التعامل مع الواقع بين اعتزاله والغلو فيه
وهذا فيه تركٌ صريح للهدْي النبويِّ؛ فعن عثمان رضي الله عنه قال: "إنَّا والله قد صَحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضَر، يَعودُ مرضانا، ويتْبَع جنائزنا، ويَغزو معنا، ويُواسينا بالقليل والكثير"[4].
"بل ربما يَفتخر البعض من طلاب العلم بأنهم يَجهلون هذا الواقع، ويجهلون ما يجري في حياة الناس، وما جدَّ في هذه الحياة من أمور...، والواقع أن انعزال الإنسان عن واقعه ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، بل إن طالب العلم المحقِّق لعلمه يَحرص على أن يَنزِل بعلمه في واقع الحياة"[5].
والشاهد من ذلك أن العالِم والمُفتي والداعية، ومَن نحا نحوهم، واقتفى أثرَهم - لن يستقيم لهم هذا الدور العظيم حتى يَكون لهم نصيب من معرفة أحوال الناس وطباعهم وتأثُّرهم بتغيُّرات الواقع.
يقول ابن القيم رحمه الله: "[معرفة الناس] وأما قوله: "الخامسة: معرفة الناس"، فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المُفتي والحاكم؛ فإن لم يكن فقيهًا فيه، فقيهًا في الأمر والنهي، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح؛ فإنه إذا لم يكن فقيهًا في الأمر له معرفة بالناس، تصوَّرَ له الظالمُ بصورة المظلوم وعكسه، والمُحقُّ بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصوَّرَ له الزنديق في صورة الصدِّيق، والكاذبُ في صُورة الصادق، ولبس كل مُبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يُميِّز هذا من هذا، بل يَنبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس وخِداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعُرفياتهم؛ فإن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدَّم بيانه، وبالله التوفيق"[6].
وقال رحمه الله في مَوضِع آخر:
ولا يتمكَّن المُفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهْم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يُحيط به علمًا.
إنَّ تحكُّم العاطفة في النفس مع انفلات الحماس من ضوابط العقل، يُلحق الضررَ بالمرء ويُورده المهالك وإن كان على قدرٍ عظيم مِن العلم؛ فإنَّ العقل إن لم يَحكُم بالشرع أدَّى إلى انحراف وضلال، فمِن وسائل الثبات وأمْن الزلل عدمُ الحماس الزائد.
وهذا لا يَعني قتل العاطفة في النفس، فهي شيء فطريٌّ لا يُمكن الانفكاك عنه، ولكن ليس من الحكمة أن نغيِّب عقولنا ونَنساق باندفاع وطيش وراء عواطفنا، سواء في قرار أو ردة فعل؛ فإن نبْل المقصد وطِيب النية لا يُعفي من خطايا الوسيلة، وما تغييرُ المُنكَر رهن الاندفاع والعاطفة فحسب، بل يجب أن يحتكم إلى ضوابط الشرع والعقل.
"القطاع الكبير مِن المسلمين يَغيب عنه الوعي الديني الكامل، وتَغلب عليه العاطفة التي ينبغي أن تكون مُرتبطة بالكتاب والسنَّة، فأي عاطفة لا تَنضبط بالكتاب والسنة هي وبالٌ على الشخص وعلى الأمة؛ فمِن حق المسلم أن يغضَبَ عندما يُساءُ للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أي موضوع ينال ثوابت الإسلام، لكن بدون الاندفاع لهوى عاطفته.
وعلى أهل العلم والفضل أن يحدِّدوا طرق إحكام العقل، وضبط العاطفة، وسبل الرد على الاستفزازات ردًّا عمليًّا عن كيفية التزام المسلم بأخلاقيات دينه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى الإنسان المسلم أيضًا ألا يتصرَّف إلا بناءً على فهم ووعي لواقع الدين، ولا أتحرَّك بعاطفتي كـ"الدابة التي قتلتْ صاحبَها"، وأن يعلم المُسلم أن أيَّ فعل أو رد فعل بدون وعْي أو انضباط لا يردُّ حقًّا، ولا يمنع ظلمًا وعدوانًا؛ إنما يكون له آثار سلبية أكبر، وعلى الإنسان قبل أن يتصرَّف في أمر عام مُراجعةُ العلماء لضبط ميزان العاطفة والعقل.
يُعتبَر التعميم أخطر آفة وعيب مِن عيوب التفكير، وللأسف فالتعميم ناتج عن أسلوب التعليم الذي يَعتمد على التلقين والحفظ، بجانب أسلوب التربية الذي يَعتمد على عدم المناقشة والجدل"[7].
[1] رواه مسلم (1 / 10) في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، وأبو داود رقم: (4992) في الأدب، باب في التشديد في الكذب.
[2] رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2342).
[4] أخرجه أحمد (1 / 69، رقم: 504)، والبزار (2 / 59، رقم: 401)، مجمع الزوائد للهيثمي (7 / 228).
[6] إعلام الموقعين (4 / 157).
[7] جزء مِن مقال بمجلة الوعي الإسلامي.
______________________________ _____________
كتبه: شتا محمد