تنتشر دُورُ المسنين في كثير من دولنا العربية والإسلامية باسمها الصريح أو بأسماء أخف وطأة مثل دور الرعاية الاجتماعية، وغير ذلك، وهي تقبل الآباء والأمهات من كبار السن الذين لا مأوى لهم، أو تقطعت بهم السبل والظروف الحياتية، أو ضاقت بهم الأرض بما رحبت رغم ما يملكون من أموال هم وأبناؤهم، أو وصل بهم الحال إلى أن أصبحوا همًّا ثقيلًا على أبنائهم ليدعوهم في هذه الدور ويستريحوا منهم.
ونتساءل في البداية:
هل من المعقول أو المقبول أن ينهى أحد الوالدين أو كلاهما حياته في بيت غير بيته الذي قضى فيه أكثر عمره؟ وبين أناس غير أهله الذين ألِفهم؟ هذا هو حال من يذهب إلى دار المسنين بحثًا عن رعاية أفضل من بيته، وأملًا في أن يجد من يتحدث معهم بدلًا من القطيعة التي يجدها في داره؛ لأن الأبناء ليس لديهم وقت كي يذهبوا إلى أبيهم أو أمهم للسؤال عنهما، ومعرفة أحوالهما.
إن دور المسنين نشأت فكرتها في بلاد الغرب؛ لأن مفهوم الأسرة الواحدة غير موجود عندهم، فبمجرد أن يكبر الأبناء يتفرقون، فلا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، وقد لا يلتقون مرة ثانية، لكن مفهوم الأسرة في ديننا الإسلامي نجده في الكلمة نفسها، فالأسرة من (الأسر)، كأن هناك رباطًا وثيقًا، وشيئًا ملزمًا لهذه الأسرة، يجعلها مرتبطة بعضها ببعض، نعم هناك رباط وقيد كقيد الأسير لهذه الأسرة، رباط العقيدة والملة، رباط الرحم التي أمر الله ورسوله بوصلها، رباط الأبوة والأمومة التي لا تنفك عن الآباء والأبناء، رباط الأخوة بين البنين والبنات، وكلها محاطة بالرحمة، والمودة، واللين، والبر، والصلة، والعطف، والإحسان، وغير ذلك، مما يجعل هذه الأسرة لايفرقها إلا الموت.
ورغم كل هذا نجد دور المسنين مكتظة، فلا تكاد تجد مكانًا شاغرًا، ونتساءل عن الأسباب، فنجد أكثرها قطيعة وعقوق، وعدم بر بالآباء والأمهات، ونجد القليل منها ألجأته الظروف الاجتماعية فعلًا إلى هذه الدور، ولو ذهبت إلى إحدى هذه الدور وسألت من فيها تجد إجابات مبكية، فهذا الأب لا يجد من يخدمه رغم كثرة أبنائه، إلا أنهم جميعًا آثروا أن يعيشوا في سرور وسعادة بعيدًا عن أبيهم، فاضطر إلى ذلك، وهذه أم توفي زوجها ولم يطيقها أحدٌ من أبنائها الرجال، واستحيت أن تعيش مع زوج ابنتها، ففضلت الذهاب إلى هذه الدار، وأم أخرى ضيقت عليها زوجة ابنها بعد كبر سنها، وأخذت تؤنبها على كل حركة وسكنة تفعلها، ففضلت أن تقضي بقية عمرها في هذه الدار.
ونتساءل ثانية: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
أيها الأبناء، تذكروا الآن وأنتم بصحتكم وفي ريعان شبابكم، هل إذا دارت بكم عجلة الزمن - وستدور - أتقبلون هذا الحال والمآل؟ أعتقد أن الجواب كلَّا، كلَّا، بكل تأكيد، فلم قبول ذلك على الوالدين؟
إن الله تعالى قال في قرآنه الكريم: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14، 15].وتأمل معي قوله تعالى: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾، فهل من المعروف إيداعهما دار المسنين؟ ليخدمهما من يخدمهما مرة برضى ومرة بتأفُّف؟
كذلك قال الله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]، وتأمَّل أيضا قوله تعالى: ﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ﴾، قال البيضاوي في تفسيره ومعنى (عندك) أن يكونا في كنفك وكفالتك، فلا تقل لهما أف فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما؛ انتهى.
ومعنى (عندك) كما قال العلماء أن الرعاية للوالدين بعد بلوغ أحدهما الكبر أو كلاهما أن تكون عندك، في بيتهما وتحت رعايتك، أو في بيتك وتحت رعايتك، وأن تتوزع أدوار الرعاية على الأبناء مهما كان عددهم وحسب ظروفهم.
إننا نعرف ما لبر الوالدين من فضل كبير، وثواب عظيم في الدنيا والآخرة، وليتذكر جميع الأبناء أن بر الوالدين أو عقوقهما سوف يرد بمثله، فانظر بأي شيء تحب أن تقابل، وأن تعامل خاصة عند كبرك، بالبر أو العقوق؟
وقد يقول البعض أن هناك ظروفًا قاسية تجعلنا في اضطرار إلى إيداع أحد الوالدين أو كليهما دار الرعاية أو دار العجزة أو دار المسنين، ونرد بالقول: نعم هناك ضرورة في بعض الأحوال لذلك، ولكن ليس معنى ذلك أن نلقي بهما في هذه الدار مع بعض الأموال مع أناس هم بالتأكيد ليسوا من أهلهم، لا نزورهم ولا نجلس معهم، ولا نعرف أحوالهم، هل هم في راحة نفسية؟ أم يتألمون ويكتئبون؟ إن من معاني كلمة ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ﴾ كما يقول العلماء أيضًا: إذا اضطرتك الظروف إلى إيداع أحد والديك أو كليهما دار العجزة، فلا تغفل عنهما طرفة عين بالزيارة والمتابعة والسؤال عن أحوالهما والجلوس معهما، ولتكن هناك مناوبة بين الأبناء يتبادلون زيارة الوالدين؛ حتى لا يشعروهما بالوحدة، ومعها قسوة الزمن.
فمتى نشعر أن دور المسنين قل روَّادها والمتعاملون معها، ولم يبق فيها إلا من قست ظروفه ولا يجد من يؤويه أو يهتم به؟
ولنحذر أن نكون مثل هذا العاق الذي خرج بأمه العجوز بأمر من زوجته المتسلطة، وأوهمها أنه يخرج بها إلى نزهة أو إلى فسحة، وأجلسها على كرسي في حديقة عامة، وكتب ورقة صغيرة، أعطاها لأمه التي لا تعرف القراءة، وأوصاها إذا سألها أحد: لماذا أنت جالسة هنا أن تعطيه هذه الورقة، وذهب الابن واعدًا أمه بأنه سوف يذهب ويأتي لها بطعام شهي تأكله، فتأخر الابن ولم يعُد، وإذ بالنهار أوشك أن ينتهي ويجيء الليل، والأم جالسة، فأشفق الناس عليها من طول جلوسها، فأعطتهم الورقة التي كتبها ابنها، وإذ فيها: "من وجد هذه المرأة فليدعها دار العجزة"، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/142337/#ixzz6a2HzCfMO