تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 5 من 11 الأولىالأولى 1234567891011 الأخيرةالأخيرة
النتائج 81 إلى 100 من 210

الموضوع: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

  1. #81
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (81)
    صـ457 إلى صـ 471



    المسألة الحادية عشرة

    وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر ; إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية ; فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه ، بل هو إما خيال أو وهم ، وإما من إلقاء الشيطان ، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه ، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع ، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام لا خاص ، كما تقدم في المسألة قبل هذا ، وأصله لا ينخرم ، ولا ينكسر له اطراد ، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف ، وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة ; فهو فاسد باطل .

    ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر ; فرأى الحاكم في منامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " لا تحكم بهذه الشهادة ; فإنها باطل " ; فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ، ولا بشارة ولا نذارة ; لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة ، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع .

    [ ص: 458 ] وما روي " أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رئيت " ; فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها ، فلعل الورثة رضوا بذلك ، فلا يلزم منها خرم أصل .

    وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس ، أو أن هذا الشاهد كاذب ، أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو ، أو ما أشبه ذلك ; فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر ; فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم ، ولا ترك قبول الشاهد ، ولا الشهادة بالمال لزيد على حال ; فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر ; فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ، ولو جاز ذلك ; لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه .

    وقد جاء في الصحيح : إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون [ ص: 459 ] ألحن بحجته من بعض ، فأحكم له على نحو ما أسمع منه الحديث ; فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك ، وقد كان كثير من الأحكام التي تجرى على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل ، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع ، لا على وفق ما علم ، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه .

    وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه ; وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب ; لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها ، لا من الخوارق التي تداخلها الأمور ، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه ; فذلك بالنسبة إلى العلم [ ص: 460 ] المستفاد من العادات ، لا من الخوارق ، ولذلك لم يعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الحجة العظمى ، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا ، قال : " ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد عليه " ، هذا ما قال ، وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها .

    فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :

    أحدهما : أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات ، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها ، اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود ، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال ، فرأى بالبادية شجرة تين ; فهم أن يأكل منها فنادته الشجرة : أن لا تأكل مني فإني ليهودي .

    وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة ، فليلة الدخول وقع عليه ندامة ، فلما أراد الدنو منها زجر عنها ; فامتنع وخرج ، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج .

    [ ص: 461 ] وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها ; هل هذا المتناول حلال أم لا ؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك ; فيمتنع منه .

    وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة ، وفيه : فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم ، وقال : ارفعوا أيديكم ; فإنها أخبرتني أنها مسمومة ومات بشر بن البراء الحديث ; فبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك القول ، وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار .

    وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا ، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ ، وذلك في قصة بقرة بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها ; فأحياه الله وأخبر بقاتله ; فرتب عليه الحكم بالقصاص ، وفي قصة الخضر في خرق [ ص: 462 ] السفينة وقتل الغلام وهو ظاهر في هذا المعنى ، إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكرامات الأولياء رضي الله عنهم .

    والثاني : أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا ، فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب ; فكذلك هاهنا ; إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة ، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ، ورؤيتها بعين الكشف الغيبي ; فلا بد أن يبنى الحكم على هذا كما يبنى على ذلك ، [ ص: 463 ] ومن فرق بينهما ; فقد أبعد .

    فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا ، وعملا بما هو مشروع على الجملة ، وذلك من وجهين :

    أحدهما : الاعتبار بما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فيلحق به في القياس ما كان في معناه ، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع ، وإنما يختص به من حيث كان معجزا ، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا ، على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه بعض العلماء ، بناء على ما ثبت عنده من العادات ، أما قتل [ ص: 464 ] [ ص: 465 ] [ ص: 466 ] الغلام ; فلا يمكن القول به ، وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين ، ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول : دمي عند فلان .

    والثاني : على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى ، إذ الجاري عليها العمل بالقياس ، ولكن إن قدرنا عدمه ; فنقول : إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي ، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو الإثم ، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر ، فيدخل فيها هذا النمط ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك ، فإذا لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند [ ص: 467 ] من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم ، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية ، وكلامنا إنما هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها ، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا البتة ، فهو حكم منسوخ ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال ; فعمدة الشريعة تدل على خلافه ، فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا ; فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم ، وإن علم بواطن أحوالهم ، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه .

    ولا يقال : إنما كان ذلك من قبيل ما قال : " خوفا أن يقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه " ; فالعلة أمر آخر لا ما زعمت ، فإذا عدم ما علل به ; فلا حرج .

    [ ص: 468 ] لأنا نقول : هذا من أدل الدليل على ما تقرر ، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر ; فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر ; فالعذر فيه ظاهر واضح ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر ، وران على الظواهر ، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ، ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أن " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " ، ولم يستثن من ذلك أحد ، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى البينة [ ص: 469 ] في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه ; فقال : من يشهد لي ؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت ; فجعلها الله شهادتين ; فما ظنك بآحاد الأمة ؟ فلو ادعى أكفر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وهذا من ذلك ، والنمط واحد ; فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية ، ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع ، بل عدوا أنه من الشيطان ، وإذا ثبت هذا ; فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة .

    وما ذكر من تكليم الشجرة ; فليس بمانع شرعي ، بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم ، كما لو وجد في الفلاة صيدا ; فقال له : إني مملوك ، وما أشبه ذلك ، لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله ، أو ظن طعام بموضع آخر ، أو غير ذلك ، وكذلك سائر ما في هذا الباب ، أو نقول : كان المتناول مباحا له ; فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير [ ص: 470 ] ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى ; فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب ، وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر ، بل يصير منتقلا من جائز إلى مثله ; فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر ، واعتمادا على الشرع في معاملته به ، فلا حرج عليه ، ولا لوم ; إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا ، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض ، كيف وهي نتائج عن اتباعه ; فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع ، أو يعود الفرع على أصله بالنقض ، هذا لا يكون البتة .

    وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين ; إذ قال عليه الصلاة والسلام : إن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ، وإن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ; فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية للمكروه ، ومع ذلك ; فلم يقم الحد عليها ، وقد جاء في الحديث نفسه : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فدل على أن الأيمان هي المانعة وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها . والجواب على السؤال الثاني أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها ; [ ص: 471 ] فليس ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق ، إذا لم يثبت ذلك شرعا معمولا به .

    وأيضا ; فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة ، فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق ، كالرؤيا غير الموافقة ، كمن يقال له : " لا تفعل كذا " ، وهو مأمور شرعا بفعله ، أو " افعل كذا " ، وهو منهي عنه ، وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب ، أو من سلك وحده بدون شيخ ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة ، غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء .

    فإن قيل : هذا يقتضي أن لا يعمل عليها ، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها .

    قيل : إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية ، فأما العمل عليها مع الموافقة ; فليس بمنفي .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #82
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (82)
    صـ472 إلى صـ 481


    فصل

    إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط ; فأين يسوغ العمل على وفقها ؟

    فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم ، وذلك على أوجه :

    أحدها : أن يكون في أمر مباح ، كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني ، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة ، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل ، وما أشبه ذلك ; فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه ، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر ; فهذا من الجائز له ، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك ، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم .

    والثاني : أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها ، فإن العاقل لا يدخل [ ص: 472 ] على نفسه ما لعله يخاف عاقبته ; فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره ، والكرامة كما أنها خصوصية ، كذلك هي فتنة واختبار ، لينظر كيف تعملون ، وقد تقدم ذكره ، فإذا عرضت حاجة ، أو كان لذلك سبب يقتضيه ; فلا بأس ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه ، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات ، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه " يراهم من وراء ظهره " لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث ، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك ، وهكذا سائر [ ص: 473 ] كراماته ومعجزاته ; فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول ، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز ; لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه ، والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم ، ولا يخلو إخباره من فوائد ، ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به ، وهي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا .

    والثالث : أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته ; فهذا أيضا جائز ، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا ، أو لا يكون إن فعل كذا ; فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة ، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا ، كما روي عن أبي جعفر بن تركان ; قال : كنت أجالس الفقراء ; ففتح علي بدينار ، فأردت أن أدفعه إليهم ، ثم قلت في نفسي : لعلي أحتاج إليه ، فهاج بي وجع [ ص: 474 ] الضرس فقلعت سنا ، فوجعت الأخرى حتى قلعتها ; فهتف بي هاتف : إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة .

    وعن الروذباري قال : في استقصاء في أمر الطهارة ; فضاق صدري ليلة لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي ، فقلت : يا رب ! عفوك ، فسمعت هاتفا يقول : العفو في العلم ، فزال عني ذلك .

    وعلى الجملة ; فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في العمل بمقتضى الخوارق ، وهو المطلوب ، وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته ، وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر ، وهي :[ ص: 475 ] المسألة الثانية عشرة

    إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين ، وجارية على مختلفات أحوالهم ; فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف ; فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن ، كما نرد إليها كل ما في الظاهر ، والدليل على ذلك أشياء :

    منها : ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة .

    والثاني : أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها ، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم ، أو تقييد إطلاق ، أو تأويل ظاهر ، أو ما أشبه ذلك ; لكان غيرها حاكما عليها ، وصارت هي محكوما عليها بغيرها ، وذلك باطل باتفاق ; فكذلك ما يلزم عنه .

    والثالث : أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها ، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك ، بل أعمالا من أعمال الشيطان ; كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع ، وقد وجد رقة ، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم ، ثم بدا له وجه كالقمر ، وقال له : " تملأ من وجهي يا أبا ميسرة ; فأنا ربك الأعلى " ; فبصق فيه وقال له : " اذهب يا لعين عليك لعنة الله " .

    وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا ; فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ، ثم نودي من سحابة : " يا [ ص: 476 ] فلان ! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات " . فقال له : اذهب يا لعين . فاضمحلت السحابة ، وقيل له : بم عرفت أنه إبليس ؟ قال : بقوله : قد أحللت لك المحرمات " .

    هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية .

    وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها ; فإنها قالت له : أي ابن عم ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم . قالت : فإذا جاءك فأخبرني به . فلما جاء أخبرها ; فقالت : قم يا بن عم ; فاجلس على فخذي اليسرى . فجلس ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : نعم . ثم حولته إلى فخذها اليمنى ، ثم إلى حجرها ، وفي كل ذلك تقول : هل تراه ؟ فيقول : نعم . قال الراوي : فتحسرت ، وألقت خمارها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : لا . وفي رواية : أنها أدخلته بينها وبين درعها ; فذهب عند ذلك . فقالت : يا ابن عم ! اثبت وأبشر ; فوالله إنه لملك ، ما هذا بشيطان .

    [ ص: 477 ] ولا يقال : إن ثم مدارك أخر يختص بها الولي ، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي ; لأنا نقول : إن كان كما قلت على فرض تسليمه ; فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق ; إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله ، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة ، فلا بد إذا من حكم يحكم بصحتها ، وشاهد يشهد لها ; وإذ ذاك يلزم التسلسل ، وهو محال ، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان ، فإن الوجدان من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحته ولا فساده ; لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا ، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها ، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق ، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله ، ومذموما إذا كان لغير الله ، ولا يفرق بينها إلا النظر الشرعي ; إذ لا يصح أن يقال : هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي ; لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل ، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا ، فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا ، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم ; لأن البحث جار فيه أيضا .

    وإنما الذي يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها ; إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده ، [ ص: 478 ] فإذا وردت على صاحبها ; فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له ; كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة ، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب ، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا ، ولا يتعلق بها حكم شرعي ; كذلك في مسألتنا ، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه ، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير كما إذا أتلف المجنون مالا أو قتل نفسا أو شرب خمرا في حال جنونه ، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون ، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات ; فلا يفون ، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم إلى ما أشبه ذلك ; فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم ، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا ، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة ؟

    والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة ، وما اعترض به لا اعتراض به ; فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها ; فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات . وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب [ ص: 479 ] [ ص: 480 ] المكلف بها أمرا أو نهيا ، ومسبباتها خلق لله ; فالخوارق من جملتها .

    وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات ; فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب ; لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج ، والاعتدال والانحراف ; فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية ، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة ; فكما أنه يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها ; كذلك ما نحن فيه ، وقد قال تعالى : إنما تجزون ما كنتم تعملون [ الطور : 16 ] .

    وقال : هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون [ يونس : 52 ] .

    إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها .

    [ ص: 481 ] وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي ، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات ; فالموضوع مقطوع به في الجملة .

    وإذا ثبت هذا ; فما ظهر في الخارقة من استقامة أو اعوجاج ; فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة ، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك ; فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها ، فلا تسلم لصاحبها ، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف ; فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي ، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله ; لكان منسوبا إليه ولتوجه التكليف إليه ; كالشكر ونحوه ; فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها ، لا يخرج عن حكمه شيء منها ، والله أعلم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #83
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (83)
    صـ482 إلى صـ 487

    فصل

    ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة ; فإن ساغت هناك فهي صحيحة مقبولة في موضعها ، وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام ; فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعا ، فلا يمكن فيها غير ذلك ، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه ، وقال له ابنه : يا أبت افعل ما تؤمر [ الصافات : 102 ] ، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم .

    [ ص: 482 ] وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة من مجاري العادات ، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا ; ساغت في نفسها ، وإلا فلا ; كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه وإن لم يكن مقصودا له ، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها ، أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية بحيث يقع بصره على بشرتها أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس ، أو يسمع نداء يحس فيه بالصوت والحرف ، وهو يقول : " أنا ربك " ، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له : " أنا ربك " ، أو يرى ويسمع من يقول له : قد أحللت لك المحرمات ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال ، ويقاس على هذا ما سواه ، وبالله التوفيق .
    [ ص: 483 ] المسألة الثالثة عشرة

    لما كان التكليف مبنيا على استقراء عوائد المكلفين ; وجب أن ينظر في أحكام العوائد لما ينبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف .

    فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون ، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات ، والدليل على ذلك أمور :

    أحدها : أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك ، ولتعتبر بشريعتنا ; فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد ، وعلى مقدار واحد ، وعلى ترتيب واحد ، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر ، وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهي أفعال المكلفين كذلك ، وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتيبه ، ولو اختلفت العوائد في الموجودات ; لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب ; فلا تكون الشريعة على ما هي عليه ، وذلك باطل .

    والثاني : أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة ; كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما [ ص: 484 ] فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال ، وأن سنة الله لا تبديل لها ، وأن لا تبديل لخلق الله ، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا ، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال ; فإن الخلاف بينهما محال .

    والثالث : أنه لولا أن اطراد العادات معلوم ; لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه ; لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة ، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة ، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي ، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله ; فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق ، فلو كانت العادة غير معلومة ، لما حصل العلم بصدقه اضطرارا ; لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي ، لكن العلم حاصل ; فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا ، وهو المطلوب .

    [ ص: 485 ] فإن قيل : هذا معارض بما يدل على أن اطراد العوائد غير معلوم ، بل إن كان فمظنون ، والدليل على ذلك أمران :

    أحدهما : أن استمرار أمر في العالم مساو لابتداء وجوده ; لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر ، والإمداد ممكن أن لا يوجد ، كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن الأول كان ممكنا فلما حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم ; فكذلك وجوده في الزمان الثاني ممكن ، وعدمه كذلك ، فإذا كان كذلك ; فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده ، هل هذا إلا عين المحال ؟

    والثاني : إن خوارق العادات في الوجود غير قليل ، بل ذلك كثير ولا سيما ما جرى على أيدي الأنبياء عليهم السلام من ذلك ، وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفي الأمم قبلها من العادات ، والوقوع زائد على مجرد الإمكان ، فهو أقوى في الدلالة ، فإذا لا يصح أن يكون مجاري العادات معلومة البتة .

    فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا ، وإنما اندفع بالسمع القطعي ، وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة ; لم يفد حكم الجواز العقلي .

    ولا يقال : إن هذا تعارض في القطعيات وهو محال .

    لأنا نقول : إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد ، وليس كذلك هنا ، بل الجواز العقلي هنا باق على حكمه في أصل الإمكان ، والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع ، وكم من جائز غير واقع ؟ !

    وكذلك نقول : العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم [ ص: 486 ] ويمكن أن يوجد ; فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة ، وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد ; فواجب وجوده ، ومحال استمرار عدمه ، وإن كان في نفسه ممكن البقاء على أصل العدم ; ولذلك قالوا : من الجائز تنعيم من مات على الكفر ، وتعذيب من مات على الإسلام ، ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون ، وأن المسلمين هم المنعمون ; فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب على مرمى واحد ، كذلك هاهنا ; فالجواز من حيث نفس الجائز ، والوجوب أو الامتناع من حيث أمر خارج ; فلا يتعارضان .

    وعن الثاني أنا قدمنا أن العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته ، وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التي لا تخرم كلية ، ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا في العمل على مقتضى العادات البتة ، ولولا استقرار العلم بالعادات ; لما ظهرت الخوارق كما تقدم ، وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات ، وأصله للفخر الرازي رحمه الله تعالى ، فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط ذلك ; دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اقترنت بالتحدي ، أو ولاية الولي إن لم تقترن ، أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك ، ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية ، كما إذا رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم في الماضي والحال ; غلب على ظنوننا أيضا استمرارها في الاستقبال ، [ ص: 487 ] وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها ، ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العاديات الكلية ، وهكذا حكم سائر مسائل الأصول ، ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي ، والعمل بخبر الواحد قطعي ، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي ، إلى أشباه ذلك ، فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل [ به ] ظنيا ، أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا ، وكذلك سائر المسائل ، ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية ، وهذا كله ظاهر .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #84
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (84)
    صـ488 إلى صـ 495

    المسألة الرابعة عشرة

    العوائد المستمرة ضربان :

    أحدهما : العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا ، أو نهى عنها كراهة أو تحريما ، أو أذن فيها فعلا وتركا .

    والضرب الثاني : هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي .

    فأما الأول ; فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية ، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة ، وفي الأمر بإزالة النجاسات ، وطهارة التأهب للمناجاة ، وستر العورات ، والنهي عن الطواف بالبيت على العري ، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس ، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة ; فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع ; فلا تبديل لها وإن اختلف آراء المكلفين فيها ; فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا ، حتى يقال مثلا : إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه ، أو إن كان كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح ; فلنجزه ، أو غير ذلك ، إذ لو صح مثل هذا لكان [ ص: 489 ] نسخا للأحكام المستقرة المستمرة ، والنسخ بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - باطل ، فرفع العوائد الشرعية باطل .

    وأما الثاني ; فقد تكون تلك العوائد ثابتة ، وقد تتبدل ، ومع ذلك ; فهي أسباب لأحكام تترتب عليها .

    فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب ، والوقاع والنظر ، والكلام والبطش والمشي ، وأشباه ذلك ، وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع ، فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما .

    والمتبدلة :

    منها : ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح ، وبالعكس ، مثل كشف الرأس ; فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع ، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية ، وغير قبيح في البلاد المغربية ; فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك ; فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة ، وعند أهل المغرب غير قادح .

    ومنها : ما يختلف في التعبير عن المقاصد ; فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبارة أخرى ، إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم ، أو [ ص: 490 ] بالنسبة إلى الأمة الواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور ، أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني ، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما ، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر ، أو كان مشتركا فاختص ، وما أشبه ذلك ، والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده ، وهذا المعنى يجري كثيرا في الأيمان والعقود والطلاق ، كناية وتصريحا .

    ومنها : ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها ; كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول ، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة ، أو بالعكس ، أو إلى أجل كذا دون غيره ; فالحكم أيضا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه .

    [ ص: 491 ] ومنها : ما يختلف بحسب أمور خارجة عن المكلف ، كالبلوغ ; فإنه يعتبر فيه عوائد الناس من الاحتلام أو الحيض ، أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض ، وكذلك الحيض يعتبر فيه إما عوائد الناس بإطلاق أو عوائد لذات المرأة أو قراباتها ، أو نحو ذلك ; فيحكم لهم شرعا بمقتضى العادة في ذلك الانتقال .

    ومنها : ما يكون في أمور خارقة للعادة ; كبعض الناس تصير له خوارق العادات عادة ، فإن الحكم عليه يتنزل على مقتضى عادته الجارية له المطردة الدائمة ، بشرط أن تصير العادة الأولى الزائلة لا ترجع إلا بخارقة أخرى ; كالبائل أو المتغوط من جرح حدث له حتى صار المخرج المعتاد في الناس بالنسبة إليه في حكم العدم ; فإنه إن لم يصر كذلك ; فالحكم للعادة العامة ، وقد يكون الاختلاف من أوجه غير هذه ، ومع ذلك ; فالمعتبر فيها من جهة الشرع أنفس تلك العادات ، وعليها تتنزل أحكامه لأن الشرع إنما جاء بأمور معتادة ، جارية على أمور معتادة كما تقدم بيانه .
    فصل

    واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ; فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب ; لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي ، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك ، لم يحتج في الشرع إلى مزيد ، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها ; كما في البلوغ مثلا ، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف ; فسقوط [ ص: 492 ] التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب ، وإنما وقع الاختلاف في العوائد ، أو في الشواهد ، وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة ، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضا ، بناء على نسخ تلك العادة ليس باختلاف في حكم ، بل الحكم أن الذي ترجح جانبه بمعهود أو أصل ; فالقول قوله بإطلاق لأنه مدعى عليه ، وهكذا سائر الأمثلة ; فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق ، والله أعلم .
    [ ص: 493 ] المسألة الخامسة عشرة

    العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعا ، كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية ; أي : سواء كانت مقررة بالدليل شرعا أمرا أو نهيا أو إذنا أم لا .

    أما المقررة بالدليل ; فأمرها ظاهر ، وأما غيرها ; فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك ، فالعادة جرت بأن الزجر سبب الانكفاف عن المخالفة ; كقوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] .

    فلو لم تعتبر العادة شرعا ; لم ينحتم القصاص ولم يشرع ; إذ كان يكون شرعا لغير فائدة ، وذلك مردود بقوله : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] .

    وكذلك البذر سبب لنبات الزرع ، والنكاح سبب للنسل ، والتجارة سبب لنماء المال عادة ; كقوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم [ البقرة : 187 ] .

    وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .

    ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .

    وما أشبه ذلك مما يدل على وقوع المسببات عن أسبابها دائما ، فلو لم [ ص: 494 ] تكن المسببات مقصودة للشارع في مشروعية الأسباب ; لكان خلافا للدليل القاطع ، فكان ما أدى إليه باطلا .

    ووجه ثان ، وهو ما تقدم في مسألة العلم بالعاديات ; فإنه جار هاهنا .

    ووجه ثالث وهو أنه لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح ; لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد ; لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد ; دل [ ص: 495 ] على جريان المصالح على ذلك ; لأن أصل التشريع سبب المصالح ، والتشريع دائم كما تقدم ; فالمصالح كذلك ، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع .

    ووجه رابع ، وهو أن العوائد لو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق ، وهو غير جائز أو غير واقع ، وذلك أن الخطاب ; إما أن يعتبر فيه العلم والقدرة على المكلف به وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجه التكليف ، أو لا ; فإن اعتبر فهو ما أردنا ، وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف متوجه على العالم والقادر ، وعلى غير العالم والقادر ، وعلى من له مانع ومن لا مانع له ، وذلك عين تكليف ما لا يطاق ، والأدلة على هذا المعنى واضحة كثيرة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #85
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (85)
    صـ496 إلى صـ 501

    فصل

    وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا ; فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة ، وإنما ينظر في انخراقها .

    ومعنى انخراقها أنها تزول بالنسبة إلى جزئي ; فيخلفها في الموضع حالة ; إما من حالات الأعذار المعتادة في الناس ، أو من غير ذلك ، فإن كانت منخرقة بعذر ; فالموضع للرخصة ، وإن كانت من غير ذلك ; فإما إلى عادة أخرى دائمة بحسب الوضع العادي ، كما في البائل من جرح صار معتادا ; فهذا راجع إلى حكم العادة الأولى لا إلى حكم الرخص كما تقدم ، وإما إلى غير عادة ، أو [ ص: 496 ] إلى عادة لا تخرم العادة الأولى ، فإن انخرقت إلى عادة أخرى لا تخرم العادة الأولى ، فظاهر أيضا اعتبارها لكن على وجه راجع إلى باب الترخص ، كالمرض المعتاد ، والسفر المعتاد بالنسبة إلى جمع الصلاتين والفطر والقصر ونحو ذلك ، وإن انخرقت إلى غير معتاد ; فهل يكون لها حكمها في نفسها ، أو تجري عليها أحكام العوائد التي تناسبها ؟

    ولا بد من تمثيلها أولا ، ثم النظر في مجاري تلك الأحكام في الخوارق .

    فمن ذلك توقف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عن إكراه من منع الزكاة ، وقوله لمن كتب له بذلك : " دعوه " .

    وقصة ربعي بن حراش حين طلب الحجاج ابنه ليقتله ; فسأله الحجاج عن ابنه فأخبره ، والأب عارف بما يراد من ابنه .

    [ ص: 497 ] وقصة أبي حمزة الخراساني حين وقع في البئر ثم سد رأسها عليه ولم يستغث .

    وحديث أبي يزيد مع خديمه لما حضرهما شقيق البلخي وأبو تراب النخشبي ; فقالا للخديم : كل معنا . فقال : أنا صائم . فقال أبو تراب : كل ولك أجر صوم شهر ، فأبى . فقال شقيق : كل ولك أجر صوم سنة ، فأبى . فقال أبو يزيد : دعوا من سقط من عين الله . فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة ، [ ص: 498 ] وقطعت يده .

    ومنه دخول البرية بلا زاد ، ودخول الأرض المسبعة ، وكلاهما من الإلقاء باليد إلى التهلكة .

    فالذي يقال في هذا الموضع بعد العلم بأن ما خالف الشريعة غير صحيح أن هذه الأمور لا ينبغي حملها على المخالفة أصلا مع ثبوت دين أصحابها ، وورعهم وفضلهم وصلاحهم بناء على الأخذ بتحسين الظن في أمثالهم ، كما أنا مؤاخذون بذلك في سلفنا الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم ممن سلك في التقوى والفضل سبيلهم ، وإنما ينظر فيها بناء على أنها جارية على ما يسوغ شرعا .

    وعند ذلك ; فلا يخلو ما بنوا عليه أن يكون غريبا من جنس العادي ، أو لا يكون من جنسه .

    فإن كان الأول ; لحق بجنس أحكام العادات .

    [ ص: 499 ] مثاله الأمر بالإفطار ; فإنه يمكن أن يكون مبنيا على رأي من يرى المتطوع أمير نفسه ، وهم الأكثر ; فتصير إباية التلميذ عن الإجابة عنادا واتباعا للهوى ، ومثل هذا مخوف العاقبة ، لا سيما بالنسبة إلى موافقة من شهر فضله وولايته ، وكذلك أمر عمر بترك مانع الزكاة ، لعله كان نوعا من الاجتهاد ; إذ عامله معاملة المغفلين المطرحين في قواعد الدين ; ليزدجر بنفسه وينتهي عما هم به ، وكذلك وقع ; فإنه راجع نفسه وأدى الزكاة الواجبة عليه لا أنه أراد تركه جملة ، بل ليزجره بذلك أو يختبر حاله ، حتى إذا أصر على الامتناع أقام عليه ما يقام على الممتنعين .

    ومثل ذلك قصة ربعي بن حراش فإنه حكي عنه أنه لم يكذب قط ; فلذلك سأله الحجاج عن ابنه ، والصدق من عزائم العلم ، وإنما جواز الكذب رخصة يجوز أن لا يعمل بمقتضاها ، بل هو أعظم أجرا ; كما في النطق بكلمة الكفر وهي رأس الكذب ، وقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] بعدما أخبر به من قصة الثلاثة الذين خلفوا ; فمدحهم الله بالتزام الصدق في موطن هو مظنة للرخصة ، ولكن أحمدوا أمرهم في طريق الصدق بناء على أن الأمن في طريق المخافة مرجو ؟ وقد قيل : " عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك ; فإنه ينفعك ، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك ; فإنه يضرك " ، وهو أصل صحيح شرعي .

    ومثله قصة أبي حمزة من باب الأخذ بعزائم العلم ; فإنه عقد على نفسه أن لا يعتمد على غير الله ; فلم يترخص ، وهو أصل صحيح ، ودل على [ ص: 500 ] خصوص مسألته قوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ، ووكالة الله أعظم من وكالة غيره ، وقد قال هود عليه الصلاة والسلام : فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم [ هود : 55 ] الآية ، ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء ; لقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] .

    وأيضا ; فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يسألوا أحدا شيئا ; فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه ; فقال أبو حمزة : رب ! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذا رأوه ، وأنا أعاهدك أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا . قال : فخرج حاجا من الشام يريد مكة . . . إلى آخر الحكاية .

    وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم ; إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه ; فليس بجار على غير الأصل الشرعي ، ولذلك لما حكى ابن العربي الحكاية قال : " فهذا رجل عاهد الله ، فوجد الوفاء على التمام والكمال ; فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا " .

    وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد ; فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء ; فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها ; فمن كان هذا حاله ; فالأسباب عنده [ ص: 501 ] كعدمها ، فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق ، [ ولا رجاء في مرجو مخلوق ] ; إذ لا مخوف ولا مرجو إلا الله ; فليس هذا إلقاء باليد إلى التهلكة ، وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك ، وإن قارب السبع هلك ، وأما إذا لم يحصل ذلك ; فلا ، على أنه قد شرط الغزالي في دخول البرية بلا زاد اعتياد الصبر والاقتيات بالنبات ، وكل هذا راجع إلى حكم عادي .

    ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذي ثبتت ولايتهم ، بحيث يرجع إلى الأحكام العادية ، بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #86
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (86)
    صـ502 إلى صـ 510

    فصل

    وأما إن كان ما بنوا عليه من غير جنس العادي ; كالمكاشفة ; فهل يكون حكمهم فيه حكم أهل العادات الجارية ، بحيث يطلبون بالرجوع إلى ما عليه الناس ؟ أم يعاملون معاملة أخرى خارجة عن أحكام أهل العوائد الظاهرة في الناس ، وإن كانت مخالفة في الظاهر ; لأنها في تحقيق الكشف الغيبي موافقة لا مخالفة .

    والذي يطرد بحسب ما ثبت في المسألة الثانية عشرة وما قبلها أن لا يكون حكمهم مختصا ، بل يردون إلى أحكام أهل العوائد الظاهرة ويطلبهم المربي بذلك حتما ، وقد مر ما يستدل به على ذلك ، ومن الدليل عليه أيضا أوجه :

    أحدها : أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها [ ص: 502 ] قاعدة ، ولم يرتبط لحكمها مكلف إذ كانت ; لكون الأفعال كلها داخلة تحت إمكان الموافقة والمخالفة ; فلا وجه إلا ويمكن فيه الصحة والفساد ; فلا حكم لأحد على فعل من الأفعال بواحد منهما على البت ، وعند ذلك لا يحكم بترتب ثواب ولا عقاب ، ولا إكرام ولا إهانة ، ولا حقن دم ولا إهداره ، ولا إنفاذ حكم من حاكم ، وما كان هكذا ، فلا يصح أن يشرع مع فرض اعتبار المصالح ، وهو الذي انبنت الشريعة عليه .

    والثاني : أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه ; لأنها مخصوصة بقوم مخصوصين ، وإذا اختصت لم تجر مع غيرهم ; فلا تكون قواعد الظواهر شاملة لهم ، ولا أيضا تجري فيما بينهم وبين غيرهم ممن ليس منهم ; إذ لا يصح أن يحكم بمقتضى الخوارق على من ليس من أهلها باتفاق من الفريقين ، أعني في نصب أحكام العامة ; إذ ليس للحاكم أو السلطان أن يحكم للولي بمقتضى كشفه ، أو [ كشف ] السلطان نفسه على من ليس بولي من غير معاملة بالأسباب الظاهرة ، ولا أيضا للوليين إذا ترافقا إلى الحاكم في قضية .

    وإذا فرض أنها غير شاملة لهم كان على غير ما تقدم البرهان عليه من أن الشريعة عامة وأحكامها عامة على جميع الخلق وفي جميع الأحوال ، كيف وهم يقولون : إن الولي قد يعصي والمعاصي جائزة عليه ; فلا فعل يخالف ظاهره ظاهر الشرع إلا والسابق إلى بادئ الرأي منه أنه عصيان ; فلا يصح مع هذا أن يثبت أن هذا الفعل الخارق الذي لا يجري على ظاهر الشرع مشروع ; لتطرق [ ص: 503 ] الاحتمالات .

    وهذا هو الوجه الثالث .

    والرابع : أن أولى الخلق بهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يقع منه عليه الصلاة والسلام شيء من ذلك ; إلا ما نصت شريعته عليه مما خص به ولم يعد إلى غيره وما سوى ذلك ، فقد أنكر على من قال له : " يحل الله لنبيه ما شاء " ، ومن قال : " إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " . فغضب وقال : " إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " .

    وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشفى به وبدعائه ، ولم يثبت أنه مس [ ص: 504 ] بشرة أنثى ممن ليست بزوجة له أو ملك يمين ، وكانت النساء يبايعنه ولم تمس يده يد أنثى قط ، ولكن كان يعمل في الأمور على مقتضى الظواهر وإن كان عالما بها ، وقد مر من هذا أشياء ، وهو الذي قعد القواعد ولم يستثن وليا من غيره ، وقد كان حقيقا بذلك لو نزل الحكم على استثناء الولي وأصحاب الخوارق ، وكذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وهم الأولياء حقا ، والفضلاء صدقا .

    وفي قصة الربيع بيان لهذا ; حيث قال وليها أو من كان : والله لا تكسر ثنيتها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : كتاب الله القصاص .

    [ ص: 505 ] ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بأن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ، فكان يرجئ الأمر حتى يبرز أثر القسم ، بل ألجأ إلى القصاص الذي فيه أشد محنة حتى عفا أهله ; فحينئذ قال عليه الصلاة والسلام : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ، فبين أن ذلك القسم قد أبره الله ، ولكن لم يحكم به حتى ظهر له كرسي وهو العفو ، والعفو منتهض في ظواهر الحكم سببا لإسقاط القصاص .

    والخامس : أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة للضوابط الشرعية ; فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر ، فإن ذلك إعمال لمخالفة المشروعات ، ونقض لمصالحها الموضوعات ، ألا ترى أن رسول الله قد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم ، وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام ، ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هو أرجح في الاعتبار ; فقال : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، فمثله يلغى في جريان أحكام الخوارق على أصحابها ; حتى لا يعتقد من لا خبرة له أن للصوفية شريعة أخرى ، ولهذا وقع إنكار الفقهاء لفعل أبي يعزى - رضي الله عنه - فالقول بجواز انفراد أصحاب الخوارق بأحكام خارجة عن أحكام العادات الجمهورية قول يقدح في القلوب [ ص: 506 ] أمورا يطلب بالتحرز منها شرعا ; فلا ينبغي أن يخصوا بزائد على مشروع الجمهور ، ولذلك أيضا اعتقد كثير من الغالين فيهم مذهب الإباحة ، وعضدوا بما سمعوا منها رأيهم ، وهذا [ كله ] تعريض لهم إلى سوء المقالة .

    وحاش لله أن يكون أولياء الله إلا برآء من هذه الخوارق المنخرقة ، غير أن الكلام جرى إلى الخوض في هذا المعنى ; فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهرا وباطنا ، وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي ، المحافظون على اتباعها ، لكن انحراف الفهم عنهم في هذه الأزمنة وفيما قبلها طرق في أحوالهم ما طرق ، ولأجله وقع البحث في هذه المسائل ; حتى يتقرر بحول الله ما يفهم به عنهم مقاصدهم ، وما توزن به أحوالهم ، حسبما تعطيه حقيقة طريقتهم المثلى ، نفعهم الله ونفع بهم .

    ثم نرجع إلى تمام المسألة ; فنقول :

    وليس الاطلاع على المغيبات ولا الكشف الصحيح بالذي يمنع من الجريان على مقتضى الأحكام العادية ، والقدوة في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ما جرى عليه السلف الصالح ، وكذلك القول في انخراق العادات لا ينبغي أن يبنى عليها في الأحكام الظاهرة ، وقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما ; لقوله تعالى : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] ، ولا غاية وراء هذا ، ثم إنه كان يتحصن بالدرع والمغفر ، ويتوقى ما العادة أن يتوقى ، ولم يكن ذلك [ ص: 507 ] نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها ، بل هي أعلى .

    وما ذكر من استواء العوائد وعدمها بالنسبة إلى قدرة الله ; فذلك أيضا غير مانع من إجراء أحكام العوائد على مقتضاها .

    وقد تقدم أن الصحابة قد كانوا حازوا رتبة التوكل ، ورؤية إنعام المنعم من المنعم لا من السبب ، ومع ذلك فلم يتركوا الدخول في الأسباب العادية التي ندبوا إليها ، ولم يتركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هذه الحالة التي تسقط حكم الأسباب وتقضي بانخرام العوائد ، فدل على أنها العزائم التي جاء الشرع بها ; لأن حال انخراق العوائد ليس بمقام يقام فيه ، وإنما محله محل الرخصة كما تقدم ذكره ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : قيدها وتوكل .

    وقد كان المكملون من الصوفية يدخلون في الأسباب تأدبا بآداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونظرا إلى أن وضع الله تعالى أحوال الخلق على العوائد الجارية يوضح أن المقصود الشرعي الدخول تحت أحكام العوائد ، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره ، وأما قصة الخضر عليه السلام ، وقوله : وما فعلته عن أمري [ الكهف : 82 ] ، فيظهر به أنه نبي ، وذهب إليه جماعة من العلماء استدلالا بهذا القول ، ويجوز للنبي أن يحكم بمقتضى الوحي من غير إشكال ، وإن سلم ; فهي قضية عين ولأمر ما ، وليست جارية على شرعنا ، والدليل على ذلك [ ص: 508 ] أنه لا يجوز في هذه الملة لولي ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا لم يبلغ الحلم ، وإن علم أنه طبع كافرا ، وأنه لا يؤمن أبدا ، وأنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا ، وإن أذن له من عالم الغيب في ذلك ; لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي ، وإنما الظاهر في تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى ، وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أخر لا يعلمها هو .

    فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل عليه ، بل هو على ضربين :

    أحدهما :

    ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح رده إليها ; فهذا لا يصح العمل عليه البتة .

    والثاني :

    ما لم يخالف [ العمل ] به شيئا من الظواهر ، أو إن ظهر منه خلاف ; فيرجع بالنظر الصحيح إليها ; فهذا يسوغ العمل عليه ، وقد تقدم بيانه ، فإذا تقرر هذا الطريق ; فهو الصواب ، وعليه يربي المربي ، وبه يعلق همم السالكين تأسيا بسيد المتبوعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقرب إلى الخروج عن مقتضى الحظوظ ، وأولى برسوخ القدم ، وأحرى بأن يتابع عليه صاحبه ويقتدى به فيه ، والله أعلم .
    [ ص: 509 ] المسألة السادسة عشرة

    العوائد أيضا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود :

    أحدهما : العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال ; كالأكل والشرب ، والفرح والحزن ، والنوم واليقظة ، والميل إلى الملائم ، والنفور عن المنافر ، وتناول الطيبات والمستلذات ، واجتناب المؤلمات والخبائث ، وما أشبه ذلك .

    والثاني : العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال ; كهيئات اللباس والمسكن ، واللين في الشدة والشدة فيه ، والبطء والسرعة في الأمور ، والأناة والاستعجال ، وما كان نحو ذلك .

    فأما الأول ; فيقضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية ; للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل وعلى سننه لا تختلف عموما كما تقدم ; فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقا ، كانت العادة وجودية أو شرعية .

    وأما الثاني ; فلا يصح أن يقضى به على ما تقدم البتة ، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج ، فإذ ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة ، وكذلك في المستقبل ، ويستوي في ذلك أيضا العادة الوجودية والشرعية .

    [ ص: 510 ] وإنما قلنا ذلك لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية ، وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق ، حسبما بين ذلك الاستقراء ، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا ; فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة ، وأما الضرب الثاني ; فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية ، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم ، فإذا كان كذلك ; لم يصح أن يحكم بالثانية على من مضى لاحتمال التبدل والتخلف ، بخلاف الأولى .

    وهذه قاعدة محتاج إليها في القضاء على ما كان عليه الأولون ، لتكون حجة في الآخرين ، ويستعملها الأصوليون كثيرا بالبناء عليها ، ورد القضاء بالعامة إليها وليس هذا الاستعمال بصحيح بإطلاق ، ولا فاسد بإطلاق ، بل الأمر فيه يحتمل الانقسام كما تقدم ، وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه : هل يلحق بالأول فيكون حجة ، أم لا فلا يكون حجة ؟



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #87
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (87)
    صـ511 إلى صـ 524

    المسألة السابعة عشرة

    المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها ، وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة ، وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها .

    والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها ; كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه ، والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد ، بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي أو تكميلي ; فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ، ولا بحد معلوم يخصه ; فإن كان كذلك ، فهو راجع إلى أمر ضروري ، والاستقراء يبين ذلك ; فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه .

    إلا أن المصالح والمفاسد ضربان :

    أحدهما : ما به صلاح العالم أو فساده ; كإحياء النفس في المصالح ، وقتلها في المفاسد .

    والثاني : ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد ، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب ، وكذلك الأول على مراتب أيضا ، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء ، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما ، ثم النفس ، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل [ ص: 512 ] والمال ; فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به ، وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بضعها جاز لها ذلك ، وهكذا سائرها .

    ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدناه المفسدة في العمل [ به ] على مراتب ; فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ، ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة ، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور ; فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا ; كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين ، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب ، وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا ; فطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية ، والمعصية صغيرة من الصغائر ، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد ، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا ، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد ، بل لكل منها مرتبة تليق بها .
    [ ص: 513 ] المسألة الثامنة عشرة

    الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني .

    أما الأول ; فيدل عليه أمور :

    منها الاستقراء ; فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها ، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة ، إن خرجت عنها لم تكن عبادات ، ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات ، وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب ، وفي هيئة أخرى غير مطلوب ، وأن [ ص: 514 ] طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره ، وأن التيمم - وليست فيه نظافة حسية - يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر ، وهكذا سائر العبادات ; كالصوم ، والحج ، وغيرهما ، وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى ، وإفراده بالخضوع ، والتعظيم لجلاله ، والتوجه إليه ، وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يفهم منها حكم خاص ; إذ لو كان كذلك لم يحد لنا أمر مخصوص ، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد ، ولكان المخالف لما حد غير ملوم ; إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا ، وليس كذلك باتفاق ، فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود ، وأن غيره غير مقصود شرعا .

    والثاني : أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد ; لنصب الشارع عليه دليلا واضحا ، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه ، ولكان ذلك يتسع في أبواب [ ص: 515 ] العبادات ، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه ; دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود ; إلا أن يتبين بنص أو إجماع معنى مراد في بعض الصور ; فلا لوم على من اتبعه ، لكن ذلك قليل ; فليس بأصل ، وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في الموضع .

    وأيضا ; فإن المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له ; كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره ، والجمع بين الصلاتين ، وما أشبه ذلك .

    وإلى هذا ; فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة [ ص: 516 ] الخصوص ; كقوله : " سها فسجد " ، وقوله : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ، ونهيه عن " الصلاة طرفي النهار " ، وعلل ذلك بأن [ ص: 517 ] الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان .

    وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها ; فتجب فيها النية قياسا على التيمم ، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع ، بل هو من المسمى شبها ، بحيث لا يتفق على القول به القائلون ، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه ، فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة ; فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه [ ص: 518 ] الوقوف عند ما حد ، دون التعدي إلى غيره ; لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات ، فكان أصلا فيها .

    والثالث : أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات ; فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها ، والمشي على غير طريق ، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة ، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها ، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك ، ولما كان الأمر كذلك عذر أهل الفترات في [ ص: 519 ] عدم اهتدائهم ; فقال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] .

    وقال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ النساء : 165 ] .

    والحجة هاهنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق ، والله أعلم ، فإذا ثبت هذا ; لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع ، وهو معنى التعبد ، ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب ، وأجرى على طريقة السلف الصالح ، وهو رأي مالك رحمه الله ; إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق وإن حصلت النظافة بغير ذلك ، وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه ، والتسليم كذلك ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات ، إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله ; فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه ، وركنا يلجأ إليه .
    [ ص: 520 ] فصل

    وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني ; فلأمور :

    أولها الاستقراء ; فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد ، والأحكام العادية تدور [ معه ] حيثما دار ; فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز ; كالدرهم بالدرهم إلى أجل ، يمتنع في المبايعة ، ويجوز في القرض ، وبيع الرطب باليابس ، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات ، وقال تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .

    وقال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] .

    وفي الحديث : لا يقضي القاضي وهو غضبان .

    وقال : لا ضرر ولا ضرار .

    [ ص: 521 ] وقال : القاتل لا يرث .

    [ ص: 522 ] ونهى عن بيع الغرر .

    وقال : كل مسكر حرام .

    وفي القرآن : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر [ المائدة : 91 ] [ ص: 523 ] الآية .

    إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد ، وأن الإذن دائر معها أينما دارت ، حسبما بينته مسالك العلة ; فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني .

    والثاني : أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله ، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ; ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني ، لا الوقوف مع النصوص ، بخلاف باب العبادات ; فإن المعلوم فيه خلاف ذلك ، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله ; حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة ، وقال فيه بالاستحسان ، ونقل عنه أنه قال : " إنه تسعة أعشار [ ص: 524 ] العلم " ، حسبما يأتي إن شاء الله .

    والثالث : إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات ، واعتمد عليه العقلاء ; حتى جرت بذلك مصالحهم ، وأعملوا كلياتها على الجملة ; فاطردت لهم ، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم ; إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل ; فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق ; فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ، ومن هاهنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية ; كالدية ، والقسامة ، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة - للوعظ والتذكير ، والقراض ، وكسوة الكعبة ، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا ، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول ، وهي كثيرة ، وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #88
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (88)
    صـ525 إلى صـ 538



    فصل

    فإذا تقرر هذا ، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني ; فإذا وجد فيها التعبد ; فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص ; كطلب الصداق في النكاح ، والذبح في [ المحل المخصوص في ] الحيوان المأكول ، والفروض المقدرة في المواريث ، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية ; حتى يقاس عليها غيرها ; فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك ; لتمييز النكاح عن السفاح ، وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت ، وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه ، ولكنها أمور جملية ; كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات ، وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها ، بحيث يقال : إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط ، ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر ، ولا ما أشبه ذلك .

    فإن قيل : وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع على الخصوص أم لا ؟ [ ص: 526 ] فالجواب أن يقال : أما أمور التعبدات ; فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان ، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ; قالت للسائلة : " أحرورية أنت ؟ " إنكارا عليها أن يسئل عن مثل هذا ; إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة ، ثم قالت : كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة ، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع : " هي السنة يا ابن أخي " ، وهو كثير ، ومعنى هذا التعليل أن لا علة .

    وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا ; فلها معنى مفهوم ، وهو ضبط وجوه المصالح ، إذ لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط ، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي ، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل ، فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة ، وأسبابا معلومة لا تتعدى ; كالثمانين في القذف ، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان ، وخص قطع اليد بالكوع وفي [ ص: 527 ] النصاب المعين ، وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة ، وكذلك الأشهر والقروء في العدد ، والنصاب والحول في الزكاة ، وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين ، وهو المعبر عنه بالسرائر ; كالطهارة للصلاة ، والصوم ، والحيض ، والطهر ، وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر ; فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه .

    وإلى هذا المعنى يشير أصل سد الذرائع ; لكن له نظران :

    نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه ، كما في مذهب مالك مثلا ، مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف ; فعلى هذا لا ينبغي أن يلتفت منه إلا إلى المنصوص عليه .

    [ ص: 528 ] ونظر من جهة أن له ضوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه ، وقد فهم من الشرع الالتفات إلى كليه ، فليجر بحسب الإمكان في مظانه ، وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهي عنه والتوسل بها إليه ، وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح ; فلا بد من اعتباره ، ومن الناس من توسط بنظر ثالث ; فخص هذا المختلف فيه بالظاهر ، فسلط الحكام على ما اطلعوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد ، ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته .
    [ ص: 529 ] المسألة التاسعة عشرة

    كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد ; فلا تفريع فيه ، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد ; فلا بد فيه من اعتبار التعبد لأوجه :

    أحدها : أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث هو مكلف ، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه ، بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم ; فإنه عبد مكلف ، فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء ، بخلاف المصلحة ; فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين ، وإذا كان كذلك ; فالتعبد لازم لا خيرة فيه ، واعتبار المصلحة فيه الخيرة ، وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا ، وإذا وقع الأمر [ ص: 530 ] والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا ; فإنه محال فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق ، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق ، خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح .

    وأيضا ; فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين ; فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل ; يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر لأن مخالفته قبيحة ، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا ; فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض ، فالأمران على مذهبهم لازمان ، ولا يقول أحد منهم : إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح ، بل هو قبيح على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد .

    والثاني : أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك ، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم ; فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ، ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر ، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن ; لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا ، إذ هو قطع على غيب بلا دليل ، وذلك غير جائز ; فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم ; فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد .

    [ ص: 531 ] فإن قيل : لو جاز ذلك لم نقض بالتعدي على حال ، فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى ; لم نجزم بأن الحكم لها فقط لجواز أن تكون جزء علة أو لجواز الفرع عن تلك الحكمة التي جهلناها وإن وجدت فيه العلة التي علمناها ، فإذا أمكن ذلك ; لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر ولا سبيل إلى ذلك ; فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة .

    فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز التعبد ; لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا ، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة ، وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم ، ولم نكلف أن ننفي ما عداها ; [ ص: 532 ] فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم ، أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة ، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلية ، أو صالح لكونه علة ، كاف في تعدي الحكم به .

    وأيضا ; فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة وكل منها مستقل ، وجميعها معلوم ; فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس ، ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه ، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر ، فإذا ثبت هذا ، لم يبق للسؤال مورد ; فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه ، ولا علينا .

    والوجه الثالث ; أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين :

    أحدهما : ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة ; كالإجماع ، والنص ، والإشارة ، والسبر ، والمناسبة ، وغيرها . وهذا القسم هو الظاهر الذي [ ص: 533 ] نعلل به ، ونقول : إن شرعية الأحكام لأجله .

    والثاني ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ، ولا يطلع عليه إلا بالوحي ; كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام ، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو ، وقذف الرعب ، والقحط ، وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي .

    وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخر غير ما يدركه المكلف ; لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر ; إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة البتة ، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل ; فبقيت موقوفة على التعبد المحض لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل ، وإذ [ ص: 534 ] ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به ، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان .

    والرابع : أن السائل إذا قال للحاكم : لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان ؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك ; كان مصيبا ، كما أنه إذا قال : لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم ; كان مصيبا أيضا ، والأول جواب التعبد المحض ، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى ، وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما ; جاز القصد إلى التعبد ، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا ، وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد ، فلما صح القصد مطلقا ; صح المقصود له مطلقا ، وذلك جهة التعبد ، وهو المطلوب .

    والخامس : أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم ، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع ، لا مجال للعقل فيه ، بناء على قاعدة نفي [ ص: 535 ] التحسين والتقبيح ، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما ; فهو الواضع لها مصلحة ، وإلا ; فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك ، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح ، فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس ، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات ، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا .

    ومن هنا يقول العلماء : إن من التكاليف " ما هو حق لله خاصة " ، وهو راجع إلى التعبد ، وما هو حق للعبد ، ويقولون في هذا الثاني : " إن فيه حقا لله " ، كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وسجن عاما ، وفي القاتل غيلة إنه لا عفو فيه ، وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق ، ولا يقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة ، وإن كانت براءة رحمها حقا له ، وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم ; فقد صار إذا كل تكليف حقا لله ، فإن ما هو لله ; فهو لله ، وما كان للعبد ; فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله ; إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا .

    [ ص: 536 ] ومن هذا الموضع يقول كثير من العلماء : " إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق " ، علمت مفسدة النهي أم لا ، انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا ، وقوفا مع نهي الناهي لأنه حقه ، والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي ، فإذا لم يحصل ; فالعمل باطل بإطلاق ، فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد ، وإذا لم يخل ; فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات .

    إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية ، وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد ; كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة ، ومنها ما لا يصح إلا بنية ، وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله ; كالزكاة ، والذبائح ، والصيد ، والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية لا يثاب عليها ; فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد أثيب عليها ، وكذلك التروك إذا تركت بنية ، وهذا متفق عليه ، ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيه حق ، لما حصل الثواب فيها أصلا ; لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها ، والمأمور به متقرب إلى الله به ، وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة ، وكل عبادة مفتقرة إلى نية ; فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرة إلى نية .

    [ ص: 537 ] فإن قيل : إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة ، ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب ، لا من كونها طاعة متقربا بها .

    قيل : هذا غير صحيح ; إذ لو كان كذلك ; لصح الثواب بدون النية ; لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية ، لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية .

    وأيضا ; فلو حصل الثواب بغير نية ، لأثيب الغاصب إذا أخذ منه المغصوب كرها ، وليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد ; فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة ، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه ، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك ; ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة .

    وهو دليل سادس في المسألة .

    فإن قيل : فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية ، وأن لا يصح عمل من لم ينو ، أو يكون عاصيا .

    قيل : قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب ، وقد تكون جهة التعبد هي المغلبة ، فما كان المغلب فيه التعبد ; فمسلم ذلك فيه ، وما غلب فيه جهة العبد ; فحق العبد يحصل بغير نية ; فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله ، فإن راعى جهة الأمر ; فهو من تلك الجهة عبادة ، فلا بد فيه من نية ; أي لا يصير عبادة إلا بالنية لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها ، بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة ; كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم ، أو أقرض بقصد دنيوي ، وكذلك البيع والشراء ، والأكل والشرب ، والنكاح والطلاق ، وغيرها . ومن هنا كان السلف - رضي الله عنهم - يثابرون على [ ص: 538 ] إحضار النيات في الأعمال ، ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #89
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (89)
    صـ539 إلى صـ 547



    فصل

    ويتبين بهذا أمور ، منها أن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى ، وهو جهة التعبد ; فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق ، فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا ; فليس كذلك بإطلاق ، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية .

    كما أن كل حكم شرعي ; ففيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا ، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ، ولذلك قال في الحديث : حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا ألا يعذبهم ، وعادتهم في تفسير " حق [ ص: 539 ] الله " ; أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف ، كان له معنى معقول أو غير معقول ، " وحق العبد " ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا ، فإن كان من المصالح الأخروية ; فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله ، ومعنى " التعبد " عندهم أنه ما لا يعقل معناه على الخصوص ، وأصل العبادات راجعة إلى حق الله ، وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد .
    فصل

    والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي ثلاثة أقسام :

    أحدها : ما هو حق لله خالصا كالعبادات ، وأصله التعبد كما تقدم ، فإذا طابق الفعل الأمر ; صح ، وإلا ; فلا .

    والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى ، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس ، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى ، فإذا وقع طابق قصد الشارع وإن لا ; خالف ، وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل ; فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل .

    [ ص: 540 ] وأيضا ; فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عندما حده الشارع ; فيكفي في ذلك عدم تحقق البراءة منه [ وإن لم تحصل البراءة ] ، وعدم تحقق البراءة [ منه إن لم تحصل المطابقة ، وعدم تحقيق البراءة ] موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق ، لا بفعل غير مطابق .

    والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر ; فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهي عنه إما بناء على أن النهي يقتضي الفساد بإطلاق ، وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهي عنه غير مطابق لقصد الشارع ; إما بأصله ; كزيادة صلاة سادسة ، أو ترك الصلاة ، وإما بوصفه ; كقراءة القرآن في الركوع والسجود ، والصلاة في الأوقات المكروهة ; إذ لو كان مقصودا لم ينه عنه ، ولأمر به أو أذن فيه ; فإن الإذن هو المعروف أولا بقصد الشارع فلا تتعداه .

    فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهي عنه بعد الوقوع ، أو المأمور به من غير المطابق ; فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده ، وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم ، وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك ; كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الانفكاك ، وإما لعد النازلة من باب المفهوم والمعنى المعلل بالمصالح ; فيجري على حكمه ، وقد مر أن هذا قليل ، وأن التعبد هو العمدة .

    والثاني : ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد ، والمغلب فيه حق الله ، وحكمه راجع إلى الأول ; لأن حق العبد إذا صار مطرحا شرعا ; فهو كغير المعتبر ، إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر ، والفرض خلافه كقتل النفس ; إذ ليس [ ص: 541 ] للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها ، فإذا رأيت من يصحح المنهي أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع ; فذلك للأمور الثلاثة الأول ، ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب .

    والثالث : ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب ، وأصله معقولية المعنى ، فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي ; فلا إشكال في الصحة ; لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له ، وإن وقعت المخالفة فهنا نظر ; أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد ، فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع ، على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ ، أو لا ; فإن فرض غير حاصل ; فالعمل باطل لأن مقصود الشارع لم يحصل ، وإن حصل - ولا يكون حصوله إلا مسببا عن سبب آخر غير السبب المخالف - ; صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد ، ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري ; لأن النهي لأجل فوت العتق ، فإذا حصل ; فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك ، وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق [ ص: 542 ] الغير إذا أسقط ذو الحق حقه ; لأن النهي قد فرضناه لحق العبد ، فإذا رضي بإسقاطه ; فله ذلك ، وأمثلة هذا القسم كثيرة ، فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع ; فذلك لأحد الأمور الثلاثة .
    [ ص: 543 ] المسألة العشرون

    لما كانت الدنيا مخلوقة ليظهر فيها أثر القبضتين ، ومبنية على بذل النعم للعباد لينالوها ويتمتعوا بها ، وليشكروا الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى ، حسبما بين لنا الكتاب والسنة ; اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة ، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا .

    وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما ، ألا ترى إلى قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] .

    وقوله : هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ الملك : 23 ] .

    [ ص: 544 ] وقال : فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون [ البقرة : 152 ] .

    وقوله : فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون [ النحل : 114 ] .

    وقال : لئن شكرتم لأزيدنكم [ إبراهيم : 7 ] الآية .

    والشكر هو صرف ما أنعم عليك في مرضاة المنعم ، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية ، ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .

    ويستوي في هذا ما كان من العبادات أو العادات .

    أما العبادات ; فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة ; فهي مصروفة إليه .

    وأما العادات ; فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي ، ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات ; فقد قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] الآية .

    وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ المائدة : 87 ] الآية .

    فنهى عن التحريم ، وجعله تعديا على حق الله تعالى ، ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة والسلام : من رغب عن سنتي ; فليس مني .

    [ ص: 545 ] وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام [ المائدة : 103 ] .

    وقوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم [ الأنعام : 138 ] الآية .

    فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها ، منها مجرد التحريم ، وهو المقصود هاهنا .

    وأيضا ; ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع ; لأن حق الغير محافظ عليه شرعا أيضا ، ولا خيرة فيه للعبد ; فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير ; حتى يسقط حقه باختياره في بعض الجزئيات ، لا في [ ص: 546 ] الأمر الكلي ، ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق ; إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف .

    فإذا ; العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين :

    أحدهما : من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات .

    والثاني : من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق ، وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة ; فصار الجميع ثلاثة أقسام .

    [ ص: 547 ] وفيها أيضا حق للعبد من وجهين :

    أحدهما : جهة الدار الآخرة ، وهو كونه مجازى عليه بالنعيم ، موقى بسببه عذاب الجحيم .

    والثاني : جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا ، لكن بحسبه في خاصة نفسه ، كما قال تعالى : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] ، وبالله التوفيق .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #90
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (90)
    صـ7 إلى صـ 22



    بسم الله الرحمن الرحيم

    القسم الثاني من الكتاب

    فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف ، وفيه مسائل :

    المسألة الأولى :

    إن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر .

    [ ص: 8 ] ويكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة ، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب ، وفي العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم والصحيح والفاسد وغير ذلك من الأحكام ، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة ، ويقصد به شيء آخر فلا يكون [ ص: 9 ] كذلك ، بل يقصد به شيء فيكون إيمانا ، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا كالسجود لله أو للصنم .

    وأيضا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية ، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون .

    وقد قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة : 5 ] .

    فاعبد الله مخلصا له الدين [ الزمر : 2 ] .

    إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] .

    وقال : ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ التوبة : 54 ] .

    وقال : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ البقرة : 231 ] بعد قوله : فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف [ البقرة : 231 ] .

    وقال : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] .

    وقال : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء إلى قوله : [ ص: 10 ] إلا أن تتقوا منهم تقاة [ آل عمران : 28 ] .

    وفي الحديث : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إلى آخره .

    وقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .

    وفيه : أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه شريكا تركت نصيبي لشريكي .

    وتصديقه قول الله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] .

    وأباح عليه الصلاة والسلام للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو [ ص: 11 ] [ ص: 12 ] يصد له ، وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه .

    لا يقال : إن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق وفي كل حال ، والدليل على ذلك أشياء ، منها الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعا ، فإن المكره على الفعل يعطي ظاهره أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع ، إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله ، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به ; لأن الفرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه ، وهو لم ينو ذلك فيلزم أن لا يصح ، وإذا لم يصح كان وجوده وعدمه سواء ، فكان يلزم أن يطالب بالعمل أيضا ثانيا ، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول ، ويتسلسل ، أو يكون الإكراه [ ص: 13 ] عبثا ، وكلاهما محال ، أو يصح العمل بلا نية وهو المطلوب .

    ومنها أن الأعمال ضربان : عادات ، وعبادات .

    فأما العادات فقد قال الفقهاء : إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية ، بل مجرد وقوعها كاف كرد الودائع والمغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها ، فكيف يطلق القول بأن المقاصد معتبرة في التصرفات .

    وأما العبادات فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا ، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها ، فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء ، وكذلك [ ص: 14 ] الصوم والزكاة ، وهي عبادات .

    وألزموا الهازل العتق والنذر كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة .

    وفي الحديث : ثلاث جدهن وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة .

    [ ص: 15 ] وفي حديث آخر : من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز .

    وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أربع جائزات إذا تكلم بهن : الطلاق والعتاق والنكاح والنذر .

    [ ص: 16 ] ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل به ، وفي مذهب مالك فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر - أن صومه صحيح ، ومن سلم من اثنتين في الظهر مثلا ظانا للتمام فتنفل بعدها بركعتين ثم تذكر أنه لم يتم - أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة .

    وأصل مسألة الرفض مختلف فيها ، فجميع هذا ظاهر في صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة .

    ومنها أن من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الامتثال عقلا ، وهو النظر [ ص: 17 ] الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به .

    فإن قصد الامتثال فيه محال حسبما قرره العلماء ، فكيف يقال إن كل عمل لا يصح بدون نية ؟ .

    وإذا ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى ، وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا; لأنا نجيب عن ذلك بأمرين :

    أحدهما : أن نقول : إن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان : ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار ، وهنا يصح أن يقال : إن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا قصد به امتثال أمر الشارع أو لا ، وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية ، وعليه يدل ما تقدم من الأدلة ، فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض حسنا كان أو قبيحا ، مطلوب الفعل أو الترك أو غير مطلوب شرعا ، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة ، فليس هذا النمط بمقصود للشارع ، فبقي ما كان مفعولا بالاختيار ، لا بد فيه من القصد ، وإذ ذاك تعلقت به الأحكام ولا يتخلف عن الكلية عمل ألبتة .

    وكل ما أورد في السؤال لا يعدو هذين القسمين ، فإنه إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل ، أو غير ذلك فيتنزل ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار وعدمه .

    وإما غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال ، وإن تعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف ، فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة إن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع ، كأن الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا ، لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا ، وكذلك ما [ ص: 18 ] في معناه .

    والضرب الثاني : ليس من ضرورة كل فعل ، وإنما هو من ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات ، فإن الأعمال كلها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك ، أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرهما فلا إشكال فيه ، وأما العاديات فلا تكون تعبديات إلا بالنيات ولا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلا النظر الأول لعدم إمكانه ، لكنه في الحقيقة راجع إلى أن قصد التعبد فيه غير متوجه عليه فلا يتعلق به الحكم التكليفي ألبتة; بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، أما تعلق الوجوب بنفس العمل فلا إشكال في صحته; لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله بخلاف قصد التعبد بالعمل ، فإنه محال ، فصار في عداد ما لا قدرة عليه ، فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا .

    والثاني من وجهي الجواب : بالكلام على تفاصيل ما اعترض به .

    فأما الإكراه على الواجبات فما كان منها غير مفتقر إلى نية التعبد وقصد امتثال الأمر فلا يصح فيه عبادة إلا أنه قد حصلت فائدته ، فتسقط المطالبة به شرعا كأخذ الأموال من أيدي الغصاب ، وما افتقر منها إلى نية التعبد فلا يجزئ فعلها بالنسبة إلى المكره في خاصة نفسه حتى ينوي القربة ، كالإكراه [ ص: 19 ] على الصلاة ، لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم فلا يطالبه الحاكم بإعادتها; لأن باطن الأمر غير معلوم للعباد ، فلم يطالبوا بالشق عن القلوب .

    وأما الأعمال العادية وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نية فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثواب إلا مع قصد الامتثال وإلا كانت باطلة . وبيان بطلانها في كتاب الأحكام وما ذكر من الأعمال التعبدية ، فإن القائل بعدم اشتراط النية فيها بان على أنها كالعاديات ومعقولة المعنى ، وإنما تشترط النية فيما كان غير معقول المعنى ، فالطهارة والزكاة من ذلك ، وأما الصوم فبناء على أن الكف قد استحقه الوقت ، فلا ينعقد لغيره ولا يصرفه [ ص: 20 ] قصد سواه ولهذا نظائر في العاديات كنكاح الشغار ، فإنه عند أبي حنيفة منعقد على وجه الصحة وإن لم يقصدوه .

    [ ص: 21 ] وأما النذر والعتق وما ذكر معهما فقد تقدم أن القاصد لإيقاع السبب غير قاصد للمسبب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه والهازل كذلك; لأنه قاصد لإيقاع السبب بلا شك .

    وهو في المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات ، وإما قاصد أن لا يقع ، وعلى كل تقدير فيلزمه المسبب شاء أم أبى .

    وإذ قلنا بعدم اللزوم فبناء على أنه ناطق باللفظ غير قاصد لمعناه ، وإنما قصد مجرد الهزل باللفظ ، ومجرد الهزل لا يلزم عليه حكم إلا حكم نفس الهزل ، وهو الإباحة أو غيرها ، وقد علل اللزوم في هذه المسائل بأن الجد والهزل أمر باطن ، فيحمل على أنه جد ومصاحب للقصد لإيقاع مدلوله ، أو يقال : إنه قاصد بالعقد - الذي هو جد شرعي - اللعب ، فناقض مقصود الشارع ، فبطل حكم الهزل فيه ، فصار إلى الجد .

    ومسألة رفض نية الصوم بناء على أنه انعقد على الصحة ، فالنية الأولى [ ص: 22 ] مستصحبة حكما حتى يقع الإفطار الحقيقي ، وهو لم يكن ، فصح الصوم ، ومثله نيابة ركعتي النافلة عن الفريضة لأن ظن الإتمام لم يقطع عند المصحح حكم النية الأولى ، فكان السلام بينهما والانتقال إلى نية التنفل لغوا لم يصادف محلا ، وعلى هذا السبيل تجري مسألة الرفض .

    وأما النظر الأول فقصد التعبد فيه محال ، وقد تقدم بيانه في الوجه الأول ، وبالله التوفيق .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #91
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (91)
    صـ23 إلى صـ 33

    المسألة الثانية :

    قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة ، إذ قد مر أنها موضوعة [ ص: 24 ] لمصالح العباد على الإطلاق والعموم والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله ، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ولأن المكلف خلق لعبادة الله وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة ، هذا محصول العبادة ، فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة .

    وأيضا فقد مر أن قصد الشارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات وهو عين ما كلف به العبد فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك ، وإلا لم يكن عاملا على المحافظة لأن الأعمال بالنيات ، وحقيقة ذلك أن يكون خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته [ ص: 25 ] ومقدار وسعه ، وأقل ذلك خلافته على نفسه ثم على أهله ثم على كل من تعلقت له به مصلحة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .

    وفى القرآن الكريم آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [ الحديد : 7 ] .

    وإليه يرجع قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ البقرة : 30 ] .

    وقوله : ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ الأعراف : 129 ] .

    وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم [ الأنعام : 165 ] .

    والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال : الأمير راع والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .

    وإنما أتى بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير [ ص: 26 ] مختص فلا يتخلف عنه فرد من أفراد الولاية عامة كانت أو خاصة ، فإذا كان كذلك فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه ، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها ، وهذا بين .
    فصل

    وإذا حققنا تفصيل المقاصد الشرعية بالنسبة إلى المكلف وجدناها ترجع إلى ما ذكر في كتاب الأحكام ، وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب ، إذ مر هنالك خمسة أوجه ، منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف ، فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع حتى يتبين له ما أراد إن شاء الله .
    [ ص: 27 ] المسألة الثالثة

    كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض [ ص: 28 ] الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل ، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل .

    أما أن العمل المناقض باطل فظاهر ، فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة .

    وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها ، فالدليل عليه أوجه :

    أحدها : أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها ، إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح ، فإذا جاء الشارع [ ص: 29 ] بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي منه تحصل المصلحة فأمر به أو أذن فيه ، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهى عنه رحمة بالعباد .

    فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه ، فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع ، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا ، فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار ، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا ، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة .

    والثاني : أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا فهو عند هذا القاصد ليس بحسن ، وما لم يره الشارع حسنا فهو عنده حسن ، وهذه مضادة أيضا .

    والثالث : أن الله تعالى يقول : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى [ النساء : 115 ] الآية .

    وقال عمر بن عبد العزيز : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ، من عمل بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا والأخذ في خلاف مآخذ [ ص: 30 ] الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة .

    والرابع : أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة; لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلا ، وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به .

    والخامس : أن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها [ ص: 31 ] في الأمر والنهي ، فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد ، إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة ، بل قصد قصدا آخر ، جعل الفعل أو الترك وسيلة له ، فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده ، وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه .

    والسادس : أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله لأن من آياته أحكامه التي شرعها ، وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .

    والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجلها ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون [ التوبة : 65 ] .

    والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهرة ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .

    وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم ، والمال لا لإقرار للواحد الحق بالوحدانية ، والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح ، والذبح لغير الله ، والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر في الدنيا ، والسلف ليجر به نفعا ، والوصية بقصد المضارة للورثة ، ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها ، وما أشبه ذلك .

    وقد يعترض هذا الإطلاق بأشياء :

    منها ما تقدم في المسألة الأولى; كنكاح الهازل وطلاقه ، وما ذكر [ ص: 32 ] معهما ، فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما ، وقد تقدم جوابه ، ومن ذلك المكره بباطل ، فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حالة الاختيار كالنكاح والطلاق والعتق واليمين والنذر ، وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك ، لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه ، إلى مسائل من هذا النحو .

    ومنها أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا وغير ذلك - مقصود به خلاف ما قصده الشارع ، مع أنها عند القائل بها صحيحة ، ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع فلا يلزم أن يكون باطلا .

    والجواب أن مسائل الإكراه إنما قيل بانعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ، ثم يصححه; لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي ، والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء ، فكيف يقال : إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع ، هل هذا إلا عين المحال .

    وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا ، فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصدا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد ، بل الشريعة لهذا [ ص: 33 ] وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل ، فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه ، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب ، وفي سائر المصالح العامة والخاصة ، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة ، فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع ، خاصة وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام ، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة ولهذا موضع يذكر فيه في هذا القسم إن شاء الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #92
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (92)
    صـ34 إلى صـ 52

    المسألة الرابعة :

    فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله أو تركه موافقا أو مخالفا ، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته . فالجميع أربعة أقسام :

    أحدها : أن يكون موافقا وقصده الموافقة كالصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها ، يقصد بها امتثال أمر الله تعالى وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه ، وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر المنكرات يقصد بذلك الامتثال ، فلا إشكال في صحة هذا العمل .

    والثاني : أن يكون مخالفا ، وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدا لذلك ، فهذا أيضا ظاهر الحكم .

    والثالث : أن يكون الفعل أو الترك موافقا ، وقصده المخالفة ، وهو ضربان :

    أحدهما : أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا .

    والآخر : أن يعلم بذلك .

    فالأول كواطئ زوجته ظانا أنها أجنبية وشارب الجلاب ظانا أنه خمر وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر ، فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة ، ويحكي الأصوليون في هذا النحو الاتفاق على العصيان في مسألة " من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل " وحصل فيه أيضا أن مفسدة النهي لم تحصل ; لأنه إنما نهى عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد ، فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله فحصلت المفسدة ، فشارب الجلاب لم يذهب عقله وواطئ زوجته لم يختلط [ ص: 35 ] نسب من خلق من مائه ولا لحق المرأة بسبب هذا الوطء معرة ، وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة ، وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل ، فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة .

    فإن قيل : فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة ؟ فإن وقع على الموافقة فمأذون فيه ، وإذا كان مأذونا فيه فلا عصيان في حقه ، لكنه عاص باتفاق ، هذا خلف ، وإن وقع مخالفا فهو غير مأذون فيه ولا عبرة بكونه موافقا في نفس الأمر ، وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفا في نفس الأمر ، فكان يجب الحد على الواطئ ، والزجر على الشارب ، وشبه ذلك ، لكنه غير واجب باتفاق أيضا ، هذا خلف .

    فالجواب أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين ، فإنه وإن كان مخالفا في القصد قد وافق في نفس العمل فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة ، وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكا حرمة الأمر والنهي ، فهو عاص في مجرد القصد غير عاص بمجرد العمل ، وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله غير آثم من جهة حق الآدمي; كالغاصب لما يظن [ ص: 36 ] أنه متاع المغصوب منه فإذا هو متاع الغاصب نفسه ، فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد .

    ولا يقال : إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطا لمعنى الطلب فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله ، أو زنى فلم يتخلق ماؤه في الرحم بعزل أو غيره; لأن المتوقع من ذلك غير موجود ، فكان ينبغي أن لا يترتب عليه حد ولا يكون آثما إلا من جهة قصده ، خاصة لأنا نقول : لا يصح ذلك لأن هذا العامل قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة ، وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر ، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب ، بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة ، وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى ، فالله هو خالق الولد من الماء ، والسكر عن الشرب كالشبع مع الأكل والري مع الماء والإحراق مع النار كما تبين في موضعه ، وإذا كان كذلك فالمولج والشارب قد [ ص: 37 ] تعاطيا السبب على كماله ، فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد ، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم ، وأما الإثم فعلى وفق ذلك .

    وهل يكون في الإثم مساويا لمن أنتج سببه أم لا ؟ هذا نظر آخر لا حاجة إلى ذكره ها هنا .

    والثاني : أن يكون الفعل أو الترك موافقا إلا أنه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة ، ومثاله : أن يصلي رياء لينال دنيا أو تعظيما عند الناس أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك ، فهذا القسم أشد من الذي قبله ، وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد - وسائل لأمور أخر لم يقصد الشارع جعلها لها ، فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى ، وذلك كله باطل لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا ، فلا يصح جملة ، وقد قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ النساء : 145 ] وقد تقدم بيان هذا المعنى .

    والقسم الرابع : أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا ، فهو أيضا ضربان :

    أحدهما : أن يكون مع العلم بالمخالفة .

    والآخر : أن يكون مع الجهل بذلك ، فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الابتداع كإنشاء العبادات [ ص: 38 ] المستأنفة والزيادات على ما شرع ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل ، ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة ، والموضع مستغن عن إيراده ها هنا ، وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا إن شاء الله والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك كقوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] .

    وقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] .

    وفي الحديث : كل بدعة ضلالة وهذا المعنى في الأحاديث كالمتواتر .

    فإن قيل : إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة ، والمذموم منها بإطلاق هو المحرم ، وأما المكروه فليس الذم فيه بإطلاق ، وما عدا ذلك فغير قبيح شرعا ، فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق وممدوح فاعله ومستنبطه ، والمباح حسن باعتبار .

    فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول : إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع ، بل هي موافقة أي موافقة كجمع الناس على المصحف العثماني والتجميع في قيام رمضان في المسجد ، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على [ ص: 39 ] حسنها ، أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة ، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن فجميع هذه الأشياء داخلة تحت ترجمة المسألة إذ هي أفعال مخالفة للشارع; لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق ؛ لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح ، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة ، خلاف المدعى .

    فالجواب : أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه ، فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع . وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال . بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين ، وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما [ ص: 40 ] وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، وفيه قال عليه الصلاة والسلام لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر .

    [ ص: 41 ] فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد ، فلم يكن فيها مخالفة ، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة ، وهو باطل باتفاق ، لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين ، وهو الذي يسمى المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل لا يتخلف عنه بوجه وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا ، كيف وهو يقول : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، ولا تجتمع أمتي على ضلالة فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع ، فقد خرج هذا [ ص: 42 ] الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع ، وأما البدعة المذمومة فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك ، وسيأتي تقرير هذا المعنى بعد إن شاء الله .

    وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله وجهان :

    أحدهما : كون القصد موافقا ، فليس بمخالف من هذا الوجه والعمل وإن كان مخالفا فالأعمال بالنيات ، ونية هذا العامل على الموافقة ، لكن الجهل أوقعه في المخالفة ، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا ، فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق .

    والثاني : كون العمل مخالفا ، فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال ، فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده ولا يعارض المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل; لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجهه ولا طابق القصد العمل ، فصار المجموع مخالفا كما لو خولف فيهما معا ، فلا يحصل الامتثال .

    [ ص: 43 ] وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه ويعارضه في الترجيح لأنك إن رجحت أحدهما عارضك في الآخر وجه مرجح ، فيتعارضان أيضا ولذلك صار هذا المحل غامضا في الشريعة ، ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه ، وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الامتثال والموافقة ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد ، عارضك أن قصد الموافقة مقيد بالامتثال المشروع لا بمخالفته ، وإن كان مقيدا فقصد المكلف لم يصادف محلا ، فهو كالعبث ، وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق; لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الانفراد .

    فإن قلت : إن القصد قد ثبت اعتباره قبل الشرائع كما ذكر عمن آمن في الفترات وأدرك التوحيد وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهى غير معتبرة إذ لم تثبت في شرع بعد .

    [ ص: 44 ] قيل لك : إن فرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة فالمقاصد الموجودة لهم منازع في اعتبارها بإطلاق فإنها كأعمالهم المقصود بها التعبد ، فإن قلت باعتبار القصد كيف كان لزم ذلك في الأعمال ، وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال لزم ذلك في القصد ، وأيضا فكلامنا فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها ، وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين ببعض الشرائع المتقدمة فذلك واضح ، فإن قيل قوله عليه الصلاة والسلام : إنما الأعمال بالنيات يبين أن هذه الأعمال ، وإن خالفت قد تعتبر ، فإن المقاصد أرواح الأعمال ، فقد صار العمل ذا روح على الجملة ، وإذا كان كذلك اعتبر بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل ، أو خالفا معا ، فإنه جسد بلا روح ، فلا يصدق عليه مقتضى قوله : الأعمال بالنيات لعدم النية في العمل .

    قيل : إن سلم فمعارض بقوله - عليه الصلاة والسلام - : كل عمل ليس [ ص: 45 ] عليه أمرنا فهو رد وهذا العمل ليس بموافق لأمره - عليه الصلاة والسلام - فلم يكن معتبرا ، بل كان مردودا .

    وأيضا فإذا لم ينتفع بجسد بلا روح كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد; لأن الأعمال هنا قد فرضت مخالفة ، فهي في حكم العدم ، فبقيت النية منفردة في حكم عملي ، فلا اعتبار بها ، وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين فكانت المسألة مشكلة جدا ، ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد فتلافوا من العبادات ما يجب تلافيه وصححوا المعاملات ، ومال فريق إلى الفساد بإطلاق ، وأبطلوا كل عبادة ، أو معاملة خالفت الشارع ميلا إلى جانب العمل المخالف ، وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة لكن على أن يعمل مقتضى القصد في وجه ، ويعمل مقتضى الفعل في وجه آخر والذي يدل على إعمال الجانبين أمور .

    أحدها : أن متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة [ ص: 46 ] القصد إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته ، ومخالفة الفعل; لأنه فاعل لما نهي عنه فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة ، وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل ، وعدم الاعتماد عليه حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف ميلا فيه إلى جهة القصد أيضا ، وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه .

    فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها ، فقد [ ص: 47 ] فاتت بمقتضى فتوى عمر ، ومعاوية والحسن وروي مثله عن علي رضي الله عنهم ، ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم فالأول أولى بها قبل نكاحها ، والثاني أولى بعد دخوله بها ، وفيما بعد العقد ، وقبل البناء قولان ، وفي الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل [ ص: 48 ] باطل باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها ، وعلى هذا يجري [ ص: 49 ] [ ص: 50 ] باب السهو في الصلاة ، وباب الأنكحة الفاسدة في تشعب مسائلها .

    والثاني : أن عمدة مذهب مالك ، بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة فعدوا من خالف في الأفعال ، أو الأقوال جهلا على حكم الناسي ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد كما يقوله ابن حبيب ، ومن وافقه وليس الأمر كذلك ، فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا ، وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام والحج ، وغير ذلك من العبادات ، وكذلك في كثير [ ص: 51 ] من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة ، وغيرها .

    ولا يقال : إن هذا ينكسر في الأمور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد; لأنا نقول : الحكم في التضمين في الأموال آخر; لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها .

    والثالث : الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة ففي الكتاب : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] .

    وقال : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] .

    وفي الحديث : قال قد فعلت .

    وقال : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

    وفي الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه .

    وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه ، وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذة هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا ؟ فلم يختلفوا أيضا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح ، فإذا كان كذلك ظهر أن كل [ ص: 52 ] واحد من الطرفين معتبر على الجملة ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك ، والله أعلم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #93
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (93)
    صـ53 إلى صـ 63


    المسألة الخامسة :

    جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين :

    أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .

    والثاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا الثاني ضربان :

    أحدهما : أن يقصد الجالب ، أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير .

    والثاني : أن لا يقصد إضرارا بأحد ، وهو قسمان : أحدهما : أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع ، وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره ، أو فدانه ، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع ، أو غيره .

    والثاني : أن يكون خاصا ، وهو نوعان :

    [ ص: 54 ] أحدهما : أن يلحق الجالب ، أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد ، أو حطب ، أو ماء ، أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر .

    والثاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر ، وهو على ثلاثة أنواع :

    أحدها : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد ، وشبه ذلك .

    والثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا ، وما أشبه ذلك .

    والثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا ، وهو على وجهين :

    أحدهما : أن يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من [ ص: 55 ] الخمار ، وما يغش به ممن شأنه الغش ، ونحو ذلك .

    والثاني : أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام :

    فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء .

    وأما الثاني ، فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس ، وقصد إضرار الغير : هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ، ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة [ ص: 56 ] الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا :

    وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك ، فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير [ ص: 57 ] فحق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال : إن هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار ، وهو داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه .

    وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا ، فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم ، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام ، وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى فيمنع الجالب ، أو الدافع مما هم به; لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع ، وعن بيع [ ص: 58 ] الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله ، وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة .

    وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين : نظر من جهة إثبات الحظوظ ، ونظر من جهة إسقاطها ، فإن اعتبرنا الحظوظ ، فإن حق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وإن استضر غيره بذلك; لأن جلب المنفعة ، أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة ، وغيرها من المحرمات الأكل ، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد ، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة ، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها ، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره ، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح ، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه ، وذلك لا يلزمه ، بل قد [ ص: 59 ] يتعين عليه حق نفسه في الضروريات ، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ، ومن حق غيره على ظن أو شك ، وذلك في دفع الضرر واضح ، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به .

    وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل ؟ قال : نعم ولا يحل له إلا ذلك . قيل : له ، فإن وضعه السلطان على أهل بلدة ، وأخذهم بمال معلوم يؤدونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل ، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم ؟ قال : ذلك له ، قال : ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب : إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء ، قال : ولست بآخذ في هذا بما روي عن سحنون ; لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق [ الشورى : 42 ] هذا ما قال .

    [ ص: 60 ] ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا .

    وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال : قلت لحماد بن أبي سليمان : إني أتكلم فترفع عني النوبة ، فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال : إنما عليك أن تتكلم في نفسك ، فإذا رفعت عنك ، فلا تبالي على من وضعت .

    ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولمانعي الحاج حتى يؤدوا خراجا ، كل ذلك انتفاع ، أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال - عليه الصلاة والسلام - : وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث .

    ولازم ذلك دخول قاتله النار ، وقول أحد ابني آدم : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك [ المائدة : 29 ] ، بل العقوبات كلها جلب مصلحة ، أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة; لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى ، [ ص: 61 ] وقد تقدم الكلام على هذا قبل .

    فإن قيل : هذا يشكل في كثير من المسائل ، فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار ، وما تقدم واقع فيه الضرر ، فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض ، وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه ، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لإضرار الغير ، وما أشبه ذلك .

    فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه ، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن ، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ، ودفع الدافع ، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن .

    وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران : إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن [ ص: 62 ] الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار ، وكيف ، ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ، ألا ترى أنه إذا قصد الجالب ، أو الدافع الإضرار أثم ، وإن كان محتاجا إلى ما فعل ، فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار ، بل عن الإضرار نهى ، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك .

    وأما مسألة المضطر ، فهي شاهد لنا; لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها ، وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه ، وهو عين مسألة النزاع ، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه ، وأما المحتكر ، فإنه خاطئ باحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس ، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به .

    وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة .

    هذا كله مع اعتبار الحظوظ ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان :

    أحدهما : إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء ، وهو محمود جدا ، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ، فهم مني ، وأنا منهم ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه ، وكأنه هو أخوه ، أو ابنه ، أو قريبه ، أو يتيمه ، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا ، أو وجوبا ، [ ص: 63 ] وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد ، فهو على ذلك واحد منهم ، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله ، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده ، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم فقال - عليه الصلاة والسلام - : فهم مني ، وأنا منهم لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في هذا المعنى الإمام الأعظم ، وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #94
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (94)
    صـ64 إلى صـ 85


    وفي مسلم عن أبي سعيد قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله إذ جاء رجل على راحلة له قال : فجعل يصرف بصره يمينا ، وشمالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل .

    [ ص: 64 ] وفي الحديث أيضا : إن في المال حقا سوى الزكاة ، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة ، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق ، وهو لا يقتضي استبدادا ، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع ، أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه [ ص: 65 ] ضررا ناجزا ، وإنما هو متوقع ، أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره ، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله : - عليه الصلاة والسلام - : المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، وقوله : المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقوله : المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه [ ص: 66 ] وسائر ما في المعنى من الأحاديث إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى ، وأسبابه ، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه ، أو أقل لخرج عن اعتداله ، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض ، وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة ، وترك الفرقة ، وهو كثير; إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء ، وأشباهها مما يرجع إليها .

    والوجه الثاني : الإيثار على النفس ، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين ، وإصابة لعين التوكل ، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله ، وهو من محامد الأخلاق ، وزكيات الأعمال ، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلقه المرضي ، وقد كان - عليه الصلاة والسلام - أجود الناس بالخير ، وأجود ما كان في شهر رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة .

    وقالت له خديجة : إنك تحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على [ ص: 67 ] نوائب الحق ، وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله ، فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي ، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر : ما كلفك الله ما لا تقدر عليه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرف البشر في وجهه ، وقال : بهذا أمرت ذكره الترمذي ، وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد . وهذا كثير .

    [ ص: 68 ] وهكذا كان الصحابة ، وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ الإنسان : 8 ] ، وما جاء في الصحيح في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] ، وما روي عن عائشة ، وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ ، وهو ضربان :

    إيثار بالملك من المال ، وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح .

    [ ص: 69 ] وإيثار بالنفس كما في الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم ، نحري دون نحرك ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت ، وهو معلوم من فعله - عليه الصلاة والسلام - ; إذ كان في غزوه أقرب الناس إلى العدو ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت ، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه ، وهو يقول : لن تراعوا ، وهذا فعل من آثر بنفسه ، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم; إذ عزم الكفار على قتله مشهور .

    [ ص: 70 ] وفي المثل السائر .


    والجود بالنفس أقصى غاية الجود
    ، ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار ، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ يوسف : 51 ] فآثرته بالبراءة على نفسها .

    قال النووي : أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ، ونحوه من أمور الدنيا ، وحظوظ النفس بخلاف القربات ، فإن الحق فيها لله .

    وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام ، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ، ومن عمر النصف ورد أبا لبابة ، وكعب [ ص: 71 ] بن مالك إلى الثلث قال ابن العربي : لقصورهما عن درجتي أبي بكر ، وعمر . هذا ما قال .

    وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي ، فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا أما أنه ليس [ ص: 72 ] بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر ، وإما لأمر آخر ، أو لغير شيء فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء ، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي; لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر ، وإذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ، ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له فثبت أنه لأمر ثالث ، وهو الحظ ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ . هذا تمام الكلام في القسم الرابع ، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ .

    وأما القسم الخامس ، وهو أن لا يلحق الجالب ، أو الدافع ضرر ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران :

    نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا من غير قصد إضرار بأحد ، فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه .

    ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ، فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار; لأنه في فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي ، فلا قصد للشارع في إيقاعه من حيث يوقع ، وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر .

    وعلى كلا التقديرين فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرة لا بد فيه من أحد أمرين :

    إما تقصير في النظر المأمور به ، وذلك [ ص: 73 ] ممنوع ، وإما قصد إلى نفس الإضرار ، وهو ممنوع أيضا فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل ، لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله ، ويضمن ضمان المتعدي على الجملة ، وينظر في الضمان بحسب النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة ولا يعد قاصدا له ألبتة إذا لم يتحقق قصده للتعدي ، وعلى هذه القاعدة تجري مسألة الصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة ، وما لحق بها من المسائل التي هي في أصلها مأذون فيها ، ويلزم عنها إضرار الغير ولأجل هذا تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة والعمل الأصلي [ ص: 74 ] صحيحا ، ويكون عاصيا بالطرف الآخر ، وضامنا إن كان ثم ضمان ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها ، ومن قال : هنالك بالفساد يقول به هنا وله في النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى هذا من جهة إثبات الحظوظ ، ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة .

    وأما السادس ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن; لأن المصلحة إذا كانت غالبة ، فلا اعتبار بالندور في انخرامها ; إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة مع معرفته بندور المضرة عن ذلك تقصيرا في النظر ولا قصدا إلى وقوع الضرر فالعمل إذا باق على أصل المشروعية .

    والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط ، وإباحة القصر في المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة كالملك المترفه ، ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة ، وكذلك إعمال خبر الواحد ، [ ص: 75 ] والأقيسة الجزئية في التكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه ، لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب .

    وأما السابع ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا فيحتمل الخلاف ، أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر كما تقدم في السادس ، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا لجواز تخلفهما ، وإن كان التخلف نادرا ؟ ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور :

    أحدها : أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم فالظاهر جريانه هنا .

    والثاني : أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] [ ص: 76 ] فإنهم قالوا : لتكفن عن سب آلهتنا ، أو لنسبن إلهك ، فنزلت .

    وفي الصحيح : إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يكف عن قتل المنافقين; لأنه ذريعة إلى قول الكفار إن محمدا يقتل أصحابه ، ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا [ البقرة : 104 ] مع قصدهم الحسن لاتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شتمه - عليه الصلاة والسلام - ، وذلك كثير كله مبني على حكم أصله ، وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه .

    والثالث : أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه ، والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه [ ص: 77 ] فالأصل الجواز من الجلب ، أو الدفع ، وقطع النظر عن اللوازم الخارجية إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل ، أو من باب التعاون منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل ، فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه ، فإن حمل محمل التعدي فمن جهة أنه مظنة للقصد أو مظنة للتقصير ، وهو أخفض رتبة من القسم الخامس ولذلك وقع الخلاف فيه : هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء أم لا ؟ هذا نظر إثبات الحظوظ ، وأما نظر إسقاطها فأصحابه في هذا القسم مثلهم في القسم الخامس بخلاف القسم السادس ، فإنه لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه عادة .

    وأما الثامن ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا فهو موضع نظر والتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي ، وغيره ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان; إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع ، وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر ، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة ، وغيرها عن كونها موجودة ، أو غير موجودة .

    وأيضا فإنه لا يصح أن يعد الجالب ، أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما في العلم والظن; لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما ، وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جدا إلا أن مالكا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا ، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه; لأنه من الأمور الباطنة ، لكن له مجال هنا ، وهو كثرة الوقوع في [ ص: 78 ] الوجود ، أو هو مظنة ذلك ، فكما اعتبرت المظنة ، وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة; لأنها مجال القصد ولهذا أصل ، وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم .

    وأيضا فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا كحد الخمر ، فإنه مشروع للزجر ، والازدجار به كثير لا غالب ، فاعتبرنا الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل ، فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به ، وإيلامه ، كما أن الأصل في مسألتنا الإذن ، فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر ، وخرج عن [ ص: 79 ] الأصل هنا من الإباحة لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع .

    وأيضا فإن هذا القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة ، فكما اعتبرت في المنع هناك فلتعتبر هنا كذلك .

    وأيضا فقد جاء في هذا القسم من النصوص كثير ، فقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن الخليطين ، وعن شرب النبيذ بعد ثلاث ، [ ص: 80 ] وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها ، وبين - عليه الصلاة والسلام - أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة ، فقال : لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعني أن النفوس [ ص: 81 ] لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا ، ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة ، وإن كثر وقوعها .

    وحرم - عليه الصلاة والسلام - الخلوة بالمرأة الأجنبية ، وأن تسافر مع غير ذي محرم ، ونهى عن بناء المساجد على القبور ، وعن الصلاة إليها ، [ ص: 82 ] وعن الجمع بين المرأة ، وعمتها ، أو خالتها ، وقال : إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى : ذلك أدنى ألا تعولوا [ النساء : 3 ] ، وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ، ونكاحها ، [ ص: 83 ] وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة ، وسائر دواعي النكاح ، وكذلك الطيب ، وعقد النكاح للمحرم ، [ ص: 84 ] ونهى عن البيع والسلف ، وعن هدية المديان ، وعن ميراث القاتل ، وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم ، أو يومين ، وحرم صوم يوم عيد الفطر ، وندب إلى تعجيل الفطر ، وتأخير السحور [ ص: 85 ] إلى غير ذلك مما هو ذريعة ، وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة وليس بغالب ولا أكثري والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة ، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل ، فليس العمل عليه ببدع في الشريعة ، بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري ، أو حاجي ، أو تحسيني ولعله يقرر في كتاب الاجتهاد إن شاء الله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #95
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (95)
    صـ86 إلى صـ 91

    المسألة السادسة

    كل من كلف بمصالح نفسه فليس على غيره القيام بمصالحه مع الاختيار والدليل على ذلك أوجه :

    أحدها : أن المصالح إما دينية أخروية ، وإما دنيوية ، أما الدينية ، فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها; إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد ، وإنما النظر في الدنيوية التي تصح النيابة فيها ، فإذا فرضنا أنه مكلف بها ، فقد تعينت عليه ، وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين فلم يكن غيره مكلفا بها أصلا .

    والثاني : أنه لو كان الغير مكلفا بها أيضا لما كانت متعينة على هذا المكلف ولا كان مطلوبا بها ألبتة; لأن المقصود حصول المصلحة ، أو درء المفسدة ، وقد قام بها الغير بحكم التكليف فلزم أن لا يكون هو مكلفا بها وقد فرضناه مكلفا بها على التعيين ، هذا خلف لا يصح .

    والثالث : أنه لو كان الغير مكلفا بها فإما على التعيين ، وإما على الكفاية ، وعلى كل تقدير فغير صحيح ، أما كونه على التعيين فكما تقدم ، وأما على الكفاية فالفرض أنه على المكلف عينا لا كفاية فيلزم أن يكون واجبا عليه عينا غير واجب عليه عينا في حالة واحدة ، وهو محال [ ص: 87 ] اللهم إلا أن تلحقه ضرورة ، فإنه عند ذلك ساقط عنه التكليف بتلك المصالح ، أو ببعضها مع اضطراره إليها فيجب على الغير القيام بها ولذلك شرعت الزكاة والصدقة والإقراض والتعاون ، وغسل الموتى ، ودفنهم والقيام على الأطفال والمجانين والنظر في مصالحهم ، وما أشبه ذلك من المصالح التي لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها والمفاسد التي لا يقدر على استدفاعها ، فعلى هذا يقال : كل من لم يكلف بمصالح نفسه فعلى غيره القيام بمصالحه بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر ، فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده كان سيده مطلوبا بالقيام بمصالحه ، والزوجة كذلك صيرها الشارع للزوج كالأسير تحت يده فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الاستمتاع والظاهرة من جهة القيام على ولده ، وبيته فكان مكلفا بالقيام عليها فقال الله تعالى الرجال قوامون على النساء [ النساء : 34 ] الآية .
    [ ص: 88 ] المسألة السابعة

    كل مكلف بمصالح غيره ، فلا يخلو أن يقدر مع ذلك على القيام بمصالح نفسه أو لا ، أعني المصالح الدنيوية المحتاج إليها ، فإن كان قادرا على ذلك من غير مشقة فليس على الغير القيام بمصالحه ، والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرا على الجميع ، وقد وقع عليه التكليف بذلك فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصلة من جهة هذا المكلف ، فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح; لأنه طلب تحصيل الحاصل ، وهو محال ، وأيضا فما تقدم في المسألة قبلها جار هنا ، ومثال ذلك السيد والزوج والوالد بالنسبة إلى الأمة أو العبد ، والزوجة والأولاد ، فإنه لما كان قادرا على القيام بمصالحه ، ومصالح من تحت حكمه لم يطلب غيره بالقيام عليه ولا كلف به ، فإذا فرضنا أنه غير قادر على مصالح غيره سقط عنه الطلب بها ، ويبقى النظر في دخول الضرر على الزوجة والعبد والأمة ينظر فيه من جهة أخرى لا تقدح في هذا التقرير ، وإن لم يقدر على ذلك ألبتة ، أو قدر لكن مع مشقة معتبرة في إسقاط التكليف ، فلا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة ، أو عامة ، فإن كانت خاصة سقطت ، وكانت مصالحه هي المقدمة; لأن حقه مقدم على حق غيره شرعا كما تقدم في القسم الرابع من المسألة الخامسة ، فإن معناه جار هنا على استقامة إلا إذا أسقط حظه ، فإن ذلك نظر آخر قد تبين أيضا .

    [ ص: 89 ] وإن كانت المصلحة عامة فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه على وجه لا يخل بأصل مصالحهم ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة ، أو تزيد عليها ، وذلك أنه إما أن يقال للمكلف : لا بد لك من القيام بما يخصك ، وما يعم غيرك ، أو بما يخصك فقط ، أو بما يعم غيرك فقط والأول لا يصح فإنا قد فرضناه مما لا يطاق ، أو مما فيه مشقة تسقط التكليف فليس بمكلف بهما معا أصلا .

    والثاني أيضا لا يصح; لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا إلا إذا دخل على المكلف بها مفسدة في نفسه ، فإنه لا يكلف إلا بما يخصه على تنازع في المسألة ، وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة ، فذلك واجب عليهم ، وإلا لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة ، وهو باطل بما تقدم من الأدلة ، وإذا وجب عليهم ، تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة ، وهو الثالث من الأقسام المفروضة .
    فصل

    إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به على أن يقوم الغير بمصالحه فالشرط في قيامهم بمصالحه أن يقع من جهة لا تخل بمصالحهم ولا يلحقه فيها أيضا ضرر .

    [ ص: 90 ] وقد تعين ذلك في زمان السلف الصالح; إذ جعل الشرع في الأموال ما يكون مرصدا لمصالح المسلمين لا يكون فيه حق لجهة معينة إلا لمطلق المصالح كيف اتفقت ، وهو مال بيت المال فيتعين لإقامة مصلحة هذا المكلف ذلك الوجه بعينه ويلحق به ما كان من الأوقاف مخصوصا بمثل هذه الوجوه فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين ولا يكون فيه ضرر على واحد من أهل الطرفين; إذ لو فرض على غير ذلك الوجه لكان فيه ضرر على القائم ، وضرر على المقوم لهم .

    أما مضرة القائم فمن جهة لحاق المنة من القائمين إذا تعينوا في القيام بأعيان المصالح والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات ، وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول .

    وقالت جماعة : إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم إلى غير ذلك ، وأصله قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ البقرة : 264 ] فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة ، وما ذاك إلا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه ، وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب ، هذا وجه ، ووجه ثان ما يلحقه من الظنون المتطرقة والتهمة اللاحقة عند القبول من المعين ولذلك لم يجز باتفاق للقاضي ولا لسائر الحكام - أن يأخذوا من [ ص: 91 ] الخصمين ، أو من أحدهما أجرة على فصل

    الخصومة بينهما وامتنع قبول هدايا الناس للعمال وجعلها - عليه الصلاة والسلام - من الغلول الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب .

    وأما مضرة الدافع فمن جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين ، وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت ، أو في حال دون حال ، وبالنسبة إلى شخص دون شخص ولا ضابط في ذلك يرجع إليه ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية التي ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب ، أو على الأموال ، هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التي طلب ذلك المكلف بإقامتها; إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة فيكون سببا في إبطال الحق ، وإحقاق الباطل ، وذلك ضد المصلحة ولأجل الوجه الأول جاء في القرآن نفي ذلك في قوله تعالى : وما أسألكم عليه من أجر [ الشعراء : 109 ] قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله [ سبأ : 47 ] قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ]

    إلى سائر ما في هذا المعنى ، وبالوجه الآخر علل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين ، وهذا كله في غاية الظهور ، والله أعلم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #96
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (96)
    صـ92 إلى صـ 100

    فصل

    [ ص: 92 ] هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ، ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره .

    فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره ، فهي مسألة الترس ، وما أشبهها فيجري فيها خلاف كما مر ولكن قاعدة منع التكليف بما لا يطاق شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا ، وقاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة شاهدة بالتكليف به فيتواردان على هذا المكلف من جهتين ولا تناقض فيه ، فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف .

    وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ ، فقد يترجح جانب المصلحة العامة ، ويدل عليه أمران :

    أحدهما : قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها ، فمثل هذا داخل تحت حكمها .

    والثاني : ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وقوله نحري دون نحرك ، ووقايته له حتى شلت يده ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في [ ص: 93 ] مبادرته للقاء العدو دون الناس حتى يكون متقى به ، فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير ، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته بنفسه ظاهر; لأنه كان كالجنة للمسلمين .

    وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين ، وأهله ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عدمه فتعم مفسدته الدين ، وأهله ، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين النوري حين تقدم إلى السياف ، وقال : أوثر أصحابي بحياة ساعة . في القصة المشهورة .

    [ ص: 94 ] وإن كانت أخروية كالعبادات اللازمة عينا والنواهي اللازم اجتنابها عينا ، فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا ، أو لا .

    فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير; لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق ولا أظن هذا القسم واقعا; لأن الحرج ، وتكليف ما لا يطاق مرفوع ، ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع .

    وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصا ما بحيث يعد خلافه كمالا فهذا من جهة المندوبات ولا تعارض المندوبات الواجبات ، كالخطرات في ذلك الشغل العام تخطر على قلبه ، وتعارضه حتى يحكم فيها بقلبه ، وينظر فيها بحكم الغلبة ، وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش ، وهو في الصلاة ، ومن نحو هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني [ ص: 95 ] لأسمع بكاء الصبي الحديث ، وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع ، فإنه يحل محل مفاسد تدخل عليه ، وعوارض تطرقه فهل يعد ذلك من قبيل المفسدة الواقعة في الدين أم لا ، كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب ، وحب الرياسة ، وكذلك السلطان ، أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به ، أو المحمدة ، وكان ذلك الترك مؤديا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة ؟ فالقول هنا بتقديم العموم أولى; لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق ألبتة ، فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك ، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا بها ، فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه ، أو ما يشق عليه ، والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس خاصة لا سيما في المنهيات; لأنها مجرد ترك ، والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله ، والأفعال إنما يلزمه منها الواجب ، وهو يسير ، فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه ، وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية فليس بعذر; لأنه أمر قد تعين عليه ، فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى; إذ ليس من المشقات كما أنه إذا وجبت عليه الصلاة ، أو الجهاد عينا ، أو الزكاة ، فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب ، وما أشبه ذلك ، وإن فرض أنه يقع به ، بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع .

    فإن قيل : كيف هذا ، وقد علم أنه لا يسلم من ذلك ، فصار كالمتسبب [ ص: 96 ] لنفسه في الهلكة ، فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه ؟

    فالجواب : أنه لو كان كذلك ، وقد تعين عليه القيام بذلك العام لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات ، وذلك باطل باتفاق .

    نعم ، قد يقال : إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم ، أو غصب ، أو تعد فهذا أمر خارج عن المسألة فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة ، لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف ، وإنما حاصل هذا أنه واقع في مخالفة أسقطت عدالته فلم تصح إقامته ، وهو على تلك الحال .

    وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصلحة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها ، فهو موضع نظر قد يرجح جانب السلامة من العارض ، وقد يرجح جانب المصلحة العامة ، وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء ، فلا ينحتم عليه طلب ، وبين من له قوة في إقامة المصلحة ، وغناء ليس لغيره ، وإن كان لغيره غناء أيضا فينحتم ، أو يترجح الطلب والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة ، فما رجح منها غلب ، وإن استويا كان محل إشكال ، وخلاف بين العلماء قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة ، أو مساوية .
    فصل

    وقد تكون المفسدة مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة ، وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها ولذلك مثال واقع .

    حكى عياض في المدارك أن عضد الدولة فناخسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة [ ص: 97 ] فلما وصل كتابه إليهما قال : الشيخ ابن مجاهد ، وبعض أصحابه : هؤلاء قوم كفرة فسقة; لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال : إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ، ولو كان خالصا لله لنهضت .

    قال القاضي ابن الطيب : فقلت لهم : كذا قال المحاسبي ، وفلان ، ومن في عصرهم : إن المأمون فاسق لا نحضر مجلسه ، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر ، وتبين له ما هم عليه بالحجة ، وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد ، ويقولوا بخلق القرآن ، ونفي الرؤية ، وها أنا خارج إن لم تخرج ، فقال الشيخ : إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج . إلى آخر الحكاية .

    فمثل هذا إذا اتفق يلغي في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد ، فلا يكون لها اعتبار ، وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد ، وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله .
    [ ص: 98 ] المسألة الثامنة

    التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال :

    أحدها : أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها فهذا لا إشكال فيه ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد; لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد; إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه ، وإنما هي تابعة لمقصود التعبد ، فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية ، وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها فغاب عن أمر الآمر بها ، وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد .

    وأيضا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلا دليل ناص على الحصر ، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي; إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا : لم أشرع هذا الحكم إلا لهذه الحكم ، فإذا لم يثبت الحصر ، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره .

    والثاني : أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطلع عليه ، أو لم [ ص: 99 ] يطلع عليه ، وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد ، والقصد إليه في التعبد ، فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد ، فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة غافلا عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر ، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد ، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق ، أو الوجاهة عنده ، أو نيل شيء من الدنيا ، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر ، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه ، فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد .

    والثالث : أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة ، أو لم يفهم فهذا أكمل وأسلم .

    أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ، ومملوكا ملبيا; إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر .

    وأيضا فإنه لما امتثل الأمر ، فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة ، وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض ، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض .

    [ ص: 100 ] وأما كونه أسلم ؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة ، فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد ، بل لا يدخل عليه في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح ، فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ، ومصالحهم ، وإن كان واسطة لنفسه أيضا فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة فتقوم لذلك نفسه ، وأيضا فإن حظه هنا ممحو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي ، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل ، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها ولهذا بسط في كتاب الأحكام ، وبالله التوفيق .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #97
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (97)
    صـ101 إلى صـ 119

    المسألة التاسعة

    كل ما كان من حقوق الله ، فلا خيرة فيه للمكلف على حال ، وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة .

    أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة ، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ، ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد ، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس ، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى ، أو حق الغير من العباد ، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان .

    جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت ، أو صلاة من الصلوات المفروضات ، أو زكاة ، أو صوما ، أو حجا ، أو غير ذلك لم يكن له ذلك ، وبقي مطلوبا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها ، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلا من غير ذكاة ، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك ، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق ، أو الربا ، أو سائر البيوع الفاسدة ، أو إسقاط حد الزنا ، أو الخمر ، أو الحرابة ، أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه ، وأشباه ذلك لم يصح شيء منه ، وهو ظاهر جدا في مجموع الشريعة حتى إذا كان الحكم دائرا بين حق الله ، وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله .

    [ ص: 102 ] فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا : إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده ، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا ، فإن قلت : لا ، وهو الفقه كان نقضا لما أصلت; لأنه حقه ، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه ، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك ، وإن قلت نعم خالفت الشرع; إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضوا من أعضائه ولا مالا من ماله ، فقد قال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ثم توعد عليه ، وقال : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية .

    وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه ، وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة فما ظنك بتفويته جملة ، وحجر على مبذر المال ، ونهى - عليه الصلاة والسلام - عن إضاعة المال ، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة; لأنا نجيب بأن إحياء النفوس ، وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد لا من حقوق العباد ، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك ، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه ، وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كلف به ، فلا يصح للعبد إسقاطه ، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه ، وفات بسبب [ ص: 103 ] ذلك نفسه ، أو عقله ، أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد; إذ ما وقع لا يمكن رفعه فله الخيرة فيمن تعدى عليه; لأنه قد صار حقا مستوفى في الغير كدين من الديون ، فإن شاء استوفاه ، وإن شاء تركه ، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي قال الله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ]

    وقال : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ الشورى : 40 ] ، وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه ، أو جسده ، فإن حق الله قد فات ولا جبر له ، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ، ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات ، وأما المال فجار على ذلك الأسلوب ، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه ، وقد قال تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [ البقرة : 280 ] بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه ، وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع ، فلا ، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب .

    وأما تحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، وما أشبهه فمن حق الله تعالى; لأنه تشريع مبتدأ ، وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد فليس لهم فيها تحكم; إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به ، أو تحرم فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة .

    فإن قيل : فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به ، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه ، [ ص: 104 ] فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرا ، فقسم العبد إذا ذاهب ولم يبق إلا قسم واحد .

    فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم; لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقا لذلك بحكم الأصل ، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطا في هذا الكتاب ، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق .

    فأما ما هو لله صرفا ، فلا مقال فيه للعبد ، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك لا من جهة أنه مستقل بالاختيار ، وقد ظهر بما تقدم آنفا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة ، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات ، وغيرها مما هو حلال له ، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق .

    فله إسقاطها وله الاعتياض منها والتصرف فيما بيده من [ ص: 105 ] غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات ، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب والحمد لله .
    [ ص: 106 ] المسألة العاشرة

    التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر ، أو غير سائغ على إسقاط حكم ، أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط ، أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له فكأن التحيل مشتمل على مقدمتين :

    إحداهما : قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر .

    والأخرى : جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان - وسائل إلى قلب تلك الأحكام هل يصح شرعا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا ؟

    وهو محل يجب الاعتناء به ، وقبل النظر في الصحة ، أو عدمها لا بد من شرح هذا الاحتيال .

    وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء ، وحرم أشياء إما مطلقا من غير قيد ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج ، وأشباه ذلك ، [ ص: 107 ] وكما حرم الزنا والربا والقتل ، ونحوها ، وأوجب أيضا أشياء مرتبة على أسباب ، وحرم أخر كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك ، وكتحريم المطلقة والانتفاع بالمغصوب ، أو المسروق ، وما أشبه ذلك ، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه ، أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر ، أو المحرم حلالا في الظاهر أيضا .

    فهذا التسبب يسمى حيلة ، وتحيلا كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر فإنها تجب عليه أربعا فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمر ، أو دواء مسبت حتى يخرج وقتها ، وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه ، أو قصرها فأنشأ سفرا ليقصر الصلاة ، وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل ، أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه ، أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج ، وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها ، وزعم أنها ماتت فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك ، أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك ثم وطئها ، أو أراد بيع عشرة دراهم نقدا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة [ ص: 108 ] ثمنا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل ، أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سببا مجهزا كإشراع الرمح ، وحفر البئر ، ونحو ذلك ، وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال ، أو إتلافه ، أو جمع متفرقه ، أو تفريق مجتمعه ، وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام ، وإسقاط الواجب ، ومثله جار في تحريم الحلال كالزوجة ترضع جارية الزوج ، أو الضرة لتحرم عليه ، أو إثبات حق لا يثبت كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين .

    وعلى الجملة فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن كانت الأحكام من خطاب التكليف ، أو من خطاب الوضع .
    [ ص: 109 ] المسألة الحادية عشرة

    الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة ، والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة ، لكن في خصوصيات يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها على القطع .

    فمن الكتاب ما وصف الله به المنافقين في قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر [ البقرة : 8 ] إلى آخر الآيات .

    فذمهم ، وتوعدهم ، وشنع عليهم ، وحقيقة أمرهم أنهم أظهروا كلمة الإسلام إحرازا لدمائهم ، وأموالهم لا لما قصد له في الشرع من الدخول تحت طاعة الله على اختيار ، وتصديق قلبي ، وبهذا المعنى كانوا في الدرك الأسفل من النار ، وقيل فيهم : إنهم يخادعون الله والذين آمنوا [ البقرة : 9 ] .

    وقالوا عن أنفسهم : إنما نحن مستهزئون [ البقرة : 14 ] لأنهم تحيلوا بملابسة الدين ، وأهله إلى أغراضهم الفاسدة .

    وقال تعالى في المرائين بأعمالهم : كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب [ البقرة : 264 ] الآية .

    وقال : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ النساء : 38 ] .

    وقال : يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ النساء : 142 ] فذم ، [ ص: 110 ] وتوعد; لأنه إظهار للطاعة لقصد دنيوي يتوصل بها إليه ، وقال تعالى في أصحاب الجنة : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة الآية إلى قوله : فأصبحت كالصريم [ القلم : 17 - 20 ] لما احتالوا على إمساك حق المساكين بأن قصدوا الصرام في غير وقت إتيانهم عذبهم الله تعالى بإهلاك مالهم .

    وقال : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [ البقرة : 65 ] الآية ، وأشباهها لأنهم احتالوا للاصطياد في السبت بصورة الاصطياد في غيره .

    وقال تعالى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا إلى قوله : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .

    وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها [ ص: 111 ] بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ، ثم يرتجعها ، ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة ، وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها .

    وقد جاء في قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [ البقرة : 228 ] إلى قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] أن الطلاق كان في أول الإسلام إلى غير عدد فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضي عدتها ، ثم يطلقها ، ثم يرتجعها كذلك قصدا .

    فنزلت الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] ، ونزل مع ذلك ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا [ البقرة : 229 ] الآية فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدي منه .

    وهذه كلها حيل على بلوغ غرض لم يشرع ذلك الحكم لأجله ، وقال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] يعني بالورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث ، أو يوصي لوارث احتيالا على حرمان بعض الورثة .

    وقال تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ النساء : 6 ] ، وقوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن [ النساء : 19 ] الآية إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى .

    [ ص: 112 ] ومن الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة فهذا نهي عن الاحتيال لإسقاط الواجب ، أو تقليله .

    وقال : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصارى يستحلون محارم الله بأدنى الحيل .

    وقال : من أدخل فرسا بين فرسين ، وقد أمن أن تسبق فهو قمار .

    وقال : قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها ، وأكلوا أثمانها .

    [ ص: 113 ] وقال : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير .

    ويروى موقوفا على ابن عباس ، ومرفوعا : " يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت [ ص: 114 ] بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنى بالنكاح ، والربا بالبيع " .

    وقال : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء ، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم .

    [ ص: 115 ] [ ص: 116 ] وقال : لعن الله المحلل والمحلل له .

    وقال : لعن الله الراشي والمرتشي .

    [ ص: 117 ] ونهى عن هدية المديان فقال : إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه ، أو حمله على الدابة ، فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه ، وبينه قبل ذلك .

    [ ص: 118 ] وقال : القاتل لا يرث .

    وجعل هدايا الأمراء غلولا ، ونهى عن البيع والسلف .

    وقالت عائشة : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 119 ] إن لم يتب .

    والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كلها دائرة على أن التحيل في قلب الأحكام ظاهرا غير جائز ، وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #98
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (98)
    صـ120 إلى صـ 132

    المسألة الثانية عشرة

    لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك; لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين ، فإذا كان الأمر في ظاهره ، وباطنه على أصل المشروعية ، فلا إشكال ، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح ، وغير مشروع; لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها ، [ ص: 121 ] وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها ، وهي المصالح التي شرعت لأجلها فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات .

    فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة ، وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه ، وإفراده بالتعظيم والإجلال ، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد ، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع ، أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه ، وماله لا لغير ذلك ، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك ، أو ينال به رتبة في الدنيا فهذا العمل ليس من المشروع في شيء; لأن المصلحة التي شرع لأجلها لم تحصل ، بل المقصود به ضد تلك المصلحة ، وعلى هذا نقول في الزكاة مثلا : إن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ، ومصلحة إرفاق المساكين ، وإحياء النفوس المعرضة للتلف ، فمن وهب [ ص: 122 ] في آخر الحول ماله هروبا من وجوب الزكاة عليه ، ثم إذا كان في حول آخر ، أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح ، وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هي الهبة التي ندب الشرع إليها; لأن الهبة إرفاق ، وإحسان للموهوب له ، وتوسيع عليه غنيا كان ، أو فقيرا وجلب لمودته ، ومؤالفته ، وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة .

    فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا ، والقصد غير الشرعي هادم [ ص: 123 ] للقصد الشرعي ، ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما ، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع في المحظور ، فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها ، وبين زوجها ، وهو التسريح بإحسان ، وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مآلا ، فإذا أضر بها لتفتدي منه ، فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار ، فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما حدود الله; لأنه فداء مضطر ، وإن كان جائزا لها من جهة الاضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع .

    وكذلك نقول : إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة ، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص .

    أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصيته ، وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته ، وأقواله واعتقاداته ، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع ، وقد مر بيان هذا فيما تقدم ، فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه ، فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه ، وأمثال ذلك كثيرة .
    [ ص: 124 ] فصل

    فإذا ثبت هذا فالحيل التي تقدم إبطالها ، وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيا ، وناقض مصلحة شرعية .

    فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة ، ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام :

    أحدها : لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين .

    والثاني : لا خلاف في جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراها عليها ، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك ، إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بخلاف الأول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق ، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق; إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع ، فكان باطلا ، ومن هنا جاء في ذم النفاق ، وأهله ما جاء .

    وهكذا سائر ما يجري مجراه ، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع .

    [ ص: 125 ] وأما الثالث فهو محل الإشكال والغموض ، وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول ، أو الثاني ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له ولا ظهر أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه .

    فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعا فيه ، شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة فالتحيل جائز ، أو مخالف فالتحيل ممنوع ، ولا يصح أن يقال : إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع ، بل إنما أجازه بناء على تحري قصده ، وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه ; لأن مصادمة الشارع صراحا علما أو ظنا لا تصدر من عوام المسلمين فضلا عن أئمة الهدى ، وعلماء الدين نفعنا الله بهم .

    كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع في الأحكام من المصالح ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها ، وبالله التوفيق .

    فمن ذلك نكاح المحلل ، فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، فقد نكحت المرأة هذا المحلل ، فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثاني موافقا ، ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده ، بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية .

    وقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك [ ص: 126 ] ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني : ذوق العسيلة ، وقد حصل في المحلل ولو كان قصد التحليل معتبرا في فساد هذا النكاح لبينه - عليه الصلاة والسلام - ولأن كونه حيلة لا يمنعها ، وإلا لزم ذلك في كل حيلة كالنطق بكلمة الكفر للإكراه ، وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق ، فإذا ثبت هذا ، وكان موافقا للمنقول دل على صحة موافقته لقصد الشارع .

    وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة فمصلحة هذا النكاح ظاهرة; لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين; إذ كان تسببا في التآلف بينهما على وجه صحيح ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد ; لأن هذا هو التضييق الذي تأباه الشريعة ولأجله شرع الطلاق ، وهو كنكاح النصارى ، وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة ، وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها إلى غير ذلك .

    وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينا حسبما تقدم كما في نكاح حل اليمين والقائل إن تزوجت فلانة ، فهي طالق على رأي مالك فيهما ، وفي نكاح المسافر ، وغير ذلك .

    هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال : بجواز الاحتيال هنا ، وأما تقرير [ ص: 127 ] الدليل على المنع فأظهر ، فلا نطول بذكره ، وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في شرح الرسالة ، فإليك النظر فيه .

    ومن ذلك مسائل بيوع الآجال ، فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدا بدرهمين إلى أجل ، لكن بعقدين ، كل واحد منهما مقصود في نفسه ، وإن كان الأول ذريعة فالثاني غير مانع ; لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ، ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة ، فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح ، وإلا كان قادحا في جميع الوجوه المشروعة ، وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد ، وإنما مقصوده الثاني ، فالأول إذا منزل منزلة الوسائل والوسائل مقصودة شرعا من حيث هي وسائل ، وهذا منها ، فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل فليجز ما نحن فيه ، وإن منع ما نحن فيه فلتمنع الوسائل على الإطلاق ، لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل ، فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل ، [ ص: 128 ] [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] بل هنا ما يدل على صحة التوسل في مسألتنا وصحة قصد الشارع إليه في قوله - عليه الصلاة والسلام - : بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع ، لكن على وجه مباح ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد ، وعاقدين; إذ لم يفصل النبي - عليه الصلاة والسلام - .

    وقول القائل : إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا ، [ ص: 131 ] فإن الذرائع على ثلاثة أقسام :

    منها ما يسد باتفاق ، كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤد إلى سب الله تعالى ، وكسب أبوي الرجل إذا كان مؤديا إلى سب أبوي الساب ، فإنه عد في الحديث سبا من الساب لأبوي نفسه ، وحفر الآبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها ، وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها .

    ومنها ما لا يسد باتفاق كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه ، أو أدنى من جنسه فيتحيل ببيع متاعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده ، بل كسائر التجارات ، فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها .

    ومنها ما هو مختلف فيه ، ومسألتنا من هذا القسم فلم نخرج عن حكمه بعد والمنازعة باقية فيه .

    وهذه جملة مما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة ، وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة فطالعها في مواضعها ، وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله; إذ كتب الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب ، وكذلك كتب الشافعية ، وغيرهم من أهل المذاهب ، ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا ، وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم ، وتقدمهم في [ ص: 132 ] الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع ، وفهم أغراضه ، وقد وجد هذا كثيرا ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل ، ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #99
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (99)
    صـ133 إلى صـ 142

    فصل

    هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدا ، وقد مر منها فيما تقدم تفريعا على المسائل المقررة كثير ، وسيأتي منه مسائل أخر تفريعا أيضا ولكن لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان ، وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله ، فإن للقائل أن يقول : إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع ، فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له ؟

    والجواب : أن النظر ها هنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام :

    أحدها : أن يقال : إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي ، إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال ، وإما مع القول بمنع وجوب مراعاة المصالح ، وإن وقعت في بعض فوجهها غير معروف لنا على التمام ، أو غير معروف [ ص: 133 ] ألبتة ، ويبالغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس ، ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس ، وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا ، وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص ولعله يشار إليه في كتاب القياس إن شاء الله ، فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على إطلاقه كما قالوا .

    والثاني في الطرف الآخر من هذا إلا أنه ضربان :

    الأول : دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها ، وإنما المقصود أمر آخر وراءه ، ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع ، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة ، وهم الباطنية فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم ، ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله والأولى أن لا يلتفت إلى قول هؤلاء .

    فلننزل عنه إلى قسم آخر يقرب من موازنة الأول ، وهو الضرب الثاني ، بأن يقال : إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق ، فإن خالف النص المعنى النظري اطرح ، وقدم المعنى النظري ، وهو إما بناء على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق ، أو على عدم الوجوب ، لكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية ، وهو رأي المتعمقين [ ص: 134 ] في القياس المقدمين له على النصوص ، وهذا في طرف آخر من القسم الأول .

    والثالث : أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس لتجري الشريعة على نظام واحد ، لا اختلاف فيه ولا تناقض ، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع .

    فنقول ، وبالله التوفيق : إنه يعرف من جهات : إحداها :

    مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي ، فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرا لاقتضائه الفعل ، فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع ، وكذلك النهي معلوم أنه مقتض لنفي الفعل ، أو الكف عنه فعدم وقوعه مقصود له ، وإيقاعه مخالف لمقصوده كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده ، فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة ولمن اعتبر العلل والمصالح ، وهو الأصل الشرعي .

    وإنما قيد بالابتدائي تحرزا من الأمر ، أو النهي الذي قصد به غيره كقوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، فإن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدأ ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني .

    فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول كما نهي عن الربا والزنا مثلا ، بل لأجل تعطيل السعي عند الاشتغال به ، وما شأنه هذا ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف منشؤه من أصل المسألة المترجمة بالصلاة في [ ص: 135 ] الدار المغصوبة .

    وإنما قيد بالتصريحي تحرزا من الأمر ، أو النهي الضمنى الذي ليس بمصرح به كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء ، فإن النهي والأمر ها هنا إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول; إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر ، أو النهي المصرح به .

    فأما إن قيل بالنفي فالأمر أوضح في عدم القصد ، وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور إلا به ، المذكور في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به .

    فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه فليس داخلا فيما نحن فيه ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي .

    والثانية : اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أمر بهذا الفعل ؟ ولماذا نهي عن هذا الآخر ؟

    والعلة إما أن تكون معلومة أو لا ، فإن كانت معلومة اتبعت فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد ، أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه والحدود لمصلحة الازدجار ، وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه ، فإذا تعينت علم أن [ ص: 136 ] مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل ، أو عدمه ، ومن التسبب ، أو عدمه ، وإن كانت غير معلومة ، فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا ، وكذا إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر .

    أحدهما : أن لا يتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين ، أو السبب المعين; لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل ، وضلال على غير سبيل ولا يصح الحكم على زيد بما وضع حكما على عمرو ، ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أو لا; لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكما عليه فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع فالتوقف هنا لعدم الدليل .

    والثاني : أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي; لأن عدم نصبه دليلا على التعدي دليل على عدم التعدي; إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا ، ووضع له مسلكا ، ومسالك العلة معروفة ، وقد خبر بها محل الحكم ، فلم توجد له علة [ ص: 137 ] يشهد لها مسلك من المسالك فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع .

    فهذان مسلكان كلاهما متجه في الموضع إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد ، ويقتضي هذا إمكان أنه مراد فيبقى الناظر باحثا حتى يجد مخلصا; إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع ، ويمكن أن لا يكون مقصودا له ، والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد فينبني عليه نفي التعدي من غير توقف ، ويحكم به علما ، أو ظنا بأنه غير مقصود له; إذ لو كان مقصودا لنصب عليه دليلا ولما لم نجد ذلك دل على أنه غير مقصود ، فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ، ثم يطلع بعد على دليل ينسخ جزمه إلى خلافه .

    فإن قيل : فهما مسلكان متعارضان; لأن أحدهما يقتضي التوقف والآخر لا يقتضيه ، وهما في النظر سواء ، فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما ، فلا يبقى إلا التوقف ، وحده فكيف يتجهان معا ؟

    فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل ، فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين ، وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدين ، أو مجتهد واحد في وقتين ، أو مسألتين فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة ، ومسلك النفي في مسألة أخرى ، فلا تعارض على الإطلاق .

    [ ص: 138 ] وأيضا فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات ، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد ، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني والعكس في البابين قليل ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق ، وفي رفع الأحداث النية ، وإن حصلت النظافة دون ذلك وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه ، أو ما ماثله .

    وغلب في باب العادات المعنى فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال فيه : إنه تسعة أعشار العلم إلى ما يتبع ذلك ، وقد مر الكلام في هذا والدليل عليه ، وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات ، ومسلك التوقف متمكن في العادات .

    وقد يمكن أن تراعى المعاني في باب العبادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، وهي طريقة الحنفية ، والتعبدات في باب العادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، وهي طريقة الظاهرية ولكن العمدة ما [ ص: 139 ] تقدم ، وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة .

    والجهة الثالثة أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة .

    مثال ذلك : النكاح ، فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول ، ويليه طلب السكن والازدواج ، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء والتجمل بمال المرأة أو قيامها عليه ، وعلى أولاده منها ، أو من غيرها ، أو إخوته ، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين ، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد ، وما أشبه ذلك ، فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح ، فمنه منصوص عليه ، أو مشار إليه ، ومنه ما علم بدليل آخر ، ومسلك استقرئ من ذلك المنصوص ، وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي ، ومقو لحكمته ، ومستدع لطلبه ، وإدامته ، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل ، فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا كما روي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبا لشرف النسب ، ومواصلة أرفع البيوتات ، وما أشبه ذلك ، فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ ، وأن قصد التسبب له حسن .

    وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق [ ص: 140 ] من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة كما إذا نكحها ليحلها لمن طلقها ثلاثا ، فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط; إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق ، وكذلك نكاح المتعة وكل نكاح على هذا السبيل ، وهو أشد في ظهور محافظة الشارع على دوام المواصلة حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك .

    وهكذا العبادات ، فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود ، وإفراده بالقصد إليه على كل حال ، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة ، أو ليكون من أولياء الله تعالى ، وما أشبه ذلك ، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول ، وباعثة عليه ، ومقتضية للدوام فيه سرا وجهرا بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده كالتعبد بقصد حفظ المال والدم ، أو لينال من أوساخ الناس ، أو من تعظيمهم كفعل المنافقين والمرائين ، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام ، بل هو مقو للترك ، ومكسل عن الفعل ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلا ريثما يترصد به مطلوبه ، فإن بعد عليه تركه ، قال الله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف [ الحج : 11 ] الآية .

    فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله ، وإن كان [ ص: 141 ] مقتضاه حاصلا بالتبعية من غير قصد ، فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له الفراق فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل والمتعبد لله على القصد المؤكد ، يحصل له حفظ الدم والمال ، ونيل المراتب والتعظيم فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة ولكن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن قاصد التابع المؤكد حر بالدوام ، وقاصد التابع غير المؤكد حر بالانقطاع .

    فإن قيل : هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي عينا أم يكتفى فيها بكونها لا تقتضي الموافقة ؟

    وبيان ذلك أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينا ، فلا يصح; لأن مخالفته لقصد الشارع عينية ، ونكاح القاصد لمضارة الزوجة ، أو لأخذ مالها ، أو ليوقع بها ، وما أشبه ذلك ما لا يقتضي مواصلة ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة - مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح ولكنه لا يقتضي المخالفة عينا; إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح ، أو الحكم على الزوج ، أو زوال ذلك الخاطر السببي ، وإن كان القصد الأول مقتضيا فليس اقتضاؤه عينيا .

    فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها ، وبطلان مقتضاها مطلقا في العبادات والعادات معا ، فلا يصح أن يتعبد لله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد ، وإن أمكن كونه مشروعا في نفس الأمر ، وكذلك لا يصح له أن يتزوج بذلك القصد ، وأما ما لا يقتضي المخالفة عينا كالنكاح بقصد المضارة ، وكنكاح التحليل عند من يصححه ، فإن هنا وجهين من النظر ، فإن القصد ، وإن كان غير موافق لم يظهر فيه عين المخالفة ، فمن ترجح عنده جانب [ ص: 142 ] عدم الموافقة منع ، ومن ترجح عنده جانب عدم تعين المخالفة لم يمنع ، ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة ، فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع .

    فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه ، وهو في البقاء ، أو الفرقة ممكن إلا أن المضارة مظنة للتفرق فمن اعتبر هذا المقدار منع ، ومن لم يعتبره أجاز .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #100
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (100)
    صـ143 إلى صـ 152

    فصل

    وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معا .

    أما في العادات فهو ظاهر ، وقد مر منه أمثلة ، وأما في العبادات ، فقد ثبت ذلك فيها .

    فالصلاة مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه ، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه ، وتذكير النفس بالذكر له ، قال تعالى : وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ] ، وقال : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [ العنكبوت : 45 ] .

    وفي الحديث : إن المصلي يناجي ربه .

    ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها [ ص: 143 ] من أنكاد الدنيا ، في الخبر أرحنا بها يا بلال ، وفي الصحيح وجعلت قرة عيني في الصلاة ، وطلب الرزق بها قال الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .

    وفي الحديث تفسير هذا المعنى ، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة ، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهي الفائدة العامة الخاصة ، وكون المصلي في خفارة الله .

    في الحديث من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله ، ونيل أشرف المنازل قال تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] فأعطي بقيام الليل المقام المحمود .

    وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة ، في الحديث : من استطاع منكم الباءة فليتزوج .

    ثم قال : ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء [ ص: 144 ] وقال : الصيام جنة ، وقال : ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان .

    وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية ، وهي العامة ، وفوائد دنيوية ، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية ، وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم ، وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها ، وسواها ، وهي تابعة فينظر فيها بحسب التقسيم المتقدم .

    فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام ، أو الخاص ، وضده كطلب المال والجاه ، فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي ، بل هو على خلاف ذلك .

    والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام ، وسائر [ ص: 145 ] ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ ، وينبغي تحقيق النظر فيها ، وفي الثاني : المقتضي لعدم التأكد ، وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينا ، وما لا يقتضيه عينا .

    وأيضا فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع ، وحلى يحليه بها ، وأول ذلك الثواب في الآخرة من الفوز بالجنة والدرجات العلى ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته; كان التعبد لله من جهته صحيحا لا دخل فيه ولا شوب; لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له ، وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء ، فقد مر الكلام عليه ، ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد ، أو يعظم ، أو يعطى فهذا عامل على الرياء ولا يثبت فيه كما تقدم .

    وأيضا فإن عمله على غير أصالة; إذ لا إخلاص فيه فهو عبث ، وإن فرض خالصا لله ، لكن قصد به حصول هذه النتيجة فليس هذا القصد بمقو للإخلاص لله ، بل هو مقو لترك الإخلاص .

    اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء فيسأل من الله العطاء ، ويسأل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب ، ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس ، فلا إشكال في صحة هذا ، فإنه عمل مقتض لما شرع له التعبد ، ومقو له ، وأصله قول الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [ طه : 132 ] .

    [ ص: 146 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورزقه أمرهم بالصلاة لأجل هذه الآية .

    فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله ، وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي ، وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبت عدالته ، وتصح إمامته وليقتدى به إذا كان مأمورا شرعا بذلك لتوفر شروطه فيه ، وعدم من يقوم ذلك المقام ، فلا بأس به عندهما; لأنه قائم بما أمر به ، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة بخلاف من يقصد نفس ثبوت العدالة عند الناس ، أو الإمامة ، أو نحو ذلك ، فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة; لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة .

    ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية ، أو العلم ، أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران ، ودليل الجواز قوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما [ الفرقان : 74 ] ، وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا ، وكذا .

    [ ص: 147 ] وانظر في مسألة العتبية ترى أن اختلاف مالك ، وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين .

    ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة ، وخوارق العادات ، ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية ، وما أشبه ذلك فلقائل أن يقول : إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز ، وسائغ; لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية ، وأن يكون من خواص الله ، ومن المصطفين من الناس ، وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه ، ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا ولا فرق .

    وقد يقال : إنه خارج عن نمط ما تقدم ، فإنه تخرص على علم الغيب ، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك ، وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة; لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية [ الحج : 11 ] .

    كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار هو قصده من التعبد فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة ، وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين ، وقد روي أن [ ص: 148 ] بعض الناس سمع بحديث : من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له [ ص: 149 ] بابها ، فبلغت القصة بعض الفضلاء ، فقال : هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله ، وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة ، ونحوها ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور ، بل ثم ما يدل على خلاف ذلك ، فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه ولا حض على الوصول إليه .

    وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا ، ثم يصير إلى حالته الأولى ؟ فنزلت : [ ص: 150 ] يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] الآية فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال; لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه .

    ولا يقال : إن المعرفة بالله ، وبصفاته ، وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته ، ومن جملتها العوالم الروحانية ، وخوارق العادات فيها تقوية للنفس واتساع في درجة العلم بالله تعالى; لأنا نقول : إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات ، وما في عالم الشهادة كاف ، وفوق الكفاية فالزيادة على ذلك فضل ، وأيضا إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] الآية ، فإن الجواب عن ذلك من وجوه :

    أحدها : أن طلب الخوارق بالدعاء وطلب فتح البصيرة للعلم به لا نكير فيه ، وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ، ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء ، فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعا ما لم يدع بمعصية ، والعبادة إنما القصد بها التوجه لله ، وإخلاص العمل له والخضوع بين يديه ، فلا تحتمل الشركة ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل [ ص: 151 ] لله في العبادة لما ساغ القصد إليه بالعبادة مع أن كثيرا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد ، فكيف يجعلان مثلين ؟ أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة ، ما أبعد ما بينهما لمن تأمل .

    والثاني : أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار ولو نظر العاقل في أقل الآيات ، وأذل المخلوقات ، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه ، وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [ الأعراف : 185 ] أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت [ الغاشية : 17 - 18 ] إلى آخرها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •