تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 19 من 22 الأولىالأولى ... 910111213141516171819202122 الأخيرةالأخيرة
النتائج 361 إلى 380 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #361
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2806 الى صـ 2820
    الحلقة (361)


    [84] وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين

    وأمطرنا عليهم مطرا " أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا غير متعارف، وهو مبين بقوله تعالى: وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل أي طين متحجر.

    قال المهايمي : ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره، انقلب عليهم في صورة العقاب.

    [ ص: 2806 ] وقرأت في التوراة المعربة، أن الملكين اللذين جاءا لوطا عليه السلام، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه، قالا له: أخرج من هذا الموضع، من لك ههنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك، فإنا بعثنا الرب لنهلك هذه المدينة.

    ولما كان عند طلوع الفجر ألح الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه، ثم أمسكا بأيديهم جميعا وصيراهم خارج المدينة وقالا: لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه، وتخلصا إلى الجبل. ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتا ونارا، وقلب تلك المدن، وكل البقعة وجميع سكان المدن ونبت الأرض، والتفتت امرأته إلى ورائها فصارت نصب ملح، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة ، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتون. انتهى.

    وقرأت في نبوة حزقيال عليه السلام، في الفصل السادس عشر: في بيان إثم سدوم ما نصه:

    إن الاستكبار والشبع من الخبز، وطمأنينة الفراغ، كانت في سدوم وتوابعها، ولم تعضد يد البائس والمسكين، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي، فنزعتهن كما رأيت انتهى.

    وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت ، أو بحيرة لوط ، والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئا.

    قال في (مرشد الطالبين): بحر لوط ، هو بحر سدوم ، ويدعى أيضا البحر الميت ، وهو بركة مالحة في فلسطين ، طولها خمسون ميلا، وعرضها عشرة أميال، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو 1250 قدما، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم . انتهى.

    وقوله: فانظر كيف كان عاقبة المجرمين أي هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش، كيف أهلكناهم.

    والنظر تعجيبا من حالهم، وتحذيرا من أعمالهم، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة، تكبحه عن التوفيق نفسا وجسدا، وتورده موارد الهلكة والبوار، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء.

    [ ص: 2807 ] تنبيه في حد اللوطي:

    اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر، ولو كان بكرا، وكذلك المفعول به إذا كان مختارا، لحديث ابن عباس ، عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي ، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به » . قال ابن حجر : رجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافا.

    وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا: « اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا » - وإسناده ضعيف-.

    قال ابن الطلاع في (أحكامه): لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه. وثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة - انتهى.

    وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطيا .

    وأخرج البيهقي أيضا عن أبي بكر ، أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولا، علي بن أبي طالب قال: [ ص: 2808 ] هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار .

    وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد ، عن ابن عباس : في البكر يؤخذ على اللوطية، يرجم .

    وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضا، أنه سئل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا، ثم يتبع بالحجارة .

    وقال المنذري : حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي ، وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك .

    وبالجملة: فلما ثبت أن حده القتل بقي الاجتهاد في هيئته حرقا أو تردية أو غيرهما.

    وقال بعض المحققين: إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل، محصنا أو غيره، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي. انتهى.

    وقال الإمام الجشمي اليمني : لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة، حتى شاورهم في ذلك أبو بكر رضي الله عنه، لما كتب إليه خالد بن الوليد .

    وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد): لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب ، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح - وقال الترمذي : حديث حسن، وحكم به أبو بكر الصديق ، وكتب به إلى خالد ، بعد مشاورة الصحابة، وكان علي كرم الله وجهه أشدهم في ذلك.

    [ ص: 2809 ] وقال ابن القصار وشيخنا: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق : يرمى من شاهق، وقال علي كرم الله وجهه: يهدم عليه حائط، وقال ابن عباس : يقتلان بالحجارة. فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته.

    وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ ذات محرم، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال. ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه » .

    وروي أيضا عنه: من وقع على ذات رحم فاقتلوه . وفي حديثه أيضا بالإسناد: « من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه » .

    وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوبتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرما من وطء من يباح في بعض الأحوال، فيكون حده أغلظ.

    وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه، أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء، فيقتل بكل حال، أو يكون حده حد الزاني.

    واختلف السلف في ذلك، فقال الحسن : حده حد الزاني. وقال أبو سلمة : يقتل بكل حال. وقال الشعبي والنخعي : يعزر، وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهو راوي الحديث. انتهى.

    وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث (الهداية) في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطي في رواية البيهقي : أن أبا بكر جمع الصحابة فسألهم، فكان أشدهم في ذلك قولا علي ، فقال: نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأيهم على ذلك . قال ابن حجر : قلت: وهو ضعيف جدا، ولو صح لكان قاطعا للحجة. انتهى.

    وجلي أن عقوبات القتل أعظم الحدود، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة، أو إجماع أو حديث صحيح السند والمتن، قطعي الدلالة.

    ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراء لدينه - والله أعلم-.

    [ ص: 2810 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85] وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين

    وإلى مدين أخاهم شعيبا " أي وأرسلنا إليهم. قال ابن إسحاق : هم من سلالة مدين بن إبراهيم ، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين .

    قال ابن كثير : مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة التي بقرب معان من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة .

    قال يا قوم " أي: الذين أحب كمالهم دينا ودنيا: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وهذه دعوة الرسل كلهم كما قدمنا قد جاءتكم بينة من ربكم أي ما تبين به الحق من الباطل. يعني دعوته وإرشاده، ومن هنا قال بعضهم: عني بالبينة مجيء شعيب ، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة، ومن فسر البينة بالحجة والبرهان والمعجزة المحسوسة ذهابا إلى أن النبي لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله، فلا بد من دليل يعلم صدقه به، وما ذاك إلا المعجزة. قال: إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن. ولا يخفى أن البينة أعم من المعجزة بعرفهم، فكل من أبطلت شبهة ضلاله، وأظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه فقد جاءته البينة. لأن حقيقة البينة كل ما يبين الحق، فاحفظه.

    قال الجشمي : واختلفوا، فقيل: لا يجوز أن يبعث إلا ومعه شرع - عن أبي هاشم -. وقيل: يجوز أن يدعو إلى ما في العقل -عن أبي علي - انتهى.

    [ ص: 2811 ] وقد دلت الآيات هذه على أن شعيبا عليه السلام، دعاهم إلى التوحيد والشرائع، على ما جرت به عادة الرسل، فمنها قوله: فأوفوا الكيل والميزان أي: فأتموهما للناس بإعطائهم حقوقهم: ولا تبخسوا الناس أشياءهم أي: لا تنقصوهم حقوقهم فلا تخونوا الناس في أموالهم، وتأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسا كما قال تعالى: ويل للمطففين إلى قوله: لرب العالمين

    يقال: بخسه حقه أي: نقصه إياه، وظلمه فيه.

    قال الزمخشري : كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه. قال زهير :


    أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم


    قال القاضي : وإنما قال أشياءهم " للتعميم، تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير -انتهى.

    والنهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء. فقيل: في فائدة التصريح بالمنهي عنه بيان لقبحه.

    وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى: ولا تبخسوا " الآية، قال: أي لا تسموا لهم شيئا، وتعطوا لهم غير ذلك. ودلت الآية على أن إيفاء الكيل والميزان واجب على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن ولا تفسدوا في الأرض " أي: بالكفر والظلم بعد إصلاحها " أي: بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء، وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام، ذلكم " إشارة إلى العمل بما أمروا به ونهوا عنه خير لكم " في الحال لتوجه الناس إليكم بسبب حسن الأحدوثة، وفي المآل إن كنتم مؤمنين " أي: مصدقين قولي.

    [ ص: 2812 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [86] ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين

    " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون نهي عن قطع الطريق الحسي. أي: لا تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس الغرباء، تضربونهم وتخوفونهم، وتأخذون ثيابهم، وتتوعدونهم بالقتل، إن لم يعطوكم أموالهم.

    قال مجاهد : كانوا عشارين -أخرجه أبو الشيخ - وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله.

    وعن ابن عباس وغير واحد أي تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه.

    قال ابن كثير : والأول أظهر، لأنه قال بكل صراط " وهو الطريق. وهذا الثاني هو قوله: وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا أي: تصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بشعيب ، وتطلبون لها عوجا بإلقاء الشبه، ووصفها بما ينقصها لتغييرها: واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم بالعدد والعدد، فاشكروا نعمة الله عليكم في ذلك: وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين أي: من الأمم الخالية، والقرون الماضية، وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [87] وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين

    " وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنة وكافرة فاصبروا حتى يحكم الله بيننا [ ص: 2813 ] أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين.

    قال الشهاب : وخطاب (اصبروا) للمؤمنين، ويجوز أن يكون للفريقين، أي: ليصبر المؤمنون على أذى الكفار، والكفار على ما يسوؤهم من إيمانهم. أو للكافرين أي: تربصوا لتروا حكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين " لأنه منزه عن الجور في حكمه، فسيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [88] قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين

    قال الملأ الذين استكبروا من قومه " أي عن الإيمان لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن أي إلى ترك دعوى الرسالة، والإقرار بها داخلين في ملتنا " أي ملة المشركين.

    قال الجشمي : الملة الديانة التي يجمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه تكرر الأمر، من قولهم: طريق ممل ومليل، إذا تكرر سلوكه حتى صار معلما. ومنه الملل: تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه. انتهى.

    قال " أي شعيب أولو كنا كارهين " أي: أتجبروننا على ذلك، وإن كنا كارهين له؟ مع أنه لا فائدة في الإكراه، لأن دينكم إن كان حقا، لم نكن بالإكراه منقادين له، وإن كان باطلا، لم نكن بالإكراه متصفين به، لأنه بالحقيقة صفة القلب، ولا يسري إكراهكم إليه. وكيف لا نكرهه وهو يستلزم غاية القبح والظلم.

    [ ص: 2814 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [89] قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين

    قد افترينا على الله كذبا " أي اختلقنا عليه باطلا بأن له شريكا إن عدنا " إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، لندخل في ملتكم " القائلة بأن له شريكا. بعد إذ نجانا الله منها " فأرانا أنه كالإنجاء من النار.

    وما يكون " أي: ينبغي لنا أن نعود " أي عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير فيها إلا أن يشاء الله ربنا " أي الذي يربينا بما علم من استعدادنا، لأنه وسع ربنا كل شيء علما أي فعلم استعداد كل واحد في كل وقت، لكن على الله توكلنا " أي: ليحفظنا عن المصير إليها ربنا " إن قصدوا إكراهنا عليها أو إخراجنا من قريتهم: افتح بيننا وبين قومنا بالحق فغلبنا عليهم وأنت خير الفاتحين " أي خير الحاكمين، فلا تغلب الظالمين وإن كثروا، على المظلومين إذا استفتحوك.

    تنبيهات:

    الأول: اعلم أن ظاهر قوله تعالى: أو لتعودن في ملتنا وقوله: بعد إذ نجانا الله منها يدل على أن شعيبا عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته، ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر، فضلا عن الشرك.

    وفي (المواقف وشرحها): أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر، وجوز الشيعة إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك، واحترازا عن إلقاء النفس في التهلكة. ومثله في (شرح التجريد).

    [ ص: 2815 ] ولما تقرر إجماع الأمة على ما ذكر، كان للعلماء في هذه الآية وجوه:

    منها: أن العود المقابل للخروج، هو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها.

    والجار والمجرور حال، أي ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، داخلين في ملتنا، وهذا الوجه اقتصر عليه المهايمي ، وسايرناه فيه مع تفسير تتمة الآية.

    ومنها: أن العود المذكور إلى ما خرج منه، وهو القرية. والمجرور حال كالسابق، أي: ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها، كائنين في ملتنا. وعدي (عاد) ب(في) كأن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.

    ومنها: أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم.

    ومنها: أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس، وإيهاما لأنه كان على دينهم، وما صدر عن شعيب عليه السلام كان على طريق المشاكلة.

    ومنها: أن " لتعودن " بمعنى لتصيرن، إذ كثيرا ما يرد (عاد) بمعنى (صار)، فيعمل عمل (كان)، ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك، وهو الانتقال من حال سابقة، إلى حال مؤتنفة مثل (صار).

    وكأنهم قالوا -والله أعلم-: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتصيرن كفارا مثلنا.

    قال الرازي : تقول العرب : قد عاد إلي من فلان مكروه، يريدون: قد صار إلي من المكروه ابتداء. قال الشاعر:


    فإن تكن الأيام أحسن مدة إلي فقد عادت لهن ذنوب


    أراد: فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان. انتهى.

    ومنه حديث معاذ . قال له النبي صلى الله عليه وسلم: « أعدت فتانا يا معاذ ؟ » أي: صرت.

    [ ص: 2816 ] ومنه حديث خزيمة : « عاد لها النقاد مجرنثما » أي: صار.

    وفي حديث كعب : وددت أن هذا اللبن يعود قطرانا ، أي: يصير. فقيل له: لم ذلك؟ قال تتبعت قريش أذناب الإبل، وتركوا الجماعات.

    قال الشهاب : إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله بعد إذ نجانا الله منها " إلا أن يقال بالتغليب فيه، أو يقال: التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه، ألا ترى إلى قوله: فأنجيناه وأهله وأمثاله؟

    ومنها: أن العود يطلق، ويراد به الابتداء. حققه الراغب والجاربردي وغير واحد.

    وأنشدوا قول الشاعر:


    وعاد الرأس مني كالثغام


    ومعنى الآية: لتدخلن في ملتنا، وقوله تعالى إن عدنا " أي دخلنا -كذا في (تاج العروس)-.

    ومنها: إبقاء صيغة العود على ظاهرها، من استدعائها رجوع العائد، إلى حال كان عليها قبل، كما يقال: عاد له، بعد ما كان أعرض عنه، إلا أن الكلام من باب التغليب. قال الزمخشري : لما قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك فعطفوا على ضميره، الذين [ ص: 2817 ] دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم، قالوا لتعودن " فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب.

    وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال: إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئا من ذلك، إجراء لكلامه على حكم التغليب. انتهى.

    ومنها: ما قاله الناصر في (الانتصاف): إنه يسلم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات

    والإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر، ولا كان فيها، وكذلك الكافر الأصلي، لم يدخل قط في نور الإيمان، ولا كان فيه، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله عنه إلى الإيمان، إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور، توفيقا من الله له، ولطفا به، بل وبالعكس في حق الكافر.

    وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب، وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله على عباده -والله أعلم- انتهى.

    الثاني: في قوله: إلا أن يشاء الله ربنا رد إلى الله تعالى مستقيم.

    قال الواحدي : والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية، أن شعيبا وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع إلى ملتكم، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية. وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله.

    ولم تزل الأنبياء والأكابر [ ص: 2818 ] يخافون العاقبة، وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ؟ وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: « يا مقلب القلوب ! ثبت قلبي على دينك » .

    وقال الزجاج : المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وتصديق ذلك قوله: وسع ربنا كل شيء علما يعني أنه تعالى يعلم ما يكون، من قبل أن يكون، وما سيكون، وأنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء، فالسعيد من سعد في علم الله تعالى، والشقي من شقي في علم الله تعالى.

    وقال الناصر في (الانتصاف): موقع قوله: وسع ربنا كل شيء علما الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة، والاطلاع على الأمور الغائبة، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد، ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه، فالحذر قائم، والخوف لازم.

    ونظيره قول إبراهيم عليه السلام: ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون لما رد الأمر إلى المشيئة، وهي مغيبة، مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات - والله أعلم ـ.

    وقال أبو السعود : معنى وما يكون لنا " الآية، أي: ما يصح لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات، إلا أن يشاء الله، أي إلا حال مشيئة الله تعالى، أو وقت مشيئته تعالى لعودنا فيها، وذلك مما لا يكاد يكون، كما ينبئ عنه قوله تعالىربنا " فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا، وكذا قوله بعد إذ نجانا الله منها " فإن تنجيته تعالى لهم منها، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها.

    وقيل معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا، فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى، وأيا ما كان، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيز الإمكان، وخطر الوقوع، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك، بل بيان استحالة وقوعها. كأنه [ ص: 2819 ] قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وهيهات ذلك، بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له. انتهى.

    ولا يخفى أن إفهام ذلك الاستحالة، هو باعتبار الواقع وما يقتضيه منصب النبوة، وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية، الذي هو من أعلى مقامات الخواص، فيكون ما ذكرناه أولا أدق، وبالقبول أحق.

    قال الإمام ابن القيم في (طريق الهجرتين): قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا فالرغب الرجاء، والرهب الخوف والخشية.

    وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه: يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية » . وفي لفظ آخر: « إني أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي » . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء . وقد قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف.

    الثالث: قال الفراء : أهل عمان يسمون (القاضي) الفاتح والفتاح. لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري قوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك .

    [ ص: 2820 ] وقال الشهاب : الفتح، بمعنى الحكم، وهي لغة لحمير أو لمراد، والفتاحة بالضم عندهم الحكومة. أو هو مجاز بمعنى: أظهر وبين أمرنا، حتى ينكشف ما بيننا وبينهم، ويتميز المحق من المبطل. ومنه فتح المشكل لبيانه وحله، تشبيها له بفتح الباب وإزالة الأغلاق، حتى يوصل إلى ما خلفها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [90] وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون

    " وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا أي: فيما يأمركم به وينهاكم عنه إنكم إذا لخاسرون " أي لجاهلون مغبونون، لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم من بخس الكيل والميزان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [91] فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين

    فأخذتهم الرجفة " أي الزلزلة الشديدة.

    قال ابن كثير : أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة هود، فقال: ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة والمناسبة هناك -والله أعلم- أنهم لما تهكموا به في قولهم أصلاتك تأمرك الآية، فجاءت الصيحة فأسكتتهم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #362
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2821 الى صـ 2835
    الحلقة (362)


    وقال تعالى في الشعراء: فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة: فأسقط علينا كسفا من السماء الآية [ ص: 2821 ] فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة. وقد اجتمع عليهم ذلك كله، أصابهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام. فأصبحوا في دارهم " أي: مدينتهم جاثمين " أي ساقطين ميتين، لا ينتفعون برؤوس أموالهم ولا بزوائدها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [92] الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين

    " الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا وعقوبتهم بمقابلته.

    والموصول مبتدأ، وخبره جملة كأن لم يغنوا فيها " أي استؤصلوا بالمرة، وصاروا كأنهم لما أصابتهم النقمة، لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.

    ثم قال تعالى مقابلا لقيلهم السابق: الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين دينا ودنيا، لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا.

    قال أبو السعود : استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، وإعادة الموصول والصلة كما هي، لزيادة التقرير، والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة، هو الذي استوجب العقوبتين، أي الذين كذبوه عليه السلام، عوقبوا بمقالتهم الأخيرة، فصاروا هم الخاسرين، لا المتبعون له، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام، كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه

    وقال الزمخشري : في هذا الاستئناف والابتداء، وهذا التكرير، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم، واستعظام لما جرى عليهم.

    [ ص: 2822 ] وفي (العناية): أن من عادة العرب الاستئناف من غير عطف، في الذم والتوبيخ، فيقولون: أخوك الذي نهب مالنا، أخوك الذي هتك سترنا. انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [93] فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين

    فتولى عنهم " أي: أعرض عن شفاعتهم والحزن عليهم وقال " أي: في الاعتذار يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي " أي: بالأمر والنهي ونصحت لكم " أي: حذرتكم من عذاب الله، ودعوتكم إلى التوبة والإيمان بما يفيد ربح الدارين، ويمنعكم خسرانهما، لكنكم كفرتم فكيف آسى " أي: أحزن حزنا شديدا على قوم كافرين " أي: بالله إن هلكوا، فضلا عن أن أشتغل بشفاعتهم. يعني أنه لا يأسى عليهم، لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى.

    تنبيه:

    قال الجشمي : من أحكام الآية أنها تدل على أن قوم شعيب أهلكوا بعذاب الاستئصال لما لم يقبلوا نصيحة نبيهم، فتدل على وجوب قبول النصيحة في الدين. وتدل على أنه لا يجوز الحزن على هلاك الكفرة والظلمة، بل يجب أن يحمد الله ويشكر، كما قال تعالى: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين

    لطيفة:

    ذكروا أن شعيبا ، عليه السلام، يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته، وأصله ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا يقول: « ذاك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه » .

    [ ص: 2823 ] والمراجعة مفاعلة من الرجوع، وهي مجاز عن المحاورة. يقال: راجعه القول، وإنما عنى النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر في هذه السورة، كما يعلم بالتأمل فيه. كذا في (العناية).

    ثم أشار تعالى إلى أحوال سائر الأمم مع أنبيائهم إجمالا، إثر بيان الأمم المذكورة تفصيلا فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [94] وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون

    " وما أرسلنا في قرية من نبي أي كذبه أهلها إلا أخذنا أهلها " أي قبل الإهلاك الكلي بالبأساء " أي: شدة الفقر والضراء " أي المرض، لاستكبارهم عن اتباع نبيهم، وتعززهم عليه لعلهم يضرعون " ليتضرعوا ويتذللوا، ويحطوا أردية الكبر والعزة، فيؤمنوا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [95] ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون

    ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " أي أعطيناهم -بدل ما كانوا فيه من البلاء، كالشدة والمرض- السعة والصحة: حتى عفوا " أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات، وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « وأعفوا اللحى » .

    وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا، [ ص: 2824 ] فقالوا كفرانا لها: هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم، نقتدي بهم، وما هو بابتلاء من الله لعباده، تصديقا لوعد الرسل، فازدادوا كفرا بعد الإعلام القولي والفعلي. والمعنى: أن الله تعالى ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه، فما فعلوا. ثم بالحسنة ليشكروا، فما فعلوا، وإذا لم ينجع فيهم هذا ولا ذاك، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب، وقد فعل، كما قال سبحانه: فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون أي: فأخذناهم أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة، من غير شعور منهم، ولا خطور شيء من المكاره ببالهم، كقوله تعالى: حتى إذا فرحوا بما أوتوا الآية، وفي الحديث: « موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر » . رواه الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة مرفوعا.

    تنبيه:

    اعتقاد أن مناوبة الضراء والسراء عادة الدهر، من غير أن يكون هناك داعية تؤدي إليهما، ولا حكمة فيهما، هو من اعتقاد الكافرين.

    قال ابن كثير : المؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء، فيشكر الله على السراء، ويصبر على الضراء. ولهذا جاء في الحديث: « لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه. والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه » أو كما قال.

    وفي الصحيحين: « عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له » .

    وقوله تعالى:

    [ ص: 2825 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [96] ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون

    ولو أن أهل القرى " أي القرى المهلكة آمنوا " أي بالله ورسلهم واتقوا " أي الكفر والمعاصي لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " أي لوسعنا عليهم الخير، ويسرناه لهم من كل جانب، مكان ما أصابهم من فنون العقوبات، التي بعضها من السماء، وبعضها من الأرض. ف(فتحنا): استعارة تبعية، لأنه شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول، أو مجاز مرسل فيلازمه، وهو التيسير، أو أريد ب(بركات السماء): المطر، و(بركات الأرض): النبات والثمار ولكن كذبوا " أي الرسل فأخذناهم " أي عاقبناهم بما كانوا يكسبون " من الكفر والمعاصي.

    تنبيه:

    أفادت الآية قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين أي: ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا من العذاب، كما قال تعالى عنهم فآمنوا فمتعناهم إلى حين " .

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [97] أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون

    أفأمن أهل القرى " أي: القرى المذكورة أن يأتيهم بأسنا " أي: عذابنا ونكالنا بياتا " أي: ليلا، أي وقت بيات وهم نائمون " أي حال كمال الغفلة.
    [ ص: 2826 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [98] أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون

    " أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أي: يخوضون في الباطل ويلهون من فرط الغفلة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [99] أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون

    أفأمنوا مكر الله " وهو أخذه العبد من حيث لا يحتسب فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " أي لا يأمن أحد أخذه تعالى العبد من حيث لا يشعر، مع كثرة ما رأى من أخذه العباد من حيث لا يحتسبون، إلا القوم الذي خسروا عقولهم، وأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها، الاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات، فصاروا خاسرين إنسانيتهم، بل أخس من البهائم، وفي قوله تعالى: أفأمنوا مكر الله " تكرير للنكير في قوله: أفأمن أهل القرى " لزيادة التقرير.

    قال الزمخشري : فعلى العاقل أن يكون في خوف من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين، والبيات، والغيلة. وعن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات . أراد قوله أن يأتيهم بأسنا بياتا " . انتهى.

    وقال الحسن البصري : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

    تنبيه:

    الأمن من مكر الله كبيرة عند الشافعية، وهو الاسترسال في المعاصي، اتكالا على عفو الله -كما في جمع الجوامع-.

    [ ص: 2827 ] وقال الحنفية: إنه كفر كاليأس، لقوله تعالى: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون

    واستدل الشافعية بحديث ابن مسعود رضي الله عنه، ( من الكبائر الأمن من مكر الله) . وما ورد أنه كفر محمول على التغليظ كذا في العناية.

    وروى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل: « ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله » . قال بعضهم: والأشبه أن يكون موقوفا.

    قال ابن حجر : وبكونه أكبر الكبائر، صرح ابن مسعود : كما رواه عنه عبد الرزاق والطبراني .

    قال الكمال بن أبي شريف : عطفهما -يعني الإياس والأمن - في الحديث على (الإشراك بالله)، المحمول على مطلق الكفر، ظاهر في أنهما غير الكفر.

    وقال أيضا: مراد الشافعية بكونه كبيرة، أن من غلب عليه الرجاء غلبة دخل بها في حد الآمن من المكر، كمن استبعد العفو عن ذنوبه لعظمها استبعادا دخل به في حد اليائس. وأما من كان أمنه لاعتقاد أن لا مكر، كمن كان يأسه لإنكار سعة الرحمة ذنوبه، فينبغي أن يكون كل منهما كافرا عند الشافعية أيضا، ويحمل عليه نص القرآن -انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [100] أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون

    أولم يهد " أي يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أي المأخوذين.

    [ ص: 2828 ] أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي كما أصبنا من قبلهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون أي نختم عليها فلا يقبلون موعظة ولا إيمانا.

    قال أبو البقاء : يقرأ (يهد) بالياء، وفاعله (أن لو نشاء). وأن مخففة من الثقيلة، أي: أو لم يبين لهم علمهم بمشيئتنا. ويقرأ بالنون. و(أن لو نشاء) مفعوله. وقيل: فاعل (يهدي) ضمير اسم الله تعالى. انتهى.

    ويؤيده قراءة النون، وجوز أن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم مما قبله، أي: أولم يهد ما جرى للأمم السابقة، وتعدية (يهد) باللام، لأنه بمعنى (يبين) إما بطريق المجاز، أو التضمين.

    قال الشهاب : وإنما جعل بمعنى (يبين)، وإن كان (هدى) يتعدى بنفسه، وباللام وبإلى -لأن ذلك في المفعول الثاني لا في الأول، كما هنا، فهذا استعمال آخر. وقيل: لك أن تحمل اللام على الزيادة، كما في ردف لكم والمراد ب(الذين)، أهل مكة ومن حولها، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [101] تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين

    تلك القرى " أي المذكورة وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب نقص عليك من أنبائها " مما يدل على مؤاخذتهم بذنوبهم لإصرارهم عليها بعد التنبيه.

    [ ص: 2829 ] ثم بين تعالى أنه أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل بقوله: ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات والدلائل القاطعة بما كذبوا من قبل " أي بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، إذ تمرنوا على التكذيب، فلم تفدهم الآيات، واستوت عندهم الحالتان، كقوله: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية ولهذا قال: كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين أي من المذكورين وغيرهم، فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر، لما علم أنهم يختارون الثبات على الكفر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [102] وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين

    " وما وجدنا لأكثرهم من عهد أي من وفاء عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " أي: خارجين عن الطاعة مارقين، فلذلك أخذناهم.

    قال الزمخشري : الضمير (للناس) على الإطلاق، أي وما وجدنا لأكثر الناس من عهد، يعني: أن أكثر الناس نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى، والآية اعتراض.

    ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا، إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة، لئن أنجيتنا لنؤمنن، ثم نجاهم، نكثوا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [103] ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين

    ثم بعثنا من بعدهم " أي الرسل المتقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط [ ص: 2830 ] وشعيب ، أو الأمم المحكية من بعد هلاكهم موسى بآياتنا " وهي العصا، واليد البيضاء، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، حسبما يأتي مفصلا إلى فرعون " وهو ملك مصر في عهد موسى وملئه " أي قومه فظلموا بها " أي كفروا بها. أجرى الظلم مجرى الكفر في تعديته بالباء، وإن كان يتعدى بنفسه، لأنهما من واد واحد. إن الشرك لظلم عظيم " ، أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا، أي: كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان، لأنه أوتي الآيات لتكون موجبة للإيمان بما جاء به، فعكسوا، حيث كفروا فوضعوا الشيء في غير موضعه، أو الباء سببية، ومفعوله محذوف، أي ظلموا أنفسهم بسببها، بأن عرضوها للعذاب الخالد، أو ظلموا الناس لصدهم عن الإيمان بها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا، كما يشير له قوله تعالى: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي لعقائد الخلق، أفسد الله عليهم ملكهم، وآتاه أعداءهم، فأغرقهم عن آخرهم، بمرأى من موسى وقومه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [104] وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين

    " وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين أي: أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [105] حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل

    حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " أي جدير بذلك وحري به، لما علمت [ ص: 2831 ] من حالي. والباء و(على) يتعاقبان، يقال: رميت بالقوس وعلى القوس. وجاء على حال حسنة وبحال حسنة. وقرأ أبي رضي الله عنه ((حقيق بأن لا أقول)) قد جئتكم ببينة من ربكم " أي آية منه تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة. فأرسل معي بني إسرائيل " روي أنه تعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له: إن إلهنا أمرنا أن نسير ثلاثة أيام في البرية، ونقرب له قرابين ونعبده، وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون، ولكن ليظهر آياته على يد موسى ، ويهلك عدوه. فلما أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه، أنكر أمر الرب له، وقال: لماذا نعطل الشعب عن أعماله؟ وكانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن، وأمر بزيادة عملهم، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم، بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون .

    ثم طلب فرعون من موسى آية، كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [106] قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين

    " قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [107] فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين

    فألقى عصاه " التي هي جماد فإذا هي " أي من غير سترة ولا معالجة سبب ثعبان " أي حية كبيرة هائلة، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه مبين " أي ظاهر لا متخيل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [108] ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين

    ونـزع يده " أي أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه فإذا هي بيضاء للناظرين " [ ص: 2832 ] أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمرها، فيدل على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية، ويتقوى بها الحياة بالله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [109] قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم

    قال الملأ من قوم فرعون " أي الأشراف الذين يكرهون شرف الغير عليهم، في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق إن هذا لساحر عليم " أي ماهر فيه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [110] يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون

    يريد أن يخرجكم من أرضكم " أي من أرض مصر بسحره ليتملك عليها فماذا تأمرون " أي تشيرون في أمره. وهذا من تمام الحكاية عن قول الملأ، أو مستأنف من قول فرعون ، تقديره فقال: ماذا تأمرون؟ ويدل عليه قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [111] قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين

    قالوا أرجه وأخاه " أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما، وتدبر شأنهما، لئلا تنسب إلى الظلم الصريح.

    قال أبو منصور : والأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر، وهو الهم بقتله، فقالوا أخره ليتبين حاله للناس.

    وأصل " أرجه " أرجئه، كما قرئ كذلك. من (أرجأت) وأرسل في المدائن " أي مدائن الصعيد من نواحي مصر حاشرين " أي من يحشر لك السحرة ويجمعهم.

    [ ص: 2833 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [112] يأتوك بكل ساحر عليم

    يأتوك بكل ساحر " وقرئ ((سحار)) عليم " أي ماهر في باب السحر، ليعارضوا موسى بنظير ما أراهم من البينات.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على عظيم معجزة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله تعالى، حتى نسبوه إلى السحر. وتدل على أن عادة البشر، أن من رأى أمرا عظيما أن يعارضه، فلذلك دعا فرعون بالسحرة، فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن، لعارضوه.

    وتدل على أن الطريق في المعجزات، المعارضة بإتيان مثله، ولذلك قال تعالى في القرآن: فأتوا بسورة مثله ولذلك لم يتكلف فرعون وقومه غير المعارضة وإيقاع الشبه. وتدل أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال، لذلك قالوا يريد أن يخرجكم من أرضكم " فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين المحافظة على الرياسة والمال والجاه، كما هو عادة الناس في هذا الزمن. انتهى.

    ثم تسابقت شرط فرعون ، فحشروهم. كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [113] وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين

    " وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [114] قال نعم وإنكم لمن المقربين

    " قال نعم وإنكم لمن المقربين ولما توثقوا من فرعون .

    [ ص: 2834 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [115] قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين

    قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " أي أول من ألقى، كما في الآية الأخرى، قيل: خيروا موسى إظهارا للجلادة، فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره.

    وقال الزمخشري : تخييرهم إياه أدب حسن، راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [116] قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم

    قال " أي: موسى لهم ألقوا " أي ما أنتم ملقون، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبدا. فلما ألقوا سحروا أعين الناس " أي خيلوا لها ما ليس في الواقع واسترهبوهم " أي وخوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر، كما في الآية الأخرى: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وجاءوا بسحر عظيم " أي: في باب السحر، أو في عين من رآه، فإنه ألقى كل واحد عصاه، فصارت العصي ثعابين.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه، وكان الزمان زمان سحر، والغالب عليهم الاشتغال به، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه، [ ص: 2835 ] ما لم يقدر عليه أحد، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر. وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم، ويتعذر عليهم مثله. وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى ، فجاء بإحياء الميت، وإبراء الأكمه والأبرص، وليس ذلك في وسع طبيب. وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر، فجاء القرآن وتحداهم به. وتدل على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصي متحركة حتى أوهموا أنها أحياء، ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعلم، وكان مثله مقدورا لكل من يتعاطى صناعتهم، علم أنه شعبذة. ولهذا تتفارق المعجزة والشعبذة، أنه يوقف على أصلها، ويمكن إتيان مثلها، ويخفى أمرها، بخلاف المعجزة.

    ثم قال: وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [117] وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون

    وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف " أي تبتلع ما يأفكون " أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [118] فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون

    فوقع الحق " أي: ثبت الإعجاز وبطل ما كانوا يعملون " أي من السحر لإبطال الإعجاز.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [119] فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين

    فغلبوا هنالك " أي في مكان الوعد الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوته، لظنه غلبة السحرة وانقلبوا " أي رجعوا صاغرين " أي ذليلين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #363
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2836 الى صـ 2850
    الحلقة (363)



    [ ص: 2836 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [120] وألقي السحرة ساجدين

    " وألقي السحرة ساجدين " .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [121] قالوا آمنا برب العالمين

    " قالوا آمنا برب العالمين "
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [122] رب موسى وهارون

    " رب موسى وهارون قال الجشمي : دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال. وتدل على أنهم بتلك الآيات استدلوا على التوحيد والنبوة، لذلك اعترفوا بهما.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [123] قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون

    " قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا أي: الصنع، لمكر " أي: حيلة مكرتموه " أي دبرتموه أنتم وموسى ، في المدينة " أي في مصر قبل الخروج للميعاد لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون " وعيد أجمله ثم فصله بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [124] لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين

    " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي من كل جانب، عضوا مغايرا للآخر، [ ص: 2837 ] كاليد من أحدهما، والرجل من آخر.

    قال الشهاب : من خلاف " حال، أي مختلفة، وقيل " من " تعليلية متعلقة بالفعل، أي لأجل خلافكم، وهو بعيد.

    ثم لأصلبنكم أجمعين " أي تفضيحا لكم. وتنكيلا لأمثالكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [125] قالوا إنا إلى ربنا منقلبون

    " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون أي فلا نبالي بما تهددنا به، لأنه هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا بحياة خير من الحياة الدنيوية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [126] وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين

    " وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا أي ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أي وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، لأنه خير الأعمال، وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلبا لمرضاتك. ربنا أفرغ علينا صبرا " أي أفض علينا صبرا واسعا لنثبت على دينك وتوفنا مسلمين " أي ثابتين على الإسلام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [127] وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون

    وقال الملأ من قوم فرعون " أي خوفا من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا [ ص: 2838 ] السحرة جاهروا بالإسلام، ولم يبالوا بالتوعد أتذر " أي أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " أي في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك ويذرك وآلهتك " الآلهة جمع (إله)، بمعنى المعبود، وكان للمصريين آلهة كثيرة منها المسمى (أوسيرس)، وكانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور المسمى (أبيس)، فيعبدونه أيضا، ويعبدون كثيرا من الحيوانات، وكانوا يعبدون الظلام أيضا، ويعبدون (بعلز بوب)، صنم (عقرون) يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان.

    وبالجملة فقد فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس والقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض. هكذا حكى عنهم بعض المدققين.

    وقد ذكر الشهرستاني في (الملل والنحل) أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة، ثم انحرف عن ذلك، وادعى لنفسه الربوبية، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام. انتهى.

    وتقدم في سورة البقرة بيان مذهب الصابئة. فتذكر.

    وقال بعضهم: إن كلمة الآلهة لفظة اصطلاحية عند العبرانيين، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله، وأنها لو حملت على هذا ههنا، لم يبعد، ويكون المعنى: ويذرك وقضاتك وذوي أمرك، ويكون الغرض من ذكرهم معه تهويل الأمر، وإلهاب قلب فرعون على موسى ، وإثارة غضبه، وقد صرح غير واحد بوقوع ألفاظ من غير العربية في القرآن، كما نقله السيوطي في النوع الثامن والثلاثين من (الإتقان). انتهى. والأظهر ما قدمناه أولا.

    قال سنقتل " قرئ بالتخفيف والتشديد أبناءهم " المولودين ونستحيي " أي نستبقي نساءهم " أي للاستخدام وإنا فوقهم قاهرون " أي بالغلبة والقدرة عليهم، ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل

    [ ص: 2839 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [128] قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين

    " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا أي على أذاهم إن الأرض لله يورثها " أي يعطيها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم.

    وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أرضهم، ويهلكهم وينجي قومه من عذاب آل فرعون لهم.

    تنبيه:

    قال الجمشي : تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته، عدلوا إلى إغراء فرعون بموسى ، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض، وأنه عند ذلك أوعده. وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى ، لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته، ولهذا قال مشايخنا: إن العرب لما عدلوا عن معارضة القرآن، التي في إيرادها إبطال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى القتال، الذي لا يفيد ذلك، دل على عجزهم. وهكذا حال كل ضال مبتدع، إذا أعيته الحجة، عدل إلى التهديد والوعيد، وتدل على أن عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله تعالى، والاستعانة به والصبر. ولا مفزع إلا في هذين: وهو الانقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع، واللطف له في الصبر. وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [129] قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون

    قالوا " أي قوم موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أي فعلوا [ ص: 2840 ] بنا من الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها.

    ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة قبل. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم " أي فرعون وجنوده ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " أي فيرى الكائن منكم من العمل، حسنه وقبيحه، وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
    ثم بين تعالى ما أحل بفرعون وقومه من الضراء، لما تأبى عن إجابة موسى وإرسال قومه معه، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [130] ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون

    " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي بالجدب والقحط، ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون " أي يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى ، وذلك لأن الشدة ترقق القلوب، وترغب في الضراعة إلى الله تعالى.

    قال الجشمي : تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفا وصلاحا في الدين، لذلك قال: لعلهم يذكرون " . اهـ.

    ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم، والشدائد، لم يزدادوا إلا تمردا وكفرا، فقال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [131] فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون

    فإذا جاءتهم الحسنة " أي الصحة والخصب قالوا لنا هذه " أي لأجلنا واستحقاقنا، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم، فيشكروه على إنعامه وإن تصبهم سيئة " شدة يطيروا بموسى ومن معه " أي يتشاءموا. وأصله (يتطيروا)، يعني أنهم يقولون: [ ص: 2841 ] هذه بشؤمهم ألا إنما طائرهم عند الله " أي شدتهم، وما طار إليهم من القضاء والقدر عند الله، لا عند غيره، أي من قبله تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي أن ما أصابهم من الله تعالى، فيقولون ما يقولون، مما حكى عنهم. ثم أخبر تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [132] وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين

    " وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي بمصدقين بالرسالة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [133] فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

    فأرسلنا عليهم الطوفان " أي على آل فرعون ، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم، فلم ينلهم ولا محالهم سوء من الطوفان ولا غيره.

    والطوفان (لغة) هو المطر الغالب، ويطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به، فعم الطوفان الصحراء، وأتلف عشبها، وكسر شجرها، تواصلت الرعود والبروق، ونيران الصواعق في جميع أرض مصر والجراد " فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، حتى لم يبق شيء من ثمرة ولا خضرة في الشجرة، ولا عشب في الصحراء والقمل " فعم أرض مصر ، وكان على الناس والبهائم، وهو بضم وتشديد ك(سكر) صغار الذر، أو شيء صغير بجناح أحمر، أو دواب صغار من جنس القردان، أو الدبى الذي لا أجنحة له، وهو الجراد الصغار.

    قال أبو البقاء : (القمل)، يقرأ بالتشديد والتخفيف مع فتح القاف وسكون الميم. قيل: هما لغتان. وقيل: هما القمل المعروف في الثياب ونحوها، والمشدد يكون في الطعام. انتهى.

    [ ص: 2842 ] ورد ابن سيدة ، وتبعه المجد في (القاموس) القول بأن المراد به قمل الناس. والضفادع " فصعدت من الأنهار والخلج والمناقع، وغطت أرض مصر والدم " فصارت مياه مصر جميعها دما عبيطا، ومات السمك فيها، وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئا آيات مفصلات " أي مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته، أو مفرقات بعضها إثر بعض. و (آيات) حال من المنصوبات قبل. فاستكبروا " أي عن الإيمان، فلم يؤمنوا لموسى ، ويرسلوا معه بني إسرائيل وكانوا قوما مجرمين " أي عاصين كافرين.

    قال الجشمي : تدل الآية على عناد القوم، وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد، أنهم لا يؤمنون بها. وليس هذا عادة من غرضه الحق. وتدل على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها، وتدل على وجوب التدبر في الآيات. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [134] ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل

    ولما وقع عليهم الرجز " أي نزل بهم العذاب المفصل، قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك أي بعهده عندك، وهو النبوة، ف(ما) مصدرية.

    قال الشهاب : سميت النبوة عهدا، لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقا تحفظ، كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى. انتهى.

    لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي الذين أرسلت لطلبهم، ليعبدوا ربهم تعالى.

    [ ص: 2843 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [135] فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون

    " فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه يعني إلى الوقت الذي أجل لهم، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم. إذا هم ينكثون " أي ينقضون العهد الذي التزموه، فلم يفوا به، فإن فرعون كان كلما حل بمصر نقمة مما تقدم، يدعو موسى ويطلب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد، وقسا قلبه، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم، أتتهم النقمة القاضية، كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [136] فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين

    " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم أي البحر بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم، وعدم تفكرهم ومبالاتهم بها. وقد روي أن فرعون ، بعد أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر ، أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ، ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاؤوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجل ليلا، وساروا بكل ما معهم من غنم وبقر ومواش، من عين شمس إلى " سكوت " ، وسلكوا طريق برية البحر الأحمر ، ولما سمع فرعون بارتحالهم، ندم على ما فعل، من إطلاقهم من خدمته، فجمع جيشه ومراكبه الحربية، ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر . حينئذ خاف الإسرائيليون، وأخذوا يتذمرون على موسى ، فقال لهم: لا تخافوا، إن الله معنا، ثم أمر تعالى موسى ، فمد يده إلى البحر الأحمر ، فانشق ماؤه، وصار فيه طريق واسعة، وأرسل الله ريحا شرقية شديدة، فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون، [ ص: 2844 ] والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمد موسى يده، بإذن الله، على البحر، فارتد ماؤه سريعا، وغمر فرعون وجنوده ومراكبه، فغرقوا جميعا، ثم طفت جيفهم على وجه الماء، وانقذفت إلى الساحل، فشاهدها الإسرائيليون عيانا. هذا ملخص ما روي هنا.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم، وتدل على قبح الاعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث فعلهم، والإعراض، فلذلك عاقبهم عليهما. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [137] وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون

    وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون " أي بالاستعباد وقتل الأبناء، وفي التعبير عنهم بهذا، إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم، في رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة. مشارق الأرض ومغاربها " أي الأرض المقدسة ، أي جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا في أكنافها حيث شاءوا. وقوله تعالى التي باركنا فيها " أي بالخصب وسعة الأرزاق. وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل أي مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين. بما صبروا " أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه.

    [ ص: 2845 ] قال الزمخشري : وحسبك به حاثا على الصبر، ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع، وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر، ضمن الله له الفرج.

    وعن الحسن : عجبت ممن خف كيف خف، وقد سمع قوله تعالى - وتلا الآية- ومعنى خف طاش جزعا وقلة صبر، ولم يرزن أولي الصبر.

    ودمرنا " أي خربنا وأهلكنا ما كان يصنع فرعون " وقومه أي ما كانوا يعملون ويسوون من العمارات وبناء القصور: وما كانوا يعرشون " (بكسر الراء وضمها)، أي من الجنات. أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان ، وهذا كما قال تعالى: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وقال تعالى: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين

    قال الزمخشري : وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله، وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل ، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه لظلوم كفار " ، جهول كنود، إلا من عصمه الله: وقليل من عبادي الشكور وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة ، فقال تعالى:

    [ ص: 2846 ]


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [138] وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون

    " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر أي الذي أغرق فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم كقنفذ، بلد كان في شرقي مصر ، قرب جبل الطور ، أضيف إليه، لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن بالسويس ، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر ، فقد أخطأ، كما في (العناية).

    فأتوا على قوم يعكفون " قرئ بضم الكاف وكسرها، على أصنام لهم " أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها قالوا يا موسى اجعل لنا إلها " أي صنما نعكف عليه كما لهم آلهة " أي أصنام يعكفون عليها قال إنكم قوم تجهلون " أي شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله وحده.

    قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [139] إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون

    إن هؤلاء " يعني عبدة تلك التماثيل متبر " أي مهلك ما هم فيه " أي من الشرك وباطل ما كانوا يعملون " أي عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى، فإنه كفر محض.

    قال الرازي : أجمع كل الأنبياء، عليهم السلام، على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى، لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة [ ص: 2847 ] والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها.

    والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به. انتهى.

    وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها (ذات أنواط)، فقالوا: يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم » - أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم -.

    وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.

    وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتاب (البدع والحوادث): وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، وبالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر. ثم شرح شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط، التي في الحديث.

    وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة . ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لابن القيم فلتنظر.

    [ ص: 2848 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [140] قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين

    قال " أي موسى ، مذكرا لقومه نعمه تعالى عليهم، الموجبة لتخصيصه تعالى بالعبادة أغير الله أبغيكم إلها " أي أطلب لكم معبودا. يقال: أبغاه الشيء طلبه له، ك(بغاه) إياه، يتعدى إلى مفعولين، وليس من باب الحذف والإيصال. وفي الحديث: ابغني أحجارا أستطيب بها ، بهمزة القطع والوصل. وقال الشاعر:


    وكم آمل من ذي غنى وقرابة لتبغيه خيرا وليس بفاعل


    والاستفهام في الآية للإنكار والتعجب والتوبيخ: وهو فضلكم على العالمين " أي والحال، أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [141] وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

    وإذ أنجيناكم من آل فرعون " أي: من فرعون وقومه يسومونكم سوء العذاب " أي يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه، كلفه إياه وجشمه وألزمه. أو أولاه إياه يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " أي فنجاكم منه وحده، من غير شفاعة أحد.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر. وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس، ويجري مجراه. انتهى.

    [ ص: 2849 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [142] وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين

    " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة

    روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر ، نزلوا في برية طور سيناء ، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهرا ونصفا. ولما نزلوا تلقاء الجبل ، صعد موسى إليه، وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه. ثم انحدر موسى إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضبابا، وصوت رعود، وبروقا، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه، فصعد موسى الجبل ، وكان مغطى بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يوما، لم يأكل ولم يشرب، لما أمد من القوة الروحانية، والتجليات القدسية، وأوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه، كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنو منه، فجعل على وجهه برقعا، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة، رفعه، وإذا أتاهم وضعه. والله أعلم.

    وقال موسى لأخيه هارون " أي حين توجه للمناجاة اخلفني في قومي " أي: كن خليفتي فيهم وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " أي لا تتبع من سلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على أنه استخلف هارون عند خروجه، لما رأى أنهم أشد طاعة له، وأكثر قبولا منه، ومخاطبات موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: [ ص: 2850 ] أفعصيت أمري " ، وقول هارون لا تأخذ بلحيتي " ، فلا تشمت بي الأعداء " كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية، وإن اشتركا في النبوة.

    والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع، لأنه المعقول من الاستخلاف عند الغيبة. وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله، عظة له، واعتبارا لغيره، وتأكيدا ومصلحة للجميع. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [143] ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

    " ولما جاء موسى لميقاتنا أي حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا. " وكلمه ربه أي خاطبه من غير واسطة ملك قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني أي لن تطيق رؤيتي، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، لا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له. بل ما هو أكبر جرما، وأشد خلقا وصلابة -وهو الجبل - لا يثبت لذلك، بل يندك، ولذا قال تعالى " ولكن انظر إلى الجبل أي الذي هو أقوى منك. " فإن استقر أي ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل " فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة. وفيه من التلطيف بموسى والتكريم له، والتنزل القدسي ما لا يخفى.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #364
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2836 الى صـ 2850
    الحلقة (363)



    [ ص: 2836 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [120] وألقي السحرة ساجدين

    " وألقي السحرة ساجدين " .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [121] قالوا آمنا برب العالمين

    " قالوا آمنا برب العالمين "
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [122] رب موسى وهارون

    " رب موسى وهارون قال الجشمي : دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال. وتدل على أنهم بتلك الآيات استدلوا على التوحيد والنبوة، لذلك اعترفوا بهما.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [123] قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون

    " قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا أي: الصنع، لمكر " أي: حيلة مكرتموه " أي دبرتموه أنتم وموسى ، في المدينة " أي في مصر قبل الخروج للميعاد لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون " وعيد أجمله ثم فصله بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [124] لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين

    " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي من كل جانب، عضوا مغايرا للآخر، [ ص: 2837 ] كاليد من أحدهما، والرجل من آخر.

    قال الشهاب : من خلاف " حال، أي مختلفة، وقيل " من " تعليلية متعلقة بالفعل، أي لأجل خلافكم، وهو بعيد.

    ثم لأصلبنكم أجمعين " أي تفضيحا لكم. وتنكيلا لأمثالكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [125] قالوا إنا إلى ربنا منقلبون

    " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون أي فلا نبالي بما تهددنا به، لأنه هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا بحياة خير من الحياة الدنيوية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [126] وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين

    " وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا أي ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أي وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، لأنه خير الأعمال، وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلبا لمرضاتك. ربنا أفرغ علينا صبرا " أي أفض علينا صبرا واسعا لنثبت على دينك وتوفنا مسلمين " أي ثابتين على الإسلام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [127] وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون

    وقال الملأ من قوم فرعون " أي خوفا من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا [ ص: 2838 ] السحرة جاهروا بالإسلام، ولم يبالوا بالتوعد أتذر " أي أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " أي في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك ويذرك وآلهتك " الآلهة جمع (إله)، بمعنى المعبود، وكان للمصريين آلهة كثيرة منها المسمى (أوسيرس)، وكانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور المسمى (أبيس)، فيعبدونه أيضا، ويعبدون كثيرا من الحيوانات، وكانوا يعبدون الظلام أيضا، ويعبدون (بعلز بوب)، صنم (عقرون) يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان.

    وبالجملة فقد فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس والقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض. هكذا حكى عنهم بعض المدققين.

    وقد ذكر الشهرستاني في (الملل والنحل) أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة، ثم انحرف عن ذلك، وادعى لنفسه الربوبية، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام. انتهى.

    وتقدم في سورة البقرة بيان مذهب الصابئة. فتذكر.

    وقال بعضهم: إن كلمة الآلهة لفظة اصطلاحية عند العبرانيين، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله، وأنها لو حملت على هذا ههنا، لم يبعد، ويكون المعنى: ويذرك وقضاتك وذوي أمرك، ويكون الغرض من ذكرهم معه تهويل الأمر، وإلهاب قلب فرعون على موسى ، وإثارة غضبه، وقد صرح غير واحد بوقوع ألفاظ من غير العربية في القرآن، كما نقله السيوطي في النوع الثامن والثلاثين من (الإتقان). انتهى. والأظهر ما قدمناه أولا.

    قال سنقتل " قرئ بالتخفيف والتشديد أبناءهم " المولودين ونستحيي " أي نستبقي نساءهم " أي للاستخدام وإنا فوقهم قاهرون " أي بالغلبة والقدرة عليهم، ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل

    [ ص: 2839 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [128] قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين

    " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا أي على أذاهم إن الأرض لله يورثها " أي يعطيها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم.

    وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أرضهم، ويهلكهم وينجي قومه من عذاب آل فرعون لهم.

    تنبيه:

    قال الجمشي : تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته، عدلوا إلى إغراء فرعون بموسى ، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض، وأنه عند ذلك أوعده. وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى ، لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته، ولهذا قال مشايخنا: إن العرب لما عدلوا عن معارضة القرآن، التي في إيرادها إبطال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى القتال، الذي لا يفيد ذلك، دل على عجزهم. وهكذا حال كل ضال مبتدع، إذا أعيته الحجة، عدل إلى التهديد والوعيد، وتدل على أن عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله تعالى، والاستعانة به والصبر. ولا مفزع إلا في هذين: وهو الانقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع، واللطف له في الصبر. وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [129] قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون

    قالوا " أي قوم موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أي فعلوا [ ص: 2840 ] بنا من الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها.

    ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة قبل. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم " أي فرعون وجنوده ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " أي فيرى الكائن منكم من العمل، حسنه وقبيحه، وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
    ثم بين تعالى ما أحل بفرعون وقومه من الضراء، لما تأبى عن إجابة موسى وإرسال قومه معه، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [130] ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون

    " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي بالجدب والقحط، ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون " أي يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى ، وذلك لأن الشدة ترقق القلوب، وترغب في الضراعة إلى الله تعالى.

    قال الجشمي : تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفا وصلاحا في الدين، لذلك قال: لعلهم يذكرون " . اهـ.

    ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم، والشدائد، لم يزدادوا إلا تمردا وكفرا، فقال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [131] فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون

    فإذا جاءتهم الحسنة " أي الصحة والخصب قالوا لنا هذه " أي لأجلنا واستحقاقنا، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم، فيشكروه على إنعامه وإن تصبهم سيئة " شدة يطيروا بموسى ومن معه " أي يتشاءموا. وأصله (يتطيروا)، يعني أنهم يقولون: [ ص: 2841 ] هذه بشؤمهم ألا إنما طائرهم عند الله " أي شدتهم، وما طار إليهم من القضاء والقدر عند الله، لا عند غيره، أي من قبله تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي أن ما أصابهم من الله تعالى، فيقولون ما يقولون، مما حكى عنهم. ثم أخبر تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [132] وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين

    " وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي بمصدقين بالرسالة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [133] فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

    فأرسلنا عليهم الطوفان " أي على آل فرعون ، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم، فلم ينلهم ولا محالهم سوء من الطوفان ولا غيره.

    والطوفان (لغة) هو المطر الغالب، ويطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به، فعم الطوفان الصحراء، وأتلف عشبها، وكسر شجرها، تواصلت الرعود والبروق، ونيران الصواعق في جميع أرض مصر والجراد " فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، حتى لم يبق شيء من ثمرة ولا خضرة في الشجرة، ولا عشب في الصحراء والقمل " فعم أرض مصر ، وكان على الناس والبهائم، وهو بضم وتشديد ك(سكر) صغار الذر، أو شيء صغير بجناح أحمر، أو دواب صغار من جنس القردان، أو الدبى الذي لا أجنحة له، وهو الجراد الصغار.

    قال أبو البقاء : (القمل)، يقرأ بالتشديد والتخفيف مع فتح القاف وسكون الميم. قيل: هما لغتان. وقيل: هما القمل المعروف في الثياب ونحوها، والمشدد يكون في الطعام. انتهى.

    [ ص: 2842 ] ورد ابن سيدة ، وتبعه المجد في (القاموس) القول بأن المراد به قمل الناس. والضفادع " فصعدت من الأنهار والخلج والمناقع، وغطت أرض مصر والدم " فصارت مياه مصر جميعها دما عبيطا، ومات السمك فيها، وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئا آيات مفصلات " أي مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته، أو مفرقات بعضها إثر بعض. و (آيات) حال من المنصوبات قبل. فاستكبروا " أي عن الإيمان، فلم يؤمنوا لموسى ، ويرسلوا معه بني إسرائيل وكانوا قوما مجرمين " أي عاصين كافرين.

    قال الجشمي : تدل الآية على عناد القوم، وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد، أنهم لا يؤمنون بها. وليس هذا عادة من غرضه الحق. وتدل على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها، وتدل على وجوب التدبر في الآيات. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [134] ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل

    ولما وقع عليهم الرجز " أي نزل بهم العذاب المفصل، قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك أي بعهده عندك، وهو النبوة، ف(ما) مصدرية.

    قال الشهاب : سميت النبوة عهدا، لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقا تحفظ، كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى. انتهى.

    لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي الذين أرسلت لطلبهم، ليعبدوا ربهم تعالى.

    [ ص: 2843 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [135] فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون

    " فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه يعني إلى الوقت الذي أجل لهم، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم. إذا هم ينكثون " أي ينقضون العهد الذي التزموه، فلم يفوا به، فإن فرعون كان كلما حل بمصر نقمة مما تقدم، يدعو موسى ويطلب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد، وقسا قلبه، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم، أتتهم النقمة القاضية، كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [136] فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين

    " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم أي البحر بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم، وعدم تفكرهم ومبالاتهم بها. وقد روي أن فرعون ، بعد أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر ، أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ، ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاؤوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجل ليلا، وساروا بكل ما معهم من غنم وبقر ومواش، من عين شمس إلى " سكوت " ، وسلكوا طريق برية البحر الأحمر ، ولما سمع فرعون بارتحالهم، ندم على ما فعل، من إطلاقهم من خدمته، فجمع جيشه ومراكبه الحربية، ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر . حينئذ خاف الإسرائيليون، وأخذوا يتذمرون على موسى ، فقال لهم: لا تخافوا، إن الله معنا، ثم أمر تعالى موسى ، فمد يده إلى البحر الأحمر ، فانشق ماؤه، وصار فيه طريق واسعة، وأرسل الله ريحا شرقية شديدة، فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون، [ ص: 2844 ] والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمد موسى يده، بإذن الله، على البحر، فارتد ماؤه سريعا، وغمر فرعون وجنوده ومراكبه، فغرقوا جميعا، ثم طفت جيفهم على وجه الماء، وانقذفت إلى الساحل، فشاهدها الإسرائيليون عيانا. هذا ملخص ما روي هنا.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم، وتدل على قبح الاعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث فعلهم، والإعراض، فلذلك عاقبهم عليهما. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [137] وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون

    وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون " أي بالاستعباد وقتل الأبناء، وفي التعبير عنهم بهذا، إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم، في رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة. مشارق الأرض ومغاربها " أي الأرض المقدسة ، أي جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا في أكنافها حيث شاءوا. وقوله تعالى التي باركنا فيها " أي بالخصب وسعة الأرزاق. وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل أي مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين. بما صبروا " أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه.

    [ ص: 2845 ] قال الزمخشري : وحسبك به حاثا على الصبر، ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع، وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر، ضمن الله له الفرج.

    وعن الحسن : عجبت ممن خف كيف خف، وقد سمع قوله تعالى - وتلا الآية- ومعنى خف طاش جزعا وقلة صبر، ولم يرزن أولي الصبر.

    ودمرنا " أي خربنا وأهلكنا ما كان يصنع فرعون " وقومه أي ما كانوا يعملون ويسوون من العمارات وبناء القصور: وما كانوا يعرشون " (بكسر الراء وضمها)، أي من الجنات. أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان ، وهذا كما قال تعالى: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وقال تعالى: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين

    قال الزمخشري : وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله، وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل ، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه لظلوم كفار " ، جهول كنود، إلا من عصمه الله: وقليل من عبادي الشكور وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة ، فقال تعالى:

    [ ص: 2846 ]


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [138] وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون

    " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر أي الذي أغرق فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم كقنفذ، بلد كان في شرقي مصر ، قرب جبل الطور ، أضيف إليه، لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن بالسويس ، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر ، فقد أخطأ، كما في (العناية).

    فأتوا على قوم يعكفون " قرئ بضم الكاف وكسرها، على أصنام لهم " أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها قالوا يا موسى اجعل لنا إلها " أي صنما نعكف عليه كما لهم آلهة " أي أصنام يعكفون عليها قال إنكم قوم تجهلون " أي شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله وحده.

    قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [139] إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون

    إن هؤلاء " يعني عبدة تلك التماثيل متبر " أي مهلك ما هم فيه " أي من الشرك وباطل ما كانوا يعملون " أي عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى، فإنه كفر محض.

    قال الرازي : أجمع كل الأنبياء، عليهم السلام، على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى، لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة [ ص: 2847 ] والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها.

    والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به. انتهى.

    وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها (ذات أنواط)، فقالوا: يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم » - أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم -.

    وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.

    وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتاب (البدع والحوادث): وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، وبالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر. ثم شرح شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط، التي في الحديث.

    وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة . ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لابن القيم فلتنظر.

    [ ص: 2848 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [140] قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين

    قال " أي موسى ، مذكرا لقومه نعمه تعالى عليهم، الموجبة لتخصيصه تعالى بالعبادة أغير الله أبغيكم إلها " أي أطلب لكم معبودا. يقال: أبغاه الشيء طلبه له، ك(بغاه) إياه، يتعدى إلى مفعولين، وليس من باب الحذف والإيصال. وفي الحديث: ابغني أحجارا أستطيب بها ، بهمزة القطع والوصل. وقال الشاعر:


    وكم آمل من ذي غنى وقرابة لتبغيه خيرا وليس بفاعل


    والاستفهام في الآية للإنكار والتعجب والتوبيخ: وهو فضلكم على العالمين " أي والحال، أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [141] وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

    وإذ أنجيناكم من آل فرعون " أي: من فرعون وقومه يسومونكم سوء العذاب " أي يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه، كلفه إياه وجشمه وألزمه. أو أولاه إياه يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " أي فنجاكم منه وحده، من غير شفاعة أحد.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر. وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس، ويجري مجراه. انتهى.

    [ ص: 2849 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [142] وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين

    " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة

    روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر ، نزلوا في برية طور سيناء ، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهرا ونصفا. ولما نزلوا تلقاء الجبل ، صعد موسى إليه، وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه. ثم انحدر موسى إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضبابا، وصوت رعود، وبروقا، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه، فصعد موسى الجبل ، وكان مغطى بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يوما، لم يأكل ولم يشرب، لما أمد من القوة الروحانية، والتجليات القدسية، وأوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه، كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنو منه، فجعل على وجهه برقعا، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة، رفعه، وإذا أتاهم وضعه. والله أعلم.

    وقال موسى لأخيه هارون " أي حين توجه للمناجاة اخلفني في قومي " أي: كن خليفتي فيهم وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " أي لا تتبع من سلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على أنه استخلف هارون عند خروجه، لما رأى أنهم أشد طاعة له، وأكثر قبولا منه، ومخاطبات موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: [ ص: 2850 ] أفعصيت أمري " ، وقول هارون لا تأخذ بلحيتي " ، فلا تشمت بي الأعداء " كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية، وإن اشتركا في النبوة.

    والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع، لأنه المعقول من الاستخلاف عند الغيبة. وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله، عظة له، واعتبارا لغيره، وتأكيدا ومصلحة للجميع. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [143] ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

    " ولما جاء موسى لميقاتنا أي حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا. " وكلمه ربه أي خاطبه من غير واسطة ملك قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني أي لن تطيق رؤيتي، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، لا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له. بل ما هو أكبر جرما، وأشد خلقا وصلابة -وهو الجبل - لا يثبت لذلك، بل يندك، ولذا قال تعالى " ولكن انظر إلى الجبل أي الذي هو أقوى منك. " فإن استقر أي ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل " فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة. وفيه من التلطيف بموسى والتكريم له، والتنزل القدسي ما لا يخفى.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #365
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2851 الى صـ 2865
    الحلقة (364)




    " فلما تجلى ربه للجبل أي: ظهر له وبان -قاله الزجاج - " جعله أي التجلي " دكا [ ص: 2851 ] أي مفتتا، فلم يستقر مكانه. فنبه تعالى على أن الجبل ، مع شدته وصلابته، إذا لم يستقر، فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى ، بأن المانع من الانكشاف الإشفاق عليه، وأما أن المانع محالية الرؤية، فليس في القرآن إشارة إليه.

    " وخر أي وقع " موسى صعقا أي: مغشيا عليه من هول ما رأى. " فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك أي من الإقدام على سؤالي الرؤية " وأنا أول المؤمنين أي بأنه لا يستقر لرؤيتك أحد في هذه النشأة.

    قال في (الانتصاف): إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم، سبح الله، وقدس علمه وخبره عن الخلف.

    وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزها مبرأ من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل. وقد ورد: (سيئات المقربين، حسنات الأبرار).

    تنبيه:

    قال المتكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين:

    الأول: أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها، لأن العاقل، فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطلب المحال، ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالاستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله، لا يصلح للنبوة، إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة، ولا ريب في نبوة موسى عليه السلام، وأنه من أولي العزم.

    الثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه والمعلق على الممكن ممكن، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.

    [ ص: 2852 ] وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، فمعنى قوله: " أرني " أي: اجعلني عالما بك علما ضروريا خلاف الظاهر. فإن النظر الموصول ب(إلى) نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالاحتمال، مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول. وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام، كان سألها لقومه، حيث قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فسأل ليعلموا امتناعها، فإنه خلاف الظاهر، وتكلف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية. وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة، بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة.

    قال في (فتح البيان): رؤيته تعالى في الآخرة، ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة. ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه، وأدرك عليه أباه، وأهل بلده، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب. والمتعصب، وإن كان بصره صحيحا، فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه، وجهلا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية:


    يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح


    انتهى.

    وهذا تعريض بالمعتزلة ، وفي مقدمتهم الزمخشري ، وقد انتقل -عفا الله عنه- أخيرا إلى [ ص: 2853 ] هجاء أهل السنة بما أنشده:


    لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفه
    قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفه


    والبلكفة نحت، كالبسملة، أي بقولهم (بلا كيف).

    قال في (الانتصاف): ولولا الاستنان بحسان بن ثابت الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره، والمنافح عنه، وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلاما، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم، فنقول:


    وجماعة كفروا برؤية ربهم حقا ووعد الله ما لن يخلفه
    وتلقبوا عدلية قلنا: أجل عدلوا بربهم فحسبهمو سفه
    وتلقبوا الناجين. كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه


    وقال أبو حيان في الرد عليه:


    شبهت جهلا صدر أمة أحمد وذوي البصائر بالحمير الموكفه
    وجب الخسار عليك فانظر منصفا في آية الأعراف فهي المنصفه
    أترى الكليم أتى بجهل ما أتى وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه
    إن الوجوه إليه ناظرة بذا جاء الكتاب فقلتم: هذا سفه
    نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفه


    وقال العلامة الجاربردي :


    عجبا لقوم ظالمين تستروا بالعدل. ما فيهم لعمري معرفه
    قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفه

    وقد ساق السبكي في (طبقاته) في ترجمة الجاربردي عدة قصائد ومقاطيع في الرد عليه، ثم ذكر الله تعالى أنه خاطب موسى باصطفائه، بقوله سبحانه:
    [ ص: 2854 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [144] قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين

    " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس أي اخترتك على أهل زمانك، وآثرتك عليهم " برسالاتي وبكلامي أي: وبتكليمي إياك " فخذ ما آتيتك أي ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة " وكن من الشاكرين أي على النعمة في ذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [145] وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين

    " وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء من الحلال والحرام. " فخذها بقوة أي بعزم على العمل بما فيها " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي بما أمروا به دون ما نهوا عنه " سأريكم دار الفاسقين وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين ، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر ، وبقائهم في البرية. فإن موسى عليه السلام، لما مات، خلفه يشوع بن نون ، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان ، وفتح بلادهم، وصارت ملكا للإسرائيليين.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على حدوث كلامه، لأن قوله " اصطفيتك أي اختصصتك به، ولو كان قديما لكان موسى وغيره سواء، ولما صح الاختصاص، ويدل [ ص: 2855 ] قوله: " وكتبنا أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات، لتكون محروسة، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين، ليقع لهم العلم ضرورة. ويدل على أن في التوراة شرائع، وجميع ما يحتاج إليه. ويدل قوله " بقوة أن العبد قادر على الفعل قبل الفعل، وأنه يفعل بقدرة. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [146] سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين

    " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي، قلوب المتكبرين عن طاعتي، والمتكبرين على الناس، أي فكما استكبروا أذلهم الله بالجهل، كقوله تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقوله تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم

    وقوله تعالى " بغير الحق إما صلة للفعل، أي يتكبرون بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل، أو حال من فاعله، أي يتكبرون غير محقين. " وإن يروا كل آية أي حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم. " لا يؤمنوا بها تكبرا عليها " وإن يروا سبيل الرشد يعني طريق الحق والهدى والاستقامة واضحا ظاهرا " لا يتخذوه سبيلا لمنافاته أهويتهم " وإن يروا سبيل الغي أي الضلال عن الحق والهلاك " يتخذوه سبيلا أي طريقا يميلون إليه " ذلك أي الصرف عن الآيات، أو اتخاذهم الغي سبيلا. " بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين أي: لاهين لا يتفكرون فيها، ولا يتعظون بها، أو غافلين عما ينزل بهم من مخافة الرسل .
    ثم بين وعيد المكذبين بقوله:

    [ ص: 2856 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [147] والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون

    " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة أي القيامة، وهي الكرة الثانية، سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، " حبطت أعمالهم أي بطلت، فلم تعقب نفعا، والمراد جزاء أعمالهم، لأن الحابط إنما يصح في المنتظر، دون ما تقضى، وهذا كقوله ليروا أعمالهم

    " هل يجزون إلا ما كانوا يعملون أي إلا جزاء عملهم من الكفر والمعاصي.

    تنبيه:

    ذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى " سأصرف عن آياتي إلخ، كلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متصل بما سبق من قصصهم، وهو أولم يهد إلخ.

    وإيراد قصة موسى وفرعون للاعتبار.

    وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم إهلاكهم، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها، وهو شبيه بقوله: بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه، ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة. انتهى. والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [148] واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين

    " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار يخبر تعالى عن [ ص: 2857 ] ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلا، جسدا لا روح فيه، وقد احتال بإدخال الريح فيه، حتى صار يسمع له خوار، أي صوت كصوت البقر، وإنما أضاف الصوت إليه، لأنه كان محله عند دخول الريح جوفه، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور ، حيث يقول إخبارا عن نفسه الكريمة: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري

    لطائف:

    قال الزمخشري : فإن قلت: لم قيل " واتخذ قوم موسى عجلا " والمتخذ هو السامري ؟ قلت: فيه وجهان:

    أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلا منهم باشره، ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: (بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا) والقائل والفاعل واحد. ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه، راضين له، فكأنهم أجمعوا عليه.

    والثاني: أن يراد: واتخذوه إلها وعبدوه. فإن قلت: لم قال " من حليهم ولم يكن الحلي لهم، إنما كانت عوارى في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة وكونها في أيديهم عوارى، كفى به ملابسة، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين، كما قال تعالى: وأورثناها بني إسرائيل انتهى.

    قال النسفي : وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان، فدخل دارا استعارها يحنث، وأن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها. انتهى.

    والحلي بضم الحاء والتشديد، جمع (حلي) بفتح فسكون، ك(ثدي وثدي)، وهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة.

    [ ص: 2858 ] وقوله تعالى: " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، والمعنى: ألم يروا، حين اتخذوه إلها، أنه لا يقدر على كلام، ولا على إرشاد سبيل، كآحاد البشر؟ فهو جماد لا ينفع ولا يضر، فكيف يكون إلها؟

    وقوله تعالى " اتخذوه تكرير لتأكيد الذم، أي اتخذوه إلها وعبدوه " وكانوا ظالمين أي: واضعين الأشياء في غير مواضعها، والجملة إما استئنافية، أو اعتراض تذييلي للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك، فلا ينكر هذا منهم. أو حالية، أي: اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج في الدين، وأنه تعالى دلهم، في بطلان اتخاذ العجل إلها، بأنه لا يتكلم ولا يهدي، وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفد فيه الحيلة، ولا تنفد في الكلام. وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب، كما أزالها الله تعالى، وتدل على أن القوم كانوا جهالا غير عارفين حقيقة الأشياء، لذلك عبدوا العجل، وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكا لبني إسرائيل لذلك قال " حليهم فإن ثبت أنهم استعاروه، فيدل على زوال ملكهم، وانتقال الملك إلى بني إسرائيل كما تملك أموال أهل الحرب، وتدل على أن الاتخاذ فعلهم.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [149] ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين

    " ولما سقط في أيديهم أي: ندموا على عبادة العجل " ورأوا أي علموا وأيقنوا " أنهم قد ضلوا أي: عن الحق والهدى. " قالوا لئن لم يرحمنا ربنا أي بقبول توبتنا " ويغفر لنا أي: ما قدمنا من عبادة العجل " لنكونن من الخاسرين أي: بالعقوبة، أي: ممن خسروا أعمالهم وأعمارهم.

    [ ص: 2859 ] لطيفة:

    يقال للنادم على ما فعل، الحسر على ما فرط منه (قد سقط في يده) و (أسقط) مضمومتين -قاله الزجاج -.

    وقال الفراء : يقال سقط في يده وأسقط، من الندامة، و (سقط) أكثر وأجود.

    وأنكر أبو عمرو (أسقط) بالألف، وجوزه الأخفش .

    قال الزمخشري : من شأن من اشتد ندمه وحسرته، أن يعض يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها.

    وقال الزجاج : معناه: سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالا أن يكون في اليد، تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد، ويرى بالعين. انتهى.

    وقال الفارسي : أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذن من السقوط.

    وفي (العباب): هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن، ولا عرفته العرب ، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط، لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه، فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق ولأن اليد هي الجارحة العظمى، فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تعالى: ذلك بما قدمت يداك انتهى.

    وعليه، فيكون (سقط) من السقاط، وهو كثرة الخطأ كما قال:


    كيف يرجون سقاطي بعد ما لفع الرأس بياض وصلع


    وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه، ويضعه على يده، معتمدا عليه وتارة [ ص: 2860 ] يضعها تحت ذقنه، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطا فيها، لتمكن السقوط فيها. ويكون قوله: " سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم، كقوله: ولأصلبنكم في جذوع النخل أي عليها، و (سقط) عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف، ك(نعم وبئس). وقرئ (سقط) معلوما أي الندم أو العض، أو الخسران، وكله تمثيل. وقرئ (أسقط) رباعي مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج ، كما قدمنا.
    ثم بين تعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات، وكان أعلمه تعالى بفتنة قومه فقال سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [150] ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين

    " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا أي: شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل، وحزينا أي على ما فاته من مناجاة ربه " قال بئسما خلفتموني من بعدي أي بئسما عملتم خلفي، أو قمتم مقامي، وكنتم خلفائي من بعدي. والخطاب إما لعبدة العجل، من السامري وأشياعه، أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه. ويدل عليه قوله " اخلفني في قومي وعلى التقدير الأول يكون المعنى: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى.

    قاله الرازي " أعجلتم أمر ربكم أي: ميعاده الذي [ ص: 2861 ] وعدنيه من الأربعين، فلم تصبروا إلى تمامها، وكانوا استبطأوا نزوله من الجبل ، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه، وينضمون إليه، وفعلوا ذلك وجعلوا يغنون ويرقصون ويأكلون ويشربون ويلعبون حوله ويقولون: هذا الإله الذي أخرجنا من مصر -عياذا بالله-.

    وقال أبو مسلم : معناه سبقتم أمر الله، فعبدتم ما لم يأمركم به " وألقى الألواح أي طرحها من شدة الغضب، وفرط الضجرة بين يديه فتكسرت، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية، وإنما ألقاها، عليه السلام، لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل ، ودنا من محلتهم رأى العجل ورقصهم حوله، اتقد غضبه فألقاها غضبا لله، وحمية لدينه، وكان هو في نفسه حديدا، شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبا، ولذلك كان محببا إلى قومه.

    تنبيه:

    قال السيوطي في (الإكليل): استدل ابن تيمية بقوله تعالى " وألقى الألواح على أن من ألقى كتابا على يده، إلى الأرض وهو غضبان، لا يلام. انتهى. وهو ظاهر.

    " وأخذ برأس أخيه أي: بشعره " يجره إليه ظنا أن يكون قصر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى: قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي

    وقال ههنا: " قال ابن أم قرئ بالفتح والكسر. وأصله يا ابن أمي، خفف بحذف حرف النداء والياء، وذكر الأم ليرققه عليه، وقوله: إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني إزاحة لتوهم التقصير في حقه.

    والمعنى: بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني، وقاربوا قتلي، " فلا تشمت بي الأعداء أي بالإساءة إلي. والشماتة سرور الأعداء بما يصيب المرء " ولا تجعلني مع القوم الظالمين أي في عقوبتك لي، في عدادهم، أو لا تعتقد أني منهم، مع براءتي وعدم تقصيري.

    [ ص: 2862 ] قال الجشمي : تدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع، لذلك قال هارون " استضعفوني وتدل على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [151] قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين

    " قال أي موسى عليه السلام، متضرعا إلى ربه استنزالا لرحمته، وتعوذا بمغفرته من سخطه، ولا يخفى اقتضاء المقام لذلك: رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين

    وقال الزمخشري : لما اعتذر إليه أخوه، وذكر له شماتة الأعداء قال " رب اغفر لي ولأخي ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا تتم لهم شماتتهم. واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة، وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [152] إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين

    " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين أي من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة على كتفيه، كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين.

    وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية وكذلك نجزي المفترين قال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل. ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل التوبة من أي ذنب كان، ولو كفرا بقوله:

    [ ص: 2863 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [153] والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم

    " والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها إلى الله " وآمنوا أي أخلصوا الإيمان " إن ربك من بعدها لغفور رحيم أي: محاء لذنوبهم، منعم عليهم بالجنة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [154] ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون

    " ولما سكت أي سكن " عن موسى الغضب أخذ الألواح أي التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت " وفي نسختها أي فيما نسخ منها، أي كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول، كالخطبة " هدى ورحمة بالشرائع والوصايا الربانية، المرشدة لما فيه الخير والصلاح " للذين هم لربهم يرهبون أي: يخشون.

    لطيفتان:

    الأولى: قال أبو السعود : في هذا النظم الكريم، يعني قوله تعالى: ولما سكت عن موسى الغضب من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب، الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول، منزلة الآمر بذلك، المغرى عليه بالتحكم والتشديد، والتعبير عن سكونه بالسكوت -ما لا يخفى- انتهى.

    وأصله للزمخشري حيث قال: هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك، وقطع الإغراء. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم، وذوق [ ص: 2864 ] صحيح إلا لذلك؛ ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ((ولما سكن عن موسى الغضب)) لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة، وطرفا من تلك الروعة؟ انتهى.

    ومراده بالمثل كونه استعارة مكنية، حيث شبه الغضب بشخص آمر ناه، وأثبت له السكوت تخييلا.

    وعد بعض أهل العربية الآية من المقلوب، أي من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز، وكأن الأصل: (ولما سكت موسى عن الغضب) كما في خرق الثوب المسمار.

    قال في (الانتصاف) والتحقيق أنه ليس منه، وأن هذا القلب أشرف وأفصح، لما فيه من المعنى البليغ، وهو أن الغضب كان متمكنا من موسى ، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره. ومثل هذه النكتة الحسناء، لا تلفى في (خرق الثوب المسمار). انتهى.

    وقرئ سكن وسكت وأسكت، أي: أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه.

    الثانية -اللام في (للذين) متعلقة بمحذوف، صفة (لرحمة)، أي كائنة لهم. أو هي لام الأجل، أي: هدى ورحمة لأجلهم: واللام في (لربهم) لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله تعالى: إن كنتم للرؤيا تعبرون أو هي أيضا لام العلة، والمفعول محذوف، أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم، لا للرياء والسمعة -أفاده أبو السعود -.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [155] واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين

    " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو [ ص: 2865 ] شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا

    روى محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام، لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل، وذراه في اليم، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلا، الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله، فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون -فيما ذكر لي-حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه، لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره، وانكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم، فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وهي الصاعقة التي يحصل منها الاضطراب الشديد، فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي قد سفهوا، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل

    وفي رواية السدي : فقام موسى يبكي ويقول: يا رب! ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم، وقد أهلكت خيارهم رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي

    وقال ابن إسحاق : اخترت منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، أرجع إليهم، وليس معي رجل منهم واحد، فما الذي يصدقونني أو يأمنونني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.

    وقال الزجاج : المعنى لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم، بما أوجب عليهم الرجفة. انتهى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #366
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2866 الى صـ 2880
    الحلقة (365)



    [ ص: 2866 ] قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) بعد نقل كلام من ذكرنا: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود، والذي يظهر -والله أعلم بمراده ومراد نبيه- أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حتى عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم، يقولموسى : إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل، وهذا كمن واخذه سيده بجرم يقول: لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعني عفوك أولا، فليسعني اليوم.

    ثم قال نبي الله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فقال ابن الأنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أي لست تفعل ذلك، والسفهاء هنا عبدة العجل.

    قال الفراء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ وإنما كان إهلاكهم بقولهم " أرنا الله جهرة انتهى.

    واستظهار أن هذا استفهام استعطاف، سبقه إليه المبرد .

    تنبيه:

    قال في (اللباب): معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة، أي: ثم أحيوا.

    وقال وهب بن منبه : لم تكن تلك الرجفة موتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة، وأخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا، حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك، راحمهم وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء على الخير، سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة، فاطمأنوا وسمعوا كلام الله. والله أعلم.

    إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي: ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك، وامتحانك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر إلا أنت. فنحن عائذون بك [ ص: 2867 ] منك، ولاجئون منك إليك. يعني إن الأمر إلا أمرك، والحكم إلا لك فما شئت كان، تضل من تشاء وتهدي من تشاء.

    قال الواحدي : هذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر. " أنت ولينا أي متولي أمورنا القائم بها " فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [156] واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون

    " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي أثبت لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة، والتوفيق للطاعة " وفي الآخرة أي حسنة أيضا، وهي المثوبة الحسنى والجنة. " إنا هدنا إليك أي تبنا إليك. يقال: هاد إليه يهود، إذا رجع وتاب، فهو هائد. ولبعضهم:


    يا راكب الذنب هد، هد واسجد كأنك هدهد


    وقال آخر:


    إني امرؤ مما جنيت هائد


    قال أبو البقاء : المشهور ضم الهاء، وهو من (هاد يهود) إذا تاب. وقرئ بكسرها، من (هاد يهيد) إذا تحرك أو حرك، أي حركنا إليك نفوسنا، وعلى القراءتين، يحتمل الوجهين، البناء للفاعل وللمفعول، بمعنى ملنا أو أمالنا غيرنا، أو حركنا أنفسنا، أو حركنا غيرنا، وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى، وإن اختلف التقدير.

    " قال استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: فماذا قال تعالى في جواب دعاء موسى ؟ فقيل قال: عذابي أصيب به من أشاء أي تعذيبه من العصاة ورحمتي وسعت كل شيء تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان والجنة [ ص: 2868 ] كما قال تعالى يدخل من يشاء في رحمته ولعلها هي المراد هنا، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل، كما قابل الآية التي ذكرناها بقوله: والظالمين أعد لهم عذابا أليما والله أعلم.

    " فسأكتبها أي هذه الرحمة " للذين يتقون أي الكفر والشرك والفواحش " ويؤتون الزكاة أي يعطون زكاة أموالهم " والذين هم بآياتنا أي بكتابنا ورسولنا " يؤمنون أي يصدقون.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص، لذلك قالوا " إنا هدنا إليك وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن، فلذلك فصل، ومن تأمل هذا السؤال والجواب، عرف عظيم محل هذا البيان، لأنه عليه السلام، سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها.

    وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات، فيبطل قول المرجئة .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [157] الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنـزل معه أولئك هم المفلحون

    " الذين بدل من الموصول الأول بدل الكل، أو منصوب على المدح، أو مرفوع [ ص: 2869 ] عليه، أي: أعني الذين أو هم الذين " يتبعون الرسول أي الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم " النبي أي الذي نبئ بأكمل الاعتقادات، والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي " الأمي أي الذي لم يحصل علما من بشر " الذي يجدونه مكتوبا أي باسمه ( محمد وأحمد ) ونعوته " عندهم زيد هذا لزيادة التقرير، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلا " في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف يعني الإيمان بالله، ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق، لأن جميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع. " وينهاهم عن المنكر يعني الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق، لأن العقل والشرع ينكره. " ويحل لهم الطيبات أي التي حرمت عليهم لمعاصيهم. " ويحرم عليهم الخبائث أي التي كانوا يتناولونها كالخنزير والميتة والدم -هذا في باب المأكولات-. " ويضع عنهم إصرهم أي الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة " والأغلال التي كانت عليهم جمع غل بالضم، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد، يستعار للشرائط الحرجة والمواثيق الشديدة، أي يخفف عنهم ما كلفوه منها -وهذا في باب العبادات-.

    " فالذين آمنوا به أي بالنبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم " وعزروه أي عظموه ووقروه " ونصروه أي على أعدائه في الدين فمنعوهم عنه " واتبعوا النور الذي أنـزل معه وهو القرآن، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه.

    ولا يقال: القرآن أنزل مع جبريل ، فما معنى " أنـزل معه ؟ لأن المراد أنزل مع نبوته، لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به، ويجوز أن يعلق ب(اتبعوا) أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، وبما أمر ونهى عنه، فيكون أمرا بالعمل بالكتاب والسنة، أو هو حال، أي اتبعوا القرآن كما اتبعه، مصاحبين له في اتباعه. وفي التعبير عن القرآن ب(النور)، المنبئ عن كونه ظاهرا بنفسه لإعجازه، ومظهرا لغيره من الأحكام، لمناسبة الاتباع.

    " أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة والناجون من النقمة.

    [ ص: 2870 ] تنبيهات:

    الأول: يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى: " قال عذابي إلخ، جواب لموسى عليه السلام، وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين، كتابه حسنتي الدنيا والآخرة لهم، فأجيب أولا بأن ذلك لا يحصل لقومه كلهم، بر أو فاجرا، لما سبق من تقديره سبحانه العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلا. ولذلك قرأ الحسن وزيد بن علي هنا (لمن أساء)، فعل ماض من (الإساءة)، وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة من عذابه تعالى، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم، وثانيا إنه لا يستأهل كتابة الحسنتين إلا المتقون المتصدقون المؤمنون بالآيات، المتبعون للنبي الأمي، فمن استقام على هذا الشرائط، كتب له ذلك، ولا يقال -على هذا- كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ لأنا نقول الاتباع أعم من الإتباع بالقوة، وذلك بالإيمان به إجمالا، حسبما أشار له الكتابان لمن تقدم موته على زمن بعثته، وإما (بالفعل) لمن لحق زمان بعثته. وفيه تبشير لموسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف له بشأنه وإعلام بشأنه، بأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه. وعليه فيكون قوله تعالى " الذين يتبعون بدلا من الموصول الأول، بدل الكل. أو منصوب على المدح، أو مرفوع عليه، أي: أعني الذين، أو هم الذين.

    وقال بعضهم: إن جواب موسى ينتهي إلى قوله تعالى: " والذين هم بآياتنا يؤمنون وما بعده مستأنف، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب، يصيب به من يشاء، كما أصاب أصحاب الرجفة، وذو رحمة واسعة، تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات، أي: فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المرقوم. ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقا، وعليه فيكون قوله تعالى " الذين يتبعون مبتدأ خبره " أولئك هم المفلحون وتكون القصة استتبعت أعقاب بني إسرائيل ، بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي، كانوا هم المفلحين.

    [ ص: 2871 ] وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى " قال عذابي ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له، صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه، حقت لهم رحمته تعالى الواسعة، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى، كما جرى لأسلافهم. وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين، ما لا يخفى.

    الثاني: تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان -هذا ما ذكر في اللغة. وعندي أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة، كما قال تعالى: يدخل من يشاء في رحمته بدليل المقابلة بقوله والظالمين أعد لهم عذابا أليما فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا " ورحمتي وسعت كل شيء بمعنى الجنة، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل. والله أعلم.

    وقال أبو منصور : ما من أحد مسلم وكافر، إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا. بها يتعيشون ويؤاخون ويوادون، وفيها ينقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، لا حظ للكافر فيها، وذلك قوله: فسأكتبها للذين يتقون أي: معصية الله، والخلاف له " ويؤتون الزكاة كقوله تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة جعل طيبات الدنيا ونعيمها مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظ للكافر فيها. فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة، ويحتمل قوله -والله أعلم: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة أنهم سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته. انتهى.

    [ ص: 2872 ] الثالث: إنما أفرد (الزكاة) بالذكر، مع دخولها في التقوى قبل، لعلوها وشرفها، فإنها عنوان الهداية، ولأنها كانت أشق عليهم، فذكرها لئلا يفرطوا فيها.

    الرابع: كونه صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ، أمر مقرر مشهور. وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلحالحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور، أو أنه لم يكتب، وإنما أسند إليه مجازا، أو أنه أصدر منه ذلك معجزة؟ - انظر في (فتح الباري) تفصيله-.

    و(الأمي) نسبة إلى أمة العرب ، لأن الغالب عليهم كان ذلك، كما في الحديث: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » ، وأما نسبته إلى (أم القرى) فلأن أهلها كانوا كذلك، أو إلى (أمه) كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها. وقيل: إنه منسوب (إلى الأم) -بفتح الهمزة- بمعنى القصد، لأنه المقصود، وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب ((الأمي)) -بفتح الهمزة-، وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا، وإنما وصفه تعالى به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته، فهي له مدح وعلو كعب، لأنها معجزة له، كما قال البوصيري .


    كفاك بالعلم في الأمي معجزة


    كما أن صفة التكبر لله مادحة، وفي غيره ذامة، كذا في (العناية).

    الخامس: في قوله تعالى: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام، بنبوته صلى الله عليه وسلم.

    قال الماوردي في (أعلام النبوة) في الباب الخامس عشر في بشائر الأنبياء بنبوته عليه الصلاة والسلام:

    [ ص: 2873 ] إن لله تعالى عونا على أوامره، وإغناء عن نواهيه، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة، بما تقدمه من بشائرها، وتبديه من أعلامها وشعائرها، ليكون السابق مبشرا ونذيرا، واللاحق مصدقا وظهيرا، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق.

    وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله تعالى على غيبه، ليكون عونا للرسول، وحثا على القبول. فمنهم من عينه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره. وقد حقق الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جليا بعد الاحتمال ويقينا بعد الارتياب، ثم سرد الماوردي البشائر من نصوص كتبهم.

    وجاء في (إظهار الحق) ما نصه: إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم، كثيرة إلى الآن أيضا، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولا طريق إخبار النبي المتقدم، عن النبي المتأخر، على ما عرفت في الأمر الثاني -يعني في كلامه- ثم نظر ثانيا بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة.

    وجاء في (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) ما نصه: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشرت به الأنبياء السالفون، وشهدوا بصدق نبوته، ووصفوه وصفا رفع كل احتمال، حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته. غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمه -يعني من نسخهم الأخيرة- إلا أن ذلك لم يجدهم نفعا، لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمى، إذ قد يشترك اثنان في اسم، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف.

    لكن من أمد غير بعيد، قد شرعوا في تحريف بعض الصفات، ليبعد صدقها على النبي عليه الصلاة والسلام، فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع، اختلافا لا يخفى على اللبيب أمره، ولا ما قصد [ ص: 2874 ] به، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم لانتشار النسخ بالطبع، وتيسر المقابلة بينها، وها نحن نورد شذرة من البشائر لديهم:

    فمنها: في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر هكذا:

    11- وقال لها ملاك الرب أنت حبلى فتلدين ابنا، وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك.

    12- وإنه يكون إنسانا وحشيا، يده على كل واحد ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن.

    هذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، لا بجده إسماعيل ، لأن إسماعيل عليه السلام، لم تكن يده فوق يد الجميع، ولا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص. بل في التوراة أن إسماعيل وأمه هاجر أخرجا من وطنهما مكرهين، ولم يرث إسماعيل مع إسحاق ، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق ، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش، ولم يسمع أن الأمم دانت لهم، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدانت له الملوك، وخضعت له الأمم، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد، وصارت يد كل بهم فكان ذكر إسماعيل مقصودا به ولده.

    كما أن في مواضع كثيرة من التوراة، ذكر يعقوب ، والمقصود بالذكر ولد يعقوب . فمن ذلك قوله في السفر الخامس: يا إسرائيل ! ألا تخشى الله ربك، وتسلك في سبيله وتعمل له؟ فهذا خطاب لبني إسرائيل باسم أبيهم، وكذلك قوله لقوم موسى : اسمع إسرائيل ، ثم احفظ، واعمل يحسن إليك ربك، وتكثر وتنعم. ونظائره كثيرة.

    فظهر أنه قد يذكر اسم الأب، ويراد الابن مجازا، بقرينة الحال، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى.

    ومنها: في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية هكذا: 1- وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته.

    [ ص: 2875 ] 2- فقال: جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القدس ، وعن يمينه نار شريعة لهم.

    ولا غموض بأن مجيء الله جل وعلا من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سينا -هكذا يفسره أهل الكتاب - والأمر كذلك فيجب أن يكون إشراقه من سعير عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح ، وكان المسيح يسكن أرض الجليل من سعير بقرية تدعى ناصرة ، واسم النصارى مأخوذ منها.

    واستعلاؤه من جبال فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد في جبل فاران ، وفاران هي مكة ، ولا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب . ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا:

    20- وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس.

    21- وسكن في برية فاران ، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر .

    ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة ، وفيها مات، وبها دفن، وهذه البشارة صريحة في نبينا صلى الله عليه وسلم، ظاهرة لا تخفى إلا على أكمة لا يعرف القمر. فأي نبي ظهر في مكة بعد موسى غير محمد ، وانتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها، كما يقتضيه الاستعلان المذكور في البشارة.

    ومنها: في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا:

    17- قال لي الرب قد أحسنوا في ما تكلموا.

    18- أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به.

    19- ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه.

    هذا البشارة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم قطعا، لأنه من ذرية إسماعيل ، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم ، بدليل ما ذكر في التوراة في حق إسماعيل وأنه قبالة إخوته، ينصب المضارب. وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام، عن بعد بعيد، إخوة [ ص: 2876 ] كما دعا في القرآن هود وصالح ، إخوة لعاد وثمود مع أنهما على بعد بعيد من أولاد الأعمام.

    وكما قيل في سفر العدد في الباب العشرين:

    14- وأرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم : هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا (مع أنهما أعمام على بعد بعيد).

    وليست هذه الشهادة في حق أحد من أنبياء بني إسرائيل ، وإلا، لقال: وسوف أقيم لهم نبيا مثلك منهم أو من أنفسهم كما قال تعالى إخبارا بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وكما قال تعالى في خطاب بني إسماعيل : لقد جاءكم رسول من أنفسكم وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى ، فهو باطل من وجوه:

    1- أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل ، لا من نفس بني إسرائيل ، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل

    2- أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام لما في آخر سفر التثنية (الإصحاح الرابع والعشرون).

    10- ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه. ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواه، ويوشع ليس كذلك، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى .

    30- أن يوشع عليه السلام كان حاضرا هناك، وقد أشير إليه بعبارة صريحة قبل هذه ففي الباب الأول من هذا السفر.

    38- يشوع بن نون الواقف أمامك هو يدخل إلى هناك، شدده لأنه هو يقسمها لإسرائيل .

    فأي مقتض للرمز والتلويح، بعد هذا التصريح؟ وأي موجب لإدخال (سوف) الدالة على الاستقبال على فعل حاصل في الحال؟

    [ ص: 2877 ] وأما ما زعمته النصارى من أن المراد به عيسى عليه السلام، فهو أيضا باطل لوجوه:

    1- أنه من بني إسرائيل ، والمبشر به هنا من غيرهم.

    2- أن موسى بشر بنبي مثله، وهم يدعون أن عيسى إله، وينكرون كونه نبيا مرسلا، وإلا لزم اتحاد المرسل والمرسل، وهو غير معقول، على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما الصلاة والسلام أقوى من مشابهته لعيسى ، لاتحادهما في أمور:

    1- كونهما ذوي والدين وأزواج، بخلاف عيسى عليه السلام.

    2- كونهما مأمورين بالجهاد، بخلاف عيسى عليه السلام. وقد أشار في هذه البشارة بقوله:

    19- ويكون أي الإنسان الذي لا يسمع لكلامي، الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه. إلى كون هذا النبي مأمورا بجهاد من كفر بما جاء به من عند الله، والانتقام منه بسيفه البتار. وزعمت النصارى أن الانتقام هنا بمعنى العذاب الأخروي لمنكريه، وهو خطأ، لأن ذلك لا يختص بهذا النبي، بل كل من أنكر ما جاء به نبي من الأنبياء ينتقم منه في الآخرة، فلا معنى لتخصيص هذا النبي بالذكر حينئذ.

    3- كون شريعتهما مشتملة على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء، وإيجاب الطهارة وقت العبادة، وهذه كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام -على ما تقول النصارى - ونظائر ذلك كثيرة. وفي هذه البشارة إشارة إلى كون هذا النبي أميا لا يقرأ، حيث قال (يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي). وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الآية التي نحن في صددها.

    ومنها: في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه، ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه، لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم). وهذه بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس [ ص: 2878 ] من يقوم مقامه، وينوب في تبليغ رسالته، وسياسة خلقه، ومنابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، وهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم. و (الأب) هنا بمعنى الرب والإله، لأنه اصطلاح أهل الكتابين.

    وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه (روح الحق) إلى أن الحق قبل مبعثه، يكون كالميت لا حراك له، ولا انتعاش، وأنه إذا بعث يكون كالروح له، فيرجع حينئذ قائما في الأرض.

    ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام، هو الذي أحيى الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعد ما اندرس، ولم يبق فيه نفس. ثم قال: (والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم). ولا شك بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق، وأوضح ما خفي من الدقائق، وذكر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عباد الله تعالى، قربه إليه بالرسالة واصطفاه، وأنه لم يدع لسوى عبادة الله وتوحيده، وتنزيهه وتمجيده. وقوله (باسمي) أي بالنبوة.

    ثم أبان لهم سبب إخبارهم به قبل أن يأتي فقال: (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان، تؤمنون).

    وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور: (فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق، وهو يشهد لأجلي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء.

    وفي الباب السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق، لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك، فهو يوبخ العالم على خطيئة، وعلى بر، وعلى حكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي. وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب، ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم، فإن رئيس هذا العالم قد دين، وإن لي كلاما كثيرا أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله، وإذا جاء روح الحق ذاك، فهو يعلمكم جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني، لأنه يأخذ مما هو لي، ويخبركم جميع ما هو للأب، فهو لي. من أجل هذا قلت: (إن مما هو لي يأخذ ويخبركم). ومن أمعن النظر في هذه [ ص: 2879 ] العبارات، ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحوى والإشارات جزم بأن الفارقليط هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام، وشهد لعيسى بالنبوة والرسالة، ومجده وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحرا كذابا، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل، بريئة الساحة، وهو الذي وبخ العالم -سيما اليهود على الخطايا، لا سيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام، والطعن في والدته الطاهرة البتول، وهو الأمين الصادق، الذي علم جميع الحقائق، هو الذي أبان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار، وهو الذي، لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى.

    وفسر العلامة ابن قتيبة (روح الحق الذي من الأب ينبثق)، أي يصدر بكلام الله المنزل، واستدل بقوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا والمراد به هنا القرآن الكريم، لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة ، عما افتري عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه، واهتدوا بهديه، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك، فتعين أن يكون هو المراد.

    وفي قول عيسى عليه السلام: (إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط إشارة إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل.

    ولفظ (فارقليط) يوناني الأصل، قيل: أصله باراكلي طوس، بمعنى المعزي والمعين والوكيل أو الشافع. وقيل: بيركلوطوس، فيكون قريبا من معنى محمد وأحمد .معلوم أن المسيح عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني كان لسان قومه، وما كان يتكلم باليوناني، لأنه كان عبرانيا ابن عبرانية، نشأ في قومه العبرانيين فنقل أقواله في هذه الأناجيل، نقل بالمعنى. فترجيح من رجح من النصارى أن أصل فارقليط هو الأول ترجيح بلا مرجح، والتفاوت بين اللفظين يسير جدا، والحروف اليونانية متشابهة.

    [ ص: 2880 ] وأيا كان أصله، فالاستدلال صحيح، لصدق اللفظ بمعانيه كلها على النبي صلى الله عليه وسلم صدقا جليا، لا يخفى إلا على مشاغب.

    وقد كانت هذه البشارة سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان ، كما بينه في كتابه (تحفة الأديب في الرد على أهل الصليب).

    وقد نبذ النصارى بعد الأناجيل المصرحة باسم محمد ، لكونها شجى في حلوق أهوائهم، كإنجيل ( برنابا ) ففيه التصريح بقوله (إلى أن يجيء محمد رسول الله) كما نقله في (إظهار الحق).

    وإذا كان حالهم في تراجمهم، في لقب إلههم، ولقب خليفته ما علم -فكيف يرجى منهم صحة بقاء لفظ ( محمد أو أحمد )؟ إلا أن سيف الحق أمضى، وسهام الصوب أنفذ، فثمة من الأوصاف الصريحة، والأشائر الصحيحة، ما لا يبقى معه وقفة لحائر.

    هذا، وفي كتبهم بشائر كثيرة، تعرض لذكرها جلة من العلماء، مما أناف على العشرين.

    قال الماوردي : لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر. وقد اقتصرنا على ما قدمنا، روما للاختصار، ولسهولة الوقوف على البقية، من مثل (أعلام النبوة للماوردي ) و (إظهار الحق) وغيرهما.

    وقد قال صاحب (إظهار الحق) الشيخ رحمة الله ، عليه رحمة الله: إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول، شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل عبد الله بن سلام ، وابني سعية ، وبنيامين ، ومخيريق ، وكعب الأحبار ، وغيرهم من علماء اليهود ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي ، وضغاطر ، وهو الأسقف الرومي الذي أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود ، والنجاشي ، والسوس ، والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيرهم من علماء النصارى


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #367
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2881 الى صـ 2895
    الحلقة (366)




    وقد اعترف بصحة نبوته، وعموم [ ص: 2881 ] رسالته، هرقل قيصر الروم ، ومقوقس صاحب مصر ، وابن صوريا ، وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم، ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا.

    ولما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران ، وحاجهم في شأن عيسى عليه السلام وحجهم، دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى، فنكصوا على أعقابهم، خوفا من شؤم مغبتها، فكانوا كقوم فرعون آمنوا بها: واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا

    السادس: قوله تعالى " يأمرهم بالمعروف يحتمل أن يكون مستأنفا، وأن يكون مفسرا " مكتوبا أي لما كتب.

    السابع: الطيبات أعم من الطيبات في المأكل كالشحوم، وكذا البحائر والسوائب والوصائل والحام.

    ومن الطيبات في حكم الشريعة كالبيع، وما خلا كسبه عن سحت، وكذا الخبائث ما يستخبث، من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة.

    قيل: يستبعد إرادة ما طاب أو خبث في الحكم، لأن معناه حينئذ ما حكم الشرع بحله، أو حكم بحرمته، فيرجع الكلام إلى أنه يحل ما يحكم بحله، ويحرم ما يحكم بحرمته، ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة! لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع، لا بالعقل والرأي.

    الثامن: في قوله تعالى: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « بعثت بالحنيفية السمحة » . وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري ، لما بعثهما إلى اليمن : « بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا » .

    [ ص: 2882 ] وقدمنا أن (الإصر والأغلال) استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، فمنها تحريم طبخ الجدي بلبن أمه، ومنها نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظال، وكذلك عيد كل سبت، لا يعمل فيه أدنى عمل.

    وكذلك سبت المزارع، ففي كل سنة سابعة سبت للأرض، لا يزرع فيها، ولا يقطف الكرم، بل تترك الأراضي عطلا، وغلات الكروم مأكلا لفقراء شعبهم ووحوش البرية. ومنها أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما يقتل حدا. وكذا من يعمل يوم السبت يقتل، ومن كان به جن أو تابعة يرجم بالحجارة حتى يموت، ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة، ثم تبين كذبه، جميعا يقتلان، وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها، وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات المنطوح، يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، ومن اضطجع مع امرأة طامث يقطعان من شعبهم، ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر، وطلقها أو مات عنها، فلا يجوز لزوجها الأول أن يرجعها، وغير ذلك من الآصار التي تقدم بعضها في آخر سورة البقرة -فراجعه-.

    التاسع: قال الجشمي : تدل الآية على أن شريعته صلى الله عليه وسلم أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية، وذلك نعمة عظيمة على هذه الأمة.

    وتدل على وجوب تعظيم الرسول، ونصره بالجهاد، ونصرته بنصرة دينه، وكل أمر يؤدي إلى توهين ما يتصل بذلك، لأن جميع ذلك من باب النصرة. وهذا لا يختص بعصره، فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف، ولعل الجهاد بالبيان، وإيراد الحجة، ووضع الكتب فيه، وحل شبه المخالفين، يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف، ولهذا قلنا (منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل) اهـ.

    العاشر: قال العلامة البقاعي : لما تراسلت الآي، وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام، وبيان مناقبه العظام، ومآثره الجسام، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصبا، وأعظمهم رتبة، ساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق، على هذا [ ص: 2883 ] الوجه، الذي بين أعلاهم مراتب، وأزكاهم مناقب، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلا.

    وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل ، اهتماما به، وتعجيلا له، مع ما سيذكر، مما يظهر أفضليته، ويوضح أكمليته، بقصته مع قومه، في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه، في سورة الأنفال وبراءة بكمالها.

    ثم قال البقاعي : لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص، من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم، حث على الإيمان به، إيجابا على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف، تقدم زمانه أو تأخر، أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه، ويصرح بما أخذ ميثاق الرسل عليه، تحقيقا لعموم رسالته، وشمول دعوته، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [158] قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون

    " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا أي: كافة " الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت نعوت للفظ الجلالة، أي الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة. والآية نص في عموم بعثته للأحمر والأسود، والعربي والعجمي. وفي الحديث: « أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي -ولا أقولهن فخرا- بعثت إلى الناس كافة، الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا » . رواه الإمام أحمد عن ابن عباس [ ص: 2884 ] مرفوعا، ورواه أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا، وأحلت لي الغنائم، آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي ! قيل لي: سل، فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ولمن يشهد أن لا إله إلا الله» .

    قال الحافظ ابن كثير : إسنادهما جيد قوي.

    وروى الإمام أحمد بمعناه عن ابن عمر وأبي موسى ، وهو ثابت في الصحيحين عن جابر .

    وأخرج مسلم عن أبي موسى قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .

    فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي أي الذي نبئ ما يرشد الخلائق كلهم، مع كونه أميا، وفي نعته بذلك زيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين. " الذي يؤمن بالله وكلماته أي ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه " واتبعوه لعلكم تهتدون

    [ ص: 2885 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [159] ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون

    " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق أي: موقنين ثابتين، يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة، ويرشدونهم " وبه يعدلون وبالحق يعدلون بينهم في الحكم، ولا يجورون. والآية سيقت لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام، من كل خير، وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم. وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف. أفاده أبو السعود .

    وهذه الآية كقوله تعالى: من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون وقوله تعالى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [160] وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنـزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

    " وقطعناهم أي قوم موسى " اثنتي عشرة أسباطا أي صيرناهم قطعا، أي فرقا، وميزنا بعضهم من بعض. والأسباط: أولاد الولد، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة، من اثني عشر [ ص: 2886 ] ولدا، من ولد يعقوب عليه السلام " أمما أي عظيمة وجماعة كثيفة العدد: وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أي: في التيه " أن اضرب بعصاك الحجر فضربه " فانبجست أي انفجرت " منه اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط " قد علم كل أناس أي سبط منهم " مشربهم وظللنا عليهم الغمام في التيه من حر الشمس وأنـزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون حيث أوجبوا لها العذاب الدائم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [161] وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنـزيد المحسنين

    " وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية يعني بيت المقدس ، والقائل موسى عليه السلام، دعاهم إلى دخول بيت المقدس ، أو يوشع ، فإنه دعاهم بعد وفاة موسى ، إلى غزو بيت المقدس : " وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة أي قولوا حط عنا ذنوبنا، وقيل: أمروا بكلمة إذا قالوها حط عنهم أوزارهم " وادخلوا الباب أي باب القرية " سجدا أي ساجدين أو خاضعين. أمروا بأن يدخلوها بالتواضع، وكان ذلك شرطا في قبول فعلهم " نغفر لكم خطيئاتكم سنـزيد المحسنين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [162] فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون

    " فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا [ ص: 2887 ] أي عذابا " من السماء بما كانوا يظلمون وقد تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة بما يغني عن إعادته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [163] واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون

    " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين

    فقوله تعالى: " واسألهم عطف على " اذكر المقدر عند قوله: " وإذ قيل أي وأسأل اليهود المعاصرين لك، سؤال تقريع وتقرير، بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله، وإعلاما بأن هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحي، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحي.

    وقال ابن كثير : أي: واسأل هؤلاء اليهود بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم، لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم.

    و (هذه القرية) هي أيلة ، بين مدين والطور ، وقيل هي متنا ، بين مدين وعينونا .

    ومعنى كونها " حاضرة البحر أنها قريبة منه، راكبة لشاطئه.

    [ ص: 2888 ] وقوله تعالى: " إذ يعدون في السبت أي يتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه، فقد أخذت عليهم العهود والمواثيق أن يحفظوا السبوت من عمل ما.

    و (الحيتان) السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت، في معنى السمكة.

    و " شرعا جمع شارع، من (شرع) بمعنى دنا. يقال: شرع علينا فلان، إذا دنا منا، وأشرف علينا، وشرعت على فلان في بيته، فرأيته يفعل كذا، وهو حال من " حيتانهم أي تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء، قريبة من الساحل، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم أصلا إلى السبت المقبل.

    قرئ " يسبتون ثلاثيا، ومزيدا فيه، من (أسبت) معلوما ومجهولا أيضا، بمعنى، لا يدخلون في السبت ولا يدار عليهم.

    وقوله تعالى " كذلك نبلوهم أي مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع، نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء، في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده، أي نعاملهم معاملة من يختبرهم، بسبب فسقهم، فيظهر عدوانهم، فيستحقون المؤاخذة.
    ثم بين تعالى تماديهم في العدوان، وعدم انزجارهم عنه، بعد العظات والإنذارات، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [164] وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون

    " وإذ قالت أمة منهم أي جماعة من صلحائهم، يحاورون فريقا ممن دأب في عظتهم " لم تعظون قوما الله مهلكهم أي: مخترمهم ومطهر الأرض منهم: " أو معذبهم [ ص: 2889 ] عذابا شديدا أي بل معذبهم عذابا شديدا، إذ مجرد الإهلاك قد يوجد معه لطف، وأما شدة العذاب فتلك القاصمة. " قالوا أي الوعاظ " معذرة إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى، لئلا ننسب إلى التفريط في وصيته بالنهي عن المنكر. وقرئ بالرفع، أي: موعظتنا معذرة " ولعلهم يتقون أي ورجاء في أن يتقوا فيتوبوا فينجوا من الإهلاك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [165] فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون

    " فلما نسوا ما ذكروا به أي فلما تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم، ترك الناسي للشيء، وأعرضوا عنه إعراضا كليا، بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا. أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا أي المرتكبين المنكر. " بعذاب بئيس أي: شديد وزنا ومعنى " بما كانوا يفسقون بفعل المنكر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [166] فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين

    " فلما عتوا عن ما نهوا عنه أي تكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه " قلنا لهم كونوا قردة خاسئين أي صاغرين أذلاء، بعداء من الناس.

    قال الزجاج : أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع.

    وقال غيره: المراد بالأمر هو الأمر التكويني، لا القولي، أي: التكليفي، لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به.

    وفي الكلام استعارة تخييلية، شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف، ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة، بأمر المطاع للمطيع، في حصول المأمور به، من غير توقف. كذا في (العناية).

    [ ص: 2890 ] وظاهر الآية يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا لما قبلها.

    تنبيهات:

    الأول: قال الجشمي : تدل الآية على أنهم تعبدوا بتحريم الصيد يوم السبت، وأنه شدد التكليف عليهم بظهورها يومئذ، وأنهم خالفوا أمر الله، وهذا القدر يقتضيه الظاهر. ومتى قيل: أفظهور الحيتان يوم السبت دون غيره من الأيام، هل كانت معجزة؟ قلنا: اختلفوا فيه، فقيل: كان معجزة لنبي ذلك الزمان، لأنه لا يتفق للسمك أن يأتي الأنهار كثيرا في يوم واحد، ولا يظهر في سائر الأيام، فإن كان كذلك، فلا بد أن الله تعالى قوى دواعي الحيتان يوم السبت، فظهروا، وصرفهم في سائر الأيام، فلم يظهروا، فكانت معجزة. وقيل: كانت جرت عادتهم بترك الصيد يوم السبت، فعلموا ذلك فكثروا في ذلك اليوم على عادتهم، كما اعتاد الدواب كثيرا من الأشياء. انتهى.

    وقد روي في اعتدائهم في السبت روايات:

    منها: أنهم تحيلوا لاصطياد الحيتان فيه بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت، حتى إذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة، نشبت بتلك الحبائل، فلم تخلص منها يومها، فإذا كان الليل، أخذوها بعد انقضاء السبت.

    ومنها: أنهم كانوا يأخذونها يوم السبت بالفعل، ولكن يأكلونها في غيره من الأيام، فتأول لهم الشيطان أن النهي عن الأكل فيه منها، لا عن صيدها، فنهتهم طائفة منهم عن ذلك وقالت: ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف، أو قذف، أو بعض ما عنده من العذاب، فلما أصبحوا وجدوهم أصابهم من المسخ ما أصابهم، وإذا هم قردة -رواه عبد الرزاق وابن جرير - وثمة روايات أخر.

    وروي عن مجاهد أنهم مسخت قلوبهم، لا أبدانهم -والله أعلم-.

    الثاني: استدل بهذه القصة على تحريم الحيل.

    [ ص: 2891 ] قال الإمام ابن القيم في (إغاثة اللهفان): ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله، الحيل والمكر والخداع، الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه. فإن الرأي رأيان: رأي يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذي اعتبره السلف، وعملوا به، ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذي ذموه وأنكروه.

    وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود، يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، فهذا الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.

    ثم ساق الوجوه العديدة على تحريمه وإبطاله.

    وقال في سادسها:

    إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد، أخذوه يوم الأحد. قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية، ممن يتلبس بعلم الفقه، وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه.

    ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل، واحتيال ظاهره ظاهر الإيفاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا -والله أعلم- مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي أوصافه شبه منهم، وهو مخالف له في الحد والحقيقة. فلما نسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره، دون حقيقته، مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم، دون الحقيقة، جزاء وفاقا.

    [ ص: 2892 ] ثم روي في عاشرها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل » .

    الثالث: دلت الآيات على أن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على صيد السمك يوم السبت، كما بينا. وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ فأجابتها المنكرة: بأنا نفعل ذلك اعتذارا إلى ربنا فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    ثم نص تعالى على نجاة الناهين، وهلاك الظالمين.

    وقال ابن كثير : وسكت عن الساكتين، لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين، أو من الناجين؟ على قولين. ويروى أن ابن عباس كان توقف فيهم، ثم صار إلى نجاتهم، لما قال له غلامه عكرمة : ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم، وقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ فكساه حلة.

    الرابع: دل قوله تعالى: قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون على أن النهي عن المنكر لا يسقط، ولو علم المنكر عدم الفائدة فيه، إذ ليس من شرطه حصول الامتثال عنه، ولو لم يكن فيه إلا القيام بركن عظيم من أركان الدين، والغيرة على حدود الله، والاعتذار إليه تعالى، إذ شدد في تركه لكفاه فائدة.

    ولما ذكر تعالى بعض مساوئ اليهود تأثره ببيان أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة فقال سبحانه:

    [ ص: 2893 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [167] وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم

    " وإذ تأذن ربك أي آذن، (كتوعد بمعنى أوعد)، من (الإيذان) بمعنى (الإعلام)، أجري مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، وهو قوله: " ليبعثن عليهم والمعنى: وإذ ختم ربك وحكم ليسلطن على اليهود " إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك، بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم، وقد بعث الله تعالى بعد سليمان عليه السلام، بختنصر مالك بابل ، فخرب ديارهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وجلا كثيرا منهم إلى بابل -قصبة مملكته- وأقاموا فيها سبعين سنة، ثم تسلطت عليهم ملوك شتى، ولبثوا زمانا طويلا يكابدون بلاء عنيفا، من تواتر الحروب على بلادهم، إلى أن صاروا جميعا تحت سلطة الرومان بعد ولادة عيسى عليه السلام بإحدى وسبعين سنة، واستؤصلوا من أرضهم، تفرقوا في البلاد شذر مذر، صاغرين مقهورين. ومن ها هنا، استدل من استدل بأنهم لا يكون لهم دولة ولا عز، وباتصال ذلهم. " إن ربك لسريع العقاب لمن أقام على كفره، ونبذ وصاياه " وإنه لغفور رحيم أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا.

    ثم أخبر تعالى عن تبددهم في الأقطار بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [168] وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون

    " وقطعناهم في الأرض أمما أي فرقنا بني إسرائيل في الأرض، وجعلنا كل فرقة [ ص: 2894 ] منهم في قطر من أقطارها، بحيث لا تخلو ناحية منها منهم، تكملة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة.

    منهم الصالحون ومنهم دون ذلك أي من ينحط عن درجة الصلاح، لكفر أو فسق وبلوناهم بالحسنات والسيئات أي بالنعم والنقم التي هي أمثلة جزاء الصلاح والفسق " لعلهم يرجعون أي عن أسباب السيئات إلى الحسنات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [169] فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون

    " فخلف من بعدهم أي من بعد هؤلاء المذكورين " خلف أي بدل سوء، والمراد بهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. و(الخلف) مصدر، ولذا يوصف به المفرد وغيره، وقد شاع في الطالح، ومفتوح اللام ب(الصالح)، وربما جاء عكسه. " ورثوا الكتاب أي التوراة من أسلافهم المختلفين، يقرؤونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي، والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها كما قال يأخذون عرض هذا الأدنى أي حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا، وما يتمتع به منها.

    وفي قوله " هذا الأدنى تخسيس وتحقير. و (العرض) بفتح الراء، ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون (العرض) لمقابل (الجوهر).

    و (الأدنى) إما من الدنو، بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب بالنسبة إلى الآخرة، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها " ويقولون سيغفر لنا أي يعتاضون عن بذل الحق ونشره، بعرض الحياة الدنيا، ويتحكمون على الله تعالى بأنه لا يؤاخذهم بما أخذوا. " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه الواو للحال، أي يرجون المغفرة، وهم مصرون [ ص: 2895 ] عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين، كلما لاح لهم مثل الأول أخذوه. " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أي الميثاق الوارد فيه، " أن لا يقولوا على الله إلا الحق أي: فلو صح ما تحكموا به على الله، لم يكن لأخذ هذا الميثاق معنى.

    ثم أخبر تعالى أن أخذهم ليس عن جهلهم بذلك الميثاق بقوله: " ودرسوا ما فيه أي قرؤوا ما في الكتاب من الميثاق مرة بعد مرة. " والدار الآخرة خير أي من ذلك العرض الخسيس " للذين يتقون أي أخذ هذا الأدنى بدل كتم الحق. " أفلا تعقلون أي فتعلموا ذلك، فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب، بالنعيم المخلد، وقرئ بالياء، وفي الالتفات تشديد للتوبيخ.

    ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [170] والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين

    " والذين يمسكون بالكتاب أي يتمسكون به في أمور دينهم. يقال: مسك بالشيء وتمسك به. وقرئ ((يمسكون))، من (الإمساك) وتمسكوا واستمسكوا. وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين من وضع الظاهر موضع المضمر، تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع، لأن التعليق بالمشتق يفيد علة مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لإصلاحهم.

    فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ أجيب: بأن إفرادها، إظهارا لمزية الصلاة -لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #368
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2896 الى صـ 2910
    الحلقة (367)




    قال الجشمي : تدل الآية على وعيد المعرض عن الكتاب، ووعد من تمسك به، تنبيها [ ص: 2896 ] لنا وتحذيرا عن سلوك طريقتهم. وتدل على أن الاستغفار باللسان، وتمني المغفرة لا ينفع حتى يكون معهما التوبة والعمل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [171] وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون

    " وإذ نتقنا الجبل فوقهم أي رفعناه " كأنه ظلة أي سحابة " وظنوا أنه واقع بهم أي ساقط عليهم، لأن الجبل لا يثبت في الجو. " خذوا ما آتيناكم أي: وقلنا، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من أحكام التوراة " بقوة أي عزيمة وجد " واذكروا ما فيه أي بالعمل ولا تتركوه كالمنسي " لعلكم تتقون أي مساوئ الأعمال، أو راجين أن تنظموا في سلك المتقين. وهذه الآية كقوله تعالى " ورفعنا فوقهم الطور

    وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف: أنهم راجعوا موسى في فرائض التوراة وشرائعها، حتى رفع الله الجبل فوق رؤوسهم، فقال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي عز وجل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا! فخروا سجدا، فرقا من أن يسقط عليهم رواه النسائي وسنيد .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [172] وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين

    " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم أي: أخرج من أصلابهم [ ص: 2897 ] نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن، من أنهم كانوا نطفة قذفت إلى رحم الأمهات، ثم جعلت علقة، ثم مضغة، ثم أنشأهم بشرا سويا حيا مكلفا، فجعل خلقه إياهم كذلك، إخراجا من أصلابهم، لأن أصلهم خرج منها، و " من ظهورهم بدل من " بني آدم بدل البعض، وقرئ ((ذرياتهم)). " وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد كل واحدة من أولئك الذريات المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها، تقريرا لهم بربوبيته التامة.

    قال الجشمي : أي أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقته، وغرائب صنعته، من أعضاء سوية، وحواس مدركة، وجوارح ظاهرة، وأعصاب وعروق وغير ذلك، مما يعلمه من تفكر فيه، وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته، فبالإشهاد بالأدلة، صار كأنه أشهدهم بقوله.

    وقوله تعالى " ألست بربكم على إرادة القول، أي قائلا: ألست بربكم، ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم، فينتظم استحقاق المعبودية، ويستلزم اختصاصه به تعالى: " قالوا بلى شهدنا أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، لأنهم بما ظهر عليهم من آثار الصنعة، صاروا كأنهم قالوا " بلى وإن لم يكن هناك قول باللسان.

    فالآية من باب التمثيل المعروف في كلام العرب ، مثل تعالى خلقهم على فطرة التوحيد، وإخراجهم من ظهور آبائهم، شاهدين بربوبيته شهادة لا يخالجها ريب، بحمله إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر، ومسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا. والقصد من الآية الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته تعالى معرفة فطرية، لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة. قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله والفطرة هي معرفة ربوبيته.

    [ ص: 2898 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ » .

    والجمعاء سالمة الأذن، والجدعاء مقطوعتها.

    وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم » .

    وروى الطبري عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها » .

    قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه: وإذ أخذ ربك من بني آدم
    الآية -رواه الإمام أحمد والنسائي - بدون استشهاد الحسن بالآية.

    وأما الأخبار المروية في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتكليمه تعالى إياهم ونطقهم، ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم، فغير صحيحة الإسناد. وما حسن إسناده منها فغير صريح في ذلك، بل هو أقرب إلى ألفاظ الآية، كما بينه الحافظ ابن كثير ، قال رحمه الله: ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض والأسود . وقد فسر الحسن الآية بذلك.

    قالوا: ومعنى (أشهدهم) أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا. والشهادة [ ص: 2899 ] تارة تكون بالقول، كقوله: قالوا شهدنا على أنفسنا الآية، وتارة تكون حالا كقوله تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أي حالهم شاهدا عليهم بذلك، لأنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: وإنه على ذلك لشهيد كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: وآتاكم من كل ما سألتموه

    قالوا: ومما يدل على أن المراد هذا، أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قاله، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد.

    " أن تقولوا أي كراهة أن تقولوا " يوم القيامة أي الذي يسأل فيه عن الربوبية والتوحيد. " إنا كنا عن هذا أي عن ربوبيته وتوحيده " غافلين أي لم ننبه عليه.

    فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر، صاروا محجوبين عاجزين عن الاعتذار بذلك، إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [173] أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون

    " أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا أي سنوا الإشراك واخترعوه " من قبل أي من قبل زماننا " وكنا ذرية من بعدهم أي فنشأنا على طريقتهم، احتجاجا بالتقليد، [ ص: 2900 ] وتعويلا عليه، فقد قطعنا العذر بما بينا من الآيات. " أفتهلكنا بما فعل المبطلون أي أتؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك، وأسسوا من الباطل، أو بفعل آبائنا الذين أبطلوا تأثير العقول، وأقوال الرسل؟ والاستفهام للإنكار، أي أنت حكيم لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء، وقد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شرعوا لنا من الباطل. والمعنى: أزلنا الشبهتين بأن الإقرار بالربوبية والتوحيد، هو في أصل فطرتكم، فلم لم ترجعوا إليه عند دعوة العقول والرسل؟ والفطرة أكبر دليل، فهي تسد باب الاعتذار بوجه ما، لا سيما والتقليد عند قيام الدلائل، والقدرة على الاستدلال بها، مما لا مساغ له أصلا.

    تنبيهات:

    الأول: وافق الإمام ابن كثير ، في هذا المقام أيضا الجشمي في تفسيره، قال: ويروي أصحاب الحديث عن أسلافهم من الآثار موقوفة ومرفوعة، ويجعلون ذلك تأويلا للآية، وهو أنه تعالى مسح ظهر آدم ، فأخرج منه ذريته، أمثال الذر، فقال: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى طائعين، ثم أعادهم في صلب آدم . وإن تأويل الآية على ذلك.

    قال: وقد ذكر مشايخنا رحمهم الله أن ذلك فاسد، وأن ظاهر الآية يخالف ذلك، وذكروا في الرواية ما نذكره. قالوا: فمما يدل على فساده وجوه.

    منها: أنه لو كان حال كما ذكروا، لذكرناه، لأن مثل ذلك الأمر العظيم لا ينساه العاقل، خصوصا إذا كان أشهادا عليه، ليعمل به.

    ومنها: ما ذكره شيخنا أبو علي ، أن ظهر آدم لا يسع هذا الجمع العظيم، وهذا شنيع من الكلام.

    ومنها: أنه ذكر أنه خلقنا من نطفة، وكل ولد ولد من أب ومن نطفة، فلو خلقهم ابتداء لا من شيء، لم يصح ذلك.

    ومنها: أن الجزء الواحد، لا يجوز أن يكون حيا عاقلا، لأن تلك البنية، لا تحمل الحياة، فلا بد من أن يكون مؤلفا من أجزاء، وحينئذ لا يصح أن يكون الجميع في ظهر آدم .

    [ ص: 2901 ] ومنها: أنه يفتح باب التناسخ، والقول بالرجعة، لأن لهم أن يقولوا: إذا جاز الإعادة ثمة، لم ينكر التناسخ.

    ومنها: أنه لا بد أن يكون فيه فائدة، وفائدته أن يذكره ليجري على تلك الطريقة، وإذا لم يذكره بطلت فائدته.

    ومنها: أن الاعتراف لا يصح إلا وقد تقدم حال لهم عرفوا ذلك، فكيف يصح في ابتداء الخلق، إلى غير ذلك مما لا يقبله العقل.

    ثم قال: قال مشايخنا رحمهم الله: والآية ظاهرها بخلاف قولهم من وجوه:

    منها: أنه قال " وإذ أخذ ربك من بني آدم ولم يقل (من آدم ). وقال: (من ظهورهم) ولم يقل (من ظهره)، وقال: " ذريتهم ولم يقل: ذريته.

    ومنها: أنه قال: " أن تقولوا يعني فعل ذلك، لكيلا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين. وأي غفلة أعظم من أن جميع العقلاء لا يذكرون شيئا من ذلك.

    ومنها: أنه قال: " إنما أشرك آباؤنا ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك. وكل ذلك يبين فساد ما قالوا، ولم يصحح أحد من مشايخنا هذه الرواية، ولا قبلها، بل ردها، غير أبي بكر أحمد بن علي ، فإنه جوز ذلك من غير قطع على صحته، غير أنه قال: ليس ذلك بتأويل الآية، وذكر أن فائدة ذلك أن يجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة، والإقرار بالربوبية. كما قال: إنهم ولدوا على الفطرة، قال: وأخرجهم كالذر ثم ألهمهم حتى قالوا بلى. انتهى ما قاله الجشمي .

    الثاني: تدل الآية على فساد التقليد في الدين، وتدل على أنه تعالى أزال العذر، وأزاح العلة، وبعدها لا يعذر أحد. ذكره الجشمي .

    الثالث: استدل بهذه الآية والأحاديث المتقدمة في معناها، أن معرفته تعالى فطرية ضرورية، قال تعالى: قالت رسلهم أفي الله شك وقال تعالى: ولئن سألتهم [ ص: 2902 ] من خلق السماوات والأرض ليقولن الله

    قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون

    وعن عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: « يا حصين : كم تعبد اليوم إلها؟ » قال أبي: سبعة، ستا في الأرض، وواحدا في السماء؟ قال: « فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ » قال: الذي في السماء . - رواه الترمذي - فالله تعالى فطر الخلق كلهم على معرفته فطرة توحيد، حتى من خلق مجنونا مطبقا مصطلما لا يفهم شيئا، ما يحلف إلا به، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس، فطرة بالغة.

    قال التقي ابن تيمية : إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته، حتى يحتاج إلى نظر يحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس، وعليه حذاق النظار؛ أن المعرفة تحصل بالضرورة، وقد تحصل بالنظر لمن فسدت فطرته، كما اعترف بذلك خلائق من أئمة المتكلمين.

    وقال أيضا: ذهب طوائف من النظار إلى أن معرفة الله واجبة، ولا طريق لها إلا بالنظر فأوجبوا النظر على كل أحد. وهذا القول إنما اشتهر في الأمة عن المعتزلة ونحوهم. ولهذا قال أبو جعفر السمناني وغيره: إيجاب الأشعري النظر في المعرفة بقية بقيت عليه من الاعتزال.

    وذكر رحمه الله أن الذي يدل عليه كلام الأئمة والسلف -وهو أعدل الأقوال- أن النظر يجب في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص، فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال، لا من اللوازم العامة. والذين أوجبوا النظر ليس معهم ما يدل على عموم وجوبه، إنما يدل على أنه قد يجب، كقوله تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض [ ص: 2903 ] وقوله: فلينظر الإنسان مم خلق فإنه خطاب مع المتكبرين الجاحدين، أمروا بالنظر، ليعرفوا الحق، ويقروا به، ولا ريب أن النظر يجب على هؤلاء.

    قال أبو حيان التوحيدي في (مقابساته)، في المقابسة الثانية والأربعين: قيل لأبي الخير : حدثنا عن معرفة الله، تقدس وعلا، ضرورة هي أم استدلال؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافا شديدا، وتنابذوا عليه تنابذا بعيدا، ونحب أن يحصل لنا جواب، فيفسر على حد الاختصار مع البيان.

    فقال: هي ضرورة من ناحية العقل، واستدلال من ناحية الحس، ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول، أو بالحس في المحسوس، ساغ أن يظن مرة أن معرفته تعالى اكتساب واستدلال، لأن الحسن يتصفح ويستقوي بمؤازرة العقل ومظاهرته وتحصيله. وأن يظن تارة أنها ضرورة، فإن العقل السليم من الآفة، البريء من العاهة، يحث على الاعتراف بالله تقدس اسمه، ويحظر على صاحبه جحده وإنكاره والتشكك فيه، لكن ضرورة لائقة بالعقل. لأن ضرورة العقل ليست كضرورة الحس، لأن ضرورة الحس فيها جذب واختيار، وحمل وإكراه، وضرورة العقل لطيفة جدا. لأنه يعظ ويلاطف وينصح ويخفف.

    ثم ضرب مثلا لطيفا، وقال بعده: فعلى هذا، فإن الله تقدس اسمه، معروف عند العقل بالاضطرار، لا ريب عنده في وجوده، ومستدل عليه عند الحس، لأنه يستحيل كثيرا، ولا يثبت أصلا، فمن استدل ترقى من الجزئيات، ومن ادعى الاضطرار انحدر من الكليات.

    وكلا الطريقين قد وضح بهذا الاعتبار، وكفي مؤونة الخبط والإكثار. فأما ما ينظر منه في الجدال، فلا يرث منه إلا الشك والفرقة والحمية والعصبية، وهناك للهوى ولادة وحضانة، وللباطل استيلاء وجولة، وللحيرة ركود وإقامة. أخذ الله بأيدينا، وكفانا الهوى الذي يؤذينا. انتهى.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 2904 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [174] وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون

    " وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون أي مثل ما ذكرنا، نبين الأدلة والحجج، ليرجعوا إلى الحق.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [175] واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين

    " واتل عليهم أي على قومك أو على اليهود " نبأ الذي آتيناه آياتنا أي علم الكتاب، فلطف به حتى تعلم وفهم المعاني، وصار عالما بها " فانسلخ منها بأن نزع العلم عنه فكفر بها، وخرج منها خروج الحية من جلدها " فأتبعه الشيطان أي فلحقه وأدركه وصار قرينا له حتى أضله " فكان من الغاوين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [176] ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون

    " ولو شئنا لرفعناه بها أي لعظمناه بالعمل بها " ولكنه أخلد إلى الأرض أي مال إلى الدنيا ورغب فيها " واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وذلك لأنه استوى في حقه إيتاء الآيات، والتكليف بها، والتعظيم من أجلها، وعدم ذلك. كالكلب يدلع لسانه بكل حال، إن تحمل عليه، أي [ ص: 2905 ] تشد عليه وتهيجه، أو تتركه غير متعرض له بالحمل عليه، فلهثه موجود في الحالتين جميعا. ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا أي من التوراة أو غيرها " فاقصص القصص لعلهم يتفكرون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [177] ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون

    " ساء مثلا أي ما مثل به " القوم الذين كذبوا بآياتنا أي حيث شبهوا بالكلاب، إما في استواء الحالتين في النقصان وأنهم ضالون، وعظوا أم لم يوعظوا كما قدمنا، وإما في الخسة، فإن الكلاب لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حيز الهدى والعلم، وأقبل على هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله. ولهذا ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: « ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه » .

    " وأنفسهم كانوا يظلمون اعلم أن من السلف من ذهب إلى أن هذه الآية مثل ضربه الله لمن عرض عليه الإيمان فأبى أن يقبله وتركه، وهو قول قتادة وعكرمة واختاره أبو مسلم ، حيث قال: قوله " آتيناه آياتنا أي بيناها، فلم يقبل، وعرى منها. وسواء قولك: انسلخ وعرى وتباعد، وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة، وأقام على الكفر. قال: ونظيره قوله تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم وقال في حق فرعون ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ومنهم من ذهب إلى أن الموصول فيها أريد به معين، فروي عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم [ ص: 2906 ] وأبي روق أنه أمية بن أبي الصلت ، فإنه كان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو، فلما أرسل الله محمدا عليه الصلاة والسلام، حسده، ثم مات كافرا، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه رسول الله: « إنه آمن شعره وكفر قلبه » يريد أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره، ويذكر دلائل توحيده.

    وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب ، الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم (الفاسق)، كان يترهب في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم، فمات هناك طريدا وحيدا. وهو قول سعيد بن المسيب .

    وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكروه. عن الحسن والأصم .

    وقيل: إنه فرعون ، والآيات آيات موسى ، كأنه لما اقتص أنباء بني إسرائيل عاد إلى قصة فرعون وضرب له المثل.

    ومن الأقوال التي تناقلها المفسرون أنها نزلت في بلعام بن بعور ، ويحكون عنه قصة لم ترو في جوامع الآثار الصحيحة عندنا، ولا هي مطابقة لما عند أهل الكتاب فقد ذكر نبؤه في الفصل الثاني والعشرين والثالث والعشرين من سفر العدد، من تاريخ التوراة، بغير ما يرويه المفسرون عنه، ثم رأيت الجشمي لم يصحح ذلك، فحمدت المولى على الموافقة. وعبارته: (وعن مجاهد قال: هو نبي يقال له بلعم ، رشاه قومه فكفر. وهذا لا يجوز، لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر، لأن ذلك ينفر الخلق عن الأنبياء، والقبول منهم، ويحقرهم [ ص: 2907 ] في النفوس، ولأنهم حجج الله على خلقه اصطفاهم. فالأقرب أنه لا يصح عن مجاهد . انتهى. وهو كذلك لأن من قرأ نبأه السفر المتقدم، رأى من ثباته، وعدم موافقته لبالاق، ملك مواب، على ما أراده منه -ما يبرئه عن ذلك.

    تنبيه:

    قال الجشمي : إن قيل: كيف تتصل الآية بما قبلها؟ قلنا: على القول بأنه عنى بها فرعون فقد اتصلت قصته بقصة بني إسرائيل . وقيل لما نهى عن تقليد الآباء في الدين، بين في هذه الآية حال علماء السوء، الذين يختارون الدنيا على الآخرة، نهيا عن تقليدهم واتباعهم، كما نهى عن تقليد الآباء. وقيل: لما تقدم ذكر أخذ الميثاق، بين حال من آتاه الله الآيات فانسلخ منها ولم يتبعها. اهـ.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [178] من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون

    " من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون قال أبو السعود : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقص قصص المنسلخ على هؤلاء الضالين الذين مثلهم كمثله، ليتفكروا فيه، ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة، ويهتدوا إلى الحق- عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهة الله عز وجل، وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء، من غير تأثير لها فيه، سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره نحو تحصيله، حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه، كسائر أفعال العباد.
    [ ص: 2908 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [179] ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون

    " ولقد ذرأنا أي خلقنا " لجهنم أي لدخولها والتعذيب بها " كثيرا من الجن والإنس وهم الكفار من الفريقين، الموصوفون بقوله تعالى " لهم قلوب لا يفقهون بها أي: آيات الله الهادية إلى الكمالات " ولهم أعين لا يبصرون بها أي دلائل وحدته، بصر اعتبار " ولهم آذان لا يسمعون بها أي الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ، يعني أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية، كما قال تعالى: وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله " أولئك كالأنعام أي السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها، إلا في الذي يقيتها، كقوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي: ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان، كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها، لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول.

    وقوله تعالى: " بل هم أضل أي الأنعام، إذ ليس للأنعام قوة تحصيل تلك الكمالات ودفع تلك النقائص، وهم مع ما لهم من تلك القوة قد خلوا عن الكمالات، وعن دفع أضدادها، فكانوا أردأ حالا منها، لنقصهم مع وجود قوة الكمال فيهم. وأيضا: الأنعام تبصر منافعها ومضارها، فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند، فيقدم على النار.

    وأيضا: الأنعام قد تستجيب لراعيها، وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء، وأيضا: إنها تفعل ما خلقت له، إما بطبعها، وإما بتسخيرها، بخلاف هؤلاء، فإنهم خلقوا ليعبدوا الله، ويوحدوه، [ ص: 2909 ] فكفروا به وأشركوا. " أولئك هم الغافلون " أي عن تلك الكمالات والنقائص، ليهتموا لتحصيلها ودفعها، اهتمامهم لجر المنافع الدنيوية، ودفع مضارها.

    تنبيه:

    قال أبو السعود : المراد بهؤلاء الذين ذرئوا لجهنم، الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، لكن لا بطريق الجبر، من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك، بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا، بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر. فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيا بها، كما أن جميع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة، وتمكنهم التام منها، جعل خلقهم مغيا بها. كما نطق به قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [180] ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون

    " ولله الأسماء الحسنى روى مقاتل أن رجلا دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال بعض المشركين: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فنزلت الآية .

    و (الحسنى) تأنيث (الأحسن)، والمعنى: لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها، لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها: " فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي يميلون عن الإقرار بها ويجحدونها، ويعدلون عنها كفرا بها. كقوله تعالى: وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا أي زادهم ذكر الرحمن نفورا، ولذا قال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء وقوله تعالى: سيجزون ما كانوا يعملون يعني في الآخرة، من جحدهم إياها ونفورهم عن الإيمان بها.

    [ ص: 2910 ] تنبيهات:

    الأول: قال السيد محمد بن المرتضي اليماني في (إيثار الحق): مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد، الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائها الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم.

    ولذلك عد مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكائدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلا وسمعا، فذموا الأمر المحمود ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي والجحد المحض، وضادوا كتاب الله ونصوصه الساطعة.

    قال الله جل جلاله: ولله الأسماء الحسنى الآية. وقال: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الآية، فما كان منها منصوصا في كتاب الله، وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهره اسم ذم لله سبحانه، وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته، وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفا في صحته، لم يصح استعماله، فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمى به. انتهى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #369
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2911 الى صـ 2925
    الحلقة (368)







    الثاني: روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله تسعة وتسعين اسما، من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» ، وفي رواية: « من أحصاها » ، قال البخاري : أحصيناه: حفظناه. وأخرجه الترمذي وزاد سوق الأسماء معدودة: [ ص: 2911 ] ثم قال: ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. ورواه ابن ماجه أيضا. فسرد الأسماء بزيادة ونقصان.

    قال الحافظ ابن كثير : والذي عول عليه جماعة من الحفاظ، أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي أنهم جمعوها من القرآن، كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي . انتهى.

    وقال النووي : اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى. وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود من الحديث الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصرها. ولهذا جاء في الحديث الآخر: « أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك » . وقد ذكر الحافظ أبو بكر ابن العربي المالكي عن بعضهم، أن لله ألف اسم. انتهى.

    وقال السيد اليماني في (إيثار الحق): عادة المتكلمين أن يقتصروا هنا على اليسير من الأسماء، ولا ينبغي ترك شيء منها، ولا اختصاره ! فإن ذلك كالاختصار للقرآن الكريم، ولو كان منها شيء لا ينبغي اعتقاده ولا ذكره، ما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم.

    وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلما تركا تخريجه مع رواية أوله. واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه، ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضا لفضل الله العظيم في وعده، من أحصاها بالجنة كما اتفق على صحته. وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو لم يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء. فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، بطل اليقين بذلك، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله، وما اتفق على صحته بعد ذلك، وهو النادر وقد [ ص: 2912 ] ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص. أما الضرورة، فإن في كتاب الله أكثر من ذلك، وأما النص، فحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما قال عبد أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكان حزنه فرحا » - رواه أحمد ، وأبو عوانة في (صحيحه) وأبو يعلى والبزار -.

    ثم أخذ اليماني يذكر ما وجده من الأسماء منصوصا، غير معرج على التقليد. فانظره في (إيثار الحق) فإنه جود البحث بمنزع شريف.

    الثالث: قال بعض مفسري الزيدية في قوله تعالى: (فادعوه بها): المعنى سموه بها، وفي ذلك أمر بدعائه بالأسماء الحسنى، وهو أمر ندب إذا حمل على التلاوة بالتسعة والتسعين، وحث على ذلك في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وإن أريد بالتسمية بما فيه مدح، دون ما فيه إلحاد، فذلك وجوب.

    الرابع: قال السيد اليماني في (إيثار الحق): هل يجوز تسمية محامد الرب تعالى وأسمائه الحسنى صفات له سبحانه وتعالى؟

    قال الله تعالى: ولله المثل الأعلى وذكر أهل التفسير واللغة أنه الوصف الأعلى، وكذلك جاء في كلام علي عليه السلام أنه قال: فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته- ذكره السيد أبو طالب في (الأمالي) بإسناده، والسيد الرضي في (النهج) كلاهما في جوابه عليه السلام، على الذي قال له: [ ص: 2913 ] صف لنا نار ربنا -. وهذا لا يعارض قوله عز وجل: سبحانه وتعالى عما يصفون لأنه لم ينزه ذاته عن الوصف مطلقا، حتى يعم الوصف الحسن، وإنما ينزه عن وصفهم له بالباطل القبيح. انتهى. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [181] وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون

    " وممن خلقنا أي للجنة، لأنه في مقابلة ولقد ذرأنا لجهنم -قاله النسفي - " أمة يهدون بالحق أي يدعون إليه " وبه يعدلون أي يعملون ويقضون، وقد جاء في الآثار، أن المراد بالأمة، هذه الأمة المحمدية، وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ الآية يقول: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها.

    وعن الربيع بن أنس -في هذه الآية- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من أمتي قوما على الحق، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل » . وفي الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة » . وفي رواية: « حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك » .

    قال الشهاب : استدل بالآية على أن الإجماع حجة في كل عصر، وعلى أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى قيام الساعة.
    [ ص: 2914 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [182] والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون

    " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون أي سنأخذهم بالعذاب من طريق لا يعلمونها، أو نفتح لهم من الأحوال ما يلائم أهويتهم، ثم نهلكهم. وأصل الاستدراج: أن يتدرج إلى الشيء قليلا قليلا، تشبيها بمن يرقى درجة درجة، حتى ينتهي إلى العلو. وقيل: أصله من الدرج الذي يطوى فكأنه يطوي منزلة بعد منزلة، كما يطوى الدرج. وقيل: لأنه من الدرجة فيكون، لأنه ينحط درجة بعد درجة حتى ينتهي إلى حال الهلاك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [183] وأملي لهم إن كيدي متين

    " وأملي لهم أي أمهلهم ليزدادوا إثما " إن كيدي متين أي: قوي شديد.

    والمعنيون بهذا الخطاب كفار مكة .

    قال في (التنوير): هم أبو جهل وأصحابه المستهزئون، أخذهم الله بعذابه في يوم ( أحد )، وأهلك كل واحد بهلاك غير هلاك صاحبه. انتهى.

    ويدل قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [184] أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين

    " أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة أي كما يختلقون. والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: أو لم يتفكروا في أنه ليس بصاحبهم الذي هو أعظم الأمة الهادية بالحق، شيء من جنة. وجوز أن يكون الكلام تم عند قوله " أولم يتفكروا إنكارا لعدم تفكرهم في شأنه، الموقف على صدقه، وصحة نبوته. ثم ابتدأ نفي الجنة عنه تعجيبا وتبكيتا.

    [ ص: 2915 ] و (الجنة) مصدر، كالجلسة، بمعنى الجنون، وليس المراد به الجن، كما في قوله تعالى: من الجنة والناس لأنه يحوج إلى تقدير مضاف، أي: مسه جنة أو تخبطها. والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم ب (صاحبهم) للإيذان بأن طول مصاحبتهم له، مما يطلعهم على نزاهته عما ذكر، ففيه تأكيد للنكير، وتشديد له " إن هو إلا نذير أي: رسول مخوف " مبين أي موضح إنذاره، مبالغة في الإعذار. ولما نعى عليهم تفكرهم في شأنه صلى الله عليه وسلم، أنكر إخلالهم في التأمل بالآيات التكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس، الشاهدة بصحة الآيات المنزلة، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [185] أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون

    " أولم ينظروا أي نظر استدلال " في ملكوت السماوات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب. والملكوت: الملك العظيم " والأرض أي وفي ملكوت الأرض، من البحار والجبال والدواب والشجر. " وما خلق الله من شيء أي وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم (الشيء)، من أجناس لا يحصرها العدد، ولا يحيط بها الوصف " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم عطف على (ملكوت). أي: في احتمال أن يهلكوا عما قريب، فيفارقوا الدنيا، وهم على أتعس الأحوال. " فبأي حديث بعده أي القرآن " يؤمنون أي إذا لم يؤمنوا به، وهو المعجز الجامع لكل ما يفيد الهداية، وفي هذا قطع لاحتمال إيمانهم رأسا، ونفي له بالكلية.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على وجوب النظر في الأدلة، وأنها طريق المعرفة. وتدل على أنه لا شيء ينظر فيه، إلا ويعرف الله تعالى به.
    [ ص: 2916 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [186] من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون

    " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون أي في كفرهم يتحيرون، يعني أن من كتب عليه الضلالة، فلا يهديه أحد، ولا يغنيه النظر، ولا الإنذار، كما قال تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [187] يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون

    " يسألونك عن الساعة أي عن قيامها وحينها " أيان مرساها أي متى إرساؤها أو وقت إرسائها، أي إثباتها وإقرارها. والرسو يستعمل في الأجسام الثقيلة، وإطلاقه على المعاني، تشبيها لها بالأجسام.

    " قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو أي: لا يظهرها في وقتها إلا هو. " ثقلت في السماوات والأرض أي عظمت وكبرت على أهلهما لهولها وما فيها من المحاسبة والمجازاة، أو ثقل علم وقتها على أهلهما. أو عظم وصفها على أهل السماوات والأرض، من انتشار النجوم، وتكوير الشمس، وتسيير الجبال " لا تأتيكم إلا بغتة أي فجأة على حين غفلة منكم.

    " يسألونك كأنك حفي عنها [ ص: 2917 ] أي: عالم بها: " قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي أن علمها عند الله، لم يؤته أحدا من خلقه.

    لطيفة:

    قال الزمخشري : فإن قلت: لم كرر " يسألونك " و " إنما علمها عند الله " ؟ قلت: للتأكيد، وما جاء به من زيادة قوله: " كأنك حفي عنها وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم، لا يخلون المكرر من فائدة زائدة. انتهى.

    وقال الناصر في (الانتصاف): وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز، وهو أجل من أن يشارك فيها، وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير، أن الكلام إذا بني على مقصد، واعترض في أثنائه عارض، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول، وقد بعد عهده، طري بذكر المقصد الأول، لتتصل نهايته ببدايته. وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وسيأتي، وهذا منها. فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله: " قل إنما علمها عند ربي إلى قوله " بغتة أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمن في قوله " كأنك حفي عنها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده، فطري ذكره تطرية عامة، ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال، كالتذكرة للأول، مستغنى عن تفصيله بما تقدم. فمن ثم قيل: " يسألونك ولم يذكر المسؤول عنه، وهو (الساعة) اكتفاء بما تقدم فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا، فقال: " قل إنما علمها عند الله ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد، تطرية للذكر، قوله:


    عجل لنا هذا وألحقنا بذا الش شحم إنا قد مللناه بجل


    أي فقط، فذكر الألف واللام، خاتمة للأول من الرجزين، ثم لما استفتح الرجز الثاني، استبعد العهد بالأولى، فطري ذكرها، وأبقى الأولى في مكانها. ومن ثم استدل ابن جني [ ص: 2918 ] على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء، فهو بيت كامل، وليس بنصف، كما ذهب إليه أبو الحسن .

    قال: ولو كان بيتا واحدا، لم يكن عهد الأولى متباعدا، فلم يكن محتاجا إلى تكريرها، ألا ترى أن عبيدا لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات، وجعل آخر المصراع الأول (أل)، لم يعدها أول المصراع الثاني، لأنها بيت واحد، فلم ير عهدها بعيدا، وذلك قول عبيد بن الأبرص الأسدي:


    يا خليلي اربعا واستخبرا ال منزل الدارس عن أهل الحلال
    مثل سحق البرد عفى بعدك ال قطر مغناه وتأويب الشمال


    اربعا: أقيما، الحلال: اسم امرأة، سحق البرد: يريد مثل البرد المسحوق أي البالي، وعفى بالتشديد: محا، القطر: المطر، مغناه: هو الموضع الذي كانوا يسكنونه، والشمال - بالفتح والكسر- من الرياح، ما مهبه من مطلع الشمس وبنات نعش، وهي لا تكاد تهب ليلا، وتأويبها: هبوبها النهار كله. ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتا. فانظر هذه النكتة، كيف بالغت العرب في رعايتها، حتى عدت القريب بعيدا، والمتقاصر مديدا، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان، في صناعتي العربية والبيان، والله المستعان. انتهى.

    والقصيدة بتمامها في (مختارات ابن الشجري ) بالصفحة رقم 37.

    ثم أمره تعالى أن يخبر بعبوديته الكاملة، بما ينبئ عن عجزه عن علم الساعة بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [188] قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون

    " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا أي لا أقدر لأجل نفسي، على جلب نفع ما [ ص: 2919 ] ولا على دفع ضر ما " إلا ما شاء الله أي تمليكه لي من ذلك بأن يلهمنيه، فيمكنني منه، ويقدرني عليه. وهذا كقوله تعالى في سورة يونس: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير أي النفع، بترتيب أسبابه، فكنت مثلا أعد للسنة المجدبة من المخصبة، ولوقت الغلاء من الرخص " وما مسني السوء أي الضر، للتوقي عن أسبابه " إن أنا إلا نذير وبشير أي عبد أرسلت نذيرا وبشيرا، وما من شأني أني أعلم الغيب. وقوله تعالى " لقوم يؤمنون يجوز أن يتعلق بـ " بشير وحده، ومتعلق النذير محذوف، أي للكافرين، وحذف للعلم به. وقال الشهاب : ليطهر اللسان منهم.
    ثم بين تعالى عظم جناية الكفرة في جراءتهم على الإشراك، بتذكير مبادئ أحوالهم المنافية له، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [189] هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين

    " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام " وجعل منها زوجها أي من جنسها، كقوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا " ليسكن إليها أي ليطمئن إليها ويميل، ولا ينفر، لأن الجنس إلى الجنس أميل، وبه آنس، وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان [ ص: 2920 ] إلى ولده، ويحبه محبة لكونه بضعة منه. وذكر " ليسكن بعد ما أنث في قوله " واحدة " و " منها زوجها ذهابا إلى معنى النفس، ليبين أن المراد بها آدم ، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى. أفاده الزمخشري . " فلما تغشاها أي وطئها. و(التغشي) كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان.

    " حملت حملا خفيفا أي خف عليها، وذلك أول الحمل، لا تجد المرأة له ألما، إنما هي النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة " فمرت به أي فاستمرت به خفيفة، وقامت وقعدت. " فلما أثقلت أي: صارت ذات ثقل، لكبر الولد في بطنها " دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا أي ولدا سويا قد صلح بدنه، أو غلاما " لنكونن من الشاكرين أي على نعمائك التي منها هذه النعمة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [190] فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون

    " فلما آتاهما صالحا أي كما طلبا " جعلا له شركاء فيما آتاهما أي أخلا بالشكر في مقابلة نعمة الولد الصالح أسوأ إخلال، إذا استبدلوه بالإشراك. وقوله تعالى: " فتعالى الله عما يشركون تنزيه فيه معنى التعجب.

    تنبيه:

    هذه الآية سيقت توبيخا للمشركين في جنايتهم بالشرك، ونقضهم ميثاقهم، في جريهم على خلاف ما يعاهدون الله عليه، وذلك أنه تعالى ذكر ما أنعم به عليهم من الخلق من نفس واحدة، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن، ثم إنشائه إياهم بعد الغشيان، متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود، ومن الضعف إلى القوة، ثم بين إعطاءهم المواثيق إن آتاهم ما يطلبون وولد لهم ما يشتهون، ليكونن من الشاكرين، ثم أخبر عن غدرهم وكفرانهم هذه النعم، التي امتن سبحانه بها عليهم، ونقضهم ميثاقهم في إفراده بالشكر، [ ص: 2921 ] حيث أشركوا معه غيره في ذلك.

    ونظير هذه الآية، في الإخبار عن تبديل المشركين نعمة الله كفرا، قوله تعالى في سورة يونس: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق وقد ذكر المفسرون ههنا أحاديث وآثارا تفهم أن المراد بهذا السياق آدم وحواء . ولا حاجة بنا إلى روايتها لأنها واهية الإسناد معلولة، كما بينه الحافظ ابن كثير في (تفسيره).

    وتقبل ثلة من السلف لها وتلقيها، لا يجدي في صحتها شيئا، إذ أصلها مأخوذ من أقاصيص مسلمة أهل الكتاب ، كما برهن عليه ابن كثير . وتهويل بعضهم بأنها مقتبسة من مشكاة النبوة، إذ أخرجها فلان وفلان، من تنميق الألفاظ لتمزيق المعاني، فإن المشكاة النبوية أجل من أن يقتبس منها إلا كل ما عرفت جودته.

    إذا علمت ذلك، تبين لك أن من استند إلى تلك الأحاديث والآثار، فذهب إلى أن المراد بالنفس الواحدة وقرينتها، آدم وحواء ، ثم أورد على نفسه أنهما بريئان من الشرك، وأن ظاهر النظم يقتضيه، ثم أخذ يؤوله، إما بتقدير مضاف، أي جعل أولادهما له شركاء، فيما آتى أولادهما، وإما بأن المراد جعل أحدهما وهو ( حواء ) من إطلاق المثنى وإرادة المفرد، وإما بغير ذلك، فإنه ذهب في غير مذهب.

    وقد قرر ما ارتضيناه في معنى الآية غير واحد. قال الحسن البصري ، فيما روى عنه ابن جرير : إن الآية عنى بها ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده. وفي رواية عنه: كان هذا في بعض الملل، ولم يكن بآدم .

    قال ابن كثير : والأسانيد إلى الحسن ، في تفسير هذا صحيحة، وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية.

    [ ص: 2922 ] قال: ولو كان الحديث المرفوع، في أنها في آدم وحواء ، محفوظا عنده من رواية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عدل عنه هو ولا غيره، لا سيما مع تقواه وورعه. فهذا يدل على أنه -إن صح- موقوف على الصحابي، لا مرفوع. انتهى.

    وقال القفال : إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك. وتقرير هذا الكلام، كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته، وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما، لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك، فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب، كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان، كما هو قول عبدة الأصنام.

    وقال الناصر في (الانتصاف) -متعقبا على الزمخشري -: الأسلم والأقرب -والله أعلم- أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معين، وكأن المعنى -والله أعلم- خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا، لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر، الجنس الآخر، الذي هو الأنثى، جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس، وإن كان فيهم الموحدون، على حد (بنو فلان قتلوا قتيلا)، يعني من نسبة ما صدر من البعض إلى الكل.

    فائدة:

    قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذه الآية أنه تعالى لما قال: " فلما أثقلت جعل حال الإثقال يخالف ما قبله، وأنه يختص فيه الدعاء لأجل أنه حال الخوف. وقد ذهب الهادي إلى أن الحامل إذا أتى عليها من الحمل ستة أشهر، كانت تصرفاتها كتصرفات المريض، [ ص: 2923 ] تنفذ من الثلث. وهو قول مالك والليث ، واحتجا بالآية، لأنه تعالى فرق بين حال الخفة والإثقال. وقال غيرهما: تصرفها من الجميع، ما لم يأخذها الطلق. قلنا: إنه يجوز عليها بعد الستة، وضع الحمل في كل وقت. انتهى.

    ثم قال: ودلت الآية على أنه يجوز الدعاء لطلب أمور الدنيا، وإن حصول الولد منة يجب الشكر عليها. انتهى.

    ثم استأنف تعالى توبيخ المشركين كافة، واستقباح إشراكهم، وإبطاله بالكلية ببيان شأن ما أشركوا به سبحانه وتفصيل أحواله القاضية ببطلان ما اعتقدوه في حقه بقوله سبحانه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [191] أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون

    " أيشركون أي بخالق الأشياء تعالى وتقدس " ما لا يخلق شيئا أي لا يقدر على خلق شيء ما، كقوله تعالى: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له أي: ومن هذه صفته كيف يعبد؟ ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة. " وهم يخلقون أي بل هم مخلوقون مصنوعون، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: أتعبدون ما تنحتون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [192] ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون

    " ولا يستطيعون لهم أي لعبدتهم إذا حزبهم أمر " نصرا أي بجلب نفع، أو دفع ضر " ولا أنفسهم ينصرون إذا اعترتهم حادثة من الحوادث، كما قال تعالى: [ ص: 2924 ] وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه وكما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه، ويهينها غاية الإهانة.

    وقد حكى ابن كثير أن معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكانا شابين، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين، يكسرانها ويتلفانها، ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما. وكان لعمرو بن الجموح -وكان سيدا في قومه- صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح ، فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفا، ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا. حتى أخذاه مرة، فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل. وقال:


    تالله لو كنت إلها مستدن لم تك والكلب جميعا في قرن


    (مستدن: ذليل مستعبد. والقرن: الحبل).

    ثم أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا، رضي الله عنه وأرضاه.

    (انظر سيرة ابن هشام ج2 ص95 طبعة الحلبي. وص303 طبعة جوتنجن).

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج في الدين، لأن قوله: أيشركون ما لا يخلق الآية - حجاج، وتدل على أن المستحق للعبادة الذي يخلق وينعم ويقدر على النفع والضر هو الله تعالى.
    [ ص: 2925 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [193] وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون

    " وإن تدعوهم أيها المشركون " إلى الهدى أي إلى ما فيه رشاد " لا يتبعوكم أي إلى مرادكم وطلبتكم " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، كما قال إبراهيم : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا

    وجوز في الآية أن يكون المعنى: وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم وتطلبوا منهم، كما تطلبون من الله، الخير والشر، لا يجيبوكم كما يجيبكم الله، لقوله تعالى بعد: فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [194] إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين

    " إن الذين تدعون من دون الله أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة " عباد أمثالكم أي مخلوقات مماثلة لكم " فادعوهم أمر تعجيز وتبكيت. أي فادعوهم لجلب نفع، أو كشف ضر " فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أي في زعمكم أنها آلهة.

    وقوله تعالى:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #370
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 2926 الى صـ 2945
    الحلقة (369)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [195] ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون

    " ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها [ ص: 2926 ] أم لهم آذان يسمعون بها تبكيت إثر تبكيت، مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي، من عدم الاستجابة، ببيان فقدان آلتها بالكلية، فإن الاستجابة من الهياكل الجسمانية، إنما تتصور إذا كان لها حياة وقوى محركة، ومدركة، وما ليس له شيء من ذلك، فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة، كأنه قيل: ألهم هذه الآلات التي بها تتحقق الاستجابة، حتى يمكن استجابتهم لكم؟ وقد وجه الإنكار إلى كل واحدة من هذه الآلات الأربع على حدة، تكريرا للتبكيت، وتثنية للتقريع، وإشعارا بأن انتفاء كل واحدة منها بحيالها، كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة. أفاده أبو السعود .

    ويقال: إنه لما جعلهم مثلهم، كر على المثلية بالنقض بما ذكر، لأنهم أدون منهم، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق، فكيف من هو دونه.

    تنبيه:

    قال الرازي : تعلق بعض أغمار المشبهة وجهالهم بهذه الآية، في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقالوا: إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء، لهذه الأصنام، دليلا على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى، لكان عدمها دليلا على عدم الإلهية، وذلك باطل، فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى... إلخ.

    وأقول: الظاهر أن ملحظ مثبتيها هو أن عدمها يدل على النقص، وهو محال على المولى تعالى، إذ له كل صفة كمال، ومعلوم أن في إثباتها له تعالى من آيات أخر، وأحاديث مشهورة، ما يغني عن تكلف استثباتها له تعالى من مثل هذه الآية، ولكن على المنهاج السلفي، وهو إثبات بلا تكييف، إذ من كيف فقد مثل، ومن نفى فقد عطل. فالمشبهة كالمعطلة، والحق وراءهم، والمسألة شهيرة.

    ولما بين تعالى أن شركاءهم عاجزون، أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يناصبهم للمحاجة، ويكرر عليهم التبكيت، فقال سبحانه: " قل ادعوا شركاءكم أي استنصروا بها علي " ثم كيدون أي اعملوا أنتم وهم في هلاكي من حيث لا أشعر به، حتى يمكنني دفعه.

    [ ص: 2927 ] " فلا تنظرون أي عجلوا في كيدي، فلا تمهلوني مدة أطلع فيها على كيدكم، فإني لا أبالي بكم. وقد أثبت نافع وأبو عمرو الياء في ((كيدوني))، والباقون حذفوها. ومثله في قوله: ولا تنظرون ثم لا تنظرون قال الواحدي : والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي، وقد حذفوا هذه الياءات إذا كانت في القوافي، كقوله:


    يلمس الأحلاس في منزله بيديه كاليهودي المصل


    (وأصلها المصلي).

    والذين أثبتوها، فلأن الأصل هو الإثبات.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [196] إن وليي الله الذي نـزل الكتاب وهو يتولى الصالحين

    " إن وليي الله الذي نـزل الكتاب تعليل لعدم المبالاة، المنفهم من السوق انفهاما جليا. أي: الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الله الذي أنزل الكتاب، المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة.

    قال أبو السعود : ووصفه تعالى بتنزيل الكتاب، للإشعار بدليل الولاية، والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة، كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم، لأن وليي هو الله الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري، وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم، فضلا عن نصركم.

    وقوله تعالى " وهو يتولى الصالحين تذييل مقرر لما قبله. أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده، وينصرهم ولا يخذلهم. وفيه تعريض، لمن فقد الصلاح، بالخذلان والمحق.

    قال الحسن البصري : إن المشركين كانوا يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، فقال تعالى: " ادعوا شركاءكم الآية، ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلي، بوجه من الوجوه. وهذا كما قال هود عليه السلام، لما قال قومه: إن نقول إلا اعتراك [ ص: 2928 ] بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [197] والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون

    " والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم أي لا يتولون أحدا، لأنهم لا يستطيعون نصركم " ولا أنفسهم ينصرون أي: إذا قصد إضرارهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [198] وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون

    " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا إذ ليس لهم سمع، وإن صورت لهم الآذان، كما أنه لا بصر لهم، وإن صورت لهم الأعين. كما قال: وتراهم ينظرون إليك إذ صورت لهم الأعين " وهم لا يبصرون لأنهم جماد عوملوا معاملة من يعقل، فعبر عنهم بضميره، لأنهم على صور مصورة كالإنسان، وهذا من تمام التعليل، لعدم مبالاته بهم، فلا تكرار.

    وقال السدي : المراد بهذا (المشركون)، وروي عن مجاهد نحوه، أي وإن كانوا ينظرون إليك، فإنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية.

    قال ابن كثير : والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير ، وقاله قتادة ، أي تفصيا من التفكيك، لأن المحدث عنهم الأصنام.

    تنبيه:

    من غرائب استنباط المعتزلة قولهم في هذه الآية -والعبارة للجشمي - ما مثاله: تدل [ ص: 2929 ] الآية على أن النظر غير الرؤية، وأنه لا يقتضي الرؤية، لذلك أثبتهم ناظرين غير رائين.

    قال: ومثله قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره. ويقسمون النظر إلى وجوه، ولا تنقسم الرؤية.

    قال: فبطل قول من يقول: إن قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة يقتضي الرؤية. انتهى.

    ولا يخفى أن الأصل في إطلاق النظر هو الرؤية والإبصار، ولذلك تتعاقب في هذا المعنى، وتترادف كثيرا، وانفكاكه عن الرؤية في هذه الآية لقرينة كون المحدث عنهم جمادا، ولا قرينة في الآية لتقاس على ما هنا، دع ما صح من الأخبار في وقوعها، مما هو بيان لها -فافهم-.

    ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح عن المشركين إذا جادلوه في شركائهم بعد هذا البيان، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [199] خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين

    " خذ العفو أي مكان الغضب، ليكونوا أقبل للنصيحة " وأمر بالعرف أي بالجميل المستحسن من الأفعال، فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير. ولما كان الناصح لغيره، كالمعرض لعدوانهم، ثلث بما يحتاج إليه في ذلك فقال: " وأعرض عن الجاهلين أي المصرين على جهلهم، فلا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم.

    تنبيهان:

    الأول: قال بعض العلماء: إن سر الشريعة في الطباع والعادات، هو تأييد المستحسن [ ص: 2930 ] ومحو المستقبح. وإليه الإشارة بقوله تعالى: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن المعروف ما عرفته الطباع السليمة واستحسنته، والمنكر ما أنكرته واستقبحته، ذلك لأن غاية الشريعة راحة الخلق على حال ونظام معقولين، فلا يصح الحكم بتوحيد العادات في كل البلاد. اهـ.

    الثاني: روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

    وروى البخاري عن ابن عباس أن عيينة بن حصين قال لعمر بن الخطاب : هي يا ابن الخطاب ! فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر ، حتى هم أن يوقع به. فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين ! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإن هذا من الجاهلين.

    قال ابن عباس : والله! ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [200] وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم

    " وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ أي يصيبنك من الشيطان وسوسة تثير غضبك على جهلهم وإساءتهم، وتحملك على خلاف ما أمرت فيه من العفو والأمر بالمعروف: " فاستعذ بالله أي استجر به، وادعه في دفعه " إنه سميع أي لدعائك " عليم أي: باستعاذتك.

    قال الزمخشري : النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. أي فشبهت وسوسته وإغراؤه بالغرز، وهو إدخال الإبرة وطرف العصا وما يشبهه [ ص: 2931 ] في الجلد، كما يفعله السائق لحث الدواب. وجعل النزغ نازغا مجاز بالإسناد، لجعل المصدر فاعلا، كجد جده.

    قال أبو السعود : وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره، وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [201] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون

    " إن الذين اتقوا إذا مسهم أي أصابهم " طائف من الشيطان أي وسوسة وخاطر منه " تذكروا أي الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه " فإذا هم أي: بسبب ذلك التذكر " مبصرون أي مواقع الخطأ، ومكائد الشيطان، فينتهون عنها ولا يتبعونه. وقرئ ((طيف)) على أنه مصدر، من قولهم (طاف به الخيال يطيف طيفا)، أو تخفيف (طيف) كلين وهين. وهذه الآية تأكيد وتقرير لما قبلها من وجوب الاستعاذة بالله تعالى، عند نزغ الشيطان، وأن المتقين هذه عادتهم. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [202] وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون

    " وإخوانهم يعني وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس. كقوله: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وهم الذين لم يتقوا، فلم يتأت لهم التذكر، ولا ينفع فيهم الاستعاذة لأن الشياطين " يمدونهم في الغي أي يكونون مددا لهم بتكثير الشبه والتزيين والتسهيل في الضلال، يعني تساعدهم الشياطين على المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم.

    [ ص: 2932 ] " ثم لا يقصرون أي لا يمسكون عن إغوائهم، حتى يصروا ولا يرجعوا، يعني أن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس، ولا يسأمون من إمدادهم من الشر، لأن ذلك طبيعة لهم وسجية: وجوز عود الضمير لـ (الإخوان)، أي لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون، وإن بولغ عليهم في الوعظ بآيات الله، وإقامة الدلائل، ورفع الشبه، وغير ذلك.

    وجوز أيضا أن يراد أيضا بـ (الإخوان) الشياطين، ويرجع الضمير إلى " الجاهلين " أي وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين، يمدون الجاهلين في الغي.

    قال الزمخشري : والأول أوجه، لأن (إخوانهم) في مقابلة " الذين اتقوا " .
    ثم بين تعالى، من أنواع إغوائهم، لجاجهم في طلب آيات معينة، وتعنتهم في اقتراحها، مع أن لديهم المعجزة العظمى، والخارقة الكبرى، وهي القرآن الكريم، فقال سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [203] وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

    " وإذا لم تأتهم بآية أي: مما اقترحوه " قالوا لولا اجتبيتها أي هلا تكلفتها وأنشأتها من عندك قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي أي فلست بمفتعل للآيات، ولا أتقدم إليه تعالى في شيء منها. ثم أرشدهم تعالى إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدلالات، وأصدق الحجج والبينات، فقال سبحانه " هذا أي القرآن " بصائر من ربكم أي بمنزلة البصائر للقلوب، بها يبصر الحق، ويدرك الصواب. فالكلام على طريقة التشبيه البليغ. أو سبب البصائر، فهو مجاز مرسل أو استعارة لإرشاده، أو المعنى: حجج بينة، وبراهين نيرة. وإنما جمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور، جعل كلا منها بصيرة. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم -لتأكيد وجوب [ ص: 2933 ] الإيمان بها " وهدى أي: من الضلالة " ورحمة أي من العذاب " لقوم يؤمنون أي به، فيتفكرون في حقائقه.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى ينزل الآيات بحسب المصلحة، لا بحسب اقتراحهم، لأن ذلك قد يكون فسادا. ويدل قوله: " هذا بصائر أن المعارف مكتسبة. وتدل أن جميع ما يقوله الرسول ويفعله من الشرع من وحيه، لذلك قال: " أتبع ما يوحى إلي ومتى قيل: هل تدل الآية على أنه لا يجتهد ولا يقيس؟ قلنا: لا، لأن القياس والاجتهاد إذا كان متعبدا به، فاتباعه اتباع الوحي، كالعامي يقبل من المفتي، والعالم يجتهد، ويتبع الوحي، كذلك هذا.

    والذي يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا من تلقاء نفسه حتى يؤمر به -انتهى كلامه- وفي إطلاقه تفصيل له موضع آخر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [204] وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون

    " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا أي عن حديث النفس وغيره " لعلكم ترحمون لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة. أي وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه، فاستمعوا له، أي: أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه، وتتدبروا مواعظه، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي، إعظاما له واحتراما، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه

    [ ص: 2934 ] تنبيهات:

    الأول: ظاهر الآية يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وعليه أهل الظاهر، وهو قول الحسن البصري ، وأبي مسلم الأصفهاني ، وقد روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا » . وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة .

    وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: « هل قرأ أحد منكم معي آنفا »؟ قال رجل: نعم يا رسول الله. قال: « إني أقول: ما لي أنازع القرآن » ؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قال الترمذي : هذا حديث حسن. وصححه أبو حاتم الرازي . نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدها للمأموم. وذلك فيما رواه عبادة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: « إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم » ؟ قال: قلنا: يا رسول الله ! إي والله. قال: « لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها » -رواه أبو داود والترمذي -.

    وفي لفظ: « فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت [ ص: 2935 ] به، إلا بأم القرآن » . رواه أبو داود والنسائي ، والدارقطني وقال: رواته كلهم ثقات.

    وأخرج ابن حبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام، والإمام يقرأ؟ فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه » .

    وأما حديث أبي هريرة المتقدم، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقا بل جهرا، لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم، لا مع إسراره، ولو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان الاستفهام الإنكاري فيه عاما لجميع القرآن، أو مطلقا في جميعه.

    وحديث عبادة خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص، أو مطلق ومقيد، لابتناء الأول على الثاني. وكذا يقال في عموم الآية، وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب، وصحيح السنة، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن.

    الثاني: روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة. وعن بعضهم: فيها وفي الخطبة يوم الجمعة، وعن بعضهم: فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر. وقد قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم: (نزلت هذه الآية في كذا)، وبينا أنه قد يراد بذلك، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها، لا أنه سبب لنزولها، وذلك في بعض المقامات، وما هنا منه.

    وبتحقيق هذا يسقط ما للرازي هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين، بأن يستمعوا لقراءته، ليقفوا على إعجازه. وما للخازن ، بأن الآية مكية، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة -فافهمه-.

    الثالث: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة » .

    قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 2936 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [205] واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين

    " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد عام، أو المعنى: واذكر ربك أيها الإنسان، والأول أظهر، لأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من خصائصه، فإنه مشروع لأمته.

    وقد أوضح هذا آية: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا والأمر بالذكر، قال الزمخشري : هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك. وقال بعض الزيدية : هذا الأمر يحتمل الوجوب، إن فسر الذكر بالصلاة، وإن أريد الدعاء أو الذكر باللسان، فهو محمول على الاستحباب. قال: وبكل فسرت الآية.

    ثم إنه تعالى ذكر آدابا لذكره:

    الأول: أن يكون في نفسه، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى الإجابة، وأبعد من الرياء.

    الثاني: أن يكون على سبيل التضرع، وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير، ليتحقق بذلة العبودية لعزة الربوبية.

    الثالث: أن يكون على وجه الخيفة، أي الخوف والخشية من سلطان الربوبية، وعظمة الألوهية، من المؤاخذة على التقصير في العمل، لتخشع النفس، ويخضع القلب.

    [ ص: 2937 ] الرابع: أن يكون دون الجهر، لأنه أقرب إلى حسن التفكر. قال ابن كثير : فلهذا يستحب أن لا يكون الذكر نداء ولا جهرا بليغا. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذين تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته » . قال الإمام: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافة كما قال تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا

    الخامس: أن يكون باللسان لا بالقلب وحده، وهو مستفاد من قوله " ودون الجهر لأن معناه: ومتكلما كلاما دون الجهر، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة معطوفا على " تضرعا أو هو معطوف على " في نفسك أي اذكره ذكرا في نفسك، وذكرا بلسانك دون الجهر.

    السادس: أن يكون بالغدو والآصال، أي في البكرة والعشي. فتدل الآية على مزية هذين الوقتين، لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد، وما بينهما، الغالب فيه الانقطاع إلى أمر المعاش. وقد روي أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره، فطلب الذكر فيهما، ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر.

    ثم نهى تعالى عن الغفلة عن ذكره بقوله " ولا تكن من الغافلين أي من الذين يغفلون عن ذكر الله، ويلهون عنه، وفيه إشعار بطلب دوام ذكره تعالى، واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه، بقدر الطاقة البشرية.

    [ ص: 2938 ] ثم ذكر تعالى ما يقوي دواعي الذكر، وينهض الهمم إليه، بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار، لا يفترون، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [206] إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون

    " إن الذين عند ربك يعني الملائكة الذين هم في أعلى مقامات القرب " لا يستكبرون عن عبادته أي لا يتعظمون عنها. وقوله " ويسبحونه وله يسجدون أي فينبغي أن يقتدى بهم فيما ذكر عنهم، ففيه حث ولطف مرغب في ذلك، لأنه إذا كان أولئك -وهم ما هم في قرب المنزلة والعصمة- حالهم في عبادته تعالى وتسبيحه ما ذكر، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم.

    تنبيهات:

    الأول: قال الرازي : تمسك أبو بكر الأصم بهذه الآية في تفضيل الملائكة على البشر قال: لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال: " إن الذين عند ربك الآية، أي فأنت أولى وأحق بالعبادة، والمسألة مستوفاة في كتب الكلام. واستنبط من قال بالتفضيل المذكور من الآية، أنه ينبغي للعبد أن ينظر إلى من فوقه في طاعة الله تعالى.

    الثاني: قال الرازي : المشبهة تمسكوا بقوله تعالى: " إن الذين عند ربك وقالوا: لفظ (عند) مشعر بالجهة. ثم أجاب بما هو معروف للخلف. ويعني -سامحه الله- بالمشبهة الحنابلة، وهم براء من التشبيه، كما يعلمه من طالع عقائدهم، واقفون على حد النصوص بلا تشبيه ولا تعطيل، ولم ينفردوا بذلك، فقد تقدمهم من لا يحصى في هذه المسألة. راجع كتاب (العلو للذهبي ) تعلم ما ذكرنا.

    [ ص: 2939 ] الثالث: قال الجشمي : تدل الآية على كون الملائكة مكلفين. وتدل على أنهم سجدوا لله، وآدم كان قبلة السجود، لأنه وصفهم بأنهم يسجدون له.

    الرابع: هذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع.

    وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه عدها في سجدات القرآن.

    وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته، في غير وقت صلاة .

    وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار » .

    وروى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» .

    الخامس: السجدة المشروعة، إن كانت لآية، أمر فيها بالسجود فللأمر، أو حكى فيها [ ص: 2940 ] استنكاف الكفرة عنه، فلمخالفتهم وإرغامهم، أو حكي فيها سجود الأنبياء أو الملائكة، فللتأسي بهم- كذا في (العناية)-.

    وهذا آخر ما تيسر تعليقه على سورة الأعراف، فلله الحمد على هذا التسهيل والإسعاف، ونسأله بمنه وكرمه العون على الإتمام، فإنه ذو الجلال والإكرام.

    وكان الفراغ من ذلك طلوع الشمس من يوم الثلاثاء، في 26 رمضان المبارك سنة 1321 بشباك السدة العليا اليمنى من جامع السنانية على يد الفقير جمال الدين القاسمي غفر الله له، ولوالديه ولجميع المؤمنين، ورحمه وإياهم إنه أرحم الراحمين.

    تم الجزء السابع ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن ويحتوي على تفسير سورتي الأنفال والتوبة.
    [ ص: 2944 ] سُورَةُ الْأَنْفَالِ

    مَدَنِيَّةٌ ، أَوْ ، إِلَّا وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الْآيَاتِ السَّبْعِ ، فَمَكِّيَّةٌ . وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَسَبْعُونَ آيَةً .

    سُمِّيَتْ بِالْأَنْفَالِ لِأَنَّهَا مَبْدَأُ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَمُنْتَهَى مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَثَرِ أَمْرِ الْحُرُوبِ .

    [ ص: 2945 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

    [ 1 ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

    يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

    رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ .

    وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا ، فَالْتَقَى النَّاسُ ، فَهَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَدُوَّ ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحُوزُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ ، وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ : نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ .

    قَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ : لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا ، نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ .

    وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا ، نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً ، وَاشْتَغَلْنَا بِهِ ، فَنَزَلَتْ :

    يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ الْآيَةَ ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَوَاقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #371
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 2946 الى صـ 2960
    الحلقة (370)


    [ ص: 2946 ] وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَحَسَّنَهُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حَيَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ .

    وَلَفْظُ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ : فِينَا ، أَصْحَابَ بَدْرٍ ، نَزَلَتْ ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا ، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا ، فَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّوَاءِ .

    وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ مِنَ النَّفْلِ كَذَا وَكَذَا » . فَتَسَارَعَ فِي ذَلِكَ شُبَّانُ الْقَوْمِ ، وَبَقِيَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ .

    فَلَمَّا كَانَتِ الْمَغَانِمُ ، جَاءُوا يَطْلُبُونَ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ ، فَقَالَ الشُّيُوخُ : لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا ، فَإِنَّا كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ ، لَوِ انْكَشَفْتُمْ لَثُبْتُمْ إِلَيْنَا ، فَتَنَازَعُوا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ الْآيَةِ
    ، وَهَذَا مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ التَّشَاجُرَ كَانَ مُتَنَوِّعًا ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِفَصْلِهِ .

    وَالْأَنْفَالُ : هِيَ الْمَغَانِمُ ، جَمْعُ ( نَفَلٍ) مُحَرَّكَةً ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ ، أَيْ : كُلُّ نَيْلٍ نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ .

    قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ . أَيْ : لِأَنَّ النَّفَلَ يُطْلَقُ عَلَى الزِّيَادَةِ ، كَمَا فِي ( " التَّاجِ ") ، وَمِنْهُ النَّافِلَةُ لِصَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِزِيَادَتِهَا عَلَى الْفَرِيضَةِ .

    وَقَوْلُهُ تَعَالَى : قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ _ قَالَ الْمَهَايِمِي : أَيْ : لَيْسَتْ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الْجِهَادِ ، وَإِنَّمَا مُقَابِلُهُ الْأَجْرُ الْأُخْرَوِيُّ ، وَهَذِهِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ ، خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْمُشْرِكِينَ فَصَارَتْ مِلْكًا خَالِصًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . وَالرَّسُولُ خَلِيفَةٌ يُعْطِيهَا ، عَلَى مَا أَرَاهُ اللَّهُ ، مَنْ يَشَاءُ ، لَوْمًا أَطْلَقَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ فِيهَا فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، وَوَهَبَ مَنِ اسْتَوْهَبَهُ .

    فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : لِمَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ [ ص: 2947 ] أَخِي عُمَيْرٌ وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبْضِ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلْبِي .

    قَالَ : فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ .

    فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « اذْهَبْ فَخُذْ سَلَبَكَ »
    .

    وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيّ ُ - وَصَحَّحَهُ - عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شَفَانِي اللَّهُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ ، فَقَالَ : « إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي ضَعْهُ » .

    قَالَ ، فَوَضَعْتُهُ ثُمَّ رَجَعْتُ ، فَقُلْتُ : عَسَى أَنْ يُعْطِيَ هَذَا السَّيْفَ الْيَوْمَ مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي .

    قَالَ : إِذَا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي .

    قَالَ : قُلْتُ : قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ شَيْئًا . قَالَ : كُنْتَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ ، لَيْسَ هُوَ لِي ، إِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي ، فَهُوَ لَكَ . قَالَ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ الْآيَةَ
    .

    تَنْبِيهَاتٍ :

    الْأَوَّلُ : ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَنْفَالَ بَدْرٍ قُسِّمَتْ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ ، ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ آيَةُ الْخُمْسِ ، فَنَسَخَتِ الْأُولَى .

    قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : فِيهِ نَظَرٌ . وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي شَارَفَيْهِ اللَّذَيْنِ حَصَلَا لَهُ ، مِنَ الْخُمْسِ ، يَوْمَ بَدْرٍ . فَالصَّوَابُ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ مُحْكَمَةٌ ، بَيَّنَ مَصَارِفَهَا فِي آيَةِ الْخُمْسِ .

    الثَّانِي : رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ فَسَّرَ ( الْأَنْفَالَ) بِمَا شَذَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ مَتَاعٍ .

    قَالَ : فَهُوَ نَفْلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ .

    قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فَسَّرَ ( الْأَنْفَالَ) بِالْفَيْءِ وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ .

    [ ص: 2948 ] قُلْتُ : صِدْقُ ( النَّفْلِ) عَلَيْهِ ، لَا شَكَّ فِيهِ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ بِخُصُوصِهِ ، فَلَا يُسَاعِدُهُ سَبَبُ نُزُولِهَا الْمَارُّ ذِكْرُهُ ، لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ : وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ الْمُشِيرُ إِلَى التَّنَازُعِ الْمُتَقَدِّمِ .

    ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَسْمِ ، أَيْ : مَا يُدْفَعُ إِلَى الْغَازِي زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ ، وَالْكَلَامُ الَّذِي قُلْتُهُ قَبْلُ ، يَجْرِي هُنَا أَيْضًا .

    وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي ; أَنَّ كُلَّ هَذَا الْوُجُوهِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ . قَالَ : وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَيُّنِ ، قَضَى بِهِ ، وَإِلَّا فَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ .

    وَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا جَائِزٌ ، فَكَذَلِكَ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ جَائِزَةٌ فَإِنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنِهَا . أَيْ : لِصِدْقِ ( النَّفْلِ) عَلَيْهَا .

    الثَّالِثُ : وَقَعَ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيّ ِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ ، لِمَنِ الْحُكْمُ فِيهَا أَلِلْمُهَاجِرِ ينَ أَمْ لِلْأَنْصَارِ ، أَمْ لَهُمْ جَمِيعًا ؟ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْحَاكِمَ فِيهَا الرَّسُولُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا حُكْمٌ .

    تَأَثَّرَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ أَبُو السُّعُودِ فِي سَوْقِهِ لِمَا ذُكِرَ ، وَزَادَ عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ لَهُ ، بِتَطْوِيلٍ مُمِلٍّ ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ سَرَتَ لَهُمْ هَذَا الرِّوَايَةُ .

    فَإِنَّ رُوَاةُ الْآثَارِ لَمْ يُخْرِجُوهَا فِي صِحَاحِهِمْ وَلَا سُنَنِهِمْ ، بَلْ وَلَا أَصْحَابُ السِّيَرِ ، كَابْنِ إِسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ ، وَهَلْ يُمْكِنُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْتَلِفُوا لِلْحُكْمِ عَلَى الْغَنَائِمِ ، وَيَتَنَازَعُوا وِلَايَتَهَا ، وَالرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ؟ وَمَتَى عَهِدَ ذَلِكَ مِنْ سِيرَتِهِمْ ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ! وَلَكِنْ هُوَ الرَّأْيُ ( قَاتَلَهُ اللَّهُ) ! وَنَبَذَ كُتُبَ السَّنَةِ ، وَالتَّقْلِيدِ الْبَحْتِ ، الَّذِي لَا يَهْتَمُّ صَاحِبُهُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ، وَلَا يُرِيدُ مَعْرِفَتَهَا وَلَا فَحْصَهَا بِالْعَقْلِ يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَى الْقَدَمِ ، حَيْثُ يَكُونُ مِطْوَاعًا لِآرَاءِ غَيْرِهِ ، مُنْقَادًا لَهَا مُصَدِّقًا مَا يَنْطِقُ بِهِ فَمُهُ ، غَثًّا كَانَ أَوْ سَمِينًا . اللَّهُمَّ نَوِّرْ بَصِيرَتِنَا بِفَضْلِكَ .

    وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ : فِي الِاخْتِلَافِ وَالتَّخَاصُمِ ، وَكُونُوا مُتَحَدِّينَ مُتَآخِينَ فِي اللَّهِ .

    وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ : أَحْوَالَ بَيْنِكُمْ ، يَعْنِي مَا بَيْنَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ ، حَتَّى تَكُونَ أَحْوَالَ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَاتِّفَاقٍ .

    [ ص: 2949 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ : فِي قَسْمِهِ بَيْنَكُمْ ، عَلَى مَا أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى .

    وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَوَامِرِ الثَّلَاثَةِ .

    قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ : جَعَلَ التَّقْوَى , وَإِصْلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ, وَطَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَمُوجِبَاتِهِ , لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّوَفُّرِ عَلَيْهَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ : كَامِلِي الْإِيمَانِ .

    ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَنْ أُرِيدَ بِالْ ( مُؤْمِنِينَ ) بِذِكْرِ أَوْصَافِهِمُ الْجَلِيلَةِ ، الْمُسْتَتْبَعَ ةِ لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ، تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الِامْتِثَالِ بِالْأَوَامِرِ الْمَذْكُورَةِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 2 ] إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون .

    إنما المؤمنون أي : الكاملون المخلصون فيه الذين إذا ذكر الله أي : حقه أو وعيده وجلت قلوبهم أي : فزعت لذكره ، واقشعرت إشفاقا ألا تكون قامت بحقه ، وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه ، وبطشه بالعصاة وعقابه .

    قال الجشمي : ومتى قيل : لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنينة في قوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر فجوابنا فيه وجوه :

    منها : أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه ، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه .

    ومنها : أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده ، ووعده ، ووعيده ، فعند ذلك توجل لأوامره ونواهيه ، خوف التقصير في الواجبات ، والإقدام على المعاصي ، والمستقبل يتغير حاله . انتهى .

    وإذا تليت عليهم آياته أي : حججه وهي القرآن زادتهم إيمانا أي : يقينا وطمأنينة نفس ، إلى ما عندهم ; فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه .

    [ ص: 2950 ] وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها ، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد ، كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد .

    وعلى ربهم يتوكلون أي : لا يرجون سواه ، ولا يخشون غيره ، ولا يفوضون أمورهم إلى غيره .

    ولما ذكر تعالى من أعمالهم الحسنة أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ، أعقبه بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 3 ] الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .

    الذين يقيمون الصلاة أي : المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها .

    والموصول نعت للموصول الأول ، أو بيان له ، أو منصوب على المدح .

    وقوله : ومما رزقناهم ينفقون عام في الزكاة ، وأنواع البر والقربات .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 4 ] أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم .

    أولئك هم المؤمنون حقا أي : لا شك في إيمانهم .

    و : حقا صفة لمصدر محذوف ، أي : إيمانا حقا أو مصدر مؤكد للجملة ، أي : حق ذلك حقا ، كقولك : هو عبد الله حقا .

    قال عمرة بن مرة ( في هذا الآية ) : إنما أنزل القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء . انتهى .

    وكأنه أراد الرد على من زعم أن حقا من صلة قوله : لهم درجات بعد ، تأكيدا له ، وأن الكلام تم عند قوله المؤمنون فإن هذا الزعم يصان عند أسلوب التنزيل الحكيم .

    [ ص: 2951 ] وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة وهي : هل يجوز أن يقال : أنا مؤمن حقا .

    قال الطوسي في ( " نقد المحصل ") : المعتزلة ومن تبعهم يقولون : اليقين لا يحتمل الشك والزوال ، فقول القائل : ( أنا مؤمن إن شاء الله) لا يصح إلا عند الشك ، أو خوف الزوال . وما يوهم أحدهما ، لا يجوز أن يقال للتبرك . انتهى .

    والغزالي في الإحياء ، بسط هذه المسألة ، وأجاب عمن سوغ ذلك بأجوبة :

    منها : التخوف من الخاتمة ، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة .

    ومنها : الاحتراز من تزكية النفس .

    ومنها : غير ذلك انظره بطوله .

    وقال ابن حزم في ( " الفصل ") : القول عندنا في هذه المسألة ; أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما أتى به ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك ، كما أمر تعالى في قوله : وأما بنعمة ربك فحدث

    ولا نعمة أوكد ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام ، فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى في وقتي هذا .

    ولا فرق بين قوله ( أنا مؤمن مسلم) ، وبين قوله ( أنا أسود أو أنا أبيض) ، وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها ، وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد .

    وقول ابن مسعود : ( أنا مؤمن إن شاء الله) عندنا صحيح ، لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات .

    فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح .

    ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع أن يقول المرء ( إني مؤمن) بمعنى ( مصدق) .

    [ ص: 2952 ] وأما قول المانعين : ( من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة ) فالجواب : إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك .

    وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ; ولا ندري ماذا نكسب غدا ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى كلام ابن حزم رحمه الله .

    ولقد أجاد فيما أفاد .

    وقوله تعالى : لهم درجات عند ربهم أي : منازل ومقامات عاليات في الجنة ومغفرة أي : تجاوز لسيئاتهم ورزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة .

    تنبيه :

    قال الجشمي : تدل الآية على أشياء :

    منها : أن الإيمان اسم شرعي لثلاث خصال : القول ، والاعتقاد ، والعمل ، خلاف ما تقوله المرجئة ، لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب ، والتدبر والتفكر كذلك ، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح ، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح .

    ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقا .

    ومنها : أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ، لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص، وقد نص على ذلك قوله : زادتهم إيمانا

    ومنها : أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى ، ووعد وأوعد ، لينجر للرغبة والرهبة ، وذلك حث على الطاعة ، وزجر عن المعاصي .

    ومنها : وجوب التوكل عليه ، والتوكل على ضربين : منها في الدنيا ، ومنها في الدين .

    أما في الدنيا فلا بد من خصال :

    منها : أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له ، ولا يطلب محرما

    [ ص: 2953 ] ومنها : إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرم .

    ومنها : ألا يظهر الجزع عند الضيق ، بل يسلك فيه طريق الصبر واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له .

    ومنها : أن ما يرزق من النعم بعدها من جهته تعالى ، إما بنفسه أو بواسطة .

    ومنها : ألا يحسبه عن حقوقه خشية الفقر .

    ومنها : ألا يسرف في النفقة ولا يفتقر .

    فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلا .

    فأما الذي يزعمه بعضهم ; أن التوكل إهمال النفس ، وترك العمل ، فليس بشيء .

    وقد أمر الله تعالى بالإنفاق ، وبالعمل ، وثبت عن الصحابة ـ وهم سادات الإسلام - التجارة والزراعة والأعمال ، وكذلك التابعين ، وبهذا أجرى الله العادة .

    وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي أن يعقل ناقته ويتوكل .

    فأما التوكل في الدين فخصال :

    منها : أن يقوم بالواجبات ، ويجتنب المحارم ، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة .

    ومنها : أن يسأله التوفيق والعصمة .

    ومنها : أن يرى جميع نعمه منه ، إذا حصل بهدايته وتمكينه ولطفه .

    ومنها : أن لا يثق بطاعته جملة ، بل يطيع ويجتنب المعاصي ، ويرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه ، فعند ذلك يكون متوكلا .

    ثم قال الجشمي : وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمنا ، خلاف قول المرجئة . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 5 ] كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون .

    وقوله تعالى : [ ص: 2954 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون الكاف في ( كما ) كاف التشبيه ، والعامل فيه يحتمل وجوها ، فإما هو معنى الفعل الذي دل عليه : قل الأنفال لله تقديره نزع الأنفال من أيديهم بالحق ، كما أخرجك بالحق . وإما هو معنى الحق ، يعني هذا الذكر حق ، كما أخرجك بالحق ، وإما أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه ، أي : حالهم هذه في كراهة تنفيل الغزاة ، كحال إخراجك من بيتك للحرب في كراهتهم له ( كما سيأتي في تفصيل القصة ) .

    وهذا هو قول الفراء ، فإنه قال : الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته ، بالقصة المتقدمة ، التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها ، مع أنها أولى بحالهم .

    وقوله تعالى : من بيتك أراد به بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مثواه ، أي : إخراجه إلى بدر .

    وزعم بعض أن المراد إخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة للهجرة ، وهو ساقط برده سياق القصة البدرية في الآيات بعد .

    وملخصها أن أبا سفيان قدم بعير من الشام في تجارة عظيمة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغنموها ، فعلمت قريش ، فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبوا عنها ، وهم النفير . وأخذ أبو سفيان بالعير طريق الساحل ، فنجت ، فقيل لأبي جهل : ارجع ، فأبى وسار إلى بدر .

    فشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم : إن الله وعدني إحدى الطائفتين ، فوافقوه على قتال النفير ، وكره بعضهم ذلك ، وقالوا : لم نستعد له ، كما قال تعالى :
    [ ص: 2955 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 6 ] يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون .

    يجادلونك في الحق وهو الجهاد وتلقي النفير بعدما تبين أي : ظهر لهم أنهم ينصرون فيه كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون أي : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر إلى أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم ، وعدم تأهبهم .

    إذ روي أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ، فيهم فارسان : المقداد والزبير ، وقيل الأول فقط . والمشركون ألف ، ذوو عدة وعدة وفيه تعريض بأنهم إنما يسار بهم إلى الظفر والغنيمة للوعد الحق .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 7 ] وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين .

    وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين العير أو النفير أنها لكم وتودون أي : تحبون أن غير ذات الشوكة تكون لكم وهو العير ، لا ذات الشوكة ، وهي النفير ، والشوكة : السلاح أو حدته .

    ويريد الله أن يحق الحق أي : يثبته ويعليه ، وهو دعوة رسوله بكلماته أي : بآياته المنزلة ، وأوامره في هذا الشأن ويقطع دابر الكافرين أي : يستأصلهم فلا يبقى منهم أحدا .

    ثم بين تعالى الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ونصرتهم عليها ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 8 ] ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون .

    ليحق الحق ويبطل الباطل أي : ليثبت الدين الحق ، ويمحق الدين الباطل ، [ ص: 2956 ] باستئصال أهله ، مع ظهور شوكتهم ولو كره المجرمون أي : المشركون ذلك .

    ثم ذكرهم تعالى التجاءهم إليه ، واستمدادهم منه النصر يوم بدر ، وإمداده حينئذ بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 9 ] إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين .

    إذ تستغيثون ربكم أي : تطلبون منه الغوث ، وهو التخلص من الشدة ، والعون بالنصر عليهم فاستجاب لكم أي : الدعاء أني ممدكم أي : معينكم بألف من الملائكة مردفين بكسر الدال ، أي : متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أومردفين غيرهم .

    وقرئ بفتحها على معنى أن الله أردف المسلمين بهم ، أو مردفين بغيرهم ، أي : من ملائكة آخرين .

    وقرئ ( بآلاف ) بالجمع ، كما يأتي .

    روى مسلم عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ; فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يده ، فجعل يهتف بربه ويقول : « اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام ، لا تعبد في الأرض » . فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : إذ تستغيثون ربكم

    [ ص: 2957 ] وروى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر :

    « هذا جبريل آخذ برأس فرسه ، عليه أداة الحرب »
    .

    وروى البخاري عن معاذ بن رفاعة ، عن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان ممن شهد بدرا - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال : وكذلك من شهد بدرا من الملائكة .

    تنبيهات :

    الأول : قال الجشمي : تدل الآية على أن الملك يجوز أن يتشبه بالآدمي ، ولا يخرج من كونه ملكا ، بأن يغير أطرافهم دون الأجزاء التي صاروا بها أحياء والذي ينكر أن يقدر أحد على تغيير الصور ، بل نقول : إن الله هو الذي يقدر على ذلك .

    انتهى .

    الثاني : قال الزمخشري : وعن السدي : ( بآلاف من الملائكة ) - على الجمع - ليوافق ما في سورة آل عمران .

    فإن قلت : فيم يعتذر لمن قرأ على التوحيد ، ولم يفسر ( المردفين ) بإرداف الملائكة ملائكة آخرين ، و ( المردفين ) بارتدافهم غيرهم ؟

    قلت : بأن المراد بالألف ، من قاتل منهم ، أو الوجوه منهم ، الذين من سواهم أتباع لهم . انتهى .

    قال شمس الدين ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) في بحث غزوة بدر :

    فإن قيل : هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف ، وفي سورة آل عمران قال : إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منـزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين فكيف الجمع بينهما ؟

    [ ص: 2958 ] قيل : اختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف ، والذي بخمسة على قولين :

    أحدهما : أنه كان يوم ( أحد ) ، وكان إمدادا معلقا على شرط ، فلما فات شرطه ، فات الإمداد . وهذا قول الضحاك ومقاتل ، وإحدى الروايتين عن عكرمة .

    والثاني : أنه كان يوم بدر ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، والرواية الأخرى عن عكرمة ، واختاره جماعة من المفسرين .

    وحجة هؤلاء ، أن السياق يدل على ذلك ، فإنه سبحانه قال :

    ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منـزلين بلى إن تصبروا وتتقوا إلى أن قال : وما جعله الله أي : هذا الإمداد : إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به

    قال هؤلاء : فلما استغاثوا ، أمدهم بألف ، ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف ، لما صبروا واتقوا . وكان هذا التدريج ، ومتابعة الإمداد ، أحسن موقعا ، وأقوى لتقويتهم وأسر لها من أن يأتي مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة .

    وقالت الفرقة الأولى : القصة في سياق ( أحد ) ، وإنما أدخل ذكر ( بدر ) اعتراضا في أثنائها ، فإنه سبحانه قال : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ثم قال : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون فذكره نعمه عليهم ، لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، ثم عاد إلى قصة ( أحد ) ، وأخبر عن قول رسوله لهم : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منـزلين ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف .

    فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف ، وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذلك مطلق .

    والقصة في سورة آل عمران ، هي قصة ( أحد ) مستوفاة مطولة ، و ( بدر ) ذكرت فيها اعتراضا .

    [ ص: 2959 ] والقصة في سورة الأنفال قصة ( بدر ) مستوفاة مطولة ، فالسياق في آل عمران غير السياق في الأنفال ، يوضح هذا أن قوله : ويأتوكم من فورهم هذا قد قال مجاهد : هو يوم ( أحد ) ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه ، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد ، والله أعلم . انتهى .

    وقوله تعالى
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 10 ] وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم .

    جعله الله أي : هذا الإمداد إلا بشرى أي : بشارة لكم بالنصر ، ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله أي : من غير أن يكون فيه شركة لغيره إن الله عزيز حكيم قال بعض الحكماء : ذكر تعالى في هذه الآية حكمة إخبارهم بالنصر ، وأنه يريد بشراهم وطمأنينتهم وتوكلهم عليه ، وهو أدعى إلى قوة العزيمة ، فإن العامل إذا أيقن بأن معه قاهر الكون : رفعته تلك الفكرة ، وجعلته أقوى الناس ، وأقدرهم على صعاب الأمور ، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله ، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة ، فباءوا بغضب على غضب . انتهى .

    ثم ذكرهم سبحانه بنعم أخرى جعلها سببا لنصرهم ، وللعناية بهم ، فقال :




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #372
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 2961 الى صـ 2975
    الحلقة (371)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 11 ] إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام .

    إذ يغشيكم النعاس أمنة منه أي : يلقي عليكم النوم للأمن الكائن منه تعالى [ ص: 2960 ] مما حصل لكم من الخوف من كثرة عدوكم .

    وقد كان أسهرهم الخوف ، فألقى تعالى عليهم النوم فأمنوا واستراحوا . وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد ، كما قال جل ذكره : ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وقرئ : ( يغشيكم ) من الإغشاء ، بمعنى التغشية والفاعل في الوجهين هو الله تعالى وقرئ : ( يغشاكم ) على إسناد الفعل إلى النعاس .

    وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم ( بدر ) في العريش مع الصديق رضي الله عنه ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ، ثم استيقظ متبسما ، فقال : « أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل ، على ثغاياه النقع » . ثم خرج من باب العريش ، وهو يتلوا : سيهزم الجمع ويولون الدبر

    ثم ذكرهم تعالى منة أخرى تدل على نصره إياه بقوله سبحانه : وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به أي : من الحدث الأصغر والأكبر ، وهو تطهير الظاهر ويذهب عنكم رجز الشيطان أي : وسوسته ، بأنكم على هذا الرمل لا تتمكنون من المحاربة ، ومع فقد الماء كيف تفعلون ؟ فأزال تعالى بإنزاله ذلك ، فكان لهم به طهارة باطنة ، فكملت لهم الطهارتان ، أي : من وسوسة أو خاطر سيئ ، وهو تطهير الباطن : وليربط على قلوبكم أي : يقويها بالثقة ، بالأمن وزوال الخوف .

    ويثبت به الأقدام أي : على الرمل .

    قال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر ، فأطفأ به الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم ، وثبتت به أقدامهم .

    قال الجشمي : قال القاضي : وهو أشبه بالظاهر .

    وقيل بالصبر وقوة القلب التي أفرغها عليهم ، حتى ثبتوا لعدوهم . وقوله ( به ) ، يرجع إلى الماء المنزل ، أو إلى ما تقدم من البشارة والنصر .

    ثم أشار تعالى إلى نعمة خفية أظهرها تعالى لهم ليشكروه عليها بقوله :
    [ ص: 2961 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 12 ] إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان .

    إذ يوحي ربك إلى الملائكة أي : الذين أمد بهم المسلمين ، أني معكم أي : بالعون والنصر .

    قال الجشمي : يحتمل مع الملائكة ، إذا أرسلهم ردءا للمسلمين ، ويحتمل مع المسلمين ، كأنه قيل : أوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين ، فانصروهم وثبتوهم .

    وقوله تعالى : فثبتوا الذين آمنوا أي : بدفع الوسواس وبالقتال معهم والحضور مددا وعونا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب أي : الخوف .

    ثم علمهم تعالى كيفية الضرب بقوله تعالى : فاضربوا أمر للمؤمنين أو للملائكة . وعليه ، ففيه دليل على أنهم قاتلوا : فوق الأعناق أي : أعالي الأعناق التي هي المذابح ، تطييرا للرءوس ، لأنها فوق الأعناق .

    واضربوا منهم كل بنان أي : أصابع ، جمع ( بنانة ) ، قيل : المراد بالبنان ، مطلق الأطراف مجازا ، تسمية للكل بالجزء ، لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل .

    والمعنى : اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 13 ] ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب .

    ذلك أي : الضرب أو الأمر به بأنهم شاقوا الله ورسوله أي : خالفوهما فيما شرعا .

    وقوله تعالى : ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب تقرير [ ص: 2962 ] لما قبله ، إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا ، أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة ، بعد ما حاق بهم في الدنيا ، وبيان لخسرانهم في الدارين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 14 ] ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار .

    ذلكم خطاب للكفرة على طريقة الالتفات فذوقوه أي : ذلك العذاب أيها الكفار في الدنيا وأن للكافرين عذاب النار في الآخرة .

    ثم نهى تعالى عن الفرار من الزحف ، مبينا وعيده بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 15 ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار .

    أي : الظهور بالانهزام ، و ( الزحف ) الجيش الكثير ، تسمية بالمصدر ، و الجمع زحوف ، مثل فلس وفلوس .

    ويقال : زحف إليه ، أي : مشى ، وزحف الصبي على استه قبل أن يقوم . شبه بزحف الصبيان مشي الجيش الكثير للقتال ، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف ، أي : يدب دبيبا قبل التداني للضراب أو الطعان .

    قال أبو السعود : زحفا منصوب ، إما على أنه حال من مفعول : لقيتم أي : زاحفين نحوكم ، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر ، هو الحال منه ، أي : يزحفون زحفا .

    وأما كونه حالا من فاعله أو منه ، ومن مفعوله معا كما قيل فيأباه قوله تعالى : فلا تولوهم الأدبار إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدو أو بكثرتهم ، بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة ، والمحوج إلى النهي عنه .

    [ ص: 2963 ] وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين ، حيث تولوا مدبرين ، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا - بعيد .

    والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال ، وهم كثير جم وأنتم قليل ، فلا تولوهم أدباركم ، فضلا عن الفرار ، بل قابلوهم وقاتلوهم ، فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم .

    قال الشهاب : عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام ، وتنفيرا عنه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 16 ] ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .

    ومن يولهم يومئذ أي : يوم اللقاء دبره إلا متحرفا لقتال أي : مائلا له .

    يقال : تحرف وانحرف واحرورف : مال وعدل ، وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء ، وإما بالفر للكر ، بأن يخيل عدوه أنه منهزم ليغره ، ويخرجه من بين أعوانه ، فيفر عنه ، ثم يكر عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه ، وهو باب من مكايد الحرب : أو متحيزا إلى فئة أي : منضما إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم : فقد باء أي : رجع بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير أي : ما صار إليه من عذاب النار .

    تنبيهات :

    الأول : دلت الآية على وجوب مصابرة العدو ، أي : الثبات عند القتال ، وتحريم الفرار منه يوم الزحف ، وعلى أنه من الكبائر ، لأنه توعده عليه وعيدا شديدا .

    الثاني : ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال ، إلا حالة التحرف ، أو التحيز ، وهو مروي عن ابن عباس ، واختاره أبو مسلم .

    قال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء .

    [ ص: 2964 ] وروى عن جماعة من السلف ، أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم ( بدر ) ، لقوله تعالى : ومن يولهم يومئذ وأجيب بأن الإشارة في : ( يومئذ ) إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق ، لا إلى يوم بدر .

    الثالث : ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى : أو متحيزا إلى فئة أي : جماعة أخرى من المسلمين ، سوى التي هو فيها ، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر رضي الله عنه : لو تحيز إلي لكنت له فئة .

    وفي رواية عنه : أيها الناس ! أنا فئتكم .

    وقال الضحاك : المتحيز إلى فئة ، الفار إلى النبي وأصحابه .

    وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه ، وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال : من فر من سرية إلى أميره ، أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .

    ثم أورد حديث عبد الله بن عمر المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع ، وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ! ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة ، وإلا ذهبنا ! فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : من القوم ؟ فقلنا : نحن الفرارون . فقال : « لا ، بل أنتم العكارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين » ، قال : فأتيناه حتى قبلنا يده .

    قال الترمذي : حديث حسن ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد . انتهى .

    أي : وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة .

    قال الحاكم في ( مسألة الفرار ) : إن [ ص: 2965 ] ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده ، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار ، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت ، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات . وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور .

    وعن الكرخي : أن الثبات والمصابرة واجب ، إذا لم يخش الاستئصال ، وعرف عدم نكايته للكفار ، والتجأ إلى مصر للمسلمين ، أو جيش ، وهكذا أطلق في ( " شرح الإبانة " ) فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة ، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه .

    الرابع : روي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى : الآن خفف الله عنكم قال الحاكم : إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول : كنا أسلفنا أن السلف كثيرا ما يعنون بـ ( النسخ ) تقييد المطلق ، أو تخصيص العام ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها .

    قال بعض الأئمة : هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة ، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافا كثيرة ، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا

    وعن ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فلم يفر .

    وبالجملة ، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف ، فإن هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط بينه الله في آية الضعف .

    وفي ( " المهذب " ) : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين ، جاز الفرار ، لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون ، فالأفضل الثبات ، وإن ظنوا الهلاك ، فوجهان : يلزم الانصراف [ ص: 2966 ] لقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

    والثاني : يستحب ولا يجب ، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار ، وإن ظنوه فوجهان :

    يجوز لقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا يجوز ، وصححوه لظاهر الآية .

    ثم بين تعالى أن نصرهم يوم بدر ، مع قلتهم ، كان بحوله تعالى وقوته ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 17 ] فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم .

    فلم تقتلوهم أي : بقوتكم ولكن الله قتلهم أي : سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم ، وقوى قلوبكم ، وأمدكم بالملائكة ، وأذهب عنها الفزع والجزع .

    وما رميت أي : أنت يا خاتم النبيين ، أي : ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إذ رميت أي : بالحصباء ، لأن كفا منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر ولكن الله رمى أي : بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم .

    وقال أبو مسلم في معنى الآية : أي : ما أصبت إذا رميت ، ولكن الله أصاب .

    والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة ، وذلك ظاهر في أشعارهم .

    وقد روي عن غير واحد ، أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر ، حين خرج من العريش ، بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : « شاهت الوجوه » . ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله ما شغله عن حاله ، وانهزموا .

    تنبيه :

    قال الجشمي : تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته [ ص: 2967 ] وتمكينه ، إذ معلوم أنهم قتلوا ، وأنه رمى ، ولذلك قال : إذ رميت ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه .

    وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر ، صارت أقوى ، فلذلك قال : فلم تقتلوهم

    وقال في ( " العناية " ) : استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى ، حيث نفى القتل والرمي .

    والمعنى : إذ رميت أو باشرت صرف الآلات .

    والحاصل : ما رميت خلقا إذا رميت كسبا . وأورد عليه أن المدعى وإن كان حقا ، لكن لا دلالة في الآية عليه ، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر ، مدفوع بأن المراد ما رميت رميا تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون ، وإن رميت حقيقة وصورة ، وهذا مراد من قال : ( ما رميت حقيقة إذ رميت صورة ) ، فالمنفي هو الرمي الكامل ، والمثبت أصله وقدر منه .

    فالإثبات والنفي لم يردا على شيء واحد ، حتى يقال : ( المنفي على وجه الخلق ، والمثبت على وجه المباشرة ) ، ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها ، الذي هو سبب النزول ، من أنه أثبت له الرمي ، لصدوره عنه ، ونفى عنه ، لأن أثره ليس في طاقة البشر ، ولذا عدت معجزة له ، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلا . فمبنى الكلام على المبالغة ، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع ، لأن معناه الحقيقي غير مقصود . هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام إذ لو كان المراد ما ذكر ، لم يكن مخصوصا بهذا الرمي ، لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله . انتهى .

    وهذا التحقيق جيد ، وقد نبه عليه أيضا العلامة ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) حيث قال :

    وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله ، وأنه هو الفاعل حقيقة ، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة ، مذكورة في غير هذا الموضع .

    ومعنى الآية : أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه ، فالرمي يراد به الحذف والإيصال ، فأثبت لنبيه الحذف ، ونفى عنه الإيصال . انتهى .

    وقوله تعالى : وليبلي المؤمنين منه أي : ليمنحهم من فضله بلاء حسنا [ ص: 2968 ] أي : منحا جميلا ، بالنصر والغنيمة والفتح ، ثم بالأجر والمثوبة ، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره ، فيعرفوا حقه ويشكروه .

    قال أبو السعود : واللام ، إما متعلقة بمحذوف متأخر ، فالواو اعتراضية ، أي : وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة ، فعل ما فعل ، لا لشيء غير ذلك ، مما لا يجديهم نفعا ، وإما برمي ، فالواو للعطف على علة محذوفة ، أي : ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي . . إلخ . وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم : أبلاه الله ببلية إبلاء حسنا ، إذا صنع به صنعا جميلا ، وأبلاه معروفا ، قال زهير في قصيدته التي مطلعها :


    صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو وأقفر من سلمى التعانيق والثقل


    والتعانيق والثقل : مواضع :


    جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو


    أي : ( إحسان فعلهما بكم ، فأبلاهما خير البلاء ، أي : صنع الله إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده ، والإنسان يبلى بالخير والشر ) ، أي : صنع بهما خير الصنيع الذي يبلو به عباده .

    واستظهر الطيبي تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده . قال ابن الأعرابي : يقال : أبلى فلان إذا اجتهد في صفة حرب أو كرم ، ويقال : أبلى ذلك اليوم بلاء حسنا .

    إن الله سميع أي : لدعائهم واستغاثتهم عليم أي : بمن يستحق النصر والغلب وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 18 ] ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين .

    ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي . ومحله الرفع ، أي : المقصود أو الأمر ذلكم .

    وقوله : وأن الله موهن كيد الكافرين معطوف عليه ، أي : [ ص: 2969 ] مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم ، أي : أن المقصود إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين .

    قال ابن كثير : هذا بشارة أخرى ، مع ما حصل من النصر ، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ، مصغر أمرهم ، وأنه في تبار ودمار ، أي : وقد وجد المخبر على وفق الخبر ، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولله الحمد والمنة .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 19 ] إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين .

    إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح خطاب للمشركين ، أي : إن تطلبوا الفتح ، أي : القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم القضاء بما سألتم .

    روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم ، وصححه ، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال ، حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أي : فأهلكه - الغداة ، فكان المستفتح .

    وعن السدي ، أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر : أخذوا بأستار الكعبة ، فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعز الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين ، فقال تعالى : إن تستفتحوا الآية .

    وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ; أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ ص: 2970 ] الآية ، قيل : في هذا الخطاب تهكم بهم ، يعني في قوله تعالى : فقد جاءكم الفتح لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة . كذا في ( " العناية " ) .

    وهو مبني على أن الفتح بمعنى النصر ، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء . وبهما فسرت الآية أيضا .

    وإن تنتهوا أي : عن الكفر وعداوة الرسول فهو خير لكم أي : في الدنيا والآخرة وإن تعودوا أي : لمحاربة الرسول : نعد أي : لنصره عليكم ولن تغني أي : تدفع عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين أي : بالنصر . قرئ بكسر ( إن ) استئنافا ، وفتحها ، على تقدير اللام .

    تنبيه :

    جوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى : إن تستفتحوا للمؤمنين ، أي : إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم ، فقد حصل لكم ذلك ، فاشكروا ربكم ، والزموا طاعته .

    وقوله تعالى : وإن تنتهوا أي : عن المنازعة في أمر الأنفال ، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق فقال تعالى : وإن تنتهوا

    عن مثله - : فهو خير لكم وإن تعودوا إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار ، وتهييج العدو ; لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة ، وترك المخالفة ، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة ، إذا لم يكن الله معكم بالنصر ، فإنه مع الكاملين في إيمانهم .

    وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي .

    قال البيضاوي : ويؤكده الآية بعد ، فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول ، والنهي عن الإعراض عنه ، والله أعلم .
    [ ص: 2971 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 20 ] يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون .

    يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه أي : تعرضوا عنه بمخالفة أمره : وأنتم تسمعون أي : القرآن الناطق بوجوب طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 21 ] ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون .

    ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا أي : ادعوا السماع وهم لا يسمعون أي : سماع تدبر واتعاظ ، وهم المنافقون أو المشركون .

    فالمنفي سماع خاص ، لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا ، بجعل سماعهم بمنزلة العدم . وقيل : السماع عن التصديق .

    قال الزمخشري : والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة ، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور ، من قسمة الغنائم وغيرها ، كان تصديقكم كلا تصديق ، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن .

    ثم بين تعالى سوء حال المشبه بهم ، مبالغة في التحذير ، وتقديرا للنهي ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 22 ] إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون .

    إن شر الدواب أي : ما يدب على الأرض ، أو شر البهائم : عند الله الصم أي : عن سماع الحق البكم أي : عن النطق به الذين لا يعقلون أي : لا يفهمونه ، جعلهم تعالى من جنس البهائم ، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له ، ثم جعلهم شرها لأنهم [ ص: 2972 ] عاندوا بعد الفهم ، وكابروا بعد العقل ، وفي ذكرهم في معرض التشبيه بهذا الأسلوب غاية في الذم .

    وقد كثر في التنزيل تشبيه الكافرين بنحو هذا ، كقوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء وقال تعالى : أولئك كالأنعام بل هم أضل
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 23 ] ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون .

    وقوله تعالى : ولو علم الله فيهم أي : في هؤلاء الصم البكم خيرا صدقا ورغبة ، لأسمعهم أي : الحجج والمواعظ ، سماع تفهم وتدبر ، أي : لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين ، أي : ولكن لم يعلم الله فيهم شيئا من ذلك ، لخلوهم عنه بالمرة ، فلم يسمعهم كذلك ، لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة ، وإليه أشير بقوله تعالى : ولو أسمعهم لتولوا أي : ولو أسمعهم سماع تفهم ، وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية ، لتولوا عما سمعوه من الحق .

    وهم معرضون أي : عن قبوله جحودا وعنادا .

    قال الرازي : كل ما كان حاصلا ، فإنه يجب أن يعلمه الله ، فعدم علم الله بوجوده ، من لوازم عدمه ، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده .

    تنبيه :

    قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني ، هكذا : لو علم فيهم خيرا لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا ، ينتج : لو علم فيهم خيرا لتولوا ، وفساده بين .

    وأجيب : بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية ، وهو ممنوع .

    واعترض بأن هذا المنع ، وإن صح في قانون النظر ، إلا أنه خطأ في تفسير الآية ، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود [ ص: 2973 ] شرائط الإنتاج ، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه .

    وأجيب : بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس ، لانتفاء شرط ، لا أنه قياس فقد شرطه ، كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضا ، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى ، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع ، لعدم الخيرية فيهم ، ولو وقع الإسماع ، لا تحصل الخيرية فيهم ، لعدم قابلية المحل . كذا في " العناية " .

    وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياسا شرطيا ، متحد الوسط ، صحيح الإنتاج ، بتقدير : لو علم فيهم خيرا في وقت ، لتولوا بعده .

    وقوله تعالى
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 24 ] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون .

    يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الاستجابة : بمعنى الإجابة . قال :


    وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب


    ( يريد : فلم يجبه .

    وقائله كعب بن سعد الغنوي ، والقصيدة في الأصمعيات رقم 14 ) .

    والمراد بها الطاعة والامتثال ، وإنما وحد الضمير في قوله : دعاكم - أي : الرسول - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله تعالى .

    وقال الزمخشري : لأن استجابته صلى الله عليه وسلم ، كاستجابته تعالى ، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد .

    وقوله : لما يحييكم قال عروة بن الزبير - فيما رواه ابن إسحاق - أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .

    وإنما سمي الجهاد حياة ، لأن في وهن عدوهم بسببه حياة لهم وقوة ، أو لأنه سبب الشهادة الموجبة للحياة الدائمة ، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة ، [ ص: 2974 ] كما قال تعالى : وإن الدار الآخرة لهي الحيوان أي : الحياة الدائمة ، فيكون مجازا مرسلا ، بإطلاق السبب على المسبب ، أو استعارة . وقيل : لما يحييكم أي : من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب ، كما أن الجهل موته .

    قال الشهاب : وإطلاق الحياة على العلم ، والموت على الجهل استعارة معروفة ، ذكرها الأدباء ، وأهل المعاني . وأنشد الزمخشري لبعضهم :


    لا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت ، وثوبه كفن


    وقد ألم فيه بقول أبي الطيب ، من قصيدته التي أولها :


    أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن


    ومنها


    لا تعجبن مضيما حسن بزته وهل تروق دفينا جودة الكفن


    والأظهر أن يعنى بـ ( ما يحييكم ) ، ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة ، فيدخل فيه ما تقدم وغيره .

    تنبيه :

    استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحدا وهو في الصلاة .

    روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي ، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاني ، فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا الآية .

    وقوله تعالى : واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه يحتمل وجوها من المعاني .

    [ ص: 2975 ] أحدهما : أنه تعالى يملك على المرء قلبه فيصرفه كيف يشاء ، فيحول بينه وبين الكفر ، إن أراد هدايته ، وبينه وبين الإيمان ، إن أراد ضلالته ، وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس ، وصححه ، وقاله غير واحد من السلف .

    ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول : « يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك » .

    فقيل : يا رسول الله ! آمنا بك ، وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : « نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى ، يقلبها »
    .

    رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس ولفظ مسلم :

    « إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء » ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك » . انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه عن عبد الله بن عمرو .

    وفي رواية : « إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه » - رواه الإمام أحمد عن عائشة - .

    وروي أيضا مثله عن جابر وبلال ، والنواس بن سمعان وأم سلمة ، كما ساقه ابن كثير .

    وعلى هذا المعنى ، فالآية استعارة تمثيلية ، لتمكنه من قلوب العباد ، فيصرفها كيف يشاء ، بما لا يقدر عليه صاحبها .

    شبه بمن حال بين شخص ومتاعه ، فإنه يقدر على التصرف فيه دونه .

    ثانيها : أنه حث على المبادرة إلى الطاعة ، قبل حلول المنية ، فمعنى ( يحول بينه وبين قلبه ) ، يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهو التمكن من إخلاص القلب ، ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما ، كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوها لطاعة الله ورسوله .

    فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه ، والذي به يعقل ، في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #373
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 2976 الى صـ 2990
    الحلقة (372)



    [ ص: 2976 ] ثالثها : أنه مجاز عن غاية القرب من العبد ، لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما ، وانفصال أحدهما عن الآخر .

    و يحول إما استعارة تبعية معناه يقرب ، أو استعارة تمثيلية . وهذا المعنى نقل عن قتادة حيث قال : الآية كقوله تعالى : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وفيه تنبيه على أنه تعالى مطلع ، من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنه صاحبها .

    وأنه إليه تحشرون أي : فيجزيكم بأعمالكم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 25 ] واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب .

    واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة الفتنة : إما بمعنى الذنب كإقرار المنكر ، وافتراق الكلمة والتكاسل في الجهاد وإما بمعنى العذاب .

    فإن أريد الذنب فإصابته بإصابة أثره ، وإن أريد العذاب ، فإصابته بنفسه .

    و : لا تصيبن جواب للأمر ، أي : إن إصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم ، بل تشملهم وغيرهم بشؤم صحبتهم ، وتعدي رذيلتهم إلى من يخالطهم ، كقوله تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس قاله القاشاني .

    وقد روى الإمام أحمد عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يعلم فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ، ثم لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب .

    وروي نحوه عن عدي بن عميرة وحذيفة والنعمان وعائشة وأم سلمة .

    [ ص: 2977 ] قال الكرخي : ولا يستشكل هذا بقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر ، فالواجب على كل من رآه أن يغيره ، إذا كان قادرا على ذلك فإذا سكت فكلهم عصاة . هذا يفعله ، وهذا برضاه . وقد جعل تعالى ، بحكمته الراضي بمنزلة العامل ، فانتظم في العقوبة . انتهى .

    وذكر القسطلاني : أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي ، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له ، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين ، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده ، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر ، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار . انتهى .

    وعن ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم ، فيعمهم الله بالعذاب واعلموا أن الله شديد العقاب أي : لمن يخالف أوامره .

    ثم نبه تعالى عباده المؤمنين السابقين الأولين على نعمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ، مستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، ورزقهم من الطيبات ، ليشكروه بدوام الطاعة ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 26 ] واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون .

    واذكروا أي : يا معشر المهاجرين إذ أنتم قليل أي : في العدد ، مستضعفون في الأرض أي : مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة ، تستضعفكم قريش تخافون أن يتخطفكم الناس أي : أهل مكة .

    و ( تخطفه ) و ( اختطفه ) بمعنى استلبه وأخذه [ ص: 2978 ] بسرعة فآواكم أي : إلى المدينة : وأيدكم بنصره يعني أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره ، وذلك بمظاهرة الأنصار ، وإمداد الملائكة ، والتثبيت الرباني ، ورزقكم من الطيبات أي : الغنائم لأنها لم تطب إلا لهم لعلكم تشكرون أي : المولى على ما فضل به وأولى .

    وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة ، هو أنسب بالمقام والسياق ، والسياق يشعر به . وقيل : الخطاب للعرب كافة وعليه قول قتادة بن دعامة السدوسي ـ رحمه الله ـ في هذه الآية : كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأثبته ضلالا .

    والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله . انتهى .

    وأقول : الأمر في العرب ، وإن كان كما ذكر ، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآية عليه تكلف لا يخفى فالظاهر ما ذكرنا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 27 ] يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون .

    يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون لما ذكرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه ، وكان من شكره الوقوف عند حدوده ، بين لهم ما يحذر منها ، وهو الخيانة .

    ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه ، ومجاوزة حدوده ، وفي خيانة رسوله رفض سنته ، وإفشاء سره للمشركين . وفي خيانة أمانتهم الغلول في المغانم ، أي : السرقة منها ، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر ، وكل ما تعبدوا به .

    [ ص: 2979 ] وقد روي في نزول الآية شيء مما ذكرنا . ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره .

    ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن عبد الله بن أبي قتادة قال : نزلت في أبي لبابة حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد ، فاستشار قريظة من أبي لبابة في النزول على حكم سعد ، وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم ، فأشار إلى حلقه - أنه الذبح - قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ، ثم حلف ألا يذوق ذواقا حتى يموت ، أو يتوب الله عليه .

    وانطلق إلى المسجد ، فربط نفسه بسارية ، فمكث أياما ، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد ، ثم أنزل الله توبته ، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال : « يجزيك الثلث أن تصدق به » .

    قال بعض المفسرين : دل هذا السبب على جواز إظهار الجزع على المعصية ، وإتعاب النفس وتوبيخها ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي لبابة .

    ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة ، ولأنه عليه السلام قال : يجزيك ثلث مالك ، وهذا سبيل قوله في هود إن الحسنات يذهبن السيئات

    وفي قوله : وأنتم تعلمون دليل على أن ذنب العالم بالخطيئة أعظم منه من غيره ، لأن المعنى : وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله .

    قال الرازي : ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد ، نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب فقال :
    [ ص: 2980 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 28 ] واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم .

    واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة أي : محنة من الله ليبلوكم ، هل تقعون بهما في الخيانة ، أو تتركون لهما الاستجابة لله ولرسوله ، أو لا تلهون بهما عن ذكره ولا تعتاضون بهما منه .

    فسموا ( فتنة ) اعتبارا بما ينال الإنسان من الاختبار بهم ، ويجوز أن يراد ( بالفتنة ) الإثم أو العذاب ، فإنهم سبب الوقوع في ذلك .

    قال الحاكم : قد أمر الله بالعلم بذلك ، وطريق العلم به التفكر في أحوالهما وزوالهما ، وقلة الانتفاع بهما ، وكثرة الضرر ، وأنه قد يعصي الله بسببهما .

    وقوله تعالى : وأن الله عنده أجر عظيم أي : لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد ، فلم يورط نفسه من أجلهما .

    وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة مع الترهيب الشديد في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون قيل : هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة ، وما فرط منه لأجل ماله وولده .

    ولما حذر تعالى فيم تقدم عن الفتنة بالأموال والأولاد ، بشر من اتقاه في الافتتان بهما ، وفي غيره بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 29 ] يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم .

    يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم

    [ ص: 2981 ] قال المهايمي : أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة واستجاب لله ، فلا يخاف على أهله وماله وعرضه ، أي : كما خاف أبو لبابة .

    فإن من اتقاه تعالى فلا يجترئ أحد على أهله وحوزته ، لأنه يؤتى فرقانا يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز . انتهى .

    وقيل : فرقانا أي : نصرا ، لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال حزبه ، والإسلام بإعزاز أهله .

    ومنه قوله تعالى : يوم الفرقان وقيل : بيانا وظهورا يشهر أمركم ، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم : بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان ، أي : طلع الفجر .

    وقيل : فصلا بين الحق والباطل ، ومخرجا من الشبهات ، كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم

    والفرقان ( كالفرق ) مصدر ( فرق ) ، أي : فصل بين الشيئين ، سواء كان بما يدركه البصر ، أو بما تدركه البصيرة ، إلا أن الفرقان أبلغ ، لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل ، والحجة والشبهة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 30 ] وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .

    وقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين

    لما ذكر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى :

    [ ص: 2982 ] واذكروا إذ أنتم قليل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نعمته عليه خاصة ، في حفظه من مكر قريش به ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم ، واستيلائه عليهم ، وذلك أن قريشا ، لما أسلمت الأنصار ، وأخذ نور الإسلام في الانتشار ، فرقوا أن يتفاقم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ـ ( وهي دار بناها قصي بن كلاب ليصلح فيها بين قريش ، ثم صارت لمشاورتهم ، وهي الآن مقام الحنفي ، والندوة الجماعة من القوم ، وندا بالمكان اجتمع فيه ، ومنه النادي ) ـ ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم .

    فقال أبو البحتري بن هشام : رأيي أن تحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا بابه ، غير كوة ، تلقون إليه طعامه وشرابه منها ، وتتربصوا به ريب المنون .

    وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : ليثبتوك أي : ليحبسوك ويوثقوك ، لأن كل من حبس شيئا وربطه فقد جعله ثابتا لا يقدر على الحركة منه .

    ثم اعترض هذا الرأي شيخ نجدي دخل معهم ، فقال : بئس الرأي ! يأتيكم من يقاتلكم من قومه ، ويخلصه من أيديكم ! ثم قال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمله ، وتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يسركم ما صنع ، واسترحتم .

    وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : أو يخرجوك يعني من مكة ، ثم اعترض النجدي أيضا بقوله : بئس الرأي ! يفسد قوما غيركم ، ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل - لعنه الله - : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما ، وتعطوه سيفا ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا ، وهذا ما ذكره تعالى بقوله : أو يقتلوك

    ثم قال النجدي اللعين : صدق هذا الفتى ، هو أجودكم رأيا ، فتفرقوا على رأي أبي جهل ، مجمعين على قتله ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن الله له في الهجرة ، فأمر عليا ، فنام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي ، [ ص: 2983 ] فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه .

    ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله بأبصارهم عنه ، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ : يس والقرآن الحكيم إلى قوله فهم لا يبصرون

    ومضى مع أبي بكر إلى الغار ، وبات المشركون يحرسون عليا ، يحسبون أنه النبي . فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه ، فرأوا عليا ، فقالوا : أين صاحبك ؟ فقال : لا أدري ! فاتبعوا أثره ، فلما بلغوا الغار ، رأوا نسج العنكبوت على بابه ، فقالوا : لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر . وخيب الله سعيهم ، وأبطل مكرهم .

    ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثا ، ثم خرج إلى المدينة
    .

    روي ذلك عن ابن عباس من طرق عند ابن إسحاق ، والإمام أحمد والحاكم والبيهقي ، دخلت روايات بعضهم في بعض .

    وقوله تعالى : ويمكر الله أي : يدبر ما يبطل مكرهم . وقوله : والله خير الماكرين أي : أعظمهم تأثيرا ، قاله المهايمي وأفاد أيضا في مناسبة هذه الآية مع ما قبلها ; أن هذه تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقانا يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهرا يحفظه من مكر من مكر به ، بل يمكر له على ماكره . انتهى .

    ثم أخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته تعالى بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 31 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين .

    وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا أي : مثل هذا لو نشاء لقلنا مثل هذا أي : المتلو .

    وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد .

    كيف لا ؟ ولو استطاعوا شيئا من ذلك , [ ص: 2984 ] فما الذي كان يمنعهم من المشيئة ، وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله ، وقرعوا على العجز ، وذاقوا من ذلك الأمرين ، ثم قورعوا بالسيف ، فلم يعارضوا سواه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا ، خصوصا في باب البيان الذي هم فرسانه ، المالكون لأزمته ، وغاية ابتهاجهم به .

    وقوله تعالى : إن هذا إلا أساطير الأولين أي : ما سطروه وكتبوه من القصص . قيل : ( أساطير ) لا واحد له ، وقيل : هو جمع؛ أسطر وسطور وأسطار ، جموع سطر وأحاديث . والأصل في السطر الخط والكتابة . يقال : سطر : كتب ، ويطلق على الصف من الشيء كالكتاب والشجر . كذا في القاموس وشرحه .

    وقد روي أن قائل هذا النضر بن الحارث من كلدة ، وأنه كان ذهب إلى بلاد فارس وجاء منها بنسخة حديث رستم وأسفنديار ، ولما قدم ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله ، وهو يتلو على الناس ما قصه تعالى من أحاديث القرون .

    قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، فزعم أنه مثل ما تلقفه ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس ، جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته . ثم يقول : بالله ! أينا أحسن قصصا ، أنا أو محمد ؟

    وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر ، وأسره المقداد ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم به ، فضربت عنقه .


    وإسناده قوله إلى الجميع ، إما لرضا الباقين به أو لأن قائله كبير متبع ، وقد كان اللعين قاصهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه ، ويغرهم بمثل هذه الجعجعة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 32 ] وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم .

    وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ ص: 2985 ] هذا أسلوب من الجحود بليغ ، لأنهم عدوا حقية القرآن محالا ، فلذا علقوا عليه طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ، ولو كان ممكنا لفروا من تعليقه عليه .

    والمعنى ، إن كان هذا القرآن حقا منزلا ، فعاقبنا على إنكاره بالسجيل ، كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر .

    وفي إطلاقهم ( الحق ) عليه ، وجعله من عند الله ، تهكم بمن يقول ذلك ، من النبي أو المؤمنين . وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقا على الوجه ، يدعيه صلى الله عليه وسلم ، وهو تنزيله ، لا الحق مطلقا ، لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع ، غير منزل كالأساطير ، فالتعريف للعهد .

    و : ( أمطر ) استعارة أو مجاز ( لأنزل ) .

    قال الزمخشري : وقد كثر الإمطار في معنى العذاب . فإن قلت : ما فائدة قوله : من السماء والإمطار لا يكون إلا منها ؟ قلت : كأنه أريد أن يقال : فأمطر علينا السجيل ، وهي الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع : حجارة من السماء موضع ( السجيل ) ، كما تقول : صب عليه مسرودة من حديد ، تريد درعا .

    وقوله : بعذاب أليم أي : سوى الإمطار المذكور ، أو من عطف العام على الخاص .

    وعن معاوية ، أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! قال : أجهل من قومي قومك ! قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ، ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .

    أي : الذي هو الأصلح لهم ، ولكن لشدة جهلهم وعتوهم وعنادهم استفتحوا على أنفسهم ، واستعجلوا تقديم العقوبة ، كقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب وقوله : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة ، كما قال قوم شعيب له : فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين

    [ ص: 2986 ] وعن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أن قائل ذلك النضر بن الحارث ، صاحب القول السالف .

    قال عطاء : لقد أنزل في النضر بضع عشرة آية ، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر .

    وروى البخاري عن أنس أن قائل ذلك أبو جهل .

    وروى ابن مردويه عن بريدة قال : رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أحد على فرس وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 33 ] وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .

    وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم بيان للموجب لإمهالهم ، وعدم إجابة دعائهم .

    واللام لتأكيد النفي ، والدلالة على أن تعذيبهم ، والنبي بين أظهرهم ، غير مستقيم في الحكمة ، لأن سنته تعالى ، وقضية حكمته ، ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها ، لأنه لو نزل العذاب في مكانهم لأصاب كل من كان فيه ، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم .

    وقوله تعالى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه :

    الأول : أن المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين .

    قال الطيبي : وهذا الوجه أبلغ ، لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة .

    [ ص: 2987 ] والثاني : أن المراد به دعاء الكفرة بالمغفرة ، وقولهم : ( غفرانك ) في طوافهم بالبيت ، كما رواه ابن أبي حاتم ، فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه ، ولو من الكفرة .

    والثالث : أن المراد بالاستغفار التوبة ، والرجوع عن الجميع ما هم عليه من الكفر وغيره ، فيكون القيد منفيا في هذا ، ثابتا في الوجهين الأولين .

    قال القاشاني : العذاب سورة الغضب وأثره ، فلا يكون إلا من غضب النبي ، أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان صورة الرحمة ، لقوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ولهذا لما كسروا رباعيته قال : « اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » ، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام وقال : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا

    فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب ، وكذا وجود الاستغفار ، فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب ، والاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته ، بل يوجب زواله ، فلا يتسبب لغضب الله ، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون . انتهى .

    روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنزل الله علي أمانين لأمتي : وما كان الله ليعذبهم الآية ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة » .

    قال ابن كثير : ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك ، لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .

    [ ص: 2988 ] وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : العبد آمن من عذاب الله عز وجل ما استغفر الله عز وجل .

    ثم بين تعالى أنهم أهل للعذاب لولا المانع المتقدم بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 34 ] وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون .

    وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي : وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم ، وحالهم الصد عن المسجد الحرام ، كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الهجرة .

    قال القاشاني : أي : ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك بحسب أنفسهم ، بل إنهم مستحقون بذواتهم ، لصدودهم ، وصدهم المستعدين ، وعدم بقاء الخيرية فيهم ، ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك فيهم .

    ثم قال : واعلم أن الوجود الإمكاني يتبع الخير الغالب ، لأن الوجود الواجبي هو الخير المحض ، فما رجح خيره على شره فهو موجود بوجوده بالمناسبة الخيرية ، وإذا غلب الشر لم تبق المناسبة ، فلزم استئصاله وإعدامه .

    فهم ما داموا على الصورة الاجتماعية كان الخير فيهم غالبا ، فلم يستحقوا الدمار بالعذاب ، وأما إذا تفرقوا فما بقي إلا شرهم خالصا فوجب تدميرهم ، كما وقع في واقعة بدر .

    ومن هذا يظهر تحقيق المعنى الثاني في قوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة

    لغلبة الشرع على المجموع حينئذ . انتهى .

    وقوله تعالى : وما كانوا أولياءه رد لما كانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم ، [ ص: 2989 ] نصد من نشاء ، وندخل من نشاء ، أي : ما كانوا مستحقين ولاية أمره ، لشركهم : إن أولياؤه إلا المتقون أي : من الشرك ، فلهم أن يصدوا المفسدين : ولكن أكثرهم لا يعلمون أي : أنهم لا ولاية لهم عليه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 35 ] وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون .

    وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء أي : تصفيرا : وتصدية أي : تصفيقا بالأكف .

    روى ابن أبي حاتم أن ابن عمرو رضي الله عنهما حكى فعلهم ، فصفر ، وأمال خده ، وصفق بيديه .

    وعن ابن عمر أيضا قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون ويصفقون .

    وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، يصفرون ويصفقون .

    وعن مجاهد أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته .

    وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين .

    وهذه الجملة إما معطوفة على : وهم يصدون فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ، أو على قوله : وما كانوا أولياءه فيكون تقريرا لعدم استحقاقهم لولايته .

    قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذا الكلام ؟ قلت : هو نحو من قوله ـ أي : ( الفرزدق ) ـ :


    وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا


    والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء ، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة .

    [ ص: 2990 ] وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء ، وهم مشبكون بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفقون .

    وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته ، ويخلطون عليه .

    ما كنت أخشى ، أي : ما كنت أعلم . وأداهم : جمع ( أدهم ) ، وهو الأسود من الحيات . والعرب تذكر ( الأدهم ) ، وتريد به ( القيد ) ، كما في قصة القبعثرى .

    والمحدرجة : السياط . انتهى .

    فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أي : اعتقادا وعملا ، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت كفر ، للاستهانة بشعائره تعالى والسخرية بها .

    والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي ، كما قاله غير واحد من السلف واختاره ابن جرير .

    تنبيه :

    قال ابن القيم في ( " إغاثة اللهفان " ) : المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق ، والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة ، أشباه هؤلاء المشركين ، قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة ، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية ، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار . وهذا كقولك : زرته فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة .

    والمقصود أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه ، فيهم شبه من هؤلاء ، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر ، فلهم قسط من الذم ، بحسب تشبههم بهم ، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم ، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر ، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح ، لئلا يتشبهوا بالنساء ، فكيف إذا فعلوه ، لا لحاجة ، وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا وفعلا . انتهى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #374
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 2991 الى صـ 3005
    الحلقة (373)



    [ ص: 2991 ] وقال قبله : ومن مكائد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين ، سماع المكاء والتصدية ، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان .

    وقال شيخه تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى ، في بعض فتاويه : وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والاجتماع على ذلك ، دينا وطريقا إلى الله وقربة ، فهذا ليس من دين الإسلام ، وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين ، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عهد أصحابه ، ولا تابعيهم بإحسان ، ولا تابعي التابعين ، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة ، لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع ، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة ، ولهذا قال الشافعي - لما رأى ذلك - : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه ( التغبير ) ، يصدون به الناس عن القرآن ، وسئل عنه أحمد فقال : أكرهه ، هو محدث . قيل ، أتجلس معهم ؟ قال : لا ! وكذلك كرهه سائر أئمة الدين ، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه ، فلم يحضره مثل إبراهيم بن أدهم ، ولا الفضيل بن عياض ، ولا معروف الكرخي ، ولا أبو سليمان الداراني ولا أحمد بن أبي الحواري ، ولا السري السقطي ، وأمثالهم .

    والذين حضروه من الشيوخ من المحمودين ، تركوه في آخر أمرهم ، وأعيان المشايخ عابوا أهله ، كما ذكر ذلك الشيخ عبد القادر ، والشيخ أبو البيان وغيرهما من الشيوخ ، وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنهم أنه من إحداث الزنادقة ، من كلام إمام خبير بأصول الإسلام ، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ، ويدعو إليه في الأصل ، إلا من هو متهم بالزندقة ، كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم .

    [ ص: 2992 ] ثم قال رحمه الله : نعم ! قد حضره أقوام من أهل الإرادة والمحبة ، ومن له نصيب في المحبة ، لما فيه من التحريك لهم ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته ، كما دخل قوم من الفقهاء في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظنا منهم أنه حق موافق ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته ، فإن القيام بحقائق الدين علما وقولا وعملا وذوقا وخبرة لا يستقل به أكثر الناس ، ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة .

    ثم قال رحمه الله : ومن كان له خبرة بحقائق الدين ، وأحوال القلوب ، ومعارفها وأذواقها ، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة ، إلا وفي ضمن ذلك من المفسدة ما هو أعظم منه ، فهو للروح كالخمر للجسد ، يفعل في النفوس أعظم ما تفعله حميا الكؤوس . ثم قال : وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يقرب إلى الجنة ، إلا وقد حدث به ، ولا شيئا يبعد عن النار ، إلا وقد حدث به ، وإن هذا السماع لو كان مصلحة ، لشرعه الله ورسوله ، فإن الله يقول : اليوم أكملت لكم دينكم الآية .

    وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ، ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، لم يلتفت إليه . كما أن الفقيه إذا رأى قياسا لا يشهد له الكتاب والسنة ، لم يلتفت إليه انتهى .

    وقد سلف لنا شيء من هذا البحث عند قوله تعالى : فاذكروني أذكركم فليراجع .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 36 ] إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون .

    إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون [ ص: 2993 ] نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين ، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق ، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عني بها المطعمون منهم يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا من قريش ، يطعم كل واحد منهم ، كل يوم عشرة جزر .

    وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان ، ونفقته الأموال في ( أحد ) لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    روى محمد بن إسحاق عن الزهري أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان ، ومن كانت له في تلك العير تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ، ففعلوا . قال : ففيهم ـ كما ذكر عن ابن عباس ـ أنزلت الآية . ولا يخفى شمول الآية لجميع ذلك .

    واللام في ليصدوا لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل ، لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع ، وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم .

    وسبيل الله طريقه وهو دينه ، واتباع رسوله ، ولما تضمن الموصول معنى الشرط ، والخبر بمنزلة الجزاء ، وهو : فسينفقونها اقترن بالفاء ( ينفقون ) إما حال ، أو بدل من : ( كفروا ) وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار ، التوبيخ على الإنفاق ، والإنكار عليه ، كما في قوله : وما بكم من نعمة فمن الله

    وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء ، الدلالة على كمال سوء الإنفاق ، كما في قوله : إنك من تدخل النار فقد أخزيته وقولهم : من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى ، والمعنى : الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله ، والصد عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، سيعلمون عن قريب سوء [ ص: 2994 ] مغبة ذلك الإنفاق ، وانقلابه إلى أشد الخسران ، من القتل والأسر في الدنيا ، والنكال في العقبى : قال المتنبي :


    إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا


    ( والأذى هنا المن )

    وفي جعل ذات الأموال تصير : حسرة أي : ندما وتأسفا - وهي عاقبة أمرها - مبالغة .

    والمراد بالغلبة في قوله : ثم يغلبون الغلبة التي استقر عليها الأمر ، وإن كانت الحرب بينهم سجالا قبل ذلك . فإن قلت : غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم ، بالزمان ، فلم أخرت بالذكر ؟

    قلت : المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك . كذا في ( " العناية " ) .

    تنبيه :

    قال بعضهم: ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى ، وأن الإنفاق في ذلك معصية ، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم ، وكذلك بيع السلاح والكراع ، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين .

    والذين كفروا إلى جهنم يحشرون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 37 ] ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون .

    ليميز الله الخبيث من الطيب أي : الكافر من المؤمن ، أو الفساد من الصلاح . واللام متعلقة بـ : يحشرون أو : يغلبون أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما أنفقه المسلمون في نصرته ، واللام متعلقة بقوله : ثم تكون عليهم حسرة ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم

    أي : فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض ، حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم ، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ، [ ص: 2995 ] ليزيد به عذابه كمال الكانزين .

    أولئك إشارة إلى الخبيث ، لأنه مقدر بالفريق الخبيث ، أو إلى المنفقين : هم الخاسرون لخسرانهم أنفسهم وأموالهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 38 ] قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين .

    قل للذين كفروا يعني أبا سفيان وأصحابه ، فالتعريف فيه للعهد أو للجنس ، فيدخل هؤلاء دخولا أوليا إن ينتهوا أي : عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم : يغفر لهم ما قد سلف أي : من الكفر والمعاصي وإن يعودوا إلى قتاله : فقد مضت سنت الأولين أي : الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير ، أو الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر .

    وقوله : فقد مضت إلخ دليل الجزاء ، والتقدير : انتقمنا منهم فقد مضت ......... إلخ .

    تنبيه :

    استدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله ، كما جاء في الحديث وأن الكافر إذا أسلم ، لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس .

    وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب ، لعموم الآية ، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبي عليه قبل إسلامه .

    أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك : لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم ، ولم يعد طلاقهم شيئا ، لأن الله تعالى قال : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف كذا في ( " الإكليل " ) .
    [ ص: 2996 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 39 ] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير .

    وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي : شرك أو إضلال لغيرهم ، وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم ويكون الدين كله لله أي : يخلص التوحيد لله ، فلا يعبد غيره فإن انتهوا أي : عن الكفر والمعاصي ظاهرا : فإن الله بما يعملون أي : ببواطنهم بصير أي : فيجازيهم ، وعليه حسابهم ، فكفوا عنهم ، وإن لم تعلموا ببواطنهم . كقوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم الآية ، وفي الآية الأخرى : فإخوانكم في الدين

    وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل » .

    وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة : لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ، فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لأسامة : « أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ، فكيف نصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ » فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوذا ، فقال : « هلا شققت عن قلبه » ؟ وجعل يقول ويكرر عليه : « من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة » ؟ قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ .
    [ ص: 2997 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 40 ] وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير .

    وإن تولوا أي : أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا فاعلموا أن الله مولاكم أي : ناصركم ومعينكم ، فثقوا بولايته ونصرته نعم المولى فلا يضيع من تولاه ونعم النصير فلا يغلب من نصره .

    ثم بين تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به ، وهو الغنائم ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 41 ] واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنـزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير .

    واعلموا أنما غنمتم من شيء أي : قل أو كثر من الكفار فأن لله أي : الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة خمسه شكرا له على نصره وإعطائه الغنيمة وللرسول أي : الذي هو الأصل في أسباب النصر ولذي القربى وهم بنو هاشم والمطلب واليتامى أي : من مات آباؤهم ولم يبلغوا ، لأنهم ضعفاء ، والمساكين لأنهم أيضا ضعفاء كاليتامى وابن السبيل وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق ويريد الرجوع إلى بلده ، ولا يجد ما يتبلغ به .

    وفي هذه الآية مسائل :

    الأولى : قال الفقهاء : ( الغنيمة ) المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب ، أي : ما ظهر عليه المسلمون بالقتال . وهل هي والفيء والنفل شيء واحد أو لا ؟ وسنفصله في آخر المسائل .

    [ ص: 2998 ] الثانية : ( ما ) في : ( أنما ) بمعنى الذي والعائد محذوف ، وكان حقها - على أصولهم - أن تكتب مفصولة .

    قال الشهاب : وقد أجيز في ( ما ) هذه أن تكون شرطية .

    الثالثة : قوله تعالى : من شيء بيان للموصول ، محله النصب ، على أنه حال من عائد الموصول ، قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة ، وألا يشذ عنها شيء ، أي : ما غنمتموه كائنا ما كان يقع عليه اسم الشيء ، حتى الخيط والمخيط .

    الرابعة : ( الخمس ) بضم الميم ، وسكونها ، لغتان قد قرئ بهما .

    الخامسة : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى ، وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .

    هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر .

    ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان .

    والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤونة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين .

    ومنهم من يقول : يسوى بين الفرس العربي والهجين في هذا ، الهجين يسمى البرذون والأكديش .

    ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحد ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها .

    وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رأى أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : ثكلتك أمك ابن أم [ ص: 2999 ] سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم . كذا في ( " السياسة الشرعية " ) لابن تيمية .

    في ( " زاد المعاد " ) لابن القيم : كان صلى الله عليه وسلم إذا ظفر بعدوه ، أمر مناديا فجمع الغنائم كلها ، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها ، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه الله وأمره به من مصالح الإسلام ، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد ، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش : للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ، وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة .

    وقيل : بل كان النفل من الخمس ، وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه ، بين سهم الراجل والفارس ، فأعطاه خمسة أسهم ، لعظم غنائه في تلك الغزوة .

    قال ابن تيمية : وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس ، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر .

    السادسة : ذهب الجمهور إليه أن ذكر الله تعالى في قوله : فأن لله للتعظيم ، أي : تعظيم الرسول ، كما في قوله تعالى : والله ورسوله أحق أن يرضوه أو لبيان أنه لا بد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى ، وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه ، وتمسك بعضهم بظاهر ذلك ، فأوجب سهما سادسا لله تعالى ، يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة قال : لأن كلام الحكيم لا يعرى عن الفائدة ، ولأنه ثبت اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى : وفي سبيل الله فكذا هنا .

    وهذا مروي عن أبي العالية ، والربيع والقاسم وأسباطه ويؤيد ما للجمهور ، ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بوادي القرى ، وهو معترض فرسا ، فقلت : يا رسول الله ! ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : « لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش » . قلت : فما أحد أولى به [ ص: 3000 ] من أحد ؟ قال ، « لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم » . ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ؟

    السابعة : خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له ، كان أمره في حياته مفوضا إليه ، يتصرف فيه بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء .

    روى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم ، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتناول وبرة بين أنملتيه فقال : « إن هذه من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس ، في الله تبارك وتعالى ، القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم » .

    قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .

    وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : « ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود عليكم » - واستدل به على أنه عليه الصلاة والسلام كان يصرفه لمصالح المسلمين .

    [ ص: 3001 ] وكان له صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه ، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك ، رواه أبو داود عن محمد بن سيرين والشعبي مرسلا ، وأحمد والترمذي عن ابن عباس .

    وللعلماء فيما يصنع بخمسه صلى الله عليه وسلم من بعده مذاهب :

    فمن قائل : يكون لمن يلي الأمر من بعده ، قال ابن كثير : روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة . وجاء فيه حديث مرفوع .

    ومن قائل : يصرف في مصالح المسلمين ، قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح .

    ومن قائل : بأنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم .

    ومن قائل : بأنه مردود على بقية الأصناف : ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . واختاره ابن جرير . وللمسألة حظ من النظر .

    الثانية : أجمعوا على أن المراد ( بذوي القربى ) قرابته صلى الله عليه وسلم .

    وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة ، لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية ، وفي أول الإسلام ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحماية له ، مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حمية للعشيرة ، وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وإن كانوا ابني عمهم ، لم يوافقوهم ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول ، ولهذا كان ذمهم أبو طالب في قصيدته بقوله منها :

    [ ص: 3002 ]
    جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجلا غير آجل


    ( نوفل : هو ابن خويلد ، كان من شياطين قريش ، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر ) .


    بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل


    ( لا يخيس ، من قولهم : خاس بالعهد إذا نقضه وأفسده . والعائل : الحائر ) .


    لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا والغياطل


    ( قيضا : عوضا ، والغياطل : بنو سهم ) .


    ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصي في الخطوب الأوائل


    ( الصميم : الخالص من كل شيء ، والذؤابة : الجماعة العالية ، وأصله الخصلة من شعر الرأس ) .

    وقال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل : مشيت أنا وعثمان بن عفان ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك ؟ فقال : « إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد » . - رواه مسلم .

    وفي رواية : أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام - أفاده ابن كثير - .

    وقد روي عن ابن عباس وزين العابدين والباقر أنه يسوى في العطاء بين غنيهم وفقيرهم ، ذكورهم وإناثهم ، لأن اسم القرابة يشملهم ، ولأنهم عوضوه لما حرمت عليهم الزكاة ، وقياسا على المال المقر به لبني فلان .

    واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة ، فأشبه الميراث . قال : فللذكر منه مثل حظ الأنثيين . انتهى .

    وقال في ( " العناية " ) : إنه كان لعبد مناف ـ جد النبي صلى الله عليه وسلم ـ خمس بنين : هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب وأبو عمرو ، وكلهم أعقبوا إلا أبا عمرو .

    التاسعة : سهم اليتامى : قيل يخص به فقراؤهم ، وقيل : يعم الأغنياء والفقراء ، [ ص: 3003 ] حكاه ابن كثير . والأظهر الثاني ، والسر فيه ما قدمناه في سورة البقرة ، فتذكره فإنه مهم .

    العاشرة : المساكين : المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ويكفيهم ، وابن السبيل : ذكرنا معناه أولا .

    الحادية عشرة : قال بعضهم : يقتضي ما ذكر في هذه الآية وما في صدر هذه السورة من الأنفال ، وما في سورة الحشر من قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله

    أن القسمة في الأموال المظفور بها ثلاثية : نفل : وغنيمة ، وفيء ، ويقتضي إطلاق جعل النفل لله ولرسوله ، والغنيمة لمن ذكر مخمسة ، والفيء لمن ذكر بلا قيد . التخميس أن لكل من الثلاثة حكما يخالف الآخر ، وإن النفل ما يعطى لمن له من العناية والمقاتلة ما ليس لغيره ، وفاء لعدته بذلك ، قبل إحراز الغنيمة كالسلب ، وإن الغنيمة ما أحرز بالقتال ، سوى ما شرط التنفيل به ، لأنه لا يخمس ، والفيء ما أخذ من الكفار بغير قتال ، كالأموال التي يصالحون عليها ، والجزية والخراج ، ونحو ذلك ، وإلى هذا التفصيل ذهب الجمهور .

    وذهب بعضهم إلى اتحاد الثلاثة ، وعدم التفرقة بينها ، وإلى دخولها في الغنيمة ، وقال : ما أطلق في آية الأنفال ، وآية الحشر ، مقيد بآية الغنيمة هذه . وهذا هو مراد قول بعضهم : إنهما منسوختان بهذه ، بمعنى أن إطلاقهما مقيد بهذه ـ والله أعلم ـ .

    وقوله تعالى : إن كنتم آمنتم بالله أي : فاعملوا بما ذكر ، وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب العمل بالعلم ، والرضا بالحكم .

    وقد جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، في حديث وفد عبد القيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : « وآمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله » . [ ص: 3004 ] ثم قال : « هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم » ، الحديث - فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوب البخاري على ذلك في باب الإيمان من صحيحه ، فقال : ( باب أداء الخمس من الإيمان ) ، وساق الحديث المذكور .

    وقوله تعالى : وما أنـزلنا معطوف على : ( بالله ) أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا أي : محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : من الآيات والملائكة والنصر ، يوم الفرقان أي : يوم بدر ، فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . و ( الفرقان ) بمعناه اللغوي ، والإضافة فيه للعهد يوم التقى الجمعان يعني جمع المؤمنين وجمع الكافرين ، فالتعريف للعهد ، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، والمؤمنون يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشرة رجلا ، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثل ذلك .

    والله على كل شيء قدير فيقدر على نصر القليل على الكثير ، كما فعل بكم يوم بدر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 42 ] إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم .

    إذ أنتم بدل من يوم الفرقان أو ظرف لمحذوف ، أي : اذكروا إذ أنتم يا معشر المؤمنين بالعدوة الدنيا يعني بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، وهم يعني [ ص: 3005 ] المشركين أبا جهل وأصحابه بالعدوة القصوى أي : البعدى عن المدينة ، مما يلي مكة والركب أسفل منكم أي : العير التي فيها أبو سفيان ، بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها ، أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من ( بدر ) .

    لطيفة :

    قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم ؟ قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتياث أمرهم ، وأن غلبتهم في مثل هذا الحال ، ليست إلا صنعا من الله سبحانه ، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته ، وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبار - ( ما لان من الأرض واسترخى ) ـ تسوخ فيه الأرجل ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة ، وكانت العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذب عن الحريم ، والغيرة على الحرب ، على بذل جهيداهم في القتال ، وألا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ، ويضبط همومهم ، ويوطن نفوسهم ، على ألا يبرحوا موطنهم ، ولا يخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى نجدتهم ، وقصارى شدتهم ، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر ، ليقضي أمرا كان مفعولا ، من إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين ، مبهمة غير مبينة ، حتى خرجوا ليأخذوا العير ، راغبين في الخروج ، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم ، حتى نفروا ليمنعوا غيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا ، وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب على ساق ، وكان ما كان ، انتهى .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #375
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 3006 الى صـ 3020
    الحلقة (374)



    [ ص: 3006 ] قال الناصر في ( " الانتصاف " ) : وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري ، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز .

    وقوله تعالى : ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد أي : ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لخالف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم ، على الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له . قاله الزمخشري .

    وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .

    وروى ابن جرير عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة وشهد الناس بعضهم إلى بعض .

    ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا أي : ولكن جمع بينكم على هذه الحال على غير ميعاد ، ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، من غير ملأ منكم .

    وقوله : كان مفعولا أي : حقيقا بأن يفعل ، وقيل : ( كان ) بمعنى ( صار ) ، أي : صار مفعولا ، بعد أن لم يكن ، وقيل : إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى .

    وقوله تعالى : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة أي : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع حجة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهرا ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك ، أي : يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره ، أنه مبطل لقيام الحجة عليه ، ويؤمن من آمن عن حدة وبصيرة ويقين ، بأنه دين الحق ، الذي يجب [ ص: 3007 ] الدخول فيه ، والتمسك به .

    وذلك أن ما كان من وقعة ( بدر ) ، من الآيات الغر المحجلة ، التي من كفر بعدها ، كان مكابرا لنفسه ، مغالطا لها .

    لطائف :

    الأولى : قوله تعالى : ليهلك بدل من : ( ليقضي ) أو متعلق بـ : ( مفعولا ) .

    الثانية : الحياة والهلاك استعارة للكفر والإسلام ، وقرئ : ( ليهلك ) بفتح اللام .

    الثالثة : ( حي ) يقرأ بتشديد الياء ، وهو الأصل ، لأن الحرفين متماثلان متحركان ، فهو مثل شد ومد ، ومنه قول عبيدة بن الأبرص :


    عيوا بأمرهم كما عيت ببيضتها الحمامه


    ويقرأ بالإظهار وفيه وجهان :

    أحدهما : أن الماضي حمل على المستقبل ، وهو ( يحيا ) ، فكما لم يدغم في المستقبل ، لم يدغم في الماضي ، وليس كذلك شد ومد ، فإنه يدغم فيهما جميعا .

    والوجه الثاني : أن حركة الحرفين مختلفة ، فالأولى مكسورة ، والثانية مفتوحة ، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين ، ولذلك أجازوا في الاختيار : لححت عليه ، وضبب البلد ، إذا كثر ضبه ، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة ، فكأن الياء الثانية : ساكنة ، ولو سكنت لم يلزم الإدغام ، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن ، والياآن أصل ، وليست الثانية بدلا من ( واو ) ، فأما الحيوان ، ف ( الواو ) فيه بدل من ( الياء ) . وأما الحواء ، فليس من لفظ ( الحية ) ، بل من ( حوى يحوي ) إذا جمع - قاله أبو البقاء - .

    وإن الله لسميع عليم أي : بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه .

    وقوله تعالى :
    [ ص: 3008 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 43 ] إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور .

    إذ يريكهم الله في منامك قليلا منصوب بـ ( اذكر ) ، أو بدل آخر من ( يوم الفرقان ) ، وذلك أن الله عز وجل أراه إياهم في رؤياه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه ، فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم : ولو أراكهم كثيرا لفشلتم أي : لجبنتم وهبتم الإقدام .

    ولتنازعتم في الأمر أي : أمر الإقدام والإحجام ، فتفرقت كلمتكم ، ولكن الله سلم أي : عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته إنه عليم بذات الصدور أي : يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع . ولذلك دبر ما دبر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 44 ] وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور .

    وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا وذلك تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به ، فيزداد يقينهم ، ويجدوا ، ويثبتوا .

    قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ! فأسرنا رجلا منهم ، فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفا ! - رواه ابن أبي حاتم وابن جرير - .

    ويقللكم في أعينهم أي : في اليقظة ، حتى قال أبو جهل : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، مثل في القلة ، ( كأكلة رأس ) ، أي : أنهم لقلتهم يكفيهم ذلك .

    و ( أكلة ) بوزن ( كتبة ) ، جمع ( آكل ) ، بوزن فاعل ، والجزور الناقة ، كذا في ( " العناية " ) .

    ليقضي الله أمرا أي : من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام ، وكذب دين الكفر .

    كان مفعولا أي : كالواجب فعله على الحكيم ، لما فيه من الخير الكثير . قاله المهايمي .

    [ ص: 3009 ] لطائف :

    الأولى : قال الزمخشري : فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم ؟

    قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترئوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة ، فيبهتوا ويهابوا ، وتفل شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : يرونهم مثليهم رأي العين ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا .

    الثانية : قال الزمخشري أيضا : فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلا ؟ قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين - وكان بين يديه ديك واحد - فقال : ما لي لا أرى هذين الديكين أربعة ؟ انتهى .

    قال الناصر في ( " الانتصاف " ) : وفي هذا - يعني كلام الزمخشري - دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة ، أو قرب ، أو ارتفاع حجب ، أو غير ذلك ، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا ، لما أمكن أن يستر عنهم البعض ، وقد أدركوا البعض ، والسبب الموجب مشترك .

    فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك مع اجتماعها ، فلا ربط إذن بين الروية ونفيها في مقدرة الله تعالى ؟ وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى ، بناءا على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا ، وأنها تستلزم الجسمية ، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم .

    فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم ، ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون . والله الموفق .

    الثالثة : لا يقال : إن قوله تعالى : ليقضي الله أمرا كان مفعولا مكرر مع ما سبق . [ ص: 3010 ] لأنا نقول : إن المقصود من ذكره أولا هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم ، والمقصود منه هاهنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين المشركين ، ثم تكثيرهم للحكمة المتقدمة .

    وفي قوله تعالى : وإلى الله ترجع الأمور تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد .

    ثم أرشد تعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ، ومبارزة الأعداء ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 45 ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .

    يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا أي : إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم واصبروا على مبارزتهم ، فلا تفروا ولا تجبنوا ولا تنكلوا ، وتفسير ( اللقاء ) ب ( الحرب ) لغلبته عليه ، كالنزال ولم يصف الفئة بأنها كافرة ، لأنه معلوم غير محتاج إليه .

    واذكروا الله كثيرا أي : في مواطن الحرب ، مستظهرين بذكره مستنصرين به ، داعين له على عدوكم لعلكم تفلحون أي : تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة .

    وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه ، التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس فقال : « يا أيها الناس ! لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف » .

    [ ص: 3011 ] ثم قال : « اللهم !منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم »
    .

    وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه ، أشغل ما يكون قلبا ، وأكثر ما يكون هما ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ، ويقبل إليه بكليته ، فارغ البال ، واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال . . .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 46 ] وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين .

    وأطيعوا الله ورسوله أي : في كل ما يأمران به وينهيان ، وهذا عام والتخصيص بالذكر هنا فيه تأكيد : ولا تنازعوا أي : باختلاف الآراء ، أو فيما أمرتم به فتفشلوا أي : تجبنوا ، إذ لا يتقوى بعضكم ببعض .

    وتذهب ريحكم أي : قوتكم وغلبتكم ، ونصرتكم ودولتكم ، شبه ما ذكر في نفوذ الأمر وتمشيته بالريح وهبوبها ، ويقال : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، قال :


    إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون

    ولا تغفل عن الإحسان فيها
    فما تدري السكون متى يكون


    واصبروا أي : على شدائد الحرب ، وعلى مخالفة أهويتكم الداعية إلى التنازع ، فالصبر مستلزم للنصر إن الله مع الصابرين أي : بالنصر .

    قال ابن كثير رحمه الله : وقد كان للصحابة رضي الله عنهم ، وفي باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله ، وامتثال ما أرشدهم إليه ، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ولا يكون لأحد من بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا ، وفي المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، [ ص: 3012 ] من الروم والفرس والترك ، والصقالبة والبربر والحبوش ، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم ، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين .

    تنبيه :

    قال بعض المفسرين في قوله تعالى : ولا تنازعوا أي : لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد ، بل ليتفق رأيكم .

    قال : ولقائل أن يقول : استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبر أمرهم . ويقطع اختلافهم ، فإن بلزوم طاعته ، ينقطع الاختلاف ، وقد فعله صلى الله عليه وسلم في السرايا ، وقال : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم عبد حبشي . انتهى .

    ولما أمر تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند اللقاء ، أمرهم بالإخلاص فيه ، بنهيهم عن التشبه بالمشركين ، في انبعاثهم للرياء ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 47 ] ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط .

    ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا أي : فخرا بالشجاعة : ورئاء الناس أي : طلبا للثناء بالسماحة والشجاعة ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط أي : لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه ، وقد أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا ، فقد سلمت عيركم ، فأبوا ، وقالوا : لا نرجع حتى نأتي بدرا ، فننحر بها الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا فيه القيان ، وتسمع بنا العرب ، فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم ، فوافوها ، فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، أي : لا يكن أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس ، وأخلصوا لله [ ص: 3013 ] النية والحسبة ، في نصر دينكم ، ومؤازرة نبيكم ، لا تعملوا إلا لذلك ، ولا تطلبوا غيره .

    و ( الرئاء ) مصدر ( راءى ) ، إذا أظهر العمل للناس ليروه غفلة عن الخالق ، وقد يقال راياه مراياة ورياء ، على القلب .

    و : بطرا ورئاء إما مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال .

    و ( يصدون ) إما حال ، بتأويل اسم الفاعل ، أو بجعله مصدر فعل هو حال ، وإما مستأنف .

    ونكتة التعبير بالاسم أولا ثم الفعل ، الإعلام بأن البطر والرياء دأبهم ، بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 48 ] وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب .

    وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم أي : في معاداة الرسول والمؤمنين ، بأن وسوس إليهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس أي : من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإني جار لكم أي : مجير ومعين لكم فلما تراءت الفئتان أي : تلاقتا ، وتراءت كل واحدة صاحبتها ، فرأى الملائكة نازلة من السماء لإمداد المؤمنين ، نكص على عقبيه أي : ولى هاربا قفاه : وقال إني بريء منكم أي : من عهد جواركم إني أرى أي : من الملائكة النازلة لإمداد المؤمنين ما لا ترون إني أخاف الله أي : أن يعذبني قبل يوم القيامة والله شديد العقاب أي : فلا يبعد مع إمهالي إلى القيامة ، أن يعذبني لشدة عقابه .

    تنبيه :

    ذكروا في التزيين وجهين :

    أحدهما : أن الشيطان وسوس لهم من غير تمثيل ، في صورة إنسان ، وهو مروي عن [ ص: 3014 ] الحسن والأصم .

    فالقول على هذا مجاز عن الوسوسة ، والنكوص وهو الرجوع استعارة لبطلان كيده .

    وثانيهما : أنه ظهر في صورة إنسان ، لأنهم لما أرادوا المسير إلى بدر ، خافوا من بني كنانة ، لأنهم كانوا قتلوا رجلا ، وهم يطلبون دمه ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتمثل إبليس اللعين في صورة سراقة الكناني ، وقال : أنا جاركم من بني كنانة ، فلا يصل إليكم مكروه منهم . فقوله ( إني جار لكم ) على الحقيقة .

    وقال الإمام : معنى ( الجار ) هنا الدافع للضرر عن صاحبه ، كما يدفع الجار عن جاره . والعرب تقول : أنا جار لك من فلان ، أي : حافظ لك ، مانع منه . وهذا القول الثاني ذهب إلى جمهور المفسرين .

    روى مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ ، منه في يوم عرفة » .

    وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام . إلا ما رأى يوم بدر ، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة .

    قال الإمام : وكان في تغيير صورة ( إبليس ) إلى صورة ( سراقة ) معجزة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغتني هزيمتكم ، فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة ، بل كان شيطانا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 49 ] إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم .

    إذ يقول المنافقون أي : بالمدينة ، و ( إذ ) منصوب ب ( اذكر ) مقدرا ، أو [ ص: 3015 ] ب ( زين ) والذين في قلوبهم مرض يجوز أن يكون من صفة المنافقين ، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، لأن هذه صفة للمنافقين ، لا تنفك عنهم .

    قال تعالى : في قلوبهم مرض أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو : أعجبني زيد وكرمه .

    ويجوز أن يراد : الذين هم على حرف ، ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام .

    وعن الحسن : هم المشركون .

    غر هؤلاء يعنون المؤمنين دينهم فظنوا أنهم ينصرونهم به على أضعافهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم أي : من يعتمد عليه سبحانه وتعالى فإنه ينصره على أضعافه ، بالغين ما بلغوا ، لأنه عزيز غالب على ما أراد ، وهو يريد نصر أوليائه ، حكيم وحكمته تقتضي نصرهم . وهو جواب لهم من جهته تعالى ، ورد لمقالتهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 50 ] ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق .

    ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا أي : يقبض أرواحهم ( الملائكة ) أي : ملائكة القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم يضربون وجوههم لإعراضهم عن الحق ، ولهيآت الكبر والعجب والنخوة فيها : وأدبارهم لميلهم إلى الباطل ، وشدة انجذابهم إليه ، ولهيئات الشهوة والحرص والشره وذوقوا عذاب الحريق عطف على ( يضربون ) بإضمار القول ، أي : ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة . وجواب ( لو ) محذوف ، لتفظيع الأمر وتهويله .

    وقال ابن كثير : وهذا السياق ، وإن كان سببه وقعة بدر ، ولكنه عام في حق كل كافر . وفي سورة القتال مثل هذه الآية ، وتقدم في الأنعام نحوها ، وهو قوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أي : بالضرب فيهم بأمر ربهم .
    [ ص: 3016 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 51 ] ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد .

    ذلك إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذاب بما قدمت أيديكم أي : ما كسبتم من الكفر والمعاصي وأن الله ليس بظلام للعبيد أي : بأن يأخذهم بلا جرم .

    فإن قيل : ما سر التعبير ب ( ظلام ) بالمبالغة ، مع أن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ، ونفي الكثرة لا ينفي أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وبرجوع النفي للقيد ؟

    وأجيب بأجوبة :

    منها : أنه نفي لأصل الظلم وكثرته ، باعتبار آحاد من ظلم ، كأنه قيل : ظالم لفلان ولفلان وهلم جرا ، فلما جمع هؤلاء عدل إلى ( ظلام ) لذلك ، أي : لكثرة الكمية فيه .

    ومنها : أنه إذا انتفى الظلم الكثير ، انتفى الظلم القليل ، لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره ، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا .

    ومنها : أن ( ظلاما ) للنسب ، ك ( مطار ) ، أي : لا ينسب إليه الظلم أصلا .

    ومنها : أن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب ، فلو كان تعالى ظالما ، كان ظلاما ، فنفى اللازم ، لنفي الملزوم .

    ومنها : أن في ( الظلام ) لنفي الظالم ، ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله ، فجعل نفي المبالغة كناية عن نفي أصله ، انتقالا من اللازم إلى الملزوم .

    ومنها : أن العذاب من العظم بحيث ، لولا الاستحقاق ، لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه ، فالمراد تنزيهه تعالى ، وهو جدير بالمبالغة .

    وأيضا لو عذب تعالى عبيده بدون استحقاق وسبب ، لكان ظلما عظيما ، لصدوره عن العدل الرحيم . كذا في ( " العناية " ) .

    [ ص: 3017 ] وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول : « إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا ، يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » . والحديث طويل جليل ، معروف عند المحدثين ، بالحديث المسلسل بالدمشقيين .

    ثم بين تعالى أن سير المشركين المستمر وعادتهم الدائمة ، مع ما أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم كسير الأمم السالفة مع رسلهم ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 52 ] كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب .

    كدأب آل فرعون والذين من قبلهم خبر لمقدر ، أي : دأب هؤلاء كدأب آل فرعون وممن تقدمهم من الأمم ، كقوم نوح ، وهو عملهم الذي دأبوا ، أي : استمروا عليه ، ثم فسره فقال : كفروا بآيات الله فأخذهم الله أي : قبل يوم القيامة : بذنوبهم أي : كما أخذ هؤلاء ، لأنهم اجترءوا على معاصيه بما رأوا لأنفسهم من القوة فضعفهم إظهارا لقوته .

    إن الله قوي شديد العقاب قال المهايمي : تأخير العذاب إنما يكون للرحمة ، لكنه لما اشتد عنادهم اشتد غضبه ، لأنه شديد العقاب لمن اشتد عناده معه ، فلا يكون في حقه رحمة .
    [ ص: 3018 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 53 ] ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم .

    ذلك أي : التعذيب الذي علم كونه مؤاخذة بالذنوب بأن الله أي : بسبب أنه تعالى : لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم بتبديله إياها بالنقمة

    حتى يغيروا ما بأنفسهم من وجبات تلك النعم من اعتقاد أو قول أو علم .

    وهذا إخبار عن تمام عدله وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كقوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

    قال القاشاني : كل ما يصل إلى الإنسان هو الذي يقتضيه استعداده ، ويسأله بدعاء الحال ، وسؤال الاستحقاق .

    فإذا أنعم على أحد النعمة الظاهرة أو الباطنة لسلامة الاستعداد ، وبقاء الخيرية فيه لم يغيرها حتى أفسد استعداده ، وغير قبوله للصلاح ، بالاحتجاب وانقلاب الخير الذي فيه بالقوة إلى الشر ، لحصول الرين وارتكام الظلمة فيه ، بحيث لم يبق له مناسبة للخير ، ولا إمكان لصدوره منه ، فيغيرها إلى النقمة عدلا منه وجودا ، وطلبا من ذلك الاستعداد إياها بجاذبة الجنسية والمناسبة ، لا ظلما وجورا . انتهى .

    وأن الله سميع عليم أي : فيغير إذا غيروا ، غضبا عليهم بما يسمع منهم أو يعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 54 ] كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين .

    كدأب آل فرعون والذين من قبلهم فكان مبدأ تغييرهم أنهم : كذبوا بآيات ربهم [ ص: 3019 ] أي : الذي رباهم بالنعم ، فصرفوها إلى غير ما خلقت له بمقتضى تلك الآيات ، فكانت ذنوبا فأهلكناهم أي : زيادة على سلبه النعم بذنوبهم أي : بما صرفوا بها النعم إلى غير ما خلقت له وأغرقنا آل فرعون لإغراقهم النعم في بحر الإنكار بنسبتها إلى فرعون حيث أقروا بآلهيته وكل أي : من الفرق المكذبة الكافرة ، أو من آل فرعون ومن قبلهم ، وكفار قريش .

    كانوا ظالمين أي : بصرف النعم إلى غير ما خلقت له ، وهو نوع من الإغراق لها في بحر الإنكار لأنه مرجع التغيير لها . كذا أول المهايمي .

    وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهم من التكرار في الآيتين ، بتغير التشبيهين فيهما ، فلا يحتاج إلى دعوى التأكيد ، فمعنى الأول : حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر ، فأخذهم وآتاهم العذاب ، ومعنى الثاني : حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم ، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير ، وهو أنه أغرقهم .

    وقيل : إن النظم يأباه ، لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب ، فينبغي أن يكون وجهه في الثاني قوله : ( كذبوا ) لأنه مثله ، إذ كل منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه ، صالحة لأن تكون وجه الشبه ، فتحمل عليه كقوله تعالى :

    إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وأما قوله : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة فكالتعليل لحلول النكال ، معترض بين التشبيهين ، غير مختص بقوم ، فجعله وجها للتشبيه بعيد عن الفصاحة . كذا في ( " العناية " ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 55 ] إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون .

    إن شر الدواب عند الله الذين كفروا أي : أصروا على كفرهم ورسخوا فيه : فهم لا يؤمنون أي : فلا يتوقع منهم إيمان .
    [ ص: 3020 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 56 ] الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون .

    الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون أي : لا يخافون عاقبة الغدر ، ولا يبالون بما فيه من العار والنار .

    تنبيهات :

    الأول : قال المهايمي : أشار تعالى إلى أنه كيف يترك نعمه على من غير أحواله التي كانت أسباب النعم ، وقد كان بها إنسانيته ، فبتغييرها لحق بالدواب ، وبإنكار المنعم صار شرا منها ، والنعم تسلب ممن لا يعرف قدرها ، فكيف لا تسلب ممن ينكر المنعم ؟ .

    الثاني : دلت الآية على جواز تحقير العصاة ، والاستخفاف بهم ، حيث سماهم تعالى ( دواب ) ، وأخبر أنهم ( شر الدواب ) .

    الثالث : قالوا : نزلت الآية في يهود بني قريظة ، رهط كعب بن الأشرف ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان عاهدهم ألا يحاربوه ، ولا يعاونوا عليه ، فنقضوا العهد ، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضا . ومالؤوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    الرابع : ( الذين ) بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان له ، أو نصب له على الذم . وضمن عاهدت معنى الأخذ ، حتى عدي ب ( من ) ، أي : أخذت منهم عهدهم .

    وقيل : ( من ) صلة ، وقال أبو حيان : هي للتبعيض ، لأن المباشر بالذات للمعاهدة بعض القوم ، وهي الرؤساء والأشراف .

    الخامس : قوله : وهم لا يتقون حال من فاعل ينقضون أي : يستمرون على النقض ، والحال أنهم لا يتقون العار فيه ، لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #376
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 3021 الى صـ 3035
    الحلقة (375)


    أن يتقي [ ص: 3021 ] نقض العهد ، حتى يسكن الناس إلى قوله ، ويثقون بكلامه ، فبين الله عز وجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد ، فهو شر من الدواب .

    ثم شرع تعالى في بيان أحكام الناقضين ، بعد تفصيل أحوالهم ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 57 ] فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون .

    فإما تثقفنهم في الحرب أي : فإما تصادفنهم وتظفرن بهم فشرد بهم من خلفهم أي : فرق بهم من وراءهم من المحاربين ، يعني : بأن تفعل بهم من النكال وتغليظ العقوبة ، ما يشرد غيرهم خوفا ، فيصيروا لهم عبرة ، كما قال : لعلهم يذكرون أي : لعل المشردين يتعظون بما شاهدوا ما نزل بالناقضين ، فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر .

    قال في ( " التاج " ) : وقيل : معنى : فشرد بهم فسمع بهم وقيل : فزع بهم ، ولا يخفى أن هذه المعاني متقاربة .

    وأصل التشريد الطرد والتفريق ، ويقال : شرد به تشريدا ، سمع الناس بعيوبه . قال :


    أطوف بالأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيم


    معناه أن يسمع بي ، و ( حكيم ) رجل من بي سليم كانت قريش ولته الأخذ على أيدي السفهاء .

    استشهد به في اللسان في مادة : ( ش ر د ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 58 ] وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين .

    وإما تخافن من قوم خيانة بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد ، إثر بيان [ ص: 3022 ] الناقضين له بالفعل . و ( الخوف ) مستعار للعلم ، أي : وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتي ، بما لاح لك منهم من دلائل الغدر ، ومخايل الشر .

    فانبذ إليهم أي : فاطرح إليهم عهدهم على سواء أي : على طريق مستو ، قصد بأن تظهر لهم النقض ، وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد ، كي لا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا ، وإن كانت في مقابلة خيانتهم .

    وقوله : إن الله لا يحب الخائنين تعليل للأمر بالنبذ ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال ، لكونها خيانة ، فيكون تحذيرا له صلى الله عليه وسلم منها ، وإما باعتبار استتباعه للقتال ، فيكون حثا له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولا ، وعلى قتالهم ثانيا ، كأنه قيل : وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ، ثم قاتلهم ، إن الله لا يحب الخائنين ، وهم من جملتهم ، ولما علمت من حالهم . أفاده أبو السعود .

    تنبيه :

    دلت الآية على جواز معاهدة الكفار لمصلحة ، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم يظهر منهم أمارة الخيانة ، وتدل على إباحة نبذ العهد لمن توقع منهم غائلة مكر ، وأن يعلمهم بذلك ، لئلا يعيبوا علينا بنصب الحرب مع العهد .

    روى أصحاب السنن أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر ! [ ص: 3023 ] الله أكبر ! وفاء لا غدر ، فإذا هو عمرو بن عبسة فأرسل إليه معاوية فسأله ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء » فرجع معاوية . وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال :

    إنما كنت رجلا منكم فهداني الله عز وجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم ما لنا ، وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين .

    يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها .

    هذا ، وما ذكر من وجب إعلامهم ، وإنما هو عند خوف الخيانة منهم وتوقعها ، كما هو منطوق الآية .

    وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد ، بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة ، وهو في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 59 ] ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون .

    ولا يحسبن قرئ بالياء والتاء الذين كفروا سبقوا أي : فاتوا وأفلتوا [ ص: 3024 ] من أن يظفر بهم إنهم لا يعجزون أي : لا يفوتون الله من الانتقام ، إما في الدنيا بالقتل ، وإما في الآخرة بعذاب النار .

    وقرئ بفتح ( أن ) على تقدير لام التعليل ، وهذا كقوله تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون وقوله تعالى : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير وقوله تعالى : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 60 ] وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون .

    وأعدوا لهم أي : لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم ، أو الكفار مطلقا ، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم ما استطعتم من قوة أي : من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها ، أطلق عليه القوة مبالغة .

    قال الشهاب : وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في ( بدر ) استعداد تام ، فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان .

    ومن رباط الخيل ( الرباط ) في الأصل مصدر ربط ، أي : شد ، ويطلق بمعنى المربوط مطلقا ، كثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله ، فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلي ، أو بملاحظة كون الرباط مشتركا بين معان أخر ، كانتظار الصلاة وملازمة [ ص: 3025 ] ثغر العدو ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان ، كعين الشمس ، ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا .

    وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد ، فهو على معنى ( من ) التبعيضية .

    وقد يكون ( الرباط ) جمع ربيط ، كفصيل وفصال .

    قال في ( " التاج " ) : يقال : نعم الربيط هذا ، لما يرتبط من الخيل ، ثم إن عطفها على ( القوة ) مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها ، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة ترهبون به أي : تخوفون بذلك الإعداد عدو الله وهو المثبت له شريكا ، المبطل لكلمته وعدوكم أي : الذي يظهر عداوتك ، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم .

    تنبيه :

    دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، اتقاء بأس العدو وهجومه .

    ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية ، أيام حضارة الإسلام ، كان الإسلام عزيزا عظيما ، أبي الضيم ، قوي القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذا نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار ، وخضد شوكة المستبدين الكافرين ، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد ، وعاش بنوه أحقابا متتالية وهم سادة الأمم ، وقادة مشعوب ، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد ، لا يستكينون لقوة ، ولا يرهبون لسطوة .

    وأما اليوم ، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضا من فروض الكفاية ، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني ، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإسلامية ، ولا ترى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو ؟

    أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية ؟ فلقد ألقى عليها تنقص العدو بلادها من أطرافها درسا يجب أن تتدبره ، وتتلافى ما فرطت به قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله ، [ ص: 3026 ] فيقضي - والعياذ بالله - على الإسلام وممالك المسلمين ، لاستعمار الأمصار ، واستعباد الأحرار ، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار . وبالله الهداية .

    وقوله تعالى : وآخرين أي : وترعبون قوما آخرين من دونهم أي : من دون من يظهر عداوتكم ، وهم المنافقون لا تعلمونهم أي : أنهم يعادونكم الله يعلمهم أي : أنهم أعداؤكم ، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم .

    ثم شجعهم سبحانه على إنفاق المال في إعداد القوة ، ورباط الخيل ، مبشرا لهم بتوفية جزائه كاملا ، بقوله تعالى : وما تنفقوا من شيء في سبيل الله أي : الذي أوضحه الجهاد : يوف إليكم أي : في الدنيا من الفيء والغنيمة والجزية والخراج ، وفي الآخرة بالثواب المقيم : وأنتم لا تظلمون أي : بترك الإثابة .

    تنبيهات :

    الأول : هذه الآية أصل في كل ما يلزم إعداده للجهاد من الأدوات .

    الثاني : في قوله تعالى : ترهبون به إشارة إلى التجافي عن أن يكون الإعداد لغير الإرهاب كالخيلاء .

    وفي حديث الإمام مالك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « الخيل ثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ولرجل وزر ، فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر » .

    الثالث : ما ذكرناه في تأويل ( الآخرين ) من أنهم المنافقون ، يشهد له قوله تعالى:

    وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم

    ثم بين تعالى جواز مصالحة الكفار بقوله :
    [ ص: 3027 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 61 ] وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم .

    وإن جنحوا أي : مالوا وانقادوا للسلم بكسر السين وفتحها ، لغتان ، وقد قرئ بهما ، أي : الصلح والاستسلام بوقوع الرهبة في قلوبهم ، بمشاهدة ما بكم من الاستعداد ، وإعتاد العتاد فاجنح لها أي : فمل إلى موافقتهم وصالحهم وعاهدهم ، وإن قدرت على محاربتهم ، لأن الموافقة أدعى لهم إلى الإيمان .

    ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك ، مع ما اشترطوا من الشروط الأخر . و ( السلم ) يذكر ويؤنث ، كما في _" القاموس "_ .

    قال الزمخشري : ( السلم ) تؤنث تأنيث نقيضها ، وهي الحرب .

    قال العباس بن مرداس :


    السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع


    وتوكل على الله أي : لا تخف في الصلح مكرهم ، فإنه يعصمك من مكرهم ، إنه هو السميع لأقوالهم العليم أي : بأحوالهم ، فيؤاخذهم بما يستحقون ويرد كيدهم في نحرهم .
    لقول في تأويل قوله تعالى :

    [ 62 ] وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين .

    وإن يريدوا أن يخدعوك أي : بالصلح لتكف عنهم ظاهرا ، وفي نيتهم الغدر : فإن حسبك الله أي : كافيك بنصره ومعونته .

    قال مجاهد : يريد قريظة .

    ثم علل كفايته له ، بما أنعم عليه من تأييده صلى الله عليه وسلم بنصره وبالمؤمنين ، فقال تعالى : هو الذي أيدك بنصره أي : يوم بدر بعد الضعف ، من غير إعداد قوة ولا رباط : وبالمؤمنين
    [ ص: 3028 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 63 ] وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم .

    وألف بين قلوبهم أي : جمع بين قلوبهم وكلمتهم ، بالهدى الذي بعثك الله به إليهم ، بعد ما كان فيها العصبية والضغينة لو أنفقت ما في الأرض جميعا أي : من الذهب والفضة ما ألفت بين قلوبهم إذ لا يدخل ذلك تحت قدرة البشر ، لكونه من عالم الغيب ولكن الله ألف بينهم أي : بين قلوبهم بدينه الذي جمعهم إليه ، إنه عزيز أي : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن حكيم أي : فاقتضت حكمته ذلك ، لما فيه من تأييد دينه ، وإعلاء كلمته .

    قال الزمخشري ـ رحمه الله تعالى ـ : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الآيات الباهرة ، لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيء ، وإلقائه بين أعينهم ، وإلى أن ينتقموا ، لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كما شاء ، ويصنع فيها ما أراد .

    وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم ، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى ، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس .

    وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا

    وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته . انتهى .

    [ ص: 3029 ] وإنما ضعف القول الثاني لأنه ليس في السياق قرينة عليه . كذا في ( " العناية " ) .

    أقول : لكن شهرة ما كن بين هذين البطنين من التعادي الذي تطاول أمده ، واستحال قبل البعثة نضوب مائه ، يصلح أن يكون قرينة . ونقل علماء السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما لقي في الموسم الرهط من الخزرج ، ودعاهم إلى الله تعالى . فأجابوه وصدقوه ، قالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك . رواه ابن إسحاق وغيره .

    وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم ( حنين ) ، قال لهم : « يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي » ؟ كلما قال شيئا قال : « الله ورسوله أمن » .

    لطيفة :

    روى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء . ثم يقرأ : لو أنفقت ما في الأرض الآية .

    وعند البيهقي نحوه . وقال موجود في الشعر :


    إذا بت ذو قربى إليك بزلة فغشك واستغنى فليس بذي رحم

    ولكن ذا القربى الذي إن دعوته
    أجاب ، وأن يرمي العدو الذي ترمي


    [ ص: 3030 ] قال : ومن ذلك قول القائل :


    ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم وبلوت ما وصلوا من الأسباب


    فإذا القرابة لا تقرب قاطعا وإذا المودة أقرب الأسباب


    قال البيهقي : لا أدري هذا موصولا بكلام ابن عباس ، أو هو قول من دونه من الرواة .

    قال الرازي : احتج أصحابنا بهذه الآية ، على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات ، كلها من خلق الله تعالى ، وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم . انتهى .

    ولما بين تعالى كفايته لنبيه صلى الله عليه وسلم عند مخادعة الأعداء ، في الآية المتقدمة ، أعلمه بكفايته له في جميع أموره مطلقا ، فقال تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 64 ] يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين .

    يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين قال العلامة ابن القيم في مقدمة ( " زاد المعاد " ) في تفسير هذه الآية : أي الله وحده كافيك ، وكافي أتباعك ، فلا يحتاجون معه إلى أحد .

    ثم قال : وهاهنا تقديران :

    أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لـ ( من ) على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، على المذهب المختار ، وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية .

    والثاني : أن تكون الواو واو ( مع ) ، وتكون ( من ) في محل نصب عطفا على الموضع فإن ( حسبك ) في معنى كافيك ، أي : الله يكفيك ، ويكفي من اتبعك ، كما يقول العرب : حسبك وزيدا درهم ، قال الشاعر :


    إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند


    وهذا أصح التقديرين . وفيها تقدير ثالث ، أن تكون ( من ) في موضع رفع بالابتداء ، [ ص: 3031 ] أي : ومن اتبعك من المؤمنين ، فحسبهم الله .

    وفيها تقدير رابع ، وهو خطأ من جهة المعنى ، وهو أن يكون ( من ) في موضع رفع عطفا على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك .

    وهذا ، وإن قال به بعض الناس ، فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة .

    قال الله تعالى : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده ، حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل

    ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ، ومدح الرب تعالى لهم بذلك ، فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ؟ وأتباعه ، قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ، ولم يشركوا بينه وبين رسوله ؟ هذا من أمحل المحال ، وأبطل الباطل . ونظير هذه قوله : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله ، كما قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال : إنا إلى الله راغبون ولم يقل وإلى رسوله ، بل جعل الرغبة إليه وحده . كما قال تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده ، والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده [ ص: 3032 ] ف ( الحسب ) هو ( الكافي ) ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده ، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد ، أكثر من أن نذكرها هنا . انتهى .

    قال الخفاجي في ( " العناية " ) : وتضعيفه الرفع لا وجه له ، فإن الفراء والكسائي رجحاه ، وما قبله وما بعده يؤيده . انتهى .

    وأقول : هذا من الخفاجي من الولع بالمناقشة ، كما هو دأبه ، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وفقة لما ضعفه ، والفراء والكسائي من علماء العربية ، ولأئمة التأويل فقه آخر ، فتبصر ولا تكن أسير التقليد .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 65 ] يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون .

    يا أيها النبي حرض المؤمنين أي : حثهم : على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 66 ] الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .

    الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين

    [ ص: 3033 ] في الآية مسائل :

    الأولى : مشروعية الحض على القتال ، والمبالغة في الحث عليه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه عند صفهم ، ومواجهة العدو ، كما قال لهم يوم بدر ، حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : « قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض » ، فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نعم » ! فقال : بخ بخ ، فقال : « ما يحملك على قولك بخ بخ » ؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها . قال : « فإنك من أهلها » . فتقدم الرجل ، فكسر جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده ، وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن ، إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه .

    الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا شرط في معنى الأمر بوجوب مصابرة الواحد للعشرة أي : بألا يفر منهم .

    روى البخاري عن ابن عباس قال : لما نزلت : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين كتب عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، ولا عشرون من مائتين ، ثم نزلت : الآن خفف الله عنكم الآية ، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين .

    وفي رواية أخرى عنه قال : لما نزلت : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين شق ذلك على المسلمين ، فنزلت : الآن خفف الله عنكم الآية ، فلما خفف الله عنهم من العدة ، نقص عنهم من الصبر ، بقدر ما خفف عنهم .

    [ ص: 3034 ] قال في ( " اللباب " ) : فظاهر هذا أن قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم ناسخ لما تقدم في الآية الأولى ، وكان هذا الأمر يوم بدر ، فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين ، فثقل ذلك على المؤمنين ، فنزلت : الآن خفف الله عنكم أيها المؤمنون وعلم أن فيكم ضعفا يعني في قتال الواحد للعشرة ، فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله . فرد العشرة إلى الاثنين ، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا ، فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن فر من اثنين فقد فر . انتهى .

    قال في ( " العناية " ) : وذهب مكي إلى أنها مخففة لا ناسخة ، كتخفيف الفطر للمسافر . وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة ، فقتل ، هل يأثم أو لا ؟ فعلى الأول يأثم ، وعلى الثاني لا يأثم .

    وقال الرازي : أنكر أبو مسلم الأصفهاني دعوى النسخ في الآية ، وقال : الأمر الذي فهم من الآية مشروط بكون العشرين قادرين على الصبر ، أي : إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم .

    ثم دل قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم على أن ذلك الشرط غير حاصل منهم ، فلم يكن التكليف لازما عليهم .

    وبالجملة ، فالآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، والثانية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هؤلاء الجماعة ، فلم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا فلا نسخ ، ولا يقال إن قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم مشعر بأن هذا التكليف كان متوجها عليهم قبله ، لأن لفظ التخفيف لا يستلزم الدلالة على حصول التثقيل قبله ، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام ، كقوله تعالى في ترخيصه للحر في نكاح الأمة : يريد الله أن يخفف عنكم وليس هناك نسخ ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر ، فكذا هاهنا .

    [ ص: 3035 ] ومما يدل على عدم النسخ ذكر هذه الآية مقارنة للأولى وجعل الناسخ مقارنا للمنسوخ ، لا يجوز إلا بدليل قاهر .

    قال الرازي : بعد تقرير كلام أبي مسلم : إن ثبت إجماع الأمة قبل أبي مسلم على حصول النسخ في الآية ، فلا كلام عليه ، وإلا فقول أبي مسلم صحيح حسن . انتهى .

    الثالثة : في قوله تعالى : بأنهم قوم لا يفقهون إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار ، فالظرف متعلق بـ : ( يغلبوا ) أي : بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر ، لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى ، وإعلاء لكلمته ، وابتغاء لرضوانه ، كما يفعله المؤمنون ، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية ، واتباع خطوات الشيطان ، وإثارة ثائرة البغي والعدوان ، فلا يستحقون إلا القهر والخذلان . أفاده أبو السعود .

    الرابعة : قال الرازي : احتج هشام على قوله : إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها ، بقوله : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إذ يقتضي أن علمه يضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت .

    وأجاب المتكلمون بأن معناه : الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وأما قبل ذلك فقد كان الحاصل العمل بأنه سيقع أو سيحدث . انتهى .

    وقال الطيبي رحمه الله : معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى ، أي : كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قتلكم وقوتكم .

    الخامسة : في ( الضعف ) لغتان : الفتح والضم ، بهما قرئ . وهو يؤكد كونهما بمعنى فيكونان في الرأي والبدن . وقيل : ( الفتح ) في الرأي والعقل ، و ( الضم ) في البدن . وهو منقول عن الخليل وقرئ : ( ضعفاء ) بصيغة الجمع .

    السادسة : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى ، وثبات الواحد للاثنين في الثانية ، فما سر هذا التكرير ؟




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #377
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 3036 الى صـ 3050
    الحلقة (376)


    أجيب : بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل [ ص: 3036 ] على الكثير لزيادة التكرير المفيد لزيادة الاطمئنان ، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ، لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي .

    قال في ( " الفتح " ) : وقد قيل في سر ذلك : إن بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف .

    السابعة : قال في ( " البحر " ) : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثم ختمت بقوله :

    والله مع الصابرين مبالغة في شدة المطلوبية ، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر ، اكتفاءا بما قبله .

    قال الشهاب : هذا نوع من البديع يسمى الاحتباك ، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف

    بإذن الله وهو قيد لهما ، وقوله : والله مع الصابرين إشارة إلى تأييدهم ، وأنهم منصورون حتما لأن من كان الله معه لا يغلب .

    وبقي فيها لطائف ، فلله در التنزيل ما أحلى ماء فصاحته ! وأنضر رونق بلاغته !
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 67 ] ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم .

    ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض

    روى الإمام أحمد عن أنس قال : استشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر فقال : « إن الله قد أمكنكم منهم » ، [ ص: 3037 ] فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ! اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته وقال : « إنما هم إخوانكم بالأمس » ، وعاد عمر لمقالته ، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر الصديق فقال : يا رسول الله ! نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء . قال فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء .

    وأخرج مسلم في ( أفراده ) من حديث عمر بن الخطاب ، قال ابن عباس : لما أسروا الأسارى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : « ما ترون في هؤلاء الأسارى » ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ! هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ترى يا ابن الخطاب » ؟ قال : قلت لا ، والله يا رسول الله ! ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده . فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت .

    فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة » ، لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ما كان لنبي الآية .


    ذكره الحميدي في ( " مسنده " ) عن عمر بن الخطاب ، من أفراد مسلم بزيادة فيه .

    ومعنى : ما كان لنبي ما صح له وما استقام وقرئ ( للنبي ) على العهد ، والمراد [ ص: 3038 ] على كل ، نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإنما نكر تلطفا به ، حتى لا يواجه بالعقاب . وقرئ ( أسارى ) .

    ومعنى : يثخن في الأرض يكثر القتل ويبالغ فيه ، حتى يذل الكفر ، ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ، ويستولي أهله . يقال : أثخن في العدو ، بالغ في قلتهم . كما في ( " الأساس " ) ، وأثخن في الأرض قتلا إذا بالغ . وقال ابن الأعرابي : أثخن إذا غلب وقهر .

    قال الرازي : وإنما حمله الأكثرون على القتل ، لأن الدولة إنما تقوى به .

    قال المتنبي :


    لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم


    ولأنه يوجب قوة الرعب ، وشدة المهابة ، فلذلك أمر تعالى به . وقوله تعالى : تريدون عرض الدنيا أي : متاعها الزائل ، بفداء أسارى بدر .

    والعرض ما لا ثبات له ولو جسما ، ومنه استعار المتكلمون ( العرض ) المقابل ( للجوهر ) ، قاله الشهاب .

    والله يريد الآخرة أي : يريد لكم ثوابها والله عزيز أي : غالب على ما أراد .

    حكيم أي : فيما يأمر به عباده .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 68 ] لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .

    لولا كتاب من الله سبق لمسكم أي : لأصابكم فيما أخذتم أي : بسببه ، وهو الفداء : عذاب عظيم أي : شديد ، بقدر إبطالكم الحكمة العظيمة ، وهي قتلهم ، الذي هو أعز للإسلام ، وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم . والمراد ب ( الكتاب ) الحكم ، وإنما أطلق عليه لأنه مكتوب في اللوح .

    ولأئمة التفسير أقوال في تفسيره ، فقيل : هو أنه لا يعذب قوما إلا بعد تقديم النهي ، ولم يتقدم نهي عن ذلك ، وقيل : هو أنه لا يعذب المخطئ في اجتهاده ، وقيل : هو كون أهل بدر مغفورا لهم . وقيل : هو حل المغانم .

    وللرازي مناقشة في هذه الأقوال ، واختار أن ( الكتاب ) هو حكمه في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وسبقت رحمته غضبه .

    [ ص: 3039 ] أقول : لعل الأمس في تهويل ما اكتسبوه ، تفسير ( الكتاب ) بما في قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون والله أعلم ـ .

    تنبيهات :

    الأول _ قال الرازي : قال ابن عباس : هذا الحاكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم ، أنزل الله بعد ذلك في الأسارى : حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها

    وأقول : هذا الكلام يوهم أن قوله : فإما منا بعد وإما فداء يريد حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك ، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء . انتهى .

    وقال بعضهم : لا تظهر دعوى النسخ من أصلها ، إذ النهي الضمني كما هنا مقيد ومغيا بالإثخان ، أي : كثرة القتال اللازمة لها قوة الإسلام وعزته ، وما في سورة القتال من التخيير ، محله بعد ظهور شوكة الإسلام بكثرة القتال ، فلا تعارض بين الآيتين ، إذ ما هناك بيان للغاية التي هنا . نقله في ( " الفتح " ) .

    الثاني : قال القاضي : في الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون ، وأنه قد يكون خطأ ، ولكن لا يقرون عليه .

    الثالث : قال ابن كثير : وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإمام مخير فيهم ، إن شاء قتل ، كما فعل ببني قريظة ، وإن شاء فادى بمال ، كما فعل بأسرى بدر ، بمن أسر من المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين .

    [ ص: 3040 ] وإن شاء استرق من أسر ، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة ، مقرر في موضعه .

    الرابع : قال بعض مفسري الزيدية : في هذه الآية سؤال وهو أن يقال : إن كان فعلهم اجتهادا وخطأ ، فلم عوتبوا ؟ ويلزم أن لا معصية ، وإن تمكنوا من العلم وقصروا ، فكيف أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وجواب ذلك من وجهين :

    الأول : عن أبي علي أن ذلك كان معصية صغيرة . قال الحاكم : وكانوا متمكنين من العلم ، إذا ما عاتبهم .

    وقيل : كان خطأ وقصروا فعوتبوا على التقصير . انتهى .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 69 ] فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم .

    فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا أي : كلوا بعضه بعد إخراج الخمس حلالا ، أي : مطلقا عن العتاب والعقاب ، من ( حل العقال ) .

    طيبا أي : لذيذا هنيئا ، أو حلالا بالشرع ، طيبا بالطبع .

    قيل : هذا الأمر تأكيد لحل المغنم ، لأنه علم مما تقدم من قوله : واعلموا أنما غنمتم الآية ، وإشارة لاندراج مال الفداء في عمومها ، ف ( ما غنمتم ) هنا ، إما الفدية ، لأنها غنيمة ، أو مطلق الغنائم .

    والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وجعل الفاء عاطفة على سبب مقدر ، أي : أبحت لكم الغنائم ، فكلوا قد يستغنى عنه بعطفه على ما قبله بمعناه ، أي : لا أؤاخذكم بما أخذ من الفداء فكلوه . كذا في ( " العناية " ) .

    قال أبو السعود : والأظهر أنها للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : دعوه فكلوا مما غنمتم . ثم قال : وقيل : ( ما ) عبارة عن الفدية ، فإنها من جملة الغنائم ، ويأباه اتساق النظم الكريم وسياقه . انتهى . وهو متجه .

    [ ص: 3041 ] واتقوا الله أي : في مخالفة أمره ونهيه إن الله غفور رحيم فيغفر لكم ويرحمكم إذا اتقيتموه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 70 ] يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم .

    يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى أي : لمن في ملكتكم ، كأن أيديكم قابضة عليهم وذلك تخليصا لهم من أسر الضلال بضعف الإيمان إن يعلم الله في قلوبكم خيرا أي : قوة إيمان وإخلاصا فيه يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي : من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه ، أو يثيبكم في الآخرة ويغفر لكم والله غفور رحيم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 71 ] وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم .

    وإن يريدوا أي : الأسرى خيانتك أي : نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة ، أو منع ما ضمنوا من الفداء فقد خانوا الله من قبل أي : من قبل ( بدر ) بالكفر به .

    فأمكن منهم أي : فأمكنك منهم ، أي : أظفرك بهم قتلا وأسرا ، كما رأيتم يوم بدر ، فسيمكن منهم إن عادوا إلى الخيانة والله عليم حكيم أي : عليم بما في بواطنهم من إيمان وتصديق ، أو خيانة ونقض عهد ، حكيم يجازي كلا بعلمه ، الخير بالثواب ، والشر بالعقاب .

    [ ص: 3042 ] روى ابن هشام في ( السيرة ) أن فداء المشركين يوم بدر كان أربعة آلاف درهم بالرجل إلى ألف درهم ، إلا من لا شيء له ، فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه .

    وقال ابن إسحاق : كان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس ، وذلك أنه كان رجلا موسرا ، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا .

    وفي صحيح البخاري عن أنس أن رجالا من الأنصار قالوا : يا رسول الله ! ائذن لنا ، فنترك لابن أختنا عباس فداءه . قال : « لا والله ! لا تذرون منه درهما » .

    وروى ابن إسحاق أن العباس قال : يا رسول الله ! قد كنت مسلما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله يجزيك ، وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا وحليفك عتبة » . قال : ما ذاك عندي يا رسول الله ! قال : « فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل » ، فقلت لها : إن أصبت في سفري هذا ، فهذا المال الذي دفنته لبني : الفضل وعبد الله وقثم ؟ قال : والله ! يا رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ، ما أصبتم من عشرين أوقية من مال كان معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك » .

    ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، فأنزل الله عز وجل فيه : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم الآية .

    قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام ، عشرين عبدا كلهم في يده مال ، يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل .


    [ ص: 3043 ] وروى ابن إسحاق أيضا أن العباس كان يقول : في نزلت ، والله ! حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي .

    وروى ابن جريج عن عطاء بن عباس ، أن عباسا وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومنا ، فأنزل الله تعالى : إن يعلم الله في قلوبكم الآية . قال ، فكان العباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا ، وأن لي الدنيا ، لقد قال : يؤتكم خيرا مما أخذ منكم فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف . وقال : ويغفر لكم وأرجو أن قد غفر لي .

    وروى البيهقي عن أنس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ، فقال : « انثروه في مسجدي » . قال ، وكان أكثر ما أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى الصلاة ، ولم يلتفت إليهم ، فلما قضى الصلاة فجاء فجلس إليه ، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه ، إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله ! أعطني ، فاديت نفسي ، وفاديت عقيلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خذ » ، فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يقله ، فلم يستطع . فقال : مر بعضهم يرفعه إلي ، قال : لا ، قال : « فارفعه أنت علي » ، قال : لا ! فنثر منه ، ثم احتمله على كاهله ، ثم انطلق ، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه ببصره حتى خفي عنه ، عجبا من حرصه .

    فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم . وفي رواية : وما بعث إلى أهله بدرهم .
    ورواه البخاري تعليقا .

    وفي رواية : فجعل العباس يقول وهو منطلق : أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا ، وما ندري ما يصنع في الأخرى !

    ثم ذكر تعالى أصناف المؤمنين ، وقسمهم إلى مهاجرين وأنصار فقال :
    [ ص: 3044 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 72 ] إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير .

    إن الذين آمنوا وهاجروا أي : من مكة إلى المدينة لنصر الله ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أي : طاعته والذين آووا ونصروا أي : وطنوا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم ، وآثروهم على أنفسهم ، ونصروهم على أعدائهم أولئك بعضهم أولياء بعض أي : يتولى بعضهم بعضا في النصرة والمظاهرة ، ويقوم مقام أهله ونفسه ، ويكون أحق به من كل أحد ، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .

    قال ابن إسحاق : وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال فيما بلغنا : « تآخوا أخوين أخوين » ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : « هذا أخي » . وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم أخوين . وإليه أوصى حمزة يوم ( أحد ) ، حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت .

    وجعفر ذو الجناحين الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخوين ، وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين ، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين ، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين ، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين ، والزبير بن العوام وسلمة [ ص: 3045 ] بن سلامة أخوين ، وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين ، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين ، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين ، وأبو حذيفة وعباد بن بشر أخوين ، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين ، وأبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو أخوين ، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين ، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين ، وبلال الحبشي وأبو رويحة الخثعمي أخوين .

    ولما خرج بلال إلى الشام ، وأقام فيها مجاهدا ، قال له عمر : إلى من نجعل ديوانك ؟ قال : مع أبي رويحة ، لا أفارقه أبدا ، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبيني . فضم إليه ، وضم ديوان الحبشة إلى خثعم ، لمكان بلال منهم .

    قال ابن إسحاق : فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه :

    تنبيه :

    نقل الواحدي عن ابن عباس وغيره ، أن المراد من هذه الولاية ، هي الولاية في الميراث . قال ابن كثير : لما تآخوا كانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة ، حتى نسخ الله ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد .

    قال الخفاجي : فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري ، إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري . واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ، ثم توارثوا بالنسب بعد ، إذ لم تكن هجرة .

    والولي القريب والناصر ، لأن أصله القرب المكاني ، ثم جعل للمعنوي ، كالنسب والدين والنصرة .

    فقد جعل صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام التناصر الديني أخوة ، وأثبت لها أحكام الأخوة الحقيقية من التوارث ، فلا وجه لما قيل إن هذا التفسير لا تساعده اللغة ، فالولاية على هذا ، والوراثة المسببة عن القرابة الحكمية . انتهى .

    [ ص: 3046 ] ومراده ب ( ما قيل ) ، ما ذكره الرازي في تضعيف تفسير الولاية بالوراثة ، حيث قال : واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى ، لأن هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب .

    ويقال : السلطان ولي من لا ولي له ، ولا يفيد الإرث ، وقال تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ولا يفيد الإرث ، بل الولاية تفيد القرب ، فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظما للبعض ، مهتما بشأنه ، مخصوصا بمعاونته ومناصرته ، والمقصود أن يكونوا يدا واحدة على الأعداء ، وأن يكون حب كل واحد لغيره جاريا مجرى حبه لنفسه .

    وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى ، كان حمله على الإرث بعيدا عن دلالة اللفظ ، لا سيما وهم يقولون : إن ذلك الحكم صار منسوخا بقوله تعالى في آخر الآية : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ، ثم الحكم بأنه صار منسوخا بآية أخرى مذكورة معه ؟ هذا في غاية البعد ، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك ، فحينئذ يجب المصير إليه ، إلا أن دعوى الإجماع بعيدة انتهى .

    وأقول : لعموم هذا الخطاب ونظمه وجه في إثبات التوارث ، لا سيما وقد نفى تعالى ولاية من لم يهاجر نفيا استغرق أقرب الأقارب حيث قال : والذين آمنوا ولم يهاجروا أي : بأن أقاموا في بواديهم : ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا أي : إلى المدينة . وقوله تعالى : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر أي : إذا استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني ، فيجب عليكم أن تنصروهم على أعدائهم المشركين ، لأنهم إخوانكم في الدين إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق أي : عهد ومهادنة إلى مدة ، فلا تعينوهم عليهم ، لئلا تخفروا ذمتكم ، وتنقضوا عهدكم والله بما تعملون بصير أي : فلا تخالفوا أمره .

    [ ص: 3047 ] تنبيهات :

    الأول : احتج من ذهب إلى أن المراد من قوله تعالى : ما لكم من ولايتهم من شيء أي : من توليتهم في الميراث ، وأنه هو المراد في الآية السابقة أيضا ، بقوله تعالى :

    وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر فإن هذا موالاة في الدين ، فحينئذ لا يجوز حمل الموالاة المنفية على النصرة والمظاهرة ، لأنها لازمة لكل حال لكلا الفريقين .

    وأجاب الرازي بما معناه : إن الولاية هنا ليس المراد بها مطلق التولي حتى يرده ما ذكروه ، بل عني بها معنى خاص ، وهو علاقة شديدة ، ومحبة أكيدة ، وإيثار قوي ، وأخوة وثيقة ، ولا يلزم من النصر التولي ، فقد ينصر المرء ذميا لأمر ما ولا يتولاه ، ويدافع عن عبده أو أمته ويعينهما ولا يتولاهما - والله أعلم - .

    الثاني : يظهر أن هذه الآية كسوابقها مما نزل إثر واقعة بدر ، وطلب من كل من آمن من البادين أن يهاجر ، ليكثر سواد المسلمين ، ويظهر اجتماعهم ، وإعانة بعضهم لبعض ، فتتقوى بألفتهم شوكتهم ، ولم يزل طلب الهجرة إلا بفتح مكة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد فتح مكة » . رواه البخاري عن مجاشع بن مسعود .

    الثالث : شمل نفي الموالاة عن الذين لم يهاجروا وقتئذ ، حرمانهم من المغانم والفيء . روى الإمام أحمد عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3048 ] إذا بعث أميرا على سرية ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا . وقال : « اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم من التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم ، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوا فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم » .

    قال ابن كثير : انفرد به مسلم ، وعنده زيادات أخر .

    الرابع : قرأ حمزة ( ولايتهم ) بكسر الواو ، والباقون بفتحها .

    قال الشهاب : جاء في اللغة : ( الولاية ) مصدرا بالفتح والكسر ، فقيل : هما لغتان فيه بمعنى واحد ، وهو القرب الحسي والمعنوي ، وقيل : بينهما فرق ، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه ، والكسر ولاية السلطان ، قاله أبو عبيدة . وقيل الفتح من النصرة والنسب . والكسر من الإمارة . قاله الزجاج .

    وخطأ الأصمعي قراءة الكسر ، وهو المخطئ لتواترها ، واختلفوا في ترجيح إحدى القراءتين . ولما قال المحققون من أهل اللغة : إن ( فعالة ) بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ، ويجعل فيه كاللفافة والعمامة ، وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال ، كالكتابة والخياطة ، ذهب الزجاج وتبعه غيره إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعة ، لذا جاء فيها الكسر ، كالإمارة .

    وهذا يحتمل أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك ، فتكون حقيقة ويحتمل - كما في بعض شروح الكشاف - أن تكون استعارة ، كما سموا الطب صناعة . انتهى .

    وقوله تعالى :
    [ ص: 3049 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 73 ] والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .

    والذين كفروا بعضهم أولياء بعض أي : فلا يتولاهم إلا من كان منهم ، ففيه إشارة إلى نهي المسلمين عن موالاتهم ، وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم ، وإن كانوا أقرب وقد استدل به على أنه لا توارث بين المسلمين والكفار .

    روى الحاكم في ( " مستدركه " ) عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما ، ثم قرأ : والذين كفروا الآية ، رواه الشيخان عنه بلفظ : « لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم » .

    وقوله تعالى : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير أي : إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل ، وتولي بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك ، كان الشرط ظاهرا ، والفساد زائدا ، في الاعتقادات والأعمال .

    وقيل : الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو النصر أو الإثبات . وقيل إنه للاستنصار المفهوم من الفعل ، والفتنة : إهمال للمؤمنين المستنصرين بنا ، حتى يسلط علينا الكفار ، إذ فيه وهن للدين . ؟

    قال الشهاب : وفيه تكلف ، أي : فالأوجه عوده للتولي والتواصل - كما بينا - .

    قال الرازي : بيان هذه الفتنة والفساد عن وجوه :

    الأول : أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين ، وقلة عددهم وزمان قوة الكفار ، وكثرة عددهم ، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار .

    [ ص: 3050 ] الثاني : أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم ، فيصير ذلك سببا لجرأة الكفار عليهم .

    الثالث : أنه إذا كان جميع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدد والعدد صار ذلك سببا لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ، ورغبة المخالف في الالتحاق بهم . انتهى .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 74 ] والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم .

    والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم عود لذكر المهاجرين والأنصار ، للثناء عليهم ، والشهادة لهم ، مع الموعد الكريم ، فلا تكرار ، لما أن مساق الأول لإيجاب التواصل بينهم ، فذكرهم هاهنا لبيان تعظيم شأنهم ، وعلو درجتهم .

    قال الرازي : وبيانه من وجهين :

    الأول : أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم ، وذلك يدل على الشرف والتعظيم .

    والثاني : وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا من ثلاثة أوجه :

    أولها : قوله : أولئك هم المؤمنون حقا فقوله : أولئك هم المؤمنون يفيد الحصر ، وقوله : حقا يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين ، وقد كانوا كذلك ، لأن من لم يكن محقا في دينه ، لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ، ولم يبذل النفس والمال ، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين .

    وثانيها : قوله : لهم مغفرة والتنكير يدل على الكمال ، أي : مغفرة تامة كاملة .

    وثالثها : قوله : ورزق كريم والمراد منه الثواب الرفيع الشريف . انتهى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #378
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 3051 الى صـ 3065
    الحلقة (377)




    [ ص: 3051 ] وقد أثنى تعالى على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه الكريم ـ والله أعلم ـ .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 75 ] والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم .

    والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم أي : من جملتكم ، أي : المهاجرون والأنصار ، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة ، وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم .

    وهل المراد من قوله : ( من بعد ) هو من بعد الهجرة الأولى ، أو من بعد الحديبية . وهي الهجرة الثانية ، أو من بعد نزول هذه الآية ، أو من بعد يوم بدر ؟ أقول :

    واللفظ الكريم يعمها كلها ، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص .

    وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أي : في حكمته وقسمته ، أو في اللوح ، أو في القرآن ، لأن كتاب الله يطلق على كل منها إن الله بكل شيء عليم فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه ، التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح .

    تنبيهات :

    الأول : إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله : بعضهم أولى ببعض وما بعده بالتوارث .

    أخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان الرجل يحالف الرجل ، ليس بينهما [ ص: 3052 ] نسب ، فيرث أحدهما من الآخر ، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال :

    وأولو الأرحام إلخ ، إلا أن في إسناده من فيه مقال .

    وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم ، فيجعل هذه الآية إخبارا منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض ، وذلك أن تلك الآية ، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث ، بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة ، إلا ما خصه الدليل ، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم .

    قال الرازي : وهذا أولى ، لأن تكثير النسخ من غير ضرورة وحاجة ، لا يجوز .

    الثاني : استدل بالآية من ورث ذوي الأرحام ، وهم من ليسوا بعصبات ، ولا ذوي سهام . قال : ويعضده حديث : « الخال وارث من لا وارث له » ، وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات ، ومن الحديث : « من كان وارثه الخال فلا وارث له » ، ورد بأنها عامة فلا موجب للتخصيص ، وبأن معنى الحديث : من كان لا وارث له غيره ، لحديث : « أنا عماد من لا عماد له » .

    ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب ، أو بالتنزيل ، وهل يرث القريب مع البعيد ، وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا ؟ والآية محتملة . أفاده بعض مفسري الزيدية .

    قال ابن كثير : ليس المراد بقوله : وأولو الأرحام خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال ، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، كما يزعمه بعضهم ، ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحا في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة ، تشمل جميع القرابات ، كما نص عليه ابن عباس [ ص: 3053 ] ومجاهد وعكرمة ، والحسن وقتادة وغير واحد ، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص ، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة ، من أقواها حديث : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » .

    قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك ، لم يكن وارثا . انتهى .

    ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال ، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض ، على أن معنى الحديث أعطى كل ذي حق حقه مفصلا ومجملا ، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة ، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل .

    وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في ( " تاريخ الوزراء " ) في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات ، نأثرها هنا ، لأنها جمعت فأوعت ، قال رحمه الله :

    ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابة إليه في أمر المواريث : وصل كتاب الأمير ، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجبا من مال المواريث لبيت المال ، ومالا أراه واجبا منه ، وتلخيص ذلك وتبيينه - وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله - .

    الناس مختلفون في توريث الأقارب ، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة - إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم - لجماعة من المسلمين وبيت مالهم ، وكذلك يقول في الفصل بعد السهمان المسماة ، إذا لم تكن عصبة ، ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت .

    وقد خالفه عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وجعلوا ما يفضل من السهمان ردا على أصحاب السهام من القرابة ، وجعلوا [ ص: 3054 ] المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه .

    والسنة تعاضد ما روي عنهم ، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت ، وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه ، وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي .

    قال الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم فصير القريب أولى من البعيد ، وإلى هذا ذهب عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة ، وعليه اعتمدوا ، وبه تمسكوا - والله أعلم _ .

    ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة ، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين ، وترك قبول من سواهم ممن لا يلحق بدرجتهم بسابقته .

    وإذا رد أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف ، فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيدا لا يفي علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله ؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة ، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت ، واطراح ما روي عنهم ، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه ، وبالسنة فيما أفتوا به ؟ والرواية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة .

    فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهروي عن المقدام ابن معدي كرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الخال وارث من لا وارث له يرث ماله ، ويعقل عنه » .

    وكذلك بلغنا عن شريك بن عبد الله عن ليث ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وعن ابن جريج عن عمر بن سلمة ، عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك .

    وذكر عن عبادة بن أبي عباد عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : توفي ثابت بن أبي الدحداح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي : « أله فيكم نسب » ؟

    [ ص: 3055 ] قال : فدفع تركته إلى ابن أخته فقد أوجب عليه السلام
    ، بما نقلته عنه هذه الرواية ، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السهمان المبينة في الكتاب .

    وأعطى الجدة السدس من الميراث ، ولا فرض لها ، وفي ذلك الاتفاق ، وفيما صير لها من السدس ، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها ؟ إذا بطلت السهام ولم يكن من أهلها ، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي .

    والمروي عن زيد بن ثابت أنه جعل المفضل عن سهام الفرائض وكل المال ، إذا سقطت السهام بعد أهلها ، لجماعة المسلمين ، فجعلهم كلهم وارثا ، وجعل ما يصير لهم من ذلك - في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك - يكون فيما روي عنه للناس كافة ، وعددهم لا يحصى ، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض ، مشارقها ومغاربها .

    وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن ، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابر الأئمة .

    وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب فقال فيه : كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة ، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب ، منع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص ، فذلك غير واجب مع عدم الدليل ، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم .

    وبعد ، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه ، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض ، لوجب في بدء ، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما ، وعلى المقدم من حكمها ، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذا التأويل ( من له سهم ) دون ( من لا سهم له ) ، فإذا ارتفع المانع ، رجع الحكم إلى بدئه .

    ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم ، وإن كان لا وارث سواه ، وهذا يدل على فساد تأويلهم ، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه ، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد . [ ص: 3056 ] وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد ، وترك الرواية عن عمر وعلي وعبد الله عليهم السلام جانبا ، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب ، وأن يجعل ذا الرحم أولى ، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة .

    وترتيب المواريث في الأصل ، يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة ، كالأخ للأب والأم ، والأخ للأب ، وابن العم للأب والأم ، وابن العم للأب واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع ، قال الله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وولد الولد ، من سفل منهم ومن ارتفع ، يعمهم هذا الاسم ، إلا أن الأقرب منهم في معنى الآية ، أحق من الأبعد ، فإذا كان ذلك كذلك ، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرب بها دونه .

    وبعد ، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة ، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما ، وما روي عن ابن مسعود ، ثم لم يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم ، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، وترجمان القرآن ، وبحر العلم ، ومن كان إذا تكلم سكت الناس ، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم ! فقهه في الدين وعلمه التأويل ، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة ، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب .

    وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي [ ص: 3057 ] وعبد الله والجماعة ، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين ، أعزه الله ، يستقضون الحكام ، فيقضون برد المواريث على الأقارب ، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم ، ولا تردونه متجاوزا للحق فيه ، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة ، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف ، واقتدى بخلفاء الله ، ومال إلى أفضل المذهبين ، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير ، وتسديده ، والحمد لله رب العالمين . انتهى .

    ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث ، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة ، وأنه حكى فيه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم ، رأوا أن يرد على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث ، وإذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه ، وجعلوا رضي الله عنهم تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه ، إن لم يكن له وارث سواهم ، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة . انتهى .

    الثالث : استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة ، لاندراجها في عموم الأولوية .

    والجواب - على فرض صحة هذه الدلالة - أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه .

    [ ص: 3058 ] [ ص: 3059 ]
    [ ص: 3060 ] سورة التوبة

    هي مدنية بإجماعهم . قيل : سوى آيتين في آخرها لقد جاءكم رسول من أنفسكم فإنهما نزلتا بمكة . وفيه نظر . فقد روى البخاري عن البراء أنها آخر سورة نزلت ، واستثنى بعضهم ما كان للنبي . . - لما ورد أنها نزلت في قوله صلى الله عليه وسلملأبي طالب : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك .

    وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء :

    1- براءة : سميت بها لافتتاحها بها ، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها .

    2- التوبة : لتكرارها فيها ، كقوله تعالى : فإن تبتم فهو خير لكم فإن تابوا وأقاموا الصلاة وقوله : ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء وقوله : فإن يتوبوا يك خيرا لهم وقوله: عسى الله أن يتوب عليهم وقوله : لقد تاب الله على النبي وقوله تعالى : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة وقوله : التائبون العابدون وهما أشهر أسمائها .

    3- الفاضحة : أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس :

    سورة [ ص: 3061 ] التوبة ، قال : التوبة هي الفاضحة ، ما زالت تنزل : ومنهم ومنهم ، حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها .

    4- سورة العذاب : رواه الحاكم عن حذيفة ، وذلك لتكرره فيها .

    5- المقشقشة : رواه أبو الشيخ عن ابن عمر ، والقشقشة معناها التبرئة ، وهي مبرئة من النفاق .

    6- المنقرة : أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين . أي بحثت .

    7- البحوث : بفتح الباء ، صيغة مبالغة ، رواه الحاكم عن المقداد .

    8- الحافرة : ذكره ابن الغرس ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، أي بحثت عنها ، مجازا .

    9- المثيرة : رواه ابن أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور .

    10- المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها .

    11- المدمدمة : أي المهلكة لهم .

    12- المخزية .

    13- المنكلة : أي المعاقبة لهم .

    14- المشردة : أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم .

    وليس في السور أكثر أسماء منها ومن الفاتحة .

    تنبيه :

    للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال :

    1-

    روى الحاكم في ( المستدرك ) عن ابن عباس قال : سألت علي بن أبي طالب : لم لم تكتب في ( براءة ) البسملة؟ قال : لأنها أمان . وبراءة نزلت بالسيف .

    أي فنزولها لرفع [ ص: 3062 ] الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى ، مشفوعا بوصف الرحمة . ولذا قال ابن عيينة : اسم الله سلام وأمان ، فلا يكتب في النبذ والمحاربة . قال الله تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا قيل له : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة . قال : إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم ، ولم ينبذ إليهم . ألا تراه يقول : سلام على من اتبع الهدى؟

    فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب ، ودعي إلى الجزية فأجاب ، فقد اتبع الهدى ، فظهر الفرق . وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح بالتسمية .

    2- عن ابن عباس قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر البسملة ، ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وإذا نزلت عليه الآية يقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت ( براءة ) من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وظننت أنها منها . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها ، من أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب البسملة ، ووضعتها في السبع الطوال . أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن ورواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم وصححه .

    [ ص: 3063 ] قال الزجاج : والشبه الذي بينهما أن في ( الأنفال ) ذكر العهود ، وفي ( براءة ) نقضها .

    3- أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال : ( الأنفال ) و ( براءة ) سورة واحدة .

    ونقل مثله عن مجاهد ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان . وقال ابن لهيعة : يقولون إن ( براءة ) من ( الأنفال ) ، ولذلك لم تكتب البسملة في ( براءة ) ، وشبهتهم اشتباه الطرفين ، وعدم البسملة . ويرده تسمية النبي صلى الله عليه وسلم كلا منهما .

    وقال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان .

    وقال أبو السعود : اشتهارها بهذه الأسماء- يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة- يقضي بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضا من سورة الأنفال ، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر ، انتهى .

    ونقل صاحب ( الإقناع) أن البسملة ثابتة لـ ( براءة) في مصحف ابن مسعود قال : ولا يؤخذ بها .

    وعن مالك أن أولها لما سقط سقطت معه البسملة ، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها ، كذا في ( الإتقان) .

    ثم اعلم على أن القراء أجمعوا على ترك البسملة في آخر هذه السورة اتباعا لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام ، إلا ابن منادر فإنه يسمي في أولها ، كما في مصحف ابن مسعود .

    وقال السخاوي في ( جمال القراء) : إنه اشتهر تركها فى أول براءة .

    وروي عن عاصم التسمية فى أولها، وهو القياس . لأن إسقاطها ، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة ، بل من الأنفال . ولا يتم الأول ، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ، ونحن إنما نسمي للتبرك وأما الابتداء بما بعد أول براءه ، فلا نص للمتقدمين من أئمة القراء فيه ، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها ، واختار السخاوي [ ص: 3064 ] الجواز ، وقال: ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين وإلى منعها ذهب الجعبري ، وتعقبه السخاوي فقال : إن كان نقلا فمسلم، وإلا فرد عليه ، لأنه تفريغ على غير أصل .

    وقال ابن الجزري في ( النشر ) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها ، وهي نزولها بالسيف ، لم يبسمل . ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر والله أعلم .

    وقوله تعالى :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 1 ] براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين .

    وقوله تعالى :

    براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين خبر لمحذوف ، وتنوينه للتفخيم ، أي : هذه براءة ، أو مبتدأ مخصص بصفة ، وخبره : ( إلى الذين ) .

    و ( البراءة ) في اللغة انقطاع العصمة ، يقال : برئت من فلان براءة ، أي : انقطعت بيننا العصمة ، ولم يبق بيننا علقة .

    فإن قيل : حق البراءة أن تنسب إلى المعاهد ، فلم لم تنسب إليهم ، ونسبت إلى الله ورسوله ؟

    أجيب : أن ( عاهدتم ) إخبار عن سابق صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة ، فنسب إلى الكل ، كما هو الواقع ، وإن كان بإذن الله أيضا .

    وأما البراءة فهي إخبار عن متجدد ، فكيف ينسب إليهم ، وهم لم يحدثوه بعد ، وإنما يسند إلى من أحدثه ؟

    وقال الناصر : إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين ، لا يحسن أدبا ، ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3065 ] لأمراء السرايا حيث يقول لهم :

    « إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله ، فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أو لا ! وإن طلبوا ذمة الله ، فأنزلهم على ذمتك ، فلأن تخفر ذمتك ، خير من أن تخفر ذمة الله » !

    فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله ، مخافة أن تخفر ، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله ، وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر . فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه .

    وقال الشهاب : ولك أن تقول : إنما أضاف العهد إلى المسلمين ، لأن الله علم أن لا عهد لهم ، فلذا لم يضف العهد إليه ، لبراءته منهم ، ومن عهدهم في الأزل .

    وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية ، وإن قيل : إنها إنشائية للبراءة منهم ، ولذا دلت على التجدد . انتهى .

    قال ابن إسحاق : نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ، ألا يصد عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام . وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك .

    وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في ( تبوك ) ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #379
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    صـ 3066 الى صـ 3080
    الحلقة (378)




    [ ص: 3066 ] وقال ابن كثير : وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة ( تبوك ) ، وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي بالناس : براءة من الله ورسوله فلما قفل ، وأتبعه بعلي بن أبي طالب ، لكونه مبلغا عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكونه عصبة له ، كما سيأتي .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 2 ] فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين .

    فسيحوا في الأرض أربعة أشهر أي : فقولوا لهم : سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد ، آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر ، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر .

    والمقصود تأمينهم من القتل ، وتفكرهم واحتياطيهم ، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف ، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم .

    وهذه الأربعة الأشهر كانت عهدا لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتمت له .

    فأما من كان له عهد موقت ، فأجله إلى مدته ، مهما كانت ، لقوله تعالى : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم كما يأتي .

    روي هذا عن غير واحد ، واختاره ابن جرير . وقال مجاهد : هذا تأجيل للمشركين مطلقا ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، [ ص: 3067 ] ومن كان عهده بغير أجل حد بها ، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ويؤسر ، إلا أن يتوب ويؤمن .

    أقول : ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى : إلى مدتهم لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد ، أي : المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر . والله أعلم .

    واعلموا أنكم غير معجزي الله يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لحكمة ولطف بكم ، أي : فلا تفوتونه وإن أمهلكم وأن الله مخزي الكافرين أي : مذلهم بالقتل في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 3 ] وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم .

    وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ( الأذان ) بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء .

    وارتفاعه كارتفاع : ( براءة ) وهذه الجملة معطوفة على مثلها ، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث كذا في ( " الكشاف " ) .

    ويوم الحج الأكبر : قيل يوم عرفة ، وقيل يوم النحر .

    [ ص: 3068 ] قال ابن القيم : وهو الصواب ، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما ، أذنا بذلك يوم النحر ، لا يوم عرفة .

    وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة .

    ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقامة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ، لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرؤوس ، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة ، كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم ، انتهى .

    تنبيه :

    روى الأئمة هاهنا آثارا كثيرة ، نأتي منها على جوامعها :

    قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ( تبوك ) حين فرغ ، فأراد الحج ثم قال : « إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج » ، حتى لا يكون ذلك : فأرسل أبا بكر وعليا فطافا بالناس في ( ذي المجاز ) وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات ، [ ص: 3069 ] عشرون من ذي الحجة ، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال ، إلى أن يؤمنوا .

    وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه قال : لما نزلت [براءة] على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : « لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي » ، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال له : « اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته » .

    فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( العضباء ) ، حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته » .

    وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان .

    ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .


    قال ابن إسحاق : فكان هذا من أمر ( براءة ) فيمن كان من أهل الشرك من أهل [ ص: 3070 ] العهد العام ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى .

    وروى البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين ، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : « ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان » .

    قال حميد : ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يؤذن ببراءة .

    قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .


    وفي رواية أخرى للبخاري ، قال أبو هريرة : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل ( الأكبر ) من أجل قول الناس - للعمرة - الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك . هذا لفظ البخاري في ( " كتاب الجهاد " ) .

    وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ب ( براءة ) ، فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال : كنا ننادي : « أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو أمده - إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك » . قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي ، ( صحل الرجل وصحل صوته : بح ) .

    [ ص: 3071 ] وقوله تعالى : فإن تبتم فهو خير لكم أي : فإن تبتم أيها المشركون ، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد وإن توليتم أي : عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم فاعلموا أنكم غير معجزي الله أي : غير فائتين أخذه وعقابه وبشر الذين كفروا أي : جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم بعذاب أليم أي : موجع يحل بهم .

    وفيه من التهكم والتهديد ما فيه ، كيلا يظن أن عذاب الدنيا ، لو فات وزال خلصوا من العذاب ، بل العذاب معد لهم يوم القيامة .

    ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل ، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر ، ومن له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 4 ] إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين .

    إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا أي : من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم فقط .

    قال أبو السعود : وقرئ بالمعجمة ، أي : لم ينقضوا عهدكم شيئا ، من ( النقض ) ، وكلمة ( ثم ) ، للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة ولم يظاهروا أي : لم يعاونوا عليكم أحدا أي : عدوا من أعدائكم .

    فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ثم حرض تعالى على الوفاء بذلك ، منبها على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه : إن الله يحب المتقين أي : فاتقوه في ذلك .
    [ ص: 3072 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 5 ] فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .

    فإذا انسلخ أي : انقضى الأشهر الحرم أي : التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض ، وحرم فيها قتالهم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أي : من حل أو حرم - كذا قاله غير واحد - .

    قال ابن كثير : هذا عام ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم ، لتحريم القتال فيه ، لقوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم

    وخذوهم أي : ائسروهم واحصروهم أي : احبسوهم في المكان الذي هم فيه ، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد واقعدوا لهم أي : لقتالهم ، كل مرصد أي : طريق وممر فإن تابوا أي : عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم أي : فاتركوا التعرض لهم إن الله غفور رحيم أي : يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .

    تنبيهات :

    الأول : ما ذكرناه من أن المراد ( بالأشهر الحرم ) أشهر العهد ، هو الذي اختاره الأكثرون .

    سماها ( حرما ) لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم ، فالألف واللام للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها .

    وقيل : المراد ( بالأشهر الحرم ) : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روي ذلك عن ابن عباس [ ص: 3073 ] والضحاك والباقر ، واختاره ابن جرير .

    وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم ، لأنه يأباه ترتبه عليه ( بالفاء ) ، فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر .

    قال ابن القيم : الحرم هاهنا هي أشهر التسيير أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر . وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم فإن تلك واحد فرد هو رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة وتالياه .

    ولم يسير المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن ، لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم . انتهى .

    وقالوا : يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر ، وتكلف الجواب بنسخها ، إما بانعقاد الإجماع عليه ، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، مع أن هذا الإجماع كلاما ، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها ، إلا أنهم لم يعتدوا به كما قاله في ( " العناية " ) .

    وفيها : إن لك أن تقول : منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة ، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها ، بل هو مسكوت عنه ، فلا يخالف الإجماع ، ويكون حله معلوما من دليل آخر .

    وأقول : يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة ، وأن قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم هي هذه الأربعة ، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها ، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع .

    قال في ( " فتح البيان " ) : ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم ، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم [ ص: 3074 ] النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوما ، تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم . انتهى .

    ولا يقال : إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوما ، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة ، بسبب النسيء ، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إن الزمان قد استدار » الحديث ، لأنا نقول : كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم ، لا في الواقع ، وكذلك ذو الحجة ، والمحرم ، فعوملوا بحسابهم .

    الثاني : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) في قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة . انتهى .

    وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد : فإما منا بعد وإما فداء

    ورده الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد ، ومقتضى كلام الحاكم ، أنها لا ناسخة ولا منسوخة ، قال : لأن الجمع من غير منافاة ممكن ، فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض ، فالمراد به إعراض إنكار ، لا تقرير ، وأما الأسر والفداء ، فالمراد به أنه خير بين ذلك ، لا أن القتل حتم ، إذ لو كان حتما ، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل . انتهى .

    ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم ، واستدل بقوله تعالى : واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم .

    [ ص: 3075 ] الثالث : فهو من قوله تعالى : فإن تابوا الآية ، أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة : التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر .

    ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة ، على هذه الآية الكريمة وأمثالها .

    قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .

    وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » .

    وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم » . رواه البخاري وغيره .

    الرابع : ذكر ابن القيم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين ، من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذه السورة ، قال رحمه الله :

    أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : يا أيها المدثر قم فأنذر فنبأه بقوله : اقرأ وأرسله بـ : يا أيها المدثر ثم أمره أن ينذر عشيرته [ ص: 3076 ] الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن لم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة .

    فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده لما نزلت سورة ( براءة ) ، نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام .

    وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم .

    وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم له عهدهم إلى مدتهم .

    وقسما لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم .

    فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول ( براءة ) على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .

    ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له [ ص: 3077 ] خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن . وخائف محارب .

    وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم ، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين . انتهى .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 6 ] وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون .

    وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون أي : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم ، أي : استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد ، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله ، أي : القرآن الذي تقرؤه عليه ، ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، وتقوم عليه حجة الله به ، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين ، وإن أبى فإنه يرد إلى مأمنه وداره التي يأمن فيها ، ثم قاتله إن شئت .

    وقوله تعالى : ذلك يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم لا يعلمون ، أي : جهلة ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، ولا يبقى لهم معذرة .

    تنبيهات :

    الأول : دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى ، وأنه يمكن من العود من غير غدر به ولا خيانة ، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر .

    [ ص: 3078 ] فروى البخاري في ( " تاريخه " ) والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أمن رجلا على دمه فقتله ، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا » .

    وروى أحمد والشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة » .

    قال ابن كثير : من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام ، في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب صلح أو مهادنة ، أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي ، ما دام مترددا في دار الإسلام ، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه .

    قال الحاكم : وإنما يجار ويؤمن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر ، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله : حتى يسمع كلام الله

    الثاني : قال الحاكم : تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله .

    الثالث : استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين ، وهم الحنابلة ، ومن وافقهم كالعضد .

    قالوا : لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق ، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات .

    فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات ، والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله كلام الله إلا لها ، وقد اعترف الرازي بقوة هذا ، لإلزام من خالف فيه ، وقد مضى لنا في قوله تعالى : وكلم الله موسى تكليما في آخر سورة النساء ، فارجع إليه .

    [ ص: 3079 ] الرابع : قال الرازي : دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن ، وإما أن نقتلك ، فلما لم يقل له ذلك ، بل أمهل وأزيل الخوف عنه ، ووجب تبليغه مأمنه ، علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين ، وأنه لا بد من الحجة والدليل ، فلذا أمهل ليحصل لها النظر والاستدلال .

    ثم بين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ، ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعدها السيف المرهف بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 7 ] كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين .

    كيف يكون للمشركين عهد أي : أمان عند الله وعند رسوله أي : وهم كافرون بهما ، فالاستفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم أي : فما داموا مستقيمين على عهدهم ، مراعين لحقوقكم ، فاستقيموا لهم على عهدهم .

    إن الله يحب المتقين أي : فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم .

    قال ابن كثير : وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ، ومالؤوا حلفاءهم ، وهم بنو بكر ، على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا ، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ، ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم ، بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء ، وكانوا [ ص: 3080 ] قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره ، وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء ، ومنهم صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله للإسلام .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 8 ] كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون .

    كيف وإن يظهروا عليكم أي : يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لا يرقبوا فيكم إلا أي : قرابة ويمينا ولا ذمة أي : عهدا .

    وهذه الجملة مردودة على الآية الأولى ، أي : كيف يكون لهم عهد ، وحالهم ما ذكر ؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرء منهم ، لأن من كان أسير الفرصة ، مترقبا لها ، لا يرجى منه دوام العهد .

    قال الناصر : ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد ، أعيدت ( كيف ) تطرية للذكر ، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض . انتهى .

    ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله : يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم أي : ما تتفوه به أفواههم وأكثرهم فاسقون أي : متمردون ، لا عقيدة تزعمهم ، ولا مروءة تردعهم .

    وتخصيص الأكثر ، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر ، والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #380
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3081 الى صـ 3095
    الحلقة (379)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 9 ] اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون .

    اشتروا بآيات الله أي : استبدلوا بها ثمنا قليلا أي : من متاع الدنيا ، يعني [ ص: 3081 ] أهويتهم الفاسدة فصدوا عن سبيله أي : فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم إنهم ساء ما كانوا يعملون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 10 ] لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون .

    لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون أي : المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 11 ] فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون .

    فإن تابوا أي : مما هم عليه من الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين أي : فهم إخوانكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، فعاملوهم معاملة الإخوان ، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه .

    وقوله : ونفصل الآيات لقوم يعلمون جملة معترضة للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 12 ] وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون .

    وإن نكثوا أي : نقضوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أي : فقاتلوهم .

    وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم ، للإيذان بأنهم صاروا بذلك [ ص: 3082 ] ذوي رياسة وتقدم في الكفر ، أحقاء بالقتل والقتال .

    وقيل : المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم ، وتخصيصهم بالذكر إما لأهمية قتلهم ، أو للمنع من مراقبتهم ، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم ، فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم . أفاده أبو السعود .

    إنهم لا أيمان لهم جمع يمين أي : لا عهود لهم على الحقيقة ، حيث لا يراعونها ولا يعدون نقضها محذورا ، فهم وإن تفوهوا بها ، لا عبرة بها .

    وقرئ ( لا إيمان ) بكسر الهمزة ، أي : لا إسلام ، ولا تصديق لهم ، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن لعلهم ينتهون أي : عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان .

    تنبيه :

    قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : استدل بهذه الآية من قال إن الذمي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بسوء ، سواء شرط انتفاض العهد به أم لا ، واستدل من قال بقبول توبتهم بقوله : لعلهم ينتهون انتهى .

    ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 13 ] ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين .

    ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم أي : التي حلفوها في المعاهدة وهموا بإخراج الرسول يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة ، حسبما ذكر في قوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا فيكون نعيا عليهم جنايتهم القديمة ، وهم بدءوكم أول مرة أي : بالقتال يوم بدر ، حين خرجوا لنصر غيرهم فما نجت وعلموا بذلك ، استمروا على وجوههم طلبا للقتال ، بغيا وتكبرا .

    وقيل : بنقضهم العهد ، وقتالهم مع حلفائهم [ ص: 3083 ] بني بكر لخزاعة ، أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وكان ما كان . قاله ابن كثير .

    وقال الزمخشري : أي : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة ، لعجزهم عنها ، إلى القتال ، فهم البادئون بالقتال ، والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم .

    أتخشونهم أي : أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم فالله أحق أن تخشوه بمخالفة أمره وترك قتالهم إن كنتم مؤمنين يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ، ولا يبالي بمن سواه ، كقوله تعالى : ولا يخشون أحدا إلا الله قاله _الزمخشري _ . وفيه من التشديد ما لا يخفى .

    ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 14 ] قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين .

    قاتلوهم يعذبهم الله أي : بآلام الجراحات والموت بأيديكم أي : تغليبا لكم عليهم ويخزهم أي : بالأسر والاسترقاق ، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي ، وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين أي : ممن لم يشهد القتال .
    [ ص: 3084 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 15 ] ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم .

    ويذهب غيظ قلوبهم أي : بما كابدوا من المكاره والمكايد ويتوب الله على من يشاء أي : فيحصل لك أجرهم والله عليم حكيم أي : في أفعاله وأوامره .

    وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها ، فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة ، دالة على صدقه وصحة نبوته .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 16 ] أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون .

    أم حسبتم أن تتركوا أي : على ما أنتم عليه ، ولا تؤمروا بالجهاد ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة أي : بطانة يفشون إليهم أسرارهم .

    والواو في ( ولما ) حالية ، و ( لما ) للنفي مع التوقع ، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني ، إذ لو شم رائحة الوجود ، لعلم قطعا ، فلما لم يعلم لزم عدمه قطعا ولم يتخذوا عطف على : جاهدوا داخل في حيز الصلة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه ، والحال أنه لم يتبين الخلص من المجاهدين منكم من غيرهم ، بل لا بد أن تختبروا ، حتى يظهر المخلصون منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله ، لوجه الله ، ولم يتخذوا وليجة ، أي : بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم . ودلت ( لما ) على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن ، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين ، وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين ، حيث لم يتعرض للمقصرين ، وذلك لأنه بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين ، وهذا كما قال :


    وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يلني


    [ ص: 3085 ] وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين وقال تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة الآية ، وقال تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه الآية ، وكلها تفيد أن مشروعية الجهاد اختبار المطيع من غيره .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 17 ] ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون .

    ما كان للمشركين أي ما صح لهم وما استقام أن يعمروا مساجد الله أي التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له , أي يعمروا شيئا منها , فهو جمع مضاف في سياق النفي , ويدخل في المسجد الحرام دخولا أوليا , إذ نفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد , فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية . وقرئ ( مسجد الله ) بالتوحيد, تصريحا بالمقصود وهو المسجد الحرام , أشرف المساجد في الأرض , الذي بني على أول يوم من عبادة الله وحده , لا شريك له وأسسه خليل الرحمن .

    قال في ( " البصائر " ) : ( يعمر ) إما من العمارة التي هي حفظ البناء ، أو من العمرة التي هي الزيارة ، أو من قولهم : عمرت بمكان كذا أي : أقمت به . انتهى .

    شاهدين على أنفسهم بالكفر أي : بحالهم وقالهم ، وهو حال من الضمير في [ ص: 3086 ] يعمروا

    أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون وهذا كقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولهذا قال تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 18 ] إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .

    إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله أي : لم يعبد إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين أي : إلى الجنة .

    وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية ، في معرض التوقع ، لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون ، ولتوبيخهم بقطعهم أنهم مهتدون ، فإن المؤمنين ما بهم من هذه الكمالات ، إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى ، فما بال الكفرة وهم هم ، وأعمالهم أعمالهم ! ! وفيه لطف للمؤمنين ، وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء ، ورفض الاغترار بالله تعالى . - كذا حرره أبو السعود - .

    وقال الناصر : وأكثرهم يقول : إن ( عسى ) من الله واجبة ، بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين .

    والحق أن الخطاب مصروف إليهم ، كما قال الزمخشري ، أي : فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة العاقبة عند الله معلومة ، ولله عاقبة الأمور .

    [ ص: 3087 ] تنبيهات :

    الأول : قال الزمخشري : ( العمارة ) تتناول زم ما استرم منها وقمها ، وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجله وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، فضلا عن فضول الحديث .

    روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من غدا إلى المسجد أو راح ، أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح » .

    ورويا أيضا عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله تعالى ، بنى الله له بيتا في الجنة » .

    وأخرج الترمذي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد ، فاشهدوا له بالإيمان » ، قال الله تعالى : إنما يعمر مساجد الله الآية .

    الثاني : إنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لدخوله في الإيمان بالله ، فترك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة ، دلالة على أنهما كشيء واحد ، إذا ذكر أحدهما فهم الآخر ، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، ومن جملته رسالة صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : آمنا بالله وباليوم الآخر كذا في ( " العناية " ) .

    [ ص: 3088 ] الثالث : في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر ، تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما .

    الرابع : دلت الآيتان على أن عمل الكفار محبط لا ثواب فيه .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 19 ] أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين .

    أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين

    روى العوفي في ( " تفسيره " ) عن ابن عباس أن المشركين قالوا : عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ، ويستكبرون به ، من أجل أنهم أهله وعماره ، فخير الله الإيمان والجهاد مع رسوله على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ، وبين أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك ، وأنهم ظالمون بشركهم ، لا تغني عمارتهم شيئا .

    قال اللغويون : ( السقاية ) بالكسر والضم موضع السقي . وفي ( " التهذيب " ) : هو الموضع المتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها . انتهى .

    وفي ( " التاج " ) : سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان يليها العباس رضي الله عنه في الجاهلية والإسلام . انتهى .

    وروى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ; وقال الآخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو [ ص: 3089 ] يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ، فأنزل الله عز وجل : أجعلتم سقاية الحاج الآية .

    ورواه عبد الرزاق في ( " مصنفه " ) ولفظه : إن رجلا قال : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام . الحديث .

    قال بعضهم : فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد ونظائرهما ، ونزلت الآية في ذلك ، مع أن الرواية السالفة عن ابن عباس تنافيه ، وكذا تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه به ، وكذا وصفهم بالظلم لأجل تسويتهم المذكورة .

    وأقول : لا منافاة ، وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه ، وقول النعمان ( فأنزل الله ) ، بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم ، وهو هذه الآية ، لا بمعنى أنه كان سببا لنزولها كما بينها غير ما مرة .

    وهذا الاستعمال شائع بين السلف ، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات ، ويحار في المخرج ، فافهم ذلك وتفطن له .

    وتأييد أبي السعود نزولها في المسلمين بما أطال فيه ذهول عن سباق الآية وعن سياقها ، فيما صدعت فيه من شديد التهويل ، وعن لاحقها في درجات التفضيل ، وقصر الفوز والرحمة والرضوان على المشبه به .

    لطيفة :

    لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان ، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين ، أي : أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله . . . إلخ ، ويؤيده قراءة من قرأ ( سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ) أو : أجعلتموها كإيمان من آمن . . إلخ .

    قال أبو البقاء : الجمهور على ( سقاية ) بالياء ، وصحت الياء لما كانت بعدها تاء التأنيث .

    ثم بين تعالى مراتب فضل المؤمنين ، إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم ، بقوله سبحانه :
    [ ص: 3090 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 20 ] الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون .

    الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله أي : من أهل السقاية والعمارة ، وهم وإن يكن لهم درجة عند الله ، جاء على زعمهم ومدعاهم . قاله في ( " العناية " ) .

    وأولئك هم الفائزون أي : لا أنتم . أي : المختصون بالفوز دونكم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 21 ] يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 22 ] خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم .

    خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ثم نهاهم تعالى عن موالاة المشركين ، وإن كانوا أقرب الأقربين ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 23 ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون .

    يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء أي : بطانة وأصدقاء ، تفشون إليهم أسراركم ، وتمدحونهم وتذبون عنهم إن استحبوا أي : اختاروا : الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون [ ص: 3091 ] أي : لوصفهم الموالاة في غير موضعها ، ولتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله به .

    ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعا من محبة الله ، ومحبة واسطة الوصول إليه ، ومحبة ما يعلي دينه بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 24 ] قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين

    قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم أي : أقاربكم الأدنون ، أو قبيلتكم .

    قال أهل اللغة : عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون ، أو قبيلته ، كالعشير - بلا هاء - مأخوذة من ( العشرة ) ، أي : المعاشرة ، لأنها من شأنهم ، أو من ( العشرة ) الذي هو العدد لكمالهم ، لأنها عدد كامل وأموال اقترفتموها أي : اكتسبتموها وتجارة تخشون كسادها أي : فوات وقت نفادها بفراقكم لها .

    ومساكن ترضونها أي : منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين أحب إليكم من الله أي : المنعم بالكل ورسوله وهو واسطة نعمه وجهاد في سبيله أي : مما يعلي دينه فتربصوا أي : انتظروا : حتى يأتي الله بأمره أي : بقضائه ، وهو عذاب عاجل ، أو عقاب آجل ، أو فتح مكة ، وهذا أمر تهديد وتخويف . أي : فارتقبوا قهر الله بدعوى محبته بالإيمان ، وتكذيبها بترجيح محبة غيرهوالله لا يهدي القوم الفاسقين أي : الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين والمؤثرين لما ذكر على رضاه تعالى .

    [ ص: 3092 ] تنبيهات :

    الأول : قال بعضهم : ثمرة الآيتين تحريم موالاة الكفار ، ولو كانوا أقرباء ، وأنها كبيرة لوصف متوليهم بالظلم ، ووجوب الجهاد ، وإيثاره على كل هذه المشتهيات المعدودة طاعة لله ورسوله .

    الثاني : قال الرازي : الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين ، وبين جميع مهمات الدنيا ، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا .

    الثالث : في هذه الآية وعيد وتشديد ، لأن كل أحد قلما يخلص منها ، فلذا قيل إنها أشد آية نعت على الناس كما فصله في ( " الكشاف " ) بقوله :

    وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها ، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله ، والثبات على دين الله ، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأخوات ، والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ، ويتجرد منها لأجله ؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته فلا يدري أي طرفيه أطول ؟ ويغويه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره ؟ !

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 25 ] لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين .

    لقد نصركم الله في مواطن كثيرة أي : في مواقف حروب كثيرة ، ووقعات شهيرة ، كغزوة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة ، وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3093 ] على ما ذكر في الصحيحين - من حديث زيد بن أرقم ، تسع عشرة غزوة ، زاد بريدة في حديث : قاتل في ثمان منهن ويقال : إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون ، وقيل ثمانون .

    ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم أي : فاعتمدتم عليها ، حيث قلتم : لن نغلب اليوم من قلة : فلم تغن عنكم شيئا أي : من أمر العدو مع قلتهم ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت أي : برحبها وسعتها .

    والباء للملابسة والمصاحبة ، أي : ضاقت مع سعتها ، عليكم ، وهو استعارة تبعية ، إما لعدم وجدان مكان يقرون به آمنين مطمئنين من شدة الرعب ، أو أنهم لا يجلسون في مكان ، كما لا يجلس في المكان الضيق ثم وليتم مدبرين أي : منهزمين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 26 ] ثم أنـزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنـزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين .

    ثم أنـزل الله سكينته أي : ما تسكنون به ، وتثبتون من رحمته ونصره ، وانهزام الكفار ، واطمئنان قلوبهم للكر بعد الفر على رسوله وعلى المؤمنين أي : الذين انهزموا ، وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما ، أو الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفروا ، أو على الكل ، وهو الأنسب .

    ولا ضير في تحقيق أصل السكينة في الثابتين من قبل ، والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعلية الإنزال . أفاده أبو السعود .

    وأنـزل جنودا لم تروها يعني الملائكة وعذب الذين كفروا أي : بالقتل والأسر والسبي وذلك جزاء الكافرين لكفرهم في الدنيا .
    [ ص: 3094 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 27 ] ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم .

    ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء أي : منهم ، لحكمة تقتضيه ، أي : يوفقه للإسلام والله غفور أي : يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي رحيم أي : يتفضل عليهم ويثيبهم .

    تنبيهات :

    الأول : فيما نقل في غزوة ( حنين ) ، وتسمى غزوة ( أوطاس ) ، وهما موضعان بين مكة والطائف ، فسميت الغزوة باسم مكانهما ، وتسمى غزوة ( هوازن ) ، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة ، في شوال سنة ثمان من الهجرة ، فإن الفتح كان لعشر بقين من رمضان ، وبعده أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة ليلة ، وهو يقصر الصلاة ، فبلغه أن هوازن وثقيف جمعوا له ، وهم عامدون إلى مكة ، وقد نزلوا ( حنينا ) وكانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، يظنون أنه إنما يريهم ، فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني نصر ، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن معاوية وبني سعد بن بكر ، وناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية ، والأحلاف وبني مالك بن ثقيف بن بكر .

    وفي جشم دريد بن الصمة رئيسهم وكبيرهم ، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شجاعا مجربا ، وجميع أمر الناس إلى مالك بن عوف .

    فلما أتاهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، أقبلوا عامدين إليه ، فأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، يرى أنه أثبت لموقفهم ، فلما نزل بأوطاس ، اجتمع إليه الناس ، فقال دريد : [ ص: 3095 ] بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، ويعار الشاء وبكاء الصغير ؟ قالوا : ساق مالك مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم ليقاتلوا عنها ، فقال : راعي ضأن والله ! وهل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك !

    ثم قال : ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها أحد منهم : قال : غاب الحد والجد ، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنهم كعب ولا كلاب ، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلا . فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو وعوف ابنا عامر . قال : ذانك الجذعان ، لا ينفعان ولا يضران ; ثم أنكر على مالك رأيه في ذلك وقال له : لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم ، وعليا قومهم ، ثم الق الصبيان على متون الخيل شيئا ، فإن كانت لك ، لحق بك من وراءك ، وإن كانت لغيرك ، كنت قد أحرزت أهلك ومالك .

    قال : لا ، والله لا أفعل ذلك ، إنك قد كبرت ، وكبر عقلك ، والله لتطعنني يا معشر هوازن ، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي . قالوا : أطعناك .

    فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ، ولم يفتني . ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ، ثم شدوا شدة رجل واحد .

    وبعث عيونا من رجاله فأتوه ، وقد تفرقت أوصالهم ، فقال : ويلكم ! ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالا بيضا ، على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى . فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •