تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 22 الأولىالأولى 123456789101112 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 112 الى صـ 115
    الحلقة (21)

    وثالثها : لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء ، لكان ذلك أولى بالذكر ، لأن نقله من الأرض إلى السماء ، من أعظم النعم . فدل ذلك على أنه لم يحصل . وذلك يوجب أن المراد من الجنة غير جنة الخلد .

    ورابعها : روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سيحان وجيحان والفرات والنيل ، كل من أنهار الجنة » .

    قال ابن مفلح : أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها آدم جنة الخلد ، دار الثواب . ثم قال : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية : وهذا قول أهل السنة والجماعة ، ومن قال إنها جنة في الأرض بالهند أو جدة ، أو غير ذلك ، فهو من الملحدة المبتدعين . والكتاب والسنة يردان هذا القول . وقد استوفى الكلام فيها في " مفتاح دار السعادة " وكتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " .

    الفائدة الثانية : اتفق الناس أن الشيطان كان متوليا إغواء آدم ، واختلف في الكيفية . فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء : أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته لهما [ ص: 113 ] إني لكما لمن الناصحين والمقاسمة ظاهرها المشافهة ، ومنهم من قال : كان ذلك بالوسوسة ، كما قال : فوسوس لهما الشيطان فإغواؤه إغراؤه بوسواسه وسلطانه الذي جعل له ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » .

    وزعموا أن الشيطان لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها . والوسوسة : لغة ، حديث النفس والأفكار . وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير ، والكلام الخفي . وظاهر الآيات يؤيد القول الأول .

    الفائدة الثالثة :

    لم يسم الشيطان في الآية ، إذ لا حاجة ماسة إلى اسمه ، كما تقدم في الشجرة .

    ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموما ، وذكر مبدأهم - دعا بني إسرائيل خصوصا ، وهم اليهود ، لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ، وقد جرى الكلام معهم (من هنا إلى الآية رقم 142) فتارة دعاهم بالملاطفة ، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم . وتارة بالتخويف ، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم ، وذكر عقوباتهم التي عاقبهم بها ، كما سيأتي تفصيله ، فقال تعالى :
    [ ص: 114 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [40 ] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون

    "يا بني إسرائيل" أي أولاد يعقوب . وقد هيجهم تعالى بذكر أبيهم إسرائيل ، كأنه قيل : يا بني العبد الصالح المطيع لله ، كونوا مثل أبيكم ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا ، ويا ابن العالم ، اطلب العلم ، اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم قال ابن جرير: نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل : اصطفاؤه منهم الرسل ، وإنزاله عليهم الكتب ، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه ، إلى التمكين لهم في الأرض ، وتفجير عيون الماء من الحجر ، وإطعام المن والسلوى ، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر ، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم ، فيحل بهم من النقم ، ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها ، وجحد صنائعه عنده : وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون العهد هو الميثاق ، وقد أشير إليه في قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار الآية . فعهد الله هو وصيته لهم ، بما ذكر في الآية . ومنها : الإيمان برسله المتناول لخاتمهم [ ص: 115 ] عليه السلام ، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة . وعهده تعالى إياهم ، هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة ، وقوله تعالى : وإياي فارهبون قال ابن جرير : أي اخشوني واتقوا ، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل ، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه ، أن أحل بكم من عقوبتي إن لم تتوبوا إلي باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه ، ما أحللت بمن خالف أمري ، وكذب رسلي من أسلافكم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [41 ] وآمنوا بما أنـزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون

    "وآمنوا بما أنزلت" أي : من القرآن : "مصدقا لما معكم" أي : موافقا بالتوحيد ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، وبعض الشرائع ، لما معكم من الكتاب -كما في التنوير- قال ابن جرير : أمرهم بالتصديق بالقرآن ، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة ; لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه ، نظير الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة . ففي تصديقهم بما أنزل على محمد ، تصديق منهم لما معهم من التوراة . وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة . انتهى .

    وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم ، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر ، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 116 الى صـ 120
    الحلقة (22)

    تنبيه:

    كثيرا ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها ، كآية : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم وآية : ولكن [ ص: 116 ] تصديق الذي بين يديه وغيرهما . مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم ، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي ، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة ، وقد رد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه ، بأن معنى كون القرآن مصدقا لما معهم ، ما ذكرناه قبل في تأويلها ; وحاصله أن ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته ، وصحة البشائر عنه ، كما قال تعالى : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم أي : أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل ، بمعنى أن أحواله جميعا توافق البشائر .

    ولا تكونوا أول كافر به يعني من جنسكم أهل الكتاب ، بعد سماعكم بمبعثه . فالأولية نسبية ، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن ، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه ، والمستفتحين على الذين كفروا به ، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، لقوله : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به

    ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا أي : لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي، بالدنيا وشهواتها ، فإنها قليلة فانية ، فالاشتراء استعارة للاستبدال وإياي فاتقون بالإيمان واتباع الحق ، والإعراض عن حطام الدنيا .
    [ ص: 117 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [42 ] ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [43 ] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين

    ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين اللبس الخلط ، وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين . والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي يخترعونه أو يذكرونه في تأويله حتى يشتبه أحدهما بالآخر ، وقوله "وتكتموا" مجزوم داخل تحت حكم النهي . وتكرير الحق ، لزيادة تقبيح المنهي عنه ; إذ في التصريح باسم الحق ، ما ليس في ضميره ، والتقييد بقوله "وأنتم تعلمون" لزيادة تقبيح حالهم ; إذ الجاهل عسى يعذر ، وقوله "وأقيموا الصلاة" الآية ، أمر بلزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان ، وذلك إقامة الصلاة بأدائها بفروضها ، والمحافظة عليها . وإعطاء الصدقة المفروضة ، والركوع لله ، أي : الخضوع لأوامره بإطاعتها .

    قال ابن جرير : هذا أمر من الله جل ثناؤه ، لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه ، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والدخول مع المسلمين في الإسلام ، والخضوع له بالطاعة ، ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد تظاهر حججه عليهم ، وبعد الإعذار لهم والإنذار . وبعد تذكيره نعمه إليهم ، وإلى أسلافهم تعطفا منه بذلك عليهم ، وإبلاغا إليهم في المقدرة . اهـ.

    وقد قيل في قوله : "واركعوا مع الراكعين" حث على إقامة الصلاة في الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس في المناجاة .
    [ ص: 118 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [44 ] أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون

    "أتأمرون الناس بالبر" أي : بما فيه لله رضا من القول أو الفعل . وجماع البر كل ما فيه طاعة لله تعالى . والهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم : "وتنسون أنفسكم" أي : تتركونها من البر كالمنسيات . والمعنى تخالفون ما تأمرون به من ذلك إلى غيره . وقوله "وأنتم تتلون الكتاب" تبكيت مثل قوله "وأنتم تعلمون" يعني تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل . "أفلا تعقلون" توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وكأنكم في ذلك مسلوبوا العقول ، لأن العقول تأباه وتدفعه .

    روى الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن إبراهيم النخعي قال : إني لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وقوله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقوله إخبارا عن شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
    [ ص: 119 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [45 ] واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين

    "واستعينوا بالصبر" أي : على الوفاء بالعهد "والصلاة" أي التي سرها خشوع القلب للرب . فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر . قال ابن جرير : أي : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري ، واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه ، والصلاة . فالآية متصلة بما قبلها . كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك "وإنها" الضمير للصلاة . وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واشتمالها على ضروب من الصبر ؛ وجوز عود الضمير على الاستعانة بهما "لكبيرة" لشاقة ثقيلة كقوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه إلا على الخاشعين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [46 ] الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون

    الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم أي محشورون إليه يوم القيامة للجزاء . والظن [ ص: 120 ] هنا بمعنى اليقين ، ومثله : إني ظننت أني ملاق حسابيه

    قال ابن جرير : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضياء سدفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده .

    والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر : وأنهم إليه راجعون أي : بعد الموت فيجازيهم .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [47 ] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين

    يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به "وأني فضلتكم" عطف على نعمتي ، عطف الخاص على العام لكماله . أي : فضلت آباءكم "على العالمين" أي عالمي زمانهم بإنزال الكتاب عليهم ، وإرسال الرسل فيهم وجعلهم ملوكا ، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل أن يغيروا ، وتفضيل الآباء شرف الأبناء .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 121 الى صـ 125
    الحلقة (23)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [48 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون

    "واتقوا يوما" يريد يوم القيامة أي : حسابه أو عذابه "لا تجزي" فيه "نفس عن نفس شيئا" أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق . فانتصاب "شيئا" على المفعولية . أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية . وإيراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم والإقناط الكلي [ ص: 121 ] ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ لا يقبل "منها عدل" أي : فدية "ولا هم ينصرون" يمنعون من عذاب الله . وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة ، وذكر لمعنى العباد أو الأناسي .

    (تنبيه) تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة ; لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع ، فعلم أنها لا تقبل للعصاة .

    والجواب : أنها خاصة بالكفار . ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال : فما تنفعهم شفاعة الشافعين وكما قال عن أهل النار : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ، ولا يخلص منه أحد .

    وفي الانتصاف : من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها . وأما من آمن بها وصدقها ; وهم أهل السنة والجماعة ، فأولئك يرجون رحمة الله ، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم . وليس في الآية دليل لمنكريها ; لأن قوله "يوما" أخرجه منكرا ، ولا شك أن في القيامة مواطن ، ويومها معدود بخمسين ألف سنة . فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة . وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام . وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها . منها قوله تعالى : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون مع قوله : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ ص: 122 ] فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ووقتين متغايرين : أحدهما محل للتناول ، والآخر ليس محلا له ، وكذلك الشفاعة ، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، رزقنا الله الشفاعة ، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [49 ] وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

    وإذ نجيناكم من آل فرعون تذكير لتفاصيل ما أجمل في قوله تعالى : نعمتي التي أنعمت عليكم من فنون النعماء . أي : واذكروا وقت تنجيتنا إياكم ، أي : آباءكم . فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم . والمراد بالآل : فرعون وأتباعه ، فإن الآل يطلق على الشخص نفسه ، وعلى أهله وأتباعه وأوليائه (قاله في القاموس).

    ثم بين ما أنجاهم منه بقوله "يسومونكم" أي : يبغونكم "سوء العذاب" أي : أفظعه وأشده : يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم أي : يتركونهم أحياء : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم البلاء إما المحنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون ، أو النعمة ، إن أشير به إلى الإنجاء . قال ابن جرير : العرب تسمي الخير بلاء ، والشر بلاء .

    فائدة : فرعون لقب لمن ملك مصر كافرا . ككسرى لملك الفرس . وقيصر لملك الروم ، وتبع لمن ملك اليمن كافرا ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وخاقان لملك الترك . ولعتوه اشتق منه : تفرعن الرجل ، إذا عتا وتمرد .

    وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم (على ما روي في التوراة) خوفه من نموهم وكثرة توالدهم . وكانت أرض مصر امتلأت منهم ; فإن يوسف عليه [ ص: 123 ] السلام ، لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان إلى مصر ، أعطاهم ملكا في أرض مصر في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر . وكان لهم في مصر مقام عظيم بسبب يوسف عليه السلام . فتكاثروا وتناسلوا . ولما توفي يوسف عليه السلام ، والملك الذي اتخذه وزيرا عنده ، انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل . إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة ، فرأى غو الإسرائيليين ، فقال لقومه : أضحى بنو إسرائيل شعبا أكثر منا وأعظم . فهلم نحتال لهم لئلا ينموا ، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا . ويخرجون من أرضنا . فسلط عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم ، وكانوا كلما اشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة ، فشق على المصريين كثرتهم واختشوا منهم ، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جورا ويمررون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللبن ، وكل فلاحة الأرض ، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقة .

    وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله تعالى . ولم يزل الأمر في هذه الشدة عليهم حتى نجاهم سبحانه بإرسال موسى عليه السلام . وقوله جل ذكره .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [50 ] وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون

    وإذ فرقنا بكم البحر بيان لسبب التنجية ، وتصوير لكيفيتها ، إثر تذكيرها وبيان عظمها وهولها ، وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق . أي : واذكروا إذ فلقناه بسلوككم ، أو ملتبسا بكم ، أو بسبب إنجائكم . وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك . فالباء على الأول استعانة ، مثلها في : كتبت بالقلم . وعلى الثاني للمصاحبة . مثلها في : أسندت ظهري بالحائط . وعلى الثالث للسببية . والوجه الأول [ ص: 124 ] ضعيف من حيث إن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل والمنصوص عليه في التنزيل أن البحر إنما انفرق بعصا موسى . قال تعالى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل "فأنجيناكم" أي : من الغرق بإخراجكم إلى الساحل "وأغرقنا آل فرعون" أريد فرعون وقومه ، وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم "وأنتم تنظرون" أي : إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه . ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم .

    وكانت قصة إغراق آل فرعون المشار لها في هذه الآية ، على ما روي ، أن الحق تعالى لما شاء إخراج بني إسرائيل من مصر من بيت العبودية ، أوقع في نفس فرعون أن يطلقهم من مصر . بعد إباء شديد منه ، ورؤية آيات إلهية كادت تحل به وبقومه البوار . فدعا موسى وهارون وقال : اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعا . واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم . فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب ، تغير قلبه عليهم وقال : ماذا فعلنا حتى أطلقناهم من خدمتنا ؟ فشد مركبته وأخذ قومه معه وسعى وراءهم ، وأدركهم وهم نازلون عند بحر القلزم ، وهو المشهور ببحر السويس فلما رأت بنو إسرائيل عسكر فرعون وراءهم ، قالوا : يا موسى أين ما وعدتنا من النصر والظفر ؟ فلو بقينا على خدمة المصريين لكان خيرا لنا من أن نهلك في هذه البرية : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وقال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وأوحى [ ص: 125 ] الله إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وأيبس قعره ، فدخل بنو إسرائيل فيه . فتبعهم فرعون وجنوده . فخرج موسى وقومه من الجهة الثانية . وانطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا كلهم . وسيأتي الإشارة إلى هذه القصة في مواضع من التنزيل . ومن أبسطها فيه سورة الشعراء .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [51 ] وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون

    وإذ واعدنا موسى أي بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم "أربعين ليلة" أي : لنعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها . وقد روي في ترجمة التوراة أنه تعالى قال لموسى : اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك ألواحا من حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم . فصعد موسى إلى الجبل وبقي هناك أربعين يوما وأربعين ليلة . وموسى : كلمة عبرانية معناها منشول من الماء "ثم اتخذتم العجل" أي : إلها ومعبودا "من بعده" أي من بعد مضيه للميقات "وأنتم ظالمون" أي : بوضع العبادة في غير موضعها ، وهو حال من ضمير اتخذتم ، أو اعتراض تذييلي . أي : وأنتم قوم عادتكم الظلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [52 ] ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون

    "ثم عفونا عنكم" أي : محونا ذنوبكم "من بعد ذلك" أي : الاتخاذ والظلم القبيح "لعلكم تشكرون" لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 126 الى صـ 130
    الحلقة (24)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [53 ] وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون

    وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان يعني الجامع بين كونه كتابا منزلا ، وفرقانا يفرق بين الحق والباطل . يعني التوراة . كقولك : رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة . ونحوه قوله تعالى : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا ، أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرها من الآيات . أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : الفرقان انفراق البحر . وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه ، كقوله تعالى : يوم الفرقان يريد به يوم بدر "لعلكم تهتدون" أي : لكي تهتدوا بالعمل فيه من الضلال .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [54 ] وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم

    وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه [ ص: 127 ] هو التواب الرحيم هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبل . روي أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات ورأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل ، غضب ورمى باللوحين من يده . فكسرهما في أسفل الجبل . ثم أحرق العجل الذي صنعوه . ثم قال : من كان من حزب الرب فليقبل إلي . فاجتمع إليه جميع بني لاوى . وقال لهم : هذا ما يقول الرب إله إسرائيل : ليتقلد كل رجل منكم سيفه . فجوزوا في وسط المحلة من باب إلى باب وارجعوا ، وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه . فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى ، فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل (وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل) وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب، وقال لهم : أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة ، وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم . فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه اهـ.

    ولاوى : ثالث مولود ليعقوب عليه السلام من أولاده الاثني عشر ، معناه في العربية ملتصق أو متصل .

    والأحبار اللاويون ينسبون إليه ، وقد اختارهم تعالى من بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام للخدمة المقدسة . وجعلهم من المقربين لديه . وبما سقناه يعلم أن قوله تعالى "فاقتلوا أنفسكم" أمر لمن لم يعبد العجل ، أعني اللاويين ، أن يقتلوا العبدة . لا كما فهمه بعضهم من قتل بعضهم بعضا مطلقا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [55 ] وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون [56 ] ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون

    وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم [ ص: 128 ] الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون أي : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ; إذ سألتم رؤيتي عيانا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم في دار الدنيا . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن القائلين لموسى ذلك هم السبعون المختارون . ويؤيده آية الأعراف واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب الآية .

    وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل ; فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك ، فمنع منه ، فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟ أفاده ابن كثير . وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج . وهذا من المواضع المحقق تحريفها . ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى : لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش اهـ.

    وجهرة ، في الأصل ، مصدر قولك جهرت بالقراءة . استعيرت للمعاينة، لما بينهما من الاتحاد . في الوضوح والانكشاف . إلا أن الأول في المسموعات ، والثاني في المبصرات ، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية ، فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس . أو على الحال من الفاعل أو المفعول .

    قال ابن جرير : وأصل الصاعقة كل أمر هائل رآه ، أو عاينه ، أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب ، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم ، أو فقد بعض آلات الجسم ، صوتا كان ذلك أو نارا . أو زلزلة أو رجفا (قال) ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو [ ص: 129 ] حي غير ميت قول الله عز وجل : "وخر موسى صعقا" يعني مغشيا عليه . ومنه قول جرير :


    وهل كان الفرزدق غير قرد أصابته الصواعق فاستدارا !


    فقد علم أن موسى لم يكن ، حين غشي عليه وصعق ميتا ; لأن الله جل وعز ، أخبر عنه أنه لما أفاق قال : تبت إليك . ولا شبه جرير الفرزدق ، وهو حي ، بالقرد ميتا ، ولكن معنى ذلك ما وصفناه .

    وقوله تعالى "وأنتم تنظرون" أي إلى تلك الصاعقة . وقوله تعالى : ثم بعثناكم من بعد موتكم قال الراغب الأصبهاني في تفسيره : البعث إرسال المبعوث من المكان الذي فيه . لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به ، فقيل : بعثت البعير من مبركه أي : أثرته ، وبعثته في السير أي هيجته ، وبعث الله الميت أحياه ، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال . وكل ذلك واحد في الحقيقة ، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات (ثم قال) والموت حمل على المعروف ، وحمل أيضا على الأحوال الشاقة الجارية مجرى [ ص: 130 ] الموت ، وليس يقتضي قوله "فأخذتكم الصاعقة" أنهم ماتوا. ألا ترى إلى قوله : وخر موسى صعقا لكن الآية تحتمل الأمرين ، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المتعري عن الاحتمالات . انتهى .

    وقد يؤيد الثاني آية الأعراف المذكورة وهي : واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي فالرجفة هي المسماة بالصاعقة هنا ، والتنزيل يفسر بعضه بعضا ، والأصل توافق الآي . وقد ذكر ابن إسحاق والسدي أن الذين أخذتهم الرجفة هم الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، وسيأتي في الأعراف بسط ذلك إن شاء الله .

    دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائز ، ولذا لم يذكر ، سبحانه وتعالى ، سؤال الرؤية إلا استعظمه ، وذلك في آيات : منها هذه . ومنها قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ومنها قوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا فدلت هذه التهويلات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها . وكما أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدنيا ، فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة ، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك ، وهي قطعية الدلالة ، لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا أن العقل قد حكم بها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 131 الى صـ 135
    الحلقة (25)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [57 ] وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

    وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

    لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم ، فمنها تظليل الغمام عليهم ، وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا . لئلا تؤذيهم حرارة الشمس ، وقد ذكر تفصيل شأنها في توراتهم في الفصل التاسع من سفر العدد ، ومنها إنزال المن .

    وقد روي في التوراة أنهم لما ارتحلوا من إيليم وأتوا إلى برية سين ، التي بين إيليم وسيناء ، في منتصف الشهر الثاني بعد خروجهم من مصر ، تذمروا على موسى وهارون في البرية ، وقالوا لهما : ليتنا متنا في أرض مصر إذ كنا نأكل خبزا ولحما ، فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتهلكا هذا الجمع بالجوع . فأوحى تعالى لموسى عليه السلام إني أمطر عليكم خبزا من السماء . فليخرج الشعب ، ويلتقطوا حاجة اليوم بيومها طعامهم من أجل أني أمتحنهم ، هل يمشون في شريعتي أم لا ، وليكونوا في اليوم السادس أنهم يهيئون ضعف ما يلتقطونه يوما فيوما . لأن اليوم السابع يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء .

    فقال لهم موسى : إن الرب تعالى يعطيكم عند المساء لحما تأكلون ، وبالغداة تشبعون خبزا . فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة ، وبالغداة أيضا وقع الندى حول المحلة . ولما غطى وجه الأرض تباين في البرية شيء رقيق كأنه مدقوق بالمدقة ، يشبه الجليد على الأرض . فلما نظر إليه بنو إسرائيل قالوا : ما هذا ؟ لأنهم لم يعرفوه . فقال لهم موسى : هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا . وقد أمركم أن يلقط كل واحد على قدر ما في بيته ، وقدر مأكله . ففعل بنو إسرائيل كذلك ، ولقطوا ما بين مكثر ومقلل ، وقال لهم موسى : لا تبقوا منه شيئا إلى الغد . فلم يطيعوا [ ص: 132 ] موسى ، واستفضل منه رجال إلى الغد ، فضرب فيه الدود ونتن ، فغضب عليهم موسى ، وكانوا يلقطون غدوة ، كل إنسان يلقط على قدر ما يأكل ، فإذا أصابه حر الشمس ذاب . وقد أعطوا في اليوم السادس خبز يومين ليجلس كل رجل منهم في مكانه في اليوم السابع ، راحة وتقديسا له . وكان إذا خرج بعض الشعب ليلقط ، يوم السابع ، لا يجد في الأرض منه شيئا . ودعا آل إسرائيل اسمه المن ، وكان مثل حب الكزبرة أبيض ، وطعمه كرقاق بعسل ، وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى أتوا إلى الأرض العامرة ، ودنوا من تخوم أرض كنعان . وروي في ترجمة التوراة أيضا أن المن كان يشبه لون اللؤلؤ . وكان يطوف الشعب ويلتقطونه ويطحنونه بالرحى . ويدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور ، ويعملون منه رغفا طعمها كالخبز المعجون بالدهن . ومتى نزل الندى على المحلة ليلا كان ينزل المن معه اهـ.

    هذا ما كان من أمر المن . وأما السلوى فروي أيضا : أن جماعة ممن صعد مع بني إسرائيل من مصر تاقت أنفسهم للحم وجلسوا يبكون ، ووافقهم بنو إسرائيل على اشتهائه أيضا . وقالوا : من يطعمنا لحما لنأكل ؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر من غير ثمن ، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم . والآن قد يبست نفوسنا ولا تنظر عيوننا إلا المن . فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم ، وعلم غضب الرب عليهم ؛ لذلك ، ابتهل إلى ربه وقال : من أين لي لحم أطعم منه هذا الجمع وهم يبكون علي ويقولون أعطنا لحما لنأكل ؟ فأوحى إليه ربه أن يجمع سبعين رجلا من شيوخ شعبه وعرفائه ، ويقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيكونوا معه ، ثم كلمه ربه ووعده أن يعطيه لحما يأكلون منه شهرا حتى يأنفوا منه . فأخبر موسى الشعب بذلك . ثم انحاز إلى المحلة هو وشيوخ قومه ، فخرجت ريح وحملت السلوى من البحر وألقتها على المحلة مسيرة يوم حول المحلة من كل جانب ، وكانت تطير بالجو ذراعين على الأرض ، وقام الشعب يومهم ذلك كله والليل . وفي غد اليوم الثاني ، فجمعوا السلوى أقل من جمع عشرة أكرار ، سطحوه سطيحا ويبسوه حول المحلة . [ ص: 133 ] وقبل أن ينقطع اللحم من عندهم غضب الرب تعالى على الشعب ; فضربه ضربة عظيمة جدا ، ودعي اسم ذلك الموضع قبور الشهوة . لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا . ثم خرجوا من قبور الشهوة ، وارتحلوا لغيره . انتهى .

    وقوله تعالى "كلوا" على إرادة القول أي قائلين لهم أو قيل لهم كلوا . وقوله "وما ظلمونا" كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة . معطوف على مضمر قد حذف للإيجاز ، والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح به . أي : فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر ، وما ظلمونا بذلك ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، بالعصيان . إذ لا يتخطاهم ضرره ، وبذلك حق عليهم العذاب الذي ضربوا به كما ذكرناه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [58 ] وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنـزيد المحسنين [59 ] فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون

    وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنـزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون هذا إشارة إلى ما حل ببني إسرائيل لما -نكلوا عن الجهاد- ودخولهم الأرض [ ص: 134 ] المقدسة -أرض كنعان- لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام ، وإنما أطلق على الأرض المذكورة قرية ; لأن القرية : كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا . وتقع على المدن وغيرها -كذا في "كفاية المتحفظ"- ثم إن ما قص- هنا -ذكر في سورة المائدة في قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون الآيات .

    وقوله تعالى "ادخلوا الباب سجدا" في التأويلات : يحتمل المراد من الباب حقيقة الباب ، وهو باب القرية التي أمروا بالدخول فيها . ويحتمل من الباب القرية نفسها ، لا حقيقة الباب- كقوله "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية" ذكر القرية ولم يذكر الباب- ، وذلك في اللغة جائز . (ويقال : فلان دخل في باب كذا - لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن كونه في أمر هو فيه .

    وقوله "سجدا" يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود . فيخرج على وجوه: على التحية لذلك المكان ، ويحتمل على الشكر له لما أهلك أعداءهم الجبارين ؛ ويحتمل الكناية عن الصلاة -إذ العرب قد تسمي السجود (صلاة)- كأنهم أمروا بالصلاة فيها ؛ ويحتمل أن الأمر بالسجود -لا على حقيقة السجود والصلاة- ولكن أمر بالخضوع له والطاعة والشكر على أياديه. والله أعلم .

    وقوله تعالى "وقولوا حطة" خبر محذوف، أي مسألتنا حطة -والأصل النصب- بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات .

    [ ص: 135 ] وقوله سبحانه : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم أي : بدلوا أمره تعالى لهم -بدخول الأرض مجاهدين- بالإحجام عنه ، وتثبيط الناس . ولذا قال أبو مسلم "قوله تعالى "فبدل" يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنهم أتوا له ببدل. والدليل عليه : أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة . قال تعالى : سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى قوله : يريدون أن يبدلوا كلام الله ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول . فكذا هنا ، فيكون المعنى : إنهم لما أمروا بدخول الأرض -وما ذكر معه- لم يمتثلوا أمر الله ، ولم يلتفتوا إليه" .

    وفي تكرير "الذين ظلموا" زيادة في تقبيح أمرهم ، وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم . و(الرجز) : هو الموت بغتة ، كما تقدم .

    قال الراغب : وتخصيص قوله "رجزا من السماء" هو أن العذاب ضربان : ضرب قد يمكن -على بعض الوجوه- دفاعه ، أو يظن أنه يمكن فيه ذلك ، وهو كل عذاب على يد آدمي ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق . وضرب لا يمكن -ولا يظن- دفاعه بقوة آدمي كالطاعون ، والصاعقة ، والموت- وهو المعني بقوله "رجزا من السماء" اهـ.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 136 الى صـ 140
    الحلقة (26)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [60 ] وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين

    هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها . روي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل [ ص: 136 ] من برية سينا بأمره تعالى ، وحلوا في رقادين ، ولم يكن هناك ماء ليشربوا ، فخاصموا موسى ، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب ، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا ، ودوابنا بالعطش ؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا ، فأوحى إليه أن امض أمام الشعب ، وخذ معك من شيوخ إسرائيل . والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك . واذهب إلى صخرة حوريب ، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب . ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل . انتهى .

    وقوله تعالى "اثنتا عشرة عينا" أي عدد أسباط يعقوب الاثني عشر ، لكل سبط منهم عين قد عرفوها . قال الراغب: وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده ، وهذا المنكر ، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات ، فقد ترك النظر على طريقته . إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد ، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره ، والحجر الحلاق يحلق الشعر ، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة . وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم ، فغير ممتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض . اهـ.

    وقوله : ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي لا تمشوا في الأرض بالفساد ، وخلاف أمر موسى . قال الراغب : فإن قيل : فما فائدة قوله "مفسدين" والعثو ضرب من الإفساد ؟ قيل : قد قال بعض النحويين : إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظا مما يشبه . وقال بعض المحققين : إن العثو ، وإن اقتضى الفساد ، فليس بموضوع له ، بل هو كالاعتداء ، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد ، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذا الاعتداء ليس بإفساد ، بل هو، بالإضافة إلى [ ص: 137 ] ما قوبل به ، عدل . ولولا كونه جزاء لكان إفسادا . فبين تعالى أن العثو المنهي عنه ، هو المقصود به الإفساد . فالإفساد مكروه على الإطلاق ، ولهذا قال : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل ، كما تقدم . وهذا ظاهر اهـ .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [61 ] وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

    وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد قال قتادة : لما ملوا طعامهم وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك ، قالوا ذلك . قال الراغب : إن قيل : كيف قال : لن نصبر على طعام واحد وكان لهم المن والسلوى ، قيل : إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة ، كقولك : فلان يفعل فعلا واحدا في كل يوم ، وإن كثرت أفعاله ، إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها اهـ. وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ . لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم "لن نصبر على طعام" ، حتى أكدوا بقولهم "واحد" أو [ ص: 138 ] أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل .

    فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها هو الثوم لقراءة ابن مسعود "وثومها" وللتصريح به في التوراة في هذه القصة . وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاء لتقارب مخرجيهما كقولهم للأثافي "أثاثي" ، وقولهم وقعوا في عاثور شر وعافور شر ، وللمغافير "مغاثير" "وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى" أي : أدون قدرا ، وأصل الدنو القرب في المكان ، فاستعير للخسة ، كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل : بعيد الهمة "بالذي هو خير" أي : بمقابلة ما هو خير ، أي : أرفع وأجل ، وهو المن الذي فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعهما غذاء تقوم به البنية . وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة ولا تغذية "اهبطوا مصرا" هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور، بالصرف.

    قال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك، لإجماع المصاحف على ذلك ؛ أي : من الأمصار ، أي انحدروا إليه "فإن لكم" فيها "ما سألتم" أي : فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في القفار ، والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير ، في أي بلد دخلتموها وجدتموه . فليس يساوي مع دناءته ، وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه . ولما حكى الله تعالى إنكار موسى عليه السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، بعد تعداد النعم ، جاء بحكاية سوء صنيعهم بالأنبياء ، وكفرهم ، واعتدائهم ، وضرب الذلة عليهم لذلك ، استطرادا فقال : وضربت عليهم الذلة والمسكنة فمن هنا إلى قوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى ، يدل هذا على قوله : ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم . والذلة بالكسر الصغار والهوان والحقارة . والذل بالضم ضد العز . والمسكنة مفعلة من السكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفقر . والمسكين مفعيل منه -كذا في السمين- [ ص: 139 ] وفي الذلة استعارة بالكناية حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة ، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك . وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أذل الفرق ، وأشدهم مسكنة ، وأكثرهم تصاغرا ، لم ينتظم لهم جمع ، ولا خفقت على رؤوسهم راية ، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال ، وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ ، فهو مرتد بأثواب المسكنة . "وباؤوا بغضب من الله" أي رجعوا به ، أي صار عليهم ، أو صاروا أحقاء به . من قولهم . باء فلان بفلان ، أي صار حقيقا أن يقتل بمقابلته . فالباء على التقديرين صلة باؤوا ، لا للملابسة . وإلا لاحتيج اعتبار المرجوع إليه ، ولا دلالة في الكلام عليه "ذلك" إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم "بأنهم" بسبب أنهم "كانوا يكفرون بآيات الله" الباهرة التي ظهرت على يدي عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : ويقتلون النبيين بغير الحق كزكريا ويحيى عليهما السلام . وقتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرا ، ولم يذكر قتل رسول من الرسل . وذلك -والله أعلم- لقوله : إنا لننصر رسلنا وقوله : إنهم لهم المنصورون وقال قوم : لم يقتل أحد من الرسل ، وإنما قتل الأنبياء ، أو رسل الرسل ، والله أعلم . كذا في التأويلات .

    وقوله "بغير الحق" لم يخرج مخرج التقييد ، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال ، لمكان العصمة . بل المراد نعي هذا الأمر عليهم ، وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر ، حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا ، والغلو في العصيان ، [ ص: 140 ] والاعتداء ، كما يفصح عنه قوله تعالى : ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون أي : جرهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر ، وقتل الأنبياء عليهم السلام . وقيل : كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم ، كما أنه بسبب الكفر والقتل ، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي ، واعتدائهم حدود الله تعالى . وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب ; إذ بدئ أولا بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته . ثم ثني بما يتلوه في العظم ، وهو قتل الأنبياء . ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم . ثم بما يكون منهم من المعاصي المعتدية إلى الغير ، مثل الاعتداء . وهذا من لطائف أسلوب التنزيل.

    ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العام لليهود وغيرهم . وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهي ، وضرب الذلة والمسكنة ، كما حل باليهود ، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين . وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد ، عقب بضده ليكون الكلام تاما فقيل :





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 141 الى صـ 145
    الحلقة (27)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [62 ] إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

    أي إن الذين آمنوا بما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه . قال في فتح البيان: كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية ، وحال من قبلها من سائر الملل ، يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر . ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله . والمراد بالإيمان ههنا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله ، لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان [ ص: 141 ] فقال : « أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره » .

    ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية . فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن . ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا ، ولم يبق يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا . انتهى .

    قال الراغب في تفسيره : تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين : أحدهما الإقرار بالشهادتين ، الذي يؤمن نفس الإنسان ، وماله عن الإباحة إلا بحق ، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به كالإسلام . والثاني تحري اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه . فقوله : [ ص: 142 ] "إن الذين آمنوا" عنى به المتدين بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله "من آمن بالله" عنى به المتحري للاعتقاد اليقيني ، فهو غير الأول . ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع ، بين تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه ، وقبل أن ينسخ ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقيني ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

    ثم قال : وقول ابن عباس : إن هذا منسوخ بقوله : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام ، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي عليه السلام . فأما في وقته ، فالأديان كلها منسوخة بدينه. اهـ. أي فليس مراد ابن عباس ، ومن وافقه ، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحا من اليهود ، ومن ذكر معهم على عمله ، في الآخرة الجنة، ثم نسخه بآية : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه بل مراده ما ذكر الراغب . وهذا ما لا شبهة فيه . ولذا قال ابن جرير : ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان ، بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : من آمن بالله واليوم الآخر عن جميع ما ذكر في أول الآية .

    تنبيه :

    ظاهر هذه الآية ، مع تفسير الراغب "من آمن" بالمتحري للاعتقاد اليقيني ، مما قد يستدل به العنبري لمذهبه . فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبري ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب ، حتى في الأصول ، ووافقه الجاحظ . قال الغزالي في " المستصفى " : ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية، إن كان معاندا على خلاف اعتقاده ، فهو آثم ، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور [ ص: 143 ] غير آثم ، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر ، فهو أيضا معذور ، وإنما الآثم المعذب المعاند فقط ; لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها . وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ، ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى ; إذ استد عليهم طريق المعرفة . ثم رده الغزالي بأدلة سمعية ضرورية ، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه السلام اليهود والنصارى بالإيمان به ، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة.

    ثم قال الغزالي : وأما قوله -أي : الجاحظ- : كيف يكلفهم ما لا يطيقون ؟ قلنا : نعلم ضرورة أنه كلفهم ، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون ، فلننظر فيه ، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ، ونصب من الأدلة ، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات ، الذين نبهوا العقول ، وحركوا دواعي النظر ، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل اهـ.

    وقوله : والذين هادوا أي : تهودوا . يقال : هاد يهود ، وتهود ، إذا دخل في اليهودية . وهو هائد ، والجمع هود . وهم أمة موسى عليه السلام ، وإنما لزمهم هذا الاسم ; لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة ، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم ، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب (بالذال المعجمة ، فقلبتها العرب دالا مهملة) .

    وقوله تعالى "والنصارى" جمع نصران ، كندامى جمع ندمان ، يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانية ، والياء في نصراني للمبالغة ، كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام -كذا في " الكشاف"- أو هو جمع نصراني ، مغير عن ناصري نسبة إلى ناصرة -القرية المعروفة- وقد نسب إليها المسيح عليه السلام ، لأنه ربي بها . وجاء في الإنجيل "يسوع الناصري" .

    وقوله تعالى "والصابئين" جمع صابئ ، ويقال لهم الصابئة . قال ابن جرير : الصابئ هو المستحدث ، سوى دينه ، دينا ، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه . وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب "صابئا" . يقال منه : صبا فلان يصبو صباء ، ويقال : صبأت النجوم إذا طلعت .

    وقد اختلف أهل [ ص: 144 ] التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم ، من أهل الملل . فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين . وقالوا : الذي عنى الله بهذا الاسم قوما لا دين لهم ، فعن مجاهد : الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ، ولا دين لهم . وعن ابن زيد : الصابئون دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل ، يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي . وعن قتادة : أنهم قوم يعبدون الملائكة اهـ.

    وقال الإمام الشهرستاني ، في الكلام عن الصابئة ما مثاله : والصبوة في مقابلة الحنيفية . وفي اللغة : صبا الرجل إذا مال وزاغ . فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة . وهم يقولون : الصبوة هو الانحلال عن قيد الرجال . وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين . والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب ، والحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة . فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة ، فالصابئة قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، ولا يقولون بالشريعة والإسلام . فيقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد . والصابئة الأولى الذين قالوا بعاذيمون وهرمس ، وهما شيت وإدريس ، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء . وهم أصحاب الروحانيات . فيعتقدون أن للعالم صانعا حكيما مقدسا عن سمات الحدثان . والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله ، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا وفعلا وحالة . أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، الذين جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . قالوا فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم ، منهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب .

    وأما الفعل ، فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع وتصريف الأمور من حال إلى حال ، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ، [ ص: 145 ] فمنها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها وهي هياكلها ، ولكل روحاني هيكل ، ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره . وكانوا يسمون الهياكل أربابا ، وربما يسمونها آباء ، والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات : تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات ، فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانية: مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان . ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي . فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك . ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو مما يصعد من الأرض فينزل ، مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياح ، وما ينزل من السماء : مثل الصواعق والشهب ، وما يحدث في الجو من الرعد ، والبرق ، والسحاب ، والضباب ، وقوس قزح ، وذوات الأذناب ، والهالة ، والمجرة ؛ وما يحدث في الأرض من الزلازل ، والمياه ، والأبخرة ، إلى غير ذلك .

    قالوا : وأما الحالة ، فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والسرور في جوار رب الأرباب كيف يخفى ؟ .

    هذا ملخص ما أفاده العلامة الشهرستاني في كتاب -الملل والنحل- ثم ساق مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء جرت في المفاضلة بين الروحاني المحض ، والبشرية النبوية ، وأوردها على شكل سؤال وجواب. فلتنظر ثم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 146 الى صـ 150
    الحلقة (28)



    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه -في الرد على المنطقيين- إن حران كانت دار هؤلاء الصابئة ، وفيها ولد إبراهيم عليه السلام ، (أو انتقل إليها من العراق . على اختلاف القولين)، وكان بها هيكل الصلة الأولى ، هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل . هيكل المشترى . هيكل المريخ ، هيكل الشمس . وكذلك الزهرة ، وعطارد ، والقمر . وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم . ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة [ ص: 146 ] المشركين ، حتى جاء الإسلام ، ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت ، ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها ، أطباء وكتابا ، وبعضهم لم يسلم . وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية . وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي . وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء .

    فإن الصابئة نوعان : صابئة حنفاء موحدون ، وصابئة مشركون . فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية . فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . من هذه الملل الأربع : المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل ، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل .

    والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء ، كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل . وهذا بخلاف المجوس والمشركين ، فإنه ليس فيهم مؤمن . فلهذا قال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد فذكر الملل الست هؤلاء ، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة . لم يذكر في الست من كان مؤمنا ، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط . ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين ، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين .

    وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ، ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ، ويقرون بمعاد الأبدان ، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم . ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه . وكذلك المشركون من الهند . وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين ، هو أرسطو . انتهى .

    وما قرره الإمام ابن تيمية ، يؤيد ما ذهب إليه كثير من المفسرين ، من أن معنى [ ص: 147 ] قوله تعالى "من آمن" من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه ، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين . وذهب آخرون إلى أن معنى قوله "من آمن" من أحدث من هذه الطوائف ، إيمانا خالصا بما ذكر . قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام . وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه ، فلا ملابسة له بالمقام ، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات . فليتأمل .

    وقوله تعالى "فلهم أجرهم" أي : الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان ، وهو في الأصل جعل العامل على عمله . وفي قوله "عند ربهم" مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت ، مأمون من الفوات . وقوله تعالى "ولا خوف عليهم" أي حين يخاف الكفار العقاب ويحزنون على تفويت الثواب .

    (تنبيه) قال العلامة البقاعي في تفسيره : وحسن وضع هذه الآية ، في أثناء قصصهم ، أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذكر ممن عداهم . وربما أمروا بقتل النساء أيضا . فربما ظن من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل . وقد ذكر منه في سورة المائدة ، وفي وضعها أيضا في أثناء قصصهم ، إشارة إلى تكذيبهم في قولهم : ليس علينا في الأميين سبيل وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة . وذلك موجود في نص التوراة في غير موضع . وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذل والمسكنة . وسيأتي بعض ذلك عند قوله لا تعبدون إلا الله الآية . بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف [ ص: 148 ] في الدين ، فإنه قال في وسط السفر الثاني : وإذا لقيت ثور عدوك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه . وإذا رأيت حمار عدوك جاثما تحت حمله فهممت أن لا توازره فوازره وساعده . ثم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [63 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون

    "وإذ أخذنا ميثاقكم" تذكيرا لجناية أخرى لأسلافهم ، أي واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة ، ورفعنا فوقكم الطور ترهيبا لكم لتقبلوا الميثاق . وذلك أن الطور اقتلع من أصله ، ورفع وظلل فوقهم . والطور : هو الجبل . وقيل لهم وهو مطل فوقهم "خذوا ما آتيناكم" من الكتاب "بقوة" أي بجد واجتهاد "واذكروا ما فيه" واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه "لعلكم تتقون" لكي تتقوا المعاصي ، أو رجاء منكم أن تنتظموا في سلك المتقين ، أو طلبا لذلك .

    وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الأعراف : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون

    قال الراغب : إن قيل إن هذا يكون إلجاء ولا يستحق به الثواب ، قيل : لم يستحقوا الثواب بالالتزام ، وإنما استحقوه بالعمل بها من بعد . فأما في التزامها فمضطرون ، وقال بعض [ ص: 149 ] الناس : عنى بالطور تشديد الأمر عليهم ، وجعل ذلك مثلا . وذلك بعيد . ومثله قال القاشاني : طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها . فإنه بعيد يأباه ظاهر الآية الأخرى . وإن كان الإطلاق في اللغة لا ينحصر في الحقيقة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [64 ] ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين

    "ثم توليتم" أي : أعرضتم عن الوفاء بالميثاق "من بعد ذلك" أي : من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد : فلولا فضل الله عليكم ورحمته أي لكم بتوفيقكم للتوبة ، أو تأخير العذاب، لكنتم من الخاسرين أي الهالكين بالعقوبة .

    قال الراغب : الخاسر المطلق ، في القرآن ، هو الذي خسر أعظم ما يقتنى ، وذلك نعيم الأبد ، وهو المذكور في قوله : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة

    وقال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور ، تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ; فحرفوا كلمها عن مواضعه ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بهم ، وعصوا أمرهم . ومنها ما عمله أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا يخالفون موسى ويعترضون عليه ، ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك . حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون . وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به . حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح ، وهموا بقتله .
    والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم . فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام [ ص: 150 ] من الكتاب ، وجحودهم لحقه . وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر . والله أعلم .

    ثم ذكرهم تعالى بالإيقاع بمن نقض ميثاقه وفيما أخذه عليهم من تعظيم السبت بقوله :






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 151 الى صـ 155
    الحلقة (29)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [65 ] ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين

    ولقد علمتم الذين اعتدوا أي : تعمدوا العدوان "منكم في السبت" بأن استحلوه وتحيلوا على اصطياد الحيتان فيه . وذلك أن الله ابتلاهم ، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت كما قال : تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم فحفروا حياضا عند البحر ، وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد . فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم . فتسبب عن اعتدائهم المذكور ما ذكره تعالى بقوله : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين أي : صاغرين مطرودين مبعدين من الخير ، أذلاء . وقد روي عن الضحاك وقتادة : أنهم مسخوا قردة ، لها أذناب تعاوى ، بعد ما كانوا رجالا ونساء . وأما مجاهد فقال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة . وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا . رواه ابن جرير . وهكذا قال القاشاني "كونوا قردة" أي مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم . ثم قال : والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة . وردت به الآيات والأحاديث . وفي أثر : عد المسوخ ثلاثة عشر ، وبيان أعمالهم ومعاصيهم وموجبات [ ص: 151 ] مسخهم . والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ، ورسخ فيه بحيث زال استعداده ، وتمكن في طبعه ، وصار صورة ذاتية له ، صار طبعه طبع ذلك الحيوان . ونفسه نفسه ، فصارت صفته صورته .

    وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [66 ] فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين

    "فجعلناها" أي : المسخة والعقوبة "نكالا" عبرة تنكل المعتبر بها ، أي : تمنعه وتردعه . ومنه النكل للقيد : لما بين يديها من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها "وما خلفها" ممن جاء بعدهم ، أو لأهل تلك القرية وما حواليها ، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها "وموعظة للمتقين" من قومهم ، أو لكل متق سمعها . وأشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور ، وأن النقم تقع في غيرهم ، وعظا لهم .

    (تنبيه) : أفادت هذه الآية التنويه بشأن يوم السبت عند الإسرائيليين ; إذ مستحلوه منهم مسخوا قردة . وفي ترجمة التوراة ما نصه : وكلم الرب موسى قائلا : كلم بني إسرائيل ، تحفظون السبت لأنه مقدس لكم ، من دنسه يقتل ، ومن صنع فيه عملا يقطع من بين شعبه . في ستة أيام تصنع الأعمال ، وأما اليوم السابع ففيه سبت راحة ، وليحفظ بنو إسرائيل السبت ، وليتخذوه عيدا بأجيالهم . لأن الرب خلق السماء والأرض في ستة أيام ، وفرغ يوم السابع . وفيها أيضا ما نصه : في ستة أيام تعمل عملك ، وأما اليوم السابع ففيه تستريح ، لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب . انتهى .

    وقد حرم على اليهود فيه أن يعدوا طعامهم . بل حرم عليهم أن يوقدوا نارا . وفي [ ص: 152 ] سفر نحميا -في الفصل الثالث عشر- ما نصه : وفي تلك الأيام رأيت في يهوذا قوما يدوسون في المعاصر في السبت ، ويأتون بأكداسها يحملونها على الحمير ، وبخمر أيضا ، وعنب وتين ، وكل حمل مما كانوا يأتون به إلى أورشليم في يوم السبت . فأشهدت عليهم يوم بيعهم الطعام . وكان الصوريون المقيمون بها يأتون بالسمك . وكل نوع من المبيعات ، ويبيعون في يوم السبت لبني يهوذا وفي أورشليم . فخاصمت عظماء يهوذا ، وقلت لهم : ما هذا الشر الذي تفعلونه وتدنسون يوم السبت ؟ ألم تفعل آباؤكم هكذا ؟ فجلب إلهنا كل هذا الشر علينا وعلى هذه المدينة ، وأنتم تزيدون الغضب على بني إسرائيل بتدنيسكم السبت ، إلى آخره .

    ولما بين تعالى قساوتهم في حقوقه العلية ، أتبعه ببيان قساوتهم في مصالح أنفسهم توبيخا لأخلاقهم . مع الإشارة إلى نعمته عليهم في خرق العادة في شأن البقرة ، وبيان من هو القاتل بسببها ، وإحياء الله تعالى المقتول ، ونصه على من قتله منهم ، فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [67 ] وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين

    وإذ قال موسى لقومه بني إسرائيل : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وذلك أنه وجد قتيل فيهم ، وكانوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله "قالوا" استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : فماذا صنعوا ؟ هل سارعوا إلى الامتثال أو لا . فقيل : قالوا أتتخذنا هزوا بضم الزاي وقلب الهمزة واوا ، وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون . أي : أتجعلنا مكان هزو ، أو أهل هزو ، أو مهزوا بنا ، أو نفس الهزو ، للمبالغة . وأشعر جوابهم ما ثبت من فظاظتهم ; إذ فيه سوء الأدب على من ثبتت رسالته وقد علموها .

    " قال" استئناف كما سبق : أعوذ بالله [ ص: 153 ] أن أكون من الجاهلين لأن الهزؤ في أثناء تبليغ أمر الله ، سبحانه ، جهل وسفه . نفى عنه ، عليه السلام ، ما توهموه من قبله على أبلغ وجه ، وآكده ، بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه ، استفظاعا له ، واستعظاما لما أقدموا عليه من العظيمة التي شافهوه ، عليه السلام ، بها . والعوذ : اللجأ من متخوف لكاف يكفيه . والجهل : التقدم في الأمور بغير علم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [68 ] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون

    "قالوا" تماديا في الغلظة "ادع لنا" أي : لأجلنا : ربك يبين لنا ما هي ما حالها ، وصفتها ؟ ! . وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى . فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن ، الخارجة عما عليه البقر ، و "ما" وإن شاعت في طلب مفهوم الحقيقة ، لكنها قد يطلب بها الصفة والحال . تقول : ما زيد ؟ فيقال : طبيب أو عالم "قال" أي موسى عليه السلام ، بعد ما دعا ربه عز وجل بالبيان ، وأتاه الوحي "إنه" تعالى : "يقول إنها" أي البقرة المأمور بذبحها "بقرة لا فارض" أي لا مسنة . وقد فرضت فروضا ، فهي فارض ، أي : أسنت . من الفرض بمعنى القطع . كأنها قطعت سنها وبلغت آخرها "ولا بكر" أي لا فتية صغيرة لم يلقحها الفحل. "عوان" أي : نصف "بين ذلك" أي سني الفارض والبكر فافعلوا ما تؤمرون هذا أمر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به . وفيه حث على الامتثال ، وزجر عن المراجعة . ومع ذلك لم يفعلوا ، بل سألوا بيان اللون بعد بيان السن بأن :
    [ ص: 154 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [69 ] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين

    قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها

    شديد الصفرة ، يقال في التوكيد : أصفر فاقع ووارس ، كما يقال : أسود حالك وأبيض يقق ، وأحمر قانئ ، وأخضر ناضر ومدهام . وفي إسناد الفقوع إلى اللون -مع كونه من أحوال الملون لملابسته به- ما لا يخفى من فضل تأكيد ، كأنه قيل : صفراء شديدة الصفرة صفرتها كما في : جد جده "تسر الناظرين" أي : تبهج نفوسهم .

    روى ابن جرير بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم . وقد رواه غير واحد عن ابن عباس ، ورفعه ابن جريج والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [70 ] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون

    قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي زيادة استكشاف عن حالها لتمتاز عما يشاركها في التعوين والصفرة . ولذلك عللوا تكرير سؤالهم بقولهم "إن البقر" الموصوف بما تقدم "تشابه علينا" لكثرته ، أي : اشتبه علينا أيها نذبح . قال البقاعي : وذكر الفعل ، لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحده ، فإن العرب تذكره . نقل عن سيبويه وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها .
    [ ص: 155 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [71 ] قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون

    قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي : لم تذلل لإثارة الأرض وسقي الحرث . و "ذلول" صفة لبقرة . بمعنى غير ذلول و "لا" الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى . لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية ، والمقصود : إنها مكرمة ليست مذللة بالحراثة ، ولا معدة للسقي في السانية . "مسلمة" ، سلمها الله من العيوب ، أو معفاة من العلم ، سلمها أهلها منه ، أومخلصة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان . من : سلم له كذا ، إذا خلص له "لا شية فيها" ، أي : لا لون فيها يخالف لون جلدها من بياض وسواد وحمرة ، فهي صفراء كلها ، وهي في الأصل مصدر : وشاه وشيا وشية ، إذا خلط بلونه لونا آخر . في الصحاح : الشية : كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره . والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله . والجمع : شيات . يقال : ثور أشيه ، كما يقال : فرس أبلق .

    قالوا الآن جئت بالحق أي : بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها ، ولم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا . بخلاف المرتين الأوليين ، فإن ما جئت به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة "فذبحوها" ، الفاء فصيحة ، كما في "فانفجرت" ، أي : فحصلوا البقرة فذبحوها "وما كادوا يفعلون" كاد من أفعال المقاربة ، وضع لدنو الخبر من الحصول ، والجملة حال من ضمير ذبحوا ، أي : فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه . اعتراض تذييلي . ومآله استثقال استقصائهم واستبطاء لهم ، وأنهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهي خيط إسهابهم فيها .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 156 الى صـ 160
    الحلقة (30)

    (تنبيه) قال الراغب : قال بعض الناس : في هذه الآية دلالة على نسخ الشيء قبل [ ص: 156 ] فعله . فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة ، وكان لهم أن يذبحوا أي بقرة شاؤوا . وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة . فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل . وليس كذلك ، فإن الأول أمر مطلق ، والثاني والثالث كالبيان له ، لما راجعوا ، ولم يسقط عنهم ذبح البقرة . بل زيد في أوصافها ، وكشف عن المراد بالأمر الأول . وفي الآية دلالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [72 ] وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون

    وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها أي : اختلفتم واختصمتم في شأنها ; إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر : والله مخرج ما كنتم تكتمون مظهر ، لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل ، لا يتركه مكتوما .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [73 ] فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون

    "فقلنا اضربوه" أي : المقتول "ببعضها" أي : البقرة . يعني فضربوه فحيى وأخبر بقاتله . كما دل عليه قوله "كذلك" أي : مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة "يحيي الله الموتى" يوم القيامة "ويريكم آياته" أي : دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير .

    ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء . والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت ، وإخباره بقاتله ، وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة "لعلكم تعقلون" لتكونوا برؤية تلك الآيات على رجاء من أن يحصل لكم عقل ، فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره ، مما تخبر به الرسل عن الله تعالى .

    [ ص: 157 ] قال الراغب : وقوله كذلك يحيي الله الموتى قيل هو حكاية عن قول موسى عليه السلام لقومه ، وقيل بل هو خطاب من الله تعالى لهذه الأمة ، تنبيها على الاعتبار بإحيائه الموتى .

    تنبيهات :

    (الأول) : قال الزمخشري : (فإن قلت) : فما للقصة لم تقص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ؟ فيقال : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ؟

    (أجيب) : بأن كل ما قص من قصص بني إسرائيل ، إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعا لهم عليها ، ولما جدد فيهم من الآيات العظام . وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين . فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء ، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك . والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة ، وما يتبعه من الآية العظيمة . وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع . ولقد روعيت نكتة ، بعد ما استؤنفت الثانية ، استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : اضربوه ببعضها ، حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها . وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة. اهـ.

    وقال الحرالي : قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر ندائهم في القتيل ، ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة . والله أعلم .

    (التنبيه الثاني) قال الراغب : قد استبعد بعض الناس ذلك وما حكاه الله منه ، وأنكر [ ص: 158 ] حصول ذلك الفعل على الحقيقة وقال : ذلك ممتنع من حيث الطبيعة ، وأيضا فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة إلهية . فأما استبعاده ذلك من حيث الطبيعة فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور ، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير . ومن كان ذلك طريقته فلا خوض معه في تفسير القرآن . وأما الحكمة فيه فظاهرة إذ هو من المعجزات المحسوسة الباهرة للعقول . وأما تخصيص البقرة ، فإن كثيرا من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه . ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلا توافر المأمورين بذلك على طلبها ، واستيجاب الثواب في بذل ثمنها ، وجلب نفع توفر إلى صاحبها -لكان في ذلك حكمة عظيمة .

    وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد يجوز أن ينسب الفعل إليهم ، وإن كان واقعا من بعضهم ، ولا يكون ذلك كذبا ، كأن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها .

    وقد ذكر أكثر المفسرين قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة لم نورد شيئا منها لأنه لم يرو بسند صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتعلق به كبير فائدة . كما أن البعض من البقرة لم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه . فنحن نبهمه كما أبهمه الله تعالى ، إذ ليس في تعيينه لنا فائدة دينية ولا دنيوية ، وإن كان معينا في نفس الأمر ، وأيا كان فالمعجزة حاصلة به .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [74 ] ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون

    ثم قست قلوبكم من بعد ذلك المخاطبون إما أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم ، والأمور التي جرت عليهم ، والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم ، والآيات التي [ ص: 159 ] جاءهم بها أنبياؤهم ، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم ، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم . فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب . وهذا أولى ; لأن قوله تعالى : "ثم قست قلوبكم" ، خطاب مشافهة . فحمله على الحاضرين أولى . وإما أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصا ، أو من قبل المخاطبين من سلفهم . والله أعلم .

    "فهي كالحجارة" في القساوة "أو أشد" منها "قسوة" أي : هي في القسوة مثل الحجارة أو زائدة عليها فيها . و "أو" للتخيير أو للترديد . بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة ، أو بما هو أقسى كالحديد ، أو من عرفها شبهها بالحجارة ، أو قال هي أقسى من الحجارة ، وترك ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس وإن من الحجارة لما يتفجر أي يتفتح بالسعة والكثرة "منه الأنهار" بيان لأشدية قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور ، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة "وإن منها لما يشقق" أي يتشقق "فيخرج منه الماء" أي العيون التي هي دون الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله أي يتردى من رأس الجبل من خشية الله ، انقيادا لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة ، قاله القاشاني .

    وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح . والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ . وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة . لا سيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها ، كما بسط في مطولات البيان .

    وقد رد الإمام ابن حزم، في أول كتابه "الفصل" على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزا ، ردا مسهبا . وقال : من ادعى ذلك أكذبه العيان . ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام .

    (قال) : ولعل معترضا يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة : وإن منها لما يهبط من [ ص: 160 ] خشية الله فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي . فإذ لا شك في هذا ، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون الضمير في قوله تعالى : وإن منها لما يهبط راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما ، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى ، وهذا أمر يشاهد بالعيان ، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ، ويخشى العاصي . وقد أخبر عز وجل : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر أن الأعراب أشد كفرا ونفاقا (قال) فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 161 الى صـ 165
    الحلقة (31)


    والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره ، كما قلنا في قوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض : قالتا أتينا طائعين

    [ ص: 161 ] والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله : وإن منها لما يهبط من خشية الله الجبل الذي صار دكا ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية ، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى ، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة . ويكون "يهبط" بمعنى "هبط" كقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا معناه : وإذ مكر ، وبين قوله تعالى ، مصدقا إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر وقوله تعالى : أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون فصح بهذا ، صحة لا مجال للشك فيها ، أن الحجارة لا تعقل . وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية ، المعهود كل ذلك عندنا .

    وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع جبل كذا ، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف ، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلا . ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما يستجاز روايته ، مما يقارب الصحة (انتهى كلام ابن حزم) .

    وقال ابن جرير : اختلف أهل النحو في معنى الهبوط -ما هبط من الأحجار من خشية الله- فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه . وقال آخرون : قوله : يهبط من خشية الله [ ص: 162 ] كقوله : جدارا يريد أن ينقض ولا إرادة له . قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله . قالزيد الخيل :


    بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجدا للحوافر


    وكما قال سويد بن أبي كاهل ، يصف عدوا له :


    ساجد المنخر لا يرفعه خاشع الطرف أصم المستمع


    يريد أنه ذليل .

    [ ص: 163 ] وكما قال جرير بن عطية :


    لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع


    وقال آخرون : معنى قوله "يهبط من خشية الله" أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه . كما قيل : ناقة تاجرة إذا كانت ، من نجابتها وفراهتها ، تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية :


    وأعور من نبهان ، أما نهاره فأعمى ، وأما ليله فبصير


    فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه . من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به . ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية . وتقدم رد ابن حزم له مبرهنا عليه .

    [ ص: 164 ] ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله . وعبارته : قال مجاهد وابن جريج : كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به ، وقال الزجاج : الهابط منها قد جعل له معرفة ، قال ويدل على ذلك قوله : لو أنـزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وقال : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض إلى قوله والنجوم والجبال والشجر والدواب وقد روي مثل هذا عن السلف ، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول ، وحقيقته . فإن قوما استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو ، فانطووا على شبهة ، وقوما استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه ، فيقال وبالله التوفيق : إن قوما من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب :

    الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام . وذلك لعلام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علما .

    والثاني معرفة متزايدة ، وهي للإنسان ، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية ، وجعل له بذلك سبيلا إلى تعرف كثير مما لم يعرفه . وليس ذلك إلا للإنسان . والثالث معرفة دون ذلك ، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها . واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ، ودفع مضار عن أنفسها .

    والرابع : معرفة الناميات من الأشجار والنبات ، وهي دون ما للحيوانات ، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها .

    والخامس : معرفة العناصر ، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل ، والنار في [ ص: 165 ] طلب العلو ، وذلك بتسخير الله تعالى ، بلا اختيار منه . قالوا : والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهرا ، أبى إلا العود إليه طوعا . قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه ، ويأبى الماء الذي يطفيه ، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره . هذا ما حكوه .

    فعلى هذا إذا قيل : لهذه الأشياء معرفة ، فليس ببعيد ، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة ، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد ، فهذا مما تعافه العقول . (انتهى قول الراغب) .

    وهو تأويل حسن ، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف . وهو مسلم في كثير من الإطلاقات .

    وقوله تعالى : وما الله بغافل عما تعملون فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى . فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه ، مطلعا عليه غير غافل عنه ، كان لمجازاتهم بالمرصاد ، ولما بين سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم ، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان ، فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم ، والتبكيت لهم ، منكرا للطمع في إيمانهم فقال :




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 166 الى صـ 170
    الحلقة (32)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [75 ] أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون

    "أفتطمعون" أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم "أن يؤمنوا" أي : هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم ، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة ، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم . (واللام في قوله) "لكم" لتضمين [ ص: 166 ] معنى الاستجابة . كما في قوله عز وجل : فآمن له لوط أي : في إيمانهم مستجيبين لكم ، أو للتعليل أي في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم : وقد كان فريق منهم أي طائفة فيمن سلف منهم : يسمعون كلام الله وهو ما يتلونه من التوراة "ثم يحرفونه" قال ابن كثير : أي يتأولونه على غير تأويله . وقال ابن جرير : يعني بقوله "يحرفونه" يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه ، وأصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله "يحرفونه" أي : يميلونه عن وجهه ، ومعناه الذي هو معناه ، إلى غيره : من بعد ما عقلوه أي فهموه على الجلية ، ومع هذا يخالفونه على بصيرة "وهم يعلمون" أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله .

    قال ابن جرير : هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام . وأن بقاياهم في العصر المحمدي على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسوي بغيا وحسدا . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه والظاهر أن المراد ، بالفريق منهم ، أحبارهم ، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى ، من بعد ، في قوله تعالى : واشتروا به ثمنا قليلا وقال : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم

    [ ص: 167 ] ولقائل أن يقول ، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين . وأجاب القفال عنه فقال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه ، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق ، وهو قولك للرجل كيف تفلح ، وأستاذك فلان ؟ أي وأنت عنه تأخذ ، ولا تأخذ عن غيره .

    ونحوه قول الراغب : لما كان الإيمان هو العلم الحقيقي مع العمل بمقتضاه ، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم ، فحقيق أن لا يحصل لمن غبي عن كل العلوم . فذكر ذلك تبعيدا لإيمانهم لا يأسا للحكم بذلك ; إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسا (ثم قال الراغب) وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط ، بل يكون عنادا وغلبة شهوة .

    (تنبيه) ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير "ثم يحرفونه" هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة ، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظي عن التوراة ، فإنه واقع بلا ريب ; فقد بدلوا بعضا منها وحرفوا لفظه ، وأولوا بعضا منها بغير المراد منه ، وكذا يقال في الإنجيل . ويشهد لذلك كلام أحبارهم ، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه (إظهار الحق): أن أهل الكتاب سلفا وخلفا ، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالبا الأسماء في تراجمهم ، ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد ، وأنهم يزيدون تارة شيئا بطريق التفسير في الكلام ، الذي هو كلام الله في زعمهم ، [ ص: 168 ] ولا يشيرون إلى الامتياز ، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم . ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة . ثم ساق بعضا منها فانظره .

    وفي (ذخيرة الألباب) ، لأحد علماء النصارى ، ما مثاله : إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يق الكتبة عثرة الخطأ الطفيف ، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات . وفيه أيضا : إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافا عظيما في أمر التاريخ . فإذا تحريف الأسفار الخمسة أمر بين . وفيه أيضا في الفصل (31): أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفا وأربعة آلاف غلطة ، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ . انتهى . فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظي فيها . وهو المقصود .

    وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها ، فهو إفراط . قال الحافظ ابن حجر في آواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى : بل هو قرآن مجيد إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة . والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل . من ذلك قوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية . ومن ذلك [ ص: 169 ] قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم ، ويؤيده قوله تعالى : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات . فارجع إليه .

    ثم أخبر تعالى ، عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين ، وسلوكهم منهاجهم ، بقوله تعالى :
    [ ص: 170 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [76 ] وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون

    "وإذا لقوا الذين آمنوا" أي بالله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "قالوا آمنا" أي بأنكم على الحق ، وأن محمدا هو الرسول المبشر به ، وكأنهم يقولون ذلك إرضاء لحلفائهم من الأوس والخزرج ، أو جهرا بحقيقة لا يسعهم، أمام حلفائهم، السكوت عنها . "وإذا خلا بعضهم" يعني الذين لم ينافقوا "إلى بعض" أي الذين نافقوا "قالوا" أي عاتبين عليهم : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي بما بين لكم في التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ، ونصره .

    قال ابن إسحاق : أي أتقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي نجده في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا به .

    قال ابن جرير : أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم . والمعنى : أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم ، ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة. اهـ.

    "ليحاجوكم" متعلقة بالتحديث ، دون الفتح ، أي ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة "به عند ربكم" أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة ، فيقولون : ألم تحدثونا بما في كتابكم ، في الدنيا ، من حقية ديننا ، وصدق نبينا ؟ فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم ، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق ، في الموقف . لأنه ليس من اعترف بالحق ، ثم كتم ، كمن ثبت على الإنكار .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 171 الى صـ 175
    الحلقة (33)

    وتأول الراغب الأصفهاني قوله تعالى "عند ربكم" أي في حكمه وكتابه، كما هو وجه في آية : فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون أي في [ ص: 171 ] حكم الله وقضائه ، وهو وجه جيد ، وقوله "أفلا تعقلون" من تمام التوبيخ والعتاب ، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض . قال الراغب : ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل ، على سبيل ما يسمى في البلاغة (الالتفات) . ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين ، تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [77 ] أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون

    أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون أي يخفون من قولهم لأصحابهم ، ومن غيره "وما يعلنون" أي يظهرون من ذلك ، فيخبر به أولياءه . قال الراغب : هذا تبكيت لهم ، وإنكار لما يتعاطونه ، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية .

    ولما ذكر العلماء من اليهود الذين عاندوا بالتحريف ، مع العلم والاستيقان ، ذكر العوام الذين قلدوهم ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ; لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه ، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن ، وهو متمكن من العلم ، فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [78 ] ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون

    "ومنهم أميون" أي لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة ، فيؤمنوا . "لا يعلمون الكتاب" أي التوراة ، أي لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق "إلا أماني" بالتشديد جمع أمنية ، أصلها أمنوية (أفعولة) فأعلت إعلال سيد ، وميت. مأخوذة من تمنى الشيء : قدره وأحب أن يصير إليه . أو من تمنى : كذب . أو من تمنى الكتاب : قرأه . وعلى كل فالاستثناء منقطع ; إذ ليس ما يتمنى ، وما يختلق وما يتلى ، من جنس علم الكتاب . أي لا يعلمون الكتاب . لكن يتمنون [ ص: 172 ] أماني حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم . وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم . وغير ذلك من أمانيهم الفارغة ، المستندة إلى الكتاب ، على زعم رؤسائهم . أو لا يعلمون الكتاب ، لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم . فتقبلوها على التقليد . أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم ، فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه .

    قال ابن جرير : وأولى ما روينا في تأويل قوله "إلا أماني" أن هؤلاء الأميين لا يفقهون ، من الكتاب الذي أنزله الله ، شيئا . ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا . والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله . بدليل قوله تعالى بعد : وإن هم إلا يظنون فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنا منهم ، لا يقينا .

    وقال أبو مسلم الأصفهاني : حمله على تمني القلب أولى . بدليل قوله تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم أي : تمنيهم . وقال الله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به وقال : تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون بمعنى يقدرون ويخرصون . ورجح كثيرون حمله على القراءة ، كقوله تعالى : [ ص: 173 ] إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذ في الاستثناء ، حينئذ ، نوع تعلق بما قبله . فيكون أليق في طريقة الاستثناء . و "وإن هم إلا يظنون" ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد . من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم . فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ؟

    (تنبيه) قال الراغب : قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم ، والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم ; فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة ، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم ، وهم قد ضلوا وأضلوا ، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين ، على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه ، وبذم زعمائهم ، على تحري الصدق وتجنب الإضلال ; إذ هو أعظم من الضلال. اهـ.

    ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن ، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل ، فقيل على وجه الدعاء عليهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [79 ] فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون

    "فويل" فإن أضيف ، نصب . نحو : ويلك وويحك -وإذا فصل عن الإضافة ، [ ص: 174 ] رفع . نحو : ويل له . الويل : الهلاك وشدة العذاب "للذين يكتبون الكتاب" أي المحرف . أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة "بأيديهم" تأكيد لدفع توهم المجاز . كقولك : كتبته بيميني . وقد يقال في مثل هذا : إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهدا للهيئة "ثم يقولون" لما كتبوه ، كذبا وبهتانا "هذا من عند الله ليشتروا به" أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته "ثمنا قليلا" أي عرضا يسيرا .

    ويجوز في الآية معنى آخر ; أي : فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ، فيشهدون بذلك . وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه ، لو كان كتابة غيرهم ، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله -الوقوف مع عهوده ومواثيقه ، إجلالا لمنزله وموحيه ، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه . ولكن لم يكن ذلك منهم . بل كان أن حرفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمنا قليلا . وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله ، وصدقهم في قولهم : هذا من عند الله . ثم مخالفتهم لذلك . فيكون قوله تعالى "ليشتروا به" تعليلا لمحذوف دل عليه السياق . أي : ثم بعد ذلك يحرفونه ليشتروا به ، وهو وجه جيد يوافق آية "يحرفون الكلم عن مواضعه" وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير : هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه : فويل لهم مما كتبت أيديهم أي : فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم "وويل لهم مما يكسبون" يصيبون من الحرام والسحت .

    قال الراغب : إن قيل : لم ذكر "يكسبون" بلفظ المستقبل و "كتبت" بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيها على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم « من سن سنة سيئة فعليه وزرها [ ص: 175 ] ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » فنبه بالآية أن ما أصلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة ، التي يعتمدها الجهلة ، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا (إن قيل) لم ذكر الكتابة دون القول . (قيل) لما كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه ; إذ هو كذب باللسان واليد ، صار أبلغ . لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره .

    (إن قيل) : ما الذي كانوا يكتبونه ؟ (قيل) : روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم . ثم يقولون هذا من عند الله . وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح . وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بوصف لنبي بعده ، فإنه أتى بلفظة معرضة وإشارة مدرجة ، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم . وقد قال العلماء : ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن بإشارات . ولو كان ذلك متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه . ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان ; من العبراني إلى السرياني إلى العربي . وقد ذكر المحصلة ألفاظا من التوراة والإنجيل ، إذا اعتبرت وجدت دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعريض ، هو عند الراسخين في العلم جلي ، وعند العامة خفي . فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كانت تأويلات محرفة ، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه ، وتبديل آياته ، وكتمان الحق عن أهله ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، طمعا في عرض الدنيا ، وقد تقدم أنه عنى بالثمن القليل ، أعراض الدنيا وإن كثرت . لقوله تعالى : قل متاع الدنيا قليل اهـ كلام الراغب رحمه الله .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 176 الى صـ 180
    الحلقة (34)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [80 ] وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون

    وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة بيان لبعض آخر من جناياتهم فيما ادعوا لأنفسهم من أنهم لا تمسهم النار في الآخرة إلا مدة يسيرة ، ومرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها . لأن كل معدود منقض . قال مجاهد : كانت اليهود تقول : إنما الدنيا سبعة آلاف سنة . فإنما نعذب ، مكان كل ألف سنة يوما ، ثم ينقطع العذاب . وروي ذلك عن ابن عباس . وعنه أن اليهود قالوا : لن ندخل النار إلا الأيام التي عبدنا فيها العجل ، أربعين ، فإذا انقضت انقطع عنا العذاب ، ثم بين تعالى إفكهم . لأن العقل لا طريق له إلى معرفة ذلك ، وإنما سبيل معرفته الإخبار منه تعالى ، وهو منتف ، فقال سبحانه "قل" منكرا لقولهم وموبخا لهم : أتخذتم عند الله عهدا أي : عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار "فلن يخلف الله عهده" أي فتقولوا لن يخلف الله عهده . وجعل بعضهم الفاء فصيحة معربة عن شرط مقدر ; أي : إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه "أم تقولون" أي أم لم يكن ذلك فأنتم تقولون مفترين "على الله ما لا تعلمون" أي وقوعه جهلا وجراءة . وقولهم المحكي ، وإن لم يكن تصريحا بالافتراء عليه سبحانه ، لكنه مستلزم له . لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [81 ] بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    "بلى" إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله "لن تمسنا النار" أي بلى تمسكم أبدا . بدليل قوله "هم فيها خالدون" ، "من كسب سيئة" أي عملها وهي والسيئ [ ص: 177 ] عملان قبيحان أصلها سيوءة ، من : ساءه يسوه . فأعلت إعلال سيد . ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار ، بل لا بد أن يكون سببه محيطا به فقال : وأحاطت به خطيئته أي غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة ، وسدت عليه مسالك النجاة ; بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود . وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة : فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    (تنبيه) ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين. لما ثبت في السنة ، تواترا ، من خروج عصاة الموحدين من النار ، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة ، في هذه الآية ، بالكفر والشرك . ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [82 ] والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

    والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون من عادة التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية في الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد . وذلك لفوائد : منها ، ليظهر بذلك عدله سبحانه ; لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر ، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان . ومنها ، أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه . وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق . ومنها ، أنه يظهر بوعده كمال رحمته ، وبوعيده كمال حكمته ، فيصير ذلك سببا للعرفان .

    وقد قدمنا عند قوله تعالى : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل . فإذا عطف عليه العمل ، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام . أو يقال : لم يدخل فيه ولكن مع العطف ، كما في اسم الفقير والمسكين . فتذكر .

    [ ص: 178 ] قال الراغب : في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل : بلى من كسب سيئة هو الكفر ، وإحاطة الخطيئة به ، الأعمال السيئة ، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة .

    ثم شرع ، سبحانه ، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [83 ] وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون

    وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ثم بين الميثاق بقوله تعالى "لا تعبدون إلا الله" وهو إخبار في معنى النهي ، كقوله تعالى : ولا يضار كاتب ولا شهيد وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كذا ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي . وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى ، أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء . وبهذا أمر جميع خلقه . ولذلك خلقهم . كما قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وبالوالدين إحسانا والإحسان نهاية البر ، [ ص: 179 ] فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية ، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين . حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما ، بعبادته التي هي توحيده ، والبراءة عن الشرك ، اهتماما به وتعظيما له .

    قال حكيم مصر في تفسيره : العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد ، هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته ، والقيام بشؤونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا . لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا . وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية ، ويكفلانه ، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه . فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما ، عن علم واختيار ، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان . وإذا وجب على الإنسان أن يشكر ، لكل من يساعده على أمر عسير، فضله ، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد ؛ وما كانت به المساعدة ، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى ، وهما اللذان كانا يساعدانه على كل شيء ، أيام كان يتعذر عليه كل شيء اهـ "وذي القربى" أي القرابة.

    قال الأستاذ الحكيم "الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة ، ويوثق الروابط الطبيعية ، حتى تبلغ البيوت ، في وحدة المصلحة ، درجة الكمال ، والأمة تتألف من البيوت ، أي : العائلات . فصلاحها صلاحها . ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة ، وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد ، ثم بين سائر الأقربين . فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله ، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمته . لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس ، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم ، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ، ويرى منفعتهم عين منفعته ، ومضرتهم عين مضرته ؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة ، وصلتها أمتن من كل صلة ، فجاء الدين يقدم حقوق الأقربين على سائر الحقوق .

    [ ص: 180 ] وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص . ثم ذكر تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال سبحانه "واليتامى والمساكين" . اليتامى جمع يتيم . وهو من مات أبوه وهو صغير . قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين ، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة ، فعلم أنها مقصودة لذاتها . وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم . وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا . وحسبك أن القرآن نهى عن قهر اليتيم ، وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا ، والسر في ذلك هو كون اليتيم لا يجد ، قي الغالب ، من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه ، والعناية بأموره الدينية والدنيوية ; فإن الأم ، إن وجدت ، تكون في الأغلب عاجزة . لا سيما إذا تزوجت بعد أبيه . فأراد الله تعالى ، وهو أرحم الراحمين ، بما أكد من الوصية بالأيتام ، أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم ، يربونهم تربية دينية دنيوية ، لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم ؛ فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا . فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد . والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة . فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة . وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم ، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا . إلا أنهم قد اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس ، ولكن المسكين من يعجز عن كسب ما يكفيه اهـ.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 181 الى صـ 185
    الحلقة (35)

    وقولوا للناس حسنا أي قولا حسنا . أي : كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا . وفيه من التأكيد والتحضيض على إحسان مقاولة الناس ، أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم ، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف ، كرجل عدل وصوم وفطر وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة خطاب لبني إسرائيل . فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها ، والزكاة التي كانوا يخرجونها . "ثم توليتم" أي أعرضتم عن المضي على مقتضى الميثاق الذي فيه سعادتكم ورفضتموه . وقوله : إلا قليلا منكم استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام ، أو في كل زمن ، فإنه لا تخلو أمة من الأمم ، من المخلصين الذين [ ص: 181 ] يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم .

    والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم ، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهي إذا فشا فيها المنكر ، وقل المعروف "وأنتم معرضون" عادتكم الإعراض عن الطاعة ، ومراعاة حقوق الميثاق ، ثم نعى عليهم أيضا إخلالهم بواجب الميثاق المأخوذ عليهم في حقوق العباد بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [84 ] وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون

    وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم إخبار في معنى النهي . والمراد به النهي الشديد عن تعرض بعض بني إسرائيل لبعض بالقتل والإجلاء . أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله "ثم أقررتم" أي أظهرتم الالتزام بموجب المحافظة على الميثاق المذكور "وأنتم تشهدون" بلزومه. فهو توكيد للإقرار ، كقولك : أقر فلان ، شاهدا على نفسه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [85 ] ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون

    "ثم أنتم هؤلاء" خطاب خاص للحاضرين ، فيه توبيخ شديد تقتلون أنفسكم [ ص: 182 ] وتخرجون فريقا منكم من ديارهم من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق "تظاهرون عليهم" أي تتعاونون عليهم "بالإثم" وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم "والعدوان" وهو التجاوز في الظلم "وإن يأتوكم" أي هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم "أسارى" بضم الهمزة ، وفتح السين ، والألف بعدها . وقرأ حمزة "أسرى" بفتح الهمزة ، وسكون السين كقتلى ، جمع أسير ، وأصله المشدود بالأسر ، وهو القد ، وهو ما يقد أي يقطع من السير "تفادوهم" بضم التاء وفتح الفاء . وقرئ "تفدوهم" بفتح التاء وسكون الفاء ، أي تخلصوهم بالمال من الفداء . وهو الفكاك بعوض: وهو محرم عليكم إخراجهم الجملة حال من الضمير في "تخرجون" أو من "فريقا" أو منهما . وتخصيص بيان الحرمة ههنا بالإخراج، مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق ، لكونه مظنة للمساهلة في أمره ، بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل. ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم ، وتناقض أفعالهم معا . وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص. وهو السر في تخصيص التظاهر به فيما سبق . ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال أفتؤمنون ببعض الكتاب أي : التوراة وهو الموجب للمفاداة "وتكفرون ببعض" وهو المحرم للقتل والإخراج . ثم اعلم أن ما ذكرناه في قوله تعالى "تفادوهم" ، و "تؤمنون ببعض الكتاب" هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن ذلك وصف لهم بما هو طاعة ، وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ، والإيمان بذلك . وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك . والمراد أنكم ، مع القتل والإخراج ، إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرما عليكم ؛ ثم عنده تخرجونه من الأسر.

    قال أبو مسلم : والمفسرون ، إنما أتوا من جهة قوله تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليهم ، والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض.

    [ ص: 183 ] وكلا القولين يحتمله لفظ المفاداة ، لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه . والآخذ منه للتخليص يوصف أيضا بذلك . إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب . لأن عود قوله : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية ، أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات . أفاده الرازي . فما جزاء من يفعل ذلك منكم إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض، أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى "إلا خزي" ذل وهوان مع الفضيحة . والتنكير للتفخيم. "في الحياة الدنيا" وقد فعل سبحانه ذلك ، فقتلت بنو قريظة وأجليت بنو النضير إلى أذرعات وأريحا من الشام. ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب يعني النار وما الله بغافل عما تعملون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [86 ] أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون

    "أولئك الذين اشتروا" أي آثروا "الحياة الدنيا" على خساستها . واستبدلوها "بالآخرة" مع نفاستها . فلا يخفف عنهم العذاب في واحدة من الدارين. ولا هم ينصرون قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : أنكر تعالى على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في المدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام ، وكانت [ ص: 184 ] بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع ، حلفاء الخزرج ، وبنو نضير ، وبنو قريظة ، حلفاء الأوس فكانوا ، إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه . فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها ، ويسفكون دماءهم ، وبأيديهم التوراة . يعرفون فيها ما عليهم وما لهم . والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حلالا ولا حراما ؛ فإذا وضعت الحرب أوزارها ، وأسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه ، فتفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم . فإذا عيرتهم العرب بذلك وقالوا : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا . إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم . فيقال : لم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا . فلذلك حين عيرهم عز وجل فقال : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض أي تفادوهم بحكم التوراة وتقتلونهم . وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ؛ ابتغاء عرض الدنيا . هذا ملخص ما ساقه ابن كثير عن محمد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس. ورواه أيضا عن السدي . فليحقق تصحيح هذه القصة .

    وفي الآية تفسير آخر . أي لا تقتلوا أنفسكم لشدة تصيبكم بسكين ، أو خنق ، أو بارتكاب ما يوجب ذلك . كالارتداد والزنى بعد الإحصان . وقتل النفس بغير الحق ونحو ذلك . ولا تسيئوا جوار من جاوركم فيضطرون إلى الخروج من دياركم . أو : لا تفسدوا فتكونوا سببا لإخراجكم أنفسكم . والله أعلم .
    [ ص: 185 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [87 ] ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون

    ولقد آتينا موسى الكتاب شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم . وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به . والمراد بالكتاب التوراة. وقفينا من بعده بالرسل يقال : قفاه به أتبعه إياه ، من التقفية وهي متابعة شيء شيئا . كأنه يتلو قفاه ، وقفا الصورة منها ، خلفها المقابل للوجه . والمعنى لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى ، بل أرسلنا من بعده الرسل تترى ، ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود. "وآتينا عيسى" اسم معرب أصله يسوع . لفظة يونانية بمعنى مخلص ، ومثله يشوع بالمعجمة ، في اللغة العبرانية "ابن مريم البينات" المعجزات الواضحات التي لا مرية فيها لذي عقل . كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص "وأيدناه" أي : قويناه على ذلك كله "بروح القدس" بالروح المقدسة كما تقول : حاتم الجود ورجل صدق ، وهي الروح الطاهرة التي نفخها الله فيه وميزه بها عن غيره ممن خلق . قال تعالى وروح منه ولذا كان له ، عليه الصلاة والسلام ، بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى . وعن الحسن البصري : القدس هو الله ، وروحه جبريل . والإضافة للتشريف . والمعنى: [ ص: 186 ] أعناه بجبريل . قال الرازي : والذي يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى : قل نـزله روح القدس والله أعلم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 186 الى صـ 190
    الحلقة (36)

    وتخصيصه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات ، والتأييد بروح القدس لحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه عليه السلام ، ببيان حقيته وإظهار نهاية قبح ما فعلوا به عليه السلام : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم من الحق ، أي لا تحبه . من هوي كفرح ، إذا أحب "استكبرتم" عن الاتباع له ، والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى "ففريقا" منهم "كذبتم" إذ لم تنل أيديكم مضرته "وفريقا" آخر منهم "تقتلون" غير مكتفين بتكذيبهم.
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [88 ] وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون

    "وقالوا" بيان لنوع آخر من مخازيهم . والقائلون المعاصرون للنبي عليه الصلاة والسلام "قلوبنا غلف" هذا كقوله تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه أي هي مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها ، فلا تفقهه . مستعار من الأغلف الذي لم يختن : بل لعنهم الله بكفرهم رد الله أن تكون قلوبهم كذلك لأنها متمكنة من قبول الحق . وإنما طردهم عن رحمته بسبب كفرهم وزيغهم . وهذا كما قال في سورة النساء : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وقوله : فقليلا [ ص: 187 ] ما يؤمنون "ما" مزيدة للمبالغة أي فإيمانا قليلا يؤمنون . وهو إيمانهم ببعض الكتاب .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [89 ] ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين

    "ولما جاءهم كتاب" هو القرآن الكريم الذي مقصود هذه السورة . وصفه بالهدى . وتنكيره للتفخيم . ونعته بقوله "من عند الله" للتشريف "مصدق لما معهم" من التوراة . وجواب "لما" محذوف دل عليه جواب "لما" الثانية. وعليه، فقوله تعالى "وكانوا" إلخ . . جملة معطوفة على الشرطية ، عطف القصة على القصة . وقيل : جوابها كفروا . ولما الثانية تكرار للأولى ، فلا تحتاج إلى جواب. وقيل: كفروا جواب للأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد. وعلى الوجهين فجملة قوله "وكانوا من قبل" أي قبل مجيئه : يستفتحون على الذين كفروا جملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم . والاستفتاح : الاستنصار أي طلب النصر ، أي يطلبون من الله النصر على المشركين لما أنهم كانوا مستذلين في جزيرة العرب ، ولذا كانوا يحالفون بعض القبائل تعززا بهم على ما تقدم "فلما جاءهم ما عرفوا" صحته وصدقه . كان من حقهم أن يسارعوا إلى الإيمان به لظفرهم بأمنيتهم حينئذ ، وهو انتصارهم على المشركين ، وحصول العزة لهم مع المؤمنين . ولكن "كفروا به" أي امتنعوا من الإيمان به خوفا من زوال رياستهم وأموالهم ، وأصروا على الإنكار مع علمهم بحقيقة نبوته . ولذا قال عبد الله بن سلام في [ ص: 188 ] قصة إسلامه : يا معشر اليهود اتقوا الله . فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق . رواه البخاري في الهجرة .

    وروى أيضا أن عبد الله بن سلام لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي . فلما أجابه عنها قال : أشهد أنك رسول الله . وسنذكر الحديث بتمامه عند قوله تعالى : من كان عدوا لجبريل الآية إن شاء الله تعالى . وقوله : فلعنة الله على الكافرين اللام فيه للعهد أي عليهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم ؛ كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه . أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أوليا ، إذ الكلام فيهم ، وأيا ما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى : بل لعنهم الله بكفرهم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [90 ] بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنـزل الله بغيا أن ينـزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين

    بئسما اشتروا به أنفسهم "ما" نكرة موصوفة بما بعدها ، منصوبة على التمييز ، مفسرة لفاعل بئس . أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها ، فرضوا به وعدلوا إليه . والمخصوص بالذم قوله تعالى : أن يكفروا بما أنـزل الله أي كفرهم بالكتاب المصدق [ ص: 189 ] لما معهم بعد الوقوف على حقيقته "بغيا" حسدا "أن ينزل الله" لأن ينزل ، أو على أن ينزل . أي حسدوه على أن ينزل الله "من فضله" الذي هو الوحي "على من يشاء من عباده" أي : يشاؤه ويصطفيه للرسالة "فباؤوا بغضب" أي رجعوا لأجل ذلك بغضب ، في حسدهم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كفروا به "على غضب" كانوا استحقوه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم من أجل تحريفهم الكلم ، وتضييعهم بعض أحكام التوراة ، وكفرهم بعيسى عليه السلام .

    قال الرازي: إن غضبه تعالى يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة، كغضبه على من كفر بخصال كثيرة .

    قلت: وفي الصحيحين عن أبي هريرة : « اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك ; لا ملك إلا الله » . والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة . انظر الجامع الصغير.

    ويحتمل المعنى . فصاروا أحقاء بغضب مترادف ، فلا يكون القصد إثبات غضبين [ ص: 190 ] لأمرين متنوعين أو أمور ، بل المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر ، وإن كان واحدا ، إلا أنه عظيم . والله أعلم .

    وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين أن الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها . وليس غضبه كغضبنا . كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا ، فليس هو مماثلا لأبداننا ولا لأرواحنا ، وصفاته كذاته . وما قيل : إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذواتنا منفعلة ، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلا بها . كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين . فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين ، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه . وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه كالمنسوب إليه . كما قال صلى الله عليه وسلم : « ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر » فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي . وهذا يتبين بقاعدة : وهي أن كثيرا من الناس يتوهم ، في بعض الصفات أو كثير منها ، أو أكثرها أو كلها ، أنها تماثل صفات المخلوقين . ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير : أحدها : كونه مثل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين . وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل .

    الثاني : أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطله فبقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جناية على النصوص ، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله ، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما ، من إثبات صفات الله ، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى .

    الثالث : أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل. فيكون معطلا عما يستحقه الرب تبارك وتعالى .

    الرابع : أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات ، والجمادات ، وصفات المعدومات . فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب . ومثله بالمنقوصات والمعدومات . وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات . وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات . فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل . سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . أفاده الإمام ابن تيمية . عليه الرحمة ، في القاعدة التدمرية.
    "وللكافرين" أي لهم . والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم "عذاب مهين" يراد به إهانتهم . أي إذلالهم . فإن كفرهم ، لما كان سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الآخرة كما قال تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين أي : صاغرين حقيرين.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 191 الى صـ 195
    الحلقة (37)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [91 ] وإذا قيل لهم آمنوا بما أنـزل الله قالوا نؤمن بما أنـزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين

    "وإذا قيل لهم" أي لليهود "آمنوا بما أنزل الله" على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه قالوا نؤمن بما أنـزل علينا من التوراة ، ولا نقر إلا بها "ويكفرون بما وراءه" حال من ضمير "قالوا" بتقدير مبتدأ . أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده وهو الحق مصدقا لما معهم منها غير مخالف له . وفيه رد لمقالتهم . لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها "قل" تبكيتا لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم . قتلتموهم بغيا وعنادا، واستكبارا على رسل الله . فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين ، على [ ص: 192 ] طريق التغليب ، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل ، كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم . ودلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام ، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز .

    ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى ، أقام دليلا آخر أقوى مما تقدمه . فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك . وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن . وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى ، وبحضرة هارون عليهما السلام. فقال تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [92 ] ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون

    ولقد جاءكم موسى بالبينات من الآيات كفلق البحر ، وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله "ثم اتخذتم العجل" معبودا من دون الله "من بعده" أي من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل . كما قال تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار وقوله تعالى "وأنتم ظالمون" أي بعبادته . واضعين لها في غير موضعها . أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى . أو هو اعتراض . أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.

    ثم ذكر أمرا آخر هو أبين في عنادهم وأنهم مع الهوى فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ ص: 193 ] [93 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين

    "وإذ أخذنا ميثاقكم" على الإيمان والطاعة . "ورفعنا فوقكم الطور" قائلين "خذوا ما آتيناكم" أي ما أمرتم به في التوراة "بقوة" بجد "واسمعوا" أطيعوا "قالوا سمعنا" قولك "وعصينا" أمرك . وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة .

    قال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى : سمعوه فتلقوه بالعصيان . فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه . كقوله تعالى أن يقول له كن فيكون وأشربوا في قلوبهم العجل أي حبه على حذف المضاف . وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة . أو العجل مجاز عن صورته . فلا يحتاج إلى حذف المضاف . وعلى كل ، فأشربوا استعارة تبعية. إما من إشراب الثوب الصبغ -أي تداخله فيه- أو من إشراب الماء -أي تداخله أعماق البدن- والجامع السراية في كل جزء . وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب . ثم بين بقوله "في قلوبهم" للمبالغة، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر وهو : وأشرب قلوبهم العجل "بكفرهم" بسبب كفرهم .

    قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين أي كما زعمتم، بالتوراة . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب أصلاتك تأمرك [ ص: 194 ] وكذا إضافة الإيمان إليهم . وقوله "إن كنتم مؤمنين" قدح في صحة دعواهم . فإن الإيمان إنما يأمر بعبادة الله وحده لا بشركة العباد لما هو في غاية البلادة . فهو غاية الاستهزاء . وحاصل الكلام : إن كنتم مؤمنين بها عاملين ، فيما ذكر من القول والعمل، بما فيها، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها . وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا . فجواب الشرط محذوف كما ترى ، لدلالة ما سبق عليه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [94 ] قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين

    "قل" كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم . وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس . لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله ، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله : إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة نصب على الحال من الدار الآخرة . والمراد الجنة . أي سالمة لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا "من دون الناس" اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون "فتمنوا الموت" فسلوا الموت "إن كنتم صادقين" لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الأكدار ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت . والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوبا ، نظرا إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب . والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه ، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب . وثم تفسير آخر للتمني [ ص: 195 ] بأن يدعوا إلى المباهلة والدعاء بالموت . وإليه ذهب ابن جرير . والأول أقرب إلى موافقة اللفظ . وقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [95 ] ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين

    ولن يتمنوه أبدا من المعجزات لأنه إخبار بالغيب . وكان كما أخبر به . كقوله ولن تفعلوا "بما قدمت أيديهم" بما أسلفوا من أنواع العصيان . واليد مجاز عن النفس . عبر بها عنها ، لأنها من بين جوارح الإنسان ، مناط عامة صنائعه . ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها . ولم يجعل المجاز في الإسناد، فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم ، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء والله عليم بالظالمين أي بهم . تذييل للتهديد . والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن سواهم . ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين

    و قد تلطف الغزالي في توجيه الإتيان بـ "لن" هنا ، و "لا" في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية ، إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ، وأما مرتبة الولاية فهي، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة . فلما كانت الدعوى الأولى أعظم ، لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ "لن" لأنها أقوى الألفاظ النافية. ولما كانت [ ص: 196 ] الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ "لا" لأنه ليس في نهاية القوة ، في إفادة معنى النفي . والله أعلم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 196 الى صـ 200
    الحلقة (38)

    ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت ، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [96 ] ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون

    ولتجدنهم أحرص الناس على حياة التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي : على الحياة "ومن الذين أشركوا" عطف على ما قبله بحسب المعنى ؛ كأنه قيل : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا . وإفرادهم بالذكر ، مع دخولهم في الناس ، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص . للمبالغة في توبيخ اليهود ، فإن حرصهم ، وهم معترفون بالجزاء ، لما كان أشد من حرص المشركين المنكرين له ، دل ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار . ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه، عنه ; أي وأحرص من الذين أشركوا .

    وأما تجويز كون الواو للاستئناف وقد تم الكلام عند قوله : "على حياة" تقديره "ومن الذين أشركوا" ناس يود أحدهم ، على حذف الموصوف ، وقول أبي مسلم: إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، ثم فسر هذه المحبة بقوله : يود أحدكم لو يعمر ألف سنة -فلا يخفى بعده . لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر، أن يكون المراد: [ ص: 197 ] ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم : إن الدار الآخرة لنا ، لا لغيرنا . والله أعلم .

    "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" بيان لزيادة حرصهم ، على طريق الاستئناف . و "لو" مصدرية ، بمعنى "أن" مؤول ما بعدها بمصدر ، مفعول يود . أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر "ما" حجازية ، والضمير العائد على أحدهم اسمها ، وبمزحزحه خبرها ، والباء زائدة ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه، أي يبعده وينجيه، من العذاب تعميره . قال القاضي : والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ، ولو قال تعالى : وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول والله بصير بما يعملون فسوف يجازيهم عليه .

    وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده ، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة . نعم ! لو حمل أحدهما على الآخر مجازا لم يبعد ، ولا ضرورة إليه هنا . ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى ، فلذا حمل هذا البصر على العلم- هو من باب قياس الغائب على الشاهد ، وهو بديهي البطلان . قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في كتاب الكافية الشافية:


    وهو البصير يرى دبيب النملة الس وداء تحت الصخر والصوان ويرى مجاري القوت في أعضائها
    ويرى عروق بياضها بعيان ويرى خيانات العيون بلحظها
    ويرى ، كذاك ، تقلب الأجفان


    وقوله تعالى :
    [ ص: 198 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [97 ] قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين [98 ] من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين

    قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين

    روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبي . فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : « أخبرني بهن جبريل آنفا » ، قال : جبريل ؟ قال : « نعم » ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك « أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة ، فزيادة كبد حوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت » قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله ! إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني . فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أي رجل عبد الله فيكم»؟ قالوا : [ ص: 199 ] خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام» ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. وانتقصوه. قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .

    وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. وساق نحوا مما تقدم . وتتمته قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : « فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط ، إلا وهو وليه » . قالوا : فعندها نفارقك . ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : فما منعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله عز وجل : قل من كان عدوا لجبريل إلى قوله : لو كانوا يعلمون فعندها باؤوا بغضب على غضب .

    وفي رواية للإمام أحمد والترمذي والنسائي في القصة : فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : « جبريل عليه السلام » . قالوا : جبريل ! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا . لو قلت : ميكائيل ، الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ! فأنزل الله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل إلى آخر الآية. ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن جرير عن الشعبي قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها . فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . قال فكره ذلك ، وقال : أيما ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدق [ ص: 200 ] التوراة ! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ! ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت: إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان. قال ، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا به . فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت ويحكم ، إذا هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة، وسلما من الملائكة . وإنه قرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ . قالوا: عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ؟ وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا . وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف، ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان . فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن ؟ فقرأ علي : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 201 الى صـ 205
    الحلقة (39)

    ورواه مختصرا ابن أبي حاتم أيضا ، وفيه انقطاع ، فإن الشعبي لم يدرك زمان عمر رضي [ ص: 201 ] الله عنه . كذا قاله الحافظ ابن كثير، وساقه أيضا الواحدي ، وزاد في آخره : قال عمر : فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر .

    قال العلامة البقاعي : وقد روى هذا الحديث أيضا إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبي ، عن عمر رضي الله عنه . قال شيخنا البوصيري : وهو مرسل صحيح الإسناد ، انتهى .

    وثم روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره ، لا نطول كتابنا بسردها ، ومرجعها واحد. فإن قيل : بين رواية البخاري الأولى وما بعدها تناف . فالجواب : لا منافاة ; لأن قراءته صلى الله عليه وسلم لها في محاورة عبد الله بن سلام ، ردا لقول اليهود ، لا يستلزم نزولها حينئذ . فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف من الروايات . فإن طرقها يقوي بعضها بعضا ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام : إن جبريل عدو لليهود ، تلا عليه الآية ، مذكرا له سبب نزولها -كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح .

    وقد أشار إلى ذلك السيوطي في (الإتقان) حيث قال (تنبيه) قد يكون في إحدى القصتين ، (فتلا) فيهم الراوي ، فيقول (فينزل) . وقال العلامة ولي الله الدهلوي قدس سره في كتابه (أصول التفسير) وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا وكذا ، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية ، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها . سواء تقدمت القصة أو تأخرت . إسرائيليا كان ذلك أو جاهليا أو إسلاميا . استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها ، والله أعلم .

    فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا . وللقصص المتعددة هنالك سعة . فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية . انتهى .

    وقوله تعالى "لجبريل" قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز ، وبفتح الجيم بدونها أيضا ، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها . قال ابن جني: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه.

    [ ص: 202 ] وقوله "فإنه نزله" تعليل لجواب الشرط قائم مقامه ، والبارز الأول لجبريل عليه السلام، والثاني للقرآن، أضمر من غير سبق ذكر، إيذانا بفخامة شأنه، واستغنائه عن الذكر، لكمال شهرته ونباهته ، لا سيما عند ذكر شيء من صفاته . وقوله "على قلبك" زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، فإنه القابل الأول له ، إن أريد به الروح . ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو ، وهذا كقوله : نـزل به الروح الأمين على قلبك وكان حق الكلام أن يقال "على قلبي" لأنه المطابق لقل، ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقا لكونه كلام الله . وأنه أمر بإبلاغه . وقوله "بإذن الله" أي : بأمره . وقوله : "مصدقا لما بين يديه" أي من التوراة وبقية الصحف المنزلة . وقوله "وهدى وبشرى للمؤمنين" أي يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة ، كما قال تعالى : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء الآية ، وقال تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين وفيه رد على اليهود ، حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة كما تقدم ، فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا . فإن قيل : من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب ، فكيف استقام قوله "فإنه نزله" جزاء للشرط؟ أجيب بأن قوله "فإنه نزله" تعليل لجواب الشرط، كما أسلفنا . والمعنى : من عادى جبريل من أهل الكتاب ، فلا وجه لمعاداته ، بل يجب عليه محبته ، فإنه نزل عليك كتابا [ ص: 203 ] مصدقا لكتبهم . فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه ، في إنزاله ما ينفعهم ، ويصحح المنزل عليهم . وقيل : الجواب محذوف تقديره "فليمت غيظا" . وعليه فلا يكون "فإنه نزله" نائبا عنه . ووجهه أن يقدر الجواب مؤخرا عن قوله "فإنه نزله" ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة ، كأنه قيل : من عاداه ، لأنه نزل على قلبك فليمت غيظا .

    قال الرضي : كثيرا ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام ، قال الله تعالى قال فاخرج منها فإنك رجيم وقيل تقديره : فهو عدو لي وأنا عدوه ، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، وهي قوله تعالى : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين أي من كان عدوا لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر . وأفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه . وقد روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة حديثا قدسيا « من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب » .

    وصدر الكلام بذكره الجليل تفخيما لشأنهم ، وإيذانا بأن عداوتهم عداوته عز وعلا ، وقدم الملائكة على الرسل ، كما قدم الله على الجميع ; لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي ، ونزوله بتنزيل الملائكة ، وتنزيلهم لها بأمر الله ، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب ، [ ص: 204 ] وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما ، والدلالة على فضلهما ، وإنهما ، وإن كانا من الملائكة ، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلا للتغاير الوصفي ، منزلة التغاير الذاتي ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر ، واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ; إذ الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد ، ولأن المحاجة كانت فيهما . ووضع "الكافرين" موضع "لهم" ، ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر . وقد قرئ في السبع "ميكال" كميزان ، و "ميكائل" بهمزة مكسورة بعد الألف بدون ياء و "ميكائيل" بالهمزة والياء .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [99 ] ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون

    ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أي أنزلنا إليك علامات واضحات دالات على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه القرآن من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم ، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم ، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة ، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي . إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة ، تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت ، من غير تعلم تعلمه من بشر ، ولا أخذ شيء منه عن آدمي .

    وحمل الآيات على ما ذكرناه من آيات القرآن المجيد أولى من حملها على سائر المعجزات المأثورة ; لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل ، كانت أخص بالقرآن ، وقوله "وما يكفر بها إلا الفاسقون" أي : المتمردون من الكفرة ، واللام للعهد ، أي الفاسقون المعهودون ، وهم اليهود . أو للجنس ، وهم داخلون فيه دخولا أوليا .
    [ ص: 205 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [100 ] أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون

    أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام ، أي كفروا بالآيات بالبينات ، "وكلما عاهدوا" إلخ . أو أينكرون فسقهم وكلما إلخ ، وقيل : الواو زائدة ، وقيل هي "أو" التي لأحد الشيئين . حركت بالفتح . وقد قرئ شاذا بسكونها . فتكون بمعنى بل . دلت عليه القرينة . أعني قوله : بل أكثرهم لا يؤمنون ترقيا إلى الأغلظ فالأغلظ . قال ابن جني "أو" هذه هي التي بمعنى "أم" المنقطعة ، وكلتاهما بمعنى "بل" موجودة في الكلام كثيرا . أنشد الفراء لذي الرمة :


    بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح


    وكذا قال في قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون وعلى الوجه الأول ، فالمقصود من هذا الاستفهام الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه ، لأن مثل ذلك ، إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت .

    ودل بقوله "أوكلما عاهدوا" على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه . بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم . فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات ، بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم . على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالا بعد حال . لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته ، كصعوبة من لم تجر عادته بذلك .

    قال العلامة : واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم، ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا : الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة والنبذ الرمي بالذمام ، ورفضه . وإسناده إلى فريق منهم ، لأن منهم من لم ينبذه . وفي قوله "بل أكثرهم لا يؤمنون" دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون . قوله تعالى :



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 206 الى صـ 210
    الحلقة (40)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [101 ] ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون

    ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون تصريح بما طوى قبل . فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته ، كما قال تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية ، فتنكير "رسول" للتفخيم . والجار بعده متعلق بجاء ، أو بمحذوف وقع صفة لرسول ، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وقوله "كتاب الله" يعني التوراة ، لأنهم بكفرهم برسول الله ، المصدق لما معهم ، كافرون بها ، نابذون لها . وقيل "كتاب الله" القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول . وقوله "وراء ظهورهم" مثل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه ، وقلة التفات إليه ، وقوله "كأنهم لا يعلمون" جملة حالية ، أي نبذوه وراء ظهورهم ، مشبهين بمن لا يعلمه . فإن أريد بهم أحبارهم ، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم . ففيه إيذان بأن علمهم به رصين ، لكنهم يتجاهلون . أو كأنهم [ ص: 207 ] لا يعلمون أنه كتاب الله ، أو لا يعلمون أصلا ، كما إذا أريد بهم الكل .

    وفي هذين الوجهين ، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة . وهذا، وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن ، فالمراد بالعلم المنفي في "كأنهم لا يعلمون" هو العلم بأنه كتاب الله ، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك ، وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا ، وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [102 ] واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون

    واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم ، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم . وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر ، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر . وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه ، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق ، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة ، وإسناد التأثير إلى غير الخالق، سبحانه ، والصد عن سبيل الحق ، وابتغائهم إياها عوجا [ ص: 208 ] و "تتلو" بمعنى تقص وتحدث . من التلاوة ، وهي القراءة . أو بمعنى تكذب وتختلق ، وهو قول أبي مسلم ، قال : يقال تلا عليه ، إذا كذب ، وتلا عنه إذا صدق . وهكذا قال الراغب في تفسيره : تلا عليه كذب ، نحو روى عليه ، وقال عليه "ويقولون على الله الكذب". وقال : الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود ، وهي منطوية على أمرين : ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره ، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه ، وتخرصوه عليه اهـ. وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام ، وبنى لها المعابد ، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث . فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة ، ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفرى ، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهاميا ، بل بعضها كتب على طريقة المؤرخين ، يعني بلا إلهام ، كما في "إظهار الحق" . والمراد بالشياطين شياطين الإنس ، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء ، الدعاة إلى الباطل .

    وقوله "على ملك سليمان" أي على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه . وقوله تعالى "وما كفر سليمان" تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه ، وتكذيب لمن تقولها . وقال كثيرون : هذا تبرئة من السحر ، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبيا كان معصوما عنه . وإنما كان كفرا لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها ، وزعم أنها مؤثرة دونه تعالى .

    [ ص: 209 ] والمعنى الأول أصرح وأوضح .

    وقوله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر عنى بالشياطين من ذكرناهم قبل وهم خبثاء الإنس وأشرارهم . كما في قوله تعالى : وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم وقوله : شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض والذي يعين هذا المعنى قوله "تتلو" لأن تلاوة شياطين الجن ، لا يسمعها أحد ، ومعنى "تتلو" تقص كما تقدم . وقوله "يعلمون الناس السحر" يعين هذا المعنى أيضا ، إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس . والمراد بقوله "كفروا" كفرهم بآيات الله المنزلة ، أو عبادتهم غيره تعالى ، أو كفرهم باستعمال السحر والشعوذة ، تعمية على الحق ، وتغشية للبصائر . وجملة قوله "يعلمون الناس السحر" حالية من ضمير "كفروا" ، أو خبر ثان لـ "لكن" ، أو مستأنفة . هذا على تقدير كون الضمير للشياطين . وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل "اتبعوا" فهي إما حال منه أو استئنافية. وقوله تعالى : وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون

    اعلم أن للعلماء في هذه الآية وجوها كثيرة ، وأقوالا عديدة ، فمنهم من ذهب فيها مذهب الأخباريين نقلة الغث والسمين ، ومنهم من وقف مع [ ص: 210 ] ظاهرها البحت وتمحل لما اعترضه ، بما المعنى الصحيح في غنى عنه . ومنهم من ادعى فيها التقديم والتأخير ورد آخرها على أولها ، بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات ، التي يتنزه عنها بيان أبلغ كلام . إلى غير ذلك مما يراه المتتبع لما كتب فيها .

    والذي ذهب إليه المحققون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل -وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات- وكانا يعلمان الناس السحر، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء ، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله . وبلغ مكر هذين الرجلين ، ومحافظتهما على اعتقاد الناس بالحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما "إنما نحن فتنة فلا تكفر" ، أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك ، أتشكر أم تكفر ، وننصح لك أن لا تكفر . يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية ، وصناعتهما روحانية ، وأنهما لا يقصدان إلا الخير . كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان ، قائلين لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم : نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها ، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء .

    ولليهود في ذلك خرافات كثيرة . حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله . وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس . فجاء القرآن مكذبا لهم في دعواهم نزوله من السماء ، وفي ذم السحر، ومن يتعلمه أو يعلمه ، فقال : يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين الآية ، فـ "ما" هنا نافية ، على أصح الأقوال ، ولفظ "الملكين" هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت ، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم ، وكما يرد في كلام المسلم ، في الرد على المسيحيين ، ذكر تجسد الإله وصلبه ، وإن كان لا يعتقد ذلك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •