تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 11 الأولىالأولى 1234567891011 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 210

الموضوع: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الاول
    الحلقة (41)
    صـ539 إلى صـ 550


    المسألة التاسعة

    أسباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ، ومقصوده الرفع ; لأن تلك الأسباب راجعة إلى منع انحتام العزائم التحريمية أو الوجوبية ، فهي : إما موانع للتحريم أو التأثيم ، وإما أسباب لرفع الجناح أو إباحة ما ليس بمباح ، فعلى كل تقدير إنما هي موانع لترتب أحكام العزائم مطلقا ، وقد تبين في الموانع أنها غير مقصودة الحصول ولا الزوال للشارع ، وأن من قصد إيقاعها رفعا لحكم السبب المحرم أو الموجب ; ففعله غير صحيح ، ويجري فيه [ ص: 539 ] التفصيل المذكور في الشروط ; فكذلك الحكم بالنسبة إلى أسباب الرخص ، من غير فرق .
    المسألة العاشرة

    إذا فرعنا على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة ، صارت العزيمة معها من الواجب المخير ; إذ صار هذا المترخص يقال له : إن شئت فافعل العزيمة ، وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة ، وما عمل منهما فهو الذي واقع واجبا في حقه ، على وزان خصال الكفارة ; فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة .

    وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج ، فليست الرخصة معها من ذلك الباب ; لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير ; ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب ، وإذا كان كذلك ; تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع ، فإذا فعل العزيمة لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق ، لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة ، وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة ; فذلك بالقصد الثاني ، والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة .

    والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ الحكم بينتان ، إحداهما في نفس الأمر عادلة ، والأخرى غير عادلة ; فإن العزيمة عليه أن يحكم بما أمر به من أهل العدالة في قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] .

    [ ص: 540 ] وقال : ممن ترضون من الشهداء .

    فإن حكم بأهل العدالة ; أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين ، وإن حكم بالأخرى فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس الأمر ، وله أجر في اجتهاده ، وينفذ ذلك الحكم على المتحاكمين كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين ، فكما لا يقال في الحاكم : إنه مخير بين الحكم بالعدل ، والحكم بمن ليس بعدل ; كذلك لا يقال هنا : إنه مخير مطلقا بين العزيمة والرخصة .

    فإن قيل : كيف يقال إن شرع الرخص بالقصد الثاني ؟ وقد ثبتت قاعدة رفع الحرج مطلقا بالقصد الأول ; كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .

    وجاء بعد تقرير الرخصة : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .

    قيل : كما يقال : إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد الأول ، وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني ، مع قوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها [ الروم : 21 ] .

    وقوله : وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ الأعراف : 189 ] .

    وأيضا ; فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير عليه ، مع [ ص: 541 ] كون الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة ; فهو تيسير أيضا ورفع حرج .

    وأيضا ; فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات ; فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة ، وهو مقتضى قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .

    ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة ; ، ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات ; فكذلك نقول في محال الرخص : إنها ليست بكليات ، وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ بالعزيمة أو الرخصة .

    فإذا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد الأول ، والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية ; إن قصده الشارع بالرخصة ; فمن جهة القصد الثاني ، والله أعلم .
    المسألة الحادية عشرة

    إذا اعتبرنا العزائم مع الرخص ; وجدنا العزائم مطردة مع العادات الجارية ، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد .

    أما الأول ; فظاهر ، فإنا وجدنا الأمر بالصلاة على تمامها في أوقاتها ، [ ص: 542 ] وبالصيام في وقته المحدود له أولا ، وبالطهارة المائية ، على [ حسب ] ما جرت به العادة : من الصحة ، ووجود العقل ، والإقامة في الحضر ، ووجود الماء ، وما أشبه ذلك ، وكذلك سائر العادات والعبادات ; كالأمر بستر العورة مطلقا أو للصلاة ، والنهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها ، إنما أمر بذلك كله ونهي عنه عند وجود ما يتأتى به امتثال الأمر واجتناب النهي ، ووجود ذلك هو المعتاد على العموم التام أو الأكثر ولا إشكال فيه .

    وأما الثاني : فمعلوم أيضا من حيث علم الأول ، فالمرض والسفر وعدم الماء أو الثوب أو المأكول ، مرخص لترك ما أمر بفعله أو فعل ما أمر بتركه ، وقد مر تفصيل ذلك فيما مر من المسائل ، ولمعناه تقرير آخر مذكور في موضعه من كتاب " المقاصد " بحمد الله .

    إلا أن انخراق العوائد على ضربين :

    عام ، وخاص ; فالعام ما تقدم ، والخاص كانخراق العوائد للأولياء إذا عملوا بمقتضاها ; فذلك إنما يكون في الأكثر على حكم الرخصة ; كانقلاب الماء لبنا ، والرمل سويقا ، والحجر ذهبا ، وإنزال الطعام من السماء أو إخراجه من الأرض ; فيتناول المفعول له ذلك [ ص: 543 ] ويستعمله ; فإن استعماله له رخصة لا عزيمة ، والرخصة كما تقدم لما كان الأخذ بها مشروطا بأن لا يقصدها ولا يتسبب فيها لينال تخفيفها ; كان الأمر فيها كذلك ; إذ كان مخالفة هذا الشرط مخالفة لقصد الشارع ; إذ ليس من شأنه أن يترخص ابتداء ، وإنما قصده في التشريع أن سبب الرخصة إن وقع توجه الإذن في مسببه كما مر ; فهاهنا أولى ; لأن خوارق العادات لم توضع لرفع أحكام العبودية ، وإنما وضعت لأمر آخر ، فكان القصد إلى التخفيف من جهتها قصدا إليها لا إلى ربها ، وهذا مناف لوضع المقاصد في التعبد لله تعالى .

    وأيضا ; فقد ذكر في كتاب " المقاصد " أن أحكام الشريعة عامة لا خاصة ، بمعنى أنها عامة في كل مكلف ، لا خاصة ببعض المكلفين دون بعض ، والحمد لله .

    ولا يعترض على هذا الشرط بقصد النبي - صلى الله عليه وسلم ـ لإظهار الخارق كرامة ومعجزة ; لأنه عليه الصلاة والسلام إنما قصد بذلك معنى شرعيا مبرأ من طلبه حظ النفس ، وكذلك نقول : إن للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي لا لحظ نفسه ، ويكون هذا القسم خارجا عن حكم الرخصة بأن يكون بحسب القصد ، وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال ، حسبما دل عليه الاستقراء ، فأما إذا لم يكن هذا ; فالشرط معتبر بلا إشكال ، وليس بمختص بالعموم ، بل هو في الخصوص أولى .

    فإن قيل : الولي إذا انخرقت له العادة فلا فرق بينه وبين صاحب العادة على الجملة ; فإن الذي هيئ له الطعام أو الشراب أو غيره من غير سبب عادي مساو لمن حصل له ذلك بالتكسب العادي ، فكما لا يقال في صاحب التكسب العادي : إنه في التناول مترخص ، كذلك لا يقال في صاحب انخراق العادة ; [ ص: 544 ] إذ لا فرق بينهما ، وهكذا سائر ما يدخل تحت هذا النمط .

    فالجواب من وجهين :

    أحدهما : إن الأدلة المنقولة دلت على ترك أمثال هذه الأشياء لا إيجابا ، ولكن على غير ذلك ; فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير بين الملك والعبودية ; فاختار العبودية ، وخير في أن تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة ; فلم يختر ذلك ، وكان [ ص: 545 ] عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة فلو شاء [ له ] لدعا بما يحب فيكون ، فلم يفعل ، بل اختار الحمل على مجاري العادات : يجوع يوما فيتضرع إلى ربه ، ويشبع يوما فيحمده ، ويثني عليه ; حتى يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر ، وكثيرا ما كان عليه الصلاة والسلام يري أصحابه من ذلك في مواطن ما فيه شفاء في تقوية اليقين وكفاية من أزمات الأوقات ، وكان عليه الصلاة والسلام يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ، ومع ذلك لم يترك التكسب لمعاشه ومعاش أهله ، فإذا كانت الخوارق في حقه متأتية ، والطلبات محضرة له ; حتى قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما أرى الله إلا يسارع في هواك ، وكان ـ لما أعطاه الله من شرف المنزلة - متمكنا منها فلم يعول إلا على مجاري العادات في الخلق ، كان ذلك أصلا لأهل الخوارق والكرامات عظيما في أن لا يعملوا على ما اقتضته الخوارق ، ولكن لما لم يكن ذلك حتما على الأنبياء ; لم يكن [ ص: 546 ] حتما على الأولياء ; لأنهم الورثة في هذا النوع .

    والثاني : [ إن ] فائدة الخوارق عندهم تقوية اليقين ، ويصحبها الابتلاء الذي هو لازم للتكاليف كلها ، وللمكلفين أجمعين في مراتب التعبد ; فكانت كالمقوي لهم على ما هم عليه ; لأنها آيات من آيات الله تعالى ، برزت على عموم العادات ، حتى يكون لها خصوص في الطمأنينة ; كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى الآية [ البقرة : 260 ] ، وكما قال نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما حكى الله تعالى فراق موسى للخضر : يرحم الله أخي موسى ، وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما فإذا كانت هذه [ ص: 547 ] فائدتها ; كان ما ينشأ عنها مما يرجع إلى حظوظ النفس كالصدقة الواردة على المحتاج ; فهو في التناول والاستعمال بحكم الخيرة ; فإن تكسب وطلب حاجته من الوجه المعتاد ; صار كمن ترك التصدق عليه وتكسب فرجع إلى العزيمة العامة ، وإن قبل الصدقة ; فلا ضرر عليه لأنها وقعت موقعها .

    وأيضا ; فإن القوم علموا أن الله وضع الأسباب والمسببات ، وأجرى العوائد فيها تكليفا وابتلاء ، وإدخالا للمكلف تحت قهر الحاجة إليها ، كما وضع له العبادات تكليفا وابتلاء أيضا ; فإذا جاءت الخارقة لفائدتها التي وضعت لها كان في ضمنها رفع لمشقة التكليف بالكسب وتخفيف عنه ، فصار قبوله لها من باب قبول الرخص من حيث كانت رفعا لمشقة التكليف [ بالكسب وتخفيفا عنه ] فمن هنا صار حكمها حكم الرخص ومن حيث كانت ابتلاء أيضا فيها شيء آخر ، وهو أن تناول مقتضاها ميل ما إلى جهتها ، ومن شأن أهل العزائم في السلوك عزوب أنفسهم عن غير الله ، كما كانت النعم العادية الاكتسابية ابتلاء أيضا ، وقد تقرر أن جهة التوسعة على الإطلاق إنما أخذوها مآخذ [ ص: 548 ] الرخص كما تبين وجهه ، فهذا من ذلك القبيل ; فتأمل كيف صار قبول مقتضى الخوارق رخصة من وجهين ! فلأجل هذا لم يستندوا إليها ، ولم يعولوا عليها من هذه الجهة ، بل قبلوها واقتبسوا منها ما فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله ، وتركوا منها ما سوى ذلك ; إذ كانت مع أنها كرامة وتحفة ; تضمنت تكليفا وابتلاء .

    وقد حكى القشيري من هذا المعنى : فروى عن أبي الخير البصري أنه كان بعبادان رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات ; قال : فحملت معي شيئا وطلبته ، فلما وقعت عينه علي تبسم ، وأشار بيده إلى الأرض ، فرأيت الأرض كلها ذهبا تلمع ، ثم قال : هات ما معك ، فناولته ، وهالني أمره وهربت .

    وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شاطئ دجلة ; فوجدها وقد التزق الشطان ، فانصرف وقال : وعزتك لا أجوزها إلا في زورق .

    وعن سعيد بن يحيى البصري ; قال : أتيت عبد الرحمن بن زيد وهو جالس في ظل ، فقلت له : لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل . فقال : ربي أعلم بمصالح عباده ، ثم أخذ حصى من الأرض ، ثم قال : اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا فعلت ، فإذا هي والله في يده ذهب ، فألقاها إلي [ ص: 549 ] وقال : أنفقها أنت ; فلا خير في الدنيا إلا للآخرة .

    بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها ، والتشوف إليها ، كما يحكى عن أبي يزيد البسطامي ، ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة ، وواردة من جهة مجرد الإنعام ; فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات ; فكيف يتشوف إلى خارقة ، ومن بين يديه ، ومن خلفه ، ومن فوقه ، ومن تحته مثلها ، مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مر في الشواهد ، وعدوا من ركن إليها مستدرجا ، من حيث كانت ابتلاء لا من جهة كونها آية أو نعمة .

    حكى القشيري عن أبي العباس الشرفي ; قال : كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة ، فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابنا : أنا عطشان . فضرب برجله الأرض ، فإذا عين ماء زلال ; فقال الفتى : أحب أن أشربه بقدح ، فضرب بيده إلى الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت فشرب وسقانا ، وما زال القدح معنا إلى مكة ; فقال لي أبو تراب يوما : ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده ؟ فقلت : ما رأيت أحدا إلا وهو يؤمن بها ، فقال : من لا يؤمن بها فقد كفر ، إنما سألتك من طريق الأحوال ، فقلت : ما أعرف لهم قولا فيه ، فقال : [ ص: 550 ] بل قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق ، وليس الأمر كذلك ; إنما الخدع في حال السكون إليها فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها فتلك مرتبة الربانيين .

    وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة ، لا في حكم العزيمة ; فليتفطن لهذا المعنى فيها ; فإنه أصل ينبني عليه فيها مسائل : منها أنها من جملة الأحوال العارضة للقوم ، والأحوال من حيث هي أحوال لا تطلب بالقصد ، ولا تعد من المقامات ، ولا هي معدودة في النهايات ، ولا هي دليل على أن صاحبها بالغ مبلغ التربية والهداية ، والانتصاب للإفادة ، كما أن المغانم في الجهاد لا تعد من مقاصد الجهاد الأصلية ، ولا هي دليل على بلوغ النهاية ، والله أعلم .

    الاستدراكات

    ( استداراك 1 ) : ذكره عنه ابن كثير في " تفسيره " ( 1 \ 212 ، البقرة : 173 ) ، وقال : " وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة ، قال أبو الحسن الطبري المعروف بـ ( ألكيا الهراسي ) رفيق الغزالي في الاشتغال : وهذا هو الصحيح عندنا كالإفطار للمريض ونحو ذلك " . ( استدراك 2 ) : كذا في ( ط ) ، و " الناسخ والمنسوخ " ( 1 \ 171 ) ، لابن العربي ، وفي سائر النسخ : " رجاء الأبدية " . ( استدارك 3 ) : قلت : أخرج سبب النزول المذكور البخاري في " صحيحه " ( كتاب التفسير ، باب ليس عليكم جناح ، 8 \ 186 \ رقم 4519 ) ، وأبو داود في " السنن " ، ( 2 \ 75 ) ، والحاكم في " المستدرك " ( 2 \ 277 ) ، وابن جرير في " التفسير " ، ( 2 \ 273 ) ، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما . ( استدراك 4 ) : عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيدفعون مفاتيحهم إلى ضمنائهم ـ الضمن : الزمن المبتلى ـ ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما أحببتم ، فكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أنهم أذنوا عن غير طيب نفس ؛ فأنزل الله ـ عز وجل ـ : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم إلى قوله : أو ما ملكتم مفاتحه ، رواه البزار في " مسنده " ؛ كما في " كشف الستار " ( رقم 2241 ) ، ورجاله رجال الصحيح ؛ كما في " المجمع " ( 7 \ 83 ) ، وقال السيوطي في " لباب النقول : " سنده صحيح " ، وقال ابن حجر في " مختصر زوائد البزار " ( 2 \ 97 \ رقم 1490 ) : " صحيح " .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (42)
    صـ7 إلى صـ 23



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

    كتاب المقاصد

    والمقاصد التي ينظر فيها قسمان :

    أحدهما يرجع إلى قصد الشارع .

    [ ص: 8 ] والآخر يرجع إلى قصد المكلف .

    فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء ، ومن جهة قصده في وضعها للأفهام ، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها ، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها; فهذه أربعة أنواع .

    ولنقدم قبل الشروع في المطلوب .

    [ ص: 9 ] مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع :

    وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا ، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا ، وليس هذا موضع ذلك ، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام ، وزعم الفخر الرازي : أن [ ص: 10 ] [ ص: 11 ] أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة ، كما أن أفعاله كذلك ، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد ، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين ، ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية; أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة ، [ ص: 12 ] ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة .

    والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره ، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ النساء : 165 ] ، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] .

    وقال في أصل الخلقة : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] ، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] .

    وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة; فأكثر من أن تحصى كقوله بعد آية الوضوء : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم [ المائدة : 6 ] .

    وقال في الصيام : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 183 ] .

    وفي الصلاة : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ العنكبوت : 45 ] .

    [ ص: 13 ] وقال في القبلة : فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة [ البقرة : 150 ] .

    وفي الجهاد : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [ الحج : 39 ] .

    وفي القصاص : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .

    وفي التقرير على التوحيد : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [ الأعراف : 172 ] ، والمقصود التنبيه .

    وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة ، ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد; فلنجر على مقتضاه - ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه - ; فنقول والله المستعان :
    [ ص: 14 ] [ ص: 15 ] القسم الأول

    مقاصد الشارع

    [ ص: 16 ] [ ص: 17 ] النوع الأول

    في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة وفيه مسائل :

    المسألة الأولى

    تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق ، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام :

    أحدها : أن تكون ضرورية .

    والثاني : أن تكون حاجية .

    والثالث : أن تكون تحسينية .

    فأما الضرورية; فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، [ ص: 18 ] بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم ، والرجوع بالخسران المبين .

    والحفظ لها يكون بأمرين :

    أحدهما : ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود .

    والثاني : ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم .

    فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود; كالإيمان ، [ ص: 19 ] والنطق بالشهادتين ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، وما أشبه ذلك .

    والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا; كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات ، وما أشبه ذلك .

    والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود ، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا ، لكن بواسطة العادات .

    والجنايات - ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ترجع إلى [ ص: 20 ] حفظ الجميع من جانب العدم .

    والعبادات والعادات قد مثلت ، والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره; كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع ، والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال ، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ، ويتلافى تلك المصالح; كالقصاص ، والديات للنفس ، والحد للعقل ، وتضمين قيم الأموال للنسل ، والقطع والتضمين للمال ، وما أشبه ذلك .

    ومجموع الضروريات خمسة ، وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال ، والعقل ، وقد قالوا : إنها مراعاة في كل ملة .

    [ ص: 21 ] وأما الحاجيات; فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراع دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة ، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة .

    وهي جارية في العبادات ، والعادات ، والمعاملات ، والجنايات :

    ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض [ ص: 22 ] والسفر ، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال ، مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا ، وما أشبه ذلك .

    وفي المعاملات; كالقراض ، والمساقاة ، والسلم ، وإلقاء التوابع في العقد على المتبوعات ، كثمرة الشجر ، ومال العبد .

    وفي الجنايات; كالحكم باللوث ، والتدمية ، والقسامة ، وضرب الدية على العاقلة ، وتضمين الصناع ، وما أشبه ذلك .

    وأما التحسينات; فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق .

    وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان :

    ففي العبادات; كإزالة النجاسة - وبالجملة الطهارات كلها - ، وستر العورة ، وأخذ الزينة ، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات ، وأشباه ذلك .

    [ ص: 23 ] وفي العادات; كآداب الأكل والشرب ، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات ، والإسراف والإقتار في المتناولات .

    وفي المعاملات; كالمنع من بيع النجاسات ، وفضل الماء والكلأ ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة ، وسلب المرأة منصب الإمامة ، وإنكاح نفسها ، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير ، وما أشبهها .

    وفي الجنايات; كمنع قتل الحر بالعبد ، أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد .

    وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية ، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي ، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (42)
    صـ24 إلى صـ 43



    المسألة الثانية

    كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة ، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية .

    فأما الأولى; فنحو التماثل في القصاص; فإنه لا تدعو إليه ضرورة ولا تظهر فيه شدة حاجة ، ولكنه تكميلي ، وكذلك نفقة المثل ، وأجرة المثل ، وقراض المثل ، والمنع من النظر إلى الأجنبية ، وشرب قليل المسكر ، ومنع الربا ، والورع اللاحق في المتشابهات ، وإظهار شعائر الدين ، كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن ، وصلاة الجمعة ، والقيام بالرهن والحميل والإشهاد في البيع إذا قلنا : إنه من الضروريات .

    [ ص: 25 ] وأما الثانية; فكاعتبار الكفء ، ومهر المثل في الصغيرة ، فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة ، وإن قلنا إن البيع من باب الحاجيات; فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة ، ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله; فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة ، إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف .

    وأما الثالثة; فكآداب الأحداث ، ومندوبات الطهارات ، وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة ، والإنفاق من طيبات المكاسب ، والاختيار في الضحايا والعقيقة والعتق ، وما أشبه ذلك .

    ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات ، وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات; فإن الضروريات هي أصل المصالح حسب ما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى .
    [ ص: 26 ] المسألة الثالثة

    كل تكملة فلها - من حيث هي تكملة - شرط ، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال ، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها; فلا يصح اشتراطها عند ذلك; لوجهين :

    أحدهما : أن في إبطال الأصل إبطال التكملة; لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف ، فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف; لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا ، فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها ، وهذا محال لا يتصور ، وإذا لم يتصور ، لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من غير مزيد .

    والثاني : أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت .

    وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلي ، وحفظ المروءات مستحسن ، فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس ; كان تناوله أولى .

    وكذلك أصل البيع ضروري ، ومنع الغرر والجهالة مكمل ، فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع ، وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية ، [ ص: 27 ] واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات ، ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر; منع من بيع المعدوم إلا في السلم ، وذلك في الإجارات ممتنع فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها ، والإجارة محتاج إليها; فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد ومثله جار في الاطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما .

    وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه ، قال مالك : لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين ، فالجهاد ضروري ، والوالي فيه ضروري ، والعدالة فيه مكملة للضرورة ، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    [ ص: 28 ] اوكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء ; فإن في ترك ذلك [ ص: 29 ] ترك سنة الجماعة ، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة ، والعدالة مكملة لذلك المطلوب ، ولا يبطل الأصل بالتكملة .

    ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها ، فإذا أدى طلبه إلى أن لا تصلى - كالمريض غير القادر - سقط المكمل ، أو كان في إتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل ، وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة ، وستر العورة من باب محاسن الصلاة ، فلو طلب على الإطلاق; لتعذر أداؤها على من [ ص: 30 ] لم يجد ساترا إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر ، كلها جار على هذا الأسلوب .

    وانظر فيما قاله الغزالي في الكتاب المستظهري في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة ، واحمل عليه نظائره .
    [ ص: 31 ] المسألة الرابعة

    المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية .

    فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق ، ولا يلزم من اختلالهما أو اختلال أحدهما اختلال الضروري بإطلاق ، نعم ، قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما ، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما ، فلذلك إذا حوفظ على الضروري ، فينبغي المحافظة على الحاجي ، وإذا حوفظ على الحاجي ، فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي ، وأن الحاجي يخدم الضروري; فإن الضروري هو المطلوب .

    فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها :

    أحدها : أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي .

    والثاني : أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق .

    والثالث : أنه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضروري بإطلاق .

    والرابع : أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما .

    والخامس : أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني [ ص: 32 ] للضروري .

    بيان الأول : أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم ، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها ، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود - أعني : ما هو خاص بالمكلفين والتكليف - ، وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك .

    فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى ولو عدم المكلف لعدم من يتدين ، ولو عدم العقل لارتفع التدين ، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء ، ولو عدم المال لم يبق عيش - وأعني بالمال ما يقع عليه الملك واستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها ، وما يؤدي إليها من جميع المتمولات ، فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء ، وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا ، وأنها زاد للآخرة .

    وإذا ثبت هذا; فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى ، إذ هي تتردد على الضروريات ، تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشقات ، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور; حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط .

    وذلك مثل ما تقدم في اشتراط عدم الغرر والجهالة في البيوع ، وكما نقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض حتى يجوز له الصلاة قاعدا [ ص: 33 ] ومضطجعا ، ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته ، وكذلك ترك المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وسائر ما تقدم في التمثيل وغير ذلك ، فإذا فهم هذا ، لم يرتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية ، وهكذا الحكم في التحسينية; لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري ، فإذا كملت ما هو ضروري ، فظاهر ، وإذا كملت ما هو حاجي ، فالحاجي مكمل للضروري ، والمكمل للمكمل مكمل; فالتحسينية إذا كالفرع للأصل الضروري ومبني عليه .

    بيان الثاني : يظهر مما تقدم ; لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود ، وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه; لزم من اختلاله اختلال الباقيين; لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى .

    فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة; لم يكن اعتبار الجهالة والغرر ، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص ، لم يمكن اعتبار المماثلة فيه ، فإن ذلك من أوصاف القصاص ، ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصوف ، وكما إذا سقط عن المغمى عليه ، أو الحائض أصل الصلاة; لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها ، أو التكبير ، أو الجماعة ، أو الطهارة الحدثية أو الخبثية ، ولو فرض أن ثم حكما هو ثابت لأمر فارتفع ذلك الأمر ، ثم بقي الحكم مقصودا لذلك الأمر كان هذا فرض محال ، ومن هنا يعرف مثلا أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع لها ومكمل; من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك; لأنها من أوصاف الصلاة بالفرض ، فلا يصح أن يقال : إن أصل الصلاة هو المرتفع ، وأوصافها بخلاف ذلك .

    [ ص: 34 ] وكذلك نقول إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا ، أو الصيام كذلك ، كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار ، والنهي عن الصيام في العيد ، فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي; من حيث نهي عن أصل الصلاة التي لها هيئة اجتماعية في الوقوع; لأن النهي عن العبادة المخصوصة من حيث هي كذلك ، ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها; فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل .

    ولا يقال : إن لهذه الأشياء حقائق في أنفسها لا تكون منهيا عنها بذلك الاعتبار ، فلا يلزم أن تكون منهيا عنها مطلقا ، وإذا لم تكن منهيا عنها على الإطلاق; لم يلزم ارتفاعها بارتفاع ما هي تابعة له ، فلا يلزم من اختلال الأصل اختلال الفرع ، كما أصلت .

    وأيضا; فإن الوسائل لها مع مقاصدها هذه النسبة; كالطهارة مع الصلاة ، وقد تثبت الوسائل شرعا مع انتفاء المقاصد ، كجر الموسى في الحج على رأس من لا شعر له ، فالأشياء إذا كان لها حقائق في أنفسها ، فلا يلزم من كونها وضعت مكملة أن ترتفع بارتفاع المكمل .

    لأنا نقول : إن القراءة والتكبير وغيرهما لها اعتباران :

    اعتبار من حيث هي من أجزاء الصلاة .

    واعتبار من حيث أنفسها .

    فأما اعتبارها من الوجه الثاني; فليس الكلام فيه وإنما الكلام في اعتبارها من حيث هي أجزاء مكملة للصلاة ، وبذلك الوجه صارت بالوضع كالصفة مع الموصوف ، ومن المحال بقاء الصفة مع انتفاء الموصوف ، إذ الوصف معنى لا يقوم بنفسه عقلا ، فكذلك ما كان في الاعتبار مثله ، فإذا كان كذلك لم يصح القول ببقاء المكمل مع انتفاء المكمل ، وهو المطلوب ، [ ص: 35 ] وكذلك الصوم وأشباهه .

    وأما مسألة الوسائل; فأمر آخر ، ولكن إن فرضنا كون الوسيلة كالوصف للمقصود بكونه موضوعا لأجله ، فلا يمكن والحال هذه - أن تبقى الوسيلة مع انتفاء المقصد ، إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها ، فتكون إذ ذاك مقصودة لنفسها ، وإن انجر مع ذلك أن تكون وسيلة إلى مقصود آخر ، فلا امتناع في هذا وعلى ذلك يحمل إمرار الموسى على رأس من لا شعر له .

    وبهذه القاعدة يصح القول بإمرار الموسى على رأس من ولد مختونا بناء على أن ثم ما يدل على كون الإمرار مقصودا لنفسه ، وإلا لم يصح ، فالقاعدة صحيحة ، وما اعترض به لا نقض فيه عليها ، والله أعلم بغيبه وأحكم .

    بيان الثالث : أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه ، ومن المعلوم [ ص: 36 ] أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه; فكذلك في مسألتنا لأنه يضاهيه .

    مثال ذلك : الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يعد من أوصافها لأمر لا يبطل أصل الصلاة .

    وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر ، لا يبطل أصل البيع; كما في الخشب ، والثوب المحشو ، والجوز ، والقسطل ، والأصول المغيبة في الأرض; كالجزر واللفت ، وأسس الحيطان ، وما أشبه ذلك .

    وكذا لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص; لم يبطل أصل القصاص ، وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف ، فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف بها ، كذلك ما نحن فيه ، اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتية ، بحيث صارت جزءا من ماهية الموصوف ، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية ، وقاعدة من قواعد ذلك الأصل ، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده ، كما في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة ، فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها ، بالنسبة إلى القادر عليها ، هذا لا نظر فيه ، والوصف [ ص: 37 ] الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ، ولا من الحاجيات ، بل هو من الضروريات .

    لا يقال : إن من أوصاف الصلاة مثلا الكمالية ألا تكون في دار مغصوبة ، وكذلك الذكاة من تمامها ألا تكون بسكين مغصوبة وما أشبهه ، ومع ذلك ، فقد قال جماعة ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة ، فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف; لأنا نقول : من قال بالصحة في الصلاة والذكاة ، فعلى هذا الأصل المقرر بنى ، ومن قال بالبطلان فبنى على اعتبار هذا الوصف كالذاتي ، فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها; من حيث كانت أركانها كلها - التي هي أكوان - غصبا; لأنها أكوان حاصلة في الدار المغصوبة ، وتحريم الأصل إنما يرجع إلى تحريم الأكوان; فصارت الصلاة نفسها منهيا عنها ، كالصلاة في طرفي النهار ، والصوم في يوم العيد .

    وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيا عن العمل بها; لأن العمل بها غصب ، كان هذا العمل المعين وهو الذكاة منهيا عنه فصار أصل الذكاة منهيا عنه فعاد البطلان إلى الأصل; بسبب بطلان وصف ذاتي بهذا الاعتبار .

    [ ص: 38 ] ويتصور هنا النظر في أبحاث هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، ولكنها غير قادحة في أصلنا المذكور ، إذ لا يتصور فيه خلاف لأن أصله عقلي ، وإنما يتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به .

    بيان الرابع من أوجه :

    أحدها : أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار; فالضروريات آكدها ، ثم تليها الحاجيات والتحسينات ، وكان مرتبطا بعضها ببعض; كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه ، ومدخل للإخلال به ، فصار الأخف كأنه حمى للآكد والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، فالمخل بما هو مكمل ، كالمخل بالمكمل من هذا الوجه .

    ومثال ذلك الصلاة; فإن لها مكملات ، وهي هنا سوى الأركان والفرائض ، ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان; لأن الأخف طريق إلى الأثقل .

    ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام : كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه [ ص: 39 ] وفي الحديث : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده .

    وقول من قال : " إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أخرقها " .

    وهو أصل مقطوع به متفق عليه ، ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب .

    فالمتجرئ على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه ، فكذلك المتجرئ على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات; فإذا قد يكون في [ ص: 40 ] إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجه ما .

    ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها بإطلاق ، بحيث لا يأتي بشيء منها ، وإن أتى بشيء منها كان نزرا ، أو يأتي بجملة منها إن تعددت; إلا أن الأكثر هو المتروك والمخل به ، ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة لم يكن في صلاته ما يستحسن ، وكانت إلى اللعب أقرب ، ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله ، وكذلك نقول في البيع : إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة ، أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود ، فكان وجود العقد كعدمه ، بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده ، وكذلك سائر النظائر .

    والثاني : أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض ، فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب إليه ، وكذلك قراءة السورة والتكبير والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة . وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس ، ولا مملوك للغير ولا مفقود الذكاة ، بالنسبة إلى أصل إقامة البنية ، وإحياء النفس - كالنفل . وكذلك كون المبيع معلوما ، ومنتفعا به شرعا ، وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع - كالنافلة .

    وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبا بالكل ، فالإخلال بالمندوب مطلقا يشبه الإخلال بالركن من أركان الواجب; لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب ، فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيه به - فمن هذا الوجه أيضا - يصح أن يقال : إن إبطال المكملات بإطلاق قد يبطل الضروريات بوجه ما .

    [ ص: 41 ] والثالث : أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات ، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول ، مكملة الأطراف ، حتى يستحسن ذلك أهل العقول ، فإذا أخل بذلك; لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت ، واتصف بضد ما يستحسن في العادات ، فصار الواجب الضروري متكلف العمل ، وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة ، وذلك ضد ما وضعت عليه ، وفي الحديث : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، فكأنه لو فرض فقدان المكملات; [ ص: 42 ] لم يكن الواجب واقعا على مقتضى ذلك ، وذلك خلل في الواجب ظاهر ، أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعا في بعض ذلك وفي يسير منه ، بحيث لا يزيل حسنه ، ولا يرفع بهجته ، ولا يغلق باب السعة عنه ، فذلك لا يخل به ، وهو ظاهر .

    والرابع : أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ، ومؤنس به ، ومحسن لصورته الخاصة; إما مقدمة له أو مقارنا أو تابعا ، وعلى كل تقدير ، فهو يدور بالخدمة حواليه ، فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته .

    وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم ، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه ، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون ، ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن; لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه ، وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب ، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه ، والوقوف بين يديه ، وهكذا إلى آخرها ، فلو قدم قبلها نافلة ، كان ذلك تدريجا للمصلي [ ص: 43 ] واستدعاء للحضور ، ولو أتبعها نافلة أيضا ، لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة .

    ومن الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل; ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد ، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والخضوع والتعظيم والانقياد ، ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل; لئلا يكون ذلك فتحا لباب الغفلة ، ودخول وساوس الشيطان .

    فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ، ومقوية لجانبه ، فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره ، لكان خللا فيها ، وعلى هذا الترتيب يجري سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها .

    بيان الخامس ظاهر مما تقدم ، لأنه إذا كان الضروري قد يختل باختلال مكملاته ، كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة ، ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنه إلا بها ، كان من الأحق أن لا يخل بها .

    وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها ، وهو قسم الضروريات ، ومن هنالك كان مراعى في كل ملة ، بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في الفروع ، فهي أصول الدين ، وقواعد الشريعة ، وكليات الملة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (44)
    صـ44 إلى صـ 61

    المسألة الخامسة

    المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين :

    من جهة مواقع الوجود .

    ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها .

    فأما النظر الأول; فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة ، وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان ، وتمام عيشه ، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق ، حتى يكون منعما على الإطلاق ، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون; لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق ، قلت أو كثرت ، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها; كالأكل ، والشرب ، واللبس ، والسكنى ، والركوب ، والنكاح ، وغير ذلك; فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب .

    كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود; إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق ، واللطف ونيل اللذات كثير ، ويدلك على ذلك ما هو الأصل ، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين ، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك ، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق ، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص ، قال [ ص: 45 ] الله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ الأنبياء : 35 ] ، ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] ، وما في هذا المعنى ، وقد جاء في الحديث : حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى .

    فإذا كان كذلك; فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب ، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا ، وإذا غلبت الجهة الأخرى; فهي المفسدة المفهومة عرفا ، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة ، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ، ويقال فيه : إنه مصلحة ، وإذا غلبت جهة المفسدة ، فمهروب عنه ، ويقال : إنه مفسدة ، وإذا اجتمع فيه الأمران على تساو; فلا يقال فيه أنه مصلحة أو مفسدة على ما جرت به العادات في مثله ، فإن خرج عن مقتضى العادات; فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة .

    [ ص: 46 ] هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية ، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية .

    وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا ، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد ، فهي المقصودة شرعا ، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ، ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل ، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا ، فإن تبعها مفسدة أو مشقة ، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه .

    وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد ، فرفعها هو المقصود شرعا ، ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها ، حسب ما يشهد له كل عقل سليم ، فإن تبعتها مصلحة أو لذة ، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل ، بل المقصود ما غلب في المحل ، وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي ، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر .

    فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعا أو المفاسد المعتبرة شرعا هي خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد ، لا قليلا ولا كثيرا ، وإن توهم [ ص: 47 ] أنها مشوبة ، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك ، لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة ، وهذا المقدار هو الذي قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام ، والدليل على ذلك أمران :

    أحدهما : أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع - أعني معتبرة عند الشارع - لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق ، ولا منهيا عنه بإطلاق ، بل كان يكون مأمورا به من حيث المصلحة ، ومنهيا عنه من حيث المفسدة ، ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك .

    وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي; كوجوب الإيمان وحرمة [ ص: 48 ] الكفر ، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها ، وما أشبه ذلك; فكأن يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه ، من جهة ما فيه من كسر النفس من إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها ، وكان الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكليف ، وتمتعها بالشهوات من غير خوف مأمورا به أو مأذونا فيه; لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة ، وكل هذا باطل محض ، بل الإيمان مطلوب بإطلاق ، والكفر منهي عنه بإطلاق ، فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان ، وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا ، وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا .

    والثاني : أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا; لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق ، وهو باطل شرعا ، أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا ، فمعلوم في الأصول ، وأما بيان الملازمة; فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة ، وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة ، لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة ، فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاعه معا ، والجهتان غير منفكتين لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة ، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معا ، فقد قيل له : افعل ولا تفعل لفعل واحد ، أي من وجه واحد في الوقوع ، وهو عين تكليف ما لا يطاق .

    لا يقال : إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها ، ولكن مأذونا فيها; فلا يجتمع الأمر والنهي معا ، فلا يلزم المحظور .

    [ ص: 49 ] لأنا نقول : إن هذا لا يطرد في جميع المصالح; فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها ، يصح أن تكون مأمورا بها ، وإن سلم ذلك ، فالإذن مضاد للأمر والنهي معا ، فإن التخيير مناف لعدم التخيير ، وهما واردان على الفعل الواحد ، فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به ، وهو ما أردنا بيانه ، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة ، لإمكان الانفكاك بأن يصلى في غير الدار ، وهذا ليس كذلك .

    فإن قيل : إن هذا التقرير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل ، وإنما المقصود الخير ، فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره ، فالخير هو الذي خلق الخلق لأجله ، ولم يخلق لأجل الشر ، وإن كان واقعا به;كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه ، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه ، بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة ، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو المتآكل ، إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار; فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها ، فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت : إن الشارع - مع قصده التشريع لأجل المصلحة - لا يقصد وجه المفسدة ، مع أنها لازمة للمصلحة .

    وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع ، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة ، تعالى الله عن ذلك [ ص: 50 ] علوا كبيرا .

    فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني ، وليس كلامنا فيه ، وإنما كلامنا في القصد التشريعي ، وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهي ، ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق بإطلاق حسب ما تبين في موضعه ، فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة ، فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك ، وإن كان واقعا في الوجود فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة ، لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء ، وحكم التشريع أمر آخر له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه ، والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع ، أو عدم الوقوع ، وإنما هذا قول المعتزلة ، وبطلانه مذكور في علم الكلام ، فالقصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر ، لا ملازمة بينهما .
    فصل

    وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد ، بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع ، ففي ذلك نظر ، ولا بد من تمثيل ذلك ، ثم تخليص الحكم فيه بحول الله .

    [ ص: 51 ] مثاله أكل الميتة للمضطر ، وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا ، وقتل القاتل ، وقطع القاطع ، وبالجملة العقوبات والحدود للزجر ، وقطع اليد المتأكلة ، وقلع الضرس الوجعة ، والإيلام بقطع العروق والفصد ، وغير ذلك للتداوي ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لو انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها ، وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة فلا يخلو أن تتساوى الجهتان ، أو تترجح إحداهما على الأخرى .

    فإن تساوتا; فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر ، إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة ، ولعل هذا غير واقع في الشريعة ، وإن فرض وقوعه ، فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل ، وذلك في الشرعيات باطل باتفاق ، وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا : طرف الإقدام ، وطرف الإحجام ، فغير صحيح;لأنه تكليف ما لا يطاق ، إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد ، فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا ، ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما ، إذ قد فرضنا أن توارد الأمر والنهي معا ، وهما علمان على القصد على الجملة حسب ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى;إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء ، فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى ، ولم يتعين ذلك للمكلف ، فلا بد من التوقف .

    وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى;فيمكن أن يقال : إن قصد [ ص: 52 ] الشارع متعلق بالجهة الراجحة - أعني في نظر المجتهد - وغير متعلق بالجهة الأخرى; إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ، ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان; فيجب التوقف ، وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح ، ويمكن أن يقال : إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان ، إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع ، ونحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود للشارع ، لا بما هو مقصوده في نفس الأمر ، فالراجحة - وإن ترجحت - لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع ، إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين ، وغير مطرح في النظر ، ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ ، [ ص: 53 ] والإمكان الأول جار على طريقة المصوبين ، والثاني جار على طريقة المخطئين .

    وعلى كل تقدير; فالذي تلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الاعتبار شرعا عند اجتماعها مع الجهة الراجحة ، إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد; فكان تكليفا بما لا يطاق ، وكذلك يكون الحكم في المسائل الاجتهادية كلها ، سواء علينا أقلنا : إن كل مجتهد مصيب أم لا; فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جاريا على الاعتياد ، أو خارجا عنه; فالقياس مستمر ، والبرهان مطلق في القسمين ، وذلك ما أردنا بيانه .

    فإن قيل : أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني; فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى ذينك الضربين .

    فالجواب أن القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول ، فإذا ناقضه; لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني ، وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب ، وبالله التوفيق .
    المسألة السادسة

    لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين : دنيوية ، وأخروية ، وتقدم الكلام على الدنيوية ، اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية ، فنقول : إنها على ضربين :

    أحدهما : أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر; كنعيم أهل الجنان ، وعذاب أهل الخلود في النيران ، أعاذنا الله من النار ، وأدخلنا الجنة برحمته .

    والثاني : أن تكون ممتزجة ، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين ، في حال كونه في النار خاصة ، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول ، وهذا كله حسب ما جاء في الشريعة; إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال ، وإنما تتلقى أحكامها من السمع .

    أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر; لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود ، ولا محل الإيمان ، وتلك مصلحة ظاهرة .

    [ ص: 55 ] وأيضا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم ، وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة; فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال ، وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة عن الإيمان والأعمال الصالحة ، ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما ، حاصلة له مع التعذيب ، فهي تنفس عنه من كرب النار ، إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة ، من استقراها ألفاها .

    وأما كون الأول محضا; فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة; كقوله تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] .

    وقوله : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار [ الحج : 19 ] الآية .

    وقوله : لا يموت فيها ولا يحيا [ طه : 74 ] .

    وهو أشد ما هنالك ، إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة .

    وفي الجنة آيات أخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا [ ص: 56 ] مفسدة; كقوله : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين إلى قوله : لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين [ الحجر : 45 - 48 ] .

    وقوله : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ الزمر : 73 ] .

    إلى غير ذلك مما هو معلوم .

    وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة : " أنت رحمتي " ، وفي النار : " أنت عذابي " ; فسمى هذه بالرحمة مبالغة ، وهذه بالعذاب مبالغة .

    فإن قيل : كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض ، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض ، وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح مع أنه من المخلدين ، وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها; كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها ، وإذا كانت [ ص: 57 ] دركات الجحيم - أعاذنا الله منها - بعضها أشد; فالذي دون الأشد أخف من الأشد ، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما .

    وأيضا; فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف ، كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه ، وإذا تصورت الخفة - ولو بنسبة ما - فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب ، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر; فإن الجزاء على قدر العمل ، وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة ، كان الجزاء على تلك النسبة ، ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره ، وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي ، فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة ، وهذا معنى ممازجة المفسدة ، فإذا كان كذلك فالقسمان معا قسم واحد .

    فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب ، ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه ، هذا مقتضى نقل الشريعة ، نعم العقل لا يحيل ذلك; فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول ، كما أنه لا يصح أن يقال في النار إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما ، ولذلك قال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] [ ص: 58 ] فلا حالة هنالك يستريحون إليها وإن قلت ، كيف وهي دار العذاب ؟ ! عياذا بالله منها .

    وما جاء في حرمان الخمر; فذلك راجع إلى معنى المراتب ، فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها ، كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد ، أما المخرج إلى الضحضاح; فأمر خاص ، كشهادة خزيمة ، وعناق أبي بردة ، ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية; غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات ، لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى .

    وذلك أن المراتب - وإن تفاوتت - لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد ، ومعنى هذا أنك إذا قلت : فلان عالم فقد وصفته بالعلم وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله ، فإذا قلت : وفلان فوقه في العلم ، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول ، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ، ولو على وجه ما ، فكذلك إذا قلت : مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء ، فلا يقتضي ذلك للعلماء نقصا من النعيم ، ولا غضا من المرتبة ، بحيث يداخله ضده ، بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي [ ص: 59 ] لا نقص فيه ، وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم . كل في العذاب لا يداخله راحة ، ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض .

    ولأجل ذلك لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خير دور الأنصار; أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله : خير دور الأنصار بنو النجار ، ثم بنو عبد الأشهل ، ثم بنو الحارث بن الخزرج ، ثم بنو ساعدة ، ثم قال : وفي كل دور الأنصار خير رفعا لتوهم الضد ، من حيث كانت أفعل التفصيل قد تستعمل [ ص: 60 ] على ذلك الوجه ، كقوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 16 ] ، ونحو ذلك ، فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول ، ولو قصد ذلك; لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح ، وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر فإن في آخره : فلحقنا سعد بن عبادة ، فقال : ألم تر أن نبي الله خير الأنصار; فجعلنا أخيرا ؟ فقال : " أوليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار ؟ " لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية ، ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد لا قليلا ولا كثيرا ، وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص ، وبين الأنواع ، وبين الصفات ، وقد قال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] .

    [ ص: 61 ] ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] .

    وفي الحديث : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير .

    وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن ، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع ، وهذا معنى حسن جدا ، من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة; كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وزيادة الإيمان ونقصانه ، وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية ، التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس ، وبالله التوفيق .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (45)
    صـ62 إلى صـ 78

    المسألة السابعة

    إذا; ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية; وذلك على وجه لا يختل لها به نظام ، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء ، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات; فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تنحل أحكامها; لم يكن التشريع موضوعا لها ، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد ، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق; فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال ، وكذلك وجدنا الأمر فيها ، والحمد لله .

    وأيضا; فسيأتي بيان أن الأمور الثلاثة كلية في الشريعة ، لا تختص على الجملة ، وإن تنزلت إلى الجزئيات ، فعلى وجه كلي ، وإن خصت بعضا; فعلى نظر الكلي ، كما أنها إن كانت كلية; فليدخل تحتها الجزئيات ، فالنظر الكلي فيها منزل للجزئيات ، وتنزله للجزئيات لا يخرم كونه كليا ، وهذا المعنى إذا ثبت دل على كمال النظام في التشريع ، وكمال النظام فيه يأبى أن ينخرم ما وضع له ، وهو المصالح .
    المسألة الثامنة

    المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ، أو درء مفاسدها العادية ، والدليل على ذلك أمور :

    أحدها : ما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى - أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم ، حتى يكونوا عبادا لله ، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس ، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت ، وقد قال ربنا سبحانه : [ ص: 64 ] ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن الآية [ المؤمنون : 71 ] .

    والثاني : ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة ، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع ، كما نقول : إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء ، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها ، أو إتلافها وإحياء المال ، كان إحياؤها أولى ، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين ، كان إحياء الدين أولى ، وإن أدى إلى إماتتها كما جاء في جهاد الكفار ، وقتل المرتد ، وغير ذلك ، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا ، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى ، وكذلك إذا قلنا : الأكل والشرب فيه إحياء النفوس ، وفيه منفعة ظاهرة ، مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداء وفي استعماله حالا وفي لوازمه وتوابعه انتهاء كثيرا .

    ومع ذلك; فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم ، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا لا من حيث أهواء النفوس - حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع ; [ ص: 65 ] فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة ، بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك ، هذا وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء فالشرع لما جاء بين هذا كله وحمل المكلفين عليه طوعا أو كرها ، ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم .

    والثالث : أن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية ، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال ، وبالنسبة إلى شخص دون شخص ، أو وقت دون وقت; فالأكل والشرب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة ، ولكن عند وجود داعية الأكل ، وكون المتناول لذيذا طيبا لا كريها ولا مرا ، وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا ، وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجل ولا آجل ، ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضرر عاجل ولا آجل ، وهذه الأمور قلما تجتمع فكثير من المنافع تكون ضررا على قوم لا منافع ، أو تكون ضررا في وقت أو حال ، ولا تكون ضررا في آخر ، وهذا كله بين في كون المصالح والمفاسد مشروعة ، أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة ، لا لنيل الشهوات ، ولو كانت موضوعة لذلك ، لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء ، ولكن ذلك لا يكون ، فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء .

    والرابع : أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه; فحصول الاختلاف في الأكثر [ ص: 66 ] يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض ، وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا ، وافقت الأغراض أو خالفتها .
    فصل

    وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد :

    منها : أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن ، وفي المضار المنع ، كما قرره الفخر الرازي; إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي ، وإنما عامتها أن تكون إضافية .

    والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع - وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات حتى يكون الانتفاع المعين مأذونا فيه في وقت أو حال أو بحسب شخص ، وغير مأذون فيه إذا كان [ ص: 67 ] على غير ذلك ; فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الإذن ، وفي المضار المنع ؟

    وأيضا; فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس ، فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشيء الواحد ، وكيف يقال أن الأصل في الخمر مثلا الإذن من حيث منفعة الانتشاء ، والتشجيع ، وطرد الهموم ، والأصل فيها أيضا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهما لا ينفكان ، أو يقال : الأصل في شرب الدواء المنع لمضرة شربه لكراهته وفظاعته ومرارته ، والأصل فيه الإذن لأجل الانتفاع به وهما غير منفكين فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا ، وذلك محال فإن قيل المعتبر عند التعارض الراجح فهو الذي ينسب إليه الحكم ، وما سواه في حكم المغفل المطرح .

    فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم ; إذ هو دليل على أن المنافع ليس [ ص: 68 ] أصلها الإباحة بإطلاق ، وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق ، بل الأمر في ذلك راجع إلى ما تقدم ، وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة ، وإن كان في الطريق ضرر ما متوقع ، أو نفع ما مندفع .

    ومنها أن القرافي أورد إشكالا في المصالح والمفاسد ولم يجب عنه ، وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد ، فقال :

    " المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماهما كيف كانا; فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد ، فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس ، وآلام ومفاسد في تحصيلها ، وكسبها ، وتناولها ، وطبخها ، وإحكامها ، وإجادتها بالمضغ ، وتلويث الأيدي . . . ، إلى غير ذلك ، مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه; لاختار عدمه فمن يؤثر وقيد النيران وملابسة الدخان وغير ذلك ؟ فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة " .

    وإن أرادوا ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة; فليس بعضها أولى من بعض ، ولأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الاعتزال; فإنه سفه .

    ولا يمكنهم أن يقولوا : إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على [ ص: 69 ] تركها ، وكل مفسدة توعد الله على فعلها هي المقصودة ، وما أهمله الله تعالى غير داخل في مقصودنا ، فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص فيندفع الإشكال; لأنا نقول : الوعيد عندكم ، والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة ، ويجب عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح ، وفعل المفاسد ، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد ، لزم الدور ، ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد من الوعيد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد ، وتنعكس الحقائق حينئذ; فإن المعتبر هو التكليف; فأي شيء كلف الله به كان مصلحة ، وهذا يبطل أصلكم " .

    قال : وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال ، فهو أن يتعذر عليهم أن يقولوا : إن الله تعالى راعى مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل; لأن المباحات فيها ذلك ولم يراع ، بل يقولون : إن الله ألغى بعضها [ ص: 70 ] في المباحات ، واعتبر بعضها ، وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب ، بل سبيلهم استقراء المواقع فقط ، وهذا وإن كان يخل بنمط من الاطلاع على بعض أسرار الفقه ، غير أنهم يقولون : ويفعل الله ما يشاء [ إبراهيم : 27 ] ، و يحكم ما يريد [ المائدة : 1 ] ويعتبر الله ما يشاء ، ويترك ما يشاء لا غرو في ذلك ، وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا; فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة; لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الاعتزال " . هذا ما قاله القرافي .

    وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها ، لم يبق لهذا الإشكال موقع ، أما على مذهب الأشاعرة ، فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر ، لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك ، والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير إخلال بالخروج في [ ص: 71 ] جريانها على الصراط المستقيم ، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إخلال بنظام ، ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام ، وفي وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع ، وذلك بحسب كل باب من أبواب الشرع ، وكل أصل من أصول التكليف ، فإذا حصل ذلك للعلماء الراسخين; حصل لهم به ضوابط في كل باب على ما يليق به وهو مذكور في كتبهم ، ومبسوط في علم أصول الفقه .

    وأما على مذهب المعتزلة; فكذلك أيضا لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم ، وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة ، والتفصيل في المصالح ، أو ينخرم به في المفاسد ، وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان ، فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة ، وإنما اختلفوا في المدرك ، [ ص: 72 ] واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعا ، ومنضبطة في أنفسها .

    وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا في كلامه على العزيمة والرخصة ، حين فسرها الإمام الرازي بأنها " جواز الإقدام مع قيام المانع " ; قال :

    " هو مشكل; لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة; إذ يجوز الإقدام على ذلك كله ، وفيه مانعان : ظواهر النصوص المانعة من إلزامه; كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، وفي الحديث : لا ضرر ولا ضرار وذلك مانع من وجوب [ ص: 73 ] [ ص: 74 ] [ ص: 75 ] هذه الأمور ، والآخر أن صورة الإنسان مكرمة ، لقوله : ولقد كرمنا بني آدم [ الإسراء : 70 ] ، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ التين : 4 ] ، وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد ، ولا يلزمه المشاق والمضار .

    وأيضا الإجارة رخصة من بيع المعدوم ، والسلم كذلك ، والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة ، والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه ، ولم تعد منها ، واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة ، وبالعكس ، وإن قلت على العبد كالكفر والإيمان; فما ظنك بغيرهما ؟

    وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي ; لأنه لا يمكن أن يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح; فإن أكل الميتة وغيره [ ص: 76 ] وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة; فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح ، وحينئذ تندرج جميع الشريعة; لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه " .

    ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي " التنقيح " و " المحصول " العجز عن ضبط الرخصة .

    وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني في الموضع ، مع ما ذكر في الرخصة في كتاب الأحكام .

    ومنها : أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه; كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ البقرة : 29 ] .

    وقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] .

    وقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية [ الأعراف : 32 ] .

    [ ص: 77 ] وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق ، بل بقيود تقيدت بها ، حسب ما دلت عليه الشريعة في وضع المصالح ودفع المفاسد ، والله أعلم .

    ومنها : أن بعض الناس قال : إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع ، وأما الدنيوية; فتعرف بالضرورات ، والتجارب والعادات ، والظنون المعتبرات .

    قال : ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها ، فليعرض ذلك على عقله ، بتقدير أن الشارع لم يرد به ، ثم يبني عليه الأحكام ، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها . هذا قوله .

    وفيه بحسب ما تقدم نظر ، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع; فكما قال . وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض ، ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة ; تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة ، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام .

    ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق; لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة ، وذلك لم يكن ، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معا ، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة; فليس بخارج عن كونه [ ص: 78 ] قاصدا لإقامة مصالح الدنيا; حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة ، وقد بث في ذلك من التصرفات ، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه; فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل ، اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها ، بعد وضع الشرع أصولها ، فذلك لا نزاع فيه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (46)
    صـ79 إلى صـ 90

    المسألة التاسعة

    كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية ، والحاجية ، والتحسينية ، لا بد عليه من دليل يستند إليه ، والمستند إليه في ذلك ، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا ، وكونه ظنيا باطل ، مع أنه أصل من أصول الشريعة ، بل هو أصل أصولها ، وأصول الشريعة قطعية حسب ما تبين في موضعه ، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية ، ولو جاز إثباتها بالظن ، لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا ، وهذا باطل ، فلا بد أن تكون قطعية ، فأدلتها قطعية بلا بد .

    فإذا ثبت هذا ، فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه ، فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا .

    فالعقلي لا موقع له هنا; لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية ، وهو غير صحيح ، فلا بد أن يكون نقليا .

    والأدلة النقلية; إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال ، أو لا ، فإن لم تكن نصوصا ، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر; فلا يصح استناد مثل هذا إليها; لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع ، وإفادة القطع هو المطلوب وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند ، فهذا مفيد للقطع ، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء .

    والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة ، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض ، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي .

    والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول : إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية ، والموقوف على [ ص: 80 ] الظني لا بد أن يكون ظنيا; فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو ، وعدم الاشتراك ، وعدم المجاز ، وعدم النقل الشرعي أو العادي ، وعدم الإضمار ، وعدم التخصيص للعموم ، وعدم التقييد للمطلق ، وعدم الناسخ ، وعدم التقديم والتأخير ، وعدم المعارض العقلي ، وجميع ذلك أمور ظنية .

    ومن المعترفين بوجوده من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا ، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين ، وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل; لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل ، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية ، وليس كذلك باتفاق ، وإذا كانت لا تلزم ، ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة ، أو المتن والدلالة معا ، ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم ، دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر ، على قول المقرين بذلك ، وغير موجود على قول الآخرين .

    فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين .

    ولا يقال : إن الإجماع كاف ، وهو دليل قطعي; لأنا نقول : هذا أولا : مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعا ، نقلا متواترا عن جميع أهل الإجماع ، وهذا يعسر إثباته ولعلك لا تجده ، ثم نقول :

    [ ص: 81 ] ثانيا : إن فرض وجوده; فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم ، ويجتمعون على أنه قطعي; فقد يجتمعون على دليل ظني ، فتكون المسألة ظنية لا قطعية ، فلا تفيد اليقين; لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي ، فإن اجتمعوا على مستند ظني ، فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة .

    فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص ، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي .

    وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة ، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع ، وأن اعتبارها مقصود للشارع .

    ودليل ذلك استقراء الشريعة ، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية ، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص ، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض; بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم ، وشجاعة علي - رضي الله عنه - ، وما أشبه ذلك; فلم يعتمد [ ص: 82 ] الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ، ولا على وجه مخصوص ، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات ، والمطلقات والمقيدات ، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه ، وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد ، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة .

    وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم ، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين ، لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدا للظن ، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن ، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق ، فخبر واحد مفيد للظن مثلا ، فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن ، وهكذا خبر آخر وآخر حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض ، فكذلك هذا; إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار .

    وهذا بين في كتاب المقدمات من هذا الكتاب .

    فإذا تقرر هذا; فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها ، والمتأملين لمعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث .
    [ ص: 83 ] المسألة العاشرة

    هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها; فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات .

    ولذلك أمثلة : أما في الضروريات; فإن العقوبات مشروعة للازدجار ، مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه ، ومن ذلك كثير وأما في الحاجيات; فكالقصر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة ، والملك المترفه لا مشقة له ، والقصر في حقه مشروع ، والقرض أجيز للرفق بالمحتاج ، مع أنه جائز أيضا مع عدم الحاجة ، وأما في التحسينيات; فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم .

    فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية; لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليا; فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا ، وأيضا; [ ص: 84 ] فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي ; لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت ، هذا شأن الكليات الاستقرائية ، واعتبر ذلك بالكليات العربية; فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه ، لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا ، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية ، كما نقول : ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلا ، فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبتة ، إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة : " ما ثبت للشيء ثبت لمثله " .

    فإذا كان كذلك فالكلية في الاستقرائيات صحيحة ، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات .

    وأيضا; فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي; فلا تكون داخلة تحته أصلا ، أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها ، أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى; [ ص: 85 ] فالملك المترفه قد يقال : إن المشقة تلحقه ، لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها ، أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها : إن المصلحة ليست الازدجار فقط ، بل ثم أمر آخر ، وهو كونها كفارة ، لأن الحدود كفارات لأهلها ، وإن كانت زجرا أيضا عن إيقاع المفاسد ، وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي .

    فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح .
    [ ص: 86 ] المسألة الحادية عشرة

    مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة ، لا تختص بباب دون باب ، ولا بمحل دون محل ، ولا بمحل وفاق دون محل خلاف ، وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها .

    ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح ، وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ، ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق ، لكن البرهان قام على ذلك فدل على أن المصالح فيها غير مختصة ، وقد زعم بعض المتأخرين - وهو القرافي - : أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد ، لأن القاعدة العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض ، بل متى كان أحدهما [ ص: 87 ] راجحا كان الآخر مرجوحا ، وهذا يقتضي أن يكون المصيب واحدا ، وهو المفتي بالراجح ، وغيره يتعين أن يكون مخطئا; لأنه مفت بالمرجوح ، فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس ، وأن الشرائع تابعة للمصالح .

    هذا ما قال .

    ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا : إن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية ، أما في مواطن الخلاف; فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع للراجح في نفس الأمر ، بل فيما في الظنون فقط; كان راجحا في نفس الأمر أو مرجوحا ، وسلم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح ، وكان يقول يتعين على القائل بالتصويب أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم إلى [ ص: 88 ] الأسباب; للاتفاق على أن الخطأ يقع فيها ، وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى ، هذا ما نقل عنه .

    ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين ; لأن الأحكام على مذهب التصويب إضافية; إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد ، والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه ، ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة ، فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز ، فجهة المصلحة عنده هي الراجحة ، وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه; لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم ، فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ما هو جائز ، وما هو جائز لا ضرر فيه ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، بل فيه مصلحة لأجلها أجيز ، وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز ، فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم ، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة ، وهي كذلك في نفس الأمر [ ص: 89 ] على ما ظنه فلا ضرر لاحق به في الدنيا وفي الآخرة ، فحكم المصوب هاهنا حكم المخطئ .

    وإنما يكون التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد ; بل هو من ناظرين ظن كل واحد منهما العلة التي بنى عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده ، وفي ظنه لا ما هو عليه في نفسه; إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الإجماع ، فهاهنا اتفق الفريقان ، وإنما اختلفا بعد ، فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه ، والمصوبة حكمت بناء على أن لا حكم في نفس الأمر ، بل هو ما ظهر الآن ، وكلاهما بأن حكمه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر .

    ويتفق هاهنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفضلا ، وكذلك من قال : إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان ، أو ليست من صفات الأعيان ، وهذا مجال يحتمل بسطا أكثر من هذا ، وهو من مباحث أصول الفقه ، وإذا ثبت [ ص: 90 ] هذا; لم يفتقر إلى الاعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام ، وارتفع إشكال المسألة والحمد لله .

    وتأمل; فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادا وحكما ، وذلك يقتضي تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي ، وأن ذلك راجع إلى الذوات; فكلام القرافي مشكل على كل تقدير ، والله أعلم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (47)
    صـ91 إلى صـ 99

    المسألة الثانية عشرة

    إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها معصوم ، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة .

    ويتبين ذلك بوجهين :

    أحدهما : الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا; كقوله تعالى :

    إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] .

    وقوله : كتاب أحكمت آياته [ هود : 1 ] .

    وقد قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته [ الحج : 52 ] ; فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل ، والسنة وإن لم تذكر ، فإنها مبينة له ودائرة حوله ، فهي منه وإليه ترجع في معانيها ، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا ، ويشد بعضه بعضا ، وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] .

    حكى أبو عمرو الداني في " طبقات القراء " له عن أبي الحسن بن المنتاب; قال :

    كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق ، فقيل له : لم [ ص: 92 ] جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن ؟ فقال القاضي : قال الله عز وجل في أهل التوراة : بما استحفظوا من كتاب الله [ المائدة : 44 ] فوكل الحفظ إليهم; فجاز التبديل عليهم ، وقال في القرآن : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] ; فلم يجز التبديل عليهم ، قال علي : فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي ، فذكرت له الحكاية ، فقال : ما سمعت كلاما أحسن من هذا .

    وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء ، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر ، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء ، فكذلك في الأرض ، وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة [ ص: 93 ] من مثله وهو كله من جملة الحفظ ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة ، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل .

    والثاني : الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله إلى الآن ، وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة ، والمناضلة عنها ، بحسب الجملة والتفصيل .

    أما القرآن الكريم ، فقد قيض الله له حفظة; بحيث لو زيد فيه حرف واحد ، لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر ، فضلا عن القراء الأكابر .

    وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة ، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم .

    فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب ، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث - وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة ، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب - .

    ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا ونصبا ، وجرا وجزما ، وتقديما وتأخيرا ، وإبدالا وقلبا ، وإتباعا وقطعا ، وإفرادا وجمعا ، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب ، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان ، فسهل الله بذلك [ ص: 94 ] الفهم عنه في كتابه ، وعن رسوله في خطابه .

    ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله ، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة ، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم ، وتعرفوا التواريخ ، وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله .

    وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة ، وعما كان عليه السلف الصالحون ، وداوم عليه الصحابة والتابعون ، وردوا على أهل البدع والأهواء ، حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى .

    وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة ، وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف ، حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ، ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس .

    ثم قيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه ، ويدفعون الشبه ببراهينه ، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض ، واستعملوا الأفكار ، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا ، واتخذوا الخلوة أنيسا ، وفازوا بربهم جليسا ، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه ، وهم العارفون من خلقه والواقفون مع أداء حقه ، فإن عارض دين الإسلام معارض ، أو جادل فيه خصم [ ص: 95 ] مناقض ، غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة ، فهم جند الإسلام وحماة الدين .

    وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله ، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة ، تارة من نفس القول ، وتارة من معناه ، وتارة من علة الحكم ، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر ، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك ، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو احتيج في إيضاحها إليه .

    وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة ، وبالله التوفيق .
    المسألة الثالثة عشرة

    كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أوالحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول : إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها; فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي ، وذلك الجزئيات ، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع .

    والدليل على ذلك أمور :

    منها : ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر ، كترك الصلاة ، أو الجماعة ، أو الجمعة ، أو الزكاة ، أو الجهاد ، أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه ، كان العتب وعيدا أو غيره ، كالوعيد بالعذاب ، وإقامة الحدود في الواجبات ، والتجريح في غير الواجبات ، وما أشبه ذلك .

    ومنها : أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث ، والأمر والنهي فيها قد جاء حتما ، وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها ، أو ترك المأمور به من غير اختصاص ولا محاشاة; إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم ، وحين كان ذلك كذلك ، دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها .

    ومنها : أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي; لم يصح الأمر بالكلي من أصله ، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه; لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات ، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق ، [ ص: 97 ] وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله ، فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات; فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات .

    وأيضا فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف ، وإهمال القصد في الجزيئات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي; فإنه مع الإهمال لا يجري كليا بالقصد ، وقد فرضناه مقصودا ، هذا خلف; فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات ، وليس البعض في ذلك أولى من البعض ، فانحتم القصد إلى الجميع ، وهو المطلوب .

    [ ص: 98 ] فإن قيل : هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات .

    فالجواب : أن القاعدة صحيحة ، ولا معارضة فيها لما نحن فيه ، فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض ، فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي ، وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي ، حتى إن تخلف الجزئي هنالك ، إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى ، كما نقول : إن حفظ النفوس مشروع - وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه - ، ثم شرع القصاص حفظا للنفوس ، فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد ، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه ، وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس; فإهمال هذا الجزئي في كليه من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا ، وهو النفس المجني عليها; فصار عين اعتبار الجزئي في كلي هو عين إهمال الجزئي ، لكن في المحافظة على كليه من وجهين ، وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب .

    [ ص: 99 ] فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض; فلا يصح شرعا ، وإن كان لعارض ، فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى ، أو على كلي آخر; فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي ، والثاني لا يكون تخلفه قادحا .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (48)
    صـ100 إلى صـ 107

    النوع الثاني

    في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل

    المسألة الأولى

    إن هذه الشريعة المباركة عربية ، لا مدخل فيها للألسن العجمية ، وهذا - وإن كان مبينا في أصول الفقه ، وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين ، أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب ، وجاء القرآن على وفق ذلك; فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها - ، فإن هذا البحث [ ص: 102 ] على هذا الوجه غير مقصود هنا .

    وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة ، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة ; لأن الله تعالى يقول : إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ يوسف : 2 ] .

    وقال : بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] .

    وقال : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] .

    وقال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ فصلت : 44 ] .

    إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب ، لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم ، فمن أراد تفهمه; فمن جهة لسان العرب يفهم ، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة ، هذا هو المقصود من المسألة .

    وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم ، أو لم يجئ فيه شيء من ذلك; فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به ، وجرى في خطابها ، وفهمت معناه ، فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها ، ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم ، إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب ، وهذا يقل وجوده ، وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب ، فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب ، أو كان بعضها كذلك دون [ ص: 103 ] بعض; فلا بد لها من أن تردها إلى حروفها ، ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلا ، ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في كلام العجم ، ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها ، وإذا فعلت ذلك صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها ، كالألفاظ المرتجلة ، والأوزان المبتدأة لها ، هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال .

    ومع ذلك; فالخلاف الذي يذكره المتأخرون في خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي ، ولا يستفاد منه مسألة فقهية ، وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد ، وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجمية .

    فإن قلنا : إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه ، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها ، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره ، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه ، وبالعام يراد به الخاص ، والظاهر يراد به غير الظاهر ، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره ، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره ، أو آخره عن أوله ، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة ، والأشياء الكثيرة باسم واحد ، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها .

    [ ص: 104 ] فإذا كان كذلك; فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب ، فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب ، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم; لاختلاف الأوضاع والأساليب ، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام ، في رسالته الموضوعة في أصول الفقه ، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ; فيجب التنبه لذلك ، وبالله التوفيق .
    [ ص: 105 ] المسألة الثانية

    للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران :

    أحدهما : من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة ، دالة على معان مطلقة ، وهي الدلالة الأصلية .

    والثاني : من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة ، وهي الدلالة التابعة .

    فالجهة الأولى هي التي يشترك فيها جميع الألسنة ، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ، ولا تختص بأمة دون أخرى ، فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام ، تأتى له ما أراد من غير كلفة ، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين - ممن ليسوا من أهل اللغة العربية - وحكاية كلامهم ، ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها ، وهذا لا إشكال فيه .

    وأما الجهة الثانية; فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار ، فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب الخبر والمخبر والمخبر عنه والمخبر به ، ونفس الإخبار في الحال ، والمساق ، ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء ، والإيجاز والإطناب ، وغير ذلك .

    وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار : قام زيد إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه ، بل بالخبر ، فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت : زيد قام ، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة : إن زيدا قام ، وفي جواب المنكر [ ص: 106 ] لقيامه : والله إن زيدا قام ، وفي إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه : قد قام زيد ، أو زيد قد قام ، وفي التنكيت على من ينكر : إنما قام زيد .

    ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره - أعني المخبر عنه - ، وبحسب الكناية عنه والتصريح به ، وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار ، وما يعطيه مقتضى الحال ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها ، وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد .

    فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي ، ولكنها من مكملاته ومتمماته ، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر ، وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن ، لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه ، وفي بعضها على وجه آخر ، وفي ثالثة على وجه ثالث ، وهكذا ما تقرر فيه من الإخبارات ، لا بحسب النوع الأول ، إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض ، وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت ، وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] .
    فصل

    وإذا ثبت هذا; فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال ، فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى [ ص: 107 ] لسان غير عربي ، إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا ، كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه ، فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر ، وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير جدا ، وربما أشار إلى شيء من ذلك أهل المنطق من القدماء ، ومن حذا حذوهم من المتأخرين ، ولكنه غير كاف ولا مغن في هذا المقام .

    وقد نفى ابن قتيبة إمكان الترجمة في القرآن - يعني على هذا الوجه الثاني - ، فأما على الوجه الأول; فهو ممكن ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه ، وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام ، فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (49)
    صـ108 إلى صـ 126

    فصل

    وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدت كوصف من أوصافها; لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام ، وهل تعد معها كوصف من [ ص: 108 ] الأوصاف الذاتية ؟ أو هي كوصف غير ذاتي ؟ في ذلك نظر وبحث ينبني عليه من المسائل الفرعية - جملة ، إلا أن الاقتصار على ما ذكر فيها كاف; فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة; فالسكوت عن ذلك أولى ، وبالله التوفيق .
    المسالة الثالثة

    هذه الشريعة المباركة أمية ; لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح ، ويدل على ذلك أمور :

    أحدها : النصوص المتواترة اللفظ والمعنى ، كقوله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ الجمعة : 2 ] .

    وقوله : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته [ الأعراف : 158 ] .

    [ ص: 110 ] وفي الحديث : بعثت إلى أمة أمية لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين ، والأمي منسوب إلى الأم ، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره ، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها .

    وفي الحديث : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقد فسر معنى الأمية في الحديث; أي ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب .

    ونحوه قوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك [ العنكبوت : 48 ] .

    وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة ، الدالة على أن [ ص: 111 ] الشريعة موضوعة على وصف الأمية ، لأن أهلها كذلك .

    والثاني : أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما; إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا ، فإن كان كذلك ، فهو معنى كونها أمية ; أي منسوبة إلى الأميين ، وإن لم تكن كذلك; لزم أن تكون على غير ما عهدوا ، فلم تكن لتتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد ، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها ، فلا بد أن تكون على ما يعهدون ، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية ، فالشريعة إذا أمية .

    والثالث : أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا ، [ ص: 112 ] ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم : هذا على غير ما عهدنا; إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام ، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا ، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف ، فلم تقم الحجة عليهم به ، ولذلك قال سبحانه : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ فصلت : 44 ] فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا ، ولما قالوا : إنما يعلمه بشر [ النحل : 103 ] رد الله عليهم بقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] لكنهم أذعنوا لظهور الحجة ، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله ، مع العجز عن مماثلته ، وأدلة هذا المعنى كثيرة .
    فصل

    واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس ، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق ، واتصاف بمحاسن شيم ، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه ، وأبطلت ما هو باطل ، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ، ومضار ما يضر منه .

    فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر ، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها ، وتعرف منازل سير النيرين ، وما يتعلق بهذا [ ص: 113 ] المعنى ، وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر [ الأنعام : 97 ] .

    وقوله : وبالنجم هم يهتدون [ النحل : 16 ] .

    وقوله : والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار [ يس : 39 - 40 ] .

    وقوله : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب [ يونس : 5 ] .

    وقوله : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة [ الإسراء : 12 ] الآية .

    وقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ الملك : 5 ] .

    وقوله : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] .

    وما أشبه ذلك .

    [ ص: 114 ] ومنها : علوم الأنواء ، وأوقات نزول الأمطار ، وإنشاء السحاب ، وهبوب الرياح المثيرة لها ، فبين الشرع حقها من باطلها ، فقال تعالى : هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده [ الرعد : 12 - 13 ] الآية .

    وقال : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ الواقعة : 68 - 69 ] .

    وقال : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا [ النبأ : 14 ] .

    وقال : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ الواقعة : 82 ] .

    خرج الترمذي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ الواقعة : 82 ] ; قال شكركم ، تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا [ ص: 115 ] وكذا .

    وفي الحديث : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي الحديث في الأنواء .

    [ ص: 116 ] وفي الموطأ مما انفرد به : إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت; فتلك عين غديقة .

    [ ص: 117 ] وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته : كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال له العباس : بقي من نوئها كذا وكذا .

    فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار .

    وقال تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه [ الحجر : 22 ] الآية .

    وقال : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها [ فاطر : 9 ] .

    إلى كثير من هذا .

    ومنها : علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية ، وفي القرآن من ذلك ما هو كثير ، وكذلك في السنة ، ولكن القرآن احتفل في ذلك ، وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم ، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون ، [ ص: 118 ] قال تعالى : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم [ آل عمران : 44 ] الآية .

    وقال تعالى : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا [ هود : 49 ] .

    وفي الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت وغير ذلك مما جرى .

    ومنها : ما كان أكثره باطلا أو جميعه; كعلم العيافة ، والزجر ، والكهانة ، وخط الرمل ، والضرب بالحصى ، والطيرة; فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل [ ص: 119 ] ونهت عنه; كالكهانة ، والزجر ، وخط الرمل ، وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب; فإن الكهانة والزجر كذلك ، وأكثر هذه الأمور تحرص على علم الغيب من غير دليل; فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض ، وهو الوحي والإلهام . وأبقي للناس من ذلك بعد موته عليه السلام - جزء من النبوة ، وهو الرؤيا الصالحة ، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة .

    [ ص: 120 ] ومنها : علم الطب; فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل ، بل مأخوذ من تجاريب الأميين ، غير مبني على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون ، وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة ، لكن على وجه جامع شاف قليل يطلع منه على كثير; فقال تعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا [ الأعراف : 31 ] .

    وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء ، وأبطل من [ ص: 121 ] ذلك ما هو باطل; كالتداوي بالخمر ، والرقى التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا .

    ومنها : التفنن في علم فنون البلاغة ، والخوض في وجوه الفصاحة ، والتصرف في أساليب الكلام ، وهو أعظم منتحلاتهم; فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم ، قال تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ الإسراء : 88 ] .

    [ ص: 122 ] ومنها : ضرب الأمثال ، وقد قال تعالى : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ الروم : 58 ] ; إلا ضربا واحدا ، وهو الشعر ، فإن الله نفاه وبرأ الشريعة منه ، قال تعالى في حكايته عن الكفار : أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين [ الصافات : 36 ] ; أي لم يأت بشعر فإنه ليس بحق ، ولذلك قال : وما علمناه الشعر وما ينبغي له [ يس : 69 ] الآية .

    وبين معنى ذلك في قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ الشعراء : 224 - 226 ] .

    فظهر أن الشعر ليس مبنيا على أصل ، ولكنه هيمان على غير تحصيل ، وقول لا يصدقه فعل ، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى .

    فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية .

    وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها; فهو أول ما خوطبوا به ، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية ، من حيث كان آنس لهم ، [ ص: 123 ] وأجري على ما يتمدح به عندهم; كقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى [ النحل : 90 ] إلى آخرها .

    وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا [ الأنعام : 151 ] إلى انقضاء تلك الخصال .

    وقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ الأعراف : 32 ] .

    وقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق [ الأعراف : 33 ] .

    إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى .

    لكن أدرج فيها ما هو أولى ؛ من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة ، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم ، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك ، أو فيه من المفاسد ما يربي على المصالح التي توهموها; كما قال تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ المائدة : 90 ] .

    ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر; من إيقاع العداوة والبغضاء ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا; لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان ، وتبعث البخيل على البذل ، وتنشط الكسالى ، والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين ، والعطف على المحتاجين ، وقد قال تعالى : [ ص: 124 ] يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ البقرة : 219 ] .

    والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق ، ولهذا قال عليه السلام : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .

    إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين :

    أحدهما : ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول ، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي ، وهو :

    الضرب الثاني : وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر; حتى كان من آخره تحريم الربا ، وما أشبه ذلك ، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق ، وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة .

    [ ص: 125 ] ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام ، كما قالوا في القراض ، وتقدير الدية ، وضربها على العاقلة ، وإلحاق الولد بالقافة ، والوقوف بالمشعر الحرام ، والحكم في الخنثى ، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين ، والقسامة ، وغير ذلك مما ذكره العلماء .

    ثم نقول : لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون; من سماء ، وأرض ، وجبال ، وسحاب ، ونبات ، وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك ، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم ، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها ، وأن ما جاء به محمد هي تلك بعينها ، كقوله تعالى : ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا [ الحج : 78 ] .

    وقوله : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا [ آل عمران : 67 ] الآية .

    غير أنهم غيروا جملة منهم ، وزادوا ، واختلفوا ، فجاء تقويمها من جهة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم ، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا ، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي; كقوله : وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود [ الواقعة : 27 - 30 ] إلى آخر الآيات .

    وبين من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم; كالماء ، [ ص: 126 ] واللبن ، والخمر ، والعسل ، والنخيل ، والأعناب ، وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز ، واللوز ، والتفاح ، والكمثرى ، وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم ، بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة .

    وقال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] .

    فالقرآن كله حكمة ، وقد كانوا عارفين بالحكمة ، وكان فيهم حكماء; فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله ، وكان فيهم أهل وعظ وتذكير; كقس بن ساعدة وغيره ، ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل ، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة; وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة .

    وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير; تجد الأمر كما تقرر ، وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (50)
    صـ127 إلى صـ 135


    المسألة الرابعة

    ما تقرر من أمية الشريعة ، وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ، ينبني عليه قواعد :

    منها : أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد; فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين ; من علوم الطبيعيات والتعاليم ، والمنطق ، وعلم الحروف ، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها ، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح ، وإلى هذا; فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى ، سوى ما تقدم ، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف ، وأحكام الآخرة ، وما يلي ذلك ، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر ، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة; إلا أن [ ص: 128 ] ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم ، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا ، نعم ، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب ، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بإعلامه ، والاستنارة بنوره ، أما أن فيه ما ليس من ذلك ، فلا .

    [ ص: 129 ] وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] .

    وقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] .

    ونحو ذلك ، وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب ، وبما نقل عن الناس فيها ، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء .

    فأما الآيات; فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد ، أو المراد بالكتاب في قوله :ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] اللوح المحفوظ ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية .

    وأما فواتح السور; فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا; كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب ، حسب ما ذكره أصحاب السير ، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى ، وغير ذلك ، وأما تفسيرها بما لا عهد به; فلا يكون ، ولم يدعه أحد ممن تقدم ، فلا دليل فيها على ما [ ص: 130 ] ادعوا ، وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت ، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه ، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة .

    [ ص: 131 ] فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية ، فمن طلبه بغير ما هو أداة له; ضل عن فهمه ، وتقول على الله ورسوله فيه ، والله أعلم ، وبه التوفيق .
    فصل

    ومنها : أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين ، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر; فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة ، وإن لم يكن ثم عرف ، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه .

    وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب ، مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني ، وإن كانت تراعيها أيضا; فليس أحد الأمرين عندها بملتزم ، بل قد تبني على أحدهما مرة ، وعلى الآخر أخرى ، ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته .

    والدليل على ذلك أشياء :

    أحدها : خروجها في كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة والضوابط المستمرة ، وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها ، وإن [ ص: 132 ] لم يكن بها حاجة ، وتركها لما هو أولى في مراميها ، ولا يعد ذلك قليلا في كلامها ولا ضعيفا ، بل هو كثير قوي ، وإن كان غيره أكثر منه .

    والثاني : أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يراد فيها أو يقاربها ، ولا يعد ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى المقصود على استقامة ، والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف ، وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير ، وقد استمر أهل القراءات على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم مما وافق المصحف ، وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال ، وإن كان بين القراءتين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى; لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب ، كـ مالك [ الفاتحة : 4 ] .

    و " ملك " [ الفاتحة : 4 ] .

    " وما يخدعون إلا أنفسهم " [ البقرة : 9 ] .

    " وما يخادعون إلا أنفسهم " [ البقرة : 9 ] .

    [ ص: 133 ] لنبوئنهم من الجنة غرفا [ العنكبوت : 58 ] .

    " لنبوئنهم من الجنة غرفا " .

    إلى كثير من هذا; لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب ، وهذا كان عادة العرب .

    ألا ترى ما حكى ابن جني عن عيسى بن عمر ، وحكي عن غيره أيضا; قال : سمعت ذا الرمة ينشد :


    وظاهر لها من يابس الشخت واستعن عليها الصبا واجعل يديك لها سترا
    .

    فقلت : أنشدتني : من بائس; فقال : يابس وبائس واحد .

    فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس; لما كان معنى البيت قائما على الوجهين ، وصوابا على كلتا الطريقتين ، وقد قال في رواية أبي العباس الأحول : " البؤس واليبس واحد " ; يعني : بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير اللغة .

    [ ص: 134 ] وعن أحمد بن يحيى; قال : أنشدني ابن الأعرابي :


    وموضع زين لا أريد مبيته كأني به من شدة الروع آنس
    .

    فقال له شيخ من أصحابه : ليس هكذا أنشدتنا ، وإنما أنشدتنا : وموضع ضيق ، فقال : سبحان الله ! تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزين والضيق واحد ؟ !

    وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة ، وبألفاظ متباينة ، يعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص ، بحيث يعد مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا ، إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها ، وإنما معهودها الغالب ما تقدم .

    والثالث : أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة; كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا ، ولم يفرقوا بين ما له لفظ; وما ليس له لفظ ، فقبح " قمت وزيد " كما قبح " قام وزيد " وجمعوا في الردف بين عمود ويعود من غير استكراه ، وواو عمود أقوى في المد ، [ ص: 135 ] وجمعوا بين سعيد وعمود مع اختلافهما ، وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التي تقتضيها الألفاظ في قياسها النظري ، لكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض ، وما ذلك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها .

    والرابع : أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع ، ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف في الأخذ عنه; فقد كان الأصمعي يعيب الحطيئة ، واعتذر عن ذلك بأن قال : " وجدت شعره كله جيدا; فدلني على أنه كان يصنعه ، وليس هكذا الشاعر المطبوع ، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه ، جيده على رديئه " ، وما قاله هو الباب المنتهج ، والطريق المهيع عند أهل اللسان ، وعلى الجملة; فالأدلة على هذا المعنى كثيرة ، ومن زاول كلام العرب وقف من هذا على علم .

    وإذا كان كذلك; فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب ، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به ، والوقوف عند ما حدته .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #51
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (51)
    صـ136 إلى صـ 150

    فصل

    ومنها : أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب; فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني ، فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب ، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها ، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا ، ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم ، اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة ، فذاك كالكنايات الغامضة والرموز البعيدة ، التي تخفى عن الجمهور ، ولا تخفى عمن قصد بها ، وإلا كان خارجا عن حكم معهودها .

    فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة ، بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف ، واشتركت فيه اللغات [ ص: 137 ] حتى كانت قبائل العرب تفهمه .

    وأيضا; فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط; لأن الضعيف ليس كالقوي ، ولا الصغير كالكبير ، ولا الأنثى كالذكر ، بل كل له حد ينتهي إليه في العادة الجارية ، فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه ، وألزموا ذلك من طريقهم : بالحجة القائمة ، والموعظة الحسنة ، ونحو ذلك ، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ، ولكلفهم بغير قيام حجة ، ولا إتيان ببرهان ، ولا وعظ ، ولا تذكير ، ولطوقهم فهم ما لا يفهم ، وعلم ما لم يعلم ، فلا حجر عليه في ذلك ، فإن حجة الملك قائمة ، قل فلله الحجة البالغة [ الأنعام : 149 ] .

    لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا ، وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا ، وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ، ويقوى به ضعيفهم ، وتنتهض به عزائمهم : من الوعد تارة ، والوعيد أخرى ، والموعظة الحسنة أخرى ، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، إلى غير ذلك مما في معناه ، حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين ، بل هم مشتركون في مقتضاه ، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منة على تحمله ، وزادهم تخفيفا دون الأولين ، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم .

    [ ص: 138 ] وقد خرج الترمذي وصححه عن أبي بن كعب; قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ، فقال : يا جبريل ! إني بعثت إلى أمة أميين; منهم العجوز ، والشيخ الكبير ، والغلام ، والجارية ، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط . قال يا محمد : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف .

    فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيرهم .
    فصل

    ومنها : أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم ، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني ، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها ، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية; فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد ، والمعنى هو المقصود ، ولا أيضا كل المعاني ، فإن [ ص: 139 ] المعنى الإفرادي قد يعبأ به ، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه ، كما لم يعبأ ذو الرمة " ببائس " ولا " يابس " اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم .

    وأبين من هذا ما في " جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري " عن أنس بن مالك; أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] ، قال : ما الأب ؟ ثم قال : ما كلفنا هذا ، أو قال : ما أمرنا بهذا .

    وفيه أيضا عن أنس ; أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] : ما الأب ؟ فقال عمر : نهينا عن التعمق والتكلف .

    ومن المشهور تأديبه لصبيغ حين كان يكثر السؤال عن " المرسلات [ المرسلات : 1 ] " و " العاصفات " [ المرسلات : 2 ] ونحوهما .

    وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه; لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي ، فرأى أن الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف ، ولهذا أصل في الشريعة صحيح; نبه عليه قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب [ البقرة : 177 ] إلى آخر الآية ، فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي; لم يكن تكلفا ، بل هو مضطر إليه ، كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى : أو يأخذهم على تخوف [ النحل : 47 ] فإنه سئل عنه على المنبر ، فقال له رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص ، ثم أنشده :

    [ ص: 140 ]
    تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن
    .

    فقال عمر : أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم ، فإن فيه تفسير كتابكم ، فليس بين الخبرين تعارض; لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه ، بخلاف الأول ، فإذا كان الأمر هكذا ، فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب; لأنه المقصود والمراد وعليه ينبني الخطاب ابتداء ، وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة ، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي ، فتستبهم على الملتمس ، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب ، فيكون عمله في غير معمل ، ومشيه على غير طريق ، والله الواقي برحمته .
    [ ص: 141 ] فصل

    ومنها : أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ، ليسعه الدخول تحت حكمها .

    أما الاعتقادية - بأن تكون من القرب للفهم ، والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور ، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا ، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ، ولم تكن أمية ، وقد ثبت كونها كذلك ، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ .

    وأيضا; فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق ، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول ، ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه ، وأرجت غير ذلك ، فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات ، وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك ، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة ، وهو قوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول ، نعم ، لا ينكر [ ص: 142 ] تفاضل الإدراكات على الجملة ، وإنما النظر في القدر المكلف به .

    ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين ، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام ، وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة ، بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها; حتى قال : لن يبرح الناس يتساءلون ، حتى يقولوا : هذا الله خالق كل شيء ، فمن خلق الله ؟ .

    وثبت النهي عن كثرة السؤال ، وعن تكلف ما لا يعني عاما في الاعتقاديات والعمليات ، وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل ، وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما [ ص: 143 ] سكت عنه ، أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه .

    وعلى هذا; فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية; فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها; فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ، ولله در القائل :


    وللعقول قوى تستن دون مدى إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات
    .

    ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها .

    وأما العمليات ; فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور ، بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم; كتعريفها بالظلال ، وطلوع الفجر والشمس ، وغروبها وغروب الشفق ، وكذلك في الصيام في قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها; نزل : من الفجر .

    وفي الحديث : إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس; فقد أفطر الصائم .

    [ ص: 144 ] وقال : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا وهكذا .

    وقال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم; فأكملوا العدة ثلاثين .

    ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل; لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها ، ولدقة الأمر فيه ، وصعوبة الطريق إليه ، وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين ، وعذر الجاهل فرفع [ ص: 145 ] عنه الإثم ، وعفا عن الخطأ ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور ، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة ، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية ، فإنها مظنة الضلال ، ومزلة الأقدام .

    فإن قيل : هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق النظر في مواقع الأحكام ، ومظان الشبهات ، ومجاري الرياء ، والتصنع للناس ، ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات - التي هي عند الجمهور من الدقائق - التي لا يهتدي إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص ، وقد كانت عندهم عظائم ، وهي مما لا يصل إليها الجمهور .

    وأيضا لو كانت كذلك لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس ، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة ، وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة ، وإن كان الجميع عربا وأمة أمية ، وهكذا سائر القرون إلى اليوم ، فكيف هذا ؟

    وأيضا; فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة ، وما يعرفه العلماء خاصة ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وذلك المتشابهات فهي شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق ، وما لا يوصل إليه على الإطلاق ، وما يصل إليه البعض دون البعض ، فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة ؟

    فالجواب أن يقال : أما المتشابهات; فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور إلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت [ ص: 146 ] آية التنزيه ، وإما راجعة إلى قواعد شرعية; فتتعارض أحكامها ، وهذا خاص مبني على عام هو ما نحن فيه ، وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه :

    أحدها : أنها أمور إضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة ، وإنما هي أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف ، وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها ، حتى زايل الأمية من وجه ، فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته ، فنسبته إلى ما فهمه ، نسبة العامي إلى ما فهمه ، والنسبة إذا كانت محفوظة ، فلا يبقى تعارض بين ما تقدم ، وما ذكر في السؤال .

    والثاني : أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد ، ورفع بعضهم فوق بعض ، كما أنهم في الدنيا كذلك ، فليس من له مزيد في فهم الشريعة ، كمن لا مزيد له ، لكن الجميع جار على أمر مشترك .

    والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك ، بل يدخلون مع غيرهم فيها ، ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك [ ص: 147 ] بعينه ، فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك ، فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك .

    كما نقول : إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة ، ومع ذلك فمنه ما هو من الجلائل ، كالورع عن الحرام البين والمكروه البين ، ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم ، وهو منها عند قوم آخرين ، فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة ، وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع عن بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول ، بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته ، وهكذا سائر المسائل التي يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج عن هذا القانون; فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك مفهوم للجمهور على الجملة .

    والثالث : أن ما فيه التفاوت إنما تجده في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التي لم يوضع لها حد يوقف عنده ، بل وكلت إلى نظر المكلف ، فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه ، فمن مدرك فيها أمرا قريبا ، فهو المطلوب منه ، ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول ، فهو المطلوب منه ، وربما تفاوت [ ص: 148 ] الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته ، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها ، بل بما هو دونها ، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا ، وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم ، والله أعلم .

    فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها ، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه ، ويتوسع بسببها في نيل حظوظه ، وذلك أن الأمي الذي لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية - وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده - بخلاف من كان له بذلك عهد ، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة ، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ، ولم تنزل دفعة واحدة ، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة ، وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك ، قال له : " ما لك لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق " . قال له عمر : " لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة ، وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة ، فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة " .

    [ ص: 149 ] وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي; فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس ، وكان أكثرها على أسباب واقعة; فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية ، لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة ، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف ، وعن العلم به رأسا ، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له ، ثم كذلك في الثالث والرابع .

    ولذلك أونسوا في الابتداء بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام ، كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه ، يقول تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] .

    ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ النحل : 123 ] .

    إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه [ آل عمران : 68 ] .

    إلى غير ذلك من الآيات ، فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف; فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين .

    [ ص: 150 ] وفي الحديث : الخير عادة وإذا اعتادت النفس فعلا ما من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه ، وانشرح به صدره; فلا يأتي فعل ثان إلا وفي النفس له القبول ، هذا في عادة الله في أهل الطاعة ، وعادة أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه ، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه ، فكان يحب الرفق ويكره العنف ، وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله; لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد ، وأسهل في التشريع للجمهور .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #52
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (52)
    صـ151 إلى صـ 162

    المسألة الخامسة

    إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين : من جهة دلالته على المعنى الأصلي ، ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصلي; كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام ، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي ، أو يعم الجهتين معا ؟

    أما جهة المعنى الأصلي; فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ، ولا يسع فيه خلاف على حال ، ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي ، والعمومات والخصوصات ، وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول .

    وأما جهة المعنى التبعي; فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا ؟ هذا محل تردد ، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر .

    فللمصحح أن يستدل بأوجه :

    أحدها : أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه ، أو لا ، ولا يمكن عدم اعتباره; لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه ، وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح ، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما شرعيا; لم يمكن إهماله واطراحه ، كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول; فهو إذا معتبر ، وهو المطلوب .

    والثاني : أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها [ ص: 152 ] بلسان العرب ، لا من جهة كونها كلاما فقط ، وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى ، وما دل بالجهة الثانية ، هذا وإن قلنا : إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص; فذلك كله غير ضائر ، وإذا كان كذلك ، فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص ، وترجيح من غير مرجح ، وذلك كله باطل ، فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية ، فكان اعتبارهما معا هو المتعين .

    والثالث : أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة ، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام : تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ، والمقصود الإخبار بنقصان [ ص: 153 ] الدين ، لا الإخبار بأقصى المدة ، ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ، ولو تصورت الزيادة لتعرض لها .

    واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره ، بقوله عليه السلام : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء ، حتى يغسلها الحديث; فقال : لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب [ ص: 154 ] الاستحباب; فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة ، لكنه لازم مما قصد ذكره .

    وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] ، مع قوله : وفصاله في عامين [ لقمان : 14 ] ; فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل ، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا ، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا ، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر .

    وقالوا في قوله تعالى : فالآن باشروهن ، إلى قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] الآية ، إنه يدل على جواز الإصباح جنبا ، وصحة الصيام ; لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي ذلك ، وإن لم يكن مقصود البيان; لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب .

    واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] .

    وأشباه ذلك من الآيات; فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله [ ص: 155 ] وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد ، لا أن الولد لا يملك ، لكنه لزم من نفي الولادة أن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا ، إذ لا موجود إلا رب أو عبد .

    واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام : فيما سقت السماء العشر الحديث ، مع أن المقصود تقدير [ ص: 156 ] الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ، ومثله كل عام نزل على سبب ، فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود ، وإن كان السبب على الخصوص .

    واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع .

    وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ، مع أن المقصود في قوله عليه السلام : من أعتق شركا له في عبد مطلق الملك ; [ ص: 157 ] لا خصوص الذكر .

    إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة ، وجميعها تمسك بالنوع الثاني لا بالنوع الأول ، وإذا كان كذلك; ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به .

    وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه :

    أحدها : أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها; فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى ، ومقوية لها وموضحة لمعناها ، وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ، ومن العقول موقع الفهم ، كما نقول في الأمر الآتي للتهديد أو التوبيخ; كقوله : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] .

    وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] .

    فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر ، وإنما هو مبالغة في التهديد أو الخزي ، [ ص: 158 ] فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر ، ولا يصح أن يؤخذ ، وكما نقول في نحو : واسأل القرية التي كنا فيها [ يوسف : 82 ] : إن المقصود : سل أهل القرية ، ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك; فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم ، وكذلك قوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض [ هود : 107 ] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان ، لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار . . . إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها ، وإذا كان [ ص: 159 ] كذلك; فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى; فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال .

    والثاني : أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هي الأولى; إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل; فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية ، وقد فرضناه من الثانية ، هذا خلف لا يمكن .

    [ ص: 160 ] لا يقال : إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد ، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية : إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة ، والجميع مقصود للشارع ، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية ، وينبني على ذلك في أحكام التكليف حسب ما يأتي بعد إن شاء الله; فكذلك نقول هنا : إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها; لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا ، وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحيح ، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى ، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى .

    لأنا نقول : هذا - إن سلم - من أدل الدليل على ما تقدم ; لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا ، من حيث كان مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح ، وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع ، فكذلك نقول في مسألتنا : إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى ، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي ، فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي ، وهو المطلوب .

    وأيضا; فإن بين المسألتين فرقا ، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات ، فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم ، وقضاء أوطارهم ، ورفع الحرج عنهم ، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات; صح [ ص: 161 ] إفراده بالقصد من هذه الجهة ، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية ، بخلاف مسألتنا; فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكيد للأولى; لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد ، فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره .

    والثالث : أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة ، فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها ، وذلك غير صحيح ، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى ، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهم عربي ، وذلك غير صحيح ، فما أدى إليه مثله ، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم ، وإنما هي راجعة إلى أحد أمرين : إما إلى الجهة الأولى ، وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك .

    فأما مدة الحيض; فلا نسلم أن الحديث دال عليها ، وفيه النزاع ، ولذلك يقول الحنفية : إن أكثرها عشرة أيام ، وإن سلم; فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع ، وفيه الكلام .

    ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره ، وأقل مدة [ ص: 162 ] الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية ، وكذلك مسألة الإصباح جنبا; إذ لا يمكن غير ذلك ، وأما كون الولد لا يملك ، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع ، وما ذكر في مسألة الزكاة ، فالقائل بالتعميم - إنما بنى على أن العموم مقصود ، ولم يبن على أنه غير مقصود ، وإلا كان تناقضا; لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع ، فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود ، وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] فهو عنده مقصود لا ملغى ، وإلا لزم التناقض في الأمر كما ذكر ، وكذلك شأن القياس الجلي لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس ، إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه ، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب .

    فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت ، فلا يصح إعماله ألبتة ، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث ، كذلك يمكن في الأول والثاني ، فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه : فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضي حكما شرعيا; فلا يمكن إهماله ، وهذا عين مسألة النزاع ، والثاني مسلم ، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه; فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا ، والله أعلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #53
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (53)
    صـ163 إلى صـ 169

    فصل

    قد تبين تعارض الأدلة في المسألة ، وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين ، فاقتضى الحال أن الجهة الثانية ، وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة .

    لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي ، هي آداب شرعية ، وتخلقات حسنة ، يقر بها كل ذي عقل سليم ، فيكون لها اعتبار في الشريعة ، فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة ، وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا .

    وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة :

    أحدها : أن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ، ومن العباد لله سبحانه ، إما حكاية ، وإما تعليما ، فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد ثابتا غير محذوف ، كقوله تعالى : يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة [ العنكبوت : 56 ] .

    قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [ الزمر : 53 ] .

    قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .

    يا أيها الناس [ الأعراف : 158 ] .

    يا أيها الذين آمنوا [ البقرة : 104 ] .

    فإذا أتى بالنداء من العباد إلى الله تعالى; جاء من غير حرف فلا تجد فيه نداء بالرب تعالى بحرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل ، والله منزه عن التنبيه .

    [ ص: 164 ] وأيضا; فإن أكثر حروف النداء للبعيد ، ومنها " يا " التي هي أم الباب ، وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا ، لقوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب [ البقرة : 186 ] الآية .

    ومن الخلق عموما ، لقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [ المجادلة : 7 ] .

    وقو****له : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ ق : 16 ] .

    فحصل من هذا التنبيه على أدبين :

    أحدهما : ترك حرف النداء .

    والآخر : استشعار القرب .

    كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة ، وهو العبد ، والدلالة على ارتفاع شأن المنادى ، وأنه منزه عن مداناة العباد; إذ هو في دنوه عال ، وفي علوه دان ، سبحانه !

    والثاني : أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه ، فأتى في النداء القرآني بلفظ : الرب ****في عامة الأمر; تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضى للحال المدعو بها ، وذلك أن الرب في اللغة : هو القائم بما يصلح المربوب; فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] إلى آخرها ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] ، [ ص: 165 ] وإنما أتى قوله تعالى : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ الأنفال : 32 ] من غير إتيان بلفظ الرب لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دعوا به ، بل هو مما ينافيه ، بخلاف الحكاية عن عيسى عليه السلام في قوله : قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء [ المائدة : 114 ] الآية; فإن لفظ الرب فيها مناسب ****جدا .

    والثالث : أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها; كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة ، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط ، وكما قال في نحوه : كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع ، وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل .

    والرابع : أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه; كقوله تعالى : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ الفاتحة : 2 - 4 ] .

    ثم قال : إياك نعبد [ الفاتحة : 5 ] .

    وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضا; كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة [ يونس : 22 ] .

    [ ص: 166 ] وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ عبس : 1 - 2 ] حيث عوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المقدار من هذا العتاب ، لكن على حال تقتضي الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتب ، ثم رجع الكلام إلى الخطاب ، إلا أنه بعتاب أخف من الأول ، ولذلك ختمت الآية بقوله : كلا إنها تذكرة [ عبس : 11 ] .

    والخامس : الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى ، وإن كان هو الخالق لكل شيء ، كما قال بعد قوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء [ آل عمران : 26 ] إلى قوله بيدك الخير [ آل عمران : 26 ] ولم يقل : " بيدك الخير والشر " ، وإن كان قد ذكر القسمين معا; لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر ، نعم ، قال في أثره : إنك على كل شيء قدير [ آل عمران : 26 ] تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه; حتى جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : والخير في يديك ، والشر ليس إليك [ ص: 167 ] وقال إبراهيم عليه السلام : الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين [ الشعراء : 78 ] إلخ ، فنسب إلى رب العالمين الخلق ، والهداية ، والإطعام ، والسقي ، والشفاء ، والإماتة ، والإحياء ، وغفران الخطيئة دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض ، فإنه سكت عن نسبته إليه .

    والسادس : الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة; كما في قوله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سبأ : 24 ] .

    وقوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ الزخرف : 81 ] .

    قل إن افتريته فعلي إجرامي [ هود : 35 ] .

    وقوله : قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون [ الزمر : 43 ] .

    أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ المائدة : 104 ] .

    لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية .

    والسابع : الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها ، وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية; كقوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .

    فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده [ المائدة : 52 ] .

    وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] .

    [ ص: 168 ] ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى : لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .

    لعلكم تذكرون [ الأنعام : 152 ] .

    وما أشبه ذلك ، فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ، ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا; فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر ، بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور - أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم ، دخولا في غمار العامة ، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز بها ، وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات ، وقد كان رسول الله يعلم بأخبار كثير من المنافقين ، ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ، ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون; لاجتماعهم في عدم انخرام الظاهر; فما نحن فيه نوع من هذا الجنس ، والأمثلة كثيرة فإذا كان كذلك; ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى ، وهو توهين لما تقدم اختياره .

    [ ص: 169 ] والجواب : أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني ، وإنما استفيد من جهة أخرى ، وهي جهة الاقتداء بالأفعال ، والله أعلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #54
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (54)
    صـ170 إلى صـ 179

    النوع ***الثالث

    في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها

    ويحتوي على مسائل

    المسألة الأولى

    ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به ، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا ، ولا معنى لبيان ذلك هاهنا; فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ، ولكن نبني عليها ونقول : إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه; [ ص: 172 ] فقول الله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وقوله في الحديث : كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل ، وقوله : " لا تمت [ ص: 173 ] وأنت ظالم " ، وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة ، وهو الإسلام ، وترك الظلم ، والكف عن القتل ، والتسليم لأمر الله ، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل .

    ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا [ ص: 174 ] تشرف يا رسول الله ، لا يصيبوك الحديث; فقوله : " لا يصيبوك " من هذا القبيل .
    [ ص: 175 ] المسألة الثانية

    إذا ثبت هذا; فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها ، فإنه من تكليف ما لا يطاق ، كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه ، ولا تكميل ما نقص منها; فإن ذلك غير مقدور للإنسان ، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه ، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل ، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل ، وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الاكتساب .
    [ ص: 176 ] المسألة الثالثة

    إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان ; فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان :

    منها : ما يكون ذلك فيه مشاهدا محسوسا كالذي تقدم .

    ومنها : ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك ، ومثاله العجلة ، فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه; لقوله تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] .

    وفي الصحيح : إن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك .

    وقد جاء أن : " الشجاعة والجبن غرائز " .

    و " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها " .

    [ ص: 177 ] إلى أشياء من هذا القبيل ، وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات .

    وجاء : " يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب " .

    [ ص: 178 ] وإذا ثبت هذا; فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام :

    أحدها : ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا ، وهذا قليل; كقوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به .

    والثاني : ما كان داخلا تحت كسبه قطعا ، وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه ، والطلب المتعلق بها على حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها .

    والثالث : ما قد يشتبه أمره; كالحب والبغض وما في معناهما; فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها ، فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه ، والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا; إما لأنها من أصل الخلقة ، فلا يطلب إلا بتوابعها; فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية ، فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه ، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب ، وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالا أخر ، فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه; فالطلب يرد عليه كقوله : " تهادوا تحابوا " فيكون كقوله : " أحبوا [ ص: 179 ] الله لما أسدى إليكم من نعمه " مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى [ ص: 180 ] على العبد وكثرة إحسانه إليه ، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل ، وعين الشهوة لم ينه عنه ، وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبه; [ ص: 181 ] فالطلب يرد على اللواحق; كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #55
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (55)
    صـ180 إلى صـ 190

    فصل

    ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه ، وما ينشأ عنها من آفات اللسان ، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره .

    وعليه يدل كثير من الأحاديث ، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة; كالعلم ، والتفكر ، والاعتبار ، واليقين ، والمحبة ، والخوف ، والرجاء ، وأشباهها مما هو نتيجة عمل ، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها ، أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا ، فليس تحصيله بمقدور أصلا ، فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات ، فهو حاصل ولا يمكنه الانصراف عنه ، وإن كان غير ضروري لم يمكن تحصيله إلا بتقديم النظر ، وهو المكتسب دون نفس العلم; لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة ، لأن النتيجة لازمة للمقدمتين فتوجيه النظر فيه هو المكتسب ، فيكون المطلوب وحده ، وأما العلم على أثر النظر ، فسواء علينا قلنا إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها ، كما هو رأي المحققين ، أم لم نقل ذلك ، فالجميع متفقون على [ ص: 183 ] أنه غير داخل تحت الكسب نفسه ، وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال .

    وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا ، إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل ، وإذا كانت على هذا الترتيب; لم يصح التكليف بها أنفسها ، وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك; فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها ، أو يتأخر عنها ، أو يقارنها ، والله أعلم .
    المسألة الرابعة

    الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين :

    أحدهما : ما كان نتيجة عمل ، كالعلم والحب في نحو قوله : " أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه " .

    والثاني : ما كان فطريا ولم يكن نتيجة عمل ، كالشجاعة ، والجبن ، والحلم ، والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس ، وما كان نحوها .

    فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة ، من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة ، وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها ، وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض ، على ذلك الترتيب .

    والثاني وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين :

    إحداهما : من جهة ما هي محبوبة للشارع أو غير محبوبة له .

    والثانية : من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع ؟

    فأما النظر الأول; فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس : إن فيك لخصلتين يحبهما [ ص: 185 ] الله : الحلم ، والأناة .

    وفي بعض الروايات أخبره أنه مطبوع عليهما ، وفي بعض الحديث : " الشجاعة والجبن غرائز " .

    [ ص: 186 ] وجاء : إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية [ ص: 187 ] وفي الحديث : الأرواح جنود مجندة; فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، وهذا معنى التحاب والتباغض ، وهو غير مكتسب .

    وجاء في الحديث : وجبت محبتي للمتحابين في .

    وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله [ ص: 188 ] من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر ، والضعف خلاف ذلك .

    وجاء : إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها .

    [ ص: 189 ] وجاء : يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب .

    وقال تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] .

    وجاء في معرض الذم والكراهية ، ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة .

    ولا يقال : إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال; لأن ذلك : أولا : خروج عن الظاهر بغير دليل .

    وثانيا : أنهما يصح تعلقهما بالذوات ، وهي أبعد عن الأفعال من الصفات; كقوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] الآية .

    أحبوا الله لما غذاكم به من نعمه .

    و من الإيمان الحب في الله والبغض في الله .

    [ ص: 190 ] ولا يسوغ في هذه المواضع أن يقال : إن المراد حب الأفعال فقط; فكذلك لا يقال في الصفات - إذا توجه الحب إليها في الظاهر - إن المراد الأفعال .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #56
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (56)
    صـ191 إلى صـ 203

    فصل

    وإذا ثبت هذا; فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال; كقوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ النساء : 148 ] .

    ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم [ التوبة : 46 ] .

    أبغض الحلال إلى الله الطلاق .

    ليس أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه .

    [ ص: 191 ] وهذا كثير .

    وإذا قلت : أحب الشجاع وأكره الجبان; فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف; نحو قوله تعالى : والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] .

    والله يحب الصابرين [ آل عمران : 146 ] .

    إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] .

    وفي القرآن أيضا : إن الله لا يحب كل مختال فخور [ لقمان : 18 ] .

    والله لا يحب الظالمين [ آل عمران : 57 ] .

    وفي الحديث : إن الله يبغض الحبر السمين .

    [ ص: 192 ] [ ص: 193 ] فإذا; الحب والبغض مطلق في الذوات والصفات والأفعال ; فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل .

    وأما النظر الثاني وهو أن يقال : هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف - وهي غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها - الثواب والعقاب أم لا يصح ؟

    هذا يتصور في ثلاثة أوجه :

    أحدها : أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب .

    والثاني : أن يتعلقا معا بها .

    والثالث : أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر .

    أما هذا الأخير; فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين لأنه مركب منهما .

    فأما الأول; فيستدل عليه بوجهين :

    أحدهما : أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا; لأنه تكليف بما لا يطاق ، وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب ، لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا; فالأوصاف المشار إليها لا [ ص: 194 ] ثواب عليها ولا عقاب .

    والثاني : أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف; إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات أو من جهة متعلقاتها ، فإن كان الأول لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها ، كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ، ومعاقبا عليها أيضا كذلك ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله ، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة ، وذلك محال ، وإن كان من حيث متعلقاتها ، فالثواب والعقاب على المتعلقات - وهي الأفعال والتروك - لا عليها ، فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب ، وهو المطلوب .

    وأما الثاني; فيستدل عليه أيضا بأمرين :

    أحدهما : أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها ، والحب والبغض من الله تعالى; إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام; فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك ، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام; فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ، وهذا رأي طائفة [ ص: 195 ] أخرى ، وعلى كلا الوجهين ، فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام ، وهما عين الثواب والعقاب; فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب .

    والثاني : أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات; إما أن يستلزم الثواب والعقاب ، أو لا ، فإن استلزم فهو المطلوب ، وإن لم يستلزم ، فتعلق الحب والبغض إما للذات ، وهو محال ، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى ، وهو محال ، لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء ، بل هو الغني على الإطلاق ، وذو الكمال بكل اعتبار ، وإما للعبد وهو الجزاء; لا زائد يرجع للعبد إلا ذلك .

    [ ص: 196 ] [ ص: 197 ] [ ص: 198 ] [ ص: 199 ] [ ص: 200 ] وأمر ثالث : وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات ، أو لا ، فإن كان الجزاء متفاوتا; فقد صار للصفات قسط من الجزاء ، وهو المطلوب ، وإن كان متساويا; لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل ، وذلك غير صحيح ، لما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب ، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك .

    وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب ، وبالعكس ، وهو محال; فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب ، وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء; فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها ، وذلك ما أردنا .

    [ ص: 201 ] وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل .

    أما الأول; فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان ، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف ، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب; فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارا ، علم بها أو لم يعلم ، والثاني; كشارب الخمر ، ومن أتى عرافا; فإنه جاء أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ، ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت [ ص: 202 ] أركانها وشروطها ، ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم ، عدلا كان أو فاسقا ، وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل .

    وأما الثاني; فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء ، فقوله : إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف; فقد ثبت بطلانه ، وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر في الثواب والعقاب ، وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه .

    ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته :

    أما الأول ، فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور ، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها .

    وأما الثاني; فإن القسمة غير منحصرة; إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب ، وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجاري العادات .

    وأما الثالث; فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات; فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان ، فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال [ ص: 203 ] الصانع وبالضد; فكذلك هاهنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ، ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات ، وهو المطلوب .

    فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ، ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ، ولا حاجة إليه في هذا الموضع ، وبالله التوفيق .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #57
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (57)
    صـ204 إلى صـ 213

    المسألة الخامسة

    تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف ، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره ، لكنه شاق ، فهذا موضعه; فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق ، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق ، ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليف بالمشاق ، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق .

    وأيضا; فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء ، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم .

    [ ص: 205 ] [ ص: 206 ] وأما المعتزلة; فذلك أصلهم ، بخلاف التكليف بما يشق ، فإذا كان كذلك; فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة .

    ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى " المشقة " ، وهي في [ ص: 207 ] أصل اللغة من قولك : شق علي الشيء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ، ومنه قوله تعالى : لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ النحل : 7 ] .

    والشق هو الاسم من المشقة ، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي; اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية :

    أحدها : أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره ، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة ، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدي; كالمقعد إذا تكلف القيام ، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء ، وما أشبه ذلك ، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة; سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة .

    والثاني : أن يكون خاصا بالمقدور عليه; إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية ، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ، ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة .

    إلا أن هذا الوجه على ضربين :

    أحدهما : أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها ، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها ، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء; كالصوم في المرض والسفر ، والإتمام في السفر ، وما أشبه ذلك .

    والثاني : ألا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها ، صارت شاقة ، ولحقت المشقة العامل بها ، ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما ، إلا أنه في الدوام [ ص: 208 ] يتعبه ، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول ، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا ، حسب ما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال ، وعن التنطع والتكلف ، وقال : خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا .

    وقوله : القصد ، القصد تبلغوا .

    والأخبار هنا كثيرة ، وللتنبيه عليها موضع آخر; فهذه مشقة ناشئة من أمر كلي وفي الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي .

    [ ص: 209 ] والوجه الثالث : أن يكون خاصا بالمقدور عليه ، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ، ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف ، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة; لأن العرب تقول : كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به ، وتكلفت الشيء إذا تحملته على مشقة ، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا ، فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا .

    والرابع : أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله; فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء ، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق .

    فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها ، انتظمت في أربعة :

    فأما الأول; فقد تخلص في الأصول ، وتقدم ما يتعلق به .

    وأما الثاني : وهي :
    [ ص: 210 ] المسألة السادسة

    فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالشاق الإعنات فيه ، والدليل على ذلك أمور :

    أحدها : النصوص الدالة على ذلك; كقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] .

    وقوله : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] الآية .

    وفي الحديث : " قال الله تعالى : قد فعلت " .

    وجاء : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

    يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .

    [ ص: 211 ] وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .

    يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .

    ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية .

    وفي الحديث : بعثت بالحنيفية السمحة .

    وما خير بين شيئين; إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .

    [ ص: 212 ] وإنما قال : " ما لم يكن إثما " ; لأن ترك الإثم لا مشقة فيه ، من حيث كان مجرد ترك ، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف ، ولكان مريدا للحرج والعسر ، وذلك باطل .

    والثاني : ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص ، وهو أمر مقطوع به ، ومما علم من دين الأمة ضرورة; كرخص القصر ، والفطر ، والجمع ، وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا النمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة ، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال ، ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف ، لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف .

    والثالث : الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف ، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه ، ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض [ ص: 213 ] والاختلاف ، وذلك منفي عنها; فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة ، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير; كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا ، وهي منزهة عن ذلك .

    وأما الثالث : وهي :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #58
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (58)
    صـ214 إلى صـ 221

    المسألة السابعة

    فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة ، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع; لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد ، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ، ويذمونه بذلك; فكذلك المعتاد في التكاليف .

    وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة ، والتي تعد مشقة ، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه ، أو عن بعضه ، أو إلى وقوع خلل في صاحبه ، في نفسه أو ماله ، أو حال من أحواله ، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد ، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب; فلا يعد في العادة مشقة ، وإن سميت كلفة ، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار ، في أكله وشربه وسائر تصرفاته ، ولكن جعل له قدرة عليها ، بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره ، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات ، فكذلك التكاليف; فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة .

    [ ص: 215 ] وإذا تقرر هذا; فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة ، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف ، والدليل على ذلك ما تقدم في المسالة قبل هذا .

    فإن قيل : ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف; لأوجه :

    أحدها : أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك; إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة ، وهي المشقة فقول الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ; معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها ، وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة; فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة ، والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة ، لتسمية الشرع له تكليفا; فهي إذا مقصودة له ، وعلى هذا النحو [ ص: 216 ] يتنزل قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وأشباهه .

    والثاني : أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ، ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة; فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك ، فإذا يلزم أن يكون الشارع طالبا للمشقة ، بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسبب عنه قاصد للمسبب ، وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام; فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا .

    والثالث : أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف ، مع قطع النظر عن ثواب التكليف; كقوله تعالى : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله [ التوبة : 120 ] إلى آخر الآية .

    وقوله : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ العنكبوت : 69 ] .

    وما جاء في " كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا " [ ص: 217 ] وما جاء في " إسباغ الوضوء على المكاره " .

    وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] الآية ، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات; حتى قال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة : 111 ] ، وأشباه ذلك .

    فإذا كانت المشقات - من حيث هي مشقات - مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف; دل على أنها مقصود له ، وإلا ، فلو لم يقصدها; لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التي لم يكلف بها ، فأوقعها المكلف باختياره حسب ما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام; فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف ، وهو المطلوب .

    فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين :

    أحدهما : أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة .

    والثاني : أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا .

    [ ص: 218 ] فأما الثاني; فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل ، والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب .

    وأما الأول; فلا نسلم أنه قصد ذلك ، والقصدان لا يلزم اجتماعهما; فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع ، والإيلام بفصد العروق وقطع الأعضاء المتأكلة; نفع المريض لا إيلامه ، وإن كان على علم من حصول الإيلام; فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة ، والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة ، فالنزاع في قصده للمشقة ، وإنما سمي تكليفا باعتبار ما يلزمه ، على عادة العرب في تسمية الشيء بما يلزمه ، وإن كان في الاستعمال غير مقصود حسب ما هو معلوم في علم الاشتقاق ، من غير أن يكون ذلك مجازا ، بل على حقيقة الوضع اللغوي .

    [ ص: 219 ] والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب - وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف - ; فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه ، أعني : في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة ، لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة ، إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه ، وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع; إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد ، وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام ، وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله .

    وأيضا ، لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا; لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ، ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا لرفع المشقة وإيقاعها معا ، وهو محال باطل عقلا وسمعا .

    وأيضا; فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتأكلة ، وقلع الأضراس الوجعة ، وبط الجراحات الوجعة ، وأن يحمي المريض ما يشتهيه ، وإن كان يلزم منه إذاية المريض; لأن المقصود إنما هو [ ص: 220 ] المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم ، وهذا شأن الشريعة أبدا ، فإذا كان التكليف على وجه ، فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة; لأن المقصود المصلحة ; فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع ، فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها ، فإذا أمر بما تلزم عنه ، فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ، ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة .

    وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم ، فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة; فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها .

    والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف ، وبها حصل العمل المكلف به ، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود ، لا أنها مقصودة مطلقا ، فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ، ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات ، وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب ، كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها; إلا كفر الله به من سيئاته وما أشبه ذلك .

    [ ص: 221 ] وأيضا; فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع ، وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ، ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به ، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #59
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (59)
    صـ222 إلى صـ 232

    فصل

    ويترتب على هذا أصل آخر :

    وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها ، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل .

    أما هذا الثاني; فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر ، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به ، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب .

    وأما الأول; فإن الأعمال بالنيات ، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله ، فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع ، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة ، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض .

    [ ص: 223 ] فإن قيل : هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر; قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال بني سلمة ! دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم ! .

    وفي رواية : فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا .

    وفي رواية عن جابر; قال : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن لكم بكل خطوة درجة .

    وفي رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري; أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها ، فإذا رجل يقول : " يا أهل السفينة ! قفوا " سبع مرار . فقلنا : ألا ترى على أي حال نحن ؟ ثم قال في السابعة : لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر; كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد [ ص: 224 ] الحر فيصومه .

    وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه ، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا ، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل : أحدهما سهل ، والآخر صعب; فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر ، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر .

    وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء; فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم ، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم ، وترك الرخص جملة ، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم .

    وفي الصحيح أيضا عن أبي بن كعب; قال : كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة ، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فتوجعنا له; فقلنا له : يا فلان ! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض ؟ فقال : أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فحملت به حتى أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، قال : فدعاه ، فقال له مثل [ ص: 225 ] ذلك ، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لك ما احتسبت " .

    فالجواب أن نقول :

    أولا : إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات; فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات .

    وثانيا : إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة ، فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره; فإنه زاد فيه : " وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك; لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها " .

    وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ، ثم نزل إلى المدينة ، وقيل له عند نزوله العقيق : لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد ؟ فقال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويأتيه ، وأن بعض الأنصار [ ص: 226 ] أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد; فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما تحتسبون خطاكم ؟ " ; فقد فهم مالك أن قوله : " ألا تحتسبون خطاكم " ليس من جهة إدخال المشقة; ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه .

    [ ص: 227 ] وأما حديث ابن المبارك; فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ، ومع ذلك; فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه; كالوضوء عند الكريهات ، والظمأ والنصب في الجهاد ، فإذا اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك ، لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به ، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها; فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة ، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة ، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد ، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره ، وهكذا سائر ما في هذا المعنى .

    وأما شأن أرباب الأحوال; فمقاصدهم القيام بحق معبودهم ، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ، ولا يصح أن يقال : إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات; لما تقدم من الدليل عليه ، ولما سيأتي بعد إن شاء الله .

    [ ص: 228 ] وثالثا : إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرادوا التشديد بالتبتل ، حين قال أحدهم : أما أنا; فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا; فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا; فلا آتي النساء ، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله ، وقال : من رغب عن سنتي; فليس مني .

    وفي الحديث : ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصينا .

    ورد - صلى الله عليه وسلم - على من نذر أن يصوم قائما في الشمس; فأمره بإتمام صيامه ، ونهاه عن القيام في الشمس .

    وقال : هلك المتنطعون .

    [ ص: 229 ] ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلا فيها قطعيا ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع; بطل ولم يصح ، وهذا واضح ، وبالله التوفيق .
    فصل

    وينبني أيضا على ما تقدم أصل آخر .

    وهو أن الأفعال المأذون فيها; إما وجوبا ، أو ندبا ، أو إباحة ، إذا تسبب عنها مشقة ; فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل ، أو لا تكون معتادة ، فإن كانت معتادة; فذلك الذي تقدم الكلام عليه ، وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هي مشقة ، وإن لم تكن معتادة; فهي أولى ألا تكون مقصودة للشارع ، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره ، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله ، أو لا .

    فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح في التعبد به; لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ، ومثال هذا حديث الناذر للصيام [ ص: 230 ] قائما في الشمس ، ولذلك قال مالك في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال : " أمره أن يتم ما كان لله طاعة ، ونهاه عما كان لله معصية " ; لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة ، لا بسبب الدخول في العمل; كما في المثال; فالحكم فيه بين .

    وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما ، والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا; إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل ، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وجاء فيه مشروعية الرخص .

    ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة; فذاك ، ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه ، وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه ، وإن لم يعمل بالرخصة; فعلى وجهين :

    أحدهما : أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ، ويكره بسببه العمل; فهذا أمر ليس له ، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك ، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش .

    وفي مثل هذا جاء : ليس من البر الصيام في السفر .

    [ ص: 231 ] وفي نحوه نهي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان .

    وقال : لا يقض القاضي وهو غضبان .

    وفي القرآن : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] .

    إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله ، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب ، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف .

    والثاني : أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ، ولكن في العمل مشقة غير معتادة; فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ، ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام ، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت ، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج ، وإن قدر على الصبر عليها; فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة .

    [ ص: 232 ] إلا أن هنا وجها ثالثا ، وهو أن تكون المشقة غير معتادة ، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ، ورب شيء هكذا ، فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى ، المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية ، وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة على المكلف ، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة ، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا ، وقام حتى تفطرت قدماه ، فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية .

    وهذا القسم يستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس; فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه ، مع تأكده في أصول الشريعة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #60
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثانى
    الحلقة (60)
    صـ233 إلى صـ 247


    فصل

    فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين :

    أحدهما : الخوف من الانقطاع من الطريق ، وبغض العبادة ، وكراهة التكليف ، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله .

    والثاني : خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع ، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق ، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها ، وقاطعا بالمكلف دونها ، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء; فانقطع عنهما .

    فأما الأول ; فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة ، حفظ فيها على الخلق قلوبهم ، وحببها لهم بذلك ، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة; لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] إلى آخرها; فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله ، وزينه في قلوبنا بذلك ، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه .

    [ ص: 234 ] وفي الحديث : عليكم من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا .

    وفي حديث قيام رمضان : أما بعد; فإنه لم يخف علي شأنكم ، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها .

    وفي حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة - رضي الله عنها : هذه الحولاء بنت تويت ، زعموا أنها لا تنام الليل . فقال عليه الصلاة والسلام : لا تنام الليل ؟ ! خذوا من العمل ما تطيقون; فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .

    وحديث أنس : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وحبل ممدود بين ساريتين; [ ص: 235 ] فقال : " ما هذا ؟ " ، قالوا : حبل لزينب ، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به . فقال : حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر; قعد .

    وحديث معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام : أفتان أنت يا معاذ ؟ حين أطال الصلاة بالناس ، وقال : إن منكم منفرين; فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز; فإن فيهم الضعيف ، والكبير ، وذا الحاجة .

    ونهى عن الوصال رحمة لهم .

    ونهى عن النذر ، وقال : إن الله يستخرج به من البخيل ، وإنه لا يغني من قدر الله شيئا .

    أو كما قال ، لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه [ ص: 236 ] ما تقدم من السآمة والملل ، والعجز ، وبغض الطاعة وكراهيتها .

    وقد جاء عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; أنه قال : إن هذا الدين متين; فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى .

    [ ص: 237 ] [ ص: 238 ] [ ص: 239 ] وقالت عائشة رضي الله عنها : نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم . قالوا : إنك تواصل . فقال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .

    وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع ، وإذا كان كذلك; فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما ، فإذا وجد ما علل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان النهي متوجها ومتجها ، وإذا لم توجد; فالنهي مفقود ، إذ الناس في هذا الميدان على ضربين :

    ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد; فتؤثر فيه أو في غيره فسادا ، أو تحدث له ضجرا ومللا ، وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل; كما هو الغالب في المكلفين; فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك ، بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص ، إن كان مما لا يجوز تركه ، أو يتركه إن كان مما له تركه ، وهو مقتضى التعليل ، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقض القاضي وهو غضبان ، وقوله : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، وهو الذي أشار به عليه [ ص: 240 ] الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم ، وقد قال بعد الكبر : ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل ، لوازع هو أشد من المشقة ، أو حاد يسهل به الصعب ، أو لما له في العمل من المحبة ، ولما حصل له فيه من اللذة ، حتى خف عليه ما ثقل على غيره ، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة ، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة ، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره; كما جاء في الحديث : أرحنا بها يا بلال .

    وفي الحديث : حبب إلي من دنياكم ثلاث ، قال : وجعلت قرة عيني في الصلاة .

    [ ص: 241 ] وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ! .

    وقيل له عليه الصلاة والسلام : أنأخذ عنك في الغضب والرضى ؟ قال : نعم .

    [ ص: 242 ] وهو القائل في حقنا : " لا يقضي القاضي وهو غضبان " ، وهذا وإن كان خاصا به; فالدليل صحيح .

    وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير .

    ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضي الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد; كعمر ، وعثمان ، وأبي موسى الأشعري ، وسعيد بن عامر ، وعبد الله بن الزبير; ومن التابعين ، كعامر بن عبد قيس ، وأويس ، ومسروق ، وسعيد بن المسيب ، والأسود بن يزيد ، والربيع بن خثيم ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش ، وكمنصور بن زاذان ، ويزيد بن هارون ، وهشيم ، وزر بن حبيش ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم ، وهم من اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم .

    ومما جاء عن عثمان - رضي الله عنه - أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله .

    [ ص: 243 ] وكم من رجل منهم صلى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنة ، وسرد الصيام كذا وكذا سنة .

    وروي عن ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام ، وأجاز مالك صيام الدهر .

    وكان أويس القرني يقوم ليلة حتى يصبح ، ويقول : بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا .

    [ ص: 244 ] ونحوه عن عبد الله بن الزبير .

    وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة ، حتى يخضر جسده ويصفر ، فكان علقمة يقول له : ويحك ! لم تعذب هذا الجسد ؟ فيقول : إن الأمر جد ، إن الأمر جد .

    وعن أنس بن سيرين أن امرأة مسروق قالت : كان يصلي حتى تورمت قدماه ، فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه .

    وعن الشعبي ; قال غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم ، فقالت له ابنته : أفطر ! قال : ما أردت بي ؟ قالت : الرفق . قال : يا بنية ! إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .

    إلى سائر ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم ، ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة ، بل كانوا معدودين في السابقين ، جعلنا الله منهم ، وذلك لأن العلة التي لأجلها نهي عن العمل الشاق مفقودة في حقهم; فلم ينتهض النهي في حقهم ، كما أنه لما [ ص: 245 ] قال : " لا يقض القاضي وهو غضبان " ، وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطرد النهي مع كل ما يشوش الفكر ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يشوش ، وهذا صحيح مليح .

    فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد ، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة ، فالخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة تيار حامل ، فالخائف يعمل مع وجود المشقة ، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا ، والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا ، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب ، فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد ، ويفنى القوي ، ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ، ولا قام بشكر النعمة ، ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته ، وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان ، ويرخص له فيه إن كان لازما له ، حتى لا يحصل في مشقة ذلك; لأن فيه تشويش النفس كما تقدم .

    ولكن العمل الحاصل - والحالة هذه - هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله ؟

    هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة " الصلاة في الدار المغصوبة " ، وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي ، وأنه لا يجزئه إن فعل ، ونقل المنع في الطهارة عند خوف التلف ، والانتقال إلى التيمم ، وفي خوف المرض أو تلف المال احتمال ، والشاهد للمنع قوله [ ص: 246 ] تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] ، وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف ، لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات ، فالأمران مفترقان ، فإن إدخال المشقة الفادحة على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة ، والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة; فصارت ذات قولين .

    وأيضا; فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى ، وهي أن يقال هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله ، أم لأجل أنها حق للعبد ؟ فإن قلنا : إنها حق لله ، فيتجه المنع حيث وجهه الشارع ، وقد رفع الحرج في الدين ، فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع ، وإن قلنا إنه حق للعبد ، فإذا سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة .

    والذي يرجح هذا الثاني أمور :

    منها : أن قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] ، وقد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد; لقوله تعالى : إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ، يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم لأنه أرفق بهم ، وأيضا; فقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] وأشباهها من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد .

    ومنها : ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإرادة اليسر; فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحرج والعسر ، فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي ، ومما يخص مسألتنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه ، أو تورمت قدماه ، والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد ، ولكن المر في طاعة [ ص: 247 ] الله يحلو للمحبين ، وهو عليه الصلاة والسلام كان إمامهم ، وكذلك جاء عن السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم ، وقد روي عن الحسن بن عرفة; قال : رأيت يزيد بن هارون بواسط ، وهو من أحسن الناس عينين ، ثم رأيته بعين واحدة ، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه ، فقلت له : يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان ؟ فقال : ذهب بهما بكاء الأسحار .

    وما تقدم في احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى ، فإذا من غلب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق ، ومن غلب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق ، ولكن جعل ذلك إلى خيرته .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •