........أن الإيمان -كما هو معلوم- اعتقاد وقول وعمل، والاعتقاد هو الإيمان الباطن، والقول والعمل هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فإذا قيل في المنافق: إنه كفر بعد إيمانه، يعني: بعد إيمانه الظاهر الذي هو الإسلام؛ لأن الإسلام لا يصح إلا بإيمان يصححه، والإيمان لا يصح إلا بإسلام يصححه.
والإيمان منقسم إلى:
-إيمان باطن، وهو: الاعتقاد.
- وإلى إيمان ظاهر، وهو: القول والعمل.
فأولئك معهم قول وعمل، فقيل لهم هنا بعد:
{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} باعتبار الظاهر، وهذا الظاهر هو الإسلام؛ كما قال -جل وعلا- في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}
فالإيمان في هذه الآية هو الإسلام في الآية الأخرى،ويقوي هذا: ما تعلمه من قواعد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى: أن الإيمان إذا أفرد عن الإسلام، والإسلام إذا أفرد عن الإيمان فإنه يدل أحدهما على الآخر، فقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يعني: ما يناسب المخاطب بذلك وهو الإسلام؛ لأن الإيمان إذا أفرد دل على الإسلام، وهذا بحسب حال المخاطبين.
...........
قال رحمه الله ورفع درجته: (وأما غير هذا - يعني غير المكره - فقد كفر بعد إيمانه) يعني: مطلقاً، غير المكره إذا وافق الكفار على الكلام الكفري فقاله ووافق الكفار على العمل الكفري فعمله هذا كافر ولا يعذر في ذلك إلا إذا كان مكرهاً.
قال: (وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه) يعني: غير المكره كفر بقوله وعمله.(سواء فعله خوفا، أو مداراة، أو مَشَحَّةً بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض) يعني: أن ما ذكره الإمام -رحمه الله- فيما تقدم، فيما ذكرناه في الدرس الماضي، من أن أناساً عرفوا التوحيد ولكنهم يعملون بالشرك مداراةً، أو خوفاً على مالهم، أو خوفاً على أهلهم، أو خوفاً على نقصهم، خوفاً متوهماً، ولم يتركوا الشرك بالله جل وعلا، هذا لا يعذرون فيه إلا في حال الإكراه، أو إذا كان مستضعفاً فإن له أن يبقى بين ظهراني المشركين لكن لا يقول كلمة الكفر، ولا يعمل عملاً كفرياً، فيرخص له بعدم الهجرة؛ لأجل أنه من المستضعفين؛ كما قال -جل وعلا- بعد آية الهجرة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} قال بعدها: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}المقصود من هذا: أن كلام الشيخ ظاهر، وهذه مسالة عظيمة جداً، وهي أن التكلم بالكفر خشية نقص المال، خشية شيء هذا لا يعذر به صاحبه، بل لا بد أن يجدد دينه وإسلامه إذا كان فعله عن قصد ثم أناب.
فالواجب على كل موحد أن يتبرأ من الشرك وأهله، أن يبغض الشرك، وأن يعادي الشرك، وأن يبغض أهل الشرك، وأن يعادي أهل الشرك، وهذه حقيقة الإيمان، وهذا معنى كلمة التوحيد؛ كما قال جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
وفي آية سورة الممتحِنة قال -جل وعلا- مخبراً عن قول إبراهيم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لهذا قال أئمتنا: البراءة من الشرك وأهله، وهذه سنة إبراهيم{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} يعني: من المرسلين {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}فهذه الكلمة أجمع عليها الأنبياء والمرسلون.
{بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ} نتبرأ من العبادة، من عبادة غير الله، ومن الشرك، ومن أهل الشرك، ببغضهم وبمعاداتهم، يعني: المعاداة القلبية، أما الظاهر فله أحكام معروفة مختلفة.
قال الإمام -رحمه الله- بعد ذلك: (فالآية تدل على هذا -يعني هذا الذي ذكره- من جهتين: الأولى: قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله تعالى إلا المكره) وهذا ظاهر؛ لأن مقام الاستثناء مقام حصر، وإذلم يذكر في هذا المقام غير المكره دل على أنه لا يعذر إلا المكره.
وأيضاً: الاستثناء معيار العموم، فقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ}هذا عام واستثني منه، يعني: خرج من العموم المكره الذي حصل منه الكفر ظاهراً؛ لكن لا يُحكم بكفره؛ لأنه مكره.
قال: (الأولى: قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام - يعني: القول - أو الفعل، أما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد) وهذا حق، القلب لا يمكن أن يُكره أحدٌ أحدا على تغيير القلب حتى يختار هو؛ لأن القلب لا أحد يطلع عليه إلا الله جل وعلا.
فعقيدة القلب الموافَقَة فيها كفرٌ بالاتفاق، حتى ولو قال (أكرهت) فهو كاذب؛ لأن العقيدة الباطنة لا يمكن لأحد أن يصل إليها، يكذب في الظاهر، يقول إذا قيل له: أنت في الباطن في قلبك مقتنع بالشرك؟ تقول: - هذه مع اعتقاد الباطن فيكذب ظاهراً - يقول: نعم، هذا نوع من الإجابة في الإكراه، لكن لا يقول ذلك عن صدق بأن يغير قلبه؛ لأنه إن تغير قلبه فوافق، أو تردد أو شك فإنه كافر، كما ذكر الإمام في مسائل (كتاب التوحيد).(والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد) يعني: أن العذاب العظيم الذي جاءهم وهو قوله جل وعلا: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ما سبب الغضب الذي جاءهم وحل عليهم؟ ما سبب العذاب العظيم؟
لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر؛ لأن هذه الأشياء لم يعلل بها في الآية، إنما قال الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} وقوله: {ذَلِكَ}للمفسرين فيه وجهان، في الرجوع -رجوع اسم الإشارة- يعني: (ذلك)إشارة لأي شيء؟
- قالت طائفة:الإشارة هنا للكفر، كفروا بعد إيمانهم ولم يكونوا مكرهين، ما سبب ذلك؟ قال الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} والباء هنا للسببية، ذلك بسبب كونهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، يعني: أنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فوافقوا الكفار من دون إكراه، فقالوا قول الكفر، أو عملوا عمل الشرك والكفر من دون إكراه، فتكون {ذَلِكَ} الرجوع إلى قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ}الوجه الثاني: أنه راجع للعذاب العظيم، قال: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}ذلك العذاب بسبب أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وهذان قولان معروفان عند المفسرين.
والأوجَه منهما والأرجح هو الأول؛لأن (ذلك) ضمير إشارة، فهذا اسم إشارة فيه اللام التي هي للبعد، والعذاب العظيم قريب، والأصل أن الإشارة إلى القريب لفظية، أعني بذلك: أن من قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أن اسم الإشارة {ذَلِكَ} يقرون بأن اللام للبعد، ولكن يقولون: هو بعد معنوي؛ لأن مجيء اللام مع اسم الإشارة قد يكون للبعد اللفظي وقد يكون للبعد المعنوي، البعد اللفظي معلوم، مثل ما قال ابن مالك في (الألفية):
..... … ... ولدى البعد انطقا
بالكاف حرفاً دون لام أو معه ............
فإذاً: في البعد يشار باللام، (أولائي) هذا قريب، (هذا) قريب، (ذاك) قريب، (ذلك) بعيد.
وقد يكون المراد بمجيء اللام البعد المعنوي، وهذا كثير في القرآن؛ كما في قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ}
وقد يكون بعداً معنوياً للتعظيم؛ كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} يعني: جعله بعيداً لعلو مرتبته ومنزلته، وقد يكون بعداً معنويا في السفول مثل ما يوصف عذاب الكافرين في مواضع.
قالوا هنا -من قال بأن الضمير يرجع إلى العذاب العظيم- {ذَلِكَ} هذا رجوع معنوي.
المقصود: البحث في الترجيح ليس هذا محله؛ لكن إشارة في معنى قولي (لفظية) لأن الأصل أن تكون الإشارة للبعيد لفظاً لا معنى، هذا هو الأصل.
والإمام محمد بن عبد الوهاب -عليه رحمة- الله كان من أدق أهل زمنه في التفسير، وأعلم أهل زمنه بأقوال المفسرين، قال رحمه الله: (فصرح أن هذا الكفر والعذاب) فجمع القولين (هذا الكفر والعذاب) فكأنه قال: لا يمنع أن يقال: يرجع اسم الإشارة إلى العذاب أو يرجع إلى الكفر؛ لأن العذاب حاصل والكفر حاصل فإرجاع {ذَلِكَ} للجميع هذا متجه.
قال: (فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر) هذا ظاهرٌ بين.(وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) وهذا الذي ذكره حاصل وواقع، فإن الذين استحبوا الكفر على الإيمان وكفروا بعد إيمانهم سبب ذلك محبة الدنيا، محبة المال، محبة الجاه، لابد فيه حظ من حظوظ الدنيا، وإلا لو قام الإيمان بالآخرة قوياً في النفس، لما آثر المرء عليه شيئاً من الدنيا.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((تكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
وهذا حاصل في أن من كفر بل من فتن عن الدين إنما هو بسبب الدنيا، بشهواتها، إما شهوة المال، أو شهوة الجاه، أو شهوة المنصب، أو شهوة النساء، أو شهوة الأمر والنهي، أو إلى آخر ذلك من الشهوات الفانية.
فما ذكره هنا الإمام -رحمه الله- هذا ينبغي أن يتنبه له كل موحد، فيحذر أشد الحذر من الكفر ومن وسائله.
قال: (وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين) وهذا الاستدلال موافق للمراد ومقيم للبرهان على أولئك الذين يقولون: (نحن نعلم التوحيد، وإنما عملنا الشرك لأجل الحفاظ على أموالنا، أو على جاهنا، أو على دنيانا).[ شرح كشف الشبهات للشيخ صالح ال الشيخ]