تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 22 الأولىالأولى 12345678910111213 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 211 الى صـ 215
    الحلقة (41)

    وقوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه من قبيل التمثيل، وإظهار الأمر في أقبح صورة ، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل ، وطرق الإفساد ، أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع : كالمرء وزوجه .

    والخلاصة : أن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا : أن اليهود كذبوا القرآن [ ص: 211 ] ونبذوه وراء ظهورهم ، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه . وزعموا أنه كفر ، وهو لم يكفر . ولكن شياطينهم هم الذين كفروا ، وصاروا يعلمون الناس السحر ، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت ، اللذين سموهما ملكين ، ولم ينزل عليهما شيء ، وإنما كانا رجلين يدعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير ، ويحذرانهم من الكفر . وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين ، ويحلون به عقد المتحدين . فأنت ترى من هذا أن المقام كله للذم ، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت . والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله ، غير الوحي إلى الأنبياء ، ونص نصا صريحا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال منكرا على من طلب إنزال الملك : وقالوا لولا أنـزل عليه ملك ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون وقال في سورة الفرقان : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا -إلى قوله- فضلوا فلا يستطيعون سبيلا

    وللقصاص في هاروت وماروت أحاديث عجيبة . فزعموا أنهما كانا ملكين من الملائكة ، وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي ، أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض . فأوحى الله تعالى إليهما : إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني ، فقالا : يا رب ، لو ابتليتنا لم نفعل ، فجربنا . فأهبطهما إلى الأرض ، وابتلاهما الله بشهوات [ ص: 212 ] بني آدم ، فمكثا في بلدة كانت فيها فاجرة تسمى "الزهرة" فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر ، وقتلا النفس وسجدا للصنم. وعلماها الاسم الأعظم ، الذي كانا به يعرجان إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم ، وعرجت إلى السماء ، فمسخها الله تعالى ، وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة . ثم إن الله تعالى عرف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا ، ثم خيرهما بين عذاب الآخرة آجلا ، وبين عذاب الدنيا عاجلا ، فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة ، وهما يعلمان الناس السحر ، ويدعوان إليه ، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة .

    وهذه القصة من اختلاق اليهود وتقولاتهم . ولم يقل بها القرآن قط ، وإنما ذكرها التلمود ، كما يعلم من مراجعة "مدارس يدكوت" في الإصحاح الثالث والثلاثين ، وجاراه جهلة القصاص من المسلمين ، فأخذوها منه .

    قال الرازي في تفسيره : إن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه :

    أحدها : أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما (أي لهاروت وماروت) : لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني ، فقالا : لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك ، وهذا منهم تكذيب لله تعالى ، وتجهيل له ، وذلك من صريح الكفر .

    وثانيها : أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وذلك فاسد ، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب ، والله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره ، وبالغ في إيذاء أنبيائه .

    وثالثهما : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر ، في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان .

    وهكذا ، الإمام أبو مسلم احتج على بطلان نزول السحر عليهما أيضا بوجوه:

    الأول : أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله ، وذلك غير جائز ; لأن السحر كفر وعبث لا يليق بالله تعالى إنزال ذلك .

    [ ص: 213 ] الثاني : أن قوله : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر يدل على أن تعليم السحر كفر . فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر . وذلك باطل .

    الثالث : كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر ، فكذلك في الملائكة بطريق الأولى .

    الرابع : إن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة ، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب ؟ وهل السحر إلا الباطل المموه ؟ وقد جرت عادة الله بإبطاله ، كما قال في قصة موسى عليه السلام : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله انتهى .

    وقد ساق الرازي ما ارتآه أبو مسلم في تفسير هذه الآية . ولم نشأ نقله لبعده عن الصواب . وهكذا ما ذكره الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل) في بحث (عصمة الملائكة) ففيه تكلف وتمحل غريب ، كما يعلم بمراجعتهما .

    وللراغب الأصفهاني احتمالات في تصحيح القصة ، وتجويزات عجيبة تنبو عن الحق الصراح الذي آثرنا نقله أولا عن بعض المحققين . والله أعلم .

    واعلم أن لفظ السحر ، في عرف الشرع ، مختص بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أطلق ولم يقيد ، أفاد ذم فاعله ، قال تعالى سحروا أعين الناس يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى . وقد [ ص: 214 ] يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أهتم : « إن من البيان لسحرا » ، لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، وبليغ عبارته . وبالجملة، فالسحر المطلق إنما هو تخييل بشعوذة صارفة للأبصار ، أو تمتمة مزخرفة عائقة للأسماع ، فلا يغير حقائق الأشياء ، ولا ينقل الصور . وقوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله قال الراغب : الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة ، ويقال للعلم ، ومنه آذنته بكذا ، ويقال للأمر الحتم . وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان :

    أحدهما : الإذن لقاصد الفعل في مباشرته . نحو قولك : أذن الله لك أن تصل الرحم .

    والثاني : الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله ، والترياق في تخليصه من أذيته . فإذن الله تعالى في وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني ، وذلك هو المشار إليه بالقضاء ، وعلى هذا يقال : "الأشياء كلها بإذن الله وقضائه" . ولا يقال : الأشياء كلها بأمره ورضاه . وقوله تعالى "ويتعلمون ما يضرهم" إرشاد إلى أن ليس في تعلم السحر إلا المضرة ، لما فيه من التلبيس والتمويه ، وإيهام الباطل حقا ، والتوصل به إلى المفاسد والشرور . وقوله سبحانه "ولا ينفعهم" صرح به إيذانا بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر ، بل هو شر بحت ، وضرر محض . وقوله تعالى "ولقد علموا" أي اليهود الذي حكيت ضلالاتهم . وقوله "لمن اشتراه" أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ، والحق الذي أنزله . وقوله "ما له في الآخرة من خلاق" أي نصيب ، لإقباله على التمويه والكذب ، واستعمال [ ص: 215 ] ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها . وفيه إشارة إلى أن اختيارهم للسحر، ليس من جهلهم بضرره ، بل أتوا ما أتوا عن علم بعاقبته السوأى .

    وقوله تعالى : ولبئس ما شروا به أنفسهم أي ما باعوا به حظهم الأخروي ، حتى كأنهم أتلفوا أنفسهم ، وإنما نفى عنهم العلم بقوله "لو كانوا يعلمون" مع إثباته لهم على سبيل التوكيد القسمي بقوله "ولقد علموا"- لأن معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . فجعلهم غير عالمين ، لعدم عملهم بموجب علمهم . ولما بين سبحانه ما عليهم فيما ارتكبوا من المضار أتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [103 ] ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون

    "ولو أنهم آمنوا" أي بما دعوا إليه من القرآن الحكيم "واتقوا" أي ما يؤثمهم ، ومنه السحر والتمويه وقوله "لمثوبة من عند الله خير" جواب "لو" ، وأصله : لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم . فحذف الفعل وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم ، دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ، وقوله تعالى "لو كانوا يعلمون" أي أن ثواب الله خير . وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 216 الى صـ 220
    الحلقة (42)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [104 ] يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم

    "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا" للنبي صلى الله عليه وسلم "راعنا" التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الخير وحفظ الجانب ، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون [ ص: 216 ] بها ألسنتهم ، ويقصدون بها الرعونة ، وهي إفراط الجهالة ، فنهاهم عن موافقتهم في القول ، منعا للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح ، وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال "وقولوا انظرنا" فأبقى المعنى وصرف اللفظ . أي انظر إلينا . بالحذف والإيصال ، أو انتظرنا . على أنه من نظره إذا انتظره ، وقرئ "أنظرنا" من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظ . وقرئ راعونا على صيغة الجمع للتوقير . وراعنا على صيغة الفاعل أي قولا ذا رعن ، كدارع ولابن ، لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سببا للسب بالرعن اتصف به.

    "واسمعوا" أي قولوا ما أمرتكم به ، وامتثلوا جميع أوامري ، ولا تكونوا كاليهود ، حيث قالوا سمعنا وعصينا "وللكافرين" أي اليهود الذي توسلوا بقولكم المذكور إلى التهاون بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم "عذاب أليم" لما اجترؤوا عليه من العظيمة ، وهو تذييل لما سبق ، فيه وعيد شديد لهم ، ونوع تحذير للمخاطبين عما نهوا عنه .

    وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة النساء : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ومن ليهم ما جاء في الحديث أنهم كانوا إذا سلموا يقولون "السام عليكم" والسام هو الموت ، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ « وعليكم » وإنما يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا .
    [ ص: 217 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [105 ] ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينـزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم

    ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينـزل عليكم من خير من ربكم بيان لشدة عداوة الكافرين من القبيلين للمؤمنين ، حسدا وبغيا . ليقطع التشبه بهم ; فإن مخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة .

    ثم بين أن الحسد لا يؤثر في زوال ذلك بقوله : والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (والاختصاص) عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره ، وفيه تنبيه على ما أنعم به على المؤمنين ، من الشرع التام الكامل الذي شرعه لهم .

    ولما أنكرت اليهود أن يقع شيء من النسخ لآيات الله ، توصلا بذلك إلى إنكار آيات القرآن ، وتأبيد تأبيد التوراة ، رد عليهم سبحانه -بعد تحقيق حقية الوحي- بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [106 ] ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير

    "ما ننسخ من آية" أي : ما نبدل من آية بغيرها -كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن- "أو ننسها" أي : نذهبها من القلوب- كما أخبر بقوله : ونسوا حظا مما ذكروا به - وقرئ "أو ننسأها" أي نؤخرها ونتركها بلا نسخ ، كما أبقى كثيرا [ ص: 218 ] من أحكام التوراة في القرآن . وعلى هذه القراءة ، فقد نشر على ترتيب هذا اللف قوله "نأت بخير منها" أي : من المنسوخة المبدلة- كما فعل في الآيات التي شرعت في الملة الحنيفية ما فيه اليسر ، ورفع الحرج والعنت - فكانت خيرا من تلك الآصار والأغلال . وقوله "أو مثلها" أي : مثل تلك الآيات الموحاة قبل ، كما يرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتضت الحكمة بقاءه واستمراره .

    قال الراغب : فإن قيل : إن الذي ترك ولم ينسخ ليس هو مثله بل هو هو ، فكيف قال "بمثلها" قيل : الحكم الذي أنزل في القرآن -وكان ثابتا في الشرع الذي قبلنا- يصح أن يقال هو هو ، إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته- التي هي اللفظ . ويصح أن يقال هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط بل اعتبر باللفظ . ونحو ذلك أن يقال : ماء البئر هو ماء النهر- إذا اعتبر جنس الماء ، وتارة يقال : مثل ماء النهر- إذا اعتبر قرار الماء . اهـ. على أن إرادة العين بالمثل شائعة ; كما في قولهم : مثلك لا يبخل- .

    ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير فهو يقدر على الخير ، وما هو خير منه ، وعلى مثله في الخير . قال الراغب : أي لا تحسبن أن تغييري لحكم حالا فحالا ، وأني لم آت بالثاني في الابتداء- هو العجز ؛ فإن من علم قدرته على كل شيء لا يظن ذلك . وإنما تغير ذلك يرجع إلى مصلحة العباد ، وأن الأليق بهم ، في الوقت المتقدم ، الحكم المتقدم . وفي الوقت المتأخر ، الحكم المتأخر.
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [107 ] ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير

    ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض فهو يملك أموركم ويدبرها ، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ. "وما لكم من دون الله من ولي" يلي أموركم [ ص: 219 ] "ولا نصير" ناصر يمنعكم من العذاب .

    وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة ، هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم -في أمر من أمور دينهم أو دنياهم- إلا ما هو خير لهم ، والعمل بموجبه من الثقة به، والتوكل عليه ، وتفويض الأمر إليه . من غير إصغاء إلى أقاويل اليهود ، وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته . عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ، ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء . والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد ؛ وإلا فقد وجد في شريعتهم النسخ بكثرة.

    وقد ذكر العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في (إظهار الحق) أمثلة وافرة مما وقع من ذلك في التوراة والإنجيل . فارجع إليها في الباب الثالث منه .

    تنبيهان :

    الأول : قال بعض الفضلاء : نزلت هذه الآية لما قال المشركون أو اليهود : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . وفي الآية رد عليهم بأن المقصود من نسخ الحكم السابق : تهيؤ النفوس لأرقى منه . وهو معنى قوله تعالى "نأت بخير منها" لأن الخالق تعالى ربى الأمة العربية في ثلاث وعشرين سنة تربية تدريجية لا تتم لغيرها -بواسطة الفواعل الاجتماعية- إلا في قرون عديدة . لذلك كانت عليهم الأحكام على حسب قابليتها ، ومتى ارتقت قابليتها بدل الله لها ذلك الحكم بغيره . وهذه سنة الخالق في الأفراد والأمم على حد سواء . فإنك لو نظرت في الكائنات الحية -من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكل من أشكال الأشجار، ومن أول رتبة من رتب الحيوانات إلى الإنسان- لرأيت [ ص: 220 ] أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية ، والأدبية معا . . ! فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين ، ثم إلى طفل ، فيافع ، فشاب ، فكهل ، فشيخ ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار -من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها- يريك بأجلى دليل : أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق . وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات ، فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة ، وهي في حالة نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى ؟ هل يرى إنسان له مسكة من عقل أن من الحكمة تكليف العرب -وهم في مبدأ أمرهم- بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني ، وغاية الكمال البشري ..؟! وإذا كان هذا يصح ، وجب أن الشرائع تكلف الأطفال بما تكلف به الرجال ، وهذا لم يقل به عاقل في الوجود . . . . ! وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود ، فكيف يجوز على الله -وهو أحكم الحاكمين- بأن يكلف الأمة -وهي في دور طفوليتها- بما لا تتحمله إلا في دور شبوبيتها وكهولتها ..؟ وأي الأمرين أفضل: أشرعنا الذي سن الله لنا حدوده بنفسه ، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمه -بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقضوا حرفا منه- لانطباقه على كل زمان ومكان ، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الإنسان ..؟! أم شرائع دينية أخرى ، حرفها كهانها ، ونسخ الوجود أحكامها -بحيث يستحيل العمل بها- لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه .؟! .

    الثاني : أسلفنا -في مقدمة التفسير- إلى أن النسخ باصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف ، بما ينبغي مراجعته .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 221 الى صـ 225
    الحلقة (43)
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [108 ] أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل

    أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل (أم) هنا ، إما [ ص: 221 ] متصلة معادلة للهمزة في (ألم تعلم) أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور ، قادر على الأشياء كلها ، يأمر وينهى كما أراد ... أم تعلموا وتقترحون بالسؤال -كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام ؟ وإما منقطعة -بمعنى بل- للإضراب والانتقال عن حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك ، وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة ، إلى التحذير من ذلك . ومعنى (الهمزة) إنكار وقوع الإرادة منهم ، واستبعاده ; لما أن قضية الإيمان وازعة عنها . وتوجيه الإنكار إلى الإرادة -دون متعلقها- للمبالغة في إنكاره واستبعاده ، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته ، فضلا عن صدور نفسه ، وقوله "ومن يتبدل الكفر" أي : يختره ، ويأخذه لنفسه "بالإيمان" . بمقابلته بدلا منه "فقد ضل سواء السبيل" أي عدل عن الصراط المستقيم . جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله "أم تريدون" إلخ ، معطوفة عليه . ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان . فظهر وجه ذكر قوله "أم تريدون" إلخ بعد قوله تعالى "ما ننسخ" . فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها .

    قال الراغب : فإن قيل ما فائدة قوله "ومن يتبدل الكفر" إلخ ومعلوم أنه بدون الكفر يضل الإنسان سواء السبيل فكيف بالكفر ؟ وقيل معنى ذلك من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل ، قبل سواء السبيل ، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان . ومعناه لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان . فمبدأ ذلك، الضلال عن سواء السبيل . ووجه آخر وهو أنه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام ، بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفرا . إذ هي مؤدية إليه . كتسمية العصير خمرا ، فقال "ومن يتبدل" أي يطلب تبديل الكفر ، أي المعاندة التي هي مبدأ الكفر، بالإيمان أي بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس ، فقد ضل سواء السبيل .

    [ ص: 222 ] ووجه ثالث وهو أن ذلك نهاية التبكيت لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل . وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه .

    ووجه رابع وهو أن "سواء السبيل" إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها . والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع فقال "ومن يتبدل الكفر بالإيمان" أي بالإيمان المكتسب فقد أبطله ، وضيع الفطرة التي فطر الناس عليها فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك .

    هذا . وما قررناه في الآية من أن الخطاب للمسلمين هو ما يترجح ويكون كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ويرشحه قوله : ومن يتبدل الكفر بالإيمان فإن موقع خطابه إنما يتضح مع المؤمنين . ورجح الرازي كون الخطاب مع اليهود قال : لأن هذه السورة من أول قوله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأنه لم يجر ذكر غيرهم في السياق ، وقد قص تعالى عنهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا الآية ، وحينئذ فمعنى تبدل الكفر بالإيمان ، وهم بمعزل من الإيمان ، إعراضهم عنه ، مع تمكنهم منه ، وإيثارهم للكفر عليه . كما أن إضافة الرسول إليهم باعتبار أنهم من أمة الدعوة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [109 ] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير

    ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا [ ص: 223 ] علة ود من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة ما طابقه من التوراة "فاعفوا واصفحوا" أي أعرضوا عما يكون منهم من الجهل والعداوة فلا تجازوهم "حتى يأتي الله بأمره" وهو الإذن في قتالهم وإجلائهم : إن الله على كل شيء قدير فينتقم منهم إذا آن أوانه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [110 ] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير

    وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه أي ثوابه "عند الله إن الله بما تعملون بصير" فلا يضيع عنده عمل عامل .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [111 ] وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين

    " وقالوا" أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" نشر لما لفته الواو في "وقالوا"، واليهود جمع هائد ، كعوذ جمع عائذ . وقرئ "إلا من كان يهوديا أو نصرانيا" . "تلك أمانيهم" جملة معترضة مبينة لبطلان ما قالوا . والأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى . كالأعجوبة والأضحوكة. فإن قيل : قولهم "لن يدخل الجنة" أمنية واحدة ، فلم قال : أمانيهم ؟ أجيب : بأن الجمع باعتبار صدوره عن الجميع . وأجاب صاحب الانتصاف بأنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم ، جمعت . ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم ، بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك ، وإن كان مؤداه واحدا . ونظيره قولهم : معى جياع . فجمعوا الصفة ، ومؤداها [ ص: 224 ] واحد ; لأن موصوفها واحد ، تأكيدا لثبوتها وتمكنها .

    وهذا المعنى أحد ما روي في قوله تعالى : إن هؤلاء لشرذمة قليلون فإنه جمع (قليلا) ، وقد كان الأصل إفراده فيقال (لشرذمة قليلة) كقوله تعالى : كم من فئة قليلة لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها . ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد ، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد ، فنقل إلى تأكيد الواحد ، وإبانة زيادته على نظرائه ، نقلا مجازيا بديعا . فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان . والله الموفق : قل هاتوا برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة "إن كنتم صادقين" في دعواكم . قال الرازي : دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا أو إثباتا، فلا بد له من الدليل والبرهان ، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد ، قال الشاعر :


    من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه


    انتهى كلام الرازي . وسبقه إلى ذلك الزمخشري حيث قال : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل غير ثابت . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [112 ] بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

    "بلى" إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة "من أسلم وجهه لله" من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره . وإنما عبر عن النفس بالوجه ، لأنه أشرف الأعضاء ، ومجمع المشاعر ، وموضع السجود ، ومظهر آثار الخضوع . أو المعنى : من أخلص توجهه وقصده ، بحيث لا يلوي [ ص: 225 ] عزيمته إلى شيء غيره "وهو محسن" في عمله ، موافق لهديه صلى الله عليه وسلم ، وإلا لم يقبل ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » رواه مسلم فله أجره عند ربه وهو عبارة عن دخول الجنة . وتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل . "ولا خوف عليهم" من لحوق مكروه "ولا هم يحزنون" من فوات مطلوب . والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى "من" كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 226 الى صـ 230
    الحلقة (44)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [113 ] وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون

    وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه ، إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم . ومعنى "على شيء" أي أمر يعتد به من الدين "وهم يتلون الكتاب" الواو للحال . والكتاب للجنس . أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب . وحق من حمل التوراة أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ، أن لا يكفر بالباقي . لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني ، شاهد بصحته . وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا "كذلك" أي مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج "قال" الجهلة "الذين لا يعلمون" لا علم عندهم ولا كتاب . كعبدة الأصنام . قالوا لأهل كل دين "مثل قولهم" ليسوا على شيء . وهذا توبيخ عظيم ، حيث نظموا أنفسهم ، مع علمهم ، [ ص: 226 ] في سلك من لا يعلم .

    فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي يفصل بينهم بقضائه العدل ، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه . وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد وكما قال تعالى : قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم

    قال الرازي : واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن كل طائفة تكفر الأخرى . مع اتفاقهم على تلاوة القرآن . انتهى .

    فها هنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر ، لا بسنة ولا قرآن ، ولا لبيان من الله ولا لبرهان ، بل لما غلت مراجل العصبية في الدين ، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين .


    يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح


    مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف . ونهى عن الفرقة والاختلاف . فقال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا [ ص: 227 ] واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقد امتاز أهل الحق ، من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [114 ] ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم

    ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك ، ولما وجه تعالى الذم فيما سبق في حق اليهود والنصارى ، ذيله بذم المشركين في قوله : كذلك قال الذين لا يعلمون ثم وجهه بهذه الآية أيضا للمشركين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وصدوهم أيضا عنه ، حين ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 228 ] وأصحابه من المدينة عام الحديبية ، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام ، لأن منع الناس من إقامة شعائر العبادة فيه ، سعي في تخريبه . وأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . واستحوذوا عليه بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وقال تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين وقال تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله فإذا كان من آمن بالله واليوم الآخر ..إلخ مصدودا عنه ، مطرودا منه ، [ ص: 229 ] فأي خراب له أعظم من ذلك . والعمارة إحياء المكان وشغله بما وضع له . وليس المراد بعمارته، زخرفته وإقامة صورته فقط ، إنما عمارته بذكر الله فيه وإقامة شرعه فيه ورفعه عن الدنس والشرك . وإنما أوقع المنع على المساجد ، وإن كان الممنوع هو الناس لما أن المآل عائد لها . ولا يقال : كيف قيل مساجد والمراد المسجد الحرام فقط ؟ لأنه لا بأس أن يجيء الحكم عاما ، وإن كان السبب خاصا ، كما تقول، لمن آذى صالحا واحدا : ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال تعالى ويل لكل همزة لمزة والمنزول فيه واحد .

    وقوله : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، ويذل لهم المشركين ، حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا . يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يسلم . وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام . ونادى فيهم عام حج أبو بكر رضي الله عنه : « ألا لا يحجن بعد العام مشرك » . فحج النبي صلى الله عليه وسلم من العام الثاني ظاهرا على المسجد الحرام ، لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام . وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ، المشار إليه بقوله تعالى لهم في الدنيا خزي لأن الجزاء من جنس العمل . فكما صدوا المؤمنين صدوا عنه ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار لما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه ، من نصب الأصنام حوله ، ودعاء غير الله ، والطواف به عريا ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله .

    وفي الآية وجه آخر وهو أن الآية في ذم اليهود ، تبعا للسابق واللاحق ، وما جنوه بكفرهم على بيت المقدس من خرابه وتسليط عدوهم عليهم حتى خربه ودمر مدينتهم ، وقتل وسبى منهم ، وأسرهم [ ص: 230 ] وبقوا في الأسر البابلي سبعين سنة ؛ كل ذلك كان برفضهم كتاب الله ، والعمل بشريعته .

    وفي قوله تعالى : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين إشارة إلى رجوعهم إليه بعد الأسر على تخوف من العدو ومذلة لصقت بهم . وهو وجه وجيه . لأن لفظ "سعى" ، يرشد إلى ذلك . كما أن مفهومها يشعر بذم القائمين على الخراب بالأولى وهم النصارى ، حينما تمكنت سلطتهم انتقاما من أعدائهم اليهود .

    روى ابن جرير عن مجاهد، قال في الآية : هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى . ويمنعون الناس أن يصلوا فيه . وقال قتادة : حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس . وتدل على أن أماكن العبادة تصان وتحترم ، لأنها المدرسة العامة التي تتلى فيها الحكم والأحكام ، والإرشاد إلى سبل السلام .

    وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، فيما رواه الإمام أحمد عن بسر بن أرطاة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : « اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة » .

    قال الحافظ ابن كثير : وهذا حديث حسن وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابيه ، وهو بسر بن أرطاة ، (ويقال ابن أبي أرطاة) حديث سواه ، وسوى حديث : « لا تقطع الأيدي في الغزو » .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 231 الى صـ 235
    الحلقة (45)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [115 ] ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم

    ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم بيان لشمول ملكوته لجميع الآفاق ، المتسبب عنه سعة علمه . وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر [ ص: 231 ] عن ارتكابها . وقوله تعالى : إن الله واسع عليم نظير قوله : إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان وكقوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم وقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وقوله : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما أي : عم كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه .
    [ ص: 232 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [116 ] وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون

    وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون يريد الذين قالوا: المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله ، والملائكة بنات الله ، فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولدا . فقال "سبحانه" أي تقدس وتنزه عما زعموا تنزها بليغا . وكلمة "بل" للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات . أي ليس الأمر كما زعموا ، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة ، والتنوين في "كل" عوض عن المضاف إليه . أي كل ما فيهما ، كائنا ما كان من أولي العلم وغيرهم "له قانتون" منقادون ، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء ، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد.

    قال الراغب في تفسيره : نبه على أقوى حجة على نفي ذلك . وبيانها : هو أن لكل موجود في العالم ، مخلوقا طبيعيا ، أو معمولا صناعيا ، غرضا وكمالا أوجد لأجله . وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض ، كاليد للبطش ، والرجل للمشي ، والسكين لقطع مخصوص ، والمنشار للنشر ، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال ، والرجل للتناول ، لكن ليس على التمام .

    والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه ، وجزء منه ، لما لم يجعل الله له سبيلا إلى بقائه بشخصه ، فجعل له بذرا لحفظ نوعه . ويقوي ذلك ، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذرا واستخلافا ، لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان .

    ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم ، بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى ، ولهذا قال : سبحانه أن يكون له ولد أي هو منزه عن السبب المقتضي للولد . [ ص: 233 ] ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما ، وذلك لما تقدم ، أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل إلى نفسه - بين تعالى بقوله : له ما في السماوات والأرض أنه لا يتوهم له فقر ، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره ، فصار في قوله "له ما في السماوات والأرض" دلالة ثانية ، ثم زاد حجة بقوله "قانتون" وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ، ومظاهرته كما قال : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة بين أن كل ما في السماوات والأرض ، مع كونه ملكا له ، قانت أيضا ، إما طائعا ، وإما كارها ، وإما مسخرا . كقوله : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وقوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة .

    ثم قال الراغب : إن قيل من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى ؟ قيل قد ذكر في الشرائع المتقدمة : كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله ، حتى إنهم قالوا : إن الأب هو الرب الأصغر وإن الله هو الأب الأكبر ، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان ، وإن الأب هو السبب الأخير في وجوده وإن الأب هو معبود الابن من وجه أي مخدومه . وكانوا يقولون للملائكة : آلهة . كما [ ص: 234 ] قالت العرب للشمس : إلاهة ، وكانوا يقصدون معنى صحيحا كما يقصد علماؤنا بقولهم : الله محب ومحبوب ، ومريد ومراد ونحو ذلك من الألفاظ . كما يقال للسلطان : الملك ، وقول الناس : رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف ، ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له بكر الله ، وأن عيسى كان يقول : أنا ذاهب إلى أبي . ونحو ذلك من الألفاظ ، ثم تصور الجهلة منهم ، بأخرة ، معنى الولادة الطبيعية . فصار ذلك منهيا عن التفوه به في شرعنا ، تنزها عن هذا الاعتقاد ، حتى صار إطلاقه ، وإن قصد به ما قصده هؤلاء ، قرين الكفر ، اهـ كلام الراغب رحمه الله .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [117 ] بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

    "بديع السماوات والأرض" أي مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق . وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له : أبدعت . ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة : مبتدع ، لأنه يأتي في دين الإسلام ، ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم في ولادة عيسى بلا أب ، وعلم عزير بالتوراة بلا تعلم . وتقرير الحجة : إن الله سبحانه مبدع الأشياء كلها . فلا يبعد أن يوجد أحدا بلا أب ، أو يعلم بلا واسطة بشر . وقال الراغب : ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة. شرحها : إن الأب هو عنصر للابن . منه تكون . والله مبدع الأشياء كلها ، فلا يكون عنصرا للولد ، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلا . وقوله تعالى : وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون أي : إذا أراد أمرا . والقضاء إنفاذ المقدر . والمقدر ما حد من مطلق المعلوم . قال الراغب : القضاء إتمام الشيء قولا أو فعلا ، فمن القول آية : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [ ص: 235 ] وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ومن الفعل قوله : فقضاهن سبع سماوات في يومين وقضى فلان دينه ، وقضى نحبه ، وانقضى الأمر . (ثم قال) ونبه بقوله "وإذا قضى أمرا" على حجة خامسة وهو أن الولد يكون بنشوء وتركيب ، حالا بعد حال . وهو إذا أراد شيئا ، فقد فعل بلا مهلة. ولم يرد بـ "إذا" حقيقة الزمان ، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان . ولم يرد أيضا بـ "كن" حقيقة اللفظ ، ولا بالفاء التعقيب الزماني . بل استعير كل ذلك لأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفعل وتمامه ، وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل ، والأمر لكونه منطويا على اللفظ والفعل ، والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجادا ، ولفظ "كن" لعموم معناه واختصار لفظه ، ثم قال "فيكون" تنبيها لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده . و "كن فيكون" وإن كان مخرجها مخرج شيئين ، أحدهما مبني على الآخر ، فهو في الحقيقة شيء واحد . انتهى .

    والذين ذهبوا إلى أن المراد بـ "كن" حقيقة اللفظ ، ورد عليهم سؤال مشهور ، وهو : إن "كن" لفظ أمر ، والأمر لا يكون إلا لموجود . فبعض أجاب بأنه أمر للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده . وبعض قال : هو أمر لمعلوم له ، وذلك في حكم الموجود ، وإن كان معدوم الذات . وبعض قال : هو أمر للمعدوم . قال ويصح أمر المعدوم كما يصح أمر الموجود .

    ولهم أجوبة أكثر تكلفا وتمحلا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 236 الى صـ 240
    الحلقة (46)

    وقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا بأنه إن كان المخاطب بـ "كن" موجودا ، فتحصيل الحاصل محال . وإن كان معدوما ، فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ فأجاب بقوله : هذه المسألة مبنية على أصلين : أحدهما : الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلا من المخاطب ، بل هو الذي يكون المخاطب به ، ويخلقه بدون فعل من المخاطب ، أو قدرة أو إرادة أو وجود له . وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرة وإرادة . وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته ; إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس . هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده ؟ لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده . وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي ؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة ؟ . والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة . والأصل الثاني : أن المعدوم في حال عدمه ، هل هو شيء أم لا ؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات وعين ، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة ، وأن وجودها زائد على حقيقتها . وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة . والذي عليه جماهير الناس ، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة ، إنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين ، وإنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة ، والآخر وجوده الزائد على حقيقته . فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات . فكل ما سواه سبحانه مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له سبحانه وتعالى . ولكن في هؤلاء من يقول : المعدوم ليس بشيء أصلا ، وإن سمي شيئا باعتبار ثبوته في العلم ، كان مجازا . ومنهم من يقول : لا ريب أن له ثبوتا في العلم ووجودا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات. وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت . كما فرق من قال : المعدوم شيء . ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع ، كما فرق أولئك ; إذ قد [ ص: 237 ] اتفقوا على أن الممتنع ليس بشيء وإنما النزاع في الممكن . وعمدة من جعله شيئا ، إنما هو لأنه ثابت في العلم ، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه ، وغير ذلك . قالوا : وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض . فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني ، وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي ، زالت الشبهة في هذا الباب .

    وقوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه . وبذلك كان مقدرا مقضيا . فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » . قال : « وعرشه على الماء » . وفي صحيح البخاري عن عمران [ ص: 238 ] بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات والأرض » . وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب قال : رب ، وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة » . إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوما مخبرا عنه ، مكتوبا ، فهو شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتا في الخارج . بل هو عدم محض ونفي صرف .

    وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات . وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع ، وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة ، وتعلقت به القدرة ، وخلق وكون كما قال : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فالذي يقال له "كن" هو الذي يراد ، وهو ، حين يراد قبل أن يخلق ، له ثبوت وتميز في العلم والتقدير . ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره ، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم . فإن قول السائل : إن كان المخاطب موجودا ، فتحصيل الحاصل محال . يقال له هذا إذا كان موجودا في الخارج وجوده الذي هو وجوده . ولا ريب أن المعدوم ليس موجودا ، ولا هو في نفسه ثابت . وأما ما علم وأريد وكان شيئا في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالا ، بل [ ص: 239 ] جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة .

    وقول السائل : إن كان معدوما فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ يقال له : أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال ، إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل . والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل . فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه مطلوب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل ، ولذلك أيضا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين . بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج وأنه يخاطب بأن يكون . وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه ، فليس ذلك محالا . بل هو أمر ممكن . بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه ؛ فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله وبوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب ، الذي قدره في نفسه ، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته . فإن كان قادرا على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم . وإن كان عاجزا ، لم يحصل . وقد يقول الإنسان : ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب . فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه . والله سبحانه على كل شيء قدير ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فإن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [118 ] وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون

    "وقال الذين لا يعلمون" من المشركين أو من أهل الكتاب وهو الأظهر . لأن ما تقدم ، كله في حوارهم ورد أضاليلهم ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به : لولا [ ص: 240 ] يكلمنا الله هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى ؟ استكبارا منهم وعتوا "أو تأتينا آية" جحودا لأن يكون ما أتاهم من آيات الله، آيات، واستهانة بها : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم أي : هذا الباطل الشنيع فقالوا : أرنا الله جهرة . وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه كما تعنت عليه تعنت على من قبله "تشابهت قلوبهم" أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتحكم على الأنبياء قد بينا الآيات لقوم يوقنون أي بالحق . لا تعتريهم شبهة ولا ريبة. وهذا رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح ، مكان الإتيان الذي طلبوه ، ما لا يخفى من الجزالة . والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ، ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين . وإنما لم يتعرض لرد قولهم "لولا يكلمنا الله" إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة له إلى الرد والجواب .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [119 ] إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم

    إنا أرسلناك بالحق بشيرا بالثواب للمؤمنين "ونذيرا" بالعقاب للكافرين "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" ولا نسألك عنهم : ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم ؟ كقوله : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم ، دون الكفر والتكذيب ونحوهما ، وعيد شديد لهم ، وإيذان بأنهم مطبوع على قلوبهم ، لا يرجى منهم الإيمان .

    والجحيم ، من أسماء النار وتطلق على النار الشديدة التأجج ، وعلى كل نار بعضها فوق بعض ، وعلى كل نار عظيمة في مهواة ، وعلى المكان الشديد الحر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 241 الى صـ 245
    الحلقة (47)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [120 ] ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير

    ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم أي لأنهم يريدون أن يكونوا متبوعين على الإطلاق . وفيه مبالغة في الإقناط من إسلامهم ، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه ، عليه السلام "قل" لا يتبع رسول إلا الهدى "إن هدى الله" أي الذي هو الإسلام "هو الهدى" أي فليس وراءه هدى . وما تدعون إليه ليس بهدى ، بل هو هوى . كما يعرب عنه قوله "ولئن اتبعت أهواءهم" أي آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم "بعد الذي جاءك من العلم" بأن دين الله هو الإسلام ، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة ما لك من الله من ولي يلي أمرك "ولا نصير" يدفع عنك عقابه . وإنما أوثر خطابه صلى الله عليه وسلم ليدخل دخولا أوليا من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكا بولايتهم ، طمعا في نصرتهم .

    قال الإمام الرازي : وفي الآية دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلا . فمن هذا الوجه تدل على بطلان التقليد . انتهى .

    وفي فتح البيان ما نصه : وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتنصدع منه الأفئدة ، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لتاركي العمل بالكتاب والسنة ، المؤثرين لمحض الرأي عليهما . انتهى .
    [ ص: 242 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [121 ] الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون

    الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون لما ذكر تعالى ، فيما تقدم ، عدم رضاء اليهود والنصارى إلا باتباع ملتهم ، لدعواهم أنهم على حق ، وأنهم مؤمنون بما لديهم - فند تعالى دعواهم الإيمان به بأن من أوتي الكتاب فتلاه حق تلاوته فذاك المؤمن به . والمذكورون ممن لم يتله حق تلاوته ، لما عدد من مساوئ اليهود أولا ، وشفعه بدعوى النصارى اتخاذ الولد . ومن كان يعتقد ذلك فأنى له الإيمان ؟ وهل هو ممن يتلو الكتاب حق تلاوته؟ وكتابه يأمر بتوحيد ربه والمشي مع شريعته وتصديق كل نبي يصدق ما معهم ، وقد كفروا بكل ذلك . فجملة "يتلونه" حال مقدرة من "هم" أو من "الكتاب" . وجوز أن تكون الآية سيقت مدحا لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن . فالضمير في "يتلونه" للقرآن . فتكون كآية : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وكآية : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا

    ومن تلاوته حق تلاوته الإيمان بأنه حق من ربهم ، وصبرهم ودرؤهم بالحسنة السيئة ، وإنفاقهم وسجودهم له تعالى فالآيتان مفسرتان لتلاوتهم حق تلاوته .

    [ ص: 243 ] وعن ابن مسعود : والذي نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزل الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله . ومثله عن ابن عباس .

    وقوله تعالى "أولئك" إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه "يؤمنون به" محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح . بقرينة قوله : ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون حيث اشتروا الضلالة بالهدى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [122 ] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [123 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون

    يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا أي خافوا "يوما لا تجزي" أي لا تغني "نفس عن نفس" فيه "شيئا ولا يقبل منها عدل" أي فداء "ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون" أي يمنعون من عذاب الله . وقد مر نظير الآيتين في صدر السورة .

    قال القاضي : ولما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعم ، والقيام بحقوقها ، والحذر عن إضاعتها ، والخوف من الساعة ، وأهوالها- كرر ذلك وختم به الكلام معهم ، مبالغة في النصح وإيذانا بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة .
    [ ص: 244 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [124 ] وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين

    "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" لما عاب سبحانه أهل الضلال ، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب ، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم- ذكر الجميع ما أنعم به عليه تذكيرا يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي ، الذي لم يخالط عالما قط ، على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء . وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم ، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلى ، تعظيما لأمره وتفخيما لعلي قدره ، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة ، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر- حث على الاقتداء به . وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد ، هز لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك . ذكره البقاعي.

    و "إذ" منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين. أي واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد ، الوازعة عن الشرك ، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل . ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على "اذكروا" خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى ، عمن ينتمون إلى ملته عن إبراهيم وبنيه عليهم السلام ، من الأفعال والأقوال ، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم . أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم ، فأتم ما ابتلاه به . فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله، في إيفاء العهد والثبات على الوعد ، لأجازيكم على ذلك جزاء المحسنين؟ والابتلاء في الأصل، الاختبار . أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه ، غالبا ، فعله أو تركه . والاختبار منا لظهور ما لم نعلم . ومن الله لإظهار ما قد علم . وعاقبه الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعا ، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى . وقوله تعالى "بكلمات" أي بشرائع : أوامر ونواه . وللمفسرين أقاويل فيها وفي [ ص: 245 ] تعدادها . قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين ، إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له . انتهى .

    وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام ، فأسلم لرب العالمين وابتلاؤه بالهجرة ، فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله . وابتلاؤه بالنار فصبر عليها ، ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه ، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب .

    كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز ، وسفر التكوين من التوراة . ففيهما بيان ما ذكرناه في شأنه عليه الصلاة والسلام . من قيامه بتلك الكلمات حق القيام ، وتوفيتهن أحسن الوفاء . وهذا معنى قوله تعالى "فأتمهن" كقوله تعالى : وإبراهيم الذي وفى والإتمام التوفية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 246 الى صـ 250
    الحلقة (48)

    "قال" جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام . فكأنه قيل : فما جوزي على شكره ؟ قيل : قال له ربه: إني جاعلك للناس إماما أي قدوة لمن بعدك . والإمام اسم لمن يؤتم به ، ولم يبعث بعده نبي إلا كان مأمورا باتباع ملته ، وكان من ذريته . كما قال تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب "قال" أي إبراهيم "ومن ذريتي" أي واجعل من ذريتي أئمة "قال لا ينال" أي قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك . لكن لا ينال "عهدي" أي الذي عهدته إليك بالإمامة "الظالمين" أي منهم . لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين . ففي قوله "لا ينال" .. إلخ إجابة خفية لدعوته عليه السلام . وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة . كما قال تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه ، [ ص: 246 ] لا سيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد ، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته ، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته ، فضربت عليهم الذلة وما معها ، ولا يجزى أحد عنهم شيئا ولا هم ينصرون . وقرئ "الظالمون" على أن "عهدي" مفعول مقدم اهتماما ورعاية للفواصل .

    وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة . والكشاف أوسع المقال ، في ذلك ، هنا ، وأبدع في إيراد الشواهد . كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ، ظاهرا وباطنا . على ما نقله الرازي عنهم وحاورهم .

    أقول : إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ . إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك .

    المراد بالعهد ، تلك الإمامة المسؤول عنها ، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته ؟ كما قال تعالى : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع . . . فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين . فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة . والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل . لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ؛ أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم . كما قاله بعضهم . وهو أشد تمحلا . ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع ، كما ورد . ومتى زاغ عن ذلك كان ظالما ، والبحث في ذلك له غير هذا المقام . وبالله التوفيق .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [125 ] وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود

    "وإذ جعلنا البيت" أي الذي بناه إبراهيم بأم القرى . وهو اسم غالب للكعبة. كالنجم [ ص: 247 ] للثريا "مثابة للناس" مباءة ومرجعا للحجاج والعمار ، يتفرقون عنه ثم يتوبون إليه . ومثابة مفعلة من (الثوب) وهو الرجوع تراميا إليه بالكلية . وسر هذا التفضيل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له . فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل :


    محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال


    فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار . ولا يقضون منه وطرا . بل كلما ازدادوا له زيارة ، ازدادوا له اشتياقا .


    لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا


    فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ! ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان ، مقدما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطب والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه !

    ذكر هذه الشذرة (الإمام ابن القيم في أوائل زاد المعاد).

    "وأمنا" موضع أمن . كقوله : حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وكقوله : ومن دخله كان آمنا وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون . وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له . وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلا تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطرا ، ولو ترددت إليه كل [ ص: 248 ] عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم إلى أن قال : ربنا وتقبل دعاء ومن كونه مأمنا لمن دخله . كما بينا .

    وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : « إن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض . وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار » . الحديث .

    وقوله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قرئ بكسر الخاء ، أمرا معترضا بين الجملتين الخبريتين . أو بتقدير : وقلنا اتخذوا . وقرئ بفتح الخاء ماضيا معطوفا على جعلنا . أي : واتخذوه مصلى ، ومقام إبراهيم هو الحرم كله . عن مجاهد . وعنه : هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة . ويقال : هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام . فقد قال قتادة : إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه . ولقد تكلفت الأمم شيئا مما تكلفته الأمم قبلها .

    [ ص: 249 ] قال الراغب الأصفهاني : والأولى أنه الحرم كله . فما من موضع ذكروه إلا هو مصلى ، أو مدعى أو موضع صلاة .

    أقول : كان الأصل في الآية : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ومصلى . إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك ، ودون أن يقال مثلا : واتخذوا منه مصلى - لوجوه :

    (أحدها) التنويه بأمر الصلاة فيه والتعظيم لشأنها حيث أفرد ، للعناية بها ، جملة على حدة.

    (وثانيها) التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة . وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم .

    (وثالثها) التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر ، تمهيدا للأمر باستقباله ، وإلزاما لمن جادل فيه ، وهم اليهود . وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة . وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه السلام عليه عند بناء البيت ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها . وهكذا حتى تم جدران الكعبة ، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري .

    [ ص: 250 ] قال ابن كثير : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكأن الخليل عليه السلام ، لما فرغ من بناء البيت ، وضعه إلى جدار الكعبة ، أو أنه انتهى عنده البناء ، فتركه هناك . ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف . وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه . كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا ، وجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .

    قال ابن كثير : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه . ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة . وقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

    وقال سفيان بن عيينة ، وهو إمام المكيين في زمانه : كان المقام من سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم . قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه . وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله : وقال أيضا : لا أدري أكان لاصقا بها أم لا .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 251 الى صـ 255
    الحلقة (49)

    وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقا بها . والله أعلم . وقال الحافظ الشيخ عمر بن الحافظ التقي محمد بن فهد المكي الهاشمي ، في كتاب (إتحاف الورى بأخبار أم القرى) في حوادث سنة سبع عشرة : فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم ، فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام [ ص: 251 ] إبراهيم من موضعه ، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة ، وعين مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل ، فأتي به وربط بلصق الكعبة في وجهها . وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد بن العاص بن أمية . فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة ، وكان سيلا هائلا . فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة ، فهاله ذلك . وركب فزعا إلى مكة . فدخلها بعمرة في شهر رمضان . فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف . ثم قال : أنشد الله عبدا عنده علم في هذا المقام ! . فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي رضي الله عنه : أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك ، فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر ، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر . ومن موضعه إلى زمزم بمقاط . وهي عندي في البيت . فقال له عمر : اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها . فجلس عنده وأرسل إليها فأتي بها . فقيس ، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن . وأحكم ذلك واستمر إلى الآن . انتهى : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أي أمرناهما . وتعديته بـ "إلى" لأنه في معنى : تقدمنا وأوحينا "أن طهرا بيتي" أي عن كل رجس حسي ومعنوي: فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع ، أو ابنياه على طهر من الشرك بي . كما قال تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود أو أخلصاه للطائفين وما بعده، لئلا يغشاه غيرهم . فاللام صلة "طهرا" على هذا . وعلى ما قبله ، لام العلة . أي طهراه لأجلهم . وقوله تعالى "للطائفين" أي حوله . وعن سعيد بن جبير : يعني من أتاه من غربة "والعاكفين" يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين . كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مكلم الأمير : أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام . فإنهم يجنبون ويحدثون . قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل [ ص: 252 ] عنهم فقال : هم العاكفون . ورواه عبد بن حميد في مسنده . وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب .

    وفي الكشاف: يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين . يعني القائمين في الصلاة .

    كما قال للطائفين والقائمين "والركع السجود" جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين . لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي . ولتقارب الأخيرين ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما . وجمع صفتين جمع سلامة ، وأخريين جمع تكسير لأجل المقابلة . وهو نوع من الفصاحة . وأخر صيغة (فعول) على (فعل) ; لأنها فاصلة. والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له . ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ففي ذلك تبكيت لهم وتنبيه على توبيخهم بترك دينه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [126 ] وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير

    "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا" أي الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني [ ص: 253 ] بأن أسكنته من ذريتي "بلدا" أي يأنس من يحل به "آمنا" أي من الخوف . أي لا يرعب أهله. وقد أجاب الله دعاءه . كقوله تعالى ومن دخله كان آمنا وقوله : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون إلى غير ذلك من الآيات . وصحت أحاديث متعددة بتحريم القتال فيه ، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح » فهو آمن من الآفات ، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله . كما فعل بأصحاب الفيل . وقوله تعالى في سورة إبراهيم : هذا البلد آمنا بتعريف البلد مع جعله صفة لهذا ، خلاف ما هنا ، إما أن يحمل على تعدد السؤال بأن تكون الدعوة الأولى المذكورة هنا ، وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا . كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلدا آمنا . لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع فقال ، ههنا ، اجعل هذا الوادي بلدا آمنا . والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا . فكأنه قال : اجعل هذا [ ص: 254 ] المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة . وإما أن يحمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر . فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين . وقد حكى ذلك هنا . واقتصر هناك على حكاية سؤال الأمن ، اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال اجعل أفئدة الناس تهوي إليه ، هذا خلاصة ما حققوه .

    وعندي أن السؤال والمسؤول واحد . إلا أنه تفنن في الموضعين . فحذف من كل ما أثبته في الآخر احتباكا . والأصل : رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا . وبه تتطابق الدعوتان على أبدع وجه وأخلصه من التكلف . على ما فيه من إفادة المبالغة . أي بلدا كاملا في الأمن : كأنه قيل: اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك: كان هذا اليوم يوما حارا . وفي القاموس وشرحه التاج : البلد والبلدة علم على مكة ، شرفها الله تعالى ، تفخيما لها . كالنجم للثريا . وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة خالية أو مسكونة . وفي النهاية: البلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء. وارزق أهله من الثمرات إنما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك ، لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر ، فاستجاب الله تعالى له ، فصارت يجبى إليها ثمرات كل شيء "من آمن منهم بالله واليوم الآخر" بدل من "أهله" ، بدل البعض ، يعني : ارزق المؤمنين من أهله خاصة . وإنما خصهم بالدعاء إظهارا لشرف الإيمان ، واهتماما بشأن أهله ، ومراعاة لحسن الأدب في المسألة . حيث ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين ، في باب الإمامة ، في قوله "لا ينال عهدي الظالمين" بعد أن سأل ، عليه السلام ، جعلها في ذريته ، فلا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء ، وفيه ترغيب لقومه في الإيمان ، وزجر عن الكفر "قال" الله تعالى معلما أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا ورزقها لجميع عمرة الأرض "ومن كفر" أي أنيله أيضا ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق ، فهو عطف على مفعول فعل محذوف ، دل الكلام عليه . ويجوز أن تكون "من" مبتدأ موصولة أو شرطية . وقوله "فأمتعه" خبره أو جوابه . وعبر عن رزقه [ ص: 255 ] بالمتعة التي هي الزاد القليل والبلغة ، تخسيسا له ، وأكد ذلك بقوله "قليلا" تمتيعا قليلا ، أو زمانا قليلا "ثم أضطره إلى عذاب النار" أي ألجئه إليه كما قال تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا و : يوم يسحبون في النار على وجوههم وقرئ فأمتعه قليلا ثم أضطره ، بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلام ، وفي "قال" ضميره "وبئس المصير" النار أو عذابها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 256 الى صـ 260
    الحلقة (50)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [127 ] وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم

    وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل أي اذكر بناءهما البيت ورفعهما القواعد منه . وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية ، لاستحضار صورتها العجيبة ، والقواعد : جمع قاعدة ، وهي الأساس والأصل لما فوقه ، وقال الزجاج : القواعد : أساطين البناء التي تعمده "ربنا تقبل منا" على إرادة القول أي : يقولان ، وترك مفعول "تقبل" ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات ، التي من جملتها ما هما بصدده من البناء . كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية "إنك أنت السميع" لدعائنا "العليم" بضمائرنا ونياتنا .

    وفي صحيح البخاري عن ابن عباس في حديث مجيء إبراهيم لتفقد إسماعيل عليهما السلام ، ثم قال : يا إسماعيل ! إن الله قد أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني ؟ [ ص: 256 ] قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها . قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحجر ، فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [128 ] ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم

    "ربنا واجعلنا مسلمين لك" مخلصين لك أوجهنا . من قوله : أسلم وجهه لله . أو مستسلمين ، يقال : أسلم له وسلم ، واستسلم ، إذا خضع وأذعن . والمعنى : زدنا إخلاصا أو إذعانا لك "ومن ذريتنا" واجعل من ذريتنا "أمة مسلمة لك" و "من" للتبعيض ، أو للتبيين ، كقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وإنما خصا الذرية بالدعاء ، لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع "وأرنا مناسكنا" أي عرفنا متعبداتنا ، جمع منسك بفتح السين وكسرها ، وهو المتعبد ، وشرعة العبادة . يقع على المصدر والزمان والمكان ، من النسك مثلثة وبضمتين وهو العبادة والطاعة ، وكل ما تقرب به إلى الله تعالى .

    ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج لشيوعها في أعماله ومواضعه . فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع ، وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن [ ص: 257 ] جبريل أرى إبراهيم المناسك وأن الشيطان تعرض له ، فرماه عليه السلام . قالوا : وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج ، حيث كان متلقى عن الله بلا واسطة ، لكونه علما على آتي يوم الدين ، حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد . والذي عول عليه أئمة اللغة ما ذكرناه أولا من حمل المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، واللزوم لما يرضيه ، وجعل ذلك عاما لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام . أي علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك ، وبماذا نتقرب إليك ، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه ؟ وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم هذا الدعاء استتابة لما فرط من التقصير . فإن العبد ، وإن اجتهد في طاعة ربه ، فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه، إما على سبيل السهو والنسيان ، أو على سبيل ترك الأولى ، فالدعاء منهما ، عليهما السلام ، لأجل ذلك .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [129 ] ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم

    ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم هذا إخبار عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، أي من ذرية إبراهيم ، وهم العرب من ولد إسماعيل . وقد أجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة ، فبعث في ذريته رسولا منهم ، وهو محمد ، صلى الله عليه وآله وسلم ، إلى الناس كافة ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه دعوة إبراهيم ، ومراده هذه الدعوة ; وذلك فيما خرجه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني ، عند الله ، لخاتم النبيين ، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته ، [ ص: 258 ] وسأنبئكم بأول ذلك : أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين » . وأخرج أيضا نحوه عن أبي أمامة ، قال : قلت : يا نبي الله ! ما كان أول بدء أمرك ؟ قال : « دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام » .

    والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام ، ولم يزل ذكره في الناس مشهورا حتى أفصح باسمه عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، حيث قال : إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وهذا معنى قوله في الحديث : « دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ابن مريم » . وقوله فيه « ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منها قصور الشام » . قيل : كان منها ما رأته حين حملت به ، وقصته على قومها ، فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة وإرهاصا . وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ، ولهذا يكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم -إذا نزل بدمشق- بالمنارة الشرقية البيضاء منها .

    ولهذا جاء في الصحيحين : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك » وفي صحيح البخاري « وهم بالشام » وقوله تعالى : يتلو عليهم آياتك هي إما الفرقان الذي أنزل على [ ص: 259 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، المتلو عليهم ، وإما الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته تعالى . ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها ، ويدعوهم إليها ، ويحملهم على الإيمان بها . وقوله تعالى "ويعلمهم الكتاب" أي الكامل الشامل لكل كتاب وهو القرآن و"الحكمة" هي السنة ، فسرها بها كثيرون . وعن مالك: هي معرفة الدين ، والفقه فيه ، والاتباع له . وقوله تعالى "ويزكيهم" أي يطهرهم من الشرك ، وسائر الأرجاس ، كقوله : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث

    [ ص: 260 ] ولما ذكر عليه السلام هذه الدعوات ، ختمها بالثناء على الله تعالى فقال : إنك أنت العزيز الحكيم والعزيز ذو العزة وهي القوة ، والشدة ، والغلبة ، والرفعة ، و "الحكيم" بمعنى الحاكم ، أو بمعنى الذي يحكم الأشياء ويتقنها ، وكلاهما من أوصافه تعالى .

    قال الراغب: إن قيل ما وجه الترتيب في الآية ؟ قيل : أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجز النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقا بالقرآن . وأما الترتيب ، فلأن أول منزلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ادعاء النبوة ، الإتيان بالآيات الدالة على نبوته ، ثم بعده تعليمهم الكتاب ، أي تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط ، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلى إفادة الحكمة ، وهي أشرف منزلة العلم ، ولهذا قال : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ثم بالتدرج في الحكمة يصير الإنسان مزكى أي مطهرا مستصلحا لمجاورة الله عز وجل . انتهى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #51
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 261 الى صـ 265
    الحلقة (51)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [130 ] ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين

    ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه هذا إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم ، وهو ما جاء به محمد [ ص: 261 ] صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين ، أي لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء إلا من سفه نفسه ، أي : حملها على السفه وهو الجهل .

    قال الراغب : وسفه نفسه أبلغ من جهلها ، وذاك أن الجهل ضربان : جهل بسيط ، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء . وجهل مركب وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل ، وفي الباطل أنه حق . والسفه أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده . فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم ، فإن ذلك لسفه نفسه ، وذلك أعظم مذمة ، فهو مبدأ كل نقيضة ، وذاك أن من جهل نفسه ، جهل أنه مصنوع ، وإذا جهل كونه مصنوعا جهل صانعه ، وإذا لم يعلم أن له صانعا ، فكيف يعرف أمره ونهيه ، وما حسنه وقبحه ؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه ، قال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقال : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم

    وقوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة ، وتكثير الأنبياء من نسله ، وإعطاء الخلة ، وإظهار المناسك عليه ، وجعل بيته آمنا ، ذا آيات بينات إلى يوم القيامة وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين لهم الدرجات العلى ، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح ، حيث جعله من المتصفين بها ، فهو حقيق بالإمامة ، لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين ، ففي ذلك أعظم ترغيب قي اتباع دينه ، والاهتداء بهديه . وأشد ذم لمن خالفه .

    قال الراغب : إن قيل كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا ، وبالصلاح في الآخرة ، والنظر يقتضي عكس ذلك . فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل ، وذلك يكون في الدنيا ، والاصطفاء [ ص: 262 ] حال يستحقه العبد بكونه صالحا ، فحقه أن يكون في الآخرة ؟

    قيل : الاصطفاء ضربان ، أحدهما كما قلت ، والآخر في الدنيا ، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته بخصوصية فيه ، وهو المعني بقوله : شاكرا لأنعمه اجتباه والصلاح وإن اعتبر بأحوال الدنيا ، فمجازى به في الآخرة ، فبين تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما علم الله من حكمته فيه ، ومحكوم له في الآخرة ، بصلاحه في الدنيا ، تنبيها أن الثواب في الآخرة لم يستحقه باصطفائه في الدنيا ، وإنما استحقه بصلاحه فيها . ويجوز أن يكون قوله "في الآخرة" أي في أفعال الآخرة لمن الصالحين . ويجوز أنه عنى بقوله "في الدنيا" حال بقائه ، و"في الآخرة" أي حال وفاته ، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه ، الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله : واجعل لي لسان صدق في الآخرين ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب: ظالم ، ومقتصد ، وسابق ، عبر عن السابق بالصالح ، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح . انتهى.

    وكل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم ، وإقامة للحجة عليهم ، لأن أكثر ذلك معطوف على "اذكروا" في قوله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي

    [ ص: 263 ] ولما ذكر إمامته عليه السلام ، ذكر ما يؤتم به فيه ، وهو سبب اصطفائه وصلاحه ، وذلك دينه ، وما أوصى به بنيه ، وما أوصى به بنوه بنيهم سلفا عن خلف ، ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبة أهل الكتاب إليه فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [131 ] إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين

    "إذ" أي اصطفيناه لأنه "قال له ربه أسلم" أي لربك ، أي انقد له ، وأخلص نفسك له ، أو استقم على الإسلام ، واثبت على التوحيد "قال أسلمت لرب العالمين" وظاهر النظم الكريم أن القول حقيقي ، وليس في ذلك مانع ، ولا ما جاء ما يوجب تأويله . وقول بعضهم : هو تمثيل، والمعنى : أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام- ليس بشيء . ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز ، إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [132 ] ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون

    "ووصى بها إبراهيم بنيه" شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره ، إثر بيان كماله في نفسه . والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته ، والضمير في "بها" إما عائد لقوله "أسلمت لرب العالمين" على تأويل الكلمة والجملة . ونحوه رجوع الضمير في قوله : وجعلها كلمة باقية إلى قوله : إنني براء مما تعبدون [ ص: 264 ] إلا الذي فطرني وقوله "كلمة" دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة . وإما عائد إلى الملة في قوله : ومن يرغب عن ملة إبراهيم وأيد الأول بكون الموصى به مطابقا في اللفظ لأسلمت ، وقرب المعطوف عليه . ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكورا صريحا ، ورد الإضمار إلى المصرح بذكره ، إذا أمكن ، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم . ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة . والكل حسن . وقوله تعالى "بنيه" تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحاق . وقرأت في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج ، بعد وفاة سارة أم إسحاق ، امرأة أخرى اسمها قطورة ، فولدت له : زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا ، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية "ويعقوب" معطوف على إبراهيم ، ومفعوله محذوف تقديره : ووصى يعقوب بنيه . لأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما أوصى إبراهيم بنيه . ودليل ذلك قوله تعالى : إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي كما سيأتي . وقرئ "ويعقوب" بالنصب عطفا على بنيه ، ومعناه : ووصى بها إبراهيم بنيه ، ونافلته يعقوب . وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم ، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة ، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة ، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام ، ولد له إسحاق [ ص: 265 ] وهو ابن مائة سنة ، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة ، وكان لإسحاق ، حين ولد له يعقوب وعيسو ، ستون سنة ، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه . ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وفي آية أخرى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة "يا بني" أي قال كل من إبراهيم ويعقوب ، على القراءة الأولى . وعلى الثانية : قال إبراهيم : يا بني إن الله اصطفى لكم الدين أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان ، وهو دين الإسلام ، الذي لا دين غيره عند الله تعالى "فلا" أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم : لا "تموتن إلا وأنتم مسلمون" وفي هذه الجملة إيجاز بليغ . والمراد : الزموا الإسلام ، ولا تفارقوه حتى تموتوا . وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام . فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ، لأنه هو المقدور . فلا يقال : صيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، وذا ليس بمقصود ، لأنه غير مقدور . وإنما المقدور فيه هو الكون على خلاف حال الإسلام ، فيعود النهي إليه ، ويكون المقصود النهي عن الاتصاف بخلاف [ ص: 266 ] حال الإسلام وقت الموت ، لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال . فإما أن يقال : استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني ، فيكون مجازا . أو يقال : استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه ، فيكون كناية.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #52
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 266 الى صـ 270
    الحلقة (52)


    قال الزمخشري : ونظير ذلك قولك : لا تصل إلا وأنت خاشع ، فلا تنهاه عن الصلاة ، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته ، والنكتة في إدخال حرف النهي عما ليس بمنهي عنه ، هو إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام ، موت لا خير فيه ، وأنه ليس بموت السعداء ، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم . كما تقول في الأمر : مت وأنت شهيد ، فليس مرادك الأمر بالموت ، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات . وإنما أمرته بالموت اعتدادا منك بميتته ، وإظهارا لفضلها على غيرها ، وإنها حقيقة بأن يحث عليها . هذا . وقد قرر سبحانه بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية ، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك . ولما حكى عنإبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه بالدين والإسلام ، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيدا للحجة على اليهود والنصارى ومبالغة في البيان بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [133 ] أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون

    أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت أي ما كنتم حاضرين حينئذ ، فـ "أم" منقطعة مقدرة بـ "بل" ، والهمزة ، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ . والشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر ، وحضور الموت حضور مقدماته "إذ قال" أي يعقوب [ ص: 267 ] "لبنيه" وهم : رأوبين ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، ويوسف ، وبنيامين ، ودان ، ونفتالي ، وجاد ، وأشير ، وهم الأسباط الآتي ذكرهم "ما تعبدون من بعدي" أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ، وأراد بسؤاله تقريرهم على التوحيد والإسلام ، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما : قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عطف بيان لآبائك ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه . لأن العم أب والخالة أم ، لانخراطهما في سلك واحد ، وهو الأخوة ، لا تفاوت بينهما ، ومنه حديث الترمذي عن علي كرم الله وجهه ، رفعه « عم الرجل صنو أبيه » أي لا تفاوت بينهما ، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة . وفي الصحيحين عن البراء ، رفعه : « الخالة بمنزلة الأم » ؛ وروى ابن سعد عن محمد بن علي مرسلا : « الخالة والدة » .

    [ ص: 268 ] "إلها واحدا" بدل من إله آبائك ، كقوله تعالى : بالناصية ناصية كاذبة خاطئة أو على الاختصاص ، أي نريد بإله آبائك إلها واحدا ، وفي ذلك تحقيق للبراءة من الشرك ، للتصريح بالتوحيد . ثم أخبروا بعد توحيدهم بإخلاصهم في عبادتهم ، بقولهم "ونحن له" أي وحده لا لأب ولا غيره "مسلمون" أي مطيعون خاضعون ، كما قال تعالى : وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن تنوعت شرائعهم ، واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون والآيات في هذا كثيرة ، والأحاديث . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ، ديننا واحد » وقد اشتمل نبأ وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لبنيهما على دقائق مرغبة في الدين . منها أنه تعالى لم يقل : « وأمر إبراهيم بنيه » بل قال "وصاهم" . ولفظ الوصية أوكد من الأمر ، لأن الوصية عند الخوف من الموت ، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم ، فدل على الاهتمام بالوصي به ، والتمسك به .

    ومنها تخصيص بنيهما بذلك ، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم ، فلما خصاهم بذلك في آخر عمرهما علمنا أن اهتمامهما [ ص: 269 ] بذلك كان أشد من اهتمامهما بغيره .

    ومنها أنهما ، عليهما السلام ، ما مزجا بهذه الوصية وصية أخرى ، وهذا يدل على شدة الاهتمام أيضا . إلى دقائق أخرى أشار إليها الفخر ، عليه الرحمة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [134 ] تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون

    "تلك" إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين "أمة" أي : جيل وجماعة "قد خلت" أي : سلفت ومضت "لها ما كسبت" في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق "ولكم ما كسبتم" أي مما أنتم عليه من الهوى خاص بكم ، لا يسألون هم عن أعمالكم "ولا تسألون عما كانوا يعملون" والمعنى أن أحدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا . فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا ، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم . فما اقتص عليكم أخبارهم ، وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إليه ، إلا لتفعلوا ما فعلوه ، فتنتفعوا . وإن أبيتم ، لم تنتفعوا بأعمالهم .

    قال الرازي : الآية دالة على بطلان التقليد ، لأن قوله "لها ما كسبت" يدل على أن كسب كل أحد يختص به ، ولا ينتفع به غيره ، ولو كان التقليد جائزا ، لكان كسب المتبوع نافعا للتابع ، فكأنه قال : إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلبا منكم أن تقلدوهم ، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم ، فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق . انتهى .

    ومعلوم أن اتباع الأنبياء عليهم السلام ، والإيمان بهم ، لا يسمى تقليدا ، لخروجه عن حده المقرر في كتب الأصول .

    ثم أخبر تعالى أنهم اعتاضوا عن الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم ، بأن صاروا دعاة إلى الكفر ، مع بيان بطلان ما هم عليه من كل وجه بقوله :
    [ ص: 270 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [135 ] وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

    "وقالوا" أي الفريقان من أهل الكتاب "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل" نتبع "ملة إبراهيم" ونستن بسنته لا نحول عنها كما تحولتم "حنيفا" أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ، لأن الحنف، محركة، يطلق على الاستقامة ، ومنه قيل للمائل الرجل أحنف ، تفاؤلا بالاستقامة كما قالوا للديغ : سليم . وللمهلكة : مفازة . ويطلق على ميل في صدر القدم ، واعوجاج في الرجل ، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى ، المائل عن الشرك إلى دين الله سبحانه .

    ولما أثبت إسلامه بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله "وما كان من المشركين" وفيه تعريض بأهل الكتاب ، وإيذان ببطلان دعواهم اتباعه عليه السلام ، مع إشراكهم بقولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، وقد أفادت هذه الآية الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان ، وأن الدين المرضي عند الله الإسلام ، وهو دعوة الخلق إلى توحيده تعالى ، وعبادته وحده ، لا شريك له .

    ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمدا خاتم النبيين لدعوة الناس جميعا إلى هذا الأصل .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #53
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 271 الى صـ 275
    الحلقة (53)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [136 ] قولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون

    "قولوا" أي يا أيها الذين آمنوا . وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم حيث يلقنهم ولا يستنطقهم فيقصروا في مقالهم : آمنا بالله وما أنـزل إلينا أي : من الكتاب الذي تقدم إنه الهدى : وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من الأحكام التي كانوا متعبدين بها ، مما اشتملت عليه صحف أبيهم إبراهيم عليه السلام ومن الموحى إليهم خاصة . والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر المتقدم ذكرهم ، جمع سبط وهو الحافد . سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق . وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل وما أوتي النبيون من ربهم مما ذكر ، وغيرهم. لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى "ونحن له مسلمون" منقادون .

    وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا » .
    [ ص: 272 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [137 ] فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم

    "فإن آمنوا" أي أهل الكتاب الذين أرادوا أن يستتبعوكم "بمثل ما آمنتم به" أي بما آمنتم به على الوجه الذي فصل . على أن المثل مقحم . وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود : بما آمنتم به . وقرأ أبي : بالذي آمنتم به "فقد اهتدوا" إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم . عكس ما قالوا : كونوا مثلنا تهتدوا "وإن تولوا" أي أعرضوا عن الإيمان بما آمنتم به. "فإنما هم في شقاق" أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء .

    قال القاضي : ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية إنه شقاق . وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه ، وفي استحقاق النار . فصار هذا القول وعيدا منه تعالى لهم ، وصار وصفهم بذلك دليلا على أن القوم معادون للرسول ، مضمرون له السوء ، مترصدون لإيقاعه في المحن ، فعند هذا أمنه الله تعالى من كيدهم وأمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال "فسيكفيكهم الله" تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به . وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم [ ص: 273 ] وإجلاء بني النضير "وهو السميع العليم" أتبع وعده بالنصر والكفاية ، بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من أمرهم لا يخفى عليه تعالى . فهو يسبب لكل قول وضمير منهم ما يرد ضرره عليهم . فهو وعيد لهم ، أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أي يسمع ما تدعو به ، ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق . وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [138 ] صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون

    "صبغة الله" مصدر مؤكد منتصب من قوله "آمنا بالله" كذا قاله سيبويه ، فهو بمثابة فعله . كأنه قيل صبغنا الله صبغة. أي صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بماء الشبه ، ولا تغلب صبغة غيره عليه . والصبغة كالصبغ (بالكسر فيهما لغة) ، ما يصبغ به وتلون به الثياب . ووصف الإيمان بذلك لكونه تطهيرا للمؤمنين من أوضار الكفر ، وحلية تزينهم بآثاره الجميلة ، ومتداخلا في قلوبهم . كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك . ويقال : صبغ يده بالماء غمسها فيه ، وأنشد ثعلب :


    دع الشر وانزل بالنجاة تحرزا إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ


    وقال الراغب : الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بداية العقول [ ص: 274 ] التي ميزنا بها من البهائم ، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله : فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله الآية ، والمعني بقوله عليه السلام : « كل مولود يولد على الفطرة . . . » الخبر ، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان التي ركب عليها ، إذا اعتبرت بذاته ، تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ . ولما كانت اليهود والنصارى ، إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية ، يقولون : قد صبغناه -بين تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق ، ولا أحد أحسن صبغة منه .

    (ثم قال) : وقول الحسن وقتادة ومجاهد : إن الصبغة هي الدين ، وقول غيرهم : إنها الشريعة ، وقول من قال : هو الختان- إشارة إلى مغزى واحد : ومن أحسن من الله صبغة الاستفهام للإنكار والنفي . أي : لا صبغة أحسن من صبغته تعالى . لأنها صبغة قلب لا تزول . لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم ، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه . والجملة اعتراضية مقررة لما في "صبغة الله" من معنى الابتهاج "ونحن له عابدون" شكرا لتلك النعمة ولسائر نعمه . فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نوكدها بالعبادة ، وهي تزيل رين القلب فينطبع فيه صورة الهداية . وهو عطف على آمنا ، داخل معه تحت الأمر .
    [ ص: 275 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [139 ] قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون

    "قل" منكرا لمحاجتهم وموبخا لهم عليها "أتحاجوننا في الله" أي : أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له واتباع الهدى وترك الهوى "وهو ربنا وربكم" المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له ، ونحن وأنتم في العبودية له سواء : ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم أي نحن برآء منكم ومما تعبدون ، وأنتم برآء منا . كما قال في الآية الأخرى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون وقال تعالى : فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن الآية. "ونحن له مخلصون" في العبادة والتوجه ، لا نشرك به شيئا وأنتم تشركون به عزيرا والمسيح والأحبار والرهبان . ولما بقي من مباهتاتهم ادعاؤهم أن أسلافهم كانوا على دينهم ، أبطلها سبحانه بقوله :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #54
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 276 الى صـ 280
    الحلقة (54)

    [ ص: 276 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [140 ] أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون

    "أم تقولون إن إبراهيم" خليل الله "وإسماعيل وإسحاق" ابنيه "ويعقوب" ابن إسحاق "والأسباط" أولاد يعقوب : "كانوا هودا أو نصارى" أي على ملتهم ، إما اليهودية وإما النصرانية "قل أأنتم أعلم أم الله" أي الذي له الإحاطة كلها أعلم . فلا يمكنهم أن يقولوا : نحن . وإن قالوا : الله ، فقد برأ الله إبراهيم ومن معه من ذلك . فبطل ما ادعوا . وثبت أنهم ، عليهم السلام ، كانوا على الحنيفية مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية . هذا مع أن رد قولهم هذا أظهر ظاهر من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابق على نسبة للاحق ، ما حدثت إلا بعده بمدد متطاولة . وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عمران . ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه ، عليهم السلام ، على دين الإسلام ، وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك . مع تقرير الله لهم به واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل الآية- أشار إلى أشد الوعيد في كتمان ذلك بقوله : ومن أظلم ممن كتم شهادة موجودة وموعودة "عنده من الله" وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله . والاستفهام إنكار لأن يكون أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا شهادته تعالى لهم ، عليهم السلام ، بالحنيفية والبراءة من الفريقين .

    [ ص: 277 ] قال التقي ابن تيمية : سمى تعالى ما عندهم من العلم شهادة كما قال : إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى الآية ، كأنه قال : خبرا عنده ، دينا عنده من الله ، وبيانا عنده من الله ، وعلما عنده من الله فإن كان قوله "من الله" متعلقا بـ "كتم" فإنه يعم كل الشهادات . وإن كان متعلقا بـ "عنده"، وهو الأوجه ، أو بشهادة ، أو بهما ، فإن الأمر في ذلك واحد . أي شهادة استقرت عنده من جهة الله . فهو كتمان شهادات العلم الموروث عن الأنبياء . فسمى الإخبار به شهادة.

    ثم قال : وكذلك الأخبار النبوية إنما يراد بالشهادة فيها الإخبار : وما الله بغافل عما تعملون تهديد ووعيد شديد . أي أن علمه محيط بكم وسيجزيكم عليه .

    قال الرازي : هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد . ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ، ولا يخفى عليه خافية ، وأنه من وراء مجازاته ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف . ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس ، لكان دائم الحذر والوجل ، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر ، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى ، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول ؟
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [141 ] تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون

    تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم فلا يسألون عن أعمالكم [ ص: 278 ] ولا تسألون عما كانوا يعملون لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين ، ولم يدع لهم متمسكا من جهتهم ، أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان . وأنه لا ينفعهم إلا ما يستجدونه بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض ، أحمرهم وأسودهم . . أي فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة . فلها ما كسبت . وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم . ولا تسألون إلا عن عملكم .

    قال الراغب : إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس ، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم . سيما في أمور دينهم .

    ولهذا حكى عن الكفار قولهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة . وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك ، تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن . فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه ، وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيها على نحو ما قال : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وقوله : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم : كل شاة تناط برجليها .
    [ ص: 279 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [142 ] سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

    سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها روى البخاري في صحيحه عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ، صلاة العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت .

    وروى مسلم عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم ولفظه : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، ثم صرفنا نحو الكعبة .

    وروى الشيخان عن ابن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن . وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة . (اللفظ لمسلم)

    والأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متوافرة ، وفيما ذكرنا كفاية .

    [ ص: 280 ] وقد أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن فريقا من الناس سينكرون تغيير القبلة وسماهم سفهاء ، جمع سفيه ، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل . قال أبو السعود : أي الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر . انتهى .

    ومعنى قوله "ما ولاهم" أي أي شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، أي ثابتين على التوجه إليها ، وهي بيت المقدس . ومدار الإنكار ، إن كان القائلون هم اليهود ، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم ، وإن كان غيرهم ، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه . وقد روي عن ابن عباس : أن القائلين هم اليهود ، وعن الحسن أنهم مشركو العرب . وعن السدي أنهم المنافقون .

    قال الراغب : ولا تنافي بين أقوالهم فكل قد عابوا ، وكل سفهاء .

    (تنبيه) : ظاهر قوله تعالى "سيقول السفهاء" إلخ ، أنه إخبار بقولهم المذكور ، ثم إن الإخبار قبل وقوعه . وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم ، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد ، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أرد ، مع ما فيه من دلائل النبوة حيث يكون إخبارا عن غيب ، فيكون معجزا : قل لله المشرق والمغرب جواب عن شبهتهم . وتقريره أن الجهات كلها لله ملكا ، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة . بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى ، وما أمر به فهو الحق : يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم وتفخيم شأن الكعبة . كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى وطهر بيتي


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #55
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 281 الى صـ 285
    الحلقة (55)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [143 ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم

    "وكذلك" أي كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها "جعلناكم أمة وسطا" أي عدولا خيارا . وقوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا تعليل للجعل المنوه به الذي تمت المنة به عليهم . واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة . إما بالبصر أو بالبصيرة . قال الرازي : الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية ، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ، ولما كان بين الإبصار بالعين ، وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة ، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهودا ، والعارف بالشيء شاهدا ومشاهدا ، ثم سميت الدلالة على الشيء شاهدا على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا . ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك ، سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا . وبالجملة ، فكل من عرف حال شيء ، وكشف عنه كان شاهدا عليه . انتهى .

    والشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة . وهو ، بالمعنى الثالث ، من النعوت الجليلة . ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة . كما ترى في هذه الآية وفي آية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على [ ص: 282 ] هؤلاء شهيدا وآية وادعوا شهداءكم والشهداء والصالحين ثم إن في اللام في قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس وجهين (الأول) إنها لام الصيرورة والعاقبة . أي فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطا أن كنتم شهداء على الناس ، وهم أهل الأديان الأخر . أي بصراء على كفرهم بآيات الله وما غيروا وبدلوا وأشركوا وألحدوا . مما قص عليكم في الآيات قبل، حتى أحطتم به خبرا . فعرفتم حق دينهم من باطله ، ووحيه من مخترعه . يعني : وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم ، وعافاكم مما ابتلى به سواكم ، حيث وفقكم للمنهج السوي وهداكم للمهيع الرضي ، وكذلك صار الرسول عليكم شهيدا بأنكم عرفتم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، والنور من الظلمات ، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته . فعظمت المنة لله عليكم ; إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة ، علماء بعد الجهالة . ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى ، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم ، فتقوم عليهم الحجة كما قامت من أولئك .

    (الوجه الثاني) أن تكون اللام للتعليل ، على أصلها . والمعنى : جعلناكم أمة خيارا لتكونوا شهداء على الناس ، أي رقباء قواما عليهم بدعائهم إلى الحق وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال ، كما كان الرسول شهيدا عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم . فتكون الآية نظير آية كنتم خير أمة أخرجت [ ص: 283 ] للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وربما آثر هذا المعنى من قال : خير ما فسر القرآن بالقرآن ، لتماثل الآيتين بادئ بدء . فإن الوسط بمعنى الخيار . وقد صرح به في قوله "خير أمة" وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية : لتكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس: أي شهداء على حقية رسالته ، وذلك بالدعوة إليها ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها .

    وبعد كتابة هذا رأيت السمرقندي في تفسيره نقل خلاصة ما قلناه . وعبارته : وللآية تأويل آخر "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" أي عدولا "لتكونوا شهداء على الناس" إلخ يقول : إنكم حجة على جميع من خالفكم . ورسول الله عليه السلام حجة عليكم . والشهادة في اللغة هو البيان. ولهذا سمي الشاهد بينة ; لأنه يبين حق المدعي . يعني إنكم تبينون لمن بعدكم ، والنبي عليه السلام يبين لكم . انتهى .

    وأوضح ذلك الراغب الأصفهاني بأسلوب آخر فقال : إن قيل : على أي وجه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وشهادة الأمة على الناس ؟ قيل : الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مثبتا حكمه . وأعظم شاهد من ثبت شهادته بحجة ، ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر ، وكمله ببعثة الأنبياء ، وخص هذا الأمة بأتم كتاب ، كما وصفه بقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله : ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ ص: 284 ] فأفادناه عليه السلام وبينه لنا- صار حجة وشاهدا أن يقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير وجعل أمته ، المتخصصة بمعرفته ، شهودا على سائر الناس . (إن قيل) هل أمته شهود كلهم أم بعضهم ؟ (قيل) كلهم ممكن من أن يكونوا شهداء . وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح ، فمن لم يزك نفسه لم يكن شاهدا ومقبولا . ولذلك قال تعالى : قد أفلح من زكاها وعلى هذا قال : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فالقيام بالقسط مراعاة العدالة ، وهي، بالقول المجمل ثلاث : عدالة بين الإنسان ونفسه -وعدالة بينه وبين الناس- وعدالة بينه وبين الله عز وجل . فمن رعى ذلك فقد صار عدلا شاهدا لله عز وجل . (إن قيل) فهل هم شهود على بعض الأمة أم على الناس كافة ؟ (قيل) بل كل شاهد على نفسه ، وعلى أمته وعلى الناس كافة ، فإن من عرف حكمة الله تعالى وجوده ، وعدله ، ورأفته ، علم أنه لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس ، ولا بخل عليهم ولا ظلمهم ، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على من في زمانه وعلى [ ص: 285 ] من قبله ومن بعده . وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر « أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم » . انتهى كلام الراغب . والخبر الذي أشار إليه رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب . فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم . فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا » . فذلك قوله جل ذكره : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقد روي مرفوعا عن جابر . أخرجه الطبري . وعن ثلة من التابعين من قولهم .

    وأقول : قد بينا مرارا ، أن مثل هذا الخبر وكل ما يروى مرفوعا أو غير مرفوع في تأويل هذه الآية ، فكله يفيد أن للآية عموما يشمل ما ذكر ، لا أنها خاصة به لا يستفاد منها غيره . كما أوضحناه في المقدمة في قولهم : نزلت الآية في كذا . وعليه، فلا تنافي بين ما يفهم من سياق الآية أو ما يتقاضاه معناها لغة ، من حيث عمومها ، أو ما يحمل عليها من نظائرها في التنزيل الكريم ، وبين ما يروى في تفسيرها ، فمآل ما يتعدد من سبب النزول في آية ما ، أو ما يكثر من الآثار في وجوهها ، كله من باب تفسير العام ببعض ما يتناوله لفظه . ولذلك يكثر في بعض طرق الروايات ؛ ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى . أو : ثم قرأ . أو اقرأوا إن شئتم . مما يدل على أنه ذكرت الآية حجة لما أخبر به ; لأنه مما يندرج فيها . فاحرص على ذلك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #56
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 286 الى صـ 290
    الحلقة (56)

    تنبيهات :

    الأول : استدل بالآية على أن الإجماع حجة ; لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة . والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها ، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله ، فإجماع الأمة حق ; لا تجتمع الأمة - والحمد لله - على ضلالة . كما وصفها الله بذلك في الكتاب فقال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف ، وينهون عن كل منكر . كما وصف نبيهم صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله : الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وبذلك وصف المؤمنين في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال ، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه ، وقد جعلهم الله شهداء على الناس . وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول . وقد ثبت في الصحيح عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم « وجبت » ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال « وجبت » . [ ص: 287 ] فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال : « هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ; أنتم شهداء الله في الأرض » .

    وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية : وكذلك جعلناكم إلى آخرها .

    فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء ، لم يشهدوا بباطل ، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء ، فقد أمر به ، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه . ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض . بل زكاهم الله في شهادتهم ، كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق ، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا الحق .

    هذه نبذة من كلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة ، في الإجماع ، من بعض رسائله .

    (الثاني) مما يتعلق أيضا بهذا المقام ، ما قاله أيضا هذا الإمام في رسالته إلى جماعة عدي بن مسافر . ونصه : فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة ، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة . ولهذا كان إجماعهم حجة ، كما كان الكتاب والسنة حجة . ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، رواها عنه أهل السنن والمسانيد ، كالإمام أحمد ، [ ص: 288 ] وأبي داود ، والترمذي وغيرهم ، أنه قال : « ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا واحدة ، وهي الجماعة » . وفي رواية : « من كان على مثل ما أنا عليه اليوم ، وأصحابي » . وهذه الفرقة الناجية أهل السنة . وهم وسط في النحل ، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ، ورسله ، وعباده الصالحين ، لم يغلوا فيهم كما غلت في النصارى فـ : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم [ ص: 289 ] وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ولا جفوا عنهم ، كما جفت اليهود ، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا . بل المؤمنون آمنوا برسل الله ، وعزروهم ، ونصروهم ، ووقروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، ولم يعبدوهم ، ولم يتخذوهم أربابا . كما قال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح ، فلم يقولوا : هو الله ، ولا ابن الله ، ولا ثالث ثلاثة . كما تقوله النصارى . ولا كفروا به ، وقالوا على مريم بهتانا عظيما ، حتى جعلوه ، ولد غية ، كما زعمت اليهود . بل قالوا : هذا عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، وروح منه . وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله ، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ، ويمحو ما شاء ويثبت . كما قالته اليهود . كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وبقوله [ ص: 290 ] وإذا قيل لهم آمنوا بما أنـزل الله قالوا نؤمن بما أنـزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله ، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا . كما يفعله النصارى . كما ذكر الله عنهم بقوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #57
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 291 الى صـ 295
    الحلقة (57)

    قال عدي بن حاتم رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : « ما عبدوهم ، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم » . والمؤمنون قالوا : لله الخلق والأمر ، فكما لا يخلق غيره ، لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا ، فأطاعوا [ ص: 291 ] كل ما أمر الله به . وقالوا : إن الله يحكم ما يريد . وأما المخلوق ، فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ، ولو كان عظيما . وكذلك في صفات الله تعالى ، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ، فقالوا : هو فقير ونحن أغنياء . وقالوا يد الله مغلولة . وقالوا : إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت . إلى غير ذلك . والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به . فقالوا إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ، ويثيب ويعاقب . والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى . ليس له سمي ولا ند ولم يكن له كفوا أحد و ليس كمثله شيء فإنه رب العالمين ، وخالق كل شيء ، وكل ما سواه عباد له ، فقراء إليه .

    [ ص: 292 ] إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ومن ذلك : أمر الحلال والحرام ، فإن اليهود كما قال الله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط ، ولا شحم الثرب (الثرب : شحم رقيق يغشي الكرش والأمعاء ، وجمعه ثروب) والكليتين ، ولا الجدي في لبن أمه . إلى غير ذلك ، مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما . حتى قيل : إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعا . والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمرا ، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يواكلوا الحائض ، ولا يجامعوها في البيوت .

    وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات ، وباشروا جميع النجاسات ، وإنما قال لهم المسيح : ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ولهذا قال تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

    وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات [ ص: 293 ] ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون

    وهذا باب يطول وصفه ، وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق . فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته ، وسط بين أهل التعطيل ، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهوه بالعدم والموات . وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات . فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه ، وما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف وتمثيل ، وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله ، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء . وبين المفسدين لدين الله . الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل ، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب . فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير . فيقدر أن يهدي العباد ، ويقلب قلوبهم . وإنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . فلا يكون في ملكه ما لا يريد ، ولا يعجز عن إنفاذ مراده . وإنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات . ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل . وأنه مختار . ولا يسمونه مجبورا . إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره . والله سبحانه جعل العبد مختارا لما يفعله . فهو مختار مريد ، والله خالقه وخالق اختياره . وهذا ليس له نظير . [ ص: 294 ] فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .

    وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ، وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية . ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم . وبين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء . والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان ، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية . فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله . وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة . وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، أو مثقال خردلة من إيمان . وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته . وهم أيضا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، وسط بين الغالية الذي يغالون في علي رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما ، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا ، وكفروا الأمة بعدهم كذلك ، وربما جعلوه نبيا أو إلها . وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما ، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما . ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما . ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته .

    وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط . لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. انتهى .

    "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" أي ما شرعنا القبلة ، كقوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة أي ما شرعها . و "التي كنت عليها" ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي "جعل" أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أي في مكة تستقبلها قبل [ ص: 295 ] الهجرة ، وهي الكعبة . يعني : وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء . أو "كنت عليها" بمعنى صرت عليها الآن . كقوله تعالى كنتم خير أمة أو بمعنى كنت على تطلبها ، أي حريصا عليه ، وراغبا فيه . كما يفصح عنه قوله تعالى بعد قد نرى تقلب وجهك الآية .

    وعلى هذه الأوجه ، فتكون الآية بيانا للحكمة في جعل الكعبة قبلة ، أو معنى "التي كنت عليها" : قبل وقتك هذا ، وهي بيت المقدس . أي : إنما شرعنا لك التوجه أولا إليه ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ، حيثما توجهت ، من غيره . فتكون الآية بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة أولا .

    ثم اعلم أن الحكمة هو التمييز بين الناس بقوله : إلا لنعلم من يتبع الرسول في كل ما يؤمر به ، فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيان ما وجهه "ممن ينقلب على عقبيه" أي يرتد عن دينه فينافق أو يكفر ممن كان يظهر الاتباع . وأصل المنقلب على عقبيه : الراجع مستديرا في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفا عنه . استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #58
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 296 الى صـ 300
    الحلقة (58)

    قال ابن جرير : قد ارتد ، في محنة الله أصحاب رسوله في القبلة ، رجال ممن كان قد أسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من [ ص: 296 ] أجل ذلك نفاقهم . وقالوا : ما بال محمد يحولنا مرة إلى ههنا ومرة إلى ههنا ؟ وقال المسلمون ، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت . وقال المشركون : تحير محمد في دينه . فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصا للمؤمنين . انتهى .

    (لطيفة) العقبين تثنية عقب وهو مؤخر القدم . والانقلاب عليهما استعارة تمثيلية ، وهذه الاستعارة نظير قوله تعالى : ثم أدبر واستكبر وكقوله : كذب وتولى

    (تنبيه) قال الراغب رحمه الله : ما وجه قوله "إلا لنعلم" وذلك يقتضي استفادة علم ، ولم يزل تعالى عالما بما كان وبما يكون ؟ (قيل) : إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى . ومجاز ذلك على أوجه : (الأول) أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين : حدوث الفعل في نفسه وحدوث العلم به . ولما كان علم الله لم يزل ولا يزال ، صار اللام فيه مقتضيا حدوث الفعل لا حدوث العلم .

    (والثاني) أن العلم يتعلق بالشيء على ما هو به . والله تعالى علمهم ، قبل أن يتبعوه ، غير تابعين . وبعد أن تبعوه علمهم تابعين . وهذا الجواب هو في الحقيقة الأول . لأن التغيير داخل في المعلوم لا في العلم .

    (والثالث) معناه ليعلم غيرنا بنا . فنسب ذلك إلى نفسه . كقوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها [ ص: 297 ] وفي موضع آخر قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم وقال تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم وإنما علمه بملائكته .

    (والرابع) معناه لنجازي . وذلك متعارف . نحو قولك : سأعلم حسن بلائك . أي سأجزيك على حسب مقتضى علمي قبل . فعبر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه .

    (والخامس) أن عادة الحليم إذا أفاد غيره علما أن يقول : تعال حتى نعلم كذا . وإنما يريد إعلام المخاطب . لكن يحل نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف . انتهى .

    والوجه الثالث هو الذي اختاره الإمام ابن جرير قال : أما معناه عندنا : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي : من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه .

    (قال) وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس ، إلى الرئيس ، وما فعل بهم ، إليه . نحو قولهم : فتح عمر بن الخطاب سواد العراق وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه ، عن سبب كان منه في ذلك . وكالذي روي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يقول الله [ ص: 298 ] جل ثناؤه : مرضت فلم يعدني عبدي . واستقرضته فلم يقرضني » فأضاف ، تعالى ذكره ، الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره ، إذ كان ذلك عن سببه .

    قد حكي عن العرب سماعا : أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير ظهري . بمعنى جوع أهله وعياله وعري ظهورهم . فكذلك قوله "إلا لنعلم" بمعنى : يعلم أوليائي وحزبي اهـ.

    "وإن كانت" أي التولية إليها أو الجعلة أو التحويلة "لكبيرة" أي ثقيلة شاقة . لأن مفارقة الإلف ، بعد طمأنينة النفس إليه ، أمر شاق جدا إلا على الذين هدى الله قلوبهم ، فأيقنوا بتصديق الرسول وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه . وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء . وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ، بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر ، أحدث لهم شكا . كما يحصل ، للذين آمنوا ، إيقان وتصديق . كما قال تعالى : وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون وقال تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وقوله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم هذا تطمين لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين ومن أهل الكتاب قبل النسخ . [ ص: 299 ] وبيان أنهم يثابون على ذلك . وقد روى البخاري من حديث أبي إسحاق المتقدم عن البراء : وكان الذي مات على القبلة ، قبل أن تحول قبل البيت ، رجال قتلوا ، لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم . وإنما عدل إلى لفظ الإيمان ، الذي هو عام في الصلاة وغيرها ، ليفيدهم أنه لم يضع شيء مما عملوه ، ثم يصح عنهم ، فيندرج المسؤول عنه اندراجا أوليا ، ويكون الحكم كليا . وذكر بلفظ الخطاب دون الغائب ، ليتناول الماضين والباقين ، تغليبا لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة ، بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة . ولما انطوى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود - أجابه الحق إلى ذلك بقوله :
    [ ص: 300 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [144 ] قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون

    قد نرى تقلب وجهك في السماء أي تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء تشوفا لنزول الوحي بالتحويل .

    قالوا : وفي ذلك تنبيه على حسن أدبه حيث انتظر ولم يسأل . وهذا ألطف مما قيل : إن تقلب وجهه كناية عن دعائه ، ولا مانع أن يراد بتقلب وجهه صلى الله عليه وسلم بالتحويل ، ففيه إعلام بما جعله تعالى من اختصاص السماء بوجه الداعي . وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة ، فهي متقدمة في المعنى ، فإنها رأس القصة فلنولينك قبلة ترضاها أي : لنعطينك أو لنوجهنك إلى قبلة تحبها وتميل إليها . ودل على أن مرضيه الكعبة ، بفاء السبب في قوله : فول وجهك شطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته . والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين : وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره أي حيثما كنتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم في الصلاة تلقاء المسجد . وأما سر الأمر بالتولية خاصا وعاما ، فقال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفا له وإيجابا لرغبته . وأما خطابه العام بعده ، فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص عليه السلام به . كما خص في قوله : قم الليل ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطر ، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ وليكون لهم في ذلك تشريف . ولأن في الخطاب العام [ ص: 301 ] تعليق حكم آخر به . وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #59
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 301 الى صـ 305
    الحلقة (59)

    وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم قال الفخر : الضمير في قوله "أنه الحق" راجع إلى مذكور سابق . وقد تقدم ذكر الرسول، كما تقدم ذكر القبلة . فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق ، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة ، وأنهم يعلمون أنه الحق . وهذا الاحتمال الأخير أقرب; لأنه أليق بالمساق .

    ثم ذكر من وجوه علمهم لذلك : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام . وأنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه من المعجزات . ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق . فكان هذا التحويل حقا .

    قلت : وثم وجه آخر أدق مما ذكره الفخر في علمهم حقية ذلك التحويل وأنه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم . وبيانه أن أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكافة من اتبعه ، باستقبال الكعبة ، من جملة الاستعلان في فاران المذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين وبشارة به . فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية – (ويقال الاستثناء) هكذا : وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال : جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران .

    وهذه البشارة تنبه على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ; لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء ، والإنجيل على عيسى في جبل سعير . لأنه عليه السلام كان يسكن أرض الخليل من سعير بقرية تدعى الناصرة . وتلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران . وفاران هي مكة . لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب . ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل [ ص: 302 ] عليه السلام هكذا : وكان الله مع الغلام فكبر . وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس ، وسكن في برية فاران .

    ولا شك أن إسماعيل ، عليه السلام ، كان سكناه في مكة ، وفيها مات وبها دفن .

    وقال ابن الأثير : وفي الحديث ذكر جبل فاران اسم لجبال مكة بالعبراني . له ذكر في أعلام النبوة ، وألفه الأولى ليست بهمزة وما الله بغافل عما يعملون قرئ بالياء والتاء . فيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم .

    ولما بين تعالى أنهم يعلمون أن هذه القبلة حق ، أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [145 ] ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين

    ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب أي من اليهود والنصارى "بكل آية" أي برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق "ما تبعوا قبلتك" أي هذه التي حولت إليها . لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة . إنما هو عن مكابرة وعناد ، مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق . وقوله تعالى : وما أنت بتابع قبلتهم هذا حسم لأطماعهم في العود إليها . أو للمقابلة . يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك وما بعضهم بتابع قبلة بعض فلا اتفاق بين فريقيهم ، مع كون الكل من بني إسرائيل .

    قال الزمخشري : أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه . فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان . والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده . وفيه إراحة للنبي صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدى بعضهم .

    [ ص: 303 ] فوائد

    الأولى : قال الراغب : إن قيل كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق ؟ قيل : قال بعضهم : إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض . وهذا صحيح. بدلالة أنك لو قلت : ما آمنوا ولكن آمن بعضهم ، لم يكن منافيا . وقيل : عني به أقوام مخصوصون .

    الثانية : قال الراغب : في قوله تعالى "وما أنت بتابع قبلتهم" إشارة على أن من عرف الله حق معرفته ، فمن المحال أن يرتد . ولذا قيل : ما رجع من رجع إلا من الطريق : أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول .

    إن قيل : فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتد ! . (قيل) إن الذي يقدر أنه معرفة ، هو ظن متصور بصورة العلم . فأما أن يحصل له العلم الحقيقي ثم يعقبه الارتداد فبعيد ، ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة ، فإن تلك كشررة تخمد إذا لم تتوقد .

    الثالثة : قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، في بدائع الفوائد: قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله . بل بمشورة واجتهاد منهم . أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق . وهم يقرون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل . وهي الصخرة ، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة . فهم مع اليهود ، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدا . والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر . وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة . وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا . فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه . فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة . وقوله : ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : وما أنت بتابع قبلتهم كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير . بمعنى : ولئن اتبعتهم ، مثلا ، بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر "إنك إذا لمن الظالمين" أي المرتكبين الظلم الفاحش.

    [ ص: 304 ] وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ، ويتبع الهوى . وتهييج وإلهاب للثبات على الحق . أفاده الزمخشري .

    تنبيهات :

    الأول : قال الراغب : حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم . ونبه أن اتباع الهوى بعد التحقق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة ، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة مواضع . وقول من قال : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعني به الأمة ، فلا معنى لتخصصه . فإن الله تعالى يحذر نبيه من اتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره . فذو المنزلة الرفيعة إلى تحذير الإنذار عليه أحوج ، حفظا لمنزلته وصيانة لمكانته اهـ. وهو كلام نفيس جدا .

    (الثاني) في الآية تنويه بشأن العلم . حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم ، فذلك ينبه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة.

    (الثالث) دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم . لأن قوله تعالى : من بعد ما جاءك من العلم يدل على ذلك . ذكره الرازي.
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [146 ] الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون

    الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة لا امتراء فيها ، كما لا يمترون في معرفة أولادهم من بين أولاد الناس . وهذه المعرفة مستفادة من الكتاب . كما أخبر تعالى عن نعته فيه بقوله : يجدونه مكتوبا [ ص: 305 ] عندهم في التوراة والإنجيل يعني يعرفونه بالأوصاف المذكورة في التوراة والإنجيل بأنه هو النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم . كما يعرفون أبناءهم ، ولا تلتبس أشخاصهم بغيرهم . فهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية ، بالمعرفة الحسية في أن كلا منهما يقيني ، لا اشتباه فيه .

    وقد روي عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمدا كما تعرف ولدك ؟ قال : نعم وأكثر ; نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته ، وإني لا أدري ما كان من أمه . فقبل عمر رأسه وإن فريقا منهم أي أهل الكتاب ، مع ذلك التحقق والإيقان العلمي ليكتمون الحق أي يخفونه ولا يعلنونه وهم يعلمون أي الحق ، أو عقاب الكتمان ، أو أنهم يكتمون . قال الراغب : لم يقل يكتمونه . لأن في كتمان أمره كتمان الحق جملة . وزاد في ذمهم بقوله "وهم يعلمون" فإنه ليس المرتكب ذنبا عن جهل ، كمن يرتكبه عن علم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #60
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 306 الى صـ 310
    الحلقة (60)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [147 ] الحق من ربك فلا تكونن من الممترين

    "الحق من ربك" أي الحق من الله ، لا من غيره . يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله ، كالذي أنت عليه . وما لم يثبت أنه من الله ، كالذي عليه أهل الكتاب ، فهو الباطل . أي : [ ص: 306 ] هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك . وقرأ علي رضي الله عنه "الحق" ، بالنصب على الإبدال من الأول ، كما في الكشاف . أو المفعولية لـ "يعلمون" . كما قاله أبو البقاء. "فلا تكونن من الممترين" الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم ، أو في الحق الذي جاءك من ربك ، وهو ما أنت عليه . ومعلوم أن الشك غير متوقع منه . ففيه تعريض للأمة . وقال الراغب : ليس هذا بنهي عن الشك لأنه لا يكون بقصد من الشاك ، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها . وعلى ذلك قوله إني أعظك أن تكون من الجاهلين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [148 ] ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير

    "ولكل وجهة" أي لكل أمة ، أو لكل نبي قبلة أو شرعة ومنهاج "هو موليها" وجهه . أي مائل إليها بوجهه ، تابع لها . لأنها حببت إليه ، وزينت له . وقال أبو معاذ : موليها بمعنى متوليها . أي تولاها ورضيها واتبعها "فاستبقوا الخيرات" أي ابتدروها بالمسابقة إليها . وهذا أبلغ من الأمر بالمسارعة ، لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق ، والمراد بالخيرات جميع أنواعها مما ينال به سعادة الدارين : أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا قال الراغب : أي أي شغل تحريتم ، وحيثما تصرفتم ، وأي معبود اتخذتم ، فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها : إن الله على كل شيء قدير تعليل لما قبله . أي هو قادر على جمعكم من الأرض ، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم .

    (تنبيه) تشير الآية إلى أن الناس على مذاهب عديدة وأديان متنوعة . وأن على العاقل أن يستبق إلى ما كان خيرها وأرقاها . وقد اتفق العقلاء قاطبة والفلاسفة أن دين الإسلام أرقى الأديان كلها لما حوى من حاجيات الكمال البشري ، ووفى بشؤون الاجتماع ، وأسباب [ ص: 307 ] العمران ، وذرائع الرقي وطرق السعادتين . وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه وقوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

    ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبين عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [149 ] ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون

    "ومن حيث خرجت" أي : ومن أي بلد خرجت للسفر "فول وجهك شطر المسجد الحرام" إذا صليت "وإنه" أي هذا الأمر "للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون" قرئ بالياء فهو وعيد للكافرين ، وبالتاء فهو وعد للمؤمنين . ولما عظم في شأن القبلة انتشار أقوال السفهاء وتنوع شغبهم وجدالهم ، كان الحال مقتضيا لمزيد تأكيد لأمرها، تعظيما لشأنها وتوهية لشبههم ، فقال تعالى :
    [ ص: 308 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [150 ] ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون

    ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وقوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة أي لئلا يحتج عليكم أحد في التولي إلى غيره ، ولتنتفي مجادلتهم لكم ، كقول اليهود مثلا : يجحد ديننا ويتبع قبلتنا ! وقول غيرهم : يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ! فإذا صليتم إليه لا تكون لهم عليكم حجة .

    قال الراغب : وأشار بقوله وإنه للحق من ربك إلى تحقيق ما قدمه ، فبين أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن يكون لكل صاحب شرع قبلة يختص بها ، وأنت صاحب شرع ، فتغيير القبلة لك حق من ربك . (ثم قال) : إن قيل : لم كرر قوله : وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ؟ قيل : حث بإحداهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي مكان حصل للإنسان ، نائيا كان عنها أو دانيا منها . وذلك مآل الاختيار والتمكن ، وحث بالآخر على التمكن بالقلب وحده عند اشتباه القبلة ، وفي النافلة في حال اليسر على الراحلة والسفر. إلا الذين ظلموا منهم فإنهم يظهرون فجورا ولددا في ذلك ، بالعناد . وهم : إما اليهود المعبر عنهم بأهل الكتاب قبل ، أو المنافقون أو المشركون كما حكى قبل في "السفهاء" ، وكان من قول اليهود ، فيما حكاه قتادة : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه . ومن قول المشركين ، فيما حكاه مجاهد : قد رجع إلى قبلتكم فيوشك [ ص: 309 ] أن يرجع إلى دينكم. وتقدم قول المنافقين . وبالجملة فالكل عابوا وخاضوا فلا تخشوهم تخافوا جدالهم واخشوني فلا تخالفوا أمري ولأتم نعمتي عليكم بالتوجه إلى أكمل الجهات المتضمنة للآيات البينات والأمن "ولعلكم تهتدون" للصراط المستقيم بالتوجه إليها ، فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة .

    قال الحرالي : وفي طيه بشرى بفتح مكة ، واستيلائه على جزيرة العرب كلها ، وتمكينه بذلك من سائر أهل الأرض ، لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها ، التي انتهى إليها ملك أمته .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [151 ] كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون

    "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" وقوله تعالى "فيكم" المراد به العرب . وكذلك قوله "منكم" .

    وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف . ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير . فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب "يتلو عليكم آياتنا" يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم . لأنه معجزة باقية . ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم ، ومجامع الأخلاق الحميدة ، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة "ويزكيكم" أي يطهركم من الشرك وأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق "ويعلمكم الكتاب" وهو القرآن . وهذا ليس بتكرار . لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم "والحكمة" وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها . ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة هي [ ص: 310 ] سنة الرسول . وقوله : ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون تنبيه على أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل ، وجهالة من الأمم ، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم ، فبعث الله تعالى النبي بالحق . حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم ، فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة ، وذلك من أعظم أنواع النعم . قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم الآية ، وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار قال ابن عباس يعني ، بنعمة الله ، محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره . وقال :

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •