله تعالى لو سترت على نفسك. قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، وتلا عليه هذه الآية وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات إلخ.

    [ ص: 3493 ] فقال رجل من القوم: يا رسول الله، هذا له خاصة؟ قال: « بل للناس كافة »
    . أخرجه البخاري وغيره.

    وفي رواية عن أبي أمامة قال له صلى الله عليه وسلم: « أتممت الوضوء وصليت معنا؟ » قال: نعم، قال: « فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك، فلا تعد » . وقرأ الآية.

    وفي رواية: فنزلت الآية،
    والمراد بالنزول شمولها، بنزولها المتقدم، لما وقع، لأنها كانت سببا في النزول -كما بيناه غير مرة-.

    وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ » قالوا: لا. قال: « فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا » . ورواه البخاري أيضا عن جابر، وروي نحوه عن عثمان وسلمان.

    وللإمام أحمد عن معاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن » .

    [ ص: 3494 ] وله عن أبي ذر مرفوعا: « إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها » قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: « هي أفضل الحسنات » أي: فالحسنات مثل الصلاة والذكر والصدقة والاستغفار، ونحو ذلك من أعمال البر.

    لطيفة:

    أشار القاشاني عليه الرحمة إلى سر الصلوات الخمس في أوقاتها بما يجدر الوقوف عليه، فقال:

    لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب بما يرد عليه في الهيئات الجسمانية، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية، وتحجبه عن النور والحضور، بالإعراض عن جانب القدس، والتوجه إلى معدن الرجس، وتبدله الوحشة بالأنس، والكدورة بالصفاء ; فرضت خمس صلوات، يتفرغ فيها العبد للحضور، ويسد أبواب الحواس ; لئلا يرد على القلب شاغل يشغله، وبفتح باب القلب إلى الله تعالى بالتوجه والنية; لوصول مدد النور، ويجمع همه عن التفرق، ويستأنس بربه عن التوحش، مع اتحاد الوجهة، وحصول الجمعية، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب مفتوحة للقلب، على جناب الرب، يدخل عليه بها النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى جانب الغرور، ودارا للعين الغرور، التي تدخل بها الظلمة ليذهب النور الوارد آثار ظلماتها، ويكسح غبار كدوراتها. وهذا معنى قوله: إن الحسنات يذهبن السيئات

    وقد ورد في الحديث: « إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر » . وأمر بإقامتها طرفي النهار، لينسحب حكمها ببقاء الجمعية، واستيلاء الهيئة النورية، في أوله إلى سائر الأوقات، فعسى أن يكون من الذين هم على صلاتهم دائمون، لدوام ذلك الحضور، [ ص: 3495 ] وبقاء ذلك النور، ويكسح ويزيل في آخره ما حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة. ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر الغذاء سلطانها في الليل، وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني، وتحجزها عن شأنها الخاص بها، الذي هو مطالعة عالم القدس بشغلها باستعمال آلات الغذاء، لعمارة الجسد، فتسلبها اللطافة، وتكدرها بالغشاوة ; احتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة، وتنويرها بالصلاة، فقال: وزلفا من الليل انتهى. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 115 ] واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

    واصبر أي على مشاق ما أمرت به من التبليغ، أو على ما يقولون، أو على الصلاة كقوله: واصطبر عليها ولا مانع من شموله للكل.

    فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي في أعمالهم فيوفيهم أجورهم من غير بخس.

    قال أبو السعود: وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة، لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة، مع الإيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان. انتهى.

    وأشار الشهاب في (العناية) هنا إلى لطيفة من البلاغة القرآنية، وهو أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت عامة في المعنى، وفي المنهيات جمعت للأمة.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3496 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 116 ] فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين

    فلولا كان أي فهلا وجد من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض أي بعمل الشرور والمنكرات، فإنه لو كان منهم ناهون لم يؤخذ الباقون إلا قليلا ممن أنجينا منهم استثناء منقطع. أي لكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي.

    لطيفة:

    (البقية) إما بمعنى الباقية، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة، أو بقية من الرأي والعقل، أو بمعنى الفضيلة، والتاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة. وأطلق على الفضل (بقية) استعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه، ويدخرها مما ينفقه، فإنه يفعل ذلك بأنفسها. ولذا قيل: (في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا) و (فلان من بقية القوم) أي من خيارهم، وجوز كون (البقية) مصدرا بمعنى (البقوى)، كالتقية بمعنى التقوى، أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم، وصيانة لها من سخطه تعالى وعقابه.

    واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه أي ما صاروا منعمين فيه من الشهوات، حتى فجأهم العذاب، واتباعه كناية عن الاهتمام به، وترك غيره، كما هو دأب التابع للشيء.

    و الذين ظلموا أعم من المباشرين بأنفسهم للفساد، ومن تاركي النهي عنه، وقصره الزمخشري على الثاني، لأنهم المقصود بالنعي قبله، حيث قال: أراد بـ (الذين ظلموا) تاركي النهي عن المنكرات، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرئاسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء، ورفضوا ما وراء ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم.

    [ ص: 3497 ] وكانوا مجرمين أي باتباعهم المذكور، أو كافرين. قال القاضي: كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم، واتباعهم للهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقد أشير لذلك بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 117 ] وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون

    وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون أي بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. و (بظلم) الباء فيه إما للملابسة، وهو حال من الفاعل، أي استحال في الحكمة أن يهلك القرى ظالما لها، وتنكيره للتفخيم، والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم. أو للسببية. والظلم: الشرك، أي: لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون، يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى. ولذا قيل: (يبقى الملك مع الشرك، ولا يبقى مع الظلم) وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أن مقام دعوة الرسل إلى التوحيد، ومحو الشرك أولا، ثم إلى الاستقامة في المعاملات ثانيا ; يقضي بحمل (الظلم) هنا على ما هو أعم من الشرك، وأصناف المعاصي. وحمل الإصلاح على إصلاحه، والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه، وبعضهم متجهين إلى الاتعاظ، غير مصرين على ما هم عليه من الشرك ونحوه. كذا أشار له أبو السعود.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 118 ] ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين

    ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة أي مجتمعة على الحق والإيمان والصلاح، ولكنه لم يشأ ذلك ولا يزالون مختلفين أي في الحق، منهم المؤمن به، ومنهم الكافر به.
    [ ص: 3498 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 119 ] إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

    إلا من رحم ربك أي لكن ناسا رحمهم بهدايتهم إلى التوحيد، وتوفيقهم للكمال، فاتفقوا في المذهب والمقصد، ووافقوا في السيرة والطريقة، قبلتهم الحق، ودينهم التوحيد والمحبة.

    وقوله تعالى: ولذلك خلقهم في المشار إليه أقوال. أظهرها أنه للاختلاف الدال عليه (مختلفين)، فالضمير حينئذ للناس، أي لثمرة الاختلاف، من كون فريق في الجنة، وفريق في السعير، خلقهم. واللام لام العاقبة والصيرورة، لأن حكمة خلقهم ليس هذا، لقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم عليه. أو الإشارة له وللرحمة المفهومة من (رحم) لتأويلها بـ (أن والفعل) أو كونها بمعنى الخير. وتكون الإشارة لاثنين، كما في قوله: عوان بين ذلك والمراد لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم، خلقهم. وهذا معزو إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وإن كان الضمير لـ (من) فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق -كذا في (العناية)-.

    وأشار القاشاني إلى بقاء اللام على معناها، وهو التعليل بوجه آخر، حيث قال: وللاختلاف خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل، ويختار بطبعه أمرا وصنعة، ويستتب بهم نظام العالم، ويستقيم أمر المعاش، فهم محامل لأمر الله، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا، كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله، وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره.

    [ ص: 3499 ] وقوله تعالى: وتمت كلمة ربك أي أحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين والمراد من " الجنة والناس" عصاتهما، والتعريف للعهد، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم، وأن الوعيد ليس إلا لهم، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل. بـ (أجمعين) حينئذ ظاهر، وإن لم يحمل على العهد، وأبقى على إطلاقه، ففائدة التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين، لا من أحدهما فقط، ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه، موكولا إلى علمه تعالى، فاندفع ما أورد على ظاهرها من اقتضائه دخول جميع الفريقين جهنم. وبطلانه معلوم بالضرورة. أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فالمراد بلفظ (أجمعين) تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد، كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام، فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف، لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، كقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس، لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس، بل يكون من كل فرد صنف، وهو ظاهر. وعلى هذا تظهر فائدة لفظ (أجمعين); إذ فيه رد على اليهود وغيرهم، ممن زعم أنه لا يدخل النار -كذا في (العناية)-.

    ولما ذكر تعالى فيما تقدم من أنباء الأمم الماضية، والقرون الخالية، ما جرى لهم مع أنبيائهم -أشار هنا إلى سر ذلك وحكمته، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 120 ] وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين

    وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك أي نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك، وتتأسى بالرسل من قبلك، وتعلم أن العاقبة لك كما كانت لهم. و (كلا) مفعول (لنقص) و (من أنباء) بيان له. و (ما نثبت) بدل من (كلا) أو خبر محذوف.

    [ ص: 3500 ] وجاءك في هذه أي السورة، أو الأنباء المقتصة الحق أي القصص الحق الثابت وموعظة وذكرى للمؤمنين أي عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 121 ] وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون

    وقل للذين لا يؤمنون أي بهذا الحق، ولا يتعظون ولا يتذكرون اعملوا على مكانتكم أي حالكم من اتباع الأهواء إنا عاملون أي على حالنا من اتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 122 ] وانتظروا إنا منتظرون

    وانتظروا أي العواقب إنا منتظرون أي ما وعدنا به من الفتح، وقد أنجز الله وعده. ونصر عبده، فله الحمد وحده.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 123 ] ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون

    ولله غيب السماوات والأرض أي فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم. وإليه يرجع الأمر كله أي أمر العباد في الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد للكفار بالانتقام منهم. فاعبده وتوكل عليه فإنه كافيك وما ربك بغافل عما تعملون بالياء التحتية في قراء الجمهور، مناسبة لقوله: للذين لا يؤمنون وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب، أي أنت وهم. أي فيجازي كلا بما يستحقه -والله أعلم-.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #407
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3501 الى صـ 3515
    الحلقة (406)




    [ ص: 3501 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    12- سُورَةُ يُوسُفَ

    سُمِّيَتْ بِهِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ قِصَّتِهِ مَذْكُورَةٌ، وَمُعْظَمُ مَا فِيهَا قِصَّتُهُ.

    قَالَ الشِّهَابُ: لَمَّا خُتِمَتِ السُّورَةُ الَّتِي قَبْلَهَا بِقَوْلِهِ: وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ ذُكِرَتْ هَذِهِ بَعْدَهَا، لِأَنَّهَا مِنْ أَنْبَائِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ أَوَّلًا مَا لَقِيَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ مَا لَقِيَ يُوسُفُ مِنْ إِخْوَتِهِ، لِيَعْلَمَ مَا قَاسَوْهُ مِنْ أَذَى الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ، فَبَيْنَهُمَا أَتَمُّ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَاقَاهُ مِنْ أَذَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. انْتَهَى-.

    وَ (يُوسُفُ) اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، تَعْرِيبُهُ يَزِيدُ، أَوْ زِيَادَةٌ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّهُ (رَاحِيلَ) كَانَتْ قَعَدَتْ عَنِ الْحَمْلِ مُدَّةً، وَلَحِقَهَا الْحُزْنُ تِلْقَاءَ ضِرَّاتِهَا الْوَالِدَاتِ، وَلَمَّا وَهَبَهَا تَعَالَى، بَعْدَ سِنِينَ، وَلَدًا سَمَّتْهُ (يُوسُفَ) وَقَالَتْ: يَزِيدُنِي بِهِ رَبِّي وَلَدًا آخَرَ.

    وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ اتِّفَاقًا، وَآيُهَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ بِلَا خِلَافٍ.

    وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ) أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ، حِينَ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو هَذِهِ السُّورَةَ، أَسْلَمُوا لِمُوَافَقَتِهَ ا مَا عِنْدَهُمْ.

    [ ص: 3502 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

    [ 1 ] الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ

    الر تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ، وَأَنَّهَا إِمَّا حُرُوفٌ مَسْرُودَةٌ عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ، نَزَّلَ مَا بَعْدَهُ، لِكَوْنِهِ مُتَرَقَّبًا، مَنْزِلَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْإِشَارَةُ بِالْبَعِيدِ لِعَظَمَتِهِ، وَبُعْدِ مَرْتَبَتِهِ، وَإِمَّا اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَالْإِشَارَةُ فِي " تِلْكَ" إِلَيْهَا. وَالْمُرَادُ بِـ " الْكِتَابُ" السُّورَةُ ; لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، فَيُطْلَقُ عَلَيْهَا. أَوِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّهِ، يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِهِ. وَ (الْمُبِينُ) بِمَعْنَى الظَّاهِرِ أَمْرُهَا وَإِعْجَازُهَا، إِنْ أُخِذَ مِنْ (بَانَ) لَازِمًا بِمَعْنَى ظَهَرَ، وَإِنْ أُخِذَ مِنَ الْمُتَعَدِّي فَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 2 ] إنا أنـزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون

    إنا أنـزلناه أي الكتاب المنعوت بما ذكر قرآنا عربيا لعلكم تعقلون أي لكي تفهموه، وتحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم. كما قال تعالى: ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أو لتستعملوا فيه عقولكم، فتعلموا أن اقتصاصه كذلك، ممن لم يتعلم القصص، معجز، لا يمكن إلا بالإيحاء. أو: لعلكم تعقلون بإنزاله عربيا، ما تضمن من المعاني والأسرار، التي لا يتضمنها ولا يحتملها غيرها من اللغات، وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم [ ص: 3503 ] بالنفوس. قال بعضهم: نزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وفي أشرف شهور السنة، وهو رمضان، فكمل له الشرف من كل الوجوه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 3 ] نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين

    نحن نقص عليك أحسن القصص أي أبدعه طريقة، وأعجبه أسلوبا، وأصدقه أخبارا، وأجمعه حكما وعبرا بما أوحينا إليك أي بإيحائنا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين أي عنه، لم يخطر ببالك. والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جوز في هذا أن يكون مفعول نقص، على أن (أحسن) نصب على المصدر، وأن يكون مفعول " أوحينا" على أن مفعول نقص (أحسن) أو محذوف. وأن يكون بدلا من (ما) على أنها موصولة أو خبر محذوف كذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 4 ] إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين

    إذ قال يوسف لأبيه يعني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. والظرف بدل من المفعول قبله بدل اشتمال، أو مفعول لمحذوف. يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين إنما ناجى يوسف أباه بهذه الرؤيا، لاعتقاده كمال علمه، وشفقته عليه، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه.

    قال القاشاني: هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير، لانتقال المتخيلة من النفوس [ ص: 3504 ] الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له، إلى الكواكب والشمس والقمر، وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته. (يا أبت) أصله يا أبي، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، وكسرها لأنه عوض عن حرف يناسبها. وقرئ بفتحها لأنها حركة أصلها، أو لأنه كان (يا أبتا) فحذف الألف، وبقي الفتحة. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، من غير اعتبار التعويض.

    وقوله: (رأيتهم) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها، فلا تكرير: أو تأكيد للأولى تطرية لطول العهد، كما في قوله: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون وإنما أجريت مجرى العقلاء في ضميرهم وجمع صفتهم جمعا سالما; لوصفها بوصفهم، وهو السجود.

    قال المهايمي: ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال. قال: ولم أر من تعرض لهيئة السجود، ولعله تحريك جانبها الأعلى إلى الأسفل، مستديرة ظهرت أو مستطيلة. اهـ.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 5 ] قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين

    قال يا بني صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغر لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا أي فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلا عظيما متلفا لك. إن الشيطان للإنسان عدو مبين أي ظاهر العداوة، فلا يألو جهدا في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه.

    قال القاشاني: هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب، ولا يتشخص في النفس مفصلا، [ ص: 3505 ] حتى يقع العلم به كما هو، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروها، وفرح وسرور إن كان مرغوبا. ويسمى هذا النوع من الإلهام، إنذارات وبشارات، فخاف، عليه السلام، من وقوع ما وقع قبل وقوعه، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازا. ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وزيادة قدره على إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك. انتهى.

    تنبيه:

    قال السيوطي في (الإكليل): قال الكيا: هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه.

    وقال ابن العربي: فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون. قال: وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه.

    وقال بعض المفسرين اليمانين: قال الحاكم: هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة، تحرزا من الحسود. وهذا داخل في قولنا: إن الحسن إذا كان سببا للقبيح قبح. ومنه آية الأنعام: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم

    وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين:


    إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا


    الأبيات المعروفة، ذكرها عن زين العابدين، الغزالي في (منهاج العابدين) والديلمي في كتاب (التصفية). وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته، والمعنى واحد، فلا معنى لإنكار من ينكر ويزعم أن العلم لا يحل كتمه. انتهى.

    ومقصوده: أن خوف شر الأشرار من الصوارف عن الصدع بالحق.

    [ ص: 3506 ] قال السيد ابن المرتضى اليماني في (إيثار الحق): مما زاد الحق غموضا وخفاء خوف العارفين، مع قلتهم، من علماء السوء، وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك، بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام. وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق، وما برح المحق عدوا لأكثر الخلق.

    وذكر رحمه الله قبل في الاستدلال على التقية; أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، مع كتم إيمانه، وسميت به سورة (المؤمن). وصح أمر عمار به، وتقريره عليه، ونزلت فيه: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقد صح عن أبي هريرة أنه قال في ذلك العصر الأول: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته لكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال الغزالي في خطبة (المقصد الأسنى): من خالط الخلق جدير بأنه يتحامى. لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 6 ] وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم

    وكذلك يجتبيك ربك أي مثل ذلك الاصطفاء، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن، يصطفيك للنبوة والسيادة: ويعلمك من تأويل الأحاديث أي تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلا; لأنه جعل المرئي آيلا إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير، وراجعا إليه. والأحاديث اسم جمع للحديث، سميت به الرؤيا لأنها إما حديث ملك أو نفس أو شيطان. [ ص: 3507 ] ويتم نعمته عليك أي بما سيؤول إليه أمرك وعلى آل يعقوب وهم أهله من بنيه، وحاشيتهم، أي يسبغ نعمته عليهم بك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم بمن هو مستحق للاجتباء حكيم في صنعه.

    تنبيهات:

    الأول: قال أبو السعود؛ كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله: ويعلمك من تأويل الأحاديث إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة. وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي. أو أراد كون هذه الخصلة سببا لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته بطريق الفراسة، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا، لا بد من توفيقه لتعبيرها، وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقي منها، مما هو أنفسي، كيف لا، وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال، وقوة تصرفاتها فيه، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة، وأقوى وقوفا على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر. وإن هذا الشأن البديع، لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به، ومدارا لجريان أحكامه، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة، بها تظهر آثاره، وتجري أحكامه.

    الثاني: استدل بالآية على أن (الجد) يطلق عليه اسم (الأب)، فيدل أن من نسب رجلا إلى جده وقال: (يا ابن فلان) أنه لا يكون قذفا.

    الثالث: قال المهايمي: من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر، وجواز التحذير [ ص: 3508 ] عن شخص بعينه، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره، واعتبار السبب وإن لم يؤثر، وأن لكل حادث تأويلا عند الأولياء، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار، وإن كان من عالم الخيال; إذ تصور المخيلة معاني معقولة بصور محسوسة، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها. والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير، وإلا احتاجت إليه. فالأخبار عن هذه الرؤيا آية، وعما ترتب عليها آيات.

    بحث في الرؤيا

    قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة) في بحث (الفراسة) ما مثاله:

    ومن الفراسة علم الرؤيا. وقد عظم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وقال: إذ يريكهم الله في منامك الآية، وقال في قصة إبراهيم: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك وقوله: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا

    والرؤيا هي فعل النفس الناطقة، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة. والله تعالى يتعالى عن الباطل. وهي ضربان: ضرب وهو الأكثر، أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية، لكون النفس في تلك الحال كالماء المتموج، لا يقبل صورة.

    وضرب وهو الأقل، صحيح، وذلك قسمان: قسم لا يحتاج إلى تأويل، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة، يفرق بين الأضغاث وبين غيرها، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية، [ ص: 3509 ] ويفرق بين طبقات الناس; إذ كان فيهم من لا تصح له رؤيا، وفيهم من تصح رؤياه. ثم من صح له ذلك; منهم من يرشح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة، ومنهم من لا يرشح له ذلك. ولهذا قال اليونانيون: يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام، وذلك لأن له حظا من النبوة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: « الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة » وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحريه وبينه، فرب حكيم لا يرزق حذقا فيه، ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم، توجد له فيه قوة عجيبة. انتهى.

    وقال الأستاذ ابن خلدون: حقيقة الرؤيا مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية، لمحة من صور الواقعات. فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية، والمدارك البدنية. وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم، كما نذكر، فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة، وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا، وغير جلي بالمحاكاة، والمثال في الخيال لتخلطه ; فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير، وقد يكون الاقتباس قويا يستغنى فيه عن المحاكاة، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال، والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس; أنها ذات روحانية بالقوة، مستكملة بالبدن ومداركه، حتى تصير ذاتها تعقلا محضا ويكمل وجودها بالفعل، فتكون حينئذ ذاتا روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية، إلا أن نوعها من الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن، [ ص: 3510 ] ولا غيره، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن. ومنه خاص كالذي للأولياء. ومنه عام للبشر على العموم، وهو أمر الرؤيا. وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكررا في حالات الوحي، وهي عندما يعرج على المدارك البدنية، ويقع فيها ما يقع من الإدراك، شبيها بحال النوم شبها بينا، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير. فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها « جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة » وفي رواية « ثلاثة وأربعين » ، وفي رواية « سبعين » وليس العدد في جميعها مقصودا بالذات، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب، بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه، وهو للتكثير عند العرب، وما ذهب إليه بعضهم في رواية « ستة وأربعين » من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر، وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين- فكلام بعيد من التحقيق. لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولا، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم، صلوات الله عليهم، إذ هو الاستعداد البعيد، وإن كان عاما في البشر، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، الذي هو جبلي لهم، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من المبشرات، فقال: « لم يبق من النبوة إلا المبشرات » قالوا: وما المبشرات يا رسول الله، قال: « الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو ترى له » .

    [ ص: 3511 ] وأما السبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، فعلى ما أصفها لك: وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني، وهو بخار لطيف، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب -على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره- وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق، فيعطي الحس والحركة، وسائر الأفعال البدنية، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ، فيعدل من برده، وتتم أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري، وهي متعلقة به، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف. ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية، صار محلا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته، وهي النفس الناطقة، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته.

    وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين: إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية. وأن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية، التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية، كانت معرضة للوسن والفشل، بما يدركها من التعب والكلال، وتغشى الروح بكثرة التصرف، فخلق الله لها طلب الاستجمام، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها، ورجوعه إلى الحس الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن، وتذهب من ظاهره إلى باطنه، فتكون مشيعة مركبها، وهو الروح الحيواني، إلى الباطن، ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل، فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة، ورجع إلى القوى الباطنة، وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة; تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية، وأكثر ما تكون معتادة، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا. ثم ينزلها الحس المشترك، الذي هو جامع الحواس الظاهرة، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة.

    [ ص: 3512 ] وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية، مع منازعتها القوى الباطنية، فتدرك بإدراكها الروحاني; لأنها مفطورة عليه، وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ، ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة، فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة. والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة، قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام.

    وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله، ورؤيا من الملك، ورؤيا من الشيطان » وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه، فالجلي من الله، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك، وأضغاث الأحلام من الشيطان; لأنها كلها باطل، والشيطان ينبوع الباطل.

    هذه حقيقة الرؤيا، وما يسببها ويشيعها من النوم، وهي خواص للنفس الإنسانية، موجودة في البشر على العموم، لا يخلو عنها أحد منهم، بل كل واحد من الإنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته، مرارا غير واحدة، وحصل له القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم، ولا بد. وإذا جاز ذلك في عالم النوم، فلا يمتنع في غيره من الأحوال، لأن الذات المدركة واحدة، وخواصها عامة في كل حال. انتهى.

    وذكر رحمه الله عند بحث (علم تعبير الرؤيا) أن التعبير لها كان موجودا في السلف، كما هو في الخلف، وأنيوسف الصديق، صلوات الله عليه، كان يعبر الرؤيا، كما وقع في القرآن، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر رضي الله عنه، والرؤيا مدرك من مدارك الغيب كما تقدم. وأما معنى التعبير، فاعلم أن الروح العقلي، إذا أدرك مدركه، وألقاه إلى الخيال فصوره، فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء. ومن المرئي ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير، لجلائها ووضوحها، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه. وللبحث تتمة سابغة، انظرها ثمة.

    [ ص: 3513 ] وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 7 ] لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين

    لقد كان في يوسف وإخوته أي في قصتهم وحديثهم آيات أي دلائل على قدرته تعالى، وحكمته في كل شيء للسائلين أي لمن سأل عن نبئهم. أو آيات على نبوته صلوات الله عليه، لمن سأل عن نبئهم، فأخبرهم بالصحة من غير تلق عن بشر أو أخذ عن كتاب.

    وقال القاشاني: أي آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها، تدلهم أولا: على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى، لا يتعلق بسعي ساع، ولا إرادة مريد، فيعلمون مراتب الاستعدادات في الأزل.

    وثانيا: على أن من أراد الله به خيرا، لم يمكن لأحد دفعه. ومن عصمه الله، لم يمكن لأحد رميه بسوء، ولا قصده بشر، فيقوى يقينهم وتوكلهم.

    وثالثا: على أن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد، حتى الأنبياء، فيكونون منه على حذر. وأقوى من ذلك كله أنها تطلعهم من طريق الفهم، الذي هو الانتقال الذهني، على أحوالهم في البداية والنهاية، وما بينهما، وكيفية سلوكهم إلى الله، فتثير شوقهم وإرادتهم، وتشحذ بصيرتهم، وتقوي عزيمتهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 8 ] إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين

    إذ قالوا ليوسف وأخوه وهو بنيامين شقيقه، وأمهما راحيل بنت لابان، خال يعقوب. أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة أي والحال أنا جماعة أقوياء، أحق بالمحبة [ ص: 3514 ] من صغيرين، لا كفاية فيهما. والعصبة والعصابة: الجماعة من الرجال -عشرة فصاعدا- سموا بذلك لكون الأمور تعصب بهم، أي تشد فتقوى، وذكرها ليس لإفادة العدد فقط، بل للإشعار بالقوة، ليكون أدخل في الإنكار; لأنهم قادرون على خدمته، والجد في منفعته، فكيف يؤثر عليهم من لا يقدر على ذلك؟.

    إن أبانا لفي ضلال مبين أي ذهاب عن طريق الصواب في ذلك لتفضيله المفضول بزعمهم. وغاب عنهم أنه كان يحب يوسف لما يرى فيه من المخايل، لا سيما بعد تلك الرؤيا. وبنيامين لكونه شقيقه وأصغرهم. ومن المعروف زيادة الميل لأصغر البنين.

    وقوله تعالى:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #408
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3516 الى صـ 3530
    الحلقة (407)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 10 ] قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين

    قال قائل منهم أي صريحا ورضي به الباقون لا تقتلوا يوسف أي لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سد باب الصلاح. وإنما أظهره في مكان الإضمار استجلابا لشفقتهم عليه، أو استعظاما لقتله. وألقوه في غيابت الجب أي في غوره. و(الجب) البئر التي لا حجارة فيها. يلتقطه بعض السيارة أي بعض الأقوام الذين يسيرون [ ص: 3516 ] في الأرض، فيتملكه، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه، فيحصل مطلوبكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سد باب الصلاح.

    إن كنتم فاعلين أي عازمين مصرين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه. وقد روي أن القائل هو أخوهم الأكبر، بكر يعقوب (رؤوبين).

    ولما تواطأوا على رأيه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 11 ] قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون

    قالوا أي: لأبيهم يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أي لم تخافنا عليه، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ أرادوا بذلك استنزاله عن عادته في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحس منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه -كذا في (الكشاف)-.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 12 ] أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون

    أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (الرتع): الأكل والشرب والسعي والنشاط، حيث يكون الخضر والمياه والزروع. يريدون: أن إلزامك إياه أن يكون بمكانك، موجب لملاله القاطع لنشاطه على العبادة، واكتساب الكمالات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 13 ] قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون

    قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون [ ص: 3517 ] يعني: وإن زعمتم أنكم له حافظون، فحفظكم إنما يكون ما دمتم ناظرين إليه، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة، فأخاف غفلتكم عنه.

    قال الزمخشري: اعتذر إليهم بشيئين:

    أحدهما: أن ذهابهم به، ومفارقته إياه، مما يحزنه; لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.

    والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه، برعيهم ولعبهم، أو قل به اهتمامهم، ولم تصدق بحفظه عنايتهم.

    قال الناصر: وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه، لأنه مظنة هلاكه. وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل; فأمر سهل. فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه. انتهى- أي فيما حكي عنهم بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 14 ] قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون

    قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة أي جماعة أقوياء، يمكننا أن ننزعه من يد الذئب إنا إذا لخاسرون أي هالكون ضعفا وجبنا. أو عاجزون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 15 ] فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون

    فلما ذهبوا به أي بعد مراجعة أبيهم في شأنه وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب فيه تعظيم لما أزمعوا، إذ أخذوه ليكرموه، ويدخلوا السرور على أبيه، ومكروا ما مكروا. وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا أي أعلمناه بإلقاء في روعه، أو بواسطة ملك عند ذلك تبشيرا له، بأنك ستخلص مما أنت فيه، وتحدثهم بما فعلوا بك.

    [ ص: 3518 ] وقوله: وهم لا يشعرون إما متعلق بـ (أوحينا) أي أوحينا إليه ذلك وهم لا يشعرون; إيناسا له، وإزالة للوحشة، أو حال من الهاء في (لتنبئنهم)، أي: لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف، لعلو شأنك، كما سيأتي في قوله تعالى: فعرفهم وهم له منكرون

    روي أنهم نزعوا قميص يوسف الموشى الذي عليه، وأخذوه، وطرحوه في البئر، وكانت فارغة لا ماء بها، وجلسوا بعد، يأكلون ويلهون إلى المساء.

    وجواب (لما) في الآية محذوف، مثل فعلوا ما فعلوا، أو طرحوه فيها. وقيل: الجواب (أوحينا) والواو زائدة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 16 ] وجاءوا أباهم عشاء يبكون

    وجاءوا أباهم عشاء يبكون بيان لمكرهم بأبيهم بطريق الاعتذار الموهم موته القاطع عنه متمناه، لتنقطع محبته عنه، ولو بعد حين، فيرجع إليهم بالحب الكلي. وقدموا عشاء لكونه وقت الظلمة المانعة من احتشامه في الاعتذار الكذب، ومن تفرسه من وجوههم الكذب، وأوهموا ببكائهم وتفجعهم عليه، إفراط محبتهم له المانعة من الجرأة عليه. ثم نادوه باسم (الأب) المضاف إليهم ليرحمهم، فيترك غضبه عليهم، الداعي إلى تكذيبهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 17 ] قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين

    قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي في العدو والرمي بالنصل وتركنا يوسف [ ص: 3519 ] عند متاعنا أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما ليحفظه فأكله الذئب أي كما حذرت.

    وقوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه. يقولون: ونحن نعلم أنك لا تصدقنا في هذه الحالة، ولو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا، وغير واثق بقولنا؟!.

    وقد استفيد من الآية أحكام:

    منها: أن بكاء المرء لا يدل على صدقه; لاحتمال أن يكون تصنعا -نقله ابن العربي-.

    ومنها: مشروعية المسابقة، وفيه من الطب رياضة النفس والدواب، وتمرين الأعضاء على التصرف -كذا في (الإكليل)-.

    قال بعض اليمانين: اللعب إن كان بين الصغار جاز بما لا مفسدة فيه، ولا تشبه بالفسقة، وأما بين الكبار، ففيه ثلاثة أقسام:

    الأول: أن يكون في معنى القمار، فلا يجوز.

    الثاني: أن لا يكون في معناه، وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد، كالمناضلة بالقسي، والمسابقة على الخيل، فذلك جائز وفاقا.

    الثالث: أن لا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها. ففي ذلك قولان للشافعية: رجح الجواز، إن كان بغير عوض، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا ; لأنه صلى الله عليه وسلم صارع يزيد بن ركانة.

    وروي أن عائشة قالت: سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت سبقني وقال: « هذه بتلك » .

    وفي الحديث: « ليس من اللهو ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه » . انتهى.
    [ ص: 3520 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 18 ] وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون

    وجاءوا على قميصه بدم كذب بيان لما تآمروا عليه من المكيدة، وهو أنهم أخذوا قميصه الموشى، وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه. و (كذب) مصدر بتقدير مضاف، أي: ذي كذب. أو وصف به مبالغة، كرجل عدل. و (على) ظرف لـ (جاءوا) مشعر بتضمنه معنى (افتروا).

    وقوله: قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا أي من تغيب يوسف، وتفريقه عني، والاعتذار الكاذب.

    قال الناصر: وقواه على اتهامهم، أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب، عليه السلام، هلاكه بسببه أولا، وهو أكل الذئب، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم: وأخاف أن يأكله الذئب وكثيرا ما تتفق الأعذار الباطلة، من قلق في المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار. انتهى.

    وفي (الإكليل): استنبط، من هذا، الحكم بالأمارات، والنظر إلى التهمة، حيث قال: بل سولت الآية.

    لطائف:

    قال المهايمي: في الآية من الفوائد أن الجاه يدعو إلى الحسد، كالمال، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها، بل يجعل عداوتهم أشد من عداوة الأجانب، وأن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود، وبمن يراعيه، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلا من الممكور به. وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة، بل أظهره فعلا ; لم يعتمد عليه.

    [ ص: 3521 ] وكذا من أظهر الأمانة قولا وفعلا يفعل الخيانة. وأن الإذلال والإعزاز بيد الله، لا الخلق. وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء، وأن الإنسان وإن كان نبيا، يخلق أولا على طبع البشرية. وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل. وأن القدر كائن، وأن الحذر لا يغني من القدر.

    قيل للهدهد: كيف ترى الماء تحت الأرض، ولا ترى الشبكة فوقها؟ قال: إذا جاء القضاء عمي البصر.

    و (التسويل) تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه، وتصوير القبيح بصورة الحسن. فصبر جميل (صبر) خبر أو مبتدأ، لكونه موصوفا، أي فشأني صبر جميل. أو فصبر جميل أجمل، والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت، والجميل منه هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق ولا جزع، رضا بقضاء الله، ووقوفا مع مقتضى العبودية.

    والله المستعان على ما تصفون أي المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف -كذا قدروه- وحقق أبو السعود; أن المعنى على إظهار حال ما تصفون، وبيان كونه كذبا، وإظهار سلامته، فإنه علم في الكذب، قال سبحانه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وهو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى: فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف، والصبر على الرزء فيه; يأباه تكذيبه عليه السلام لهم في ذلك، ولا تساعده الصيغة، فإنها قد غلبت في وصف الشيء بما ليس فيه، كما أشير إليه. انتهى.

    وفي قوله: والله المستعان اعتراف بأن تلبسه بالصبر لا يكون إلا بمعونته تعالى.

    قال الرازي: لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع، وهي قوية. والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا. فكأنهما في تحارب وتجالد. فما لم تحصل إعانته تعالى [ ص: 3522 ] لم تحصل الغلبة، فقوله: فصبر جميل يجري مجرى قوله: إياك نعبد وقوله: والله المستعان يجري مجرى قوله: وإياك نستعين انتهى.

    ثم ذكر تعالى ما جرى على يوسف في الجب، بعد ما تقدم بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 19 ] وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون

    وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم أي الذي يرد الماء ويستقي لهم فأدلى دلوه أي أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف للخروج، فلما رآه قال يا بشرى هذا غلام وقرئ (يا بشراي) بالإضافة والمنادى محذوف. أو نزلت منزلة من ينادي، ويقال: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.

    قال الزجاج: معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب هو تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة. فإذا قلت: يا عجباه! فكأنك قلت: اعجبوا.

    و (الغلام): الطار الشارب، أو من ولادته إلى أن يشب. والتنوين للتعظيم.

    وأسروه بضاعة أي أخفوه متاعا للتجارة. فـ بضاعة حال. وفي (الفرائد): أنه ضمن (أسروه) معنى (جعلوه) أي جعلوه بضاعة مسرين، فهو مفعول به، أو مفعول له. أي: لأجل التجارة. و (البضاعة) من البضع، وهو القطع لأنه قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة: والله عليم بما يعملون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 20 ] وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين

    وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين الضمير [ ص: 3523 ] في (أسروه) و (شروه) للسيارة; لأنها بمعنى القوم السائرين. وقد روي أنهم كانوا تجارا من بلدة مدين. فلما أصعد واردهم يوسف، وضموه إلى بضاعتهم; باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهما من الفضة، ثم أتوا بيوسف إلى مصر. و (دراهم) بدل من الثمن. و (المعدود)، كناية عن القليل; لأن الكثير يوزن عندهم. و(الزهد) فيه بمعنى الرغبة عنه.

    فوائد:

    قال في (الإكليل)، استنبط الناس من هذه الآية أحكام اللقيط، فأخذوا منها أن اللقيط يؤخذ ولا يترك. ومن قوله: (هذا غلام) أنه كان صغيرا، وأن الالتقاط خاص به، فلا يلتقط الكبير، وكذا قوله: وأخاف أن يأكله الذئب لأن ذلك أمر يختص بالصغار. ومن قوله: وشروه بثمن بخس أن اللقيط يحكم بحريته، وأن ثمن الحر حرام. قال بعضهم: وجه الاستدلال لأنهم باعوه بثمن حقير لكونه لقيطا، وهو لا يملك; إذ لو ملك استوفوا ثمنه.

    قال بعض الزيدية، ورد هذا الاستدلال بأن فعلهم ليس شريعة. وأما الآن فلا شبهة أن ظاهر اللقيط الحرية، كما أن ظاهره الإسلام. اهـ.

    قال المهايمي: ومن الفوائد أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب، وأنه ينتظر للشدة. وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره. وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه. وأن البشرى قد يعقبها الحزن، والعزة قد يعقبها الذلة. وبالعكس. اهـ.
    [ ص: 3524 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 21 ] وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

    وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا يخبر تعالى عن لطفه بيوسف، إذ يسر له من اشتراه في مصر، فاعتنى به، وأوصى أهله، وتوسم فيه الخير والصلاح. ومعنى أكرمي مثواه اجعلي مقامه حسنا مرضيا. و (المثوى) محل الثواء، وهو الإقامة.

    قال الشهاب: وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه ; لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة، واتخاذ الفراش ونحوه، فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به. أو (المثوى) مقحم. كما يقال: المقام السامي.

    روي أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر، فأقام في بيت سيده، والعناية الربانية تحفه، والنجاح يحوطه، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به ينجحه الله تعالى على يده، فنال حظوة لديه، وأقامه قيما على كل ما يملكه، وضاعف تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته.

    وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث أي كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز وقلبه، جعلنا له تصرفا بالأمر والنهي، ومكانة رفيعة في أرض مصر، ووجاهة في أهلها، ومحبة في قلوبهم، ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك، وتفضيبيوسف إلى الرياسة العظمى.

    والله غالب على أمره أي لا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد. أو على أمر يوسف، أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة.

    [ ص: 3525 ] ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي أن الأمر كله بيده، فيأتون ويذرون زعما أن لهم شيئا من الأمر. أو لا يعلمون لطائف صنعه، وخفايا لطفه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 22 ] ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين

    ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين هذه الآية كالتي قبلها، تخللت تضاعيف نظم القصة لمعنى بديع، وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف، وثمرات مجاهداته، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته، إذ طوى له المنح في تلك المحن، وذخر له السيادة في تلك العبودية. ومعنى بلغ أشده أي زمان اشتداد جسمه وقوته.

    قال أبو عبيدة: العرب تقول: بلغ فلان أشده، إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان. و (الحكم) إما الحكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو الحكم بين الناس.

    قال الزمخشري: وفي قوله تعالى: وكذلك نجزي المحسنين تنبيه على أنه كان محسنا في عمله، متقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه.

    وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته، آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 23 ] وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون

    وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون هذا رجوع إلى شرح ما جرى على يوسف في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه، من مراودتها له وإبائه. [ ص: 3526 ] والمراودة: المطالبة. أي: طلبت منه أن يواقعها. وتعديتها بـ (عن) لتضمينها معنى المخادعة. والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز، لتقرير المراودة. فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك. قيل لامرأة: ما حملك على ما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام -كما سيأتي-.

    و (هيت) قرئت كـ (ليت وقيل وحيث)، وبكسر الهاء وبهمزة ساكنة بعدها، وفتح التاء وضمها. وهي في هذه اللغات اسم فعل بمعنى (تعال). واللام لتبيين المفعول أي المخاطب. ونقل عن الفراء أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها.

    قال ابن الأبياري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت لغة العرب والروم في (القسطاس) ونحوه.

    و (معاذ الله) منصوب على المصدر. أي: أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه، لكونه زنى وخيانة فيما اؤتمنت عليه، وضرا لمن توقع النفع، وإساءة إلى المحسن.

    قال أبو السعود: وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل! يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح، ونهاية السوء.

    وقوله: إنه ربي أحسن مثواي تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية، مما عسى أن يكون مؤثرا عندها، وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها. والضمير للشأن. وفائدة تصدير الجملة به ; الإيذان بفخامة مضمونها، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن، فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه، فيتمكن عند وروده له فضل تمكن. فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هذا، وهو ربي، أي سيدي العزيز، أحسن مثواي، أي تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه؟ وفيه إرشاد لها إلى رعاية [ ص: 3527 ] حق العزيز بألطف وجه. وقيل: الضمير لله عز وجل، و (ربي) خبر، و (إن)، و (أحسن مثواي) خبر ثان. أو هو الخبر والأول بدل من الضمير. والمعنى: أن الحال هكذا، فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟ وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل. وعلى التقديرين، ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه; إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا.

    وقوله تعالى: إنه لا يفلح الظالمون تعليل للامتناع المذكور، غب تعليل. و (الفلاح) الظفر، أو البقاء في الخير. ومعنى (أفلح) دخل فيه، كأصبح وأخواته. والمراد بـ (الظالمين) كل من ظلم، كائنا من كان، فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة، والعصاة لأمر الله تعالى، دخولا أوليا. وقيل: الزناة، لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزني بأهله. انتهى.

    وقال بعض اليمانين: ثمرات هذه الآية ثلاث:

    الأولى: أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك، ليعصمه منها، ويدخل فيه دعاء الشيطان، ودعاء شياطين الإنس، ودعاء هوى النفس.

    الثانية: أن السيد والمالك يسمى (ربا).

    الثالثة: أنه يجوز ترك القبيح لقبحه، ورعاية حق غيره، وخشية العار، أو الفقر، أو الخوف، ونحو ذلك. ولا يقال: التشريك غير مفيد في كونه تاركا للقبيح، وأنه لا يثاب. وتدل أيضا على لزوم حسن المكافأة بالجميل، وأن من أخل بالمكافأة عليه كان ظالما. انتهى.
    [ ص: 3528 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 24 ] ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين

    ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (الهم): يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه، وبالعزم: القصد إلى إمضائه، فهو أول العزيمة. وهذا معنى قولهم: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقد ورضا، وهو مذموم مؤاخذ به. وهم بمعنى خاطر، وحديث نفس، من غير تصميم، وهو غير مؤاخذ به. لأن خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان.

    روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به » . ورواه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

    فمعنى قوله تعالى: ولقد همت به أي بمخالطته، أي: قصدتها وعزمت عليها عزما جازما، لا يلويها عنه صارف، بعد ما باشرت مبادئها من المراودة، وتغليق الأبواب، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها: هيت لك مما اضطره إلى الهرب إلى الباب.

    ومعنى قوله: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه أي: لولا رؤيته برهان ربه لهم بها، كما همت به، لتوفر الدواعي. ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء.

    [ ص: 3529 ] قال أبو حيان: ونظيره (قارفت الإثم لولا أن الله عصمك). ولا نقول: إن جواب (لولا) يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه. لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله. انتهى.

    فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهم أصلا. وقيل: جواب (لولا) لغشيها ونحوه. فمعنى (الهم) حينئذ ما قاله الإمام الرازي: من أنه خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع. كالصائم في الصيف. يرى الماء البارد، فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه. وكالمرأة الفائقة حسنا وجمالا، تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة، وبين النفس والعقل، مجاذبة ومنازعة. (فالهم) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة. وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد، كانت القوة على لوازم العبودية أكمل. انتهى.

    وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها، بمقتضى الطبيعة البشرية، وشهوة الشباب وقرمه، ميلا جبليا، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصدا اختياريا، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له، ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين؟ وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه -عليه السلام- تسجيلا محكما؟ وإنما عبر عنه بالهم; لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر، بطريق المشاكلة، لا لشبهه به كما قيل. ولقد أشير إلى تباينهما، حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير، بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة، أو هم كل منهما بالآخر. وصدر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي، وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عز وجل: لولا أن رأى برهان ربه أي حجته الباهرة، الدالة على كمال قبح الزنى، وسوء سبيله. والمراد برؤيته لها كمال إيقانه، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين. وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى [ ص: 3530 ] بموجب ذلك البرهان النير، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون، وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه.
    وجواب (لولا) محذوف، يدل عليه الكلام. أي: لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي، ولكن حيث كان مشاهدا له من قبل; استمر على ما هو عليه من قضية البرهان. وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة، بل لمحض العفة والنزاهة، مع وفور الدواعي الداخلية، وترتيب المقدمات الخارجية، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية. انتهى.

    فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس، وخواطر الشهوة الجبلية، ولكنهم معصومون من طاعتها، والانقياد إليها. ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا إما ملائكة أو عالما آخر، ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي، لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعا. والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى; لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية ليس عملا، وأما الترك مع الداعية، فهو كف النفس عما تتشوف إليه فهو عمل نفسي.

    وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها ; لئلا يكونوا قدوة سيئة، مفسدين للأخلاق والآداب، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع. وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #409
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3531 الى صـ 3545
    الحلقة (408)




    هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات، ما تلقفوه من أهل الكتاب، ومن المتصولحين، من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام، في همه، التي أنزه تأليفي عن نقلها، بردها. وكلها -كما قال العلامة أبو السعود- خرافات وأباطيل، تمجها الآذان، وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفقها، أو سمعها وصدقها. وسبقه [ ص: 3531 ] الزمخشري، فجود الكلام في ردها، فلينظر، فإنه مما يسر الواقف عليه.

    و (السوء): المنكر والفجور والمكروه. (والفحشاء): ما تناهى قبحه.

    قال أبو السعود: وفي قوله تعالى: لنصرف عنه إلخ آية بينة وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية، ولا توجه إليها قط، وإلا لقيل: لنصرفه عن السوء والفحشاء. وإنما توجه إليه ذلك من خارج، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة. فتأمل.

    و (المخلصين) قرئ بكسر اللام، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح أي الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم.

    قال الشهاب: قيل: إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته عليه السلام. فشهد الله تعالى بقوله: لنصرف إلخ، وشهد هو على نفسه بقوله: هي راودتني ونحوه، وشهدت امرأة العزيز بقولها: ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وسيدها بقوله: إنك كنت من الخاطئين وإبليس بقوله: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فتضمن إخباره بأنه لم يغوه. ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص. انتهى. عفا الله عنهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 25 ] واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم

    واستبقا الباب متصل بقوله: ولقد همت به إلخ، وقوله: كذلك إلخ، اعتراف جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته. والمعنى: ولقد همت به، وأبى هو، واستبقا الباب، أي قصد كل سبق الآخر إلى الباب; فيوسف عليه السلام ليخرج، وهي لتمنعه من الخروج، ووحد (الباب) هنا مع جمعه أولا; لأن المراد بالباب البراني الذي منه المخلص.

    [ ص: 3532 ] وقدت قميصه من دبر أي اجتذبته من خلفه فانقد، أي انشق قميصه.

    وألفيا سيدها لدى الباب أي صادفا بعلها ثمت قادما.

    قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم تبرئة لساحتها، وإغراء عليه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 26 ] قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين

    قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين لأن قده منه أمارة الدفع عن نفسها به، أو تعثره في مقادم قميصه بسبب إقباله عليها، فقد لإسراعه خلفها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 27 ] وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين

    وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين لأنه أمارة إدباره عنها بسبب أنها تبعته، واجتذبت ثوبه إليها فقدته.

    ومن اللطائف ما قيل: إن هذا الشاهد أراد ألا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر، فنصبه أمارة لصدقه وكذبها. ثم ذكر القسم الآخر، وهو قده من قبل، على علم بأنه لم ينقد من قبل حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة، وقصد الفضيحة، وينصفهما جميعا، فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه، كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده. ومن ثم قدم أمارة على صدقها، على أمارة صدقه في الذكر; إزاحة للتهمة، ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة، فلا يضره تأخيرها. وهذه اللطيفة بعينها -والله أعلم- [ ص: 3533 ] هي التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله: وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم فقدم قسم الكذب على قسم الصدق، إزاحة للتهمة التي خشي أن تتطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه، هو الواقع، فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة، ومن ثم قال: بعض الذي يعدكم ولم يقل: كل ما يعدكم، تعريضا بأنه معهم عليه، وأنه حريص على أن يبخسه حقه، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام، لكشف وعاء أخيه الآتي ذكره، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه -والله أعلم-.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 28 ] فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم

    فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يعني بالكيد: الحيلة والمكر. وإنما استعظم كيدهن; لأنه ألطف وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولهن فيه نيقة ورفق، وبذلك يغلبن الرجال.

    تنبيه:

    قال ابن الفرس: يحتج بالآية من يرى الحكم بالأمارات والعلامات، فيما لا تحضره البينات، كاللقطة، والسرقة، والوديعة، ومعاقد الحيطان، والسقوف وشبهها.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 29 ] يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين

    يوسف أعرض عن هذا نودي بحذف حرف النداء، لقربه وكمال تفطنه للحديث.

    [ ص: 3534 ] أي: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر واكتمه، ولا تحدث به.

    واستغفري لذنبك أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قذفه بما هو بريء منه.

    إنك كنت من الخاطئين أي من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال: خطئ إذا أذنب متعمدا، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد. ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب. وإيثار جمع السالم تغليبا للذكور على الإناث. ودل هذا على أن العزيز كان رجلا حليما; إذ اكتفى من مؤاخذتها بهذا المقدار.

    قال ابن كثير: أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه. ويقال: إنه كان قليل الغيرة.

    قال الشهاب: وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام.

    وقال أبو حيان: إنه مقتضى تربة مصر. انتهى.

    وقد تقرر لدى المحققين أن لاختلاف أحوال العمران في الخصب والجدب، وأقاليمه في الحرارة والبرودة وتوابعها -أثرا في أخلاق البشر وأبدانهم- انظر المقدمة الرابعة والخامسة من (مقدمة ابن خلدون).

    ثم ذكر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة -وهي مصر- بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 30 ] وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين

    وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه العزيز: الأمير، مأخوذ من (العز) وهو الشدة والقهر، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية.

    قد شغفها حبا أي خرق حبه شغاف قلبها، حتى وصل إلى الفؤاد، و (الشغاف) كسحاب: حجاب القلب.

    [ ص: 3535 ] إنا لنراها في ضلال مبين أي في خطأ عن طريق الرشد والصواب. وإقحام الرؤية; للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 31 ] فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم

    فلما سمعت بمكرهن أي اغتيابهن، وسوء قالتهن. استعير (المكر) لـ (الغيبة) لشبهها له في الإخفاء أو (المكر) على حقيقته، وكن قلن ذلك لتريهن يوسف.

    أرسلت إليهن أي تدعوهن للضيافة، مكرا بهن، وأعتدت أي أحضرت وهيأت: لهن متكأ أي: ما يتكئن عليه من الوسائد، وآتت كل واحدة منهن سكينا أي ليعالجن بها ما يأكلن من الفواكه ونحوها. وقالت أي ليوسف اخرج عليهن أي ابرز إليهن.

    قال الزمخشري: قصدت بتلك الهيئة -وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن- أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهن، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها; لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، فتبكتهن بالحجة، وقد كان ذلك كما قال تعالى: فلما رأينه أكبرنه أي أعظمنه، وهبن حسنه الفائق، وقطعن أيديهن أي جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها. وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم حاش: أصله حاشا، وحذفت ألفه تخفيفا، وبها قرأ أبو عمرو في الدرج، أي تنزيها له سبحانه عن صفات النقص والعجز، [ ص: 3536 ] وتعجبا من قدرته على مثل ذلك الصنع البديع. وإنما نفين عنه البشرية لغرابة جماله، وأثبتن له الملكية، على نهج القصر، بناء على ما ركز في الطباع ألا أحسن من الملك، كما ركز فيها ألا أقبح من الشيطان. ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 32 ] قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين

    قالت فذلكن الذي لمتنني فيه أي في الافتتان به، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي امتنع، طالبا للعصمة، مستزيدا منها.

    قال الزمخشري: الاستعصام بناء مبالغة، يدل على الامتناع البليغ، والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة، وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه: استمسك، واستوسع الفتق، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام، لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو، مما فسروا به الهم والبرهان. انتهى.

    ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن أي ليعاقبن بالسجن والحبس: وليكونا من الصاغرين أي الأذلاء المهانين.

    ولما سمع يوسف تهديدها:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 33 ] قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين

    قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه أي من مواتاتها; لأنه مشقة قليلة، [ ص: 3537 ] تعقبها راحات أبدية. ثم فزع إلى الله تعالى في طلب العصمة بقوله: وإلا تصرف عني كيدهن يعني: ما أردن مني أصب إليهن أي أمل إلى إجابتهن بمقتضى البشرية وأكن من الجاهلين أي بسبب ارتكاب ما يدعونني إليه من القبيح.

    قال أبو السعود: هذا فزع منه، عليه السلام، إلى ألطاف الله تعالى. جريا على سنن الأنبياء والصالحين، في قصر نيل الخيرات، والنجاة من الشرور، على جناب الله عز وجل، وسلب القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة، وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن. انتهى.

    قال القاشاني: وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أبدا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 34 ] فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم

    فاستجاب له ربه أي: أجاب له دعاءه فصرف عنه كيدهن أي أيده بالتأييد القدسي، فصرفه إلى جناب القدس، ودفع عنه بذلك كيدهن: إنه هو السميع أي لدعاء المتضرعين إليه، العليم أي بما يصلحهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 35 ] ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين

    ثم بدا لهم أي ظهر للعزيز وأهله، من بعد ما رأوا الآيات أي الشواهد على براءته، ليسجننه حتى حين أي إلى مدة يرون رأيهم فيها.
    [ ص: 3538 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 36 ] ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين

    ودخل معه السجن فتيان روي أنهما غلامان كانا لفرعون مصر، أحدهما رئيس سقاته، والآخر رئيس طعامه، غضب عليهما فحبسهما، فكانا مع يوسف. ثم رآهما يوما وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فذكرا له أنهما رأيا رؤيا غمتهما، وليس لهما من يعبرها. فقال لهما: أليس التأويل لله؟ قصا علي! فذلك قوله تعالى: قال أحدهما وهو صاحب شرابه: إني أراني أعصر خمرا أي عنبا، تسمية للعنب بما يؤول إليه، أو الخمر بلغة عمان: اسم للعنب، وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأن بين يدي وعاء فيه ثلاثة قضبان عنب، ثم نضجت عناقيدها وصارت عنبا، وكانت كأس فرعون في يدي، فأخذت العنب، وعصرته في الكأس، وناولتها لفرعون.

    وقال الآخر وهو صاحب طعامه: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه وذلك أنه قال له: رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال حوارى، والطير تأكل من السلة العليا فوق رأسي.

    نبئنا بتأويله أي أخبرنا بتفسير ما رأينا، وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا إنا نراك من المحسنين أي الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أو من المحسنين إلى أهل السجن، تداوي مريضهم، وتعزي حزينهم، وتوسع على فقيرهم، فأحسن إلينا بكشف غمتنا، إن كنت قادرا على ذلك.

    ثم أشار، عليه السلام، لهما بأن ما رأياه سهل التأويل، لوجود مثاله في المنام، وأن له علما فوقه، وهو أنه يبين لهما كل جليل ودقيق من الأمور المستقبلة، وإن لم يكن هناك [ ص: 3539 ] مقدمة المنام، حتى إن الطعام الموظف الذي يأتيهما كل يوم، يبينه لهما قبل إتيانه، وإن ذلك ليس من باب الكهانة، بل من الفضل الرباني لمن يصطفيه بالنبوة، وهذا معنى قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 37 ] قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون

    قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما أي قبل أن يصلكما. والمراد بالطعام: ما يبعث إلى أهل السجن. وتأويله ذكر ما هو، بأن يقول: يأتيكما طعام كيت وكيت، فيجدانه كذلك. وحقيقة (التأويل): تفسير الألفاظ المراد منها خلاف ظاهرها ببيان المراد.

    قال أبو السعود: فإطلاقه على تعيين ما سيأتي من الطعام، إما بطريق الاستعارة. فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل، بالنظر إلى ما رئي في المنام، وشبيه له. وإما بطريق المشاكلة، حسبما وقع في عبارتهما من قولهما: نبئنا بتأويله ومراده عليه السلام بذلك: بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها. وإنما تخصيص الطعام بالذكر ; لكونه عريقا في ذلك، بحسب الحال، مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيتين المتعلقتين بالشراب والطعام.

    ذلكما أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات مما علمني ربي أي بالوحي والإلهام، لا من التكهن والتنجيم. وفيه إشعار بأن له علوما جمة، ما سمعاه شذرة من جواهرها. وقوله تعالى: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون
    [ ص: 3540 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 38 ] واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون

    واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه الجملة إما مسوقة لبيان علة تعليم الله له بالوحي والإلهام، أي خصني بذلك لترك الكفر، وسلوك طريق آبائي المرسلين، أو كلام مستأنف، ذكر تمهيدا للدعوة، وإظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به، والمراد بتركه ملة الكفر الامتناع عنها رأسا، كما يفصح عنه قوله: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء أي ما صح ولا استقام ذلك لنا، فضلا عن الوقوع. وإنما عبر عنه بذلك ; لكونه أدخل بحساب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام، والتخصيص بهم مع أن الشرك لا يصح من غيرهم أيضا; لأنه يثبت بالطريق الأولى. أو المراد نفي الوقوع منهم لعصمتهم. وتكرير (هم) للدلالة على اختصاصهم، وتأكيد كفرهم بالآخرة، وزيادة (من) في المفعول، أعني " من شيء" ; لتأكيد العموم، أي لا نشرك به شيئا من الأشياء، قليلا أو حقيرا، صنما أو ملكا أو جنيا أو غير ذلك.

    وقوله: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس يعني عدم الإشراك بالله، وهو التوحيد، من نعم الله العامة، التي يجب شكره تعالى على الهداية لها بالفطر السليمة، ونصب الدلائل الأنفسية والآفاقية.
    ثم بين أن أكثر الناس نبذوا هذه النعمة بعد ما حق عليهم شكرها.

    ولما ذكر، عليه السلام، ما هو عليه من الدين القويم، تلطف في الاستدلال على بطلان ما عليه قومهما من عبادة الأصنام، فضرب لهما مثلا يتضح به الحق حق اتضاح، بقوله:

    [ ص: 3541 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 39 ] يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار

    يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار وصفهما بالصحبة الضرورية المقتضية للمودة، وبذل النصيحة. أي: يا صاحبي فيه. فجعل الظرف توسعا، مفعولا به. أي: أأرباب شتى تستعبد الناس خير لهم، أم أن يكون لهم رب واحد قهار لا يغالب؟!.

    قال بعضهم: دلت الآية على أن الشرع كما جاء مطالبا بالاعتقاد، جاء هاديا لوجه الحسن فيه. وذلك أن هذه الآية تشير إشارة واضحة إلى أن تفرق الآلهة يفرق بين البشر في وجهة قلوبهم إلى أعظم سلطان يتخذونه فوق قوتهم. وهو يذهب بكل فريق إلى التعصب لما وجه قلبه إليه، وفي ذلك فساد نظامهم كما لا يخفى. أما اعتقاد جميعهم بإله واحد، فهو توحيد لمنازع نفوسهم إلى سلطان واحد، يخضع الجميع لحكمه، وفي ذلك نظام أخوتهم، وهي قاعدة سعادتهم. فالشرع جاء مبينا للواقع في أن معرفة الله بصفاته، حسنة في نفسها، فهو ليس محدث الحسن. انتهى.

    وفي قوله: أأرباب متفرقون إشارة إلى ما كان عليه أهل مصر لعهده عليه السلام، من عبادة أصنام شتى.

    يقول بعضهم: كما أن مصر كانت تغلبت في العلوم والسلطة، كذلك في عبادة الأصنام، فإن أهلها فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض.
    [ ص: 3542 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 40 ] ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون

    ما تعبدون من دونه أي من دون الله إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم يعني أنكم سميتم، ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها: ما أنـزل الله بها من سلطان أي حجة تدل على صحتها إن الحكم أي في أمر العبادة والدين إلا لله لأنه مالك، وهو لم يحكم بعبادتها; لأنه أمر ألا تعبدوا إلا إياه لأن العبادة غاية التذلل، فلا يستحقها إلا من له غاية العظمة، ذلك أي التوحيد الدال على كمال عظمة الله، بحيث لا يشاركه فيها غيره الدين القيم أي الحق المستقيم الثابت، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي لجهلهم، ولذا كان أكثرهم مشركين.

    تنبيه:

    لا يخفى أن قوله تعالى: قال لا يأتيكما طعام إلى هنا، مقدمة لجواب سؤالهما عن تعبير رؤياهما، مهد، عليه السلام بها له ليدعوهما إلى التوحيد، ليزدادا علما بعظم شأنه، وثقة بأمره، توسلا بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه من هدايتهما، لا سيما وأن أحدهما ستعاجله منيته بالصلب، فرجا أن يختم له بخير.

    قال الزمخشري: لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان، ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله. وهذه طريقة، على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة [ ص: 3543 ] إذا استفتاه واحد منهم، أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة الحسنة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به، وأوجب عليه مما استفتي فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه: أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم، فوصف نفسه بما هو بصدده -وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية. انتهى.

    وبعد تحقيق الحق، ودعوتهما إليه، وبيانه لهما مرتبة علمه، شرع في تفسير ما استفسراه. ولكونه بحثا مغايرا لما سبق، فصله عنه بتكرير الخطاب فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 41 ] يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان

    يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا أي يخرج من السجن، ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه أي فيقتل ويعلق على خشبة، فتأكل الطير من لحم رأسه.

    قضي الأمر الذي فيه تستفتيان أي قطع وتم ما تستفتيان فيه. يعني: مآله، وهو نجاة أحدهما، وهلاك الآخر. والتعبير عنه بـ (الأمر)، وعن طلب تأويله بـ (الاستفتاء) تهويلا لأمره، وتفخيما لشأنه، إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم، المبهمة الجواب، وإيثار صيغة الاستقبال، مع سبق استفتائهما في ذلك، لما أنهما بصدده، إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره.
    [ ص: 3544 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 142 ] وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين

    وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك أي: قال يوسف للذي علم نجاته من الفتيين، أي خلوصه من السجن والقتل، وهو الساقي: اذكرني عند ربك أي اذكر حالي وصفتي، وعلمي بالرؤيا، وما جرى علي، عند الملك سيدك، عسى يخلصني مما ظلمت به.

    و (الظن) بمعنى العلم واليقين، ورد كثيرا، والتعبير به إرخاء للعنان، وتأدب مع الله تعالى. وقيل: الظن بمعناه المعروف، بناء على أن تأويل يوسف بطريق الاجتهاد، والحكم بقضاء الأمر اجتهادي أيضا، والأول أنسب بالسياق.

    تنبيه:

    دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة، ولو مشركا. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى وقوله حكاية عن عيسى: من أنصاري إلى الله وفي الحديث: « والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه » . وجلي أن ذلك من نظام الكون، والعمران البشري، ولذلك ميز الإنسان بالنطق.

    وأما ما رواه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: لو لم يقل - يعني يوسف- الكلمة التي قال، ما لبث في السجن طول ما لبث، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى- فقال الحافظ ابن كثير: حديث ضعيف جدا، وذكر من رجاله الضعفاء راويين سماهما. ثم قال: [ ص: 3545 ] وروي أيضا مرسلا عن الحسن وقتادة. قال: وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل، لو قبل المرسل من حيث هو، في غير هذا الموطن -والله أعلم- انتهى. ولقد أجاد وأفاد عليه الرحمة.

    وقوله تعالى: فأنساه الشيطان ذكر ربه يعني: فشغله الشيطان حتى نسي ذكر يوسف عند الملك. فلبث أي مكث يوسف في السجن بضع سنين أي طائفة منها.

    ولأهل اللغة أقوال في (البضع): ما بين الثلاث إلى التسع، أو إلى الخمس، أو ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، يعني ما بين الواحد إلى الأربعة. وقيل غير ذلك.

    ولما دنا الفرج من يوسف عليه السلام، برحمته تعالى، ما هيأه من الأسباب; رأى فرعون مصر هذه الرؤيا التي أشار إليها تعالى بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 43 ] وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون

    وقال الملك أي لملئه: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي هالكات من الهزال. جمع عجفاء، بمعنى المهزولة، ضد السمينة، وسبع سنبلات أي وأرى رؤيا ثانية سبع سنبلات خضر وأخر يابسات أي وسبعا أخر يابسات دقيقة، أي: نبتت وراءها، فابتلعت السنابل الخضر الممتلئة، وإنما استغنى عن عددها وإعدامها للخضر، للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات لأنها نظيرتها.

    وقوله: يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون خطاب للأشراف من قومه، وكان دعا إثر استيقاظه سحرة مصر وحكماءها، وقص عليهم رؤياه هذه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #410
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3546 الى صـ 3560
    الحلقة (409)



    [ ص: 3546 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 44 ] قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين

    قالوا أي الملأ للملك أضغاث أحلام أي تخاليطها. جمع (ضغث). وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات وحزم، ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس، ووساوس الشيطان، وتريها في المنام. و (الأحلام) جمع (حلم)، وهو ما يراه النائم، فهو مرادف للرؤيا، إلا أنها غلبت في رؤيا الخير، والشيء الحسن، وغلب الحلم على خلافه. وفي الحديث: « الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان » .

    قال التوربشتي: الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا، والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع للفصل بين الحق والباطل، كأنه كره أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد، فجعل الرؤيا عبارة عن الصالح منها، لما في الرؤيا من الدلالة على المشاهدة بالبصر أو البصيرة، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان، لأن أصل الكلمة لم يستعمل إلا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة، مما لا حقيقة له. انتهى.

    والمراد بالجمع في (الأحلام) ما فوق الواحد، لأنهما حلمان، رأى كل واحد منهما إثر استيقاظه منه، كما روي، وفهم بعضهم أنه حلم واحد، فالتمس للجمع نكتة فقال: إما المبالغة في وصفه بالبطلان، أو تضمنه أشياء مختلفة، ولا حاجة إليه، كما بينا.

    وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين يحتمل أن يريدوا بـ (الأحلام) المنامات الباطلة خاصة. أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للرؤيا الصادقة. وأن يعترفوا بقصور علمهم، وأنهم ليسوا في التعبير بنحارير.

    قال الناصر: وهذا هو الظاهر. وحمل الكلام على الأول يصيره من وادي:


    على لاحب لا يهتدى بمناره


    [ ص: 3547 ] كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة، فنكون به عالمين. وقول الملك لهم أولا: إن كنتم للرؤيا تعبرون دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأنه أتى بكلمة الشك، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين بالرؤيا أو لا. وقول الفتى: أنا أنبئكم بتأويله إلى قوله: لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون دليل أيضا على ذلك -والله أعلم-.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 45 ] وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون

    وقال الذي نجا منهما أي من صاحبي السجن، وهو الساقي: وادكر بعد أمة أي تذكر بعد مدة، وكان تذكره، على ما روي، بعد سنتين أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به بالتلقي عمن عنده علمه، لا من تلقاء نفسي، ولذلك لم يقل: أنا أفتيكم فيها، وعقبه بقوله فأرسلون أي فابعثوني إلى يوسف، وإنما لم يذكره ; ثقة بما سبق من التذكر، وما لحق من قوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 46 ] يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون

    يوسف أيها الصديق أي أرسل إليه، فأتاه فقال: يا يوسف! ووصفه بالمبالغة في الصدق، حسبما ذاق أحواله، وتعرف صدقه في تأويل رؤياه، ورؤيا صاحبه، حيث جاء كما أول، لكونه بصدد اغتنام معارفه، فهو من باب براعة الاستهلال أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات أي في [ ص: 3548 ] تأويل رؤيا ذلك. ولم يغير لفظ الملك; لأن التعبير يكون على وفقه، كما بينوه. وفي قوله أفتنا مع أنه المستفتي وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له، بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة، وأنه في ذلك معبر وسفير، كما آذن بذلك قوله: لعلي أرجع إلى الناس أي إلى الملك ومن عنده لعلهم يعلمون أي ذلك: فيعملون بمقتضاه، أو يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك. وإنما لم يبت الكلام، بل قال (لعلي) و (لعلهم) مجاراة معه على نهج الأدب، واحترازا عن المجازفة; إذ لم يكن على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه.

    لعل المنايا دون ما تعداني
    ولا من علمهم بذلك، فربما لم يعلموه -أشار إليه أبو السعود-.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 47 ] قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون [ 48 ] ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون [ 49 ] ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون

    قال أي يوسف له في تأويلها تزرعون سبع سنين دأبا أي دائبين مواظبين كل عام منها فما حصدتم أي من الزرع فذروه في سنبله أي لا تدرسوه، فإنه أبقى له إلا قليلا مما تأكلون أي في تلك السنين، يعني بقدر ما تأكلون.

    ثم يأتي من بعد ذلك أي السبع المذكورات سبع شداد أي سبع سنين صعاب على الناس، لقوة القحط يأكلن ما قدمتم لهن أي ما رفعتم لهن من الحبوب [ ص: 3549 ] المتروكة في سنابلها. ولما عبر عن البقرات بالسنين; نسب الأكل إلى السنين، كما رأى في الواقعة البقرات يأكلن حتى يحصل التطابق بين المعبر وهو المرئي في المنام، والمعبر به، وهو تأويله. ولا يتعين المجاز العقلي -أي يؤكل فيها- كما في: (نهاره صائم) لجواز أن يكون مشاكلة حينئذ. إلا قليلا مما تحصنون أي تحرزون وتخبئون للزراعة.

    ثم يأتي من بعد ذلك أي السنين الموصوفة بالشدة، وأكل الغلال المدخرة عام فيه يغاث الناس أي يمطرون من الغيث، أو يغاثون من القحط، أو يرفع عنهم مكروهه من الغوث وفيه يعصرون أي ما كانوا يعصرونه على عادتهم من عنب وزيتون ونحوهما.

    قال أبو السعود: والتعرض لذكر (العصر)، مع جواز الاكتفاء عنه بذكر (الغيث) المستلزم له عادة، كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم في الحبوب، إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب، إذ المذكورات يتوقف صلاحها على مبادئ أخر غير المطر. وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به، بشارة له، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس، في القراءة بالفوقانية. وقيل: معنى (يعصرون) يحلبون الضروع. انتهى.

    واللفظ بعموم معناه يشمله، لأن الحلب فيه عصر الضرع ليخرج الدر.

    قال الزمخشري: تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر: بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركا خصيبا، كثير الخير، غزير النعم، وذلك جهة الوحي.

    تنبيه:

    قال في (الإكليل): هذه الآية من أصول التعبير. وفيها أيضا صحة رؤيا الكفار، وجواز تسميته ملكا، وأن قولنا (الرؤيا لأول عابر) ليس عاما في كل رؤيا، لأنهم قالوا: [ ص: 3550 ] أضغاث أحلام ولم تسقط بقولهم ذلك، فتخص القاعدة بما يحتمل من الرؤيا وجوها، فيعبر بأحدها، فيقع عليه. وفي قوله: ثم يأتي من بعد ذلك عام إلخ، زيادة على ما وقع السؤال عنه، فيستدل به على أنه لا بأس بذلك في تعبير الرؤيا والفتوى. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 50 ] وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم

    وقال الملك ائتوني به أي أخرجوه من السجن وأحضروه، لما علم من علمه وفضله، فلما جاءه الرسول أي يستدعيه إلى الملك قال أي يوسف له: ارجع إلى ربك أي سيدك الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أي ما شأنهن وخبرهن؟ أمره بأن يسأله ويستفهمه عن ذلك، ولم يكشف له عن القصة، ولا أوضحها له; لأن السؤال مجملا، مما يهيج الملك على الكشف والبحث والاستعلام، فتحصل البراءة. وإنما كان السؤال المجمل يهيج الإنسان، ويحركه للبحث عنه. لأنه يأنف من جهله وعدم علمه به، ولو قال: سله أن يفتش عن ذلك، لكان طلبا للفحص عنه، وهو مما يتسامح ويتساهل به، وفيه جرأة عليه، فربما امتنع منه، ولم يلتفت إليه.

    قال الزمخشري: إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة; ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه; لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا: ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم وجرم كبير، حق به أن يسجن ويعذب، ويستكف شره. وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها. قال عليه السلام: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن [ ص: 3551 ] مواقف التهم » . ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمارين به في معتكفه، وعنده بعض نسائه: « هي فلانة » ; اتقاء للتهمة.

    وعن النبي صلى الله عليه وسلم: « لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت; لأسرعت الإجابة، وبادرتهم الباب، ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة » . انتهى.

    رواه عبد الرزاق في مصنفه مرسلا عن عكرمة.

    وقد روي في المسند والصحيحين مختصرا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي » . مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأناة، وكان في طي هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم أنه هم بامرأة العزيز هما يؤاخذ به; لأنه إذا صبر وتثبت فيما له ألا يصبر فيه، وهو الخروج من السجن، مع أن الدواعي متوافرة على الخروج منه; فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر- أفاده الناصر.

    قال أبو السعود: وإنما لم يتعرض لامرأة العزيز، مع ما لقي منها ما لقي، من مقاساة [ ص: 3552 ] الأحزان; محافظة على مواجب الحقوق، واحترازا عن مكرها، حيث اعتقدها مقيمة في عدوة العداوة. وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق، وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي، ولم يصرح بمراودتهن له، وقولهن (أطع مولاتك) واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: إن ربي بكيدهن عليم يعني ما كدنه به، وفي إضافة علمه إلى الله إشارة إلى عظمه، وأن كنهه غير مأمول الوصول إليه، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. وفيه تشويق وبعث على معرفته، فهو تتميم لقوله: " اسأل" ، ودلالة على أنه بريء مما قرف به; للاستشهاد بعلمه تعالى عليه. وفيه الوعيد لهن على كيدهن، وأنه تعالى مجاز عليه، وقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 51 ] قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين .

    قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملك: ما خطبكن -أي شأنكن- إذ راودتن يوسف يوم الضيافة؟ يعني: هل وجدتن منه ميلا إليكن؟.

    قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي: قبيح، بالغن في نفي جنسه عنه بالتنكير، وزيادة (من): قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أي ثبت واستقر وظهر بعد خفائه، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين أي في قوله: هي راودتني عن نفسي

    قال الزمخشري: ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة، والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن، بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به; لأنهن خصومه. وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق، وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. انتهى.


    والفضل ما شهدت به الأعداء
    [ ص: 3553 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 52 ] ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين

    ذلك تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة.

    وأن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا يرضاه ولا يسدده.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 53 ] وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم

    وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم تريد: وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته. أو تعني: أني ما أبرئ نفسي من الخيانة، فإني قد خنته حين قرفته وقلت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن ؟ وأودعته السجن، تريد الاعتذار مما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء، إلا نفسا رحمها الله بالعصمة، كنفس يوسف.

    ثم إن تأويل قوله تعالى: ذلك ليعلم الآية -على أنه حكاية قول امرأة العزيز- قال ابن كثير: هو القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة، ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة. وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سواه. والمعنى: ذلك التثبت والتأني والتشمر لظهور البراءة; ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه; لأن المعصية خيانة. ثم أكد أمانته بقوله: [ ص: 3554 ] وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وأنه لو كان خائنا لما هدى الله عز وجل أمره، أي: سدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى، حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه، ثم أراد أن يتواضع لله، ويهضم نفسه; لئلا يكون لها مزكيا، وبحالها في الأمانة معجبا ومفتخرا، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: وما أبرئ نفسي أي لا أنزهها من الزلل، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، فإن النفس البشرية تأمر بالسوء، وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ.

    هذا خلاصة ما قرروه على أنه من كلام يوسف. قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر; لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك -والله أعلم-.

    لطائف:

    الأولى: محل قوله: (بالغيب) الحال من الفاعل أو المفعول، على معنى- وأنا غائب أو غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفي عن عيني- أو هو ظرف، أي بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب.

    الثانية: قيل معنى لا يهدي كيد الخائنين أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة; لأنه إذا لم يهد السبب، علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى.

    وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم، كقوله تعالى: يضاهئون قول الذين كفروا أي: في قولهم.

    [ ص: 3555 ] وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده.

    الثالثة: قال في (الإكليل): وما أبرئ نفسي أصل في التواضع، وكسر النفس وهضمها.

    الرابعة: قال الزمخشري: لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة -ثم ساقها- وقال: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله.

    قال الناصر: ولقد صدق في التوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة. ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.

    الخامسة: رأيت لابن القيم في (الجواب الكافي ) في عجيب صبر يوسف وعفته، مع الدواعي من وجوه. قال عليه الرحمة، بعد أن مهد مقدمة في مفاسد عشق الصور العاجلة والآجلة: إنها أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله تعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف، وما راودته، وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف، لصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه. فإن موافقة الفعل، بحسب قوة الداعي، وزوال المانع، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة وذلك لوجوه:

    أحدها: ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالا، بل يحمد.

    الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شابا، وشهوة الشباب وحدته أقوى.

    الثالث: أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة.

    الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه، وبين أهله ومعارفه.

    [ ص: 3556 ] الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.

    السادس: أنها غير آبية ولا ممتنعة، فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها; لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حب، كما قال الشاعر:


    وزادني كلفا في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا


    فطباع الناس مختلفة في ذلك، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها، وتضمحل عند إبائها وامتناعها، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع، ويشتد شوقه بكل ما منع، ويحصل له من اللذة بالظفر نظير ما يحصل من لذة الظفر بعد امتناعه ونفاره. واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها، وشدة الحرص على إدراكها.

    السابع: أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد، فكفته مؤنة الطلب، وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.

    الثامن: أنه في دارها، وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى، إن لم يطاوعها، من أذاها له، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.

    التاسع: أنه لا يخشى أن تنمى عليه هي، ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب، وغيبت الرقباء.

    العاشر: أنه كان مملوكا لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها، ولا ينكر عليه، وكان الأنس سابقا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة من العرب: ما حملك على كذا؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي، وطول السواد بيننا.

    الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن، وشكت [ ص: 3557 ] حالها إليهن; لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين

    الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه; إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة، من ضيق السجن والصغار.

    الثالث عشر: إن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: " أعرض عن هذا " ، وللمرأة: /" استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " ، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهنا لم يظهر منه غيرة.

    ومع هذه الدواعي فآثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى، فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه، وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة. انتهى كلام ابن القيم.

    ثم أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره، وإعلاء منزلته برحمته بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 54 ] وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين

    وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي أي أخصه بها، دون العزيز، جريا على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز. قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه، وكرم [ ص: 3558 ] نفسه، وسعة علمه: فلما كلمه أي فلما أتوا به وكلمه، أي خاطبه الملك وعرفه، وشاهد فضله وحكمته وبراءته -وجوز أن يكون فاعل (كلمه) يوسف عليه السلام -: قال إنك اليوم لدينا مكين أي ذو مكانة ومنزل أمين أي مؤتمن على كل شيء.

    روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك، وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته، وقال لهم: هل نجد مثله رجلا مهبطا للإمداد الرباني؟ وقال ليوسف: بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك، وأنت على بيتي، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي، وقد أقمتك على جميع أرض مصر. ونزع خاتمه من يده، ووضعه في إصبعه، وألبسه ثياب بز، وجعل طوقا من ذهب في عنقه وأركبه مركبته، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر، وينادى أمامه بالخضوع له، وقال له الملك: لا يمضي أمر، ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك، وسماه مخلص العالم، وزوجه بنت أحد العظماء لديه. وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة -والله أعلم-.

    قال بعضهم: إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام، علم يقينا أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه، بل يحسن عاقبته، ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى حدثان الدهر وتجاربه، ولا يخاف صروفه ونوائبه، فإن الله يعضده وينجح مسعاه ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار. فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيدا ولا للتجارب تهديدا. ولم يخف للسجن ظلما وشرا، ولا للتنكيل به ألما وضرا، بل ألقى توكله على الرب، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب; نال بطهارته وتقواه تاج الفخر ولسان الصدق طول أيام الدهر. وها إن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام، بل ادخرت لنا مثالا نقتفي أثره عند طروء التجارب، وملاذا نعوذ به في المحن والمصائب، ومقتدى نتدرب به على التثبت في مواقف العثار، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار. فننال في الدنيا سمة المجد، ونفوز في الآخرة بدار الخلد.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3559 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 55 ] قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم

    قال أي يوسف للملك اجعلني على خزائن الأرض أي ولني خزائن أرضك. يعني جميع الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: إني حفيظ عليم أي أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف فيه.

    قال الزمخشري: وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هم طلبة الملوك ممن يولونه.

    وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق، وبسط العدل. والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله، لا لحب الملك والدنيا.

    فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر، ويكون تبعا له، وتحت أمره وطاعته؟.

    قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم، وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر. وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق، فله أن يستظهر به.

    وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع. انتهى.

    وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه، لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم. وأصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحته، وفي أن المتولي أمرا; شرطه أن يكون عالما به، خبيرا، ذكي الفطنة. كذا في (الإكليل).

    قال أبو السعود: وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله، عليه السلام، من جعله على [ ص: 3560 ] خزائن الأرض، إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له، غني عن التصريح، ولا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها، من قوله: إنك اليوم لدينا مكين أمين وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عز وجل، وإنما الملك آلة في ذلك.

    تنبيه:

    قال ابن كثير: خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات..... إلخ.

    ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره.

    و (الأهرام) بفتح الهمزة، جمع هرم بفتحتين، وهي مبان مربعة الدوائر، مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة أميالا عن القاهرة، معدودة من غرائب الدنيا، دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام 1321 هـ. وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم.

    ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل): جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور، وتراخي العصور، وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك (خوفو) والثاني (خفرع) والثالث للملك (منقرع) وجميعهم من العائلة المنفيسية. ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب، أو مدرسة للمعارف الكهنوتية، أو غير ذلك. انتهى.

    وقوله تعالى:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #411
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3561 الى صـ 3575
    الحلقة (410)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 56 ] وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين

    وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أي أرض مصر يتبوأ منها أي ينزل [ ص: 3561 ] من بلادها حيث يشاء وذلك أنه عليه السلام لما ولاه النظر على خزائن مصر، تجول في قطرها، وطاف قراها، والأمر أمره، والإشارة إشارته، عناية منه تعالى ورحمة، كما قال: نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين أي الذين أحسنوا عملا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 57 ] ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون

    ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون أي: ثوابها خير من ثواب الدنيا للمؤمنين المتقين. إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والملك.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 58 ] وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون

    وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف. وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين، وأخرجت من بركاتها ما يعادل رمل البحر كثرة، فجمع يوسف غلالها، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول، ولما مضت هذه السبع، دخلت السنون المجدبة، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما، فأخذ الناس، من سائر البلاد، في المسير إلى مصر ليمتاروا منها، لأنفسهم وعيالهم; لما علموا من وجود القوت فيها. وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف، عن أمر أبيهم يعقوب; لتناول القحط بلادهم -فلسطين- فركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين، شقيق يوسف، خشية أن يلحقه سوء، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف. فلما هبطوا مصر، دخلوا على يوسف، ولم يعرفوه لطول العهد، ومفارقته إياهم في سن الحداثة، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، وأما هو فعرفهم. روي أنهم لما دخلوا عليه [ ص: 3562 ] سجدوا له بوجوههم إلى الأرض، تحية له، فشرع يخاطبهم متنكرا لهم، وقال: من أين قدمتم؟ قالوا: من أرض كنعان، لنبتاع طعاما. فقال لهم: أنتم جواسيس، إنما جئتم لتجسوا ثغور الأرض. قالوا: معاذ الله! ما جاء عبيدك إلا للميرة; لأن الجهد أصابنا، ونحن إخوة، بنو أب واحد. قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر، هلك منا واحد. قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال: لا بد من امتحان صدق كلامكم، فليبق واحد منكم عندي رهينة، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم، وأتوا بأخيكم الصغير إلي، ليتحقق صدقكم. ثم أخذ شمعون، واحتبسه عنده، وأذن للبقية، وأمر أن يعطوا زادا للطريق، وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 59 ] ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنـزلين

    ولما جهزهم بجهازهم بفتح الجيم، وقرئ بكسرها، أي: أوقر ركائبهم بالطعام والميرة. قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل أي أتمه وأنا خير المنـزلين أي المضيفين، وقوله ذلك، تحريض لهم على الإتيان به، لا امتنان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 60 ] فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون

    فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي أي فيما تستقبلون، ولا تقربون أي ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية. فالياء محذوفة، والنون نون الوقاية.
    [ ص: 3563 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 61 ] قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون

    قالوا سنراود عنه أباه أي سنخادعه ونحتال في انتزاعه من يده، ونجتهد في ذلك. وفيه تنبيه على عزة المطلب، وصعوبة مناله -قاله أبو السعود-: وإنا لفاعلون أي ذلك. يعنون المراودة، أو الإتيان به، فيكون ترقيا إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 62 ] وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون

    وقال لفتيانه أي لخدامه الكيالين: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم يعني ببضاعتهم، ما شروا به الطعام. روي أنها كانت فضة. أي اجعلوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون. لعلهم يعرفونها أي لكي يعرفونها، إذا انقلبوا إلى أهلهم أي وفتحوا أوعيتهم، لعلهم يرجعون أي حسبما أمرتهم به، فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين من أقوى الدواعي إلى الرجوع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 63 ] فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون

    فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل أي: أنذرنا بمنعه بعد هذا، إن لم نأت بأخينا، فأرسل معنا أخانا نكتل أي نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وقرئ (يكتل) بالتحتية أي أخونا لنفسه مع اكتيالنا، وإنا له لحافظون أي من أن يناله مكروه.
    [ ص: 3564 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 64 ] قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين

    قال أي يعقوب لهم هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل أي من قبله، يوسف. يعني: هل أقدر أن آخذ عليكم العهد والميثاق، أكثر مما أخذت عليكم في يوسف، وقد قلتم: " وإنا له لحافظون " ، ثم خنتم بضمانكم؟ فما يؤمنني من مثل ذلك؟ فلا أثق بكم، ولا بحفظكم، وإنما أفوض الأمر إلى الله فالله خير حافظا أي: منكم ومن كل أحد وهو أرحم الراحمين أي أرحم من والديه وإخوته، فأرجو أن يرحمني بحفظه. وهذا ميل منه إلى الإذن في إرساله معهم لما رأى فيه من المصلحة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 65 ] ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونـزداد كيل بعير ذلك كيل يسير

    ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم أي: وجدوا دراهمهم، ثمن طعامهم في متاعهم.

    روي أن أحدهم فتح متاعه ليأخذ علفا لدابته، فرأى فضته في فم متاعه، فقال لإخوته: قد ردت دراهمي وها هي في متاعي، ثم لما وصلوا كنعان، وأخذوا يفرغون أوعيتهم، وجد كل واحد منهم صرة دراهمه في وعائه، فاستطارت قلوبهم، ودهشوا، وحمدوا عناية الله بهم.

    قالوا يا أبانا ما نبغي أي ماذا نبتغي وراء ذلك؟ هل من زيادة؟ أي: لا مزيد على ما فعل; لأنه أكرمنا، وأحسن مثوانا، بإنزالنا عنده، ورد الثمن علينا. والقصد إلى [ ص: 3565 ] استنزاله عن رأيه. أو: لا نبغي في القول ولا نكذب فيما حكينا لك، من إحسانه الداعي إلى امتثال أمره. أو: ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، وقرئ على الخطاب. أي: أي شيء تطلب وراء هذا من الدليل على صدقنا؟.

    هذه بضاعتنا ردت إلينا جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته، كأنهم قالوا: كيف لا، وهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلا من حيث لا ندري؟

    ونمير أهلنا معطوف على مقدر مفهوم. أي: فنستظهر بها، ونمير أهلنا إذا رجعنا إلى الملك، أي: نأتيهم بميرة، أي: بطعام. يقال: (ماره) أتاه بطعام، ومنه: (ما عنده خير ولا مير).

    ونحفظ أخانا أي: فلا يصيبه شيء مما تخافه: ونـزداد كيل بعير أي باستصحابه ذلك كيل يسير أي سهل على هذا الملك المحسن لسخائه، فلا يضايقنا فيه. أو المعنى قصير المدة، ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير. أو المعنى: ذلك الذي يكال لنا دون أخينا شيء يسير قليل، فابعث أخانا معنا حتى نتسع ونتكثر بمكيله...

    وقال ابن كثير: هذا من تمام الكلام وتحسينه. أي: إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم لا يعدل هذا، فلا يكون من كلامهم، والجملة محتملة للكل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 66 ] قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل .

    قال أي لهم أبوهم لن أرسله معكم أي بهذه المقالة: حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به أي عهدا منه، ويمينا به، لتردنه علي إلا أن يحاط بكم أي [ ص: 3566 ] تغلبوا كلكم، فلا تقدرون على تخليصه. وأصله من: (أحاط به العدو) سد عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه.

    فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل أي شهيد رقيب. والقصد حثهم على ميثاقهم بتخويفهم من نقضه بمجازاته تعالى.

    قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك; لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى بهم عنها.

    لطيفة:

    قال الناصر: ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر، وهو قولهم: (البلاء موكل بالمنطق) فإن يعقوب عليه السلام قال أولا في حق يوسف: وأخاف أن يأكله الذئب فابتلي من ناحية هذا القول. وقال ها هنا ثانيا: إلا أن يحاط بكم أي تغلبوا عليه. فابتلي أيضا بذلك، وأحيط بهم وغلبوا عليه. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 67 ] وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون

    وقال أي: أبوهم: يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة أي لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد أنظار من يقف عليه من الجند، ومن يعس للحاكم، فيريب بهم; لأن دخول قوم على شكل واحد، وزي متحد، على بلدهم غرباء عنه، مما يلفت نظر كل راصد. وكانت المدن وقتئذ مبوبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها، [ ص: 3567 ] وعلى كل باب حرسه، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه، واتباع البصر. وقيل: نهاهم لئلا تصيبهم العين إذا دخلوا كوكبة واحدة -وسيأتي بيانه-.

    وما أغني عنكم من الله من شيء أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئا مما قضي عليكم، فإن الحذر لا يمنع القدر.

    قال أبو السعود: ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة، كيف لا وقد قال عز قائلا: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقال: خذوا حذركم بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة، بل هو تدبير في الجملة. وإنما التأثير وترتيب المنفعة عليه من العزيز القدير، وإن ذلك ليس بمدافعة للقدر، بل هو استعانة بالله تعالى، وهرب منه إليه: إن الحكم إلا لله أي لا يشاركه أحد، ولا يمانعه شيء عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 68 ] ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون

    ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم أي: من الأبواب المتفرقة ما كان أي ذلك الدخول يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها أي أبداها، وإنه لذو علم لما علمناه أي: علم جليل، لتعليمنا إياه بالوحي، ونصب الأدلة، حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر، وأن التدبير له حظ من التأثير. وفي تأكيد الجملة بـ (إن) و (اللام) وتنكير العلم، وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه; من الدلالة [ ص: 3568 ] على شأن يعقوب عليه السلام، وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى -أفاده أبو السعود-.

    ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي فيظنون الأسباب مؤثرات.

    قال ابن حزم في (الملل): كان أمر يعقوب عليه السلام بدخولهم من أبواب متفرقة، إشفاقا عليهم، إما من إصابة العين، وإما من تعرض عدو، أو مستريب بإجماعهم، أو ببعض ما يخوفه عليهم. وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك، وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك; لا يغني عنهم من الله شيئا يريده عز وجل بهم. ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام، وفي سائر الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى حاكيا عن الرسل أنهم قالوا: إن نحن إلا بشر مثلكم حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزعها وتوقها إلى سلامة من تحب، وإن كان ذلك لا يغني شيئا، كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن.

    تنبيه:

    قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية -على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما- أن العين حق، وأن الحذر لا يرد القدر. ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب. انتهى.

    وقال بعض اليمانين: لهذه الجملة ثمرات وهي: استحباب البعد عن مضار العباد، والحذر عنها. فأما فعل الله تعالى فلا يغني الحذر عنه. ثم قال: وفي (التهذيب) أن أبا علي أنكر الضرر بالعين، وهو مروي عن جماعة من المتكلمين.

    وصحح الحاكم والأمير الحسين وغيرهما جواز ذلك; لأخبار وردت فيها.

    [ ص: 3569 ] ثم قال: واختلف من أين أتت المضرة الحاصلة بالعين، فمن قائل: بأنه يخرج من عين العائن شعاع يتصل بمن يراه، فيؤثر فيه تأثير السم. وضعفه الحاكم بأنه لو كان كذلك، لما اختص ببعض الأشياء دون بعض، ولأن الجواهر متماثلة، فلا يؤثر بعضها في بعض. ومن قائل: بأنه فعل العائن. قال: وهذا لا يصح; لأن الجسم لا يفعل في جسم آخر شيئا إلا بمماسته، أو ما في حكمها من الاعتمادات، ولأنه لو كان فعله وقف على اختياره. ومن قائل: بأنه فعل الله، أجرى الله العادة بذلك لضرب من الإصلاح. وصحح هذا الحاكم، وهو الذي ذكره الزمخشري والأمير الحسين، وهو قول أبي هاشم. ذكره عنهما في (التهذيب). انتهى.

    وقد أوضحه الرازي بقوله: قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي: إنه لا يمتنع أن تكون العين حقا، ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص، وذلك الشيء، حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به، فهذا المعنى غير ممتنع. ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة، وعدل عن الإعجاب، وسأل ربه أن يقيه ذلك، فعنده تتعين المصلحة. ولما كانت هذه العادة مطردة، لا جرم قيل: العين حق. انتهى.

    أقول: وقد بسط الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) هذا البحث بما يشفي ويكفي، في (بحث هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العين) بعد إيراده ما روي في الصحيحين وغيرهما من حقية العين، وشهرة تأثيرها عند العرب، قال:

    فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل، أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبعدهم عن معرفة الأرواح والنفوس، وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها. وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا يدفع أمر العين ولا ينكره، وإن اختلفوا في [ ص: 3570 ] سببه، وجهة تأثير العين. فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الردية، انبعثت من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيتضرر. قالوا: ولا يستنكر هذا، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن.

    وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة، غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه، فيحصل له الضرر.

    وقالت فرقة أخرى: قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه، من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلا. وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم. وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين. ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن العاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مشاهد محسوس. وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه، ويستحيي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه، إليه. وقد شاهد الناس من يسقم من النظر، وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينا، ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يستعيذ به من شره. وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة تقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية. وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها انبعث منها قوة غضبية، وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط [ ص: 3571 ] الجنين، ومنها ما يؤثر في طمس البصر. كما قال صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: « إنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل » . ومنها ما يؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة. والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل. ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره. وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال الله تعالى لنبيه: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم وقال: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا. فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعين نحو المحسود والمعين، تصيبه العين تارة، وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه، ولا بد، وإن صادفته حذرا، شاكي السلاح، لا منفذ فيه للسهام، لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها. وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء، فهذا من النفوس والأرواح، وهذا من الأجسام والأشباح. وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم يتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين. وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه. وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني. وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف [ ص: 3572 ] بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت. وهذا هو الصواب قطعا، انتهى كلام ابن القيم، عليه الرحمة.

    وقال الرازي: ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب الكيفيات المحسوسة، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق، والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض، إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه، ولو كان موضوعا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان عن المشي عليه. وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أن التأثرات النفسانية موجودة.

    وأيضا إن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذيا له، حصل في قلبه غضب، ويسخن مزاجه جدا، فمبدأ تلك السخونة ليس إلا لذلك التصور النفساني، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص، لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان، فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان. وأيضا جواهر النفوس مختلفة بالماهية، فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر، بشرط أن يراه، ويتعجب منه. فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل، والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه، والنفوس النبوية نطقت به. فعنده لا يبقى في وقوعه شك. وإذا ثبت هذا، ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين، كلام حق، لا يمكن رده. انتهى.
    [ ص: 3573 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 69 ] ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون

    ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون يخبر سبحانه بأن إخوة يوسف لما قدموا عليه، ضم إليه أخاه بنيامين، إما على الطعام، أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه، وقال له: لا تبتئس. أي: لا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا، وجمعنا بخير.

    وقد روي أنهم لما قدموا عليه، ووقفوا بين يديه، رأى أخاه بنيامين معهم، فأمر بإنزالهم في بيته، وحلولهم في كرامته وضيافته، وحضورهم معه في غدائه. ثم دخل عليهم فقاموا وسجدوا له، وسألهم عن سلامة أبيهم، ورفع طرفه إلى أخيه، فأدناه وآواه إليه، وآنسه بحديثه -كما ذكر في الآية- ثم أراد يوسف أن يحتال على بقاء أخيه عنده، فتواطأ مع فتيانه، إذ جهز إخوته، أن يضعوا سقايته في رحل أخيه، كما بينه تعالى بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 70 ] فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون

    فلما جهزهم بجهازهم أي من الطعام جعل السقاية في رحل أخيه وهي جام فضة يشرب به يوسف، وضعه في ميرة أخيه.

    وقد روي أن يوسف لما جهزهم وارتحلوا، أمهلهم حتى انطلقوا وبعدوا قليلا عن المدينة، ثم أمر أن يسعى في إثرهم، ويؤذنوا بما فقد، كما أشار إليه تعالى بقوله: ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون
    [ ص: 3574 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 71 ] قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون [ 72 ] قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم .

    قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون

    قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم معنى (أذن) نادى. يقال: آذنه: أعلمه، وأذن أكثر الإعلام، ومنه (المؤذن) لكثرة ذلك منه.

    و (العير): الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير، أي تذهب وتجيء، وهو اسم جمع للإبل، لا واحد له، فأطلق على أصحابها. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة (عير). و (الصواع) هو السقاية المتقدمة، إناء فضة.

    تنبيه:

    قال في (الإكليل): في الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق.

    قال ابن العربي: وفي إطلاق السرقة عليهم وليسوا بسارقين، جواز دفع الضرر بضرر أقل منه.

    وقوله تعالى: ولمن جاء به حمل بعير أصل في الجعالة.

    وقوله: وأنا به زعيم أصل في الضمان والكفالة. انتهى.

    ولما اتهمهم المؤذن ومن معه من الفتيان:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 73 ] قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين

    قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين أي ما جئنا للسرقة، أو لمطلق فساد، وإنما جئنا للميرة، وما كنا نوصف بالسرقة. وإنما استشهدوا بعلمهم على براءتهم، لما تيقنوه من حالهم، في كرتي مجيئهم.
    [ ص: 3575 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 74 ] قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين [ 75 ] قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين .

    قالوا فما جزاؤه أي السارق إن كنتم كاذبين

    قالوا أي لثقتهم ببراءتهم جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي: جزاء سرقته، أخذ من وجد في رحله رقيقا، وهو قولهم: فهو جزاؤه تقرير لذلك الحكم وإلزامه، أي: فأخذه جزاؤه لا غيره. ويجوز أن يكون " جزاؤه" مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر مقام المضمر، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو. كذلك نجزي الظالمين أي بالسرقة، تأكيد إثر تأكيد، وبيان لقبح السرقة.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #412
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3576 الى صـ 3590
    الحلقة (411)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 76 ] فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم

    فبدأ أي فتى يوسف بأوعيتهم أي ففتشها قبل وعاء أخيه أي بنيامين، نفيا للتهمة ثم استخرجها أي السقاية من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف أي دبرنا لتحصيل غرضه ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك أي شرعه وقانونه. والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه. أي: ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى أربه، رحمة منه وفضلا. وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا لاستبد بما شاء، وهذا من وفور [ ص: 3576 ] فطنته وكمال حكمته. ويستدل به على جواز تسمية قوانين ملل الكفر (دينا) لها والآيات في ذلك كثيرة.

    وقوله تعالى: إلا أن يشاء الله يعني: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره; لأن ذلك كله كان إلهاما من الله ليوسف وإخوته، حتى جرى الأمر وفق المراد.

    نرفع درجات من نشاء أي بالعلم، كما رفعنا يوسف. وفي إيثار صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة، غير مختصة بهذه المادة.

    وفوق كل ذي علم أي من أولئك المرفوعين عليم أي فوقه أرفع درجة منه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 77 ] قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون

    قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل هذا تنصل منهم إلى العزيز بالتشبيه به. أي: إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف.

    فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا أي: منزلة، حيث سرقتم أخاكم من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء.

    والله أعلم بما تصفون أي: من أمر يوسف.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 78 ] قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين

    قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، طفقوا يعطفونه [ ص: 3577 ] عليهم، بأن له أبا شيخا كبيرا يحبه حبا شديدا يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقا عندك.

    قال بعضهم: الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقا يتوسل به، كما توسلوا بكبر يعقوب. وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ. انتهى.

    وفي ما عزموا عليه لإنقاذ أخيهم من شرك العبودية، المقضي عليه بها، ما يشف عن حسن طوية، ووفاء بالوعد، ويعرب عن أمانة، وصدق بر، وشدة تمسك بموثق أبيهم، محافظة على رضاه وإكرامه، وهكذا فليتمسك البار بمرضاة أبويه.

    وقولهم: إنا نراك من المحسنين أي إلينا، فأتمم إحسانك بهذه التتمة. أو من المتعودين بالإحسان، فليكن هذا منه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 79 ] قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون

    قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون أي إن أخذنا بريئا بمتهم; لأنه لا يؤخذ أحد بجرم غيره. قال بعضهم: إلا ما ورد في العقل.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 80 ] فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين

    فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا أي يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس، كما دل عليه (السين والتاء) فإنهما يزادان في المبالغة.

    [ ص: 3578 ] قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس، لما شاهدوه من عوذه بالله لما طلبوه، الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه، ويعاذ بالله عز وجل، ومن تسميته (ظلما) بقوله: إنا إذا لظالمون و خلصوا بمعنى اعتزلوا وانفردوا عن الناس، خالصين، لا يخالطهم سواهم، و (نجيا) حال من فاعل خلصوا أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين. وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع; إما لأن النجي (فعيل) بمعنى (مفاعل) كالعشير والخليط، بمعنى المعاشر والمخالط، كقوله: وقربناه نجيا أي مناجيا، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقا. يقال: هم خليطك وعشيرك أي: مخالطوك ومعاشروك. وإما لأنه صفة على (فعيل) بمنزلة صديق، وبابه. فوحد لأنه بزنة المصادر، كالصهيل والوحيد والذميل. وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة، أو لتأويله بالمشتق والمصدر، ولو بحسب الأصل، يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى، ولذا قال الزمخشري: وأحسن منه -أي من تأويل نجيا بذوي نجوى، أو فوجا نجيا أي مناجيا- أنهم تمحضوا تناجيا لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه، بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون، وما يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور. انتهى.

    لطيفة:

    ذكر القاضي عياض في (الشفا) في (بحث إعجاز القرآن): أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.

    وقال الثعالبي في كتاب (الإيجاز والإعجاز) في الباب الأول: من أراد أن يعرف [ ص: 3579 ] جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز، فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام.

    ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره، في إخوة يوسف: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس وتقليبهم الآراء ظهرا لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث. فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.

    وقوله تعالى: قال كبيرهم أي في السن، كما هو المتبادر، وهو فيما يروى، (رؤبين): ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أي عهدا وثيقا في رد أخيكم. وإنما جعل منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم. ومن قبل أي قبل هذا ما فرطتم في يوسف أي قصرتم في شأنه و (ما) إما مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية، وإما مصدرية في موضع رفع بالابتداء، و (من قبل) خبره، أو في موضع نصب عطفا على معمول (تعلموا). وإما موصولة بالوجهين، أي: قدمتموه في حقه من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعد ما قلتم: وإنا له لناصحون وإنا له لحافظون

    فلن أبرح الأرض أي: فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي أي في الرجوع أو يحكم الله لي أي بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب ما. وهو خير الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.

    ثم أمر كبيرهم أن يخبروا أباهم بما جرى، فقال:
    [ ص: 3580 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 81 ] ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين

    ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق أي: نسب إلى سرقة صواع الملك، وما شهدنا إلا بما علمنا أي ما شهدنا عليه بالسرقة، إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله.

    تنبيه:

    استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر. وكذا من سمع كلامه من وراء حجاب; لعدم العلم به -كذا في (الإكليل)- ولا يخفى أن مثل هذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف.

    وما كنا للغيب حافظين أي: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 82 ] واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون

    واسأل القرية التي كنا فيها يعنون مصر. أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة. والعير التي أقبلنا فيها أي جئنا معها. وكان صحبهم قوم من كنعان وإنا لصادقون أي فيما أخبرناك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 83 ] قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم

    قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا معناه: فرجعوا إلى أبيهم، فقالوا له ما قال لهم أخوهم. فقال: بل سولت، أي زينت وسهلت أنفسكم أمرا، ففعلتموه.

    [ ص: 3581 ] لطيفة:

    قال الزمخشري: أمرا أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، لولا فتواكم وتعليمكم؟!.

    قال الناصر: هذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلا يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمرا بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية، فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته، وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانيا: بل سولت لكم أنفسكم أمرا كما قال لهم أولا؟ وإذا ورد السؤال على هذا التقرير; فلا بد من زيد بسط في الجواب، فنقول: كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام، وقامت عنده قرينة تؤكد نفي التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده، لا من دين غيره من الناس، ولا من عادتهم. وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تنبيها من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدا; ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعي عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا. واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لا حرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل -والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم، أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله، سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة عليه -والله أعلم-.

    وقوله: بل سولت لكم أنفسكم أمرا واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضي ذلك مخالفا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول. اهـ.

    [ ص: 3582 ] وقوله تعالى: فصبر جميل أي بلا جزع عسى الله أن يأتيني بهم جميعا أي بيوسف وأخيه المتوقف بمصر، فتذهب أحزانه بمرة واحدة إنه هو العليم الحكيم أي العليم بحالي وحالهم، الحكيم في تشديد الأمر لينظر مقدار الصبر فيفيض بقدره الأجر، ومن الأجر المعجل تعجيل الفرج.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 84 ] وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم

    وتولى أي: أعرض عنهم أي عن بنيه كراهة لما جاؤوا به وقال يا أسفى على يوسف أي يا حزني الشديد، و (الألف) بدل من ياء المتكلم للتخفيف. وقيل: هي ألف الندبة، والهاء محذوفة. و (الأسف) أشد الحزن والحسرة على ما فات. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث رزأهما. والرزء الأحدث أشد على النفس، وأظهر أثرا; لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفا على من لحق به، ولأنه لم يزل عن فكره، فكان غضا طريا عنده، كما قيل:


    ولم تنسني أوفى المصيبات بعده وكل جديد يذكر بالقديم


    ولأنه كان واثقا بحياتهما- دون حياته.

    [ ص: 3583 ] وابيضت عيناه من الحزن وذلك لكثرة بكائه.

    قال الزمخشري: إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين، وقلبته إلى بياض كدر. فهو كظيم أي مملوء من الغيظ على أولاده، ولا يظهر ما يسوؤهم. (فعيل) بمعنى (مفعول) كقوله: وهو مكظوم أو بمعنى شديد التجرع للغيظ أو الحزن; لأنه لم يشكه إلى أحد قط. فهو بمعنى (فاعل).

    تنبيه:

    دلت الآية على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة.

    قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟.

    قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.

    ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: « إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون » .

    وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب.

    وعن الحسن أنه بكى على ولد، أو غيره، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3584 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 85 ] قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين

    قالوا أي أولاد يعقوب لأبيهم على سبيل الرفق به، والشفقة عليه: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أي مريضا مشفيا على الهلاك، أو تكون من الهالكين أي بالموت. يقولون: إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف، واستدل به على جواز الحلف بغلبة الظن. وقيل: إنهم علموه، لكنهم نزلوه منزلة المنكر، فلذا أكدوه. و(تفتأ) مضارع فتئ، مثلثة التاء. يستعمل مع النفي ملفوظا أو منويا; لأن موضعه معلوم، فيحذف للتخفيف كقوله:


    فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي


    أي: لا أبرح. ومعنى (تفتأ): لا تزال ولا تبرح.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 86 ] قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون

    قال إنما أشكو بثي أي غمي وحالي، وحزني إلى الله أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعيا له، وملتجئا إليه، فخلوني وشكايتي.

    وأعلم من الله أي لمن شكا إليه من إزالة الشكوى، ومزيد الرحمة ما لا تعلمون ما يوجب حسن الظن به، وهو مع ظن عبده به.

    ولما علم من شدة البلاء مع الصبر، قرب الفرج، قوى رجاءهم، وأمرهم أن يرحلوا لمصر، ويتطلبوا خبر يوسف وأخيه بقوله:
    [ ص: 3585 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 87 ] يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون

    يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه أي تعرفوا من نبئهما، وتخبروا خبرهما ولا تيأسوا من روح الله أي: فرجه ورحمته المريحة من الشدة. إنه لا ييأس من روح الله -لم يقل (منه) إشارة إلى ظهور حصوله لمن لم ييأس- إلا القوم الكافرون أي بالله ورحمته، وقدرته على إفاضة الروح، بعد مضي المدة في الشدة، وسنته في إفاضة اليسر مع العسر، لا سيما في حق من أحسن الظن به.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 88 ] فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين

    فلما دخلوا عليه أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر، ولانفهامه من المقام طوى ذكره إيجازا: قالوا يا أيها العزيز أي الملك القادر، المتمنع، مسنا وأهلنا الضر أي الشدة من الجدب، وجئنا ببضاعة مزجاة أي: بدراهم قليلة في مقابلة ما نمتاره. استقلوا الثمن واستحقروه; اتضاعا لهيبة الملك، واستجلابا لرأفته وحنانه. وأصل معنى (التزجية): الدفع والرمي، فكنوا به عن القليل الذي يدفع; رغبة عنه، لذلك فأوف لنا الكيل أي: أتممه ووفره بهذه الدراهم المزجاة، كما توفره بالدراهم الجياد. وتصدق علينا أي: برد أخينا، أو بالإيفاء، أو بالمسامحة وقبول ما لا يعد عوضا: إن الله يجزي المتصدقين أي يثيبهم أحسن المثوبة.

    [ ص: 3586 ] تنبيهات:

    الأول: في الآية إرشاد إلى أدب جليل، وهو تقديم الوسائل أمام المآرب، فإنها أنجح لها. وهكذا فعل هؤلاء: قدموا ما ذكر من رقة الحال، والتمسكن، وتصغير العوض، ولم يفجؤوه بحاجتهم; ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم، ببعث الشفقة، وهز العطف والرأفة، وتحريك سلسلة الرحمة -كما قدمنا- ومن ثم رق لهم، وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه، -كما يأتي-.

    الثاني: يؤخذ من الآية جواز شكوى الحاجة لمن يرجى منه إزالتها.

    الثالث: استدل بعضهم بقوله تعالى: فأوف لنا الكيل على أن أجرة الكيال على البائع; لأنه إذا كان عليه توفية الكيل، فعليه مؤنته، وما يتم به.

    الرابع: استدل بقوله تعالى: وتصدق علينا من قال: إن الصدقة لم تكن محرمة على الأنبياء -كذا في الإكليل- وهذا بعد تسليم نبوة إخوة يوسف. وفيها خلاف. وسيأتي في التنبيهات، آخر السورة، تحقيق ذلك.

    الخامس: في قوله تعالى: إن الله يجزي المتصدقين حث على الإحسان، وإشارة إلى أن المحسن يجزى أحسن جزاء منه تعالى، وإن لم يجزه المحسن إليه.
    ثم بين تعالى رأفة يوسف بتعرفه إليهم بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 89 ] قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون

    قال أي: يوسف مجيبا لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون أي شبان غافلون؟ استفهام تقرير، يفيد تعظيم الواقعة. ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف، وما أقبح ما أقدمتم عليه! كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت [ ص: 3587 ] وهل تعرف من خالفت؟ وهذه الآية تصديق لقوله تعالى: وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون

    لطائف:

    الأولى- أبدى المهايمي مناسبة بديعة في قول يوسف لهم: هل علمتم إثر قولهم: إن الله يجزي المتصدقين وهو أنهم أرادوا بقولهم: إن الله يجزي المتصدقين أنه يعطيهم في الآخرة ما هو خير من العوض الدنيوي، فأشار لهم يوسف بأنكم تريدون دفع الضرر العاجل، بوعد الأجر الآجل، ولا تدفعون عن أنفسكم الضرر الآجل، كأنكم تنكرونه، هل علمتم ضرر ما فعلتم بيوسف؟.

    الثانية: قيل: من تلطفه بهم قوله: إذ أنتم جاهلون كالاعتذار عنهم; لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه، أسهل من فعله على علم. وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يلفوا عذرا كهذا. ألا ترى أن موسى عليه السلام، لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال: فعلتها إذا وأنا من الضالين ففيه تخفيف للأمر عليهم.

    الثالثة: قال الزمخشري: فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟ قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل، بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحدا منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 90 ] قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

    قالوا أي: استغرابا وتعجبا من أن هذا لا يعلمه إلا يوسف: أإنك لأنت [ ص: 3588 ] يوسف قال أنا يوسف أي: الذي فعلتم به ما فعلتم، وهذا أخي أي من أبوي.

    قال أبو السعود: زادهم ذلك مبالغة في تعريف نفسه، وتفخيما لشأن أخيه، وتكملة لما أفاده قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه حسبما يفيده قوله: قد من الله علينا فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال، فأنا يوسف، وهذا أخي، قد من الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة، والأنس بعد الوحشة.

    ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله: إنه من يتق أي ربه في جميع أحواله، ويصبر أي: على الضراء، وعن المعاصي، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي أجرهم، وفي وضع الظاهر موضع الضمير تنبيه على أن المنعوتين بالتقوى والصبر، موصوفون بالإحسان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 91 ] قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين

    قالوا تالله لقد آثرك الله علينا أي فضلك بما ذكرت من التقوى والصبر، وسيرة المحسنين وإن كنا لخاطئين أي: وإن شأننا وحالنا أنا كنا متعمدين الذنب، لم نتق ولم نصبر، ففعلنا بك ما فعلنا، ولذلك أوثرت علينا. وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار، ولذلك:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 92 ] قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين

    قال لا تثريب أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريع: عليكم اليوم أي: وإن كنتم ملومين قبل ظهور منتهى فعلكم، ولا إثم عليكم; إذ يغفر الله لكم [ ص: 3589 ] أي: حقي لرضاي عنكم، وحقه أيضا لواسع رحمته، كما قال: وهو أرحم الراحمين أي: فكأنه لا خطأ منكم. و (اليوم) متعلق بالتثريب، أو بالمقدر في (عليكم) من معنى الاستقرار. والمعنى: ولا أثربكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام؟! فتعبيره بـ (اليوم) ليس لوقوع التثريب في غيره، لأن من لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده بطريق الأولى.

    وقال الشريف المرتضى في (الدرر): إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله:


    اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا


    ثم زادهم تكريما بأن دعا لهم بالمغفرة، لما فرط منهم بقوله: يغفر الله لكم

    وقوله: وهو أرحم الراحمين تحقيق لحصول المغفرة; لأنه عفا عنهم، فالله أولى بالعفو والرحمة لهم، وبيان للوثوق بإجابة الدعاء. وجوز تعلق (اليوم) بـ (يغفر). والجملة خبرية سيقت بشارة بعاجل غفران الله; لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. والوجه الأول أظهر. والثاني من الإغراب في التوجيهات.

    تنبيه:

    قال بعضهم: إن تجاوز يوسف عن ذنب إخوته، وإبقاءه عليهم، ومصافاته لهم، تعلمنا أن نغفر لمن يسيء إلينا، ونحسن إليه، ونصفي له الود، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمه وخيراته في هذه الدنيا، كما أوسع على يوسف ويورثنا السعادة الأخروية. وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا، ونقمنا منهم، فينتقم الله منا، ويوردنا مورد الثبور، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.

    ثم قال لهم يوسف:
    [ ص: 3590 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 93 ] اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين

    اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين أراد يوسف تبشير أبيه بحياته، وإدخال السرور عليه بذلك، وتصديقه بإرسال حلة من حلله التي كان يستشعر بها أو يتدثر، ليكون في مقابلة القميص الأول، جالب الحزن، وغشاوة العين. و (الإلقاء على وجهه) بمعنى المبالغة في تقريبه منه، لما ناله من ضعف بصره، فتتراجع إليه قوة بصره، بانتعاش قلبه، بشمه واطمئنانه على سلامته. وللمفرحات تأثير عظيم في صحة الجسم، وتقوية الأعضاء، وقد جود الكلام في ذلك الحكيم داود الأنطاكي في (تذكرته) في مادة مفرح بما لا يستغنى عن مراجعته.

    وفي (الكنوز) من كتب الطب: الفرح، إن كان بلطف، فإنه ينفع الجسم، ويبسط النفس، ويريح العقل، فتقوى الأعضاء وتنتعش. انتهى.

    ثم رأيت الرازي عول على نحو ما ذكرناه، وعبارته: قال المفسرون: لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه. قال المحققون: إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى، ولولا الوحي، لما عرف ذلك; لأن العقل لا يدل عليه. ويمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء، وضيق القلب، ضعف بصره، فإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد أن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى، فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان. فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب. فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى. انتهى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #413
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3591 الى صـ 3605
    الحلقة (412)




    [ ص: 3591 ] ولعل الرازي عنى بالمحققين الصوفية، أو من يقف على الظاهر وقوفا بحتا، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد، ينبغي التفطن له.

    وقد جوز في قوله: يأت بصيرا أن يكون معناه يصير بصيرا، أو يجيء إلي بصيرا، على حقيقة الإتيان فـ (بصيرا) حال. قيل: ينصره قوله: وأتوني بأهلكم أجمعين أي: بأبي وغيره، وفيه نظر; لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى. ولا يقال: الأصل الحقيقة; لأن ذلك فيما يقتضيه السياق، ولا اقتضاء هنا. فالأول أرق وأبدع، لما فيه من التجانس.

    روي أن يوسف عليه السلام، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم: إن الله بعثني أمامكم لأحييكم، وقد مضت سنتا جوع في الأرض، وبقي خمس سنين، ليس فيها حرث ولا حصاد. فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض، ويستبقيكم لنجاة عظيمة. وقد جعلني سبحانه أبا لفرعون، وسيدا لجميع أهله، ومتسلطا على جميع أرض مصر، فبادروا وأشخصوا إلى أبي، وأخبروه بجميع مجدي بمصر، وما رأيتموه، وقولوا له: كذا قال ابنك يوسف: قد جعلني الله سيدا لجميع المصريين، فهلم إلي، فتقم في أرض جاسان، وتكون قريبا مني أنت وبنوك، وبنو بنيك، ومواشيك، وجميع ما هو لك، وأعولك، ها هنا، فقد بقي خمس سنين مجدبة، فأخشى أن يهلك الأهل والمال. وكان نما الخبر إلى بيت فرعون. وقيل: جاء إخوة يوسف، فسر بذلك فرعون وخاصته، وأمره أيضا بأن يؤكد عليهم إتيانهم بأبيهم وأهلهم، ووعدهم خير أرض في مصر تكون لهم; لئلا يأسفوا على ما خلفوا. ثم زود يوسف إخوته أحسن زاد، وأعطاهم من الحلل والثياب والدراهم مقدارا وافرا، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك، وأصحبهم عجلات لأطفالهم ونسائهم، وأوصاهم ألا يتخاصموا في الطريق -والله أعلم-.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3592 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 94 ] ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون

    ولما فصلت العير أي: خرجت من مصر. يقال: فصل القوم عن المكان وانفصلوا، بمعنى فارقوه. قال أبوهم أي: لحفدته ومن حوله من قومه، من عظم اشتياقه ليوسف، وانتظاره لروح الله: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون الريح: الرائحة، توجد في النسيم. لأتنسم رائحته مقبلة إلي، كناية عن تحققه وجوده بما ألقى الله في روعه من حياته، وساق إليه من نسائم البشارة الغيبية بسلامته. وقد كان عظم رجاؤه بذلك من مولاه، ووثق بنيل مأموله ومبتغاه، ولذلك نهى بنيه عن الاستيئاس من روح الله. وإذا دنا أجل الضراء، أخذت تهب نسائم الفرج حاملة عرف السراء، يدري ذلك كل من قوي إحساسه، وعظمت فطنته، واستنارت بصيرته، فيكاد أن يلمس في نهاية الشدة زهر الفرج، ولا يحنث إن آلى أنه يجد من نسيمه أزكى الفرج. عرف ذلك من عرف، فأحرى بمن نالوا من النبوة ذروة الشرف.

    وإضافة الريح إلى الولد معروفة في كلامهم: وفي حديث عند الطبراني: « ريح الولد من ريح الجنة » وقال الشاعر:


    يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد


    وقوله: لولا أن تفندون بمعنى إلا أنكم تفندون. أو لولاه لصدقتموني. و(فنده)* نسبه إلى الفند بفتحتين. وهو ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن.

    قال في (العناية): مأخوذ من الفند، وهو الحجر والصخرة، كأنه جعل حجرا لقلة فهمه، كما قال:


    إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا


    ثم اتسع فيه فقيل: فنده، إذا ضعف رأيه، ولامه على ما فعله.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3593 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 95 ] قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم

    قالوا أي حفدته ومن عنده: تالله إنك لفي ضلالك القديم أي لفي ذهابك عن الصواب المتقدم، في إفراطك في محبة يوسف، ولهجتك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه مات أو تشتت، فاستحال الاجتماع به، وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 96 ] فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون

    فلما أن جاء البشير أي المخبر بما يسره من أمر يوسف ألقاه على وجهه أي: طرح البشير القميص على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب نفسه على وجهه، فارتد بصيرا أي عاد بصيرا لما حدث فيه من السرور والانتعاش: قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون أي: من حياة يوسف، وإنزال الفرج، وجوز كون إني أعلم كلاما مبتدأ. والمقول " لا تيأسوا من روح الله" إن كان الخطاب لبنيه. أو إني لأجد ريح يوسف إن كان لحفدته ومن عنده.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 97 ] قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين

    قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين الضمير لبنيه. طلبوا أن يستغفر لهم لما فرط منهم، أو لحفدته ومن عنده لقولهم: إنك لفي ضلالك القديم والأول أقرب وأصوب.

    ولما كان من حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة، وعدهم بذلك.
    [ ص: 3594 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 98 ] قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم

    قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم أي: سوف أدعوه لكم، فإنه المتجاوز عن السيئات، الرحيم لمن تاب.

    قال المهايمي: صرحوا بالذنوب دون الله; لمزيد اهتمامهم بها، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره. وصرح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربى بها الكل. انتهى.

    وهذا من دقائق لطائف التنزيل ومحاسنها فيه.

    تنبيه:

    قيل: في هذه الآيات دلالة على جواز التبشير ببشائر الدنيا واستحبابه، وجواز السرور بحصول النعم الحاصلة في الدنيا. وفيها دلالة على إرجاء الاستغفار والدعاء لوقت يرى أنه أحضر فيه قلبا من غيره أو أنه أفضل وأقرب للإجابة.

    وقد روي أنه أخر الاستغفار إلى السحر. وتخصيص الأوقات الفاضلة بالاستغفار والدعاء معروف في السنة، ومنه شرع الاستغفار في السحر، وعقب الصلوات، وقضاء الحج. وكان الدعاء في السجود، وعند الأذان، وبينه وبين الإقامة، والإفطار من الصيام أقرب للإجابة مما عداه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 99 ] فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين

    فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه إشارة إلى ورود يعقوب وآله على يوسف. [ ص: 3595 ] وذلك أنهم تخلوا عن آخرهم، وترحلوا من بلاد كنعان، وأركبوا أطفالهم ونساءهم على العجل التي بعث بها فرعون، وصحبوا ماشيتهم وسرحهم، وهبطوا أرض مصر -وروي أنهم كانوا سبعين نفسا- وتقدمهم يهوذا إلى يوسف ليدله على أرض (جاسان) فينزلوها. ثم خرج يوسف في مركبته، فتلقى أباه في (جاسان) ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا. والمراد بدخولهم على يوسف وصولهم لملتقاه خارج البلد، وبإيواء أبويه ضمهما إليه، واعتناقهما واصطحابه لهما في مركبه. قالوا: عنى بأبويه والده وخالته; لأن أمه راحيل توفيت وهي نفساء بأخيه بنيامين، وتنزيل الخالة منزلة الأم; لكونها مثلها في زوجة الأب، وقيامها مقامها وتوقيرها، كتنزيل العم منزلة الأب في قوله: وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق

    وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين أي من القحط وأصناف المكاره.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 100 ] ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نـزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم

    ورفع أبويه على العرش أي: أجلسهما معه على سرير ملكه تكريما لهما وخروا له سجدا أي سجد له أبوه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر، تحية وتكرمة له. وكان السجود عندهم للكبير يجري مجرى التحية عندنا.

    وقال يا أبت هذا أي السجود تأويل أي تعبير رؤياي من قبل أي [ ص: 3596 ] التي رأيتها أيام الصبا، وهي سجود أحد عشر كوكبا والشمس والقمر قد جعلها ربي حقا أي: صدقا مطابقا للواقع في الحس، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن أي نجاني من العبودية، وجعل الملك مطيعا لي مفوضا إلي خزائن الأرض. وفي الاقتصار على التحدث بالخروج من السجن على جلالة ملكه، وفخامة شأنه من التواضع، وتذكر ما سلف من الضراء، استدامة للشكر، ما فيه من أدب النفس الباهر. وفيه إشارة إلى النعمة في الانطلاق من الحبس; لأنه كما قال عبد الملك بن عبد العزيز، لما كان في حبس الرشيد:


    ومحلة شمل المكاره أهلها وتقلدوا مشنوءة الأسماء دار يهاب بها اللئام وتتقى
    وتقل فيها هيبة الكرماء ويقول علج ما أراد ولا ترى
    حرا يقول برقة وحياء ويرق عن مس الملاحة وجهه
    فيصونه بالصمت والإغضاء


    وقال شاعر من المسجونين:


    خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
    إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا


    ويؤثر عن يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن: هذه منازل البلاء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء، وقبور الأحياء.

    هذا وقد حاول كثير من الأدباء مدح السجن بسحر بيانهم، فقال علي بن الجهم:


    قالوا حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهند لا يغمد؟
    أو ما رأيت الليث يألف غابه كبرا وأوباش السباع تردد
    والبدر يدركه المحاق فتنجلي أيامه وكأنه متجدد
    ولكل حال معقب ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد
    والسجن ما لم تغشه لدنية شنعاء نعم المنزل المتورد
    بيت يجدد للكريم كرامة فيزار فيه ولا يزور ويحفد


    [ ص: 3597 ] وأحسن ما قيل في تسلية المسجونين قول البحتري:


    أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الجور والإفك
    أقام جميل الصبر في السجن برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك


    نقله الثعالبي في (اللطائف واليواقيت).

    وجاء بكم من البدو أي البادية، وقد كانوا أصحاب مواش، من بعد أن نـزغ أي أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي أي بالحسد. وأسنده إلى الشيطان، لأنه بوسوسته وإلقائه. وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا. وإنما ذكره لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا.

    إن ربي لطيف لما يشاء أي لطيف التدبير له، والرفق به، إنه هو العليم بوجوه المصالح، الحكيم في أفعاله وأقضيته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 101 ] رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين

    رب قد آتيتني من الملك أي بعضا منه عظيما، وهو ملك مصر، وعلمتني من تأويل الأحاديث أي تعبير الرؤيا، فاطر السماوات والأرض أي مبدعهما وخالقهما، أنت وليي أي مالك أموري، في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين أي من النبيين والمرسلين. دعا يوسف عليه السلام بهذا الدعاء لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما آثره به من العلم والملك، فسأل ربه عز وجل، كما أتم عليه نعمته في الدنيا، أن يحفظها عليه باقي عمره، حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام، وألحقه بالصالحين. فليس فيه تمن للموت، وطلب التوفي منجزا كما قيل.

    [ ص: 3598 ] روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسنا فيزداد، وإن كان مسيئا فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي » . وفي رواية: « وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي » .

    تنبيهان:

    الأول: في فقه هذه الآيات: قال بعض اليمانين: يستدل مما روي أن يوسف خرج للقاء أبيه، على حسن التعظيم باللقاء، وكذا يأتي مثله في التشييع، ومنه ما روي في تشييع الضيف: ويستدل مما روي أن المراد بأمه خالته -كما مر- أن من نسب رجلا إلى خالته فقال: يا ابن فلانة! لم يكن قاذفا لها. ويستدل من رفعهما على العرش -وهو السرير الرفيع- جواز اتخاذه، ورفع الغير، تعظيما للمرفوع، ويستدل من قوله: وجاء بكم من البدو على أن الانتقال منه نعمة، وذلك لما يلحق أهل البادية من الجفاء، والبعد عن موارد العلوم، وعن رفاهة المدنية، ولطف المعاشرة، والكمالات الإنسانية، وروي لجرير:


    أرض الحراثة لو أتاها جرول أعني الحطيئة لاغتدى حراثا ما جئتها من أي وجه جئتها
    إلا حسبت بيوتها أجداثا


    [ ص: 3599 ] وفي الحديث: « من بدا جفا » أي: من حل البادية. وفي آخر: « إن الجفا والقسوة في الفدادين » . ففي هذا دليل على حسن النقلة من البوادي إلى المدن. اهـ. بزيادة.

    الثاني: قص كثير نبأ استقرار يعقوب وآله بمصر. ومجمله: أن يوسف اختار لمستقرهم أرض جاسان، فلما دخلوا مصر أخبر يوسف فرعون بقدوم أبيه وإخوته وجميع ما لهم إلى أرض جاسان، ثم أدخل أباه على فرعون، فأكرمه وكلمه حصة. وسأله عن عمره، فأجابه: مائة وثلاثون سنة، وأقطعه وبنيه أجود أرض في مصر، وهي أرض رعمسيس، أي عين شمس، وملكها إياهم، ودعا له يعقوب ثم انصرف. ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته، فمثلهم بين يدي فرعون، فقال لهم: ما حرفتكم فأجابوه -كما أوصاهم يوسف-: نحن وآباؤنا رعاة غنم! فقال فرعون ليوسف: إن كنت تعلم أن فيهم ذوي حذق، فأقمهم وكلاء على ماشيتي. وأجرى يوسف لأبيه وإخوته وسائر أهله طعاما على حسبهم. وأقاموا في أرض مصر بجاسان فتملكوا فيها، ونموا وكثروا جدا، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، فكانت مدة عمره كله مائة وسبعا وأربعين سنة. ولما دنا أجله قال ليوسف: لا تدفني بمصر إذا مت، بل احملني منها إلى مدفن آبائي، فأجابه لذلك. ثم بعد مدة أخبر يوسف بمرض أبيه، فأخذ ولديه وسار إلى أبيه، فانتعش أبوه بمقدمه، ورأى ولديه، فقال: من هذان؟ فقال: ابناي رزقنيهما الله ها هنا. فقال: أدنهما مني، فأدناهما، فقبلهما، ودعا لهما، وقال له: لم أكن أظن أني أرى وجهك، والآن أراني الله نسلك أيضا. ثم أعلم يوسف بدنو أجله، وبشره بأن الله سيكون معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم، ثم دعا بقية بنيه، ودعا لهم بالبركة، وأوصاهم بأن يضموه إلى قومه، ويدفنوه مع آبائه في المغارة التي في حبرون، وهي المعروفة اليوم بمدينة الخليل، فإن فيها دفن إبراهيم، [ ص: 3600 ] وسارة امرأته، وإسحاق ورفقة زوجته، وليأة امرأة يعقوب. ولما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه فاضت روحه، فوقع يوسف على وجه أبيه، وبكى وقبله. ثم أمر الأطباء أن يحنطوه ويصبروه. ولما انقضت أيام التعزية به، استأذن يوسف فرعون بأن يبرح لدفن أبيه; عملا بوصيته، فأذن له وسار من مصر، وصحبه إخوته آل أبيه وحاشيته، ووجهاء مصر، وأتباع فرعون في موكب عظيم، إلى أن وصلوا أرض كنعان، ودفنوه في المغارة -كما أوصى- ثم عاد بمن معه إلى مصر، ولم يزل يوسف يرعى إخوته بالإكرام والإحسان، إلى أن قرب أجله، فأوصاهم بأن ينقلوه معهم إذا عادوا إلى الأرض التي كتبها الله لآبائهم. ثم توفي يوسف، وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه، وجعلوه في تابوت بمصر.

    هذا ما قصه قدماء المؤرخين، والله أعلم بالحقائق. وإنما لم يذكر هذا القرآن الكريم; لأن القرآن لم يبن على قانون التاريخ، فليس فيه شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار، وإنما هي الآيات والعبر، تجلت في سياق الوقائع، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها، كما سيأتي الإشارة إليه في قوله تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وقوله: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ومضى في المقدمة بسط هذا البحث، فراجعه. وسنذكر إن شاء الله في السورة شيئا من الحكم والعبر المقتبسة من نبأ يوسف، فانتظر.

    وقوله تعالى:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 102 ] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون

    ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، البعيد درجة [ ص: 3601 ] كماله في جميع ما لا يتناهى من المحاسن والأسرار حتى صار معجزا. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: هذا من أخبار الغيوب السابقة، نوحيه إليك، ونعلمك به، لما فيه من العبرة والاتعاظ.

    وقوله تعالى: وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون كالدليل على كونه نبأ غيبيا ووحيا سماويا. أي: لم تعرف هذا النبأ إلا من جهة الوحي; لأنك لم تحضر إخوة يوسف، حين أجمعوا أمرهم على إلقاء أخيهم في البئر، وهم يمكرون به، إذ حثوه على الخروج معهم، يبغون له الغوائل، وبأبيهم في استئذانه ليرسله معهم، أي: فلم تشاهدهم حتى تقف على ظواهر أسرارهم وبواطنها.

    قال أبو السعود: وليس المراد مجرد نفي حضوره عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعهم ومكرهم فقط، بل سائر المشاهد أيضا. وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة، وأخفى أحوالها، كما ينبئ عنه قوله تعالى وهم يمكرون والخطاب -وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم- لكن المراد إلزام المكذبين. والمعنى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك; إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك، إذ عدم سماعك ذلك من الغير، وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضا، ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو، فتبلغه إليهم. وفيه تهكم بالكفار، فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم. وفيه أيضا إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع. وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه. يعني: أن مثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة، وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي. ومثله قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وقوله: وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر انتهى.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3602 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 103 ] وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين

    وما أكثر الناس يريد به العموم، أو أهل مكة: ولو حرصت أي جهدت كل الجهد على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك، بمؤمنين أي بالكتب والرسل; لميلهم إلى الكفر، وسبيل الشر. يعني: قد وضح بمثل هذا النبأ نبوته صلوات الله عليه، وقامت الحجة، ومع ذلك فما آمن أكثر الناس، كما قال تعالى: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " .

    قال الرازي: ما معناه: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها; أن كفار قريش، وجماعة من اليهود، طلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام قص نبأ يوسف تعنتا، فكان يظن أنهم يؤمنون إذا تلي عليهم، فلما نزلت وأصروا على كفرهم ; قيل له: وما أكثر الناس إلخ. وكأنه إشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 104 ] وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين

    وما تسألهم عليه أي على هذا النصح، والدعاء إلى الخير والرشد، من أجر أي أجرة إن هو أي ما هو، يعني القرآن، إلا ذكر للعالمين أي: عظة لهم، يتذكرون به ويهتدون وينجون في الدنيا والآخرة. يعني: أن هذا القرآن يشتمل على العظة البالغة، والمراشد القويمة، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالا، ولا جعلا. فلو كانوا عقلاء لقبلوا، ولم يتمردوا.

    [ ص: 3603 ] قال بعض اليمانين: في الآية دليل على أن من تصدر للإرشاد، من تعليم ووعظ; فإن عليه اجتناب ما يمنع من قبول كلامه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 105 ] وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون

    وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون أي: وكم من آية على وحدانية الخالق، وقدرته الباهرة، ونعوته الجليلة، في السماوات: من كواكبها وأفلاكها، وفي الأرض: من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات، وثمار مختلفات، وأحياء وأموات، يشاهدونها، ولا يعتبرون بها.

    قال الرازي: يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد، والقدرة والحكمة، ثم إنهم يمرون عليها، ولا يلتفتون إليها، واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة، لا بد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي إما الأجرام الفلكية، وإما الأجرام العنصرية. أما الأجرام الفلكية فهي قسمان: أفلاك وكواكب. أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع. وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته. وقد يستدل بأحوال حركاتها، إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم، فلا بد من محرك قادر، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها، وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات. وأما الأجرام الكوكبية: فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها وأحيازها وحركاتها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال، والظلمات والنور.

    وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية: فإما أن تكون مأخوذة من بسائط، وهي عجائب البر والبحر، وإما من المواليد وهي أقسام:

    [ ص: 3604 ] أحدها: الآثار العلوية، كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح.

    وثانيها: المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها.

    ثالثها: النبات وخاصية الخشب والورق والتمر، واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص، وخاصية مخصوصة.

    ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها.

    وخامسها: تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنفعة الحاصلة فيها.

    فهذه مجامع الدلائل.

    ومن هذا الباب أيضا قصص الأولين، وحكايات الأقدمين، وأن الملوك إذا استولوا على الأرض وخربوا البلاد، وقهروا العباد; ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر، ثم بقي الوزر والعقاب.

    ولما كان العقل البشري لا يفي بالإحاطة بشرح دلائل العالم الأعلى والأسفل; ذكر في الكتاب العزيز مجملا. انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 106 ] وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون

    وما يؤمن أكثرهم أي: الناس، أو أهل مكة، بالله أي في إقرارهم بوجوده وخالقيته إلا وهم مشركون أي: بعبادتهم لغيره، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، وبقولهم باتخاذه تعالى ولدا. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

    تنبيه:

    كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر، وهو أن يعبد مع الله غيره. فإنها تشير إلى [ ص: 3605 ] ما يتخلل الأفئدة وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي، الذي لا يشعر صاحبه به غالبا. ومنه قول الحسن في هذه الآية: ذاك المنافق، يعمل إذا عمل رئاء الناس، وهو مشرك بعمله. يعني: الشرك في العبادة. فصاحبه، وإن اعتقد وحدانيته تعالى -ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه، أو طلب الدنيا، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق; فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب. وهذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن حبان في صحيحه: « الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل » . فالرياء كله شرك، وهو محبط للعبادة، مبطل ثواب العمل، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجبا. فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة. قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء فمن لم يخلص لله في عبادته; لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور، فلا يقبل منه.

    وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه » .

    وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء» .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #414
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3606 الى صـ 3620
    الحلقة (413)




    ومن الشرك نوع غير مغفور، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم، بأن يحب مخلوقا كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا الآية. وقال أصحاب هذا الشرك [ ص: 3606 ] لآلهتهم، وقد جمعتهم الجحيم: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله، والخضوع لهم والتذلل. وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب، وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم; بالغني بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام، من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا وأي حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه. أفاده الشمس ابن القيم في (الجواب الكافي).

    قال الحافظ ابن كثير: وثم شرك خفي لا يشعر به غالبا فاعله، كما روي عن حذيفة أنه دخل على مريض، فرأى في عضده سيرا فقطعه، ثم قال: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون

    وفي الحديث: « من حلف بغير الله فقد أشرك » رواه الترمذي عن ابن عمر وحسنه. وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » . ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا عن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه؟ قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني [ ص: 3607 ] من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير. قالت: فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط رقي لي فيه! فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » . قالت: قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تفرق، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت؟! فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها، كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أذهب الباس، رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما » .

    وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من علق تميمة فقد أشرك » .

    وأخرج أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك » .

    وبما ذكر يعلم أن لفظ الآية يتناول كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان، مع وجود مسمى الشرك، فأهل الشرك الأكبر ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق إلا وهو مشرك به، بما يتخذه من الشفعاء، وما يعبده من الأصنام. وكذا أهل الشرك الأصغر من المسلمين، كالرياء مثلا، ما يؤمن أحدهم بالله إلا وهو مشرك به، بذلك الشرك الخفي. وعلى هذا، فالشرك يجامع الإيمان، فإن الموصوف بهما مما تقدم، مؤمن فيما آمن به، ومشرك فيما أشرك به. والتسمية في الشريعة لله عز وجل ولرسوله، فلهما أن يوقعا أي اسم شاءا على أي مسمى شاءا. فكما أن الإيمان في اللغة التصديق، ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات، واجتناب المعاصي، [ ص: 3608 ] إذا قصد بكل ذلك، من عمل أو ترك، وجه الله تعالى; كذلك الشرك نقل عن شرك شيء مع آخر مطلقا، إلى الشرك في عبادته تعالى، وفي خصائص ربوبيته.

    قال ابن القيم:

    حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق، والتشبه للمخلوق به، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فضلا عن غيره مشبها بمن له الأمر كله، جل وعلا. فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل، مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة، أن يكون له وحده. ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير، بمن لا شبيه له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم; أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين، لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل. هذا تمام العبودية. وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله; فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع. وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، ومضى على الفطرة من سبقت له من الله الحسنى. إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها التوكل، فمن توكل [ ص: 3609 ] على غيره فقد شبهه به. ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه. وأما في جانب التشبه به، فمن تعاظم وتكبر، ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم، والخضوع، والرجاء، وتعليق القلب به، خوفا، ورجاء، والتجاء، واستعانة; فقد تشبه به، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل.

    وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته » . وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده، كملك الأملاك، وحاكم الحكام، ونحوه.

    وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: « أغيظ رجل على الله رجل يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله » .

    فهذا غضب الله على من تشبه في الاسم، الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، يحكم عليهم كلهم، ويقضي عليهم، لا غيره.

    وتتمة هذا البحث في (الجواب الكافي) لابن القيم، فانظره.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3610 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 107 ] أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون

    أفأمنوا أي: هؤلاء المشركون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أي عقوبة تنبسط عليهم وتغمرهم أو تأتيهم الساعة بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون أي: بإتيانها، وهذا كقوله تعالى: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم وقوله: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 108 ] قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين

    قل هذه سبيلي أي هذه السبيل، التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، سبيلي، أي طريقي ومسلكي وسنتي. والسبيل والطريق يذكران ويؤنثان. ثم فسر سبيله بقوله: أدعو إلى الله أي: إلى دينه وتوحيده، ومعرفته بصفات كماله، ونعوت جلاله: على بصيرة أي: مع حجة واضحة، غير عمياء أنا ومن اتبعني أي: آمن بي، يدعون إلى الله أيضا على بصيرة، لا على هوى. وسبحان الله أي: وأنزهه [ ص: 3611 ] وأجله وأقدسه عن أن يكون له شريك، أو ند أو كفء أو ولد أو صاحبة، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وما أنا من المشركين أي: على دينهم.

    تنبيهات:

    الأول: قال السمين أدعو إلى الله يجوز أن يكون مستأنفا، وهو الظاهر، وأن يكون حالا من الياء، و على بصيرة حال من فاعل " أدعو" . أي: أدعو كائنا على بصيرة، وقوله: ومن اتبعني عطف على فاعل " أدعو" ولذلك أكد بالضمير المنفصل. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، أي: ومن اتبعني يدعو أيضا، ويجوز أن يكون على بصيرة خبرا مقدما، و " أنا" مبتدأ مؤخرا و " من اتبعني" عطف عليه، ومفعول " أدعو" إما منوي، أي الناس، أو منسي.

    الثاني: دل قوله تعالى على بصيرة على مزية هذا الدين الحنيف، ونهجه الذي انفرد به، وهو أنه لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، ولكنه ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين، وكر عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان، وما فيها من الإحكام والإتقان، على أنظار العقول، وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه -انظر (رسالة التوحيد) في تتمة ذلك.

    الثالث: دلت الآية على أن سيرة أتباعه صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله.

    قال الرازي: كل من ذكر الحجة، وأجاب عن الشبهة; فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله. وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط، وهو أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك، فهو محض الغرور. انتهى.

    ولا يخفى أن الدعوة إلى الله إنما هي بنشر مطالب الدين، وإذاعة آدابه وتعليمه.

    قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة، في حال مخالطته ومجالسته لهم، في بيان الواجبات والمحرمات، ونوافل الطاعات، وذكر الثواب والعقاب، على الإحسان [ ص: 3612 ] والإساءة. ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها، ويزيد بيانا للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها، ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم، وهو يعلم أنهم محتاجون إليه، ومضطرون إليه، فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال. والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين، علما وعملا، فلا ينبغي للعلماء أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم، فيعم الهلاك، ويعظم البلاء. وقلما تختبر عاميا -وأكثر الناس عامة- إلا وجدته جاهلا بالواجبات والمحرمات، وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها. وإن لم يوجد جاهلا بالكل، وجد جاهلا بالبعض. وإن علم شيئا من ذلك، وجدت علمه به علما مسموعا من ألسنة الناس، لو أردت أن تقلبه له جهلا فعلت ذلك بأيسر مؤونة، لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه. وعلى الجملة، فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم، ويحدثوهم به، ويبثوه لهم، ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاؤوا من أجله، مثل ما إذا جاؤوا لعقد نكاح، يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف. أو لعقد بيع، يكون كلامه في صحيح البيوع وآدابها، وفوائد التجارة النافعة، واجتناب الغش والخداع وهكذا. ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين، ولا أن يصرف شيئا من أوقاته في غير إقامة الدين. وبالسكوت عن التذكير والتعليم، يغلب الفساد، ويعم الضرر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 109 ] وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون

    وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أي لا ملائكة [ ص: 3613 ] من أهل السماء، رد لقول المشركين: لو شاء ربنا لأنـزل ملائكة وهذا كقوله تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وقوله: وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين وقوله: قل ما كنت بدعا من الرسل الآية.

    واحتج بقوله تعالى: إلا رجالا على أنه لم ينتظم في سلك النبوة امرأة.

    والقرى: جمع قرية، وهي على ما في (القاموس): المصر الجامع، وفي (كفاية المتحفظ): القرية كل مكان اتصلت به الأبنية، واتخذ قرارا. وتقع على المدن وغيرهما. انتهى.

    قال ابن كثير: والمراد بالقرى هنا المدن. أي: لا أنهم من أهل البوادي الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا. وهذا هو المعهود المعروف: أن أهل المدن أرق طباعا، وألطف من أهل بواديهم. وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي. ولهذا قال تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا الآية.

    قال قتادة: إنما كانوا من أهل القرى; لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمور.

    وقوله تعالى: أفلم يسيروا أي: هؤلاء المكذبون، في الأرض فينظروا أي نظر تفكر كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أي: من الأمم المكذبة، كقوله تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها الآية، فإذا استمعوا خبر ذلك; رأوا أن الله أهلك الكافرين، ونجى المؤمنين. وهذه كانت سنته تعالى في خلقه، ولهذا قال تعالى: ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أي: الشرك والفواحش، وآمنوا بالله ورسله وكتبه.

    [ ص: 3614 ] قال ابن كثير: أي: وكما نجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة، وهي خير لهم من الدنيا، كقوله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد

    أفلا تعقلون أي تستعملون عقولكم، فتعلموا أن الآخرة خير، أو تعلموا كيف عاقبة أولئك.
    ثم بين تعالى أن العاقبة لرسله، وأن نصره يأتيهم إذا تمادى تكذيبهم، تثبيتا لفؤاده عليه الصلاة والسلام، فقال سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 110 ] حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين

    حتى إذا استيئس الرسل أي: من إجابة قومهم وظنوا أي: علموا وتيقنوا، يعني: الرسل أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا يقرأ (كذبوا) بضم الكاف وتشديد الذال. أي: كذبهم قومهم بما جاءوا به ; لطول البلاء عليهم. ويقرأ بضم الكاف وتخفيف الذال، فالضمير في ظنوا -على ما اختاروه- للقوم. أي: ظنوا أن الرسل قد كذبوا. أي: ما وعدوا به من النصر.

    وروي عن ابن عباس أن الضمير للرسل. أي: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله تعالى: وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله وقد استشكلوه على ابن عباس، وتأولوا لكلامه وجوها.

    [ ص: 3615 ] قال الزمخشري: أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب، من شبه الوسوسة، وحديث النفس، على ما عليه البشرية. انتهى.

    وقيل: المراد بظنهم عليهم السلام ذلك; المبالغة في التراخي والإمهال، على طريق الاستعارة التمثيلية، بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب، باعتبار استلزام كل منهما; لعدم ترتب المطلوب، فاستعمل ما لأحدهما للآخر.

    وقال الخطابي: لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا تشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم، لطول البلاء عليهم، وإبطاء النصر، وشدة استنجاز ما وعدوا به- توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسبانا من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بني له الفعل أنفسهم، لا الآتي بالوحي. والمراد بـ (الكذب): الغلط، لا حقيقة الكذب، كما يقول القائل: كذبتك نفسك.

    قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده قراءة مجاهد: ((وظنوا أنهم قد كذبوا)) بفتح أوله مع التخفيف أي: غلطوا. ويكون فاعل (وظنوا) الرسل.

    وقال أبو نصر القشيري: ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل، فصرفوه عن أنفسهم. أو المعنى: قربوا من الظن، كما يقال: بلغت المنزل، إذا قربت منه.

    وقال الترمذي الحكيم: وجهه: أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر; أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال، واشتد البلاء عليهم; دخلهم الظن من هذه الجهة.

    وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال: ما روي عن ابن عباس غير معول عليه، وأنه ليس من كلامه، بل تؤول عليه.

    [ ص: 3616 ] قال ابن حجر: وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح ثم للزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه، أي: فرواه البخاري في تفسير البقرة بلفظ: ذهب بها هناك، وأشار إلى السماء، وزاد الإسماعيلي عنه: كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا.

    وروى البخاري أن عائشة كانت تقرأ (كذبوا) مشددة، وتتأولها على المعنى الأول، وأن عروة قال لها: لعلها (كذبوا) مخففة، فقالت: معاذ الله!.

    قال الحافظ ابن حجر: وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك، وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء: عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي، والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين.

    وقوله تعالى: فنجي من نشاء وهم الرسل والمؤمنون بهم. وقرئ (فننجي) بالتخفيف والتشديد. وقرئ (فنجا).

    ولا يرد بأسنا أي: عذابنا. عن القوم المجرمين أي: إذا نزل بهم.

    وفيه بيان من شاء الله نجاتهم; لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين، وهم من تقدم.
    [ ص: 3617 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 111 ] لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

    لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب الضمير ليوسف وإخوته، أو للأنبياء وأممهم. ورجح الزمخشري الثاني بقراءة (قصصهم) بكسر القاف، جمع قصة. والمفتوح مصدر بمعنى المفعول. وأجيب بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة، وقد يطلق الجمع على الواحد، كما مر في " أضغاث أحلام" وسنذكر وجوه العبر منها بعونه تعالى.

    ما كان أي: القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة حديثا يفترى أي: يختلق. ولكن تصديق الذي بين يديه أي: من الكتب المنزلة، فهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.

    قال بعض المحققين: المراد به أن قصص القرآن ليست مخترعة ولا مفتراة، بدليل وجود أمثالها بين الناس، قبل نزوله. فهي وإن اختلفت قليلا في بعض التفاصيل والجزئيات، عما يرويه الناس، إلا أنها توافقها في الجملة، وتصدقها في الجوهر، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله، بل اسألوا عنها أهل الكتاب، تجدوا أنها معروفة بينهم، ومروية في كتبهم، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل من أعظم ما يصدقه ويؤيده; لأن النبي صلوات الله عليه، لم يطلع على كتب أهل الكتاب. ولا يتوهم من هذه الآية أن قصص القرآن يجب ألا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما، كلا، إذ لو صح [ ص: 3618 ] هذا لما قال تعالى: إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون فقصصه قد تختلف عما عندهم، وتبين لهم حقه من باطله. فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة، ومخالفته لها في بعض الجزئيات -كما قلنا- ويجوز أن يكون المراد بقوله: تصديق الذي بين يديه تصديق الحق الذي عندهم، لا كل الذي عندهم، وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها، مما جاء القرآن لإزالته ومحقه، ويستحيل أن يكون مصدقا لما جاء لإبطاله. فتنبه لذلك. ولا تكن من الغافلين. انتهى.

    وقوله تعالى: وتفصيل كل شيء أي: تبيان كل ما يحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام، والآداب والأخلاق، ووجوه العبر والعظات، ولذا كان أعظم ما تنقذ به القلوب من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، وتبتغى به الرحمة من رب العباد، كما قال تعالى: وهدى أي: من الضلالة ورحمة أي: من العذاب لقوم يؤمنون أي يصدقون به، ويعملون بأوامره، فإن الإيمان قول وعقد وعمل. وخصهم لأنهم المنتفعون به.

    خاتمة في مباحث مهمة

    الأول: فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص.

    قال في (اللباب): الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد. والمراد منه التأمل والتفكر. ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه، وإخراجه من السجن، وتمليكه مصر بعد العبودية، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة، واليأس من الاجتماع ; قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته، وإظهار دينه. وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.

    [ ص: 3619 ] وقال بعضهم: إن قصة يوسف الصديق، جمة الفائدة، وجليلة العائدة، تحدو بكل امرئ أبي إلى الاقتداء بها. فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام رآها رغيدة، وألفاها هنيئة، وما ذلك إلا لطيب سيرته، وحميد سريرته، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة، ولا سيما فضيلة العفة والطهارة، التي ترفع قدر صاحبها، وتنزله المنزلة السامية. فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة، كيوسف، فيتسنم ذروة المجد في هذه الدنيا، وينال السعادة الدائمة في الآخرة. انتهى.

    قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة من جملة ما قص على النبي، صلوات الله عليه، من أنباء الرسل، وأخبار من تقدمه، مما فيه التثبت المشار إليه في قوله تعالى: وكلا نقص عليك الآية. وإنما أفردت على حدتها، ولم تنسق على قصص الرسل، مع أنهم في سورة واحدة; لمفارقة مضمونها تلك القصص. ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام، وكيفية تلقي قومهم لهم، وإهلاك مكذبيهم؟ أما هذه القصة، فحاصلها: فرج بعد شدة، وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره، وشتات بنيه. وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن. ثم امتحن جميعهم بشمول الضر، وقلة ذات اليد: مسنا وأهلنا الضر الآية. ثم تداركهم الله بإلفهم، وجمع شملهم، ورد بصر أبيهم، وائتلاف قلوبهم، ورفع ما نزغ به الشيطان، وخلاص يوسف عليه السلام، وبكيد من كاده، واكتنافه بالعصمة، وبراءته عند الملك والنسوة، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر، وجلالة اليقين، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم، على توالي الامتحان، وطول المدة. ثم انجر في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز، ورجوعها إلى الحق، وشهادتها ليوسف عليه السلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين. ثم استخلاص العزيز إياه، إلى ما [ ص: 3620 ] انجر في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر. فقد انفردت هذه القصة بنفسها، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم. وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طي ذلك. وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض إلى قوله: أمنا وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر، وهجرهم، وتشققهم مع قومهم، وقلة ذات أيديهم، إلى أن جمع الله شملهم: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وأورثهم الأرض، وأيدهم ونصرهم، وذلك بجليل إيمانهم، وعظيم صبرهم. فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص -والله أعلم-.

    ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام، في صبرهما، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا، وما أعد لهما من عظيم الثواب، أنسب بحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش، ومفارقة وطنه، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدوه، وإعزاز دينه، وإظهار كلمته، ورجوعه إلى بلده، على حالة قرت بها عيون المؤمنين، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه، فتأمل ذلك! ويوضحه ختم السورة بقوله: حتى إذا استيئس الرسل الآية. فحاصل هذا كله الأمر بالصبر، وحسن عاقبة أولياء الله فيه -كذا في تفسير (البرهان) للبقاعي ملخصا-.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #415
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُوسُفَ
    المجلد التاسع
    صـ 3621 الى صـ 3635
    الحلقة (414)




    وجاء في كتاب (النظام والإسلام) في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله:

    طال الأمر على أمتنا، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة، وكيف تنتقى الرجال الأكفاء في مهام الأعمال. يا ليت شعري! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا [ ص: 3621 ] المؤرخين. القصص في كل أمة، عليها مدار ارتقائها، سواء كانت وضعية أم حقيقية، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد. على هذا تبحث الأمم، قديمها وحديثها. وناهيك بكتاب (كليلة ودمنة) وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام، ككتاب (فاكهة الخلفاء) و (مقامات الحريري). جاء القرآن بقصص الأنبياء، وهي -لا جرم- أعلى منالا، وأشرف مزية. كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه، والقدوة الحسنة للكمل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم، وتحققها في أنفسها، لوقوع مواردها، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان، لا سيما لمن يقتدي بهم. فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص، ونقصت في سواها. أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان، ومرت كأمس الدابر؟! وما لنا ولها إذن؟ تالله إن هذا لهو البوار! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها، وإنها عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن تفكر، وتبصرة لمن ازدجر. أما الرجوع إلى التاريخ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم، وما سطره الأقدمون على مباينتهم، وما يقوله القاصون في خرافتهم; فتلك سبيل حائد عن الجادة، يضل فيه الماهرون، يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف، وكيف يقول: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فانظر كيف أسند العلم لله، ولم يعول على قول المؤرخين المختلفين، ثم لم يبين الحقيقة; لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل. فإن قال: خمسة، قالوا: ستة، وإن قال: أربعة، قالوا سبعة. فكتب المؤرخين كثيرة الاختلاف في القصص، وما المقصود منها إلا ليكون عبرة. وبالإجمال: فليس القصد من هذه القصص إلا منافعها، والعبر المبصرة للسامعين: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب

    [ ص: 3622 ] ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان، فلا نعتمد إلا على البرهان. تأمل هذا القصص، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح، ويعرض عن كثير من الوقائع، إذ لا لزوم لها، ولا معول عليها. فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق، وحجج عقلية، وتبصرة وتذكرة، ومحاورات جميلة، تلذ العقلاء. ولأقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصديق عليه السلام، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق، من مدنية المصريين وأحوالهم، إلى الخلاصة والثمرة. ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا; دلالة على أن للطفل استعدادا يظهر على ملامحه، وأقواله، وأفعاله، ورؤياه؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء، من اليونان والفرس، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق، كانوا يختبرون أبناءهم، ويتأملون ملامحهم; ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم. ثم تأمل في قصة الإخوة، وحديث القميص والجب والذئب والدم; لتعلم ما نشاهده كل يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي، والخلق المرضي، والجلال الظاهر على ملامحه، فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه; دلالة على أن هذه سنة في الكون لا تغادر نبيا، ولا حكيما، ولا عالما مهما حسنت أخلاقه، وجمل ظاهره وباطنه.....!.


    كل العداوات قد ترجى إزالتها إلا عداوة من عاداك من حسد


    جرت تلك السنة في الأناسي، فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم، وأحبوه بعد العداوة ولو بعد حين، وعادوا من آذاه! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز، وكيف عف مع الشباب، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة، وأرضى إلهه، واتسم بالفضيلة، فتوازى جماله الباطني والظاهري..! ولنكتف بهذا القدر الآن، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح، التي تضمنتها تلك القصة!.

    فأما علم الأخلاق، وتربية رؤساء الأمم منها، فتأمل في كلام الحكماء -أولهم وآخرهم- [ ص: 3623 ] تجد إجماعهم على أن سياسة أخلاق النفس أولا فالمنزل فالمدينة، كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها; إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه، أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله!.

    بايع الصحابة -عليهم رضوان الله- الخليفة الأول، فأخذ قماشا وذراعا وذهب إلى السوق في الغداة، فاستاء الصحابة ولاموه، فقال: إذا أضعت أهلي، فأنا للمسلمين أضيع! ففرضوا له دريهمات من بيت المال، فقال: إذن أنظر في شؤونكم! لذلك، نجد الغربيين -إذا ولوا رجلا إدارة بلادهم- أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله، علما منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة.

    فانظر هذه الحقائق من سيرة النبي يوسف الصديق كيف ذكرت في الكتب السماوية، ورتبت في القرآن ترتيبا محكما، ذكرت فيها السياسات الثلاث مرتبة هكذا: النفس فالمنزل فالمدينة، ترتيبا طبيعيا، تنبيها لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة. فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق. وليت شعري! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم، وعبد الله وحده، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة...؟! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كل جانب، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم..!

    ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية، فلم يكن ذلك كافيا لإدارة أموره العامة، فأودع السجن، وأحيط بالأحداث والجهلة من كل جانب، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله، وبث عقيدته بينهم، ظاهرا بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم: قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الآية. وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه، وحبه [ ص: 3624 ] لمذهبهم، وبغضه لأصنام المصريين ونحوهم، فقال: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله الآية. ثم أخذ يذكرهم أن تفرق وجهة الأمة ضلال في السياسة، وأن توحيد وجهتها كياسة فيها، فقال: يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار فتفريق الوجهة شتات الجامعة. لم تسد أمة في الوجود إلا برجال يوحدون وجهتها أيا كانت، فيؤمون مقصدا واحدا! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب..!.

    وفي (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهن قوم اتحدت بها: كاللغة، والوطن، والدين، والأخلاق، والجنس، والحكيم المرشد، والأب الأكبر، ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة.

    ولما تم له، عليه السلام، الأمران -سياسة النفس والعشيرة- أخرج من السجن معظما مبجلا، وترقى من تعليم الصعلوك في السجن إلى تعليم الملوك على العروش، وأخذ يربهم كيف يقتصدون الأموال، وعبر لهم السنبلات الخضر واليابسات، والبقرات السمان والعجاف، وأرشدهم إلى خزن البر وسنابله; لئلا يفسد، وغير ذلك من الأمور العامة. وهذه هي المرتبة الثالثة: سياسة الأمة بأجمعها بعد قطع تينك العقبتين.

    والبراعة والكياسة في علوم العمران، وتدبير أمر الأمة، إما بوحي، وهذا خاص به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام، وإما بتعليم وتدريب، وهو اللائق بسائر الناس.

    ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر، فإنه لا بد يوما ما أن يصل إلى الأكابر، كما في حديث هرقل مع أبي سفيان، وتعليم الصديق من في السجن. فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين.

    [ ص: 3625 ] ابتلي هذا النبي بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق، وتنسى بها أصول الأعراق، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص!.

    وهذه قصة يوسف -الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدنية إلى الرذيلة - جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال، فساس مصر بعد أن كان مسوسا، وملك بعد أن كان مملوكا! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصا بالآخرة، بل في الدارين: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون

    هذه هي الأخلاق الفاضلة، ذكرت في التنزيل نموذجا، في غضون هذه السيرة، للأمم الإسلامية ; ليأخذوا ثمرتها ولا يضيعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ، كما يجمد المفسر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة، وهذا غيض من فيض من حكم هذه القصة، وبها نفهم ما ذكر في أولها: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن دع قول الجاهلين، وفهم المتنسكين، وتجاوز خلط المؤرخين، واختلافهم، واصغ إلى ما في هذه القصة من هيئة تربية الحكام والأمراء، كما أشرنا سابقا، ولنزدك بيانا!:

    قال علماء الأخلاق والحكماء: لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة، وأخلاق معهودة; فإن كان القائم بالأعمال نبيا فله أربعون خصلة ذكروها. كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته. وإن كان رئيسا فاضلا [ ص: 3626 ] لمدينة فاضلة، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها. وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين. ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال; إذ قد حاز الملك والنبوة! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة; ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن، وتنبيها للمتعلمين -العاشقين للفضائل- على نفائس الكتاب العظيم، وحبا في نظرهم في القرآن، وليعلموا أن تلك القصص وقد أودعت ما لم يكن ليخطر على بال من سمعه للتغني به ومجرد اللهو واللعب!.

    أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:

    1 - العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين

    2 - الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه: قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم

    3 - وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنـزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون والصدر للين والعجز للشدة.

    4 - ثقته بنفسه: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم

    5 - قوة الذاكرة; ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون; ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم: وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون

    [ ص: 3627 ] 6 - جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين

    7 - استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث

    8 - شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: يا صاحبي السجن الآية، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما، فالأول بقوله: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله والثاني بقوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله الآية، وشهدا له بقولهما: إنا نراك من المحسنين

    9 - العفو مع القدرة: قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين

    10 - إكرام العشيرة: وأتوني بأهلكم أجمعين

    11 - قوة البيان والفصاحة بتعبيره رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي [ ص: 3628 ] والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على العلم والحكمة: فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين

    12 - حسن التدبير: فما حصدتم فذروه في سنبله الآية.

    ثم تأمل في اقتدار يوسف عليه السلام على سياسة الملك، وكيف اجتذب إليه القلوب بالإحسان: وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم الآية، ودبر الحيلة العجيبة بمسألة الصواع والاتهام بالسرقة ليضم أخاه إليه: فبدأ بأوعيتهم الآية، وعامل المحكومين بشرعهم ودينهم وملتهم وعادتهم، كما عليه جميع الأمم الشرقية الحية من الرفق بالأمة المحكومة لهم، فيسوسونهم بدينهم وعادتهم وشرعهم وأخلاقهم وأموالهم; اتباعا لما رسمته الشريعة الغراء مما يناسب حكم سيدنا يوسف عليه السلام، وذلك أنه أمر أتباعه أن يسألوهم: قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين الآية، فكانت شريعة بني يعقوب أن يستعبدوا السارق سنة عند صاحب المتاع، فعاملهم بما هم عليه، ولذلك يقول الله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم امتدح على حسن خطته في السياسة ومراعاته عادة أولئك القوم. وهذه -وإن كانت مسألة بسيطة الظاهر- فهي أم السياسة ورأس علوم العمران، وأول ما يوصى به السواس والعقلاء!.

    تالله! ما أجمل القرآن وما أبهج العلم! وليت شعري كيف يقول الله بعدها: نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ولولا ما فيها من مبدأ شريف وحكم عالية مع [ ص: 3629 ] وضوحها وبساطتها لذوي النظر السطحي والبله الغفل; ما أعطاها هذا الجلال والإعظام ومدح العلم! فحيا الله العلم وأدام دولته!.

    ومن العجيب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع، ثم نظر أمتعتهم جميعا: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه وهذه -وايم الله- هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم، وطلبا لحصول المقاصد النافعة، ودخولا للبيوت من أبوابها، ولكن بينهم وبين هذا النبي بون بعيد...! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة!.

    لعمري! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة، وعرف الحكماء وسواس الأمم، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ويقول في آخرها: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ويقول: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من روح الله فقال: حتى إذا استيئس الرسل الآية. ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها، لا مجرد تفسيرها; إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء. وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار، فقال: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى الآية. وهذه ترشدك -إن كنت من ذوي الهمة العالية- أن [ ص: 3630 ] تصبر نفسك مع الذين يتعلمون أمدا طويلا، ولا تعجل بالرئاسة حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنال حظا وافرا من الأخلاق والعلوم. فلا بأس بالوظائف ونفع الأمة مع دوام المثابرة على العلم والاستزادة منه! فلقد صبر هذا النبي عليه السلام أياما وأياما، ولبس للحوادث أثوابا وأثوابا، حتى إذا غلب اليأس جاء الفرج والرفعة!.

    فتأمل! كيف كانت هذه السورة يقرؤها القارئون، ويسمعها الجاهلون وهم عن آياتها معرضون! فإذا سمعوا صوتا حسنا ظنوا أن هذا هو جمال القرآن، فقالوا للقارئ: سبحان من أعطاك! وفرحوا بما عندهم من العلم بظواهر ورونق القراءة، أو مجرد التفسير ومعرفة القصة، ولم ينظروا إلى الحكم المودعة فيها! فقبح الجهل! يترك الرجل أعمى وإن لبس الحلل وارتدى ثياب الفخار الكاذب والسراب الخداع.. كم للإنسان من آيات وعبر في السماوات والأرض فيعرض عنها! خلقت لنا الأبصار والأسماع والعقول لننظر ماذا في السماوات والأرض مما ذرأ المبدع في الكون، وتلا القرآن -وهو كلام مبدع الكون- وتلطف في تصوير المعاني، وألبسها أجمل لباس، فأعرض العقلاء فضلا عن العامة! فما للعامة لا يتعلمون؟ وما لذوي البصائر لا ينصحون ولا يبينون؟ وما للناس لا يكادون يفقهون؟.

    ذكرنا نموذجا عن هذه السورة استنشاطا لهمم العقلاء، وحثا لمن لهم ذكاء وفطن وعقول راجحة -على الرجوع إلى كتابهم ونظرهم فيه، وإزالة لشبه من ارتاب في هذه القصص فأعرض! وجلي أن قصص القرآن جميعها مملوءة بالحكم كهذه القصة، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى كأنها ثمرات مختلف لونها! أين من يفقه هذا ممن يقف مع ألفاظها وهم عن آياتها معرضون؟ ولا عجب فإن نفوس الأسافل تأخذ الحكمة فترجعها من أفق سمائها إلى أرض ضعتها، كما يصير الماء في شجرة الحنظل مرا. فيقصدها هذا للنغمات، وذلك لقصة بسيطة، وآخر تسلية وتضييعا للزمن، وآخر يقف عند الألفاظ وإعرابها وصرفها وبلاغتها.

    [ ص: 3631 ] ولكن هذا أرقى مما قبله -فقد سار في الطريق وهي الألفاظ، ولكن هيهات أن يصل للمقصود والثمرات إلا إذا أعد تلك القواعد مقدمة للمقصود وبحث فيه! وآخرون يسمعون الآيات فيعرضونها على التاريخ، والمؤرخون مختلفون كما قدمنا. وما مثل هؤلاء في سيرهم إلا كمثل رجل أوتي آلة بخارية ليسقي بها الحرث من النهر، فجلس بجانبها وترك استعمالها وأخذ يتفكر: من أين هذا الحديد؟ ولم يجلب الماء؟ وإلى أي مسافة يرتفع، وما العلة فيه، ومن أين يأتي الفحم الحجري، وفي أي الطرق يسير إلى أن يصل إلينا؟ فيمر عليه شهر وشهران فيذبل زرعه وتبور أرضه.! ذلك مثل من يقرأ القرآن ويجعل جل عنايته تطبيقه على كلام المؤرخين أو قواعد النحويين أو الصرفيين وعلماء البلاغة فحسب! اللهم إلا قدرا يسيرا للفهم! وهذا -لعمر الله- انتكاس على الرأس، واتخاذ الوسيلة مقصدا، كمثل من أراد الحج فجعل همته إعداد الذخائر سنين، فاختطفته المنون وفارق الحياة ولم يحج! ذلك مثلهم.!! انتهى.

    المبحث الثاني:

    احتج من جوز المعصية على الأنبياء -وهم الكرامية والباقلاني- بما جرى من إخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم، وبما وقع من يوسف نفسه من أخذه أخاه وإيحاشه أباه.

    قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في (الملل والنحل):

    ما احتجوا به لا حجة فيه; لأن إخوة يوسف، عليه السلام، لم يكونوا أنبياء، ولا جاء قط -في أنهم أنبياء- نص لا من قرآن، ولا من سنة صحيحة، ولا من إجماع، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم! فأما يوسف عليه السلام فرسول الله بنص القرآن، قال عز وجل: ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به [ ص: 3632 ] إلى قوله: من بعده رسولا وأما إخوته فأفعالهم تشهد بأنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم، فكيف أن يكونوا أنبياء؟! ولكن الرسولين -أباهم وأخاهم- قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم!

    وبرهان ما ذكرنا -من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء- قول الله تعالى حاكيا عن الرسول أخيهم أنه قال لهم: أنتم شر مكانا ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء، نعم، ولا لقوم صالحين!; إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس ; لأن الصالحين ليسوا شرا مكانا، وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا. ولا يحل لمسلم أن يدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافة بصحة نبوته! ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبيا، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم! فإن ذكروا في ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم: (إنما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد الأنبياء أنبياء!) فهذه غفلة شديدة وزلة عالم، من وجوه:

    أولها: أنه دعوى لا دليل على صحتها!.

    وثانيها: أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد كما نبئ عيسى عليه السلام، وكما أوتي يحيى الحكم صبيا; فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبيا، وقد عاش عامين غير شهرين، وحاشا لله من هذا..!.

    وثالثها: أن ولد نوح كان كافرا بنص القرآن: عمل عملا غير صالح. فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبيا. وحاشا لله من هذا..!.

    ورابعها: لو كان ذلك، لوجب ولا بد أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم، بل جميع أهل الأرض أنبياء; لأنه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه أنبياء; لأن [ ص: 3633 ] أباهم نبي، وأولاد أولادهم أنبياء; لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء، وهكذا... أبدا حتى يبلغ الأمر إلينا! وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه- ما لا خفاء به. وبالله تعالى التوفيق..!

    ثم قال ابن حزم:

    وذكروا -يعني الكرامية ومن وافقهم- أيضا أخذ يوسف عليه السلام أخاه، وإيحاشه أباه عليه السلام منه، وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه، فلم يفعل، وليس بينه وبينه إلا عشر ليال! وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه، ولم يعلم بذلك سائر إخوته، ثم أمر من هتف: أيتها العير إنكم لسارقون وهم لم يسرقوا شيئا، ويقول الله تعالى: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وبخدمته لفرعون، وبقوله للذي كان معه في السجن: اذكرني عند ربك

    قال ابن حزم: وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه، ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته، فنقول وبالله تعالى نتأيد: أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود إخوته إليه، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى، وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك، وليكون ذلك سببا لاجتماعه وجمع شمل جميعهم! ولا سبب إلى أن يظن برسول الله يوسف عليه السلام الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل -إلا أحسن الوجوه. وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا. ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه، فكيف برسول الله صلوات الله عليه؟! وأما ظنهم -أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل- فهذا جهل شديد ممن ظن هذا; لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين، في قوم رحالين خصاصين في لسان [ ص: 3634 ] آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى! فلم يكن عند يوسف عليه السلام، علم بعد فراقه أباه بما فعل، ولا حي هو أو ميت; أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به، ولا وجد أحدا يثق به، فيرسل إليه; للاختلاف الذي ذكرنا. وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرضالشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة، ولسانا واحدا وأمة واحدة، والطريق سابل، والتجار ذاهبون وراجعون، والرفاق سائرة ومقبلة، والبرد ناهضة وراجعة، فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك، ولكن كما قدمنا، ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه، وانقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض، وامتيازهم عنده، فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب، فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه. وأما قول يوسف لإخوته: إنكم لسارقون وهم لم يسرقوا الصواع، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم; فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه، ولم يقل عليه السلام: إنكم سرقتم الصواع، وإنما قال: نفقد صواع الملك وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له، فكان فاقدا له بلا شك! وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية، وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره، ولعل الملك أو بعض خواصه، قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس; إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك، ولا مرية في أن ذلك كان مباحا في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا، قال الله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظورا في شريعتهما بل كان فعلا حسنا، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى. ولعل ذلك السجود [ ص: 3635 ] كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام. إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل، وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك. وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن: اذكرني عند ربك فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد، وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل، لكنه رغب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه! وهذا فرض من وجهين: أحدهما: وجوب السعي في كف الظلم عنه. والثاني: دعاؤه إلى الخير والحسنات. وأما قوله تعالى: فأنساه الشيطان ذكر ربه فالضمير الذي في (أنساه) وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن، أي: أن الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام. ويحتمل أيضا أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى، ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام، وبرهان ذلك قول الله عز وجل: وادكر بعد أمة فصح يقينا أن المذكر بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر. وحتى لو صح أن الضمير من (أنساه) راجع إلى يوسف عليه السلام; لما كان في ذلك نقص ولا ذنب; إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء! وأما قوله: همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال: (إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة) ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم! فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم!! فإن قيل: إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد، قلنا: نعم! ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط! والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك، إذ إنما أخذه عمن لا يدرى من هو، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره; لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله، ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به! لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين: إما أنه هم بالإيقاع بها وضربها،




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #416
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الرَّعْدِ
    المجلد التاسع
    صـ 3636 الى صـ 3650
    الحلقة (415)






    [ ص: 3636 ] كما قال تعالى: وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وكما يقول القائل: لقد هممت بك، لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها، وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قد القميص. والوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله: ولقد همت به ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل، وبهذا نقول. وبرهان ربه هاهنا: هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة، وهذا لا شك فيه! ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف، ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك. وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن; إذ قال للأنصاريين حين لقيهما: « هذه صفية » ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنى وهو يسمع قول الله تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنى: سوء هو أم غير سوء؟ فلا بد أنه سوء، ولو قال: إنه ليس بسوء لعاند الإجماع، فإذ هو سوء، وقد صرف عنه السوء، فقد صرف عنه الهم بيقين! وأيضا فإنها قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق: " إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " ، فصح أنها كذبت بنص القرآن، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءا، فما هم بالزنى قط. ولو أراد بها الزنى لكانت من الصادقين، وهذا بين جدا، وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن فصح عنه أنه قط لم يصب إليها.

    انتهى كلام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان. وإنما نقلت كلامه برمته; لأنه كما قيل:

    *
    وما محاسن شيء كله حسن...!!
    *
    [ ص: 3637 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    13- سُورَةُ الرَّعْدِ

    سُمِّيَتْ بِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ الدَّالِّ عَلَى الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّ ةِ، مَعَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَلَكُوتِيَّ ةِ، وَمَعَ كَوْنِ الرَّعْدِ جَامِعًا لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّرْجِيَةِ ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ- قَالَهُ الْمَهَايِمِيُّ .

    وَلِلسَّلَفِ رَأْيَانِ فِي أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ، وَيُقَالُ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا مَدَنِيٌّ وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

    وَآيُهَا ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ.

    [ ص: 3638 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

    [ 1 ] المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ

    قَالَ أَبُو السُّعُودِ: المر اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَمَحَلُّهُ: إِمَّا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ السُّورَةُ مُسَمَّاةٌ بِهَذَا الِاسْمِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنَ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ; إِذْ لَمْ يَسْبِقِ الْعِلْمُ بِالتَّسْمِيَةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى تِلْكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهِ إِيذَانًا بِفَخَامَتِهِ، وَإِمَّا النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ نَحْوَ: اقْرَأْ أَوِ اذْكُرْ، فَـ " تِلْكَ" مُبْتَدَأٌ كَمَا إِذَا جَعَلَ المر مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، وَالْخَبَرُ عَلَى التَّقَادِيرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى آيَاتُ الْكِتَابِ أَيِ الْكِتَابِ الْعَجِيبِ الْكَامِلِ الْغَنِيِّ عَنِ الْوَصْفِ بِهِ، الْمَعْرُوفِ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ، الْحَقِيقِ بِاخْتِصَاصِ اسْمِ الْكِتَابِ بِهِ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، أَوْ عَنِ الْجَمِيعِ الْمُنَزَّلِ حِينَئِذٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أَيْ: مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ بِكَمَالِهِ الْحَقُّ أَيِ: الثَّابِتُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ فِي كُلِّ مَا نَطَقَ بِهِ، الْحَقِيقُ بِأَنْ يَخُصَّ بِهِ الْحَقِّيَّةَ لِعَرَاقَتِهِ فِيهَا، وَقُصُورِ غَيْرِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ فِيهَا. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ، وَإِسْنَادِ الْإِنْزَالِ إِلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَالتَّعَرُّضِ لِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى فَخَامَةِ الْمُنْزَلِ التَّابِعَةِ لِشَأْنِ جَلَالَةِ الْمَنْزِلِ وَتَشْرِيفِ الْمُنْزَلِ إِلَيْهِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ الْخَبَرِ- مَا لَا يَخْفَى....! انْتَهَى مُلَخَّصًا بِزِيَادَةٍ.

    [ ص: 3639 ] لَطِيفَةٌ:

    فِي " الَّذِي أُنْزِلَ" وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَ " الْحَقُّ" خَبَرُهُ، أَوِ الْخَبَرُ " مِنْ رَبِّكَ" وَ " الْحَقُّ" خَبَرٌ مَحْذُوفٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَثَانِيهِمَا: مَحَلُّهُ الْجَرُّ بِالْعَطْفِ عَلَى (الْكِتَابِ) عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، أَوْ بِتَقْدِيرِ زِيَادَةِ الْوَاوِ فِي الصِّفَةِ، وَ (الْحَقُّ) خَبَرُ مَحْذُوفٍ، وَمَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ زِيَادَةَ الْوَاوِ فِي الصِّفَاتِ. وَآخَرُونَ عَلَى جَوَازِهَا لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، أَيِ الْجَمْعُ وَالِاتِّصَالُ; لِأَنَّهَا كَمَا تَجْمَعُ الْمَعْطُوفَ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ تَجْمَعُ الْمَوْصُوفَ بِالصِّفَةِ، وَتُفِيدُ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أَيْ: بِذَلِكَ الْحَقِّ لِرَفْضِهِمُ التَّدَبُّرَ فِيهِ شِقَاقًا وَعِنَادًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 2 ] الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون

    يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بقدرته رفع السماوات، أي خلقهن مرتفعات عن الأرض ارتفاعا لا ينال ولا يدرك مداه. وقوله تعالى: بغير عمد ترونها أي أساطين، جمع عماد أو عمود. وقوله تعالى ترونها إما استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك، كقول الشاعر:


    أنا بلا سيف ولا رمح تراني


    أو صفة لـ (عمد) جيء بها إبهاما; لأن لها عمدا غير مرئية، وإليه ذهب كثير من السلف، ورجح ابن كثير [ ص: 3640 ] الأول، وأنها لا عمد لها، قال: وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى: ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه والأكمل أيضا في القدرة. وقوله تعالى: ثم استوى على العرش تقدم تفسيره في سورة الأعراف، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقوله تعالى: وسخر الشمس والقمر أي ذللهما لما أراد منهما من نفع العالم السفلي. وقوله تعالى: كل يجري لأجل مسمى أي لغاية معينة ينقطع دونها سيره، وهو قيام الساعة، كقوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها وقد بين ذلك في قوله تعالى: إذا الشمس كورت وإذا الكواكب انتثرت والاقتصار على الشمس والقمر; لأنهما أظهر الكواكب وأعظم من غيرهما، فتسخير غيرهما يكون بطريق الأولى. وقد جاء التصريح بتسخيرهما مع غيرهما في قوله تعالى: والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر وقوله تعالى: يدبر الأمر أي: أمر العالم العلوي والسفلي ويصرفه ويقضيه بمشيئته وحكمته على أكمل الأحوال، لا يشغله شأن عن شأن. وقوله تعالى: يفصل الآيات يعني: الآيات الدالة على وحدته وقدرته ونعوته الجليلة. أي: يبينها في كتبه المنزلة. وقوله تعالى: لعلكم بلقاء ربكم توقنون أي: لعلكم توقنون وتصدقون بأن هذا المدبر والمفصل، لا بد لكم من المصير إليه، بالبعث بعد الموت للجزاء; فإن من تدبر حق التدبر; أيقن أن من قدر على إبداع ما ذكر من الآيات العلوية; قدر على الإعادة والجزاء!.

    [ ص: 3641 ] لطائف

    الأولى: جوز في قوله تعالى: الله الذي رفع السماوات أن يكون الموصول خبرا، وأن يكون صفة، والخبر يدبر الأمر ورجح في (الكشف) الأول، بأن قوله الآتي وهو الذي مد الأرض عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات، وفي المقابل الخبرية متعينة، فكذا هذا ليتوافقا. والجملة مقررة لقوله: والذي أنـزل إليك من ربك الحق وعدل عن ضمير الرب إلى الجلالة لترشيح التقرير. كأنه قيل: كيف لا يكون المنزل ممن هذه أفعاله هو الحق؟ وتعريف الطرفين لإفادة أنه لا مشارك له فيها; لا سيما وقد جعل صلة للموصول، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيدا لتحقيق كونه مدبرا مفصلا، مع التعظيم لشأنهما. والمقصود بالإفادة قوله: لعلكم بلقاء ربكم توقنون فالمعنى: أنه فعلها كلها لذلك.

    الثانية: قال القاضي: قوله تعالى: رفع السماوات إلخ دليل على وجود الصانع الحكيم، فإن ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية، واختصاصها بما يقتضي ذلك ; لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني، يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته، وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات.

    الثالثة: " يدبر" و " يفصل" يقرآن بالياء والنون. وهما مستأنفان. أو الأول حال من ضمير (سخر) والثاني من ضمير (يدبر) أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة.

    ولما قرر الشواهد العلوية أردفها بذكر الدلائل السفلية على قدرته وحكمته. فقال تعالى:
    [ ص: 3642 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 3 ] وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

    وهو الذي مد الأرض أي بسطها وجعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض لإخراج النعم الكثيرة منها.

    قال الشهاب: استدل به بعضهم على تسطيح الأرض، وأنها غير كرية بالفعل. وأن من أثبته أراد به أنه مقتضى طبعها! ورد بأنه ثبت كريتها بأدلة عقلية، لكنه لعظم جرمها يشهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح! وهكذا كل دائرة عظيمة. ولا يعلم كريتها إلا هو تعالى.

    وجعل فيها رواسي أي: جبالا ثوابت أوتادا لها يكثر فيها النبات وتنحفظ تحتها المياه وأنهارا متفجرة منها، وذلك لتكثير النبات والأشجار وحفظ الحيوان ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين أي: صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير، والبستاني والجبلي.

    قال المهايمي: ليفيد كل صنف فائدة غير فائدة الآخر، فكان كل صنف نعمة بعد الإنعام بأصول الأصناف، وجعل لإتمام الإنعام بالأصناف المختلفة الطبائع; لئلا تجتمع فتضار متناولها فصولا مختلفة إذ:

    يغشي الليل النهار أي: يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا فبطول الليل يحصل الشتاء، وبطول النهار يحصل الصيف، وبأحد الاعتدالين يحصل الخريف، وبالآخر الربيع إن في ذلك أي: في مد الأرض وما بعده لآيات لقوم يتفكرون [ ص: 3643 ] أي: لآيات باهرة لقوم يتفكرون فيستدلون بأن تكوين ما ذكر على هذا النمط البديع لا بد له من قادر حكيم! أو يتفكرون فيعلمون أن تكثير النعم لجلب محبة المنعم بصرفها إلى ما خلقت من أجله. والمحبة موجبة للرجوع إليه. وفيه إشارة إلى أن من دبر ذلك لمعايشهم، أفلا ينعم عليهم بإرسال رسل وإنزال كتب ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم؟ بلى، وهو أحكم الحاكمين.

    لطائف:

    الأولى: قال الرازي: من الاستدلال بأحوال الجبال، أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض. وذلك أن الحجر جسم صلب. فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة. ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض. فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه، ولهذا السبب. ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال; قرن بها ذكر الأنهار، مثل ما في هذه الآية، ومثل قوله: وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا

    الثانية: أشار الرازي إلى أن الناس، كما ابتدأوا من زوجين اثنين بالشخص، هما آدم وحواء، فكذا الأشجار والزروع خلقت أولا من زوجين اثنين ثم كثرت، والله أعلم.

    الثالثة: في قوله يغشي الليل النهار استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجو بالظلمة، بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية، أي يستر النهار بالليل. والتركيب وإن احتمل العكس أيضا -بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول- فإن ضوء النهار أيضا ساتر لظلمة الليل، إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي. وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية، وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا -باعتبار أن ظهوره في الأرض- [ ص: 3644 ] فإن الليل إنما هو ظلها، وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلا. ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج، على أنهما أيضا زوجان متقابلان مثلها.

    وقرئ ((يغشي)) من التغشية -أفاده أبو السعود-.
    ثم بين تعالى طائفة من الآيات بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 4 ] وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون

    وفي الأرض قطع متجاورات أي: بقاع متقاربات مختلفة الطبائع. فمن طيبة إلى سبخة، ومن صلبة إلى رخوة، مما يدل على قادر مدبر مريد حكيم في صنعه: وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان جمع صنو، وهي نخلة أصلها واحد وفروعها شتى، وفي (القاموس) النخلتان، فما زاد في الأصل الواحد، كل واحدة منهما صنو، ويضم. أو عام في جميع الشجر، وإفراد الزرع لأنه مصدر في الأصل يشمل القليل والكثير يسقى قرئ بالتحتية والفوقية بماء واحد أي: بماء المطر أو بماء النهر ونفضل بعضها على بعض في الأكل فتتفاضل قدرا وشكلا ورائحة وطعما. والأكل، قرئ بضم الهمزة والكاف وتسكينها وهو ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحب. والمجرور إما ظرف لـ (نفضل) أو حال من بعضها، أي: نفضل بعضها مأكولا. أو: وفيه الأكل إن في ذلك أي: الذي فصل لآيات على وحدانيته تعالى وباهر قدرته لقوم يعقلون فإن من عقل ما تقدم جزم بأن من قدر على إبداعها وخلقها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتباينة المتجاورة، وجعلها حدائق ذات بهجة; قادر على إعادة ما أبداه، بل هو أهون في القياس.
    [ ص: 3645 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 5 ] وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: إن تعجب من شيء فقولهم عجيب حقيق بأن يقتصر عليه التعجب; لأن من شاهد ما عدد من الآيات العجيبة التي تدل على قدرة يصغر عندها كل عظيم- أيقن بأن من قدر على إنشائها ولم يعي بخلقها، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب. وجوز أن يكون خطابا لكل من يصلح له، أي: إن تعجب، يا من نظر في هذه الآيات، وعلم قدرة من هذه أفعاله، فازدد تعجبا ممن ينكر، مع هذا، قدرته على البعث، وهو أهون من هذه!.

    قال أبو السعود: والأنسب بقوله: ويستعجلونك بالسيئة هو الأول و (عجب) خبر قدم على المبتدأ للقصر، والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم: ذاك أمرا عجيبا.

    وقوله تعالى: أولئك أي المنكرون لقدرته على البعث الذين كفروا بربهم أي: تمادوا في الكفر; فإن من أنكر قدرته تعالى فقد أنكره; لأن الإله لا يكون عاجزا، وفيه تكذيب لخبره ولرسله عليهم السلام: وأولئك الأغلال في أعناقهم أي: السلاسل في أيمانهم مشدودة إلى أعناقهم يوم القيامة; لأنهم غلوا أفكارهم عن النظر في هذه الأمور، كما جعلوا خالقهم مغلول القدرة على ذلك وهو القادر الحكيم. وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
    [ ص: 3646 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 6 ] ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب

    ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة أي: يستعجلونك بالعقوبة قبل العافية والسلامة منها، وذلك أنهم سألوا رسول الله صلوات الله عليه، أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره.

    قال الشهاب: والمراد بكونها قبل الحسنة، أن سؤالها قبل سؤالها، أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها!.

    وقد خلت من قبلهم المثلات أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين. فما لهم لا يعتبرون بها ولا يخشون حلول مثلها؟ أو العقوبات التي يضرب بها المثل في الشدة. والجملة حالية أو مستأنفة. و (المثلات) قراءة العامة فيها فتح الميم وضم الثاء جمع مثلة -كسمرة وسمرات- وهي العقوبة الفاضحة. سميت بها لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص، يقال: أمثلته وأقصصته بمعنى واحد، أو هي من المثل المضروب لعظمها. وقرئ بفتح الميم وسكون المثلثة، وهي لغة أهل الحجاز، وقرئ بضم الميم وسكون المثلثة، وقرئ بفتحهما وبضمهما.

    وقوله تعالى: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم من الناس من حمل المغفرة على المتعارف منها، وهو مغفرة الذنوب مطلقا إلى حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد، فإن ظلمه -أعني شركه- لا يغفر.. وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة. ومنهم من ذهب إلى أن المغفرة مراد بها معناها اللغوي. وهو الستر والصفح، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة، أي: إنه ذو صفح عظيم لا يعاجل بالعقوبة. مع أنهم يظلمون ويخطئون [ ص: 3647 ] بالليل والنهار. كما قال سبحانه: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وهذا التأويل أنسب بالسياق الرهيب!.

    وعجب من الشهاب حيث وافق الرازي في دعواه (إن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة; لأنه مخالف للظاهر، ولاستعمال القرآن، وللزومه كون الكفار كلهم مغفورا لهم لأجل تأخير عقابهم إلى الآخرة) ولا يخفاك صحة تسميته مغفرة; لأنها في اللغة الستر، ومن أفراده الستر بالإمهال؟ ودعوى أنه مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن، تحكم بحت على أسلوب القرآن، بإرجاعه إلى ما أصلوه. مع أن التحاكم إليه في الفروع والأصول، وهو الحجة في اللغة والاستعمال! ودعوى فساد اللزوم وتهويل خطبه فارغة; لأنه لا محذور في ذلك، لا سيما وهو المناسب لاستعجالهم العذاب المذكور قبل، فالتلازم صحيح! ثم من المقرر أن القرآن يفسر بعضه بعضا، فهذه الآية في معناها كآية ولو يؤاخذ الله الناس إلخ. فما ذكر من التأويل مؤيد بهذه الآية، فتفطن ولا تكن أسير التقليد..!

    ولما بين تعالى سعة حلمه، قرنه ببيان قوة عقابه; ليعتدل الرجاء والخوف، فقال سبحانه: وإن ربك لشديد العقاب أي: لمن شاء، كما قال تعالى: فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين وقال تعالى: إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقال سبحانه: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم
    [ ص: 3648 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 7 ] ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد

    ويقول الذين كفروا وهم المستعجلون بالسيئة المتقدمون.

    قال أبو السعود: وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصول; ذما لهم ونعيا عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال، حيث لم يرفعوا لهم رأسا، ولم يعدوها من جنس الآيات، وقالوا عنادا: لولا أنـزل عليه آية من ربه أي: مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام، أو مثل ما يقترحون من جعل الصفا ذهبا، أو إزاحة الجبال وجعل مكانها مروجا وأنهارا إنما أنت منذر أي: مرسل للإنذار والتخويف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون، وناصح كغيرك من الرسل، فما عليك إلا البلاغ، لا إجابة المقترحات ولكل قوم هاد أي: نبي داع إلى الحق مرشد بالآية التي تناسب زمنه، كقوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير تعريض بأنه عليه الصلاة والسلام ليس بدعا من الرسل. فقد خلا قبله الهداة الداعون إلى الله، عليهم السلام. أو المعنى: لكل قوم هاد عظيم الشأن، قادر على هدايتهم، هو الله سبحانه، فما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم. وإيتاؤهم الإيمان وصدهم عن الجحود; فإن ذلك لله وحده كقوله تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء أو المعنى: " لكل قوم هاد " قائد يهديهم إلى الرشد. وهو الكتاب المنزل عليهم الداعي بعنوان الهداية إلى ما فيه صلاحهم. يعني: أن سر الإرسال وآيته الفريدة إنما هو الدعاء إلى الهدى وتبصير سبله، والإنذار من الاسترسال في مساقط الردى. وقد أنزل عليك من الهدى أحسنه. فكفى بهدايته آية كبرى وخارقة عظمى. وأما الآيات المقترحة فأمرها إلى الله، وقد [ ص: 3649 ] لا يفيد إنزالها هداية! قال تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون مع ما يستتبع الإصرار بعدها من الأخذ بلا إمهال!: سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا

    قال الشهاب: وجوز عطف (هاد) على (منذر) وجعل المتعلق مقدما عليه، للفاصلة فيدل على عموم رسالته وشمول دعوته. وقد يجعل خبر مبتدأ مقدر، أي: وهو هاد، أو وأنت هاد، وعلى الأول فيه التفات.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 8 ] الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 9 ] عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال

    الله يعلم ما تحمل كل أنثى جملة مستأنفة، جواب سؤال وهو: لماذا لم يجابوا لمقترحهم فتنقطع حجتهم فلعلهم يهتدون بأنه آمر مدبر عليم نافذ القدرة فعال لما تقتضيه حكمته البالغة دون آرائهم السخيفة؟ وهذا على أن (الهادي) بمعنى (الداعي إلى الحق).

    وإن كان المراد به الله سبحانه; فالجملة تفسير لقوله (هاد) أو مقررة مؤكدة لذلك- كذا في (العناية).

    وأشار الرازي إلى أن الآية: إما متصلة بما قبلها مشيرة إلى أنه تعالى واسع العلم لا يخفى عليه أن اقتراحهم عناد وتعنت، وأنهم لا يزدادون بإظهار مقترحهم إلا عنادا، فلذا لم يجابوا [ ص: 3650 ] إليه. وإما متصلة بقوله ويستعجلونك يعني: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات. فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم أن فيه مصلحة.

    ثم إن لفظ (ما) في قوله تعالى ما تحمل مصدرية أو موصولة، أي: حملها، أو ما تحمله من الولد، على أي حالة هو من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج، وحسن وقبح، وطول وقصر.... وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة.

    وما تغيض الأرحام أي: تنقص من الحمل وما تزداد أي: تأخذه زائدا.

    قال الزمخشري: ومما تنقصه الرحم وتزداده، عدد الولد; فإنها تشمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه، ومنه جسد الولد فإنه يكون تاما ومخدجا. ومنه مدة ولادته، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر، وأزيد عليها، ومنه الدم فإنه يقل ويكثر.

    وكل شيء عنده بمقدار أي: بقدر وحد لا يجاوزه حسب قابليته، كقوله تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر وقوله: وخلق كل شيء فقدره تقديرا وذلك أنه تعالى خص كل مكون بوقت وحال معينين، وهيأ لوجوده وبقائه أسبابا مسوقة إليه تقتضي ذلك: عالم الغيب أي ما غاب عن الحس والشهادة أي ما شهده الحس الكبير أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المتعال أي المستعلي على كل شيء بقدرته. أو المنزه عن صفات المخلوقين، المتعالي عنها.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #417
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الرَّعْدِ
    المجلد التاسع
    صـ 3651 الى صـ 3665
    الحلقة (416)





    وأكثر القراء على حذف ياء المتعال تخفيفا، وصلا ووقفا، وقرئ بإثباتها فيهما على الأصل.
    [ ص: 3651 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 10 ] سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار

    سواء منكم من أسر القول أي في نفسه ومن جهر به أي لغيره ومن هو مستخف بالليل أي: طالب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته وسارب بالنهار أي: ذاهب في سربه، أي في طريقه يبصره كل أحد.

    لطيفة:

    قيل: إن (سواء) بمعنى الاستواء، وهو يقتضي ذكر شيئين، وهنا إذا كان (سارب) معطوفا على جزء الصلة أو الصفة; يكون شيئا واحدا.

    وأجيب عنه بوجهين: (الأول) أن (سارب) معطوف على (من هو) لا على (مستخف) كأنه قيل: سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر هو سارب. و(الثاني) أنه عطف على (مستخف)، إلا أن (من) في معنى الاثنين، كقوله:


    نكن مثل من يا ذئب يصطحبان


    كأنه قيل: سواء منكم اثنان هما مستخف وسارب. وعلى الوجهين (من) موصوفة لا موصولة. فيحمل الأولان على ذلك ليتوافق الكل.

    وهناك وجه آخر وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية، والمعنى: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار. وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع، خصوصا وقد [ ص: 3652 ] تكرر الموصول في الآية ثلاثا. ومنه قوله تعالى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم والأصل: ولا ما يفعل بكم. وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه; لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف، لم يكن للنفي موقع، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة، ومنه قول حسان رضي الله عنه:


    فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء!


    أي: ومن يمدحه وينصره.

    وهذا الأخير نقله الناصر في (الانتصاف) وهو وجيه جدا. وأما تضعيف غيره له بلزوم حذف الموصول وصدر الصلة معا، وأن النجاة، وإن ذكروا جواز كل منهما، لكن اجتماعهما منكر; فهو المنكر; لأن أسلوب التنزيل هو الحجة، وإليه التحاكم في كل فن ومحجة. والجمود على القواعد ورد ما خالفها، إليها -من التعصب واللجاج، والغفلة عن مقام التنزيل في الاحتجاج!.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 11 ] له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال

    له معقبات أي: لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب، ملائكة يتعاقبون عليه [ ص: 3653 ] من بين يديه ومن خلفه أي: من جوانبه كلها، أو من أعماله، ما قدم وأخر يحفظونه من أمر الله أي يراقبون ما يلفظ من قول وما يأتي من عمل، خيرا أو شرا، بأمره وإذنه، أو من أجل أمره لهم بحفظه. فـ (من) تعليلية أو بمعنى باء السببية، ولا فرق بين العلة والسبب عند النحاة، وإن فرق بينهما أهل المعقول.

    وفي (الصحيح): « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر. فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون » .

    وفي الحديث الآخر: « إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء، وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم » .

    و (المعقبات) جمع معقبة من (عقب) مبالغة في (عقب) فالتفعيل للمبالغة والزيادة في التعقيب فهو تكثير للفعل أو الفاعل، لا للتعدية; لأن ثلاثيه متعد بنفسه. أصل معنى (العقب) مؤخر الرجل، ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة، كأن أحدهم يطأ عقب الآخر. قال الراغب: عقبه إذا تلاه نحو دبره وقفاه. وقيل: هو من (اعتقب) أدغمت التاء في القاف; وردوه بأن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين. وقد قال أهل التصريف: إن القاف والكاف، كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما. والتاء في (معقبة) واحدة (المعقبات) للمبالغة لا للتأنيث; لأن الملائكة لا توصف به. مثل نسابة وعلامة. [ ص: 3654 ] أو هي صفة جماعة وطائفة. و من بين يديه ظرف مستقر صفة معقبات أو ظرف لغو متعلق بها. و (من) لابتداء الغاية أو حال من الضمير الذي في الظرف الواقع خبرا. والكلام على هذه الأوجه يتم عند قوله ومن خلفه ويجوز أن يكون ظرفا لـ يحفظونه أي: معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، أي تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال، كناية عن حفظ جميع أعماله. ويجوز أن يكون يحفظونه صفة لـ معقبات أو حالا من الظرف قبله، بمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه.

    تنبيهات:

    الأول: ما قدمناه في معنى الآية هو الأشهر. وعن ابن عباس: هو السلطان الذي له حرس من بين يديه ومن خلفه.

    قال الزمخشري: أي يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله. أي من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به.

    قال الرازي: وهذا القول اختاره أبو مسلم الأصفهاني. والمعنى: أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل والسارب المستظهر بالأعوان والأنصار، وهم الملوك والأمراء. فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره، ومن سار نهارا بالمعقبات، وهم الحراس والأعوان الذين يحفظونه; لم ينجه حرسه من الله تعالى! والمعقب العون; لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخر، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره! وهم وإن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه، فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة!. والمقصود من هذه الجملة: بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره، عن حفظ الله وعصمته، ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار، ولذلك قال تعالى بعد: وإذا أراد الله بقوم سوءا الآية.

    [ ص: 3655 ] الثاني: قدمنا أن الضمير في له معقبات لمن أسر أو جهر.. إلخ. وأرجعه بعضهم لله، وما بعده (لمن). قال الشهاب: فيه تفكيك للضمائر من غير داع. وقيل: الضمير (لمن) الأخير، وقيل: للنبي لأنه معلوم من السياق.

    الثالث: أشار الرازي في معنى الآية الأشهر إلى سر اختصاص الحفظة ببني آدم، ما ملخصه: إنهم يدعون إلى الخيرات والطاعات بما يجده المرء من الدواعي القلبية إليها، وإن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب; لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها ; زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها، كما يزجره عنه إذا حضره من يعظمه من البشر. وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال; كان ذلك أيضا رادعا له عنها. وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.!

    إن الله لا يغير ما بقوم أي: من العافية والنعمة: حتى يغيروا ما بأنفسهم أي: من الأعمال الصالحة أو ملكاتها، التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها: وإذا أراد الله بقوم سوءا أي: لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك فلا مرد له أي: فلا رد لقضائه فيهم وما لهم من دونه من وال أي: يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم. وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال. وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية، قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة، واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه -أفاده أبو السعود-.

    تنبيه:

    في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة، ومالوا مع الأهواء، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة; حل بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا، ويفرق كلمتهم، ويوهي قوتهم، ويسلط عدوهم!.

    [ ص: 3656 ] وفي حديث قدسي عند ابن أبي حاتم: « ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون » .

    ولابن أبي شيبة: « ما من قرية ولا أهل بيت، كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي، إلى ما يحبون من رحمتي » .

    وقال القاشاني: لا بد في تغيير النعم إلى النقم، من استحقاق جلي أو خفي.

    وعن بعض السلف: إن الفأرة مزقت خفي، وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته، وإلا ما سلطها الله علي! وتمثل بقول الشاعر:


    لو كنت من مازن لم تستبح إبلي


    أقول: المنقول عن بعض السلف محمول على شدة الخوف منه تعالى، وإلا فالتحقيق الفرق بين ما ينال الشخص والقوم، كما أشارت له الآية. وقد جود الكلام في ذلك، الإمام مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في بحث الدين الإسلامي فقال:

    كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان). فقرر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية، التي قدرها الله في علمه الأزلي، لا يغيرها شيء من الطوارئ الجزئية. غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها. بل ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها، فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، [ ص: 3657 ] فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله » . وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا يقضي فيها إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها. ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم، والمصائب التي يرزؤن بها; ففصل بين الأمرين (الأشخاص والأمم) فصلا لا مجال معه للخلط بينهما.

    فأما النعم التي يمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه; فكثير منها كالثروة والجاه، والقوة والبنين، أو الفقر والضعة والضعف والفقد، وقد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة وعوج أو طاعة وعصيان. وكثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة، أو الفجرة الفسقة، وترك لهم متاع الحياة الدنيا; إنظارا لهم حتى يتلقاهم ما أعد لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى!. وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة، عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون ! فلا غضب زيد، ولا رضا عمرو، ولا إخلاص سريرة، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا، ولا في تلك النعم الخاصة، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة، كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن، وضياع السلطان بالظلم. وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر، وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر...!.

    أما شأن الأمم فليس على ذلك ; فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية: من تصحيح الفكر، وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامح الشهوات، والدخول [ ص: 3658 ] إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة، والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل، ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها. يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه، حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره! واستبدل الله عزة القوم بالذل، وكثرهم بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين، ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال، ولا يستجاب منهم الدعاء، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجأوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة، برسل الفكر والذكر والصبر والشكر: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وما أجل ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه. اللهم! إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة..!.

    [ ص: 3659 ] على هذه السنن، جرى سلف الأمة، فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية، ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة; كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه، ويشق الفلك ببكائه، وهو ولع بأهوائه، ماض في غلوائه، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئا..!.

    ولما خوف تعالى العباد بإنزال ما لا مرد له; أتبعه ببيان آيات قدرته وقهره وجلاله. فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 12 ] هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال [ 13 ] ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال

    هو الذي يريكم البرق خوفا أي: من الصواعق وطمعا أي بالمطر أن يحيي النبات وينشئ السحاب الثقال أي بالماء. ويسبح الرعد بحمده أي يسبح سامعوه من العباد الراجين للمطر متلبسين بحمده، أي: يضجون بـ (سبحان الله والحمد لله) فيكون على حذف مضاف أو إسنادا مجازيا للحامل والسبب، أو يسبح الرعد نفسه، بمعنى دلالته على وحدانيته تعالى وفضله، المستوجب لحمده. فيكون الإسناد على حقيقته والتجوز في التسبيح والتحميد. إذ شبه دلالته بنفسه على تنزيهه عن الشرك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي. ودلالته على فضله ورحمته، بحمد الحامد لما فيها من الدلالة على صفات الكمال.

    قال الرازي: الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص. والتسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى. فلما كان حدوث [ ص: 3660 ] هذا الصوت دليلا على وجود متعال عن النقص والإمكان; كان ذلك في الحقيقة تسبيحا. وهو معنى قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده

    والملائكة من خيفته أي: وتسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته وإجلاله ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء أي: فيهلك بها من يشاء. وقوله تعالى: وهم يجادلون في الله يعني الكفرة المخاطبين في قوله تعالى هو الذي يريكم البرق وقد التفت إلى الغيبة إيذانا بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضا عنهم، وتعديدا لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب. كأنه قيل: هو الذي يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة، من إراءة البرق، وإنشاء السحاب الثقال، وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته، ويعقلها من يعقلها من المؤمنين، أو الرعد نفسه والملائكة. ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى، و (هم) أي الكفرة الذين حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم، يجادلون في شأنه تعالى، بإنكار البعث واستعجال العذاب، استهزاء، واقتراح الآيات. فالواو لعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى: هو الذي يريكم أفاده أبو السعود.

    أي: يريكم ما ذكر من الآيات الباهرة الدالة على القدرة والوحدانية. وأنتم تجادلون فيه، و (الجدال) أشد الخصومة، من (الجدل) بالسكون، وهو فتل الحبل ونحوه; لأنه يقوى به وتشتد طاقته وهو شديد المحال أي: والحال أنه شديد المماحلة والمماكرة والمكايدة لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون، من (محله) إذا كاده وعرضه للهلاك، ومنه (تمحل لكذا) إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه.

    تنبيه:

    ذكر في العلم الطبيعي: أن الصواعق شرارات تنطلق دفعة واحدة من تموجات السحب [ ص: 3661 ] ومصادمتها لبعضها; فيحصل في الهواء اهتزاز قوي. وأما الرعد فهو الصوت الذي يحصل من ذلك الانطلاق ويصل إلينا ببطء على حسب بعد السحب الحاملة للصواعق عنا. وعلى حسب اتساع السحب، يطول سماعنا لصوت الرعد. وإذا لمع البرق من السحابة، فقد تمت نتائج الصاعقة، فمتى مضت برهة لطيفة بين لمعان البرق وسماع الرعد، فقد أمن ضررها. فإن لم يمض بينهما شيء، بأن كان الإنسان قريبا من محل الصاعقة وسمع الرعد مع مشاهدة البرق في آن واحد; أمكن أن يصاب بالصاعقة في مرورها. وأما سبب انفجار الصاعقة فقالوا: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها، فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتنبجس بينهما شرارة كهربائية هي البرق. وحينئذ يقال: إن الأجسام الأرضية صعقت. هذا مجمل ما قالوه.

    وقد حاول الرازي الجمع بين ما روي عن بعض السلف: أن الرعد ملك، وبين ما ثبت في العلم الطبيعي بما يدفع المنافاة فقال: اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره؛ وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية. قال: وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء. فكيف يليق بالعاقل الإنكار؟! انتهى.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 3662 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 14 ] له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال

    له دعوة الحق أي" الدعاء الحق بالعبادة والتضرع والإنابة؛ وتوجيه الوجه ثابت له تعالى لا لغيره. لأنه الذي يجيب المضطر ويكشف السوء فهو الحقيق بأن يعبد وحده بالدعاء والالتجاء. فإضافة الدعوة للحق من إضافة الموصوف للصفة.

    وفيها إيذان بملابستها للحق، واختصاصها به، وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضياع والضلال، كما يقال: كلمة الحق.

    ثم بين تعالى مثال من يعبد من الأصنام ويدعي في عدم النفع والجدوى بقوله: والذين يدعون من دونه أي: الأصنام الذين يدعوهم المشركون من دونه تعالى لا يستجيبون لهم بشيء أي: من مطلوباتهم إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه أي: إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أي كاستجابة الماء لمن مد يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بظمئه وحاجته إليه، فلا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه، جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم!. والغرض نفي الاستجابة على القطع بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم; أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه فضلا عن مجرد الحاجة. وحاصله: أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة، وبقائهم لذلك في الخسران- بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة. فهو لذلك في زيادة ظمأ وشدة خسران! والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل، أبرز في معرض التهكم، حيث أثبت [ ص: 3663 ] للماء استجابة، زيادة في التخسير والتحسير. فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر، أي: لا يستجيبون شيئا من الاستجابة، والضمير في (هو) للماء و (بالغه) للفم، وقيل: الأول للباسط والثاني للماء. وبسط الكف: نشر الأصابع ممدودة كما في قوله:


    تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضا لم تطعه أنامله


    وما دعاء الكافرين أي: عبادتهم والتجاؤهم لآلهتهم إلا في ضلال أي: في ضياع لا منفعة فيه لعدم إمكان إجابتهم.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 15 ] ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال

    ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال إخبار عن عظمته تعالى وسلطانه الذي قهر كل شيء، بأنه ينقاد لجلاله وإرادته وتصريفه المكونات بأسرها من أهل الملأ الأعلى والأسفل، طائعين وكارهين لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وكذا تنقاد له تعالى ظلالهم حيث تتصف على مشيئته في الامتداد والتقلص والفيء [ ص: 3664 ] والزوال!. وقوله بالغدو والآصال إما ظرف لـ (يسجد) والباء بمعنى (في) والمراد بهما الدوام; لأنه يذكر مثله للتأييد، وإما حال من (الظلال) والمراد ما ذكر. أو يقال التخصيص; لأن امتدادها وتقلصها فيهما أظهر. هذا ما جرى عليه الأكثر في معنى (السجود) فيكون استعارة للانقياد المذكور، أو مجازا مرسلا لاستعماله في لازم معناه; لأن الانقياد مطلقا لازم للسجود.

    وفي (تنوير الاقتباس): تأويل السجود بالصلاة والعبادة وجعل (طوعا وكرها) نشرا على ترتيب اللف. قال (طوعا) أهل السماء من الملائكة لأن عبادتهم بغير مشقة و (كرها) أهل الأرض; لأن عبادتهم بالمشقة، ثم قال: ويقال (طوعا) لأهل الإخلاص و (كرها) لأهل النفاق. ثم قال: (وظلالهم) يعني وظلال من يسجد لله أيضا، وتسجد غدوة عن أيمانهم، وعشية عن شمائلهم.

    قال أبو السعود: وقد قيل: إن المراد حقيقة السجود، فإن الكفرة حال الاضطرار وهو المعني بقوله تعالى (وكرها) يخصون السجود به سبحانه. قال تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهاما وعقولا بها تسجد لله سبحانه، كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري. ويجوز أن يراد بسجودها: ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها. وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر، حالة الضرورة والشدة، بالله سبحانه لا يجدي، فإن سجودهم لأصنامهم حالة الرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور، فالوجه حمل السجود على الانقياد، ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع، والإعدام له تعالى، أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه مع تحقيق سجودهم له تعالى. وتخصيص انقياد العقلاء بالذكر مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة. وانقيادهم دليل انقياد غيرهم. انتهى.

    [ ص: 3665 ] وهذه الآية كقوله تعالى: وله أسلم من في السماوات والأرض وقوله: أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله الآية.

    تنبيه:

    هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عقب قراءته واستماعه لهذه السجدة. كذا في (اللباب).
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 16 ] قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار

    قل من رب السماوات والأرض أي خالقهما قل الله أمر بالجواب من قبله صلى الله عليه وسلم; إشعارا بتعينه للجواب، فهو والخصم في تقريره سواء. أو أمره بحكاية اعترافهم; إيذانا بأنه أمر لا بد لهم منه. كأنه قيل: احك اعترافهم، فبكتهم بما يلزمهم من الحجة قل أي: إلزاما لهم وتبكيتا: أفاتخذتم من دونه أولياء أي: أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض، عبدتم من دونه غيره، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك؟ أفاده الزمخشري.

    لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا أي: لا يقدرون على نفع أنفسهم ولا على دفع الضر عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟! فإذن عبادتهم محض العبث والسفه! قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور لما بين ضلالهم وفساد


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #418
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الرَّعْدِ
    المجلد التاسع
    صـ 3666 الى صـ 3680
    الحلقة (417)



    [ ص: 3666 ] رأيهم في الحجة المذكورة; بين أن الجاهل بها يكون كالأعمى، والعالم بها كالبصير، والجهل بمثلها كالظلمات، والعلم بها كالنور. وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير، والظلمة لا تساوي النور، كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها أم جعلوا لله شركاء أي: بل أجعلوا، والهمزة للإنكار، وقوله: خلقوا كخلقه صفة لـ (شركاء) داخلة في حكم الإنكار فتشابه الخلق عليهم أي: خلق الله وخلقهم. والمعنى: أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا عما يقدر عليه الخالق.

    قال الناصر: وفي قوله تعالى: خلقوا كخلقه في سياق الإنكار، تهكم بهم; لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة، لا بطريق المشابهة والمساواة لله، تقدس عن التشبيه، ولا بطريق الانحطاط والقصور، فقد كان يكفي في الإنكار عليهم، أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا، ولكن جاء في قوله تعالى كخلقه تهكم يزيد الإنكار تأكيدا!.

    قل الله خالق كل شيء أي: لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة! وهو الواحد أي: المتوحد بالربوبية القهار الذي لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور!.

    ثم ضرب تعالى مثلين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 17 ] أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال

    أنـزل من السماء أي المزن ماء أي مطرا فسالت أودية بقدرها أي: [ ص: 3667 ] بمقدار ملئها في الصغر والكبر، أي: أخذ كل واحد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير وسع بقدره فاحتمل السيل زبدا رابيا أي: فحمل ورفع، من قوة الجيشان، زبدا عاليا على وجه الماء: ومما يوقدون عليه في النار أي: من نحو الذهب والفضة والنحاس، مما يسبك في النار ابتغاء حلية أي: طلب زينة أو متاع كالآواني وآلات الحرب والحرث زبد مثله أي: مثل زبد السيل. وهو خبثه الذي ينفيه الكير كذلك يضرب الله الحق والباطل أي مثلهما، أي: إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما، مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل. وقد بين ذلك بقوله تعالى فأما الزبد فيذهب جفاء أي مقذوفا مرميا به، أي: فلا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث ما يوقد عليه من المعادن يذهب ولا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا ما ينتفع به من الماء والمعدن كما قال: وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض أي: يبقى فيها منتفعا به كذلك يضرب الله الأمثال أي: يبين أمثال الحق والباطل.

    تنبيهات:

    الأول: قدمنا أن هذه الآية مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس، فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع. وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا، يثبت الماء في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار. وكذلك المعدن يبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل وخبث المعدن، فإنه -وإن علا وارتفع وانتفخ- إلا أنه أخيرا يضمحل. [ ص: 3668 ] وكذلك الشبهات والتمويهات الزائفة قد تقوى وتعظم، إلا أنها في الآخرة تبطل وتضمحل وتزول، ويبقى الحق ظاهرا لا يشوبه شيء من الشبهات; لأنه لا بقاء إلا للنافع، وما تصارع الحق والباطل، إلا وفاز الحق بقرنه...!

    الثاني: قوله تعالى بقدرها صفة (أودية)، أو متعلق بـ (سالت) أو (أنزل). وقرأ عامة القراء بفتح الدال، وقرأ زيد بن علي والأشهب وأبو عمرو في رواية، بسكونها.

    الثالث: قوله تعالى احتمل بمعنى حمل، فالمزيد بمعنى المجرد- كذا قيل. ويظهر لي: أن إيثاره عليه لزيادة في معناه، وقوة في مبناه!.

    الرابع: الأودية جمع واد، وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام. والإسناد إليه مجاز عقلي، كما في (جرى النهر).

    قال السمين: وإنما نكر الأودية وعرف السيل; لأن المطر ينزل في البقاع على المناوبة فيسيل في بعض أودية الأرض دون بعض. وتعريف السيل لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو (فسالت)، وهو لو ذكر لكان نكرة. فلما أعيد أعيد بلفظ التعريف نحو: رأيت رجلا فأكرمت الرجل. انتهى.

    وأصله لأبي حيان حيث قال: عرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل. والذي يتضمنه الفعل من المصدر وإن كان نكرة، إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة. وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شرا له، أي الكذب. ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من (فسالت). وأورد عليه: أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث، والمذكور المعرف عين، فإن المراد به الماء السائل؟ وأجيب: بأنه بطريق الاستخدام.

    قال الشهاب: وهو غير صحيح، لا تكلف -كما قيل- لأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر. سواء كان حقيقيا أو مجازيا، وهذا ليس كذلك، لأن الأول [ ص: 3669 ] مصدر، أي حدث في ضمن الفعل، وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك الحدث، فكيف يتصور فيه الاستخدام؟ نعم، ما ذكروه أغلبي لا مختص بما ذكر، فإن مثل الضمير اسم الإشارة، وكذا اسم الظاهر كما في قول بعضهم:


    أخت الغزالة إشرافا وملتفتا


    فالحق أنه إنما عرف لكونه معهودا مذكورا بقوله أودية وإنما لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل.

    الخامس: قوله تعالى ومما يوقدون عليه في النار جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى، لضرب مثل آخر. و (زبد) مبتدأ قدم عليه خبره، (من) في (مما) للابتداء أي: نشأ منه، وجوز كونها للتبعيض، أي: هو بعضه؛ ورده أبو السعود بأنه يخل بالتمثيل. وقوله في النار صفة مؤسسة; لأن الموقد عليه يكون في النار وملاصقا لها، وقيل: إنها مؤكدة. وقال أبو السعود: في زيادة النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد. وعدم التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل، كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلا فيه حسبما فصل فيما سلف، بل له إخلال بذلك. وسر التعبير بالموصول في قوله ومما يوقدون إلخ، الإيجاز بجمعه لأنواع المعادن مع إظهار الكبرياء بالتهاون بها، كأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى; إذا عبر عن سبكه بإيقاد النار به، المشعر بأنه كالحطب الخسيس، وصوره بحالة هي أحط حالاته. وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلا للحق. لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به، مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه منتفعا به بقوله ابتغاء حلية أو متاع فوفى كلا من المقامين حقه.

    السادس: قدمنا أن قوله تعالى: كذلك يضرب الله الحق والباطل على حذف مضاف، أي: مثلهما، وسر الحذف الإنباء عن إكمال التماثل بين الممثل والممثل به، كأن المثل المضروب عين الحق والباطل.

    [ ص: 3670 ] السابع: بدأ بالزبد في البيان في قوله فأما الزبد وهو متأخر في الكلام السابق; لأن في التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت إلخ، وقد راعى الترتيب فيه، ولك أن تقول النكتة فيه أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا، وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره. والآية من الجمع والتقسيم على ما فصله الطيبي. كذا في (العناية).

    الثامن: قوله تعالى كذلك يضرب الله الأمثال تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله كذلك يضرب الله الحق والباطل إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول; أو بجعل ذلك إشارة إليهما. كذا في أبي السعود.

    التاسع: أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة، قال:

    وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين -ناري ومائي- وهو قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله الآية، ثم قال: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق الآية، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين أحدهما قوله: والذين كفروا أعمالهم كسراب الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحر، ولهذا جاء في (الصحيحين): « فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون؟ فيقولون؟ أي ربنا! عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون؟ فيردون [ ص: 3671 ] النار، فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا » . ثم قال تعالى في المثل الآخر أو كظلمات في بحر لجي الآية، وفي (الصحيحين) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا. وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ! فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني، ونفع به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به، فهذا مثل الماء » . وفي (مسند الإمام أحمد) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار! فتغلبوني فتتقحمون فيها... » وأخرجاه في (الصحيحين) أيضا. فهذا مثل ناري. انتهى.

    ولما بين سبحانه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا، تأثره ببيان حال أهل كل منهما مآلا، ترغيبا وترهيبا، بقوله:
    [ ص: 3672 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 18 ] للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد

    للذين استجابوا لربهم الحسنى أي: للمؤمنين الذين استجابوا لربهم بطاعته وطاعة رسوله، المثوبة الحسنى كما قال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فالحسنى مبتدأ قدم عليه خبره الموصول والذين لم يستجيبوا له وهم الكفرة لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أي: بما في الأرض ومثله معه من أصناف الأموال; ليتخلصوا عما بهم. وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، ولأجله عدل عن أن يقال: وللذين لم يستجيبوا السوأى، كما تقتضيه المقابلة أولئك لهم سوء الحساب أي: في الدار الآخرة، فيناقشون على الجليل والحقير ومأواهم جهنم وبئس المهاد أي: المستقر. وفي قوله ومأواهم جهنم إشعار بتفسير الحسنى بالجنة; لانفهامها من مقابلتها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 19 ] أفمن يعلم أنما أنـزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب

    أفمن يعلم أي يصدق أنما أنـزل إليك من ربك يعني القرآن الحق كمن هو أعمى أي: كمن لا يعلم ذلك، إلا أنه أريد تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى إنما يتذكر أولو الألباب أي: العقول المبرأة عن مشايعة الإلف ومتابعة الوهم.
    [ ص: 3673 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 20 ] الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق

    الذين يوفون بعهد الله أي: مما كلفهم به ولا ينقضون الميثاق أي: ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين العباد، وهو تعميم بعد تخصيص، وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل. أفاده أبو السعود.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 21 ] والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب

    والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل أي: من أرحامهم وقراباتهم وإخوانهم المؤمنين، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وكف الأذى عنهم ويخشون ربهم أي: يعملون له أو يخافون وعيده فلا يعصونه فيما أمر ويخافون سوء الحساب

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 22 ] والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار

    والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أي: يدفعون بالكلام الحسن الكلام السيئ إذا خاطبهم به الجاهلون، كما قال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن الآية، أو يتبعون [ ص: 3674 ] السيئة الحسنة لتمحوها أولئك لهم عقبى الدار أي: عاقبة الدنيا وهي الجنة لأنها مرجع أهلها. فتعريف الدار للعهد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 23 ] جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب [ 24 ] سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار

    جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم أي: آمن ووحد وعمل صالحا من هؤلاء.

    قال أبو السعود: وفي التقييد بالصلاح قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب.

    وأصله للزجاج حيث قال: بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة.

    وقرئ -شاذا- بضم لام (صلح). قال الزمخشري: والفتح أفصح.

    والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
    ثم بين تعالى مآل مقابل الفريق الأول بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 25 ] والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار

    والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل [ ص: 3675 ] ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار أي: عذاب جهنم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 26 ] الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع

    الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع هذا كقوله تعالى: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وتنكير (متاع) للتقليل كما في آية: قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا وقال: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 27 ] ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب

    ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه كقولهم: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون وتقدم الكلام على هذا غير مرة. وقوله تعالى: قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب جملة جرت مجرى التعجب من قولهم، مشيرة إلى أنه من باب العناد والاقتراح لما لا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التي لا يمهل أحد بعد مجيئها، لا من باب طلب الهداية. وإلا فلو كان بغيتهم طلب الهداية بآية لكفاهم إنزال هذا الكتاب من مثله، صلوات الله عليه، آية، فإنه آية الآيات...!. ولكنهم قوم [ ص: 3676 ] آثروا الضلال على الهدى، زاغوا عنه فأزاغ الله قلوبهم. فطوى ما دل عليه هذه الجملة; إيجازا للعلم بها.

    قال أبو السعود: قل إن الله يضل من يشاء إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها، أي يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله، ويدعه منهمكا فيه; لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد، والغلو في الفساد. فلا سبيل له إلى الاهتداء، ولو جاءته كل آية.

    ثم قال: ويهدي إليه من أناب أي: أقبل إلى الحق، وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة. وحقيقة الإنابة الدخول في نوبة الخير. وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة، كما في الصلة الأولى; للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها، والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى المكابرة. وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد. وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة، كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم. انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 28 ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب

    الذين آمنوا بدل من (من أناب) أي: آمنوا بالله ورسوله وكتابه وتطمئن قلوبهم بذكر الله أي تسكن وتخشى عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرا. والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره ألا بذكر الله تطمئن القلوب أي: بذكره دون غيره تسكن القلوب أنسا به، واعتمادا عليه، ورجاء منه. وقدر بعضهم مضافا، أي بذكر رحمته ومغفرته، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته. ورأى آخرون أن المراد [ ص: 3677 ] بذكر الله القرآن; لأنه يسمى ذكرا، كما قال تعالى: وهذا ذكر مبارك أنـزلناه وقال سبحانه: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون لأنه آية بينة تسكن القلوب، وتثبت اليقين فيها. وهذا المعنى يناسب قوله: لولا أنـزل عليه آية من ربه أي: هؤلاء ينكرون كونه آية، والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين. قال الشهاب: وهو أنسب الوجوه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 29 ] الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب

    الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب الموصول إما مبتدأ، و طوبى لهم مبتدأ ثان وخبر في موضع الخبر الأول، وإما خبر لمحذوف، أي هم، وإما بدل من أناب وجملة طوبى لهم دعائية أو خبرية.

    قال الزمخشري: (طوبى) مصدر من (طاب) كبشرى وزلفى. ومعنى (طوبى لك) أصبت خيرا وطيبا، ومحلها النصب أو الرفع.كقولك: طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك وسلام لك. والقراءة في قوله " وحسن مآب" بالرفع والنصب تدلك على محليها. واللام في لهم للبيان مثلها في (سقيا لك)، والواو في (طوبى) منقلبة عن ياء، لضمة ما قبلها. قال ثعلب: قرئ ((طوبى لهم)) بالتنوين.

    قال الفاسي: ومن نون طوبى جعله مصدرا بغير ألف، كسقيا. وزعم بعضهم أنها كلمة أعجمية، وفي (لسان العرب) عن قتادة، أنها كلمة عربية، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، وأنشد:
    طوبى لمن يستبدل الطود بالقرى ورسلا بيقطين العراق وفومها

    الرسل: اللبن، والطود: الجبل، والفوم: الخبز والحنطة. كذا في (تاج العروس).
    [ ص: 3678 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 30 ] كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب

    كذلك أرسلناك في أمة قد خلت أي مضت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك أي: لتبلغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم، كما بلغ من خلا قبلك من المرسلين أممهم. وقوله: وهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أو مستأنفة، أي: يكفرون بالبليغ الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، والعدول إلى المظهر الدال على الرحمة، إشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها، كما قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وإلى أنهم لم يشكروا نعمة هذا الوحي الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية، وإلى أن الرحمن من أسمائه الحسنى ونعوته العليا، وقد كانوا يتجافون هذا الاسم الكريم. ولهذا لم يرضوا يوم الحديبية أن يكتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم؟ كما في الصحيح. وقد قال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن وفي (صحيح مسلم) عن ابن عمر مرفوعا: « أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن » .

    قل هو أي: الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته: ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أي: توبتي وإنابتي. فإنه لا يستحق ذلك غيره. ثم أشار تعالى إلى عظمة هذا الوحي وتفضيله على ما سواه بقوله:
    [ ص: 3679 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 31 ] ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد

    ولو أن قرآنا أي قرآنا ما سيرت به أي: بإنزاله أو بتلاوته الجبال أي أذهبت عن مقارها، وزعزعت عن أماكنها أو قطعت به الأرض أي: شققت حتى تتصدع وتصير قطعا أو كلم به الموتى أي خوطبت بعد أن أحييت بتلاوته عليها، والجواب محذوف، أي: لكان هذا القرآن; لكونه غاية في الهداية والتذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. وعلى هذا التقدير، فالقصد بيان عظم شأن القرآن وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره العلي ولم يعدوه من قبيل الآيات، فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام. وقدر الزجاج الجواب (لما آمنوا به) كقوله: ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى الآية، وعليه فالقصد بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد.

    ونقل عن الفراء; أن الجواب مقدم عليه وهو قوله: وهم يكفرون بالرحمن وما بينهما اعتراض، وفيه بعد وتكلف. وأشار بعضهم إلى أن مراده أنها دليل الجواب، والتذكير في (كلم) لتغليب المذكر من الموتى على غيره.

    وقوله تعالى: بل لله الأمر جميعا أي: له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجودا وعدما، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة، وهو إضراب عما تضمنته (لو) من معنى النفي، أي: لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان هذا القرآن، [ ص: 3680 ] ولكن لم يفعل، بل فعل ما عليه الشأن الآن; لأن الأمر كله له وحده، وعلى تقدير الزجاج السالف، فالإضراب متوجه إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح. أي: فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعا، إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه الحكمة، من غير أن يكون لأحد عليه تحكم أو اقتراح. كذا في أبي السعود.

    وقوله تعالى: أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أي: أفلم يعلم ويتبين كقوله:


    ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا


    وقوله:


    أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم


    أي: ألم تعلموا! وييسرونني من إيسار الجزور، أي يقسمونني، ويروى: يأسرونني من (الأسر). أي: أفلم يعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم ; لأن الأمر له. ولكن قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #419
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
    المجلد العاشر
    صـ 3681 الى صـ 3705
    الحلقة (418)



    ولا يزال الذين كفروا أي: من أهل مكة تصيبهم بما صنعوا قارعة أي: بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وعدم بيانه لتهويله أو استهجانه. والقارعة: الداهية التي تقرع وتقلق، يعني: ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر [ ص: 3681 ] والنهب والسلب أو تحل أي: تلك القارعة قريبا أي: مكانا قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها حتى يأتي وعد الله أي: فتح مكة إن الله لا يخلف الميعاد أي: لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله وفي الآية وجه آخر، وهو حمل " الذين كفروا" على جميع الكفار، أي: لا يزالون، بسبب تكذيبهم، تصيبهم القوارع في الدنيا، أو تصيب من حولهم ليعتبروا، كقوله تعالى: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون وقوله: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 32 ] ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب

    ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا أي: أمهلتهم وتركتهم ملاوة من الزمن، في أمن ودعة، كما يملى للبهيمة في المرعى: ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أي: عقابي إياهم. وفيه من الدلالة على فظاعته ما لا يخفى. والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقي من المشركين من التكذيب والاقتراح، على طريقة الاستهزاء به، ووعيد لهم.
    [ ص: 3682 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 33 ] أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد

    أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أي: مراقب لأحوالها ومشاهد لها، لا يخفى عليه ما تكسبه من خير أو شر. فهو مجاز; لأن القائم على الشيء عالم به، ولذا يقال: وقف عليه، إذا علمه فلم يخف عليه شيء من أحواله، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس كذلك. وإنما حذف اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله: وجعلوا لله شركاء أي: عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان، وقوله: قل سموهم تبكيت لهم إثر تبكيت، أي: سموهم من هم، وماذا أسماؤهم؟ فإنهم لا حقيقة لهم! أو صفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة؟.

    وقال الرازي: إنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمه إن شئت، يعني: أنه أخس من يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل. فكأنه تعالى قال: سموهم بالآلهة، على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها.

    أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أي: بشركاء لا يعلمهم سبحانه. وإذا كان لا يعلمهم، وهو عالم بكل شيء مما كان ومما يكون، فهم لا حقيقة لهم. فهو نفي لهم بنفي لازمهم على طريق الكناية.

    قال الناصر: وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء وأن الله لا يعلمهم كذلك; لأنهم ليسوا كذلك، وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة. ولكن [ ص: 3683 ] مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع لا تكتنه بلاغته وبراعته. ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء. فلم يكن بهذا الموقع الذي اقتضته التلاوة.

    وقوله تعالى: أم بظاهر من القول أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كتسمية الزنجي كافورا من غير بياض فيه ولا رائحة طيبة، لفرط الجهل وسخافة العقل، وهذا كقوله تعالى: ذلك قولهم بأفواههم ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها وعن الضحاك: إن الظاهر بمعنى الباطل، كقوله:


    وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر


    تنبيه:

    قال الزمخشري: هذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها، مناد على نفسه بلسان طلق ذلق; أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه.

    قال شارحوه: فإن قوله تعالى: أفمن هو قائم على كل نفس لما كان كافيا في هدم قاعدة الإشراك مع السابق واللاحق وما ضمن من زيادات النكت، وكان إبطالا من طريق حق، مذيلا بإبطال من طرف النقيض على معنى: ليتهم إذ أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به، أشركوا من يتوهم فيه ذلك أدنى توهم، وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء ولا حقيقة لها فضلا عن المسمى على الكناية الإيمائية. ثم بولغ بأنها لا تستأهل أن يسأل عنها على الكناية التلويحية استدلالا بنفي العلم عن نفي المعلوم. ثم منه إلى عدم الاستئهال مع التوبيخ، وتقدير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لا يعلمه وهو محال على محال وفي جعل اتخاذهم شركاء، [ ص: 3684 ] ومجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام إنباء له تعالى ; نكتة بل نكت سرية. ثم أضرب عن ذلك. وقيل: قد بين الشمس لذي عينين، وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول لا طائل تحته بل هو صوت فارغ.

    فمن تأمل حق التأمل، اعترف بأنه كلام خالق القوى والقدر، الذي تقف دون أستار أسراره أفهام البشر...!

    وقوله تعالى: بل زين للذين كفروا مكرهم إضراب عن الاحتجاج عليهم. كأنه قيل: دع ذكر ما كنا فيه من الدلائل على فساد قولهم; لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم، فلا ينتفعون بهذه الدلائل.

    وقوله تعالى:

    وصدوا عن السبيل أي: عن سبيل الله، وقرئ: بفتح الصاد أي: صدوا الناس ومن يضلل الله أي: يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، أو يخذله فما له من هاد أي: من أحد يهديه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 34 ] لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق

    لهم عذاب في الحياة الدنيا وهو ما نالهم على أيدي المؤمنين، أو ما فيه من عذاب الحيرة والضلة. فإن نفس غير المؤمنين في نكد مستمر وداء دوي لا برء له إلا الإيمان، كما فصل في موضع آخر. ولعذاب الآخرة أشق أي: من عذاب الدنيا كما وكيفا وما لهم من الله من واق أي: حافظ يعصمهم من عذابه.
    [ ص: 3685 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 35 ] مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار

    مثل الجنة التي وعد المتقون أي عن الكفر والمعاصي تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار

    في الآية وجوه من الإعراب:

    (الأول): أن (مثل) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة، وجملة (تجري) مفسرة أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من ضمير (وعد) أي: وعدها مقدرا جريان أنهارها. وهذا الوجه سالم من التكلف، مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل. وقدر الخبر فيه مقدما لطول ذيل المبتدأ، أو لئلا يفصل به بينه وبين ما يفسره، أو ما هو كالمفسر له.

    (الثاني): أن خبره (تجري) -على طريقة قولك: صفة زيد أسمر- قيل: هو غير مستقيم معنى; لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة، وهي فيها، لا في صفتها. مع تأنيث الضمير العائد على المثل حملا على المعنى.

    (الثالث): أن ثمة موصوفا محذوفا، أي: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، وقوله (وظلها) مبتدأ محذوف الخبر أي: كذلك.
    [ ص: 3686 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 36 ] والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب

    والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك لأنه يحصل لهم به من المعاني والدلائل وكشف الشبهات ما لم يحصل لهم من تلك الكتب السالفة. قيل: عنى بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، فإنهم يفرحون بما أنزل من القرآن; لما يرون فيه من الشواهد على حقيته التي لا يمترى فيها، ومن المعارف والمزايا الباهرة التي لا تحصى، كما قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب والمشركين من ينكر بعضه وهو ما يخالف معتقدهم، وجوز أن يراد (بالموصول) من يفرح به منهم لمجرد تصديقه لما بين يديه وتعظيمه له وإن لم يؤمنوا. وبـ (الأحزاب) المشركون، خاصة المنكرين لما فيه من التوحيد. ولذا أمر برد إنكارهم بقوله تعالى: قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو أي: لا إلى غيره وإليه مآب أي: مرجعي للجزاء، لا إلى غيره.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 37 ] وكذلك أنـزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق

    وكذلك أنـزلناه حكما عربيا أي: حاكما بالحق، أو حكمة عربية: ولئن اتبعت [ ص: 3687 ] أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق أي: لئن تابعتهم على دين، ما هو إلا أهواء بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج; فلا ينصرك ناصر ولا يقيك واق. وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب، وأن لا يزل زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة. وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان -كذا في (الكشاف).
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 38 ] ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب

    ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية أي: مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم، وهو رد لقولهم: لو كان نبيا لكان من جنس الملائكة كما قالوا: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وإعلام بأن ذلك سنة كثير من الرسل، فما جاز في حقهم لم لا يجوز في حقه؟ وقد قال تعالى له: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله أي: ما صح له ولا استقام ولم يكن في وسعه أن يأتي بما يقترح عليه، إلا بإرادته تعالى في وقته; لأن الآيات معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها، من غير تغير وتبدل وتقدم وتأخر. فأمرها منوط بمشيئته تعالى، المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات لكل أجل كتاب أي لكل وقت من الأوقات أمر مكتوب، مقدر معين أو مفروض في ذلك الوقت على الخلق حسبما تقتضيه الحكمة، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات، في كل وقت يأتي، بما هو صلاح ذلك الوقت، رسول من عنده. وكذا جميع الحوادث من الآيات [ ص: 3688 ] وغيرها، فليس الأمر على إرادة الكفار واقتراحاتهم، بل على حسب ما يشاؤه تعالى ويختاره، وفيه رد لاستعجالهم الآجال وإتيان الخوارق والعذاب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 39 ] يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

    يمحو الله ما يشاء أي: ينسخ ما يشاء نسخه من الشرائع لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت أي: بدله ما فيه المصلحة، أو يبقيه على حاله غير منسوخ وعنده أم الكتاب أي: أصله.

    قال الرازي: العرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أما له، ومنه أم الرأس: للدماغ، وأم القرى لمكة. وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى. فكذلك أم الكتاب، هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وعنده أم الكتاب يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ. وما يبدل وما يثبت. كل ذلك في كتاب. وعن قتادة: أن هذه الآية كقوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها الآية.

    تنبيه:

    تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت فقالوا: إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ. قالوا: يمحو الله من الرزق ويزيد فيه. وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر.

    قال الرازي: هو مذهب عمر وابن مسعود. والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. انتهى.

    [ ص: 3689 ] أشار بذلك إلى آثار أخرجها ابن جرير عن عمر وابن مسعود. وليس في الصحيح شيء منها.

    ظهر لي في دمر في 12 ربيع الأول سنة 1324:

    إن ما يستدل به الكثير من الآيات لمطلب ما، أن يدقق النظر فيه تدقيقا زائدا، فقد يكون سياق الآية لأمر لا يحتمل غيره، ويظن ظان أنه يستدل بها في بحث آخر، وقد يؤكده ما يراه من إطباق كثير من أرباب التصانيف على ذلك وإنما المدار على فهم الأسلوب والسياق والسباق.

    خذ لك مثلا قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فكم ترى من يستدل بها على العلم المعلق، ومحو ما في اللوح الذي يسمونه (لوح المحو والإثبات) ويوردون من الإشكالات والأجوبة ما لا يجد الواقف عليه مقنعا ولا مطمأنا.

    مع أن هذه الآية، لو تمعن فيها القارئ; لعلم أنها في معنى غير ما يتوهمون. وذلك أنهم كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل البعثة، أن يأتي بآية كآية موسى وعيسى; توهما أن ذلك هو أقصى ما يدل على نبوة النبي في كل زمان ومكان، فأعلمهم الله تعالى أن دور تلك الآيات الحسية انقضى دورها، وذهب عصرها. وقد استعد البشر للتنبه إلى الآية العقلية وهي آية الاعتبار والتبصر. وإن تلك الآيات محيت كما محي عصرها. وقد أثبت تعالى غيرها مما هو أجلى وأوضح وأدل على الدعوة، وهو قوله تعالى قبلها: وما كان [ ص: 3690 ] لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 40 ] وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب

    وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أي: من إنزال العذاب في حياتك أو نتوفينك أي: قبل ذلك فإنما عليك البلاغ أي: تبليغ الوحي وعلينا الحساب أي: حسابهم وجزاؤهم. قال أبو حيان: جواب الشرط الأول (فذلك شافيك) والثاني (فلا لوم عليك)، وقوله تعالى فإنما عليك إلخ دليل عليهما.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 41 ] أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب

    أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي: أرض الكفرة، ننقصها عليهم بإظهار دين الإسلام في أطراف ممالكهم.

    قال ابن عباس: أي: أولم يروا أنا نفتح للرسول الأرض بعد الأرض; يعني أن انتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أنه تعالى ينجز وعده، ونظيره قوله تعالى: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون [ ص: 3691 ] وقوله: سنريهم آياتنا في الآفاق

    قال الشهاب: هذا مرتبط بما قبله. يعني لم يؤخر عذابهم لإهمالهم، بل لوقته المقدر، أو ما ترى نقص ما في أيديهم من البلاد وزيادة ما لأهل الإسلام، ولم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم به تعظيما له، وخاطبهم تهويلا وتنبيها عن سنة الغفلة. ومعنى نأتي الأرض يأتيها أمرنا وعذابنا. انتهى.

    وقيل: ننقصها من أطرافها بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم. فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟.

    تنبيه:

    يذكرون -ها هنا- رواية عن ابن عباس ومجاهد: أن نقصها من أطرافها هو موت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. ويؤيد من يعتمد ذلك بأن الجوهري حكى عن ثعلب: أن الأطراف يطلق على الأشراف، جمع طرف وهو الرجل الكريم، وشاهده قول الفرزدق:


    واسأل بنا وبكم إذا وردت منى أطراف كل قبيلة من يتبع


    يريد أشراف كل قبيلة. فمعنى الآية: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات: موت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كان هذا مشاهدا محسوسا; فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر عليهم فيذلهم بعد العزة! ولا يخفاك أن هذا المعنى لا يذكره السلف تفسيرا للآية على أنه المراد منها، وإنما يذكرونه تهويلا لخطب موت العلماء بسبب [ ص: 3692 ] أنهم أركان الأرض وصلاحها وكمالها وعمرانها، فموتهم نقص لها وخراب منها. كما قال أحمد بن غزال:


    الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
    كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف


    ولذا قال الأزهري كما في (لسان العرب): أطراف الأرض نواحيها، الواحد طرف، و (ننقصها من أطرافها) أي نواحيها ناحية ناحية، وعلى هذا من فسر (نقصها من أطرافها) فتوح الأرضين. وأما من جعل (نقصها من أطرافها) موت علمائها فهو من غير هذا، قال: والتفسير على القول الأول.

    وقوله تعالى: والله يحكم أي: ما يشاء كما يشاء، وقد حكم للإسلام بالعز والإقبال، وعلى الكفر بالذل والإدبار، حسبما يشاهد من المخايل والآثار. وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وبناء الحكم على الاسم الجليل، من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر، بالإشارة إلى العلة، ما لا يخفى، وهو جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها.

    وقوله تعالى: لا معقب لحكمه اعتراض في اعتراض; لبيان علو شأن حكمه تعالى، وقيل: نصب على الحالية كأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه، كما تقول: جاء زيد لا عمامة على رأسه، أي: حاسرا. و (المعقب) من يكر على الشيء فيبطله، وحقيقته من يعقبه ويقفيه بالرد والإبطال. أفاده أبو السعود.

    وهو سريع الحساب أي: فعما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا بالقتل والأسر.
    [ ص: 3693 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 42 ] وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار

    وقد مكر الذين من قبلهم أي: مكر الكفار الذين خلوا، إيقاع المكروه بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء، وقوله: فلله المكر جميعا إشارة إلى ضعف مكرهم وكيدهم لاضمحلاله وذهاب أثره، وأنه مما لا يسوء، وأن المكر المرهوب هو ما سيؤخذون به من إيقاع فنون النكال، وهم نائمون على فرش الإمهال، مما لا يخطر لهم على بال، كما يومئ إليه قوله تعالى: يعلم ما تكسب كل نفس أي: فيوفيها جزاءها المعد لها على ما كسبت من فنون المعاصي التي منها مكرهم، من حيث لا يحتسبون وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار أي العاقبة الحميدة، وعلى من تدور الدائرة، وهذا كقوله تعالى: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 43 ] ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب

    ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم فإنه أظهر على رسالتي، من الحجج القاطعة والبينات الساطعة، ما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر. قيل: جعل هذا شهادة (وهو فعل والشهادة قول) على سبيل الاستعارة; لأنه يغني عن الشهادة بل هو أقوى. انتهى. ولا يخفى أن الشهادة أعم من القول والفعل. على [ ص: 3694 ] أن المراد من تلك الحجج هي آيات القرآن والذكر الحكيم، وهي كلامه تعالى، وقد قال تعالى: ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي

    وقوله تعالى: ومن عنده علم الكتاب أي: ومن هو من علماء أهل الكتاب فإنهم يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم من بشارات الأنبياء به. كما قال تعالى: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل

    ويروى عن مجاهد أنه عنى بـ ومن عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام. ونوقش بأن السورة مكية، وإسلامه كان بالمدينة. وأجاب البعض بأن بعض السور المكية ربما وجد في مدني وبالعكس، وكأن هذه الآية من ذلك.

    وقد روى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في (دلائل النبوة): أن عبد الله بن سلام أسلم قبل الهجرة، حيث رحل إلى مكة قبلها، واستيقن نبوته صلوات الله عليه. ثم آب إلى المدينة وكتم إسلامه إلى أن كانت الهجرة. والله أعلم.
    [ ص: 3704 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ

    سُمِّيَتْ بِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى دَعَوَاتٍ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، تَمَّتْ بِهَذِهِ اَلْمِلَّةِ.

    كَالْحَجِّ وَجَعْلِ اَلْكَعْبَةَ قِبْلَةَ اَلصَّلَاةِ. مَعَ اَلدَّلَالَةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، بِحَيْثُ صَارَتْ مِنَ اَلْمَطَالِبِ اَلْمُهِمَّةِ لِلْمُتَّفَقِ عَلَى غَايَةِ كَمَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَكْمَلُ اَلتَّحِيَّاتِ وَأَفْضَلُ التَّسْلِيمَاتِ مَعَ غَايَةِ كَمَالِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ اَلْقُرْآنِ! أَفَادَهُ الْمَهَايِمِيُّ .

    وَهِيَ مَكِّيَّةُ اَلنُّزُولِ، قِيلَ: إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْرًا . وَهِيَ اِثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ آيَةً.

    [ ص: 3705 ] بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ

    اَلْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

    [1] الر كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ .

    الر كِتَابٌ خَبَرٌ لِـ )الر) عَلَى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً. أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا لِمُضْمَرٍ ، أَوْ مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ اَلتَّعْدِيدِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ صِفَةٌ لَهُ : لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَيْ : مِنَ اَلضَّلَالِ إِلَى اَلْهُدَى : بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَيْ : أَمَرِهِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ : { إِلَى اَلنُّورِ } بِتَكْرِيرِ اَلْعَامِلِ . أَوْ مُسْتَأْنَفٌ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : إِلَى أَيِّ نُورٍ ؟ فَقِيلَ : { إِلَى صِرَاطِ} إلخ وَ: {اَلْعَزِيزِ} اَلَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ بَلْ هُوَ اَلْقَاهِرُ اَلْقَادِرُ. وَ : { اَلْحَمِيدِ} اَلْمَحْمُودُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِإِنْعَامِهِ فِيهِمَا بِأَعْظَمِ اَلنِّعَمِ.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #420
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
    المجلد العاشر
    صـ 3706 الى صـ 3720
    الحلقة (419)



    القول في تأويل قوله تعالى :

    [2] الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد .

    الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض قرئ لفظ الجلالة بالرفع على الابتداء وخبره ما بعده . أو على الخبرية لمحذوف . وقرئ بالجر ، عطف بيان لـ : العزيز الحميد وويل للكافرين أي : بما أنزلناه إليك : من عذاب شديد يوم القيامة وهو عذاب النار .

    [ ص: 3706 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [3] الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد .

    الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة أي : يؤثرونها عليها : ويصدون عن سبيل الله بتعويق الناس عن الإيمان : ويبغونها عوجا أي : يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب ، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة ، أو يبغون لها اعوجاجا ، أي : يطلبون أن يروا فيها عوجا قادحا ، على الحذف والإيصال : أولئك في ضلال بعيد أي : ضلوا عن طريق الحق ووقفوا دونه بمراحل ، والبعد في الحقيقة للضال نفسه ، وصف به فعله للمبالغة بجعل الضلال نفسه ضالا . وفي إيثار الظرف على )أولئك ضالون ضلالا بعيدا) دلالة على تمكنهم فيه ، باشتماله عليهم اشتمال المحيط على المحاط ، مبالغة في إثبات وصف الضلال . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [4] وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم .

    وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم أي : ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به كما قال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته

    * فإن قلت * : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعا : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة . فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة . [ ص: 3707 ] وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضا ؟ ( قلت) : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ; لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل; فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ; لأنهم أقرب إليه . فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ; قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها ، كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا ; لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء . ومعنى : بلسان قومه بلغة قومه - كذا في (" الكشاف ") - .

    وقال بعض المحققين : يقول قائل : ألا تدل هذه الآية على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت للعرب خاصة ؟ نقول : لا ; لأنه جرت سنة الله أن يختار أمة واحدة ويعدها لتهذيب الأمم الأخرى ، كما يعد فردا واحدا منها لتهذيب سائر أفرادها . ولما كانت الأمة العربية هي المختارة لتهذيب الأمم وتعديل عوجها وإقامة منار العدل في ذلك العالم المظلم ; فقد وجب أن التهذيب الإلهي ينزل بلغتها خاصة حتى تستعد وتتهيأ لأداء وظيفتها . وقد أتم الله نعمته عليها ، فقامت بما عهد إليها بما أدهش العالم أجمع ، ولله في خلقه شؤون .

    تنبيه :

    استدل بالآية من ذهب إلى أن اللغات اصطلاحية . قال : لأنها لو كانت توقيفية لم تعلم إلا بعد مجيء الرسول ، والآية صريحة في علمها قبله .

    [ ص: 3708 ] وقوله تعالى : فيضل الله من يشاء أي : لمباشرته أسبابه المؤدية إليه ، أو يخذله ولا يلطف به لعلمه أنه لا ينجع فيه الإلطاف : ويهدي من يشاء لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق . (والفاء) فصيحة ، كأنه قيل : فبينوه ، فأضل الله من شاء إضلاله وهدى من شاء . والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به ، وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته ، أمر محقق غني عن الذكر والبيان : وهو العزيز الحكيم أي : فلا يغالب ، ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة .

    ثم أشير إلى تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [5] ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .

    ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله أي : أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم ، كقوم نوح ولوط . ومنه : أيام العرب ; لحروبها وملاحمها ; لأنها تعظم بها الأيام . وقيل : أيامه : نعماؤه عليهم . فتكون الآية بعدها تفصيلا لها . وقيل : هي أعم من النعماء والبلاء . والوجه الأول أولى فيما أراه ; لاختصاص كل آية بمقام ، والتأسيس خير من التأكيد . وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، بالإضافة إلى الاسم الجليل ، إيذان بفخامة شأنها . قال أبو بكر ابن العربي : هذه الآية في الوعظ المرقق للقلوب .

    إن في ذلك أي : في التذكير بها : لآيات لكل صبار شكور أي : يصبر على بلائه ويشكر نعماءه . فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر . وقيل : أراد (لكل مؤمن) لأن الشكر [ ص: 3709 ] والصبر عنوان المؤمن . وتقديم ( الصبار) على (الشكور ) لتقدم متعلق الصبر - أعني الإيمان على متعلق الشكر - أعني النعماء - وكون الشكر عاقبة الصبر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [6] وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم .

    وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب أي : يبغونكم إياه : ويذبحون أبناءكم أي : المولودين صغارا : ويستحيون نساءكم أي : يبقونهن في الحياة : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم الإشارة إلى فعل آل فرعون. ونسبته إليه تعالى للخلق أو الإقدار والتمكين . قيل : كون قتل الأبناء ، ابتلاء ظاهر . وأما استحياء النساء ، وهن البنات أي : استبقاؤهن ، فلأنهم كانوا يستخدمونهن ويفرقون بينهن وبين الأزواج ، أو لأن بقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل :


    ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا


    ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإلجاء من ذلك . و (البلاء) : الابتلاء بالنعمة ، وهو بلاء عظيم .

    قال الزمخشري : البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا . قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقال زهير :


    فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو


    ولذا جوز أن تكون الإشارة إلى جميع ما مر ، الشامل للنعمة والنقمة .

    [ ص: 3710 ] لطيفة :

    أشار أهل المعاني إلى نكتة مجيء : ويذبحون هنا بالواو ، وفي سورة البقرة : يذبحون وفي الأعراف : يقتلون بدونها. والقصة واحدة - بأنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه - ، فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال . وحيث عطف - كما هنا - لم يقصد ذلك . والعذاب ، إن كان المراد منه الجنس ، فالتذبيح لكونه أشد أنواعه ، عطف عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيها على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس . وإن كان المراد به غيره ، كاسترقاقهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة ، فهما متغايران ، والمحل محل العطف . وجوز أيضا كون العطف هنا للتفسير وكأن التفسير - لكونه أوفى بالمراد وأظهر - بمنزلة المغاير فلذا عطف .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [7] وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد .

    وإذ تأذن ربكم أي : آذن وأعلم إعلاما بليغا - من جملة ما قال موسى لقومه - : لئن شكرتم أي : نعمه ، بصرفها إلى ما خلقت له . كالعقل إلى تصحيح الاعتقاد فيه واستعمال سائر النعم بمقتضاه : لأزيدنكم أي : من النعم : ولئن كفرتم إن عذابي لشديد فيصيبكم منه ما يسلب تلك النعم ويحل أشد النقم .

    [ ص: 3711 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [8] وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد .

    وقال موسى أي : لقومه : إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد أي : غني عن شكر عباده ، المحمود بأجل المحامد . وإن كفره من كفره . وهو تعليل لما حذف من جواب (إن) أي : إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم ، فإن الله لغني عن شكر الشاكرين .

    وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : أنه قال : « يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر » فسبحانه من غني حميد .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [9] ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب .

    ألم يأتكم أي : في مؤاخذة من كفر : نبأ الذين من قبلكم قوم نوح [ ص: 3712 ] أي : مع كثرتهم : وعاد أي : مع غاية قوتهم : وثمود مع كثرة تحصنهم وصنائعهم : والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب

    قال ابن جرير : هذا من تمام قول موسى لقومه ، يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل .

    قال ابن كثير : وفيما قال ابن جرير نظر ; والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ; فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه لقصه عليهم ، ولا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة ، والله أعلم .

    وقوله تعالى : والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضا ، أو عطف {الذين } على قوم نوح ، و : { لا يعلمهم } إلخ اعتراض ، ومعنى الاعتراض على الثاني : ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها ؟ إن في ذلك لمعتبرا . وعلى الأول : فهو ترق ، ومعناه : ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى بعدهم ؟ كأنه يقول : دع التفصيل فإنه لا مطمع فيه ، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل .

    وقوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين . وأن يكونا من مجاز الكلام . وفي الأول وجوه :

    أي : ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل ، كقوله : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو وضعوها على أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك. أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن يكفوا ويسكتوا . أو أشاروا بأيديهم [ ص: 3713 ] إلى أفواه الرسل أن اسكتوا . و (في) بمعنى (إلى) أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعا لهم من الكلام ، أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم . ومن بالغ في منع غيره من الكلام ; فقد يفعل به ذلك . أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم : إنا كفرنا أي : هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا ، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين ، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه ، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب . قيل : وهو أقوى الوجوه المتقدمة ; لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار ، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول . ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا ، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب . وفي تصديرهم الجملة بـ ( أن ) ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد .

    وفي الثاني - أعني المعنى المجازي - وجوه :

    قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج ، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يدا ، يقال : لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفا . وقد تذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد ، وأيضا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أياد ، وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي ، وفي العدد الكثير الأيادي. فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي . وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ، ونظير قوله تعالى : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردا في الأفواه . انتهى .

    [ ص: 3714 ] وفي (" الرازي ") تتمة الأوجه فانظرها إن شئت .

    قال في (" العناية ") : فإن قلت : قولهم : إنا كفرنا جزم بالكفر لا سيما وقد أكد بـ ( إن) ، فقولهم : وإنا لفي شك ينافيه ، قلت : أجيب بأن الواو بمعنى أو ، أي : أحد الأمرين لازم وهو : إنا كفرنا جزما فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه . وأيا ما كان ، فلا سبيل إلى الإقرار . وقيل : إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه ، فكفرنا بمعنى لم نصدق ، وذلك لا ينافي الشك ، أو متعلق الكفر الكتب والشرائع ، ومتعلق الشك وما يدعونهم إليه من التوحيد مثلا . انتهى . أي : فلا ينافي شكهم في ذلك كفرهم القطعي بالأول .

    وقوله تعالى : مريب بمعنى موقع في الريبة ، من (أرابه ) أوقعه فيها ; أو ذي ريبة ، من (أراب) : صار ذا ريبة وهي صفة مؤكدة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [10] قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين .

    قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض أي : وهو مما لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره .

    قال ابن كثير : هذا يحتمل معنيين : أحدهما : أفي وجوده شك ؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به . فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ، ولكن قد يعرض لبعض الفطر شك واضطراب فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطر السماوات والأرض - أي : الذي خلقهما وابتدعهما [ ص: 3715 ] على غير مثال سبق - فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما . فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه . والمعنى الثاني : أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له ، شك ؟ وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له ، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى . انتهى .

    وسبق لنا في سورة الأعراف البحث في أن معرفته تعالى ضرورية أو نظرية فارجع إليه .

    وفي إدخال همزة الإنكار على الظرف إيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيما لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلا ، وفي العدول عن تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا : (أأنتم في شك مريب من الله) مبالغة في تنزيه ساحة جلاله عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول .

    وقوله تعالى : يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم أي : يدعوكم إلى الإيمان بإرساله إيانا ، لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم : مما تدعوننا إليه ولام ( ليغفر) متعلقة بـ (يدعو) أي : لأجل المغفرة لا لفائدته ، تعالى وتقدس . أو للتعدية أي : يدعوكم إلى المغفرة ، كقولك : دعوتك لزيد . و (من) إما تبعيضية أي : بعض ذنوبكم وهو ما بينهم وبين الله تعالى دون المظالم ، أو صلة على مذهب الأخفش وغيره ، من زيادتها في الإيجاب ، أو للبدل أي : بدل عقوبة ذنوبكم ، أو على تضمين (يغفر ) معنى (يخلص) .

    وادعى الزمخشري مجيئه بـ (من ) هكذا في خطاب الكافرين دون المؤمنين في جميع القرآن . قال : وكان ذلك للتفرقة بين خطابين ، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد .

    قال في (" الكشاف ") : وللتخصيص فائدة أخرى وهي التفرقة بين الخطابين بالتصريح [ ص: 3716 ] بمغفرة الكل ، وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان .

    وقوله تعالى : ويؤخركم إلى أجل مسمى أي : يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين أي : آية مما نقترحه تدل على فضلكم علينا بالنبوة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [11] قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون .

    قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده أي : بالرسالة والنبوة : وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله أي : بأمره وإرادته ، وهو لم يرد ذلك ، لقوله : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون

    وعلى الله فليتوكل المؤمنون قال الزمخشري : أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [12] وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون .

    وما لنا ألا نتوكل على الله ومعناه : وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه : [ ص: 3717 ] وقد هدانا سبلنا أي : أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له ، وأوجب عليه سلوكه في الدين . وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل ، قالوا على سبيل التوكيد القسمي ، مظهرين لكمال العزيمة : ولنصبرن على ما آذيتمونا أي : من الكلام السيئ والأفعال السخيفة . وقوله : وعلى الله فليتوكل المتوكلون فيه اهتمام بالتوكل عليه سبحانه ; لأن مقام الدعوة يقتضيه . ولذا أعيد ذكره .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 13 - 14 ] وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .

    ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد يخبر تعالى عما توعد به الكافرون رسلهم ، لما رأوهم صابرين متوكلين ، لا يهمهم شأنهم من الإخراج من الأرض ، والنفي من بين أظهرهم ، أو العود في ملتهم . والمعنى : ليكونن أحد الأمرين .

    والسبب في هذا التوعد - كما قال الرازي - أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين ، وأهل الباطل يكونون كثيرين . والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين . فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة . فإن قيل : يتوهم من لفظ (العود ) أنهم كانوا في ملة الكفر قبل ! أجيب : بأن ( عاد) بمعنى صار . وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى ، أو الكلام على ظنهم وزعمهم [ ص: 3718 ] أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة . أو الخطاب للرسل ولقومهم ، فغلبوا عليهم في نسبة العود إليهم .

    وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم إلخ وعد صادق للرسل ، وبشارة حقة . كما قال تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقال تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها والآيات في ذلك كثيرة . والإشارة في (ذلك) إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين . وقوله : لمن خاف إلخ ، أي : للمتقين ; لأنهم الموصوفون بما ذكر كقوله : والعاقبة للمتقين و (المقام) إما موقف الحساب ، فهو اسم مكان ، وإضافته إليه سبحانه لكونه بين يديه ، أو مصدر ميمي ، بمعنى : حفظي وقيامي لأعمالهم ليجازوا عليها . أو مقحم للتفخيم والتعظيم كما يقال : المقام العالي . وياء المتكلم في (وعيد) محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف .

    قال السمين: أثبت الياء هنا وفي (ق) في موضعين : كل كذب الرسل فحق وعيد فذكر بالقرآن من يخاف وعيد وصلا ، وحذفها وقفا ورش عن نافع . وحذفها الباقون وصلا ووقفا .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [15] واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد .

    واستفتحوا أي : سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم .

    [ ص: 3719 ] من (الفتاحة) وهي الحكومة كقوله : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق فالضمير : للرسل ، وقيل : للكفرة ، وقيل : للفريقين ، فإنهم سألوا أن ينصر المحق ويهلك المبطل . وقوله : وخاب كل جبار عنيد أي: فنصروا عند استفتاحهم وأفلحوا : وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم . أو استفتح الكفار على الرسل وخابوا ولم يفلحوا . وإنما قيل : وخاب كل جبار عنيد ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد . أو استفتحوا جميعا فنصر الرسل وأنجز لهم الوعد ، وخاب أعداؤهم . و (الجبار) المتكبر على طاعة الله تعالى وعبادته . و (العنيد) المعاند للحق ، كخليط بمعنى مخالط .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [16] من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد

    من ورائه جهنم جملة في محل جر صفة لـ (جبار) كناية عن تطلبها له وترصدها إياه ، ومن تطلب شيئا وترصده أدركه لا محالة . وقيل : على تقدير مضاف ، أي : من وراء حياته وانقضاء عمره ويسقى من ماء صديد وهو ما يسيل من جوف أهل النار ، قد خالط القيح والدم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [17] يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ

    يتجرعه أي : يتكلف تجرعه لقهره عليه : ولا يكاد يسيغه لخبثه : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت أي : تحيط به أسبابه من الأهوال ، وما هو بمستريح مما نزل به : ومن ورائه عذاب غليظ أي : شديد متصل لا ينقطع .

    [ ص: 3720 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [18] مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد .

    [18] مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد

    المثل مستعار للصفة التي فيها غرابة. شبه تعالى أعمالهم اللاتي كانوا يعملونها لأوثانهم أو يراؤون بها - كإنفاق الأموال وعقر الإبل للضيفان ، في حبوطها ; لكونها على غير تقوى وإيمان - برماد طيرته الريح العاصف . وقوله تعالى : لا يقدرون إلخ ، مستأنف ، فذلك للتمثيل بمعنى المقصود منه ومحصل وجهه ، أي : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء منها ، أي : لا يرون له أثرا من ثواب ، كما لا يقدر ، من الرماد المطير في الريح ، على شيء .

    قال أبو السعود : الاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام ، مع أن لها عقوبات هائلة ; للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى ، وفيه تهكم بهم . وفي توصيف الضلال بالبعد ، إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب .

    و (اشتد به) من ( شد ) بمعنى عد والباء للتعدية أو ملابسة . أو من ( الشدة ) بمعنى القوة ، أي : قويت بملابسة حمله . و (العصف ) قوة هبوب الريح ، وصف به زمانها على الإسناد المجازي ، كـ (نهاره صائم) وخبر (مثل) محذوف أي : فيما يتلى عليكم . وجملة : أعمالهم كرماد مستأنفة جوابا لسؤال : كيف مثلهم ؟ أو ( أعمالهم ) بدل من ( مثل) و ( كرماد ) الخبر .

    وهذه الآية كقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وقوله تعالى : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •