تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 20 من 25 الأولىالأولى ... 10111213141516171819202122232425 الأخيرةالأخيرة
النتائج 381 إلى 400 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #381
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ طَه
    الحلقة (381)
    صــ 299 إلى صــ 306




    ويقول هؤلاء : ضربته بين أذناه . وقال النحويون القدماء : هاهنا هاء مضمرة ، [ ص: 299 ] المعنى : إنه هذان لساحران . وقالوا أيضا : إن معنى ( إن ) : نعم هذان لساحران ، وينشدون :


    ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه


    قال الزجاج : والذي عندي وكنت عرضته على عالمنا محمد بن يزيد ، وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد ، فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا ، وهو أن ( إن ) قد وقعت موقع ( نعم ) ، والمعنى : نعم هذان لهما الساحران ، ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة ، وأستحسن هذه القراءة ; لأنها مذهب أكثر القراء وبها يقرأ ، وأستحسن قراءة عاصم والخليل ; لأنهما إمامان ولأنهما وافقا أبي بن كعب في المعنى ، ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف المصحف . وحكى ابن الأنباري عن الفراء ، قال : ألف ( هذان ) هي ألف ( هذا ) ، والنون فرقت بين الواحد والتثنية ، كما فرقت نون ( الذين ) بين الواحد والجمع .

    قوله تعالى : " ويذهبا بطريقتكم " ؟ وقرأ أبان عن عاصم : ( ويذهبا ) بضم الياء وكسر الهاء . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو رجاء العطاردي : ( ويذهبا بالطريقة ) بألف ولام مع حذف الكاف والميم .

    وفي الطريقة قولان :

    أحدهما : بدينكم المستقيم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة : بسنتكم ودينكم وما أنتم عليه ، يقال : فلان حسن الطريقة . [ ص: 300 ]

    والثاني : بأمثلكم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد : بأولي العقل والأشراف والأسنان . وقال الشعبي : يصرفان وجوه الناس إليهما . قال الفراء : الطريقة : الرجال الأشراف ، تقول العرب للقوم الأشراف : هؤلاء طريقة قومهم ، وطرائق قومهم .

    فأما " المثلى " فقال أبو عبيدة : هي تأنيث الأمثل ، تقول في الإناث : خذ المثلى منهما ، وفي الذكور : خذ الأمثل . وقال الزجاج : ومعنى المثلى والأمثل : ذو الفضل الذي به يستحق أن يقال : هذا أمثل قومه ، قال : والذي عندي أن في الكلام محذوفا ، والمعنى : يذهبا بأهل طريقتكم المثلى ، وقول العرب : هذا طريقة قومه ; أي : صاحب طريقتهم .

    قوله تعالى : " فأجمعوا كيدكم " قرأ الأكثرون : ( فأجمعوا ) بقطع الألف من ( أجمعت ) ، والمعنى : يكون عزمكم مجمعا عليه ، لا تختلفوا فيختل أمركم . قال الفراء : والإجماع : الإحكام والعزيمة على الشيء ، تقول : أجمعت على الخروج ، وأجمعت الخروج ، تريد : أزمعت ، قال الشاعر :


    يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع


    يريد : قد أحكم وأعزم عليه . وقرأ أبو عمرو : ( فأجمعوا ) بفتح الميم من ( جمعت ) ، يريد : لا تدعوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به ، فأما كيدهم ، فالمراد به : سحرهم ومكرهم .

    قوله تعالى : " ثم ائتوا صفا " ; أي : مصطفين مجتمعين ; ليكون أنظم لأموركم وأشد لهيبتكم . قال أبو عبيدة : " صفا " ; أي : صفوفا . وقال ابن قتيبة : " صفا " بمعنى : جمعا . قال الحسن : كانوا خمسة وعشرين صفا ، كل ألف ساحر صف . [ ص: 301 ] 50 قوله تعالى : " وقد أفلح اليوم من استعلى " قال ابن عباس : فاز من غلب .
    قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .

    قوله تعالى : " بل ألقوا " قال ابن الأنباري : دخلت " بل " لمعنى جحد في الآية الأولى ; لأن الآية الأولى إذا تؤملت وجدت مشتملة على : إما أن تلقي وإما أن لا تلقي .

    قوله تعالى : " وعصيهم " قرأ الحسن ، وأبو رجاء العطاردي ، وأبو عمران الجوني ، وأبو الجوزاء : ( وعصيهم ) برفع العين .

    قوله تعالى : " يخيل إليه " وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، وابن أبي عبلة : ( تخيل ) بالتاء . " إليه " ; أي : [ ص: 302 ] إلى موسى . يقال : خيل إليه : إذا شبه له . وقد استدل قوم بهذه الآية على أن السحر ليس بشيء ، وقال : إنما خيل إلى موسى ، فالجواب : أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخييلا وليس بحقيقة ، فإنه من الجائز أن يكونوا تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت ، وليس ذلك بحيات .

    فأما السحر فإنه يؤثر ، وهو أنواع . وقد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أثر فيه ، [ ص: 303 ] [ ص: 304 ] [ ص: 305 ] ولعن العاضهة ، وهي الساحرة .

    قوله تعالى : " فأوجس في نفسه خيفة موسى " قال ابن قتيبة : أضمر في نفسه خوفا . وقال الزجاج : أصلها : ( خوفة ) ، ولكن الواو قلبت ياء؛ لانكسار ما قبلها .

    وفي خوفة قولان :

    أحدهما : أنه خوف الطبع البشري . [ ص: 306 ]

    والثاني : أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصا ، خاف أن يلتبس على الناس أمره ولا يؤمنوا ، فقيل له : " لا تخف إنك أنت الأعلى " عليهم بالظفر والغلبة ، وهذا أصح من الأول .

    قوله تعالى : " وألق ما في يمينك " يعني : العصا ، " تلقف " وقرأ ابن عامر : ( تلقف ما ) برفع الفاء وتشديد القاف . وروى حفص عن عاصم : ( تلقف ) خفيفة . وكان ابن كثير يشدد التاء من ( تلقف ) ، يريد : تتلقف . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسعيد بن جبير ، وأبو رجاء : ( تلقم ) بالميم . وقد شرحناها في ( الأعراف : 117 ) .

    " إنما صنعوا كيد ساحر " قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : ( كيد السحر ) . وقرأ الباقون : ( كيد ساحر ) بألف ، والمعنى : إن الذي صنعوا كيد ساحر ; أي : عمل ساحر . وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني : ( إنما صنعوا كيد ) بنصب الدال . " ولا يفلح الساحر " قال ابن عباس : لا يسعد حيثما كان ، وقيل : لا يفوز . وروى جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ، ثم قرأ : ولا يفلح الساحر حيث أتى ، قال : لا يأمن حيث وجد " .

    قوله تعالى : " قال آمنتم له " قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم ، وورش عن نافع : ( آمنتم له ) على لفظ الخبر . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( آمنتم له ) بهمزة ممدودة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : ( أآمنتم له ) بهمزتين الثانية ممدودة . [ ص: 307 ]

    قوله تعالى : " إنه لكبيركم " قال ابن عباس : يريد : معلمكم . قال الكسائي : الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه ، قال : جئت من عند كبيري .

    قوله تعالى : " ولأصلبنكم في جذوع النخل " : " في " بمعنى ( على ) ، ومثله : أم لهم سلم يستمعون فيه [ الطور : 38 ] . " ولتعلمن " أيها السحرة ، " أينا أشد عذابا " لكم ، " وأبقى " ; أي : أدوم ، أنا على إيمانكم ، أو رب موسى على تركهم الإيمان به ؟ " قالوا لن نؤثرك " ; أي : لن نختارك ، " على ما جاءنا من البينات " يعنون : اليد والعصا .

    فإن قيل : لم نسبوا الآيات إلى أنفسهم بقولهم : " جاءنا " ، وإنما جاءت عامة لهم ولغيرهم ؟

    فالجواب : أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم ، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر ، كان ذلك في حق غيرهم أبين وأوضح ، وكانوا هم لمعرفته أخص .

    وفي قوله تعالى : " والذي فطرنا " وجهان ، ذكرهما الفراء والزجاج :

    أحدهما : أن المعنى : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا .

    والثاني : أنه قسم تقديره : وحق الذي فطرنا .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #382
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ طَه
    الحلقة (382)
    صــ 308 إلى صــ 315




    قوله تعالى : " فاقض ما أنت قاض " ; أي : فاصنع ما أنت صانع ، وأصل القضاء : عمل بإحكام . " إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " قال الفراء : " إنما " حرف واحد ; فلهذا نصب " الحياة الدنيا " . ولو قرأ قارئ برفع ( الحياة ) لجاز ، على أن يجعل ( ما ) في مذهب ( الذي ) ، كقولك : إن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا . وقرأ ابن أبي عبلة وأبو المتوكل : ( إنما تقضى ) بضم التاء على ما لم يسم فاعله ، ( الحياة ) برفع التاء . قال المفسرون : والمعنى : إنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا لا في الآخرة . [ ص: 308 ]

    قوله تعالى : " ليغفر لنا " يعنون : الشرك ، " وما أكرهتنا عليه " ; أي : والذي أكرهتنا عليه ; أي : ويغفر لنا إكراهك إيانا على السحر .

    فإن قيل : كيف قالوا : أكرهتنا ، وقد قالوا : أإن لنا لأجرا ، وفي هذا دليل على أنهم فعلوا السحر غير مكرهين ؟ فعنه أربعة أجوبة :

    أحدها : أن فرعون كان يكره الناس على تعلم السحر ، قاله ابن عباس . قال ابن الأنباري : كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون ، وذلك لشغفه بالسحر ، ولما خامر قلبه من خوف موسى ، فالإكراه على السحر هو الإكراه على تعلمه في أول الأمر .

    والثاني : أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم : أئن لنا لأجرا ، ورأوا ذكره الله تعالى وسلوكه منهاج المتقين ، جزعوا من ملاقاته بالسحر ، وحذروا أن يظهر عليهم فيطلع على ضعف صناعتهم ، فتفسد معيشتهم ، فلم يقنع فرعون منهم إلا بمعارضة موسى ، فكان هذا هو الإكراه على السحر .

    والثالث : أنهم خافوا أن يغلبوا في ذلك الجمع ، فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك والسوق ، وأكرههم فرعون على فعل السحر .

    والرابع : أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم ، وكان سبب ذلك السحر ، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " والله خير " ; أي : خير منك ثوابا إذا أطيع ، " وأبقى " عقابا إذا عصي ، وهذا جواب قوله : " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " ، وهذا آخر الإخبار عن السحرة .
    إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها [ ص: 309 ] ولا يحيا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى .

    قوله تعالى : " إنه من يأت ربه مجرما " يعني : مشركا ، " فإن له جهنم لا يموت فيها " فيستريح ، " ولا يحيا " حياة تنفعه .

    [ أنشد ابن الأنباري في مثل هذا المعنى قوله :


    ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
    ]

    قوله تعالى : " قد عمل الصالحات " قال ابن عباس : قد أدى الفرائض . " فأولئك لهم الدرجات العلا " يعني : درجات الجنة ، وبعضها أعلى من بعض ، والعلا جمع العليا ، وهو تأنيث الأعلى . قال ابن الأنباري : وإنما قال : " فأولئك " ; لأن " من " تقع بلفظ التوحيد على تأويل الجمع ، فإذا غلب لفظها وحد الراجع إليها ، وإذا بين تأويلها جمع المصروف إليها .

    قوله تعالى : " وذلك " يعني : الثواب ، " جزاء من تزكى " ; أي : تطهر من الكفر والمعاصي .
    ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم [ ص: 310 ] غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

    قوله تعالى : " أن أسر بعبادي " ; أي : سر بهم ليلا من أرض مصر ، " فاضرب لهم طريقا " ; أي : اجعل لهم طريقا ، " في البحر يبسا " قرأ أبو المتوكل ، والحسن ، والنخعي : ( يبسا ) بإسكان الباء . وقرأ الشعبي ، وأبو رجاء ، وابن السميفع : ( يابسا ) بألف . قال أبو عبيدة : ( اليبس ) متحرك الحروف ، بمعنى اليابس ، يقال : شاة يبس ; أي : يابسة ليس لها لبن . وقال ابن قتيبة : يقال لليابس : يبس ويبس .

    قوله تعالى : " لا تخاف " قرأ الأكثرون بألف . وقرأ أبان وحمزة عن عاصم : ( لا تخف ) . قال الزجاج : من قرأ : ( لا تخاف ) فالمعنى : لست تخاف ، ومن قرأ : ( لا تخف ) فهو نهي عن الخوف . قال الفراء : قرأ حمزة : ( لا تخف ) بالجزم ، ورفع ( ولا تخشى ) على الاستئناف ، كقوله تعالى : يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون [ آل عمران : 111 ] ، استأنف بـ " ثم " ، فهذا مثله ، ولو نوى حمزة بقوله : ( ولا تخشى ) الجزم وإن كانت فيه الياء ، كان صوابا . قال ابن قتيبة : ومعنى " دركا " : لحاقا . قال المفسرون : قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر بين أيدينا ، فأنزل الله على موسى : " لا تخاف دركا " ; أي : من فرعون ، " ولا تخشى " غرقا في البحر .

    قوله تعالى : " فأتبعهم فرعون " قال ابن قتيبة : لحقهم . وروى هارون عن أبي عمرو : ( فاتبعهم ) بالتشديد . وقال الزجاج : تبع الرجل الشيء وأتبعه بمعنى واحد . ومن قرأ بالتشديد ففيه دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود ، ومن قرأ : ( فأتبعهم ) فمعناه : ألحق جنوده بهم ، وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ ، [ ص: 311 ] وجائز أن لا يكون ، إلا أنه قد كان معهم . " فغشيهم من اليم ما غشيهم " ; أي : فغشيهم من ماء البحر ما غرقهم . وقال ابن الأنباري : ويعني بقوله : " ما غشيهم " : البعض الذي غشيهم ; لأنه لم يغشهم كل مائه . وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، وأبو رجاء ، والأعمش : ( فغشاهم من اليم ما غشاهم ) بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء .

    قوله تعالى : " وأضل فرعون قومه " ; أي : دعاهم إلى عبادته ، " وما هدى " ; أي : [ ما ] أرشدهم حين أوردهم موارد الهلكة . وهذا تكذيب له في قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ غافر : 29 ] .

    قوله تعالى : " وواعدناكم جانب الطور الأيمن " لأخذ التوراة . وقد ذكرنا في [ مريم : 52 ] معنى " الأيمن " ، وذكرنا في ( البقرة : 57 ) " المن والسلوى " .

    [ قوله تعالى: " كلوا " ; أي : وقلنا لهم : كلوا ] .

    قوله تعالى : " ولا تطغوا " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدهما : لا تبطروا في نعمي [ فتظلموا ] . والثاني : لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين . والثالث : لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليلة .

    قوله تعالى : " فيحل عليكم غضبي " ; أي : فتجب لكم عقوبتي . والجمهور قرؤوا : ( فيحل ) بكسر الحاء ( ومن يحلل ) بكسر اللام . وقرأ الكسائي : ( فيحل ) بضم الحاء ( ومن يحلل ) بضم اللام . قال الفراء : والكسر أحب إلي ; لأن الضم من الحلول ، ومعناه : الوقوع ، و( يحل ) بالكسر : يجب ، وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع .

    قوله تعالى : " فقد هوى " ; أي : هلك .

    قوله تعالى : " وإني لغفار " الغفار : الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى ، فكلما تكررت ذنوبهم تكررت مغفرته ، وأصل الغفر : الستر ، وبه سمي [ زئبر ] الثوب : [ ص: 312 ] غفرا ; لأنه يستر سداه . فالغفار : الستار لذنوب عباده ، المسبل عليهم ثوب عطفه .

    قوله تعالى : " لمن تاب " قال ابن عباس : لمن تاب من الشرك ، " وآمن " ; أي : وحد الله وصدقه ، " وعمل صالحا " أدى الفرائض .

    وفي قوله تعالى : " ثم اهتدى " ثمانية أقوال :

    أحدها : علم أن لعمله هذا ثوابا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : لم يشكك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : علم أن ذلك توفيق من الله [ له ] ، رواه عطاء عن ابن عباس . والرابع : لزم السنة والجماعة ، قاله سعيد بن جبير . والخامس : استقام ، قاله الضحاك . والسادس : لزم الإسلام حتى يموت عليه ، قاله قتادة . والسابع : اهتدى كيف يعمل ، قاله زيد بن أسلم . والثامن : اهتدى إلى ولاية بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ثابت البناني .
    وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .

    قوله تعالى : " وما أعجلك عن قومك يا موسى " قال المفسرون : لما نجى الله تعالى بني إسرائيل وأغرق فرعون ، قالوا : يا موسى ; لو أتيتنا بكتاب من [ ص: 313 ] عند الله ، فيه الحلال والحرام والفرائض ، فأوحى الله [ إليه يعده ] أنه ينزل عليه ذلك في الموضع الذي كلمه فيه ، فاختار سبعين ، فذهبوا معه إلى الطور لأخذ التوراة ، فعجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه وأمرهم بلحاقه ، فقال الله تعالى له : ما الذي حملك على العجلة عن قومك ، " قال هم أولاء " ; أي : هؤلاء ، " على أثري " وقرأ أبو رزين العقيلي وعاصم الجحدري : ( على إثري ) بكسر الهمزة وسكون الثاء . وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكل ، وابن يعمر برفع الهمزة وسكون الثاء . وقرأ أبو رجاء وأبو العالية بفتح الهمزة وسكون الثاء . والمعنى : هم بالقرب مني يأتون بعدي . " وعجلت إليك رب لترضى " ; أي : لتزداد رضا ، " قال فإنا قد فتنا قومك " قال الزجاج : ألقيناهم في فتنة ومحنة واختبرناهم .

    قوله تعالى : " من بعدك " ; أي : من بعد انطلاقك من بينهم ، " وأضلهم السامري " ; أي : كان سببا لإضلالهم . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو المتوكل ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( وأضلهم ) برفع اللام . وقد شرحنا في ( البقرة : 52 ) سبب اتخاذ السامري العجل ، وشرحنا في ( الأعراف : 150 ) معنى قوله تعالى : " غضبان أسفا " .

    قوله تعالى : " ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا " ; أي : صدقا ، وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : إعطاء التوراة . والثاني : قوله : لئن أقمتم الصلاة إلى قوله : لأكفرن عنكم سيئاتكم . . . الآية [ المائدة : 13 ] ، وقوله : وإني لغفار لمن تاب [ طه : 82 ] . والثالث : النصر والظفر .

    قوله تعالى : " أفطال عليكم العهد " ; أي : مدة مفارقتي إياكم ، " أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم " أن تصنعوا صنيعا يكون سببا لغضب ربكم ، " فأخلفتم موعدي " ; أي : عهدي ، وكانوا قد عاهدوه أنه إن فكهم الله من ملكة آل فرعون أن يعبدوا [ ص: 314 ] الله ولا يشركوا به ، ويقيموا الصلاة ، وينصروا الله ورسله . " قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بكسر الميم . وقرأ نافع وعاصم بفتح الميم . وقرأ حمزة والكسائي بضم الميم . قال أبو علي : وهذه لغات . وقال الزجاج : ( الملك ) بالضم : السلطان والقدرة ، و( الملك ) بالكسر : ما حوته اليد ، و( الملك ) بالفتح : المصدر ، يقال : ملكت الشيء أملكه ملكا .

    وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال :

    أحدها : ما كنا نملك الذي اتخذ منه العجل ، ولكنها كانت زينة آل فرعون فقذفناها ، قاله ابن عباس .

    والثاني : بطاقتنا ، قاله قتادة والسدي .

    والثالث : لم نملك أنفسنا عند الوقوع في البلية ، قاله ابن زيد .

    والرابع : لم يملك مؤمنونا سفهاءنا ، ذكره الماوردي .

    فيخرج فيمن قال هذا لموسى قولان : أحدهما : أنهم الذين لم يعبدوا العجل . والثاني : عابدوه .

    قوله تعالى : " ولكنا حملنا أوزارا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : ( حملنا ) بضم الحاء وتشديد الميم . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : ( حملنا ) خفيفة . والأوزار : الأثقال ، والمراد بها : حلي آل فرعون الذي كانوا استعاروه منهم قبل خروجهم من مصر . فمن قرأ : ( حملنا ) بالتشديد ، فالمعنى : حملناها موسى ؛ أمرنا باستعارتها من آل فرعون فقذفناها ; أي : طرحناها في الحفيرة . وقد ذكرنا سبب قذفهم إياها في سورة ( البقرة : 52 ) .

    قوله تعالى : " فكذلك ألقى السامري " فيه قولان : [ ص: 315 ]

    أحدهما : أنه ألقى حليا كما ألقوا .

    والثاني : ألقى ما كان معه من تراب حافر فرس جبريل . وقد سبق شرح القصة في ( البقرة : 52 ) ، وذكرنا في ( الأعراف : 148 ) معنى قوله تعالى : " عجلا جسدا له خوار " .

    قوله تعالى : " فقالوا هذا إلهكم " هذا قول السامري ومن وافقه من الذين افتتنوا .

    قوله تعالى : " فنسي " في المشار إليه بالنسيان قولان :

    أحدهما : أنه موسى ، ثم في المعنى ثلاثة أقوال : أحدها : هذا إلهكم وإله موسى ، فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إلهه ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني : فنسي موسى الطريق إلى ربه ، روي عن ابن عباس أيضا . والثالث : فنسي موسى إلهه عندكم ، وخالفه في طريق آخر ، قاله قتادة .

    والثاني : أنه السامري ، والمعنى : فنسي السامري إيمانه وإسلامه ، قاله ابن عباس . وقال مكحول : فنسي ; أي : فترك السامري ما كان عليه من الدين . وقيل : فنسي أن العجل لا يرجع إليهم قولا ، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا . فعلى هذا القول يكون قوله تعالى: " فنسي " من إخبار الله عز وجل عن السامري . وعلى ما قبله فيمن قاله قولان :

    أحدهما : أنه السامري . والثاني : بنو إسرائيل .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #383
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ طَه
    الحلقة (383)
    صــ 316 إلى صــ 323





    قوله تعالى : " أفلا يرون ألا يرجع " قال الزجاج : المعنى : أفلا يرون أنه لا يرجع إليهم قولا .
    ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح [ ص: 316 ] عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .

    قوله تعالى : " ولقد قال لهم هارون من قبل " ; أي : من قبل أن يأتي موسى ، " يا قوم إنما فتنتم به " ; أي : ابتليتم ، " وإن ربكم الرحمن " لا العجل ، " قالوا لن نبرح عليه عاكفين " ; أي : لن نزال مقيمين على عبادة العجل ، " حتى يرجع إلينا موسى " فلما رجع موسى ، " قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا " بعبادة العجل . " ألا تتبعني " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( ألا تتبعني ) بياء في الوصل ساكنة ، ويقف ابن كثير بالياء ، وأبو عمرو بغير ياء . وروى إسماعيل بن جعفر عن نافع : ( ألا تتبعني أفعصيت ) بياء منصوبة . وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو سواء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بغير ياء في الوصل والوقف ، والمعنى : ما منعك من اتباعي ، و " لا " كلمة زائدة .

    وفي المعنى ثلاثة أقوال :

    أحدها : تسير ورائي بمن معك من المؤمنين وتفارقهم ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني : أن تناجزهم القتال ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث : في الإنكار عليهم ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " أفعصيت أمري " وهو قوله في وصيته إياه : " اخلفني في قومي وأصلح " ، قال المفسرون : ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضبا منه عليه . وهذا وإن لم [ ص: 317 ] يذكر هاهنا ، فقد ذكر في ( الأعراف : 150 ) ، فاكتفي بذلك ، وقد شرحنا هناك معنى " يا ابن أم " ، واختلاف القراء فيها .

    قوله تعالى : " ولا برأسي " ; أي : بشعر رأسي . وهذا الغضب كان لله عز وجل لا لنفسه ; لأنه وقع في نفسه أن هارون عصى الله بترك اتباع موسى .

    قوله تعالى : " إني خشيت " ; أي : إن فارقتهم واتبعتك ، " أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " وفيه قولان :

    أحدهما : باتباعي إياك ومن معي من المؤمنين . والثاني : بقتالي لبعضهم ببعض .

    وفي قوله تعالى : " ولم ترقب قولي " قولان :

    أحدهما : لم ترقب قولي لك : " اخلفني في قومي وأصلح " .

    والثاني : لم تنتظر أمري فيهم .
    قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .

    قوله تعالى : " فما خطبك يا سامري " ; أي : ما أمرك وشأنك الذي دعاك إلى ما صنعت ؟! قال ابن الأنباري : وبعض اللغويين يقول : الخطب مشتق من الخطاب . المعنى : ما أمرك الذي تخاطب فيه ؟

    واختلفوا في اسم السامري على قولين :

    أحدهما : موسى أيضا ، قاله وهب بن منبه ، وقال : كان ابن عم موسى بن عمران . [ ص: 318 ]

    والثاني : ميخا ، قاله ابن السائب .

    وهل كان من بني إسرائيل أم لا ؟ فيه قولان :

    أحدهما : لم يكن منهم ، قاله ابن عباس .

    والثاني : كان من عظمائهم ، وكان من قبيلة تسمى سامرة ، قاله قتادة . وفي بلده قولان :

    أحدهما : كرمان ، قاله سعيد بن جبير . والثاني : باجرما ، قاله وهب .

    قوله تعالى : " بصرت بما لم يبصروا به " وقرأ حمزة والكسائي : ( تبصروا ) بالتاء . فعلى قراءة الجمهور أشار إلى بني إسرائيل ، وعلى هذه القراءة خاطب الجميع . قال أبو عبيدة : علمت ما لم تعلموا . قال : وقوم يقولون : بصرت وأبصرت سواء ، بمنزلة أسرعت وسرعت . وقال الزجاج : يقال : بصر الرجل يبصر : إذا صار عليما بالشيء ، وأبصر يبصر : إذا نظر . قال المفسرون : فقال له موسى : وما ذاك ؟ قال : رأيت جبريل على فرس ، فألقي في نفسي : أن أقبض من أثرها ، " فقبضت قبضة " وقرأ أبي بن كعب ، والحسن ، ومعاذ القارئ : ( قبصة ) بالصاد . وقال الفراء : والقبضة بالكف كلها ، والقبصة - بالصاد - بأطراف الأصابع . قال ابن قتيبة : ومثل هذا : الخضم بالفم كله ، والقضم بأطراف الأسنان ، والنضخ أكثر من النضح ، والرجز : العذاب ، والرجس : النتن ، والهلاس في البدن والسلاس في العقل ، والغلط في الكلام ، والغلت في الحساب ، والخصر : الذي يجد البرد ، والخرص الذي يجد البرد والجوع ، والنار الخامدة : التي قد سكن لهبها ولم يطفأ جمرها ، والهامدة : التي طفئت فذهبت البتة ، والشكد : العطاء ابتداء ، فإن كان جزاء فهو شكم ، والمائح : الذي يدخل البئر فيملأ الدلو ، والماتح : الذي ينزعها .

    قوله تعالى : " فنبذتها " ; أي : فقذفتها في العجل . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، [ ص: 319 ] والكسائي ، وخلف : ( فنبذتها ) بالإدغام . " وكذلك " ; أي : وكما حدثتك ، " سولت لي نفسي " ; أي : زينت لي ، " قال " موسى " اذهب " ; أي : من بيننا ، " فإن لك في الحياة " ; أي : ما دمت حيا ، " أن تقول لا مساس " ; أي : لا أمس ولا أمس ، فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع ، لا يمس أحدا ولا يمسه أحد ، عاقبه الله بذلك ، وألهمه أن يقول : " لا مساس " ، وكان إذا لقي أحدا يقول : لا مساس ; أي : لا تقربني ولا تمسني ، وصار ذلك عقوبة لولده ، حتى إن بقاياهم اليوم فيما ذكر أهل التفسير بأرض الشام يقولون ذلك . وحكي أنه إن مس واحد من غيرهم واحدا منهم ، أخذتهما الحمى في الحال .

    قوله تعالى : " وإن لك موعدا " ; أي : لعذابك يوم القيامة ، " لن تخلفه " ; أي : لن يتأخر عنك ، ومن كسر لام ( تخلف ) أراد : لن تغيب عنه .

    قوله تعالى : " وانظر إلى إلهك " يعني : العجل ، " الذي ظلت " قال ابن عباس : معناه : أقمت عليه . وقال الفراء : معنى " ظلت " : فعلته نهارا . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وابن يعمر : ( ظلت ) برفع الظاء . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : ( ظلت ) بكسر الظاء . وقال الزجاج : ( ظلت ، وظلت ) بفتح الظاء وكسرها ، فمن فتح فالأصل فيه : ( ظللت ) ، ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر ، وبقيت الظاء على فتحها ، ومن قرأ : ( ظلت ) بالكسر ، حول كسرة اللام على الظاء . ومعنى " عاكفا " : مقيما ، " لنحرقنه " قرأ الجمهور : ( لنحرقنه ) بضم النون وفتح الحاء وتشديد الراء . وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو رزين ، وابن يعمر : ( لنحرقنه ) بفتح النون وسكون الحاء ورفع الراء مخففة . وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، وقتادة : ( لنحرقنه ) برفع النون وإسكان الحاء وكسر الراء [ ص: 320 ] مخففة . قال الزجاج : إذا شدد ، فالمعنى : نحرقه مرة بعد مرة . وتأويل " لنحرقنه " : لنبردنه ، يقال : حرقت أحرق وأحرق : إذا بردت الشيء . والنسف : التذرية . وجاء في التفسير : أن موسى أخذ العجل فذبحه ، فسال منه دم ; لأنه كان قد صار لحما ودما ، ثم أحرقه بالنار ، ثم ذراه في البحر ، ثم أخبرهم موسى عن إلههم ، فقال : " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو " ; أي : هو الذي يستحق العبادة لا العجل ، " وسع كل شيء علما " ; أي : وسع علمه كل شيء .
    كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما .

    قوله تعالى : " كذلك نقص عليك " ; أي : كما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه ، نقص عليك " من أنباء ما قد سبق " ; أي : من أخبار من مضى ، والذكر هاهنا : القرآن . " من أعرض عنه " فلم يؤمن ولم يعمل بما فيه ، " فإنه يحمل يوم القيامة " وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكل ، وعاصم الجحدري : ( يحمل ) برفع الياء وفتح الحاء وتشديد الميم . " وزرا " ; أي : إثما ، " خالدين فيه " ; أي : في عذاب ذلك الوزر ، " وساء لهم " قال الزجاج : المعنى : وساء الوزر لهم يوم القيامة حملا ، و " حملا " منصوب على التمييز .

    قوله تعالى : " يوم ينفخ في الصور " قرأ أبو عمرو : ( ننفخ ) بالنون . وقرأ الباقون من السبعة : ( ينفخ ) بالياء على ما لم يسم فاعله . وقرأ أبو عمران الجوني : [ ص: 321 ] ( يوم ينفخ ) بياء مفتوحة ورفع الفاء ، وقد سبق بيانه . " ونحشر المجرمين " وقرأ أبي بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وطلحة بن مصرف : ( ويحشر ) بياء مفتوحة ورفع الشين . وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وأبو عمران : ( ويحشر ) بياء مرفوعة وفتح الشين ، ( المجرمون ) بالواو . قال المفسرون : والمراد بالمجرمين : المشركون . " يومئذ زرقا " وفيه قولان :

    أحدهما : عميا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال ابن قتيبة : بيض العيون من العمى ، قد ذهب السواد والناظر .

    والثاني : زرق العيون من شدة العطش ، قاله الزهري . والمراد : أنه يشوه خلقهم بسواد الوجوه وزرق العيون .

    قوله تعالى : " يتخافتون بينهم " ; أي : يسار بعضهم بعضا ، " إن لبثتم " ; أي : ما لبثتم إلا عشر ليال . وهذا على طريق التقليل لا على وجه التحديد .

    وفي مرادهم بمكان هذا اللبث قولان :

    أحدهما : القبور ، ثم فيه قولان : أحدهما : أنهم عنوا طول ما لبثوا فيها ، روى أبو صالح عن ابن عباس : إن لبثتم بعد الموت إلا عشرا . والثاني : ما بين النفختين ، وهو أربعون سنة ، فإنه يخفف عنهم العذاب حينئذ ، فيستقلون مدة لبثهم لهول ما يعاينون ، حكاه علي بن أحمد النيسابوري .

    والقول الثاني : أنهم عنوا لبثهم في الدنيا ، قاله الحسن وقتادة .

    قوله تعالى : " إذ يقول أمثلهم طريقة " ; أي : أعقلهم وأعدلهم قولا ، " إن لبثتم إلا يوما " فنسي القوم مقدار لبثهم لهول ما عاينوا . [ ص: 322 ]
    ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما وكذلك أنـزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما .

    قوله تعالى : " ويسألونك عن الجبال " سبب نزولها أن رجالا من ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ; كيف تكون الجبال يوم القيامة ؟ فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " فقل ينسفها ربي نسفا " قال المفسرون : النسف : التذرية . والمعنى : يصيرها رمالا تسيل سيلا ، ثم يصيرها كالصوف المنفوش ، تطيرها الرياح فتستأصلها ، " فيذرها " ; أي : يدع أماكنها من الأرض إذا نسفها ، " قاعا " قال ابن قتيبة : القاع من الأرض : المستوي الذي يعلوه الماء ، والصفصف : المستوي أيضا ، يريد : أنه لا نبت فيها .

    قوله تعالى : " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " في ذلك ثلاثة أقوال : [ ص: 323 ]

    أحدها : أن المراد بالعوج : الأودية ، وبالأمت : الروابي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وكذلك قال مجاهد : العوج : الانخفاض ، والأمت : الارتفاع ، وهذا مذهب الحسن ، وقال ابن قتيبة : الأمت : النبك .

    والثاني : أن العوج : الميل ، والأمت : الأثر ، مثل الشراك ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أن العوج : الصدع ، والأمت : الأكمة .

    قوله تعالى : " يومئذ يتبعون الداعي " قال الفراء : أي : يتبعون صوت الداعي للحشر ، لا عوج لهم عن دعائه : لا يقدرون أن لا يتبعوا .

    قوله تعالى : " وخشعت الأصوات " ; أي : سكنت وخفيت ، " فلا تسمع إلا همسا " وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : وطء الأقدام ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد في رواية ، واختاره الفراء والزجاج .

    والثاني : تحريك الشفاه بغير نطق ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثالث : الكلام الخفي ، روي عن مجاهد ، وقال أبو عبيدة : الصوت الخفي .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #384
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ طَه
    الحلقة (384)
    صــ 324 إلى صــ 331




    قوله تعالى : " يومئذ لا تنفع الشفاعة " يعني : لا تنفع أحدا ، " إلا من أذن له الرحمن " ; أي : إلا شفاعة من أذن له الرحمن ; أي : أذن أن يشفع له ، " ورضي له قولا " ; أي : ورضي للمشفوع فيه قولا ، وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إله إلا الله . " يعلم ما بين أيديهم " الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي . وقد شرحنا هذه الآية في سورة ( البقرة : 255 ) .

    وفي هاء " به " قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله مقاتل . والثاني : إلى " ما بين أيديهم وما خلفهم " ، قاله ابن السائب . [ ص: 324 ]

    قوله تعالى : " وعنت الوجوه " قال الزجاج : عنت في اللغة : خضعت ، يقال : عنا يعنو : إذا خضع ، ومنه قيل : أخذت البلاد عنوة : إذا أخذت غلبة ، وأخذت بخضوع من أهلها . والمفسرون على أن هذا في يوم القيامة ، إلا ما روي عن طلق بن حبيب : هو وضع الجبهة والأنف ، والكفين والركبتين ، وأطراف القدمين على الأرض للسجود ، وقد شرحنا في آية الكرسي معنى الحي القيوم [ البقرة : 255 ] .

    قوله تعالى : " وقد خاب من حمل ظلما " قال ابن عباس : خسر من أشرك بالله .

    قوله تعالى : " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن " : " من " هاهنا للجنس ، وإنما شرط الإيمان ; لأن غير المؤمن لا يقبل عمله ولا يكون صالحا ، " فلا يخاف " ; أي : فهو لا يخاف . وقرأ ابن كثير : ( فلا يخف ) على النهي .

    قوله تعالى : " ظلما ولا هضما " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : لا يخاف أن يظلم فيزاد في سيئاته ، ولا أن يهضم من حسناته ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني : لا يخاف أن يظلم فيزاد من ذنب غيره ، ولا أن يهضم من حسناته ، قاله قتادة .

    والثالث : أن لا يخاف أن يؤاخذ بما لم يعمل ، ولا ينتقص من عمله الصالح ، قاله الضحاك .

    والرابع : لا يخاف أن لا يجزى بعمله ، ولا أن ينقص من حقه ، قاله ابن زيد . قال اللغويون : الهضم : النقص ، تقول العرب : هضمت لك من حقي ; أي : حططت ، ومنه : فلان هضيم الكشحين ; أي : ضامر الجنبين ، [ ص: 325 ] ويقال : هذا شيء يهضم الطعام ; أي : ينقص ثقله . وفرق بعض المفسرين بين الظلم والهضم ، فقال : الظلم : منع الحق كله ، والهضم : منع البعض ، وإن كان ظلما أيضا .

    قوله تعالى : " وكذلك أنزلناه " ; أي : وكما بينا في هذه السورة ، " أنزلناه " ; أي : أنزلنا هذا الكتاب ، " قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد " ; أي : بينا فيه ضروب الوعيد . قال قتادة : يعني : وقائعه في الأمم المكذبة .

    قوله تعالى : " لعلهم يتقون " ; أي : ليكون سببا لاتقائهم الشرك بالاتعاظ بمن قبلهم ، " أو يحدث لهم " ; أي : يجدد لهم القرآن ، وقيل : الوعيد . " ذكرا " ; أي : اعتبارا ، فيتذكروا به عقاب الأمم فيعتبروا . وقرأ ابن مسعود وعاصم الجحدري : ( أو نحدث ) بنون مرفوعة .

    قوله تعالى : " فتعالى الله " ; أي : جل عن إلحاد الملحدين ، وقول المشركين في صفاته ، " الملك " الذي بيده كل شيء ، " الحق " وقد ذكرناه في ( يونس : 32 ) .

    قوله تعالى : " ولا تعجل بالقرآن " في سبب نزولها قولان :

    أحدهما : أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالسورة والآي فيتلوها عليه ، فلا يفرغ جبريل من آخرها حتى يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولها مخافة أن ينساها ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أن رجلا لطم امرأته ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص ، فنزلت هذه الآية ، فوقف [ ص: 326 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء [ النساء : 34 ] ، قاله الحسن البصري .

    قوله تعالى : " من قبل أن يقضى إليك وحيه " وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، ويعقوب : ( نقضي ) بالنون وكسر الضاد وفتح الياء ، ( وحيه ) بنصب الياء .

    وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال :

    أحدها : لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته ، تخاف نسيانه ، هذا على القول الأول .

    والثاني : لا تقرئ أصحابك حتى نبين لك معانيه ، قاله مجاهد وقتادة .

    والثالث : لا تسأل إنزاله قبل أن يأتيك الوحي ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " وقل رب زدني علما " فيه ثلاثة أقوال : [ ص: 327 ]

    أحدها : زدني قرآنا ، قاله مقاتل . والثاني : فهما . والثالث : حفظا ، ذكرهما الثعلبي .
    ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

    قوله تعالى : " ولقد عهدنا إلى آدم " ; أي : أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة ، " من قبل " ; أي : من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا [ ص: 328 ] الإيمان بي ، وهم الذين ذكرهم في قوله : " لعلهم يتقون " ، والمعنى : أنهم إن نقضوا العهد ، فإن آدم قد عهدنا إليه فنسي .

    وفي هذا النسيان قولان :

    أحدهما : أنه الترك ، قاله ابن عباس ومجاهد ، والمعنى : ترك ما أمر به .

    والثاني : أنه من النسيان الذي يخالف الذكر ، حكاه الماوردي .

    وقرأ معاذ القارئ ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( فنسي ) برفع النون وتشديد السين .

    قوله تعالى : " ولم نجد له عزما " العزم في اللغة : توطين النفس على الفعل . وفي المعنى أربعة أقوال :

    أحدها : لم نجد له حفظا ، رواه العوفي عن ابن عباس ، والمعنى : لم يحفظ ما أمر به .

    والثاني : صبرا ، قاله قتادة ومقاتل ، والمعنى : لم يصبر عما نهي عنه .

    والثالث : حزما ، قاله ابن السائب . قال ابن الأنباري : وهذا لا يخرج آدم من أولي العزم ، وإنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب .

    والرابع : عزما في العود إلى الذنب ، ذكره الماوردي . وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [ البقرة : 34 ] إلى قوله تعالى : " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " . قال المفسرون : المراد به : نصب الدنيا وتعبها من تكلف الحرث والزرع ، والعجن والخبز ، وغير ذلك . قال سعيد بن جبير : أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه ، فذلك شقاؤه . قال العلماء : والمعنى : فتشقيا ، وإنما لم يقل : فتشقيا ; لوجهين : [ ص: 329 ]

    أحدهما : أن آدم هو المخاطب ، فاكتفي به ، ومثله : عن اليمين وعن الشمال قعيد [ ق : 17 ] ، قاله الفراء .

    والثاني : أنه لما كان آدم هو الكاسب ، كان التعب في حقه أكثر ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " قرأ أبي بن كعب : ( لا تجاع ولا تعرى ) بالتاء المضمومة والألف . " وأنك لا تظمأ " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( وأنك ) مفتوحة الألف . وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم : ( وإنك ) بكسر الألف . قال أبو علي : من فتح حمله على أن لك أن لا تجوع ، وأن لك أن لا تظمأ ، ومن كسر استأنف .

    قوله تعالى : " لا تظمأ فيها " ; أي : لا تعطش ، يقال : ظمئ الرجل ظمأ فهو ظمآن ; أي : عطشان . ومعنى " لا تضحى " : لا تبرز للشمس فيصيبك حرها ; لأنه ليس في الجنة شمس .

    قوله تعالى : " هل أدلك على شجرة الخلد " ; أي : على شجرة من أكل منها لم يمت ، " وملك لا يبلى " جديده ولا يفنى . وما بعد هذا مفسر في [ الأعراف : 22 ] .

    وفي قوله تعالى : " فغوى " قولان :

    أحدهما : ضل طريق الخلود ، حيث أراده من قبل المعصية .

    والثاني : فسد عليه عيشه ; لأن معنى الغي : الفساد . قال ابن الأنباري : وقد غلط بعض المفسرين ، فقال معنى " غوى " : أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم ، كما يقال : غوى الفصيل : إذا أكثر من لبن أمه فبشم ، فكاد يهلك ، وهذا خطأ من وجهين : [ ص: 330 ]

    أحدهما : أنه لا يقال من البشم : غوى يغوي ، وإنما يقال : غوي يغوى .

    والثاني : أن قوله تعالى: فلما ذاقا الشجرة [ الأعراف : 22 ] يدل على أنهما لم يكثرا ، ولم تتأخر عنهما العقوبة حتى يصلا إلى الإكثار . قال ابن قتيبة : فنحن نقول في حق آدم : عصى وغوى ، كما قال الله عز وجل ، ولا نقول : آدم عاص وغاو ، كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه : قد قطعه وخاطه ، ولا نقول : هذا خياط ، حتى يكون معاودا لذلك الفعل معروفا به .

    قوله تعالى : " ثم اجتباه ربه " قد بينا الاجتباء في ( الأنعام : 87 ) ، " فتاب عليه وهدى " ; أي : هداه للتوبة . " قال اهبطا " في المشار إليهما قولان :

    أحدهما : آدم وإبليس ، قاله مقاتل .

    والثاني : آدم وحواء ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ومعنى قوله تعالى : " بعضكم لبعض عدو " آدم وذريته ، وإبليس وذريته ، والحية أيضا ، وقد شرحنا هذا في ( البقرة : 36 ) .

    قوله تعالى : " فمن اتبع هداي " ; أي : رسولي وكتابي ، " فلا يضل ولا يشقى " قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب ، ولقد ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم قرأ هذه الآية .

    قوله تعالى : " ومن أعرض عن ذكري " قال عطاء : عن موعظتي . وقال ابن السائب : عن القرآن ، ولم يؤمن به ، ولم يتبعه .

    قوله تعالى : " فإن له معيشة ضنكا " قال أبو عبيدة : معناه : معيشة ضيقة ، والضنك يوصف به الأنثى والذكر بغير هاء ، وكل عيش ، أو مكان ، أو منزل ضيق ، فهو ضنك ، وأنشد : [ ص: 331 ]


    وإن نزلوا بضنك فانزل


    وقال الزجاج : الضنك أصله في اللغة : الضيق والشدة .

    وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال :

    أحدها : أنها عذاب القبر ، روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ينفخون في جسمه ، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة " . وممن ذهب إلى أنه عذاب القبر ابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري ، والسدي .

    والثاني : أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثالث : شدة عيشه في النار ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . قال ابن السائب : وتلك المعيشة من الضريع والزقوم .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #385
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

    الحلقة (385)
    صــ 332 إلى صــ 339






    والرابع : أن المعيشة الضنك : كسب الحرام ، روى الضحاك عن ابن عباس ، قال : المعيشة الضنك : أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها ، وله [ ص: 332 ] معيشة حرام يركض فيها . قال الضحاك : فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث ، وبه قال عكرمة .

    والخامس : أن المعيشة الضنك : المال الذي لا يتقي الله صاحبه فيه ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال :

    أحدها : القبر . والثاني : الدنيا . والثالث : جهنم .

    وفي قوله تعالى : " ونحشره يوم القيامة أعمى " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : ( أعمى ) ( حشرتني أعمى ) بفتح الميمين . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم بكسرهما . وقرأ نافع بين الكسر والفتح . ثم في هذا العمى للمفسرين قولان :

    أحدهما : أعمى البصر ، روى أبو صالح عن ابن عباس ، قال : إذا أخرج من القبر خرج بصيرا ، فإذا سيق إلى المحشر عمي .

    والثاني : أعمى عن الحجة ، قاله مجاهد وأبو صالح . قال الزجاج : معناه : فلا حجة له يهتدي بها ; لأنه ليس للناس على الله حجة بعد الرسل .

    قوله تعالى : " كذلك " ; أي : الأمر كذلك كما ترى ، " أتتك آياتنا فنسيتها " ; أي : فتركتها ولم تؤمن بها ، وكما تركتها في الدنيا تترك اليوم في النار . " وكذلك " ; أي : وكما ذكرنا " نجزي من أسرف " ; أي : أشرك ، " ولعذاب الآخرة أشد " من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر ، " وأبقى " لأنه يدوم .
    أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة [ ص: 333 ] سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى .

    قوله تعالى : " أفلم يهد لهم " ; أي : أفلم يتبين لكفار مكة إذا نظروا آثار من أهلكنا من الأمم ، وكانت قريش تتجر ، وترى مساكن عاد وثمود ، وفيها علامات الهلاك ، فذلك قوله تعالى: " يمشون في مساكنهم " . وروى زيد عن يعقوب : ( أفلم نهد ) بالنون .

    قوله تعالى : " ولولا كلمة سبقت من ربك " في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم القيامة ، وقيل : إلى يوم بدر ، وقيل : إلى انقضاء آجالهم . " لكان لزاما " ; أي : لكان العذاب لزاما ; أي : لازما لهم . واللزام : مصدر وصف به العذاب . قال الفراء وابن قتيبة : في هذه الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما .

    قوله تعالى : " فاصبر على ما يقولون " أمر الله تعالى نبيه بالصبر على ما يسمع من أذاهم ، إلى أن يحكم الله فيهم ، ثم حكم فيهم بالقتل ، ونسخ بآية السيف إطلاق الصبر .

    قوله تعالى : " وسبح بحمد ربك " ; أي : صل له بالحمد له والثناء عليه ، " قبل طلوع الشمس " يريد : الفجر ، " وقبل غروبها " يعني : العصر ، " ومن آناء الليل " الآناء : الساعات ، وقد بيناها في ( آل عمران : 113 ) ، " فسبح " ; أي : فصل .

    وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال :

    أحدها : المغرب والعشاء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .

    والثاني : جوف الليل ، رواه العوفي عن ابن عباس . [ ص: 334 ]

    والثالث : العشاء ، قاله مجاهد وابن زيد .

    والرابع : أول الليل وأوسطه وآخره ، قاله الحسن .

    قوله تعالى : " وأطراف النهار " المعنى : وسبح أطراف النهار . قال الفراء : إنما هم طرفان ، فخرجا مخرج الجمع ، كقوله تعالى : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] .

    وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها الظهر ، قاله قتادة ; فعلى هذا إنما قيل لصلاة الظهر : أطراف النهار ; لأن وقتها عند الزوال ، فهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني .

    والثاني : أنها صلاة المغرب وصلاة الصبح ، قاله ابن زيد ، وهذا على أن الفجر في ابتداء الطرف الأول ، والمغرب في انتهاء الطرف الثاني .

    والثالث : أنها الفجر والظهر والعصر ; فعلى هذا يكون الفجر من الطرف الأول ، والظهر والعصر من الطرف الثاني ، حكاه الفراء .

    قوله تعالى : " لعلك ترضى " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : ( ترضى ) بفتح التاء . وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم بضمها . فمن فتح فالمعنى : لعلك ترضى ثواب الله الذي يعطيك . ومن ضمها ففيه وجهان :

    أحدهما : لعلك ترضى بما تعطى . والثاني : لعل الله أن يرضاك .
    ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى . [ ص: 335 ]

    قوله تعالى : " ولا تمدن عينيك " سبب نزولها ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني ، فأرسلني إلى رجل من اليهود يبيع طعاما ، فقال : قل له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بعني كذا وكذا من الدقيق ، أو أسلفني إلى هلال رجب " ، فأتيته فقلت له ذلك ، فقال اليهودي : والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " والله لو باعني أو أسلفني لقضيته ، وإني لأمين في السماء أمين في الأرض ، اذهب بدرعي الحديد إليه " ، فنزلت هذه الآية تعزية له عن الدنيا . قال أبي بن كعب : من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا . وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر ( الحجر : 88 ) .

    قوله تعالى : " زهرة الحياة الدنيا " وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، والزهري ، ويعقوب : ( زهرة ) بفتح الهاء . قال الزجاج : وهو منصوب بمعنى : ( متعنا ) ; لأن معنى ( متعنا ) : جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة . " لنفتنهم فيه " ; أي : لنجعل ذلك فتنة لهم . وقال ابن قتيبة : لنختبرهم . قال المفسرون : زهرة الدنيا : بهجتها وغضارتها ، وما يروق الناظر منها عند رؤيته ، وهو من زهرة النبات وحسنه .

    قوله تعالى : " ورزق ربك خير وأبقى " فيه قولان :

    أحدهما : أنه ثوابه في الآخرة . والثاني : القناعة .

    قوله تعالى : " وأمر أهلك بالصلاة " قال المفسرون : المراد بأهله : قومه ومن كان على دينه ، ويدخل في هذا أهل بيته .

    قوله تعالى : " واصطبر عليها " ; أي : واصبر على الصلاة . " لا نسألك رزقا " [ ص: 336 ] ; أي : لا نكلفك رزقا لنفسك ولا لخلقنا ، إنما نأمرك بالعبادة، ورزقك علينا . " والعاقبة للتقوى " ; أي : وحسن العاقبة لأهل التقوى . وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا ، ثم يقول : بهذا أمر الله تعالى ورسوله ، ويتلو هذه الآية .
    وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

    قوله تعالى : " وقالوا " يعني : المشركين ، " لولا " ; أي : هلا يأتينا محمد " بآية من ربه " ; أي : كآيات الأنبياء ، نحو الناقة والعصا . " أولم تأتهم " قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : ( تأتهم ) بالتاء . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : ( يأتهم ) بالياء .

    قوله تعالى : " بينة ما في الصحف الأولى " ; أي : أولم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب من أخبار الأمم التي أهلكناها لما سألوا الآيات ثم كفروا بها ، فما يؤمنهم أن تكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك ؟ " ولو أنا أهلكناهم " يعني : مشركي مكة ، " بعذاب من قبله " في الهاء قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الكتاب ، قاله مقاتل . والثاني : إلى الرسول ، قاله الفراء .

    قوله تعالى : " لقالوا " يوم القيامة ، " ربنا لولا " ; أي : هلا ، " أرسلت إلينا رسولا " يدعونا إلى طاعتك ، " فنتبع آياتك " ; أي : نعمل بمقتضاها ، " من قبل أن نذل " [ ص: 337 ] بالعذاب ، " ونخزى " في جهنم . وقرأ ابن عباس ، وابن السميفع ، وأبو حاتم عن يعقوب : ( نذل ونخزى ) برفع النون فيهما وفتح الذال . " قل " لهم يا محمد : " كل " منا ومنكم " متربص " ; أي : نحن نتربص بكم العذاب في الدنيا ، وأنتم تتربصون بنا الدوائر ، " فتربصوا " ; أي : فانتظروا ، " فستعلمون " إذا جاء أمر الله ، " من أصحاب الصراط السوي " ; أي : الدين المستقيم ، " ومن اهتدى " من الضلالة ، أنحن أم أنتم ؟ وقيل : هذه منسوخة بآية السيف ، وليس بشيء .
    [ ص: 338 ]

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُ مْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ .

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .

    قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : " اقْتَرَبَ " افْتَعَلَ ، مِنَ الْقُرْبِ ، يُقَالُ : قَرُبَ الشَّيْءُ [ ص: 339 ] وَاقْتَرَبَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ وَقْتَ حِسَابِهِمْ . وَقِيلَ : اللَّامُ فِي قَوْلِهِ : " لِلنَّاسِ " بِمَعْنَى ( مِنْ ) . وَالْمُرَادُ بِالْحِسَابِ : مُحَاسَبَةُ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ .

    وَفِي مَعْنَى قُرْبِهُ قَوْلَانِ :

    أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ آتٍ ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ .

    وَالثَّانِي : لِأَنَّ الزَّمَانَ - لِكَثْرَةِ مَا مَضَى وَقِلَّةِ مَا بَقِيَ - قَرِيبٌ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ " ; أَيْ : عَمَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، " مُعْرِضُونَ " عَنِ التَّأَهُّبِ لَهُ . وَقِيلَ : " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ " عَامٌّ ، وَالْغَفْلَةُ وَالْإِعْرَاضُ خَاصٌّ فِي الْكُفَّارِ ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ " ، وَفِي هَذَا الذِّكْرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْقُرْآنُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ; فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : " مُحْدَثٍ " إِلَى إِنْزَالِهِ لَهُ ; لِأَنَّهُ أُنْزِلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ .

    وَالثَّانِي : أَنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ الْأَذْكَارِ ، وَلَيْسَ بِالْقُرْآنِ ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَقَالَ النِّقَاشُ : هُوَ ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ بِالْقُرْآنِ .

    وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ : " هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ مُسْتَهْزِئِينَ .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #386
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    الحلقة (386)
    صــ 340 إلى صــ 347




    قَوْلُهُ تَعَالَى : " لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ " ; أَيْ : غَافِلَةً عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ . قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى : إِلَّا اسْتَمَعُوهُ لَاعِبِينَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ : [ ص: 340 ] " يَلْعَبُونَ " . وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : ( لَاهِيَةٌ ) بِالرَّفْعِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَأَسَرُّوا النَّجْوَى " ; أَيْ : تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، يَعْنِي : الْمُشْرِكِينَ . ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُمْ ، فَقَالَ : " الَّذِينَ ظَلَمُوا " ; أَيْ : أَشْرَكُوا بِاللَّهِ . وَ " الَّذِينَ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي " وَأَسَرُّوا " . ثُمَّ بَيَّنَ سِرِّهُمُ الَّذِي تَنَاجَوْا بِهِ ، فَقَالَ : هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ; أَيْ : آدَمِيٌّ ، فَلَيْسَ بِمَلِكٍ ، وَهَذَا إِنْكَارٌ لِنُبُوَّتِهِ . وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : " أَسَرُّوا " هَاهُنَا بِمَعْنَى : أَظْهَرُوا ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ " ; أَيْ : أَفَتَقْبَلُونَ السِّحْرَ ، " وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ " أَنَّهُ سَحْرٌ ؟ يَعْنُونَ : أَنَّ مُتَابِعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَابَعَةُ السِّحْرِ . " قَالَ رَبِّي " وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ : ( قُلْ رَبِّي ) . وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ : ( قَالَ رَبِّي ) ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ الْكُوفِيِّينَ ، وَهَذَا عَلَى الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَعْلَمُ الْقَوْلَ ; أَيْ : لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقَالُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا أَسْرَرْتُمْ . " بَلْ قَالُوا " قَالَ الْفَرَّاءُ : رَدٌّ بِـ " بَلْ " عَلَى مَعْنَى تَكْذِيبِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ قَبْلَهُ الْكَلَامُ بِجُحُودِهِمْ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْجَاحِدِينَ ، وَأَعْلَمَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ تَحَيَّرُوا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : هَذَا الَّذِي يَأْتِي بِهِ سِحْرٌ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلَطَةُ تُرَى فِي الْمَنَامِ ، وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي ( يُوسُفَ : 44 ) ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : افْتَرَاهُ ; أَيِ : اخْتَلَقَهُ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : هُوَ شَاعِرٌ ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَالنَّاقَةِ وَالْعَصَا ، فَاقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الَّتِي لَا إِمْهَالَ بَعْدَهَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ " يَعْنِي : مُشْرِكِي مَكَّةَ ، " مِنْ قَرْيَةٍ " وَصَفَ الْقَرْيَةِ ، وَالْمُرَادُ : أَهْلُهَا ، وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي أُهْلِكَتْ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ ، لَمْ يُؤْمِنُوا [ ص: 341 ] بِالْآيَاتِ لَمَّا أَتَتْهُمْ ، فَكَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ ؟ وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا " هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ : هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " نُوحِي إِلَيْهِمْ " قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ : ( يُوحَى ) بِالْيَاءِ . وَرَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ : ( نُوحِي ) بِالنُّونِ . وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي ( النَّحْلِ : 43 ) .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَمَا جَعَلْنَاهُمْ " يَعْنِي : الرُّسُلَ ، " جَسَدًا " قَالَ الْفَرَّاءُ : لَمْ يَقُلْ : أَجْسَادًا ; لِأَنَّهُ اسْمُ الْجِنْسِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَيْسَ فِيهِمْ رُوحٌ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : مَا جَعَلْنَا الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ أَجْسَادًا لَا تَأْكُلُ الطَّعَامَ ، وَلَا تَمُوتُ فَنَجْعَلُهُ كَذَلِكَ . قَالَ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ جَمِيعًا : الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ الْكَلَامِ بِجَحْدَيْنِ ، كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا ، فَمَعْنَى الْآيَةِ : إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ . قَالَ قَتَادَةُ : الْمَعْنَى : وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا إِلَّا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ " يَعْنِي : الْأَنْبِيَاءَ أَنْجَزْنَا وَعْدَهُمُ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ بِإِنْجَائِهِمْ وَإِهْلَاكِ مُكَذِّبِيهِمْ ، " فَأَنْجَيْنَاهُ مْ وَمَنْ نَشَاءُ " وَهُمُ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ ، " وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ " يَعْنِي : أَهْلَ الشِّرْكِ ; وَهَذَا تَخْوِيفٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ . ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ ، فَقَالَ : " لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ " ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : فِيهِ شَرَفُكُمْ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي : فِيهِ دِينُكُمْ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، يَعْنِي : فِيهِ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ .

    وَالثَّالِثُ : فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَكُمْ لِمَا تَلْقَوْنَهُ مِنْ رَجْعَةٍ أَوْ عَذَابٍ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " أَفَلا تَعْقِلُونَ " مَا فَضَّلْتُكُمْ بِهِ عَلَى غَيْرِكُمْ . [ ص: 342 ]
    وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين .

    ثم خوفهم فقال : " وكم قصمنا " قال المفسرون واللغويون : معناه : وكم أهلكنا ، وأصل القصم : الكسر . وقوله : " كانت ظالمة " ; أي : كافرة ، والمراد : أهلها . " فلما أحسوا بأسنا " ; أي : رأوا عذابنا بحاسة البصر ، " إذا هم منها يركضون " ; أي : يعدون ، وأصل الركض : تحريك الرجلين ، يقال : ركضت الفرس : إذا أعديته بتحريك رجليك فعدا .

    قوله تعالى : " لا تركضوا " قال المفسرون : هذا قول الملائكة لهم ، " وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " ; أي : إلى نعمكم التي أترفتكم ، وهذا توبيخ لهم .

    وفي قوله : " لعلكم تسألون " قولان :

    أحدهما : تسألون من دنياكم شيئا ، استهزاء بهم ، قاله قتادة .

    والثاني : تسألون عن قتل نبيكم ، قاله ابن السائب . فلما أيقنوا بالعذاب " قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين " بكفرنا ، وقيل : بتكذيب نبينا . " فما زالت تلك دعواهم " ; أي : ما زالت تلك الكلمة التي هي " يا ويلنا إنا كنا ظالمين " قولهم يرددونها ، " حتى جعلناهم حصيدا " بالعذاب ، وقيل : بالسيوف ، " خامدين " ; أي : ميتين كخمود النار إذا طفئت .
    وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف [ ص: 343 ] بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون .

    قوله تعالى : " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين " ; أي : لم نخلق ذلك عبثا ، إنما خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، ليعتبر الناس بخلقه ، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إلا لخالقه ، لنجازي أولياءنا ونعذب أعداءنا .

    قوله تعالى : " لو أردنا أن نتخذ لهوا " في سبب نزولها قولان :

    أحدها : أن المشركين لما قالوا : الملائكة بنات الله والآلهة بناته ، نزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أن نصارى نجران قالوا : إن عيسى ابن الله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .

    وفي المراد باللهو ثلاثة أقوال :

    أحدها : الولد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال السدي . قال الزجاج : المعنى : لو أردنا أن نتخذ ولدا ذا لهو نلهى به .

    والثاني : المرأة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وقتادة . [ ص: 344 ]

    والثالث : اللعب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " لاتخذناه من لدنا " قال ابن جريج : لاتخذنا نساء ، أو ولدا من أهل السماء ، لا من أهل الأرض . قال ابن قتيبة : وأصل اللهو : الجماع ، فكني عنه باللهو كما كني عنه بالسر ، والمعنى : لو فعلنا ذلك لاتخذناه من عندنا ; لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره .

    وفي قوله : " إن كنا فاعلين " قولان :

    أحدهما : أن " إن " بمعنى ( ما ) ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .

    والثاني : أنها بمعنى الشرط . قال الزجاج : والمعنى : إن كنا نفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله ، قال : والقول الأول قول المفسرين ، والثاني قول النحويين ، وهم يستجيدون القول الأول أيضا ; لأن " إن " تكون في موضع النفي ، إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام ، تقول : إن كنت لصالحا ، معناه : ما كنت إلا صالحا .

    قوله تعالى : " بل " ; أي : دع ذاك الذي قالوا فإنه باطل ، " نقذف بالحق " ; أي : نسلط الحق وهو القرآن ، " على الباطل " وهو كذبهم ، " فيدمغه " قال ابن قتيبة : أي : يكسره ، وأصل هذا إصابة الدماغ بالضرب ، وهو مقتل . " فإذا هو زاهق " ; أي : زائل ذاهب . قال المفسرون : والمعنى : إنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ، " ولكم الويل مما تصفون " ; أي : من وصفكم الله بما لا يجوز ، " وله من في السماوات والأرض " يعني : هم عبيده وملكه ، " ومن عنده " يعني : الملائكة .

    وفي قوله : " ولا يستحسرون " ثلاثة أقوال :

    أحدها : لا يرجعون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . [ ص: 345 ]

    والثاني : لا ينقطعون ، قاله مجاهد . وقال ابن قتيبة : لا يعيون ، والحسر : المنقطع الواقف إعياء وكلالا .

    والثالث : لا يملون ، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى : " لا يفترون " قال قتادة : لا يسأمون . وسئل كعب : أما يشغلهم شأن ؟ أما تشغلهم حاجة ؟! فقال للسائل : يابن أخي ; جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس ، ألست تأكل وتشرب ، وتقوم وتجلس ، وتجيء وتذهب ، وتتكلم وأنت تتنفس ؟ فكذلك جعل لهم التسبيح . ثم إن الله تعالى عاد إلى توبيخ المشركين فقال : " أم اتخذوا آلهة من الأرض " ; لأن أصنامهم من الأرض هي ، سواء كانت من ذهب أو فضة ، أو خشب أو حجارة ، " هم " يعني : الآلهة ، " ينشرون " ; أي : يحيون الموتى . وقرأ الحسن : ( ينشرون ) بفتح الياء وضم الشين . وهذا استفهام بمعنى الجحد ، والمعنى : ما اتخذوا آلهة تنشر ميتا . " لو كان فيهما " يعني : السماء والأرض ، " آلهة " يعني : معبودين ، " إلا الله " قال الفراء : سوى الله ، وقال الزجاج : غير الله .

    قوله تعالى : " لفسدتا " ; أي : لخربتا وبطلتا ، وهلك من فيهما ؛ لوجود التمانع بين الآلهة ، فلا يجري أمر العالم على النظام ; لأن كل أمر صدر عن اثنين فصاعدا لم يسلم من الخلاف .

    قوله تعالى : " لا يسأل عما يفعل " ; أي : عما يحكم في عباده من هدي وإضلال ، وإعزاز وإذلال ; لأنه المالك للخلق ، والخلق يسألون عن أعمالهم ; لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم . ولما أبطل عز وجل أن يكون إله سواه من حيث العقل بقوله : " لفسدتا " ، أبطل ذلك من حيث الأمر ، فقال : " أم اتخذوا من دونه آلهة " وهذا استفهام إنكار وتوبيخ . " قل [ ص: 346 ] هاتوا برهانكم " على ما تقولون ، " هذا ذكر من معي " يعني : القرآن خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة ، بما لهم من الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية . " وذكر من قبلي " يعني : الكتب المنزلة ، والمعنى : هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبله ، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه ؟ فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود غيره من حيث الأمر به . قال الزجاج : قيل لهم : هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أخبر أمته بأن لهم إلها غير الله .

    قوله تعالى : " بل أكثرهم " يعني : كفار مكة ، " لا يعلمون الحق " وفيه قولان :

    أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن عباس . والثاني : التوحيد ، قاله مقاتل . " فهم معرضون " عن التفكر والتأمل ، وما يجب عليهم من الإيمان .
    وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين .

    قوله تعالى : " من رسول إلا نوحي " قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( إلا نوحي ) بالنون ، والباقون بالياء .

    قوله تعالى : " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " في القائلين لهذا قولان :

    أحدهما : أنهم مشركو قريش ، قاله ابن عباس . وقال ابن إسحاق : القائل لهذا النضر بن الحارث .

    والثاني : أنهم اليهود ، قالوا : إن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة ! قاله [ ص: 347 ] قتادة . فعلى القولين ، المراد بالولد : الملائكة ، وكذلك المراد بقوله : " بل عباد مكرمون " ، والمعنى : بل عباد أكرمهم الله واصطفاهم ، " لا يسبقونه بالقول " ; أي : لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به . وقال ابن قتيبة : لا يقولون حتى يقول ، ثم يقولون عنه ، ولا يعملون حتى يأمرهم .

    قوله تعالى : " يعلم ما بين أيديهم " ; أي : ما قدموا من الأعمال ، " وما خلفهم " ما هم عاملون ، " ولا يشفعون " يوم القيامة ، وقيل : لا يستغفرون في الدنيا ، " إلا لمن ارتضى " ; أي : لمن رضي عنه ، " وهم من خشيته " ; أي : من خشيتهم منه ، فأضيف المصدر إلى المفعول . " مشفقون " ; أي : خائفون . وقال الحسن : يرتعدون . " ومن يقل منهم " ; أي : من الملائكة . قال الضحاك في آخرين : هذه خاصة لإبليس ، لم يدع أحد من الملائكة إلى عبادة نفسه سواه . قال أبو سليمان الدمشقي : وهذا قول من قال : إنه من الملائكة ، فإن إبليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه إلى الأرض ، ومن قال : إنه ليس من الملائكة ، قال : هذا على وجه التهديد ، وما قال أحد من الملائكة ذلك .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #387
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    الحلقة (387)
    صــ 348 إلى صــ 355



    أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون . [ ص: 348 ]

    قوله تعالى : " أولم ير الذين كفروا " ; أي : أولم يعلموا . وقرأ ابن كثير : ( ألم ير الذين كفروا ) بغير واو بين الألف واللام ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة . " أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما " قال أبو عبيدة : السماوات جمع ، والأرض واحدة ، فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ صفة الواحد ، والعرب تفعل هذا إذا أشركوا بين جمع وبين واحد ، والرتق مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع ، والمذكر والمؤنث سواء ، ومعنى الرتق : الذي ليس فيه ثقب . قال الزجاج : المعنى : كانتا ذواتي رتق ، فجعلهما ذوات فتق ، وإنما لم يقل : رتقين ; لأن الرتق مصدر .

    وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات ، رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد في رواية ، والضحاك في آخرين .

    والثاني : أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين ، ففتقهما الله تعالى ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .

    والثالث : أنه فتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعا ، ومن السماء ست سماوات فصارت سبعا ، رواه السدي عن أشياخه ، وابن أبي نجيح عن مجاهد .

    قوله تعالى : " وجعلنا من الماء كل شيء حي " وقرأ معاذ القارئ ، وابن أبي عبلة ، وحميد بن قيس : ( كل شيء حيا ) بالنصب .

    وفي هذا الماء قولان :

    أحدهما : أنه الماء المعروف ، والمعنى : جعلنا الماء سببا لحياة كل حي ، قاله الأكثرون . والثاني : أنه النطفة ، قاله أبو العالية . [ ص: 349 ]

    قوله تعالى : " وجعلنا في الأرض رواسي " قد فسرناه في ( النحل : 15 ) .

    قوله تعالى : " وجعلنا فيها " ; أي : في الرواسي ، " فجاجا " قال أبو عبيدة : هي المسالك . قال الزجاج : الفجاج جمع فج ، وهو كل منخرق بين جبلين ، ومعنى " سبلا " : طرقا . قال ابن عباس : جعلنا من الجبال طرقا ; كي تهتدوا إلى مقاصدكم في الأسفار . قال المفسرون : وقوله : " سبلا " تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة مسلوكة ، فقد يكون الفج غير نافذ . " وجعلنا السماء سقفا " ; أي : هي للأرض كالسقف .

    وفي معنى " محفوظا " قولان :

    أحدهما : بالنجوم من الشياطين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : محفوظا من الوقوع إلا بإذن الله ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " وهم " يعني : كفار مكة ، " عن آياتها " ; أي : شمسها وقمرها ونجومها . قال الفراء : وقرأ مجاهد : ( عن آيتها ) فوحده ، فجعل السماء بما فيها آية ، وكل صواب .

    قوله تعالى : " كل " يعني : الطوالع ، " في فلك " قال ابن قتيبة : الفلك : مدار النجوم الذي يضمها ، وسماه فلكا لاستدارته . ومنه قيل : فلكة المغزل ، وقد فلك ثدي المرأة . قال أبو سليمان : وقيل : إن الفلك - كهيئة الساقية من ماء - مستديرة دون السماء وتحت الأرض ، فالأرض وسطها ، والشمس والقمر ، والنجوم ، والليل والنهار ، يجرون في الفلك ، وليس الفلك يديرها . ومعنى " يسبحون " : يجرون . قال الفراء : لما كانت السباحة من أفعال الآدميين ، ذكرت بالنون ، كقوله : رأيتهم لي ساجدين [ يوسف : 40 ] ; لأن السجود من أفعال الآدميين . [ ص: 350 ]
    وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .

    قوله تعالى : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " سبب نزولها أن ناسا قالوا : إن محمدا لا يموت ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الآية : ما خلدنا قبلك أحدا من بني آدم ، والخلد : البقاء الدائم . " أفإن مت فهم الخالدون " يعني : مشركي مكة ; لأنهم قالوا : نتربص به ريب المنون [ الطور : 30 ] .

    قوله تعالى : " ونبلوكم بالشر والخير " قال ابن زيد : نختبركم بما تحبون لننظر كيف شكركم ، وبما تكرهون لننظر كيف صبركم .

    قوله تعالى : " وإلينا ترجعون " [ قرأ ابن عامر : ( ترجعون ) بتاء مفتوحة . وروى ابن عباس عن أبي عمرو : ( يرجعون ) ] بياء مضمومة . وقرأ الباقون بتاء مضمومة .

    قوله تعالى : " وإذا رآك الذين كفروا " قال ابن عباس : يعني : المستهزئين . وقال السدي : نزلت في أبي جهل ، مر به رسول الله ، فضحك وقال : هذا نبي بني عبد مناف . و " إن " بمعنى ( ما ) ، ومعنى " هزوا " : مهزوءا به . " أهذا الذي يذكر آلهتكم " ; أي : يعيب أصنامكم ، وفيه إضمار يقولون . " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " وذلك أنهم قالوا : ما نعرف الرحمن ، فكفروا بالرحمن .

    خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين [ ص: 351 ] كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .

    قوله تعالى : " خلق الإنسان من عجل " وقرأ أبو رزين العقيلي ، ومجاهد ، والضحاك : ( خلق الإنسان ) بفتح الخاء واللام ونصب النون . وهذه الآية نزلت حين استعجلت قريش بالعذاب .

    وفي المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة أقوال :

    أحدها : النضر بن الحارث ، وهو الذي قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك . . . الآية [ الأنفال : 32 ] ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني : آدم عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير ، والسدي في آخرين .

    والثالث : أنه اسم جنس ، قاله علي بن أحمد النيسابوري ، فعلى هذا يدخل النضر بن الحارث وغيره في هذا ، وإن كانت الآية نزلت فيه .

    فأما من قال : أريد به : آدم ، ففي معنى الكلام قولان :

    أحدهما : أنه خلق عجولا ، قاله الأكثرون . فعلى هذا يقول : لما طبع آدم على هذا المعنى ، وجد في أولاده ، وأورثهم العجل .

    والثاني : خلق بعجل ، استعجل بخلقه قبل غروب الشمس من يوم الجمعة ، وهو آخر الأيام الستة ، قاله مجاهد .

    فأما من قال : هو اسم جنس ، ففي معنى الكلام قولان :

    أحدهما : خلق عجولا ، قال الزجاج : خوطبت العرب بما تعقل ، [ ص: 352 ] والعرب تقول للذي يكثر منه اللعب : إنما خلقت من لعب ، يريدون المبالغة في وصفه بذلك .

    والثاني : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والمعنى : خلقت العجلة في الإنسان ، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى : " سأريكم آياتي " فيه قولان :

    أحدهما : ما أصاب الأمم المتقدمة ، والمعنى : إنكم تسافرون فترون آثار الهلاك في الماضين ، قاله ابن السائب .

    والثاني : أنها القتل ببدر ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " فلا تستعجلون " أثبت الياء في الحالين يعقوب .

    قوله تعالى : " ويقولون متى هذا الوعد " يعنون : القيامة . " لو يعلم الذين كفروا " جوابه محذوف ، والمعنى : لو علموا صدق الوعد ما استعجلوا ، " حين لا يكفون " ; أي : لا يدفعون ، " عن وجوههم النار " إذا دخلوا ، " ولا عن ظهورهم " لإحاطتها بهم ، " ولا هم ينصرون " ; أي : يمنعون مما نزل بهم ، " بل تأتيهم " يعني : الساعة ، " بغتة " فجأة ، " فتبهتهم " تحيرهم ، وقد شرحنا هذا عند قوله : فبهت الذي كفر [ البقرة : 258 ] . " فلا يستطيعون ردها " ; أي : صرفها عنهم ، ولا هم يمهلون لتوبة أو معذرة . ثم عزى نبيه فقال : " ولقد استهزئ برسل من قبلك " ; أي : كما فعل بك قومك ، " فحاق " ; أي : نزل ، " بالذين سخروا منهم " ; أي : من الرسل ، " ما كانوا به يستهزئون " يعني : العذاب الذي كانوا استهزؤوا به .
    قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون بل متعنا [ ص: 353 ] هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون .

    قوله تعالى : " قل من يكلؤكم " المعنى : قل لهؤلاء المستعجلين بالعذاب : من يحفظكم من بأس الرحمن إن أراد إنزاله بكم ؟ وهذا استفهام إنكار ; أي : لا أحد يفعل ذلك . " بل هم عن ذكر ربهم " ; أي : عن كلامه ومواعظه ، " معرضون " لا يتفكرون ولا يعتبرون . " أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا " فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم ؟ وهاهنا تم الكلام . ثم وصف آلهتهم بالضعف ، فقال : " لا يستطيعون نصر أنفسهم " والمعنى : من لا يقدر على نصر نفسه عما يراد به ، فكيف ينصر غيره ؟

    قوله تعالى : " ولا هم " في المشار إليهم قولان :

    أحدهما : أنهم الكفار ، وهو قول ابن عباس . والثاني : أنهم الأصنام ، قاله قتادة .

    وفي معنى " يصحبون " أربعة أقوال :

    أحدها : يجارون ، رواه العوفي عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : والمعنى : لا يجيرهم منا أحد ; لأن المجير صاحب لجاره . والثاني : يمنعون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : ينصرون ، قاله مجاهد . والرابع : لا يصحبون بخير ، قاله قتادة .

    ثم بين اغترارهم بالإمهال ، فقال : " بل متعنا هؤلاء وآباءهم " يعني : أهل مكة ، " حتى طال عليهم العمر " فاغتروا بذلك ، " أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها [ ص: 354 ] من أطرافها " قد شرحناه في ( الرعد : 41 ) ، " أفهم الغالبون " ; أي : مع هذه الحال ، وهو نقص الأرض ، والمعنى : ليسوا بغالبين ولكنهم المغلوبون . " قل إنما أنذركم " ; أي : أخوفكم ، " بالوحي " ; أي : بالقرآن ، والمعنى : إنني ما جئت به من تلقاء نفسي ، إنما أمرت فبلغت . " ولا يسمع الصم الدعاء " وقرأ ابن عامر : ( ولا تسمع ) بالتاء مضمومة ( الصم ) نصبا . وقرأ ابن يعمر والحسن : ( ولا يسمع ) بضم الياء وفتح الميم ( الصم ) بضم الميم . شبه الكفار بالصم الذين لا يسمعون نداء مناديهم ، ووجه التشبيه أن هؤلاء لم ينتفعوا بما سمعوا ، كالصم لا يفيدهم صوت مناديهم . " ولئن مستهم " ; أي : أصابتهم ، " نفحة " قال ابن عباس : طرف . وقال الزجاج : المراد : أدنى شيء من العذاب ، " ليقولن يا ويلنا " والويل ينادي به كل من وقع في هلكة .
    ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .

    قوله تعالى : " ونضع الموازين القسط " قال الزجاج : المعنى : ونضع الموازين ذوات القسط ، والقسط : العدل ، وهو مصدر يوصف به ، يقال : ميزان قسط ، وميزانان قسط ، وموازين قسط . قال الفراء : القسط من صفة الموازين وإن كان موحدا ، كما تقول : أنتم عدل ، وأنتم رضا . وقوله : " ليوم القيامة " و " في يوم القيامة " سواء ، وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أول ( الأعراف : 8 ) .

    فإن قيل : إذا كان الميزان واحدا ، فما المعنى بذكر الموازين ؟ [ ص: 355 ]

    فالجواب : أنه لما كانت أعمال الخلائق توزن وزنة بعد وزنة ، سميت موازين .

    قوله تعالى : " فلا تظلم نفس شيئا " ; أي : لا ينقص محسن من إحسانه ، ولا يزاد مسيء على إساءته . " وإن كان مثقال حبة " ; أي : وزن حبة . وقرأ نافع : ( مثقال ) برفع اللام . قال الزجاج : ونصب ( مثقال ) على معنى : وإن كان العمل مثقال حبة . وقال أبو علي الفارسي : وإن كان الظلامة مثقال حبة ; لقوله تعالى : " فلا تظلم نفس شيئا " . قال : ومن رفع أسند الفعل إلى المثقال ، كما أسند في قوله تعالى : وإن كان ذو عسرة [ البقرة : 280 ] .

    قوله تعالى : " أتينا بها " ; أي : جئنا بها . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وحميد : ( آتينا ) ممدودة ; أي : جازينا بها .

    قوله تعالى : " وكفى بنا حاسبين " قال الزجاج : هو منصوب على وجهين : أحدهما : التمييز ، والثاني : الحال .
    ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنـزلناه أفأنتم له منكرون .

    قوله تعالى : " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه التوراة التي فرق بها بين الحلال والحرام ، قاله مجاهد وقتادة .

    والثاني : البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون ، قاله ابن زيد .

    والثالث : النصر والنجاة لموسى ، وإهلاك فرعون ، قاله ابن السائب .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #388
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    الحلقة (388)
    صــ 356 إلى صــ 363




    قوله تعالى : " وضياء " روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يرى الواو زائدة . قال الزجاج : وكذلك قال بعض النحويين أن المعنى : الفرقان ضياء . وعند [ ص: 356 ] البصريين أن الواو لا تزاد ولا تأتي إلا بمعنى العطف ، فهي هاهنا مثل قوله تعالى : فيها هدى ونور [ المائدة : 44 ] . قال المفسرون : والمعنى : أنهم استضاؤوا بالتوراة حتى اهتدوا بها في دينهم . ومعنى قوله تعالى : " وذكرا للمتقين " : أنهم يذكرونه ويعملون بما فيه . " الذين يخشون ربهم بالغيب " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : يخافونه ولم يروه ، قاله الجمهور . والثاني : يخشون عذابه ولم يروه ، قاله مقاتل . والثالث : يخافونه من حيث لا يراهم أحد ، قاله الزجاج . والرابع : يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس ، كخوفهم إذا كانوا بين الناس ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ثم عاد إلى ذكر القرآن ، فقال : " وهذا " يعني : القرآن ، " ذكر " لمن تذكر به وعظة لمن اتعظ ، " مبارك " ; أي : كثير الخير ، " أفأنتم " يا أهل مكة ، " له منكرون " ; أي : جاحدون ؟ وهذا استفهام توبيخ .
    ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون .

    قوله تعالى : " ولقد آتينا إبراهيم رشده " ; أي : هداه ، " من قبل " وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : من قبل بلوغه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : آتيناه ذلك في العلم السابق ، قاله الضحاك عن ابن عباس . [ ص: 357 ]

    والثالث : من قبل موسى وهارون ، قاله الضحاك . وقد أشرنا إلى قصة إبراهيم في ( الأنعام : 75 ) .

    قوله تعالى : " وكنا به عالمين " ; أي : علمنا أنه موضع لإيتاء الرشد . ثم بين متى آتاه ، فقال : " إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل " يعني : الأصنام . والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى ، وأصله من مثلت الشيء بالشيء : إذا شبهته به . وقوله : " التي أنتم لها " ; أي : على عبادتها ، " عاكفون " ; أي : مقيمون ، فأجابوه أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فاقتدوا بهم ، فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءهم في ضلال مبين . " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " يعنون : أجاد أنت أم لاعب ؟

    قوله تعالى : " لأكيدن أصنامكم " الكيد : احتيال الكائد في ضر المكيد . والمفسرون يقولون : لأكيدنها بالكسر . " بعد أن تولوا " ; أي : تذهبوا عنها ، وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون إليه ، ولا يخلفون بالمدينة أحدا ، فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا ، فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق قال : إني سقيم ، وألقى نفسه ، وقال سرا منهم : " وتالله لأكيدن أصنامكم " ، فسمعه رجل منهم فأفشاه عليه ، فرجع إلى بيت الأصنام ، وكانت - فيما ذكره مقاتل بن سليمان - اثنين وسبعين صنما من ذهب وفضة ، ونحاس وحديد ، وخشب ، فكسرها ، ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير ، فذلك قوله : " فجعلهم جذاذا " قرأ الأكثرون : ( جذاذا ) بضم الجيم . وقرأ أبو بكر الصديق ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، وقتادة ، وابن محيصن ، والأعمش ، والكسائي : ( جذاذا ) بكسر الجيم . وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وأيوب السختياني ، وعاصم الجحدري : ( جذاذا ) بفتح الجيم . وقرأ الضحاك وابن يعمر : ( جذذا ) [ ص: 358 ] بفتح الجيم من غير ألف . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو حيوة ، وابن وثاب : ( جذذا ) بضم الجيم من غير ألف . قال أبو عبيدة : أي : مستأصلين ، قال جرير :


    بنو المهلب جذ الله دابرهم أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف


    أي : لم يبق منهم شيء ، ولفظ " جذاذ " يقع على الواحد والاثنين والجميع ، من المذكر والمؤنث . وقال ابن قتيبة : " جذاذا " ; أي : فتاتا ، وكل شيء كسرته فقد جذذته ، ومنه قيل للسويق : الجذيذ . وقرأ الكسائي : ( جذاذا ) بكسر الجيم على أنه جمع جذيذ ، مثل : ثقيل وثقال ، وخفيف وخفاف ، والجذيذ بمعنى المجذوذ ، وهو المكسور . " إلا كبيرا لهم " ; أي : كسر الأصنام إلا أكبرها . قال الزجاج : جائز أن يكون أكبرها في ذاته ، وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إياه . " لعلهم إليه يرجعون " في هاء الكناية قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الصنم ، ثم فيه قولان : أحدهما : لعلهم يرجعون إليه فيشاهدونه ، هذا قول مقاتل . والثاني : لعلهم يرجعون إليه بالتهمة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

    والثاني : أنها ترجع إلى إبراهيم . والمعنى : لعلهم يرجعون إلى دين إبراهيم بوجوب الحجة عليهم ، قاله الزجاج .
    قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون . [ ص: 359 ]

    فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إلى آلهتهم ، " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " ; أي : قد فعل ما لم يكن له فعله ، فقال الذي سمع إبراهيم يقول : لأكيدن أصنامكم : " سمعنا فتى يذكرهم " قال الفراء : أي : يعيبهم ، تقول للرجل : لئن ذكرتني لتندمن ، تريد : بسوء .

    قوله تعالى : " فأتوا به على أعين الناس " ; أي : بمرأى منهم ، لا تأتوا به خفية . قال أبو عبيدة : تقول العرب إذا أظهر الأمر وشهر : كان ذلك على أعين الناس .

    قوله تعالى : " لعلهم يشهدون " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وقتادة .

    والثاني : يشهدون أنه فعل ذلك ، قاله السدي .

    والثالث : يشهدون عقابه وما يصنع به ، قاله محمد بن إسحاق .

    قال المفسرون : فانطلقوا به إلى نمرود ، فقال له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ قال : بل فعله كبيرهم هذا ، غضب أن تعبد معه الصغار فكسرها ، " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " من فعله بهم ؟ وهذا إلزام للحجة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النطق .

    واختلف العلماء في وجه هذا القول من إبراهيم عليه السلام على قولين :

    أحدهما : أنه وإن كان في صورة الكذب ، إلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له ، لا يصلح أن يكون إلها ، ومثله قول الملكين لداود إن هذا أخي ، ولم يكن أخاه ، له تسع وتسعون نعجة [ ص : 23 ] ، ولم يكن له شيء ، [ ص: 360 ] فجرى هذا مجرى التنبيه لداود على ما فعل ، وأنه هو المراد بالفعل والمثل المضروب ، ومثل هذا لا تسميه العرب كذبا .

    والثاني : أنه من معاريض الكلام ، فروي عن الكسائي أنه [ كان ] يقف عند قوله تعالى : " بل فعله " ، ويقول : معناه : فعله من فعله ، ثم يبتدئ : " كبيرهم هذا " . قال الفراء : وقرأ بعضهم : ( بل فعله ) بتشديد اللام ، يريد : فلعله كبيرهم هذا . وقال ابن قتيبة : هذا من المعاريض ، ومعناه : إن كانوا ينطقون ، فقد فعله كبيرهم ، وكذلك قوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] ; أي : سأسقم ، ومثله : إنك ميت [ الزمر : 30 ] ; أي : ستموت ، وقوله : لا تؤاخذني بما نسيت [ الكهف : 74 ] ، قال ابن عباس : لم ينس ، ولكنه من معاريض الكلام ، والمعنى : لا تؤاخذني بنسياني ، ومن هذا قصة الخصمين إذ تسوروا المحراب [ ص : 21 ] ، ومثله وإنا أو إياكم لعلى هدى [ سبأ : 24 ] ، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيرا ، فتبلغ إرادتها بوجه هو ألطف من الكشف ، وأحسن من التصريح . وروي أن قوما من الأعراب خرجوا يمتارون ، فلما صدروا ، خالف رجل في بعض الليل إلى عكم صاحبه ، فأخذ منه برا وجعله في عكمه ، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان ، رأى عكمه يشول وعكم صاحبه يثقل ، فأنشأ يقول :


    عكم تغشى بعض أعكام القوم لم أر عكما سارقا قبل اليوم


    فخون صاحبه بوجه هو ألطف من التصريح . قال ابن الأنباري : كلام إبراهيم كان صدقا عند البحث ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كذب إبراهيم ثلاث كذبات " : [ ص: 361 ] قال قولا يشبه الكذب في الظاهر ، وليس بكذب . قال المصنف : وقد ذهب جماعة من العلماء إلى هذا الوجه ، وأنه من المعاريض ، والمعاريض لا تذم خصوصا إذا احتيج إليها . روى عمران بن حصين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما يسرني أن [ ص: 362 ] لي بما أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي . وقال النخعي : لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم . وقال ابن سيرين : الكلام أوسع من أن يكذب ظريف . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجوز : " إن الجنة لا تدخلها العجائز " ، أراد : قوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاء [ الواقعة : 35 ] . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يمازح بلالا ، فيقول : " ما أخت خالك منك " ؟ وقال لامرأة : " من زوجك " ؟ فسمته له ، فقال : " الذي في عينيه بياض " ؟ ، وقال لرجل : " إنا حاملوك على ولد ناقة " ، وقال له العباس : ما ترجو لأبي طالب ؟ فقال : " كل خير أرجوه من ربي " . وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد : من هذا بين يديك ؟ يقول : هاد يهديني . وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له ، فقالت له : وعلى فراشي أيضا ؟ فجحد ، فقالت له : فاقرأ القرآن ، فقال :


    وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق مشهور من الصبح طالع


    يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
    [ ص: 363 ]

    فقالت : آمنت بالله ، وكذبت بصري ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فضحك وأعجبه ما صنع
    . وعرض شريح ناقة ليبيعها ، فقال له المشتري : كيف لبنها ؟ قال : احلب في أي إناء شئت . قال : كيف الوطاء ؟ قال : افرش ونم . قال : كيف نجاؤها ؟ قال : إذا رأيتها في الإبل عرفت مكانها ، علق سوطك وسر . قال : كيف قونها ؟ قال : احمل على الحائط ما شئت ; [ فاستصراها ] فلم ير شيئا مما وصف ، فرجع إليه ، فقال : لم أر فيها شيئا مما وصفتها به . قال : ما كذبتك . قال : أقلني . قال : نعم . وخرج شريح من عند زياد وهو مريض ، فقيل له : كيف وجدت الأمير ؟ قال : تركته يأمر وينهى ، فقيل له : ما معنى يأمر وينهى ؟ قال : يأمر بالوصية وينهى عن النوح . وأخذ محمد بن يوسف حجرا المدري ، فقال : العن عليا . فقال : إن الأمير أمرني أن ألعن عليا محمد بن يوسف ، فالعنوه ، لعنه الله . وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن علي ، فقال : لعن الله من لعن الله ولعن علي ، ثم قال : إن [ هذا ] الأمير قد أبى إلا أن ألعن عليا ، فالعنوه ، لعنه الله . وامتحنت الخوارج رجلا من الشيعة ، فجعل يقول : أنا من علي، ومن عثمان بريء . وخطب رجل امرأة وتحته أخرى ، فقالوا : لا نزوجك حتى تطلق امرأتك ، فقال : اشهدوا أني قد طلقت ثلاثا ، فزوجوه ، فأقام مع المرأة الأولى ، فادعوا أنه قد طلق ، فقال : أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلقتها ، ثم فلانة فطلقتها ، ثم فلانة فطلقتها ؟ قالوا : بلى ، قال : فقد طلقت ثلاثا . وحكي أن رجلا عثر به الطائف ليلة ، فقال له : من أنت ؟ فقال :


    أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره وإن نزلت يوما فسوف تعود





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #389
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    الحلقة (389)
    صــ 364 إلى صــ 371





    [ ص: 364 ]
    ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره فمنهم قيام حولها وقعود
    فظن الطائف أنه ابن بعض الأشراف بالبصرة ، فلما أصبح سأل عنه ، فإذا هو ابن باقلائي . ومثل هذا كثير .
    فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون .

    قوله تعالى : " فرجعوا إلى أنفسهم " فيه قولان :

    أحدهما : رجع بعضهم إلى بعض . والثاني : رجع كل منهم إلى نفسه متفكرا .

    قوله تعالى : " فقالوا إنكم أنتم الظالمون " فيه خمسة أقوال :

    أحدها : حين عبدتم من لا يتكلم ، قاله ابن عباس .

    والثاني : حين تتركون آلهتكم وحدها وتذهبون ، قاله وهب بن منبه .

    والثالث : في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير ، روي عن وهب أيضا .

    والرابع : لإبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام ، قاله ابن إسحاق ومقاتل .

    والخامس : أنتم ظالمون لإبراهيم حين سألتموه وهذه أصنامكم حاضرة فاسألوها ، ذكره ابن جرير .

    قوله تعالى : " ثم نكسوا على رءوسهم " وقرأ أبو رزين العقيلي ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة : ( نكسوا ) برفع النون وكسر الكاف مشددة . وقرأ سعيد بن جبير ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : ( نكسوا ) بفتح النون والكاف [ ص: 365 ] مخففة . قال أبو عبيدة : " نكسوا " : قلبوا ، تقول : نكست فلانا على رأسه : إذا قهرته وعلوته .

    ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال :

    أحدها : أدركتهم حيرة ، فقالوا : " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " ، قاله قتادة .

    والثاني : رجعوا إلى أول ما كانوا يعرفونها به من أنها لا تنطق ، قاله ابن قتيبة .

    والثالث : انقلبوا على إبراهيم يحتجون عليه بعد أن أقروا له ، ولاموا أنفسهم في تهمته ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي قوله : " لقد علمت " إضمار ( قالوا )، وفي هذا إقرار منهم بعجز ما يعبدونه عن النطق ، فحينئذ توجهت لإبراهيم الحجة ، فقال موبخا لهم : " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم " ; أي : لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئا ، " ولا يضركم " إذا لم تعبدوه ، وفي هذا حث لهم على عبادة من يملك النفع والضر . " أف لكم " قال الزجاج : معناه : النتن لكم ، فلما ألزمهم الحجة غضبوا ، فقالوا : حرقوه . وذكر في التفسير أن نمرود استشارهم : بأي عذاب أعذبه ، فقال رجل : حرقوه ، فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
    قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا [ ص: 366 ] صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .

    قوله تعالى : " وانصروا آلهتكم " ; أي : بتحريقه ; لأنه يعيبها ، " إن كنتم فاعلين " ; أي : ناصريها .

    الإشارة إلى القصة

    ذكر أهل التفسير أنهم حبسوا إبراهيم عليه السلام في بيت ، ثم بنوا له حيرا طول جداره ستون ذراعا إلى سفح جبل منيف ، ونادى منادي الملك : أيها الناس احتطبوا لإبراهيم ، ولا يتخلفن عن ذلك صغير ولا كبير ، فمن تخلف ألقي في تلك النار ، ففعلوا ذلك أربعين ليلة ، حتى إن كانت المرأة لتقول : إن ظفرت بكذا لأحتطبن لنار إبراهيم ، حتى إذا كان الحطب يساوي رأس الجدار سدوا أبواب الحير وقذفوا فيه النار ، فارتفع لهبها ، حتى إن كان الطائر ليمر بها فيحترق من شدة حرها ، ثم بنوا بنيانا شامخا ، وبنوا فوقه منجنيقا ، ثم رفعوا إبراهيم على رأس البنيان ، فرفع إبراهيم رأسه إلى السماء ، فقال : اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل ، فقالت السماء ، والأرض ، والجبال ، والملائكة : ربنا إبراهيم يحرق فيك ، فائذن لنا في نصرته ، فقال : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فأغيثوه ; فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وقيل : ست وعشرين ، فقال : حسبي الله ونعم الوكيل ، فاستقبله جبريل ، فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أما إليك [ ص: 367 ] فلا ، قال جبريل : فسل ربك ، فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فقال الله عز وجل : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، فلم تبق نار على وجه الأرض يومئذ إلا طفئت وظنت أنها عنيت . وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها . وقال ابن عباس : لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها . قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم ، فأجلسوه على الأرض ، فإذا عين من ماء عذب ، وورد أحمر ونرجس . قال كعب ووهب : فما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه ، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام ، وقال غيرهما : أربعين أو خمسين يوما ، فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة ، فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة ، وقعد معه يحدثه . وإن آزر أتى نمرود فقال : ائذن لي أن أخرج عظام إبراهيم فأدفنها ، فانطلق نمرود ومعه الناس ، فأمر بالحائط فنقب ، فإذا إبراهيم في روضة تهتز وثيابه تندى ، وعليه القميص وتحته الطنفسة ، والملك إلى جنبه ، فناداه نمرود : يا إبراهيم ; إن إلهك الذي بلغت قدرته هذا لكبير ، هل تستطيع أن تخرج ؟ قال : نعم ، فقام إبراهيم يمشي حتى خرج . فقال : من الذي رأيت معك ؟ قال : ملك أرسله إلي ربي ليؤنسني ، فقال نمرود : إني مقرب [ ص: 368 ] لإلهك قربانا؛ لما رأيت من قدرته . فقال : إذن لا يقبل الله منك ما كنت على دينك ، فقال : يا إبراهيم ; لا أستطيع ترك ملكي ، ولكن سوف أذبح له ، فذبح القربان وكف عن إبراهيم .

    قال المفسرون : ومعنى " كوني بردا " ; أي : ذات برد وسلاما ; أي : سلامة . " وأرادوا به كيدا " وهو التحريق بالنار . " فجعلناهم الأخسرين " وهو أن الله تعالى سلط البعوض عليهم ، حتى أكل لحومهم وشرب دماءهم ، ودخلت واحدة في دماغ نمرود حتى أهلكته ، والمعنى : أنهم كادوه بسوء ، فانقلب السوء عليهم .

    قوله تعالى : " ونجيناه " ; أي : من نمرود وكيده ، " ولوطا " وهو ابن أخي إبراهيم ، وهو لوط بن هاران بن تارح ، وكان قد آمن به ، فهاجرا من أرض العراق إلى الشام ، وكانت سارة مع إبراهيم في قول وهب . وقال السدي : إنما هي ابنة ملك حران ، لقيها إبراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها ، وكانت قد طعنت على قومها في دينهم .

    فأما قوله تعالى: " إلى الأرض التي باركنا فيها " ، ففيها قولان :

    أحدهما : أنها أرض الشام ، وهذا قول الأكثرين . وبركتها : أن الله عز وجل بعث أكثر الأنبياء منها ، وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار .

    والثاني : أنها مكة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، والأول أصح .

    قوله تعالى : " ووهبنا له " يعني : إبراهيم ، " إسحاق ويعقوب نافلة " ، وفي معنى النافلة قولان :

    أحدهما : أنها بمعنى الزيادة ، والمراد بها : يعقوب خاصة ، فكأنه سأل واحدا ، فأعطي اثنين ، وهذا مذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، والفراء .

    والثاني : أن النافلة بمعنى العطية ، والمراد بها : إسحاق ويعقوب ، وهذا مذهب مجاهد وعطاء . [ ص: 369 ]

    قوله تعالى : " وكلا جعلنا صالحين " يعني : إبراهيم وإسحاق ويعقوب . قال أبو عبيدة : " كل " يقع خبره على لفظ الواحد ; لأن لفظه لفظ الواحد ، ويقع خبره على لفظ الجميع ; لأن معناه معنى الجميع .

    قوله تعالى : " وجعلناهم أئمة " ; أي : رؤوسا يقتدى بهم في الخير ، " يهدون بأمرنا " ; أي : يدعون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بذلك ، " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " قال ابن عباس : شرائع النبوة . وقال مقاتل : الأعمال الصالحة . " وإقام الصلاة " قال الزجاج : حذف الهاء من ( إقامة الصلاة )قليل في اللغة ، تقول : أقام إقامة ، والحذف جائز ; لأن الإضافة عوض من الهاء .
    ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .

    قوله تعالى : " ولوطا آتيناه حكما " قال الزجاج : انتصب ( لوط ) بفعل مضمر ; لأن قبله فعلا ، فالمعنى : وأوحينا إليهم وآتينا لوطا . وذكر بعض النحويين : أنه منصوب على ( واذكر لوطا )، وهذا جائز ; لأن ذكر إبراهيم قد جرى ، فحمل لوط على معنى : واذكر .

    قال المفسرون : لما هاجر لوط مع إبراهيم ، نزل إبراهيم أرض فلسطين ، ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة ، أو نحو ذلك من إبراهيم ، فبعثه الله نبيا .

    فأما " الحكم " ففيه قولان :

    أحدهما : أنه النبوة ، قاله ابن عباس .

    والثاني : الفهم والعقل ، قاله مقاتل . وقد ذكرنا فيه أقوالا في سورة [ ص: 370 ] ( يوسف : 22 ) . وأما القرية هاهنا ، فهي سدوم ، والمراد : أهلها ، والخبائث : أفعالهم المنكرة ، فمنها : إتيان الذكور ، وقطع السبيل ، إلى غير ذلك مما قد ذكره الله عز وجل عنهم في مواضع [ هود : 78 ، والحجر : 69 ] .

    قوله تعالى : " وأدخلناه في رحمتنا " ; أي : بإنجائه من بينهم .
    ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين .

    قوله تعالى : " ونوحا " المعنى : واذكر نوحا ، وكذلك ما يأتيك من ذكر الأنبياء ، " إذ نادى " ; أي : دعا على قومه ، " من قبل " ; أي : من قبل إبراهيم ولوط . فأما الكرب العظيم ، فقال ابن عباس : هو الغرق وتكذيب قومه .

    قوله تعالى : " ونصرناه من القوم " ; أي : منعناه منهم أن يصلوا إليه بسوء . وقيل : " من " بمعنى ( على ) .
    وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين .

    قوله تعالى : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " وفيه قولان : [ ص: 371 ]

    أحدهما : أنه كان عنبا ، قاله ابن مسعود ، ومسروق ، وشريح .

    والثاني : كان زرعا ، قاله قتادة .

    " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال ابن قتيبة ; أي : رعت ليلا ، يقال : نفشت الغنم بالليل ، وهي إبل نفش ونفاش ونفاش ، والواحد نافش ، وسرحت وسربت بالنهار . قال قتادة : النفش بالليل ، والهمل بالنهار . وقال ابن السكيت : النفش : أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع .

    الإشارة إلى القصة

    ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام ، أحدهما صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فتفلتت الغنم فوقعت في الحرث ، فلم تبق منه شيئا ، فاختصما إلى داود ، فقال لصاحب الحرث : لك رقاب الغنم ، فقال سليمان : أوغير ذلك ؟ قال : ما هو ؟ قال : ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ، ويقبل أصحاب الغنم على الكرم ، حتى إذا كان كليلة نفشت فيه الغنم ، دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم ، فقال داود : قد أصبت القضاء ، ثم حكم بذلك ، فذلك قوله : " وكنا لحكمهم شاهدين " ، وفي المشار إليهم قولان :

    أحدهما : داود وسليمان ، فذكرهما بلفظ الجمع ; لأن الاثنين جمع ، هذا قول الفراء .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #390
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    الحلقة (390)
    صــ 372 إلى صــ 379






    والثاني : أنهم داود وسليمان والخصوم ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن أبي عبلة : " وكنا لحكمهما " على التثنية . ومعنى [ ص: 372 ] " شاهدين " : أنه لم يغب عنا من أمرهم شيء . " ففهمناها سليمان " يعني : القضية والحكومة . وإنما كني عنها ; لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذكر الحكم ، " وكلا " منهما " آتينا حكما " وقد سبق بيانه . قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه ، وعذر داود باجتهاده .

    فصل

    قال أبو سليمان الدمشقي : كان قضاء داود وسليمان جميعا من طريق الاجتهاد ، ولم يكن نصا ; إذ لو كان نصا ما اختلفا . قال القاضي أبو يعلى : وقد اختلف الناس في الغنم إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته ، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان ، وهو قول الشافعي ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا ضمان عليه ليلا ونهارا ، إلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها ، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا ; لأن داود حكم بالضمان ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه . فإن قيل : فقد ثبت نسخ هذا الحكم ; لأن داود حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشت غنمه في حرث رجل شيء من ذلك . قيل : الآية تضمنت أحكاما ؛ منها : وجوب الضمان وكيفيته ، فالنسخ حصل على كيفيته ، ولم يحصل على أصله ، فوجب التعلق به . وقد روى حرام بن محيصة عن أبيه : أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل . [ ص: 373 ]

    قوله تعالى : " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن " تقدير الكلام : وسخرنا الجبال يسبحن مع داود . قال أبو هريرة : كان إذا سبح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذكر . وقال غيره : كان إذا وجد فترة ، أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح .

    قوله تعالى : " وكنا فاعلين " ; أي : لذلك . قال الزجاج : المعنى : وكنا نقدر على ما نريده .

    قوله تعالى : " وعلمناه صنعة لبوس لكم " في المراد باللبوس قولان :

    أحدهما : الدروع ، وكانت قبل ذلك صفائح ، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد ، قاله قتادة .

    والثاني : أن اللبوس : السلاح كله من درع إلى رمح ، قاله أبو عبيدة . وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع : " لبوس " بضم اللام .

    قوله تعالى : " لتحصنكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ( ليحصنكم ) بالياء . وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم : ( لتحصنكم ) بالتاء . وروى أبو بكر عن عاصم : ( لنحصنكم ) بالنون خفيفة . وقرأ أبو الدرداء ، وأبو عمران الجوني ، وأبو حيوة : ( لتحصنكم ) بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد . وقرأ ابن مسعود ، وأبو الجوزاء ، وحميد بن قيس : ( لتحصنكم ) بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو المتوكل ، ومجاهد : ( لنحصنكم ) بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها . وقرأ معاذ القارئ ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( ليحصنكم ) بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون . [ ص: 374 ]

    فمن قرأ بالياء ، ففيه أربعة أوجه ; قال أبو علي الفارسي : أن يكون الفاعل اسم الله لتقدم معناه ، ويجوز أن يكون اللباس ; لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضربا منه ، ويجوز أن يكون داود ، ويجوز أن يكون التعليم ، وقد دل عليه " علمناه " .

    ومن قرأ بالتاء حمله على المعنى ; لأنه الدرع .

    ومن قرأ بالنون فلتقدم قوله : " وعلمناه " .

    ومعنى " لتحصنكم " : لتحرزكم وتمنعكم ، " من بأسكم " يعني : الحرب .

    قوله تعالى : " ولسليمان الريح " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو عمران الجوني ، وأبو حيوة الحضرمي : ( الرياح ) بألف مع رفع الحاء . وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء بالألف ونصب الحاء ، والمعنى : وسخرنا لسليمان الريح ، " عاصفة " ; أي : شديدة الهبوب ، " تجري بأمره " يعني : بأمر سليمان ، " إلى الأرض التي باركنا فيها " وهي أرض الشام ، وقد مر بيان بركتها في هذه السورة [ الأنبياء : 72 ] ، والمعنى : أنها كانت تسير به إلى حيث شاء ، ثم تعود به إلى منزله بالشام .

    قوله تعالى : " وكنا بكل شيء عالمين " علمنا أن ما نعطي سليمان يدعوه إلى الخضوع لربه .

    قوله تعالى : " ومن الشياطين من يغوصون له " قال أبو عبيدة : " من " تقع على الواحد والاثنين والجمع ، من المذكر والمؤنث . قال المفسرون : كانوا يغوصون في البحر فيستخرجون الجواهر ، " ويعملون عملا دون ذلك " قال الزجاج : معناه : سوى ذلك . " وكنا لهم حافظين " أن يفسدوا ما عملوا . وقال غيره : أن يخرجوا عن أمره .
    وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [ ص: 375 ] فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين .

    قوله تعالى : " وأيوب إذ نادى ربه " ; أي : دعا ربه ، " أني " وقرأ أبو عمران الجوني : ( إني ) بكسر الهمزة . " مسني الضر " وقرأ حمزة : ( مسني ) بتسكين الياء ; أي : أصابني الجهد . " وأنت أرحم الراحمين " ; أي : أكثرهم رحمة ، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة ؛ إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت .

    الإشارة إلى قصته

    ذكر أهل التفسير أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زمانه ، وكان كثير الإحسان . فقال إبليس : يا رب سلطني على ماله وولده - وكان له ثلاثة عشر ولدا - فإن فعلت رأيته كيف يطيعني ويعصيك ، فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده ، فرجع إبليس فجمع شياطينه ومردته ، فبعث بعضهم إلى دوابه ورعاته ، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر ، وجاء إبليس في صورة قيمه ، فقال : يا أيوب ألا أراك تصلي وقد أقبلت ريح عاصف ، فاحتملت دوابك ورعاتها حتى قذفتها في البحر ؟ فلم يرد عليه شيئا حتى فرغ من صلاته ، ثم قال : الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مني ، فانصرف خائبا ، ثم أرسل بعض الشياطين إلى جنانه وزروعه فأحرقوها ، وجاء فأخبره ، فقال مثل ذلك ، فأرسل بعض الشياطين ، فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه فأهلكوهم ، وجاء فأخبره ، فحمد الله وقال لإبليس وهو يظنه قيمه في ماله : لو كان فيك خير لقبضك معهم ، فانصرف خائبا ، [ ص: 376 ] فقيل له : كيف رأيت عبدي أيوب ؟ قال : يا رب سلطني على جسده فسوف ترى ، قيل له : قد سلطتك على جسده ، فجاء فنفخ في إبهام قدميه ، فاشتعل فيه مثل النار ، ولم يكن في زمانه أكثر بكاء منه خوفا من الله تعالى ، فلما نزل به البلاء لم يبك مخافة الجزع ، وبقي لسانه للذكر وقلبه للمعرفة والشكر ، وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه ، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم ، ووقعت به حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره حتى سقطت ، ثم بالمسوح ، ثم بالحجارة ، فأنتن جسمه وتقطع ، وأخرجه أهل القرية ، فجعلوا له عريشا على كناسة ، ورفضه الخلق سوى زوجته ، واسمها رحمة بنت إفراييم بن يوسف بن يعقوب ، فكانت تختلف إليه بما يصلحه . وروى أبو بكر القرشي عن الليث بن سعد ، قال : كان ملك يظلم الناس ، فكلمه في ذلك جماعة من الأنبياء ، وسكت عنه أيوب لأجل خيل كانت له في سلطانه ، فأوحى الله إليه : تركت كلامه من أجل خيلك ؟ لأطيلن بلاءك .

    واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال :

    أحدها : ثماني عشرة سنة ، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    والثاني : سبع سنين ، قاله ابن عباس ، وكعب ، ويحيى بن أبي كثير . [ ص: 377 ]

    والثالث : سبع سنين وأشهر ، قاله الحسن .

    والرابع : ثلاث سنين ، قاله وهب .

    وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال :

    أحدها : [ أنه ] اشتهى إداما ، فلم تصبه امرأته حتى باعت قرنا من شعرها ، فلما علم ذلك قال : " مسني الضر " ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله ، فلما انتهى أجل البلاء ، يسر له الدعاء فاستجاب له ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أن نفرا من بني إسرائيل مروا به ، فقال بعضهم لبعض : ما أصابه هذا إلا بذنب عظيم ، فعند ذلك قال : " مسني الضر " ، قاله نوف البكالي . وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان له أخوان ، فأتياه يوما ، فوجدا ريحا ، فقالا : لو كان الله علم منه خيرا ما بلغ به كل هذا ، فما سمع شيئا أشد عليه من ذلك ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصا وأنا أعلم مكان عار فصدقني ، فصدق وهما يسمعان ، فخر ساجدا ، ثم قال : اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي ، فكشف الله عز وجل ما به .

    والرابع : أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلة ، فقال : ليذبح أيوب هذه لي وقد برأ ، فجاءت فأخبرته ، فقال : إن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتني أن أذبح لغير الله ! ثم طردها عنه ، فذهبت ، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق ، خر ساجدا وقال : " مسني الضر " ، قاله الحسن .

    والخامس : أن الله تعالى أوحى إليه وهو في عنفوان شبابه : إني مبتليك ، [ ص: 378 ] قال : يا رب ; وأين يكون قلبي ؟ قال : عندي ، فصب عليه من البلاء ما سمعتم ، حتى إذا بلغ البلاء منتهاه ، أوحى إليه أني معافيك . قال : يا رب ; وأين يكون قلبي ؟ قال : عندك . قال : " مسني الضر " ، قاله إبراهيم بن شيبان القرميسي فيما حدثنا به عنه .

    والسادس : أن الوحي انقطع عنه أربعين يوما ، فخاف هجران ربه ، فقال : " مسني الضر " ، ذكره الماوردي .

    فإن قيل : أين الصبر وهذا لفظ الشكوى ؟

    فالجواب : أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ، وإنما المذموم الشكوى إلى الخلق ، ألم تسمع قول يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [ يوسف : 86 ] . قال سفيان بن عيينة : وكذلك من شكا إلى الناس ، وهو في شكواه راض بقضاء الله ، لم يكن ذلك جزعا ، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل في مرضه : " أجدني مغموما " ، و " أجدني مكروبا " ، وقوله : " بل أنا وا رأساه " .

    قوله تعالى : " وآتيناه أهله " يعني : أولاده ، " ومثلهم معهم " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم ، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وقتادة . وروى أبو صالح عن ابن عباس : كانت [ ص: 379 ] امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات ، فنشروا له ، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات .

    والثاني : أنهم كانوا قد غيبوا عنه ولم يموتوا ، فآتاه إياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة ، رواه هشام عن الحسن .

    والثالث : آتاه الله أجور أهله في الآخرة ، وآتاه مثلهم في الدنيا ، قاله نوف ومجاهد .

    والرابع : آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة ، حكاه الزجاج .

    قوله تعالى : " رحمة من عندنا " ; أي : فعلنا ذلك به رحمة من عندنا ، " وذكرى " ; أي : عظة للعابدين . قال محمد بن كعب : من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب ، فليقل : إنه قد أصاب من هو خير مني .

    قوله تعالى : " وذا الكفل " اختلفوا ، هل كان نبيا أم لا ؟ على قولين :

    أحدهما : أنه لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبدا صالحا ، قاله أبو موسى الأشعري ومجاهد . ثم اختلف أرباب هذا القول في علة تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال : أحدها : أن رجلا كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي ، فكفل بصلاته ، فسمي ذا الكفل ، قاله أبو موسى الأشعري . والثاني : أنه تكفل للنبي بقومه أن يكفيه أمرهم ، ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ، فسمي ذا الكفل ، قاله مجاهد . والثالث : أن ملكا قتل في يوم ثلاثمائة نبي ، وفر منه مائة نبي ، فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أفلتوا ، فسمي ذا الكفل ، قاله ابن السائب .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #391
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    الحلقة (391)
    صــ 380 إلى صــ 387




    والقول الثاني : أنه كان نبيا ، قاله الحسن وعطاء . قال عطاء : [ ص: 380 ] أوحى الله تعالى [ إلى ] نبي من الأنبياء : إني أريد قبض روحك ، فاعرض ملكك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك بأنه يصلي الليل لا يفتر ، ويصوم النهار لا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه ، ففعل ذلك ، فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا ، فتكفل به ، فوفى ، فشكر الله له ذلك ونبأه ، وسمي ذا الكفل . وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفل : " أنه كان رجلا لا ينزع عن ذنب ، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها ، فبكت وقالت : ما فعلت هذا قط ، فقام عنها تائبا ، ومات من ليلته ، فأصبح مكتوبا على بابه : قد غفر الله للكفل " ، والحديث معروف ، وقد ذكرته في " الحدائق " ، فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل ، وهذا غلط ; لأن ذلك اسمه الكفل ، والمذكور في القرآن يقال له : ذو الكفل ، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها ، فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا . وإذا قلنا : إنه نبي ، فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال . وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر رحمه الله تعالى ، فوافقني ، وقال : ليس هذا بذاك .

    قوله تعالى : " كل من الصابرين " ; أي : على طاعة الله وترك معصيته . " وأدخلناهم في رحمتنا " في هذه الرحمة ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها الجنة ، قاله ابن عباس . والثاني : النبوة ، قاله مقاتل . والثالث : النعمة والموالاة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
    وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت [ ص: 381 ] من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين .

    قوله تعالى : " وذا النون " يعني : يونس بن متى . والنون : السمكة ، أضيف إليها لابتلاعها إياه .

    قوله تعالى : " إذ ذهب مغاضبا " قال ابن قتيبة : المغاضبة : مفاعلة ، وأكثر المفاعلة من اثنين ، كالمناظرة والمجادلة والمخاصمة ، وربما تكون من واحد ، كقولك : سافرت وشارفت الأمر ، وهي هاهنا من هذا الباب . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( مغضبا ) بإسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف .

    واختلفوا في مغاضبته لمن كانت على قولين :

    أحدهما : أنه غضب على قومه ، قاله ابن عباس والضحاك . وفي سبب غضبه عليهم ثلاثة أقوال : أحدها : أن الله تعالى أوحى إلى نبي يقال له : شعيا : أن ائت فلانا الملك ، فقل له : يبعث نبيا أمينا إلى بني إسرائيل ، وكان قد غزا بني إسرائيل ملك وسبى منهم الكثير ، فأراد النبي والملك أن يبعثا يونس إلى ذلك الملك ليكلمه حتى يرسلهم ، فقال يونس لشعيا : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا . قال : فهل سماني لك ؟ قال : لا . قال : فهاهنا غيري من الأنبياء ، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي والملك ولقومه ، هذا مروي عن ابن عباس . وقد زدناه شرحا في ( يونس : 98 ) . والثاني : أنه عانى من قومه أمرا صعبا من الأذى والتكذيب ، فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا ضجرا ، وما ظن أن هذا الفعل يوجب عليه ما جرى من العقوبة ، ذكره ابن الأنباري . وقد روي عن وهب بن منبه ، قال : لما حملت عليه أثقال النبوة ، ضاق بها ذرعا ولم يصبر ، [ ص: 382 ] فقذفها من يده وخرج هاربا . والثالث : أنه لما أوعدهم العذاب فتابوا ورفع عنهم ، قيل له : ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع فيجدوني كاذبا ؟ فانصرف مغاضبا لقومه عاتبا على ربه . وقد ذكرنا هذا في ( يونس : 98 ) .

    والثاني : أنه خرج مغاضبا لربه ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وعروة . وقال أبو بكر النقاش : المعنى : مغاضبا من أجل ربه ، وإنما غضب لأجل تمردهم وعصيانهم . وقال ابن قتيبة : كان مغيظا عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم ، مشتهيا أن ينزل العذاب بهم ، فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه .

    قوله تعالى : " فظن أن لن نقدر عليه " وقرأ يعقوب : ( يقدر ) بضم الياء وتشديد الدال وفتحها . وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي ليلى : ( يقدر ) بياء مرفوعة مع سكون القاف وتخفيف الدال وفتحها . وقرأ أبو عمران الجوني : ( يقدر ) بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر الدال خفيفة . وقرأ الزهري ، وابن يعمر ، وحميد بن قيس : ( نقدر ) بنون مرفوعة وفتح القاف وكسر الدال وتشديدها . ثم فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن لن نقضي عليه بالعقوبة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك . قال الفراء : معنى الآية : فظن أن لن نقدر عليه ما قدرنا من العقوبة ، والعرب تقول : قدر بمعنى : قدر ، قال أبو صخر :


    ولا عائدا ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يكن ولك الشكر


    أراد : ما تقدر ، وهذا مذهب الزجاج . [ ص: 383 ]

    والثاني : فظن أن لن نضيق عليه ، قاله عطاء . قال ابن قتيبة : يقال : فلان مقدر عليه ، ومقتر عليه ، ومنه قوله تعالى: فقدر عليه رزقه [ الفجر : 16 ] ; أي : ضيق عليه فيه . قال النقاش : والمعنى : فظن أن لن يضيق عليه الخروج ، فكأنه ظن أن الله قد وسع له ، إن شاء أن يقيم ، وإن شاء أن يخرج ، ولم يؤذن له في الخروج .

    والثالث : أن المعنى : فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه ! رواه عوف عن الحسن . وقال ابن زيد وسليمان التيمي : المعنى : أفظن أن لن نقدر عليه ; فعلى هذا الوجه يكون استفهاما قد حذفت ألفه ، وهذا الوجه يدل على أنه من القدرة ، ولا يتصور إلا مع تقدير الاستفهام ، ولا أعلم له وجها إلا أن يكون استفهام إنكار ، تقديره : ما ظن عجزنا ، فأين يهرب منا ؟

    قوله تعالى : " فنادى في الظلمات " فيها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها ظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة ، والأكثرون .

    والثاني : أن حوتا جاء فابتلع الحوت الذي هو في بطنه ، فنادى في ظلمة حوت ، ثم في ظلمة حوت ، ثم في ظلمة البحر ، قاله سالم بن أبي الجعد .

    والثالث : أنها ظلمة الماء ، وظلمة معى السمكة ، وظلمة بطنها ، قاله ابن السائب . وقد روى سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه ، كلمة أخي يونس : فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " . قال الحسن : وهذا اعتراف [ من ] يونس بذنبه وتوبة من خطيئته . [ ص: 384 ]

    قوله تعالى : " فاستجبنا له " ; أي : أجبناه ، " ونجيناه من الغم " ; أي : من الظلمات ، " وكذلك ننجي المؤمنين " إذا دعونا . وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ : ( نجي المؤمنين ) بنون واحدة مشددة الجيم . قال الزجاج : وهذا لحن لا وجه له . وقال أبو علي الفارسي : غلط الراوي عن عاصم ، ويدل على هذا إسكانه الياء من ( نجي ) ونصب ( المؤمنين ) ، ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء ، ولرفع ( المؤمنين ) .
    وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .

    قوله تعالى : " لا تذرني فردا " ; أي : وحيدا بلا ولد ، " وأنت خير الوارثين " ; أي : أفضل من بقي حيا بعد ميت .

    قوله تعالى : " وأصلحنا له زوجه " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أصلحت للولد بعد أن كانت عقيما ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .

    والثاني : أنه كان في لسانها طول ، وهو البذاء ، فأصلحت ، قاله عطاء . وقال السدي : كانت سليطة فكف عنه لسانها . [ ص: 385 ]

    والثالث : أنه كان خلقها سيئا ، قاله محمد بن كعب .

    قوله تعالى : " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات " ; أي : يبادرون في طاعة الله . وفي المشار إليهم قولان :

    أحدهما : زكريا ، وامرأته ، ويحيى . والثاني : جميع الأنبياء المذكورون في هذه السورة .

    قوله تعالى : " ويدعوننا " وقرأ ابن مسعود وابن محيصن : ( ويدعونا ) بنون واحدة .

    قوله تعالى : " رغبا ورهبا " ; أي : رغبا في ما عندنا ورهبا منا . وقرأ الأعمش : ( رغبا ورهبا ) بضم الراءين وجزم الغين والهاء ، وهما لغتان ، مثل : النحل والنحل ، والسقم والسقم . " وكانوا لنا خاشعين " ; أي : متواضعين .

    قوله تعالى : " والتي أحصنت فرجها " فيه قولان :

    أحدهما : أنه مخرج الولد ، والمعنى : منعته مما لا يحل . وإنما وصفت بالعفاف ; لأنها قذفت بالزنا .

    والثاني : أنه جيب درعها ، ومعنى الفرج في اللغة : كل فرجة بين شيئين ، وموضع جيب درع المرأة مشقوق ، فهو يسمى فرجا . وهذا أبلغ في الثناء عليها ; لأنها إذا منعت جيب درعها فهي لنفسها أمنع .

    قوله تعالى : " فنفخنا فيها " ; أي : أمرنا جبريل فنفخ في درعها ، فأجرينا فيها روح عيسى كما تجري الريح بالنفخ . وأضاف الروح إليه إضافة الملك ; للتشريف والتخصيص . " وجعلناها وابنها آية " قال الزجاج : لما كان شأنهما واحدا ، كانت [ ص: 386 ] الآية فيهما آية واحدة ، وهي ولادة من غير فحل . وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : ( آيتين ) على التثنية .

    قوله تعالى : " إن هذه أمتكم " قال ابن عباس : المراد بالأمة هاهنا : الدين . وفي المشار إليهم قولان :

    أحدهما : أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو معنى قول مقاتل .

    والثاني : أنهم الأنبياء عليهم السلام ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ثم ذكر أهل الكتاب ، فذمهم بالاختلاف ، فقال تعالى : " وتقطعوا أمرهم بينهم " ; أي : اختلفوا في الدين ، " فمن يعمل من الصالحات " ; أي : شيئا من الفرائض وأعمال البر ، " فلا كفران لسعيه " ; أي : لا نجحد ما عمل ، قاله ابن قتيبة ، والمعنى : أنه يقبل منه ويثاب عليه . " وإنا له كاتبون " ذلك ، نأمر الحفظة أن يكتبوه لنجازيه به .
    وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون .

    قوله تعالى : " وحرام على قرية " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : ( وحرام ) بألف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، [ ص: 387 ] وأبو بكر عن عاصم : ( وحرم ) بكسر الحاء من غير ألف ، وهما لغتان ، يقال : حرم وحرام . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران الجوني : ( حرم ) بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منونة . وقرأ سعيد بن جبير : ( وحرم ) بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم من غير تنوين ولا ألف . وقرأ أبو الجوزاء ، وعكرمة ، والضحاك : ( وحرم ) بفتح الحاء والميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف . وقرأ سعيد بن المسيب ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء : ( وحرم ) بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف .

    وفي معنى قوله تعالى : " وحرام " قولان :

    أحدهما : واجب ، قاله ابن عباس ، وأنشدوا في معناه :


    فإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمرو


    أي : واجب .

    والثاني : أنه بمعنى العزم ، قاله سعيد بن جبير . وقال عطاء : حتم من الله ، والمراد بالقرية : أهلها .

    ثم في معنى الآية أربعة أقوال :

    أحدها : واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون ، رواه عكرمة عن ابن عباس .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #392
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    الحلقة (392)
    صــ 388 إلى صــ 395






    والثاني : واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها ، هذا قول قتادة ، وقد روي عن ابن عباس نحوه . [ ص: 388 ]

    والثالث : أن " لا " زائدة ، والمعنى : حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إلى الدنيا ، قاله ابن جريج ، وابن قتيبة في آخرين .

    والرابع : أن الكلام متعلق بما قبله ; لأنه لما قال : " فلا كفران لسعيه " ، أعلمنا أنه قد حرم قبول أعمال الكفار ، فمعنى الآية : وحرام على قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل ; لأنهم لا يتوبون ، هذا قول الزجاج .

    فإن قيل : كيف يصح أن يحرم على الإنسان ما ليس من فعله ، ورجوعهم بعد الموت ليس إليهم ؟

    فالجواب : أن المعنى : منعوا من ذلك كما يمنع الإنسان من الحرام وإن قدر عليه ، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع .

    قوله تعالى : " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " وقرأ ابن عامر : ( فتحت ) بالتشديد ، والمعنى : فتح الردم عنهم . " وهم من كل حدب " قال ابن قتيبة : من كل نشز من الأرض وأكمة ، " ينسلون " من النسلان ، وهو مقاربة الخطو مع الإسراع ، كمشي الذئب إذا بادر ، والعسلان مثله . وقال الزجاج : [ ص: 389 ] الحدب : كل أكمة ، و " ينسلون " : يسرعون . وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري : ( ينسلون ) بضم السين .

    وفي قوله تعالى : " وهم " قولان :

    أحدهما : أنه إشارة إلى يأجوج ومأجوج ، قاله الجمهور .

    والثاني : إلى جميع الناس ، فالمعنى : وهم يحشرون إلى الموقف ، قاله مجاهد . والأول أصح .

    فإن قيل : أين جواب " حتى " ؟ ففيه قولان :

    أحدهما : أنه قوله تعالى: " واقترب الوعد الحق " ، والواو في قوله تعالى : " واقترب " زائدة ، قاله الفراء . قال : ومثله : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها [ الزمر : 73 ] ، وقوله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه [ الصافات : 103 ، 104 ] ، المعنى : نادينا . وقال عبد الله بن مسعود : الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج ، كالحامل المتم ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ، ليلا أو نهارا .

    والثاني : أنه قول محذوف في قوله : " يا ويلنا " ، فالمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد ، قالوا : يا ويلنا . قال الزجاج : هذا قول البصريين . فأما " الوعد الحق " فهو القيامة .

    قوله تعالى : " فإذا هي " ، في " هي " أربعة أقوال :

    أحدها : أن " هي " كناية عن الأبصار ، والأبصار تفسير لها ، كقول الشاعر :


    لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي ألا فر عني مالك بن أبي كعب


    فذكر الظعينة ، وقد كنى عنها في ( لعمرو أبيها ) . [ ص: 390 ]

    والثاني : أن " هي " [ ضمير فصل ] وعماد ، ويصلح في موضعها " هو " ، ومثله قوله : إنه أنا الله [ النمل : 9 ] ، وقوله : فإنها لا تعمى الأبصار [ الحج : 46 ] ، وأنشدوا :


    بثوب ودينار وشاة ودرهم فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس


    ذكرهما الفراء .

    والثالث : أن يكون تمام الكلام عند قوله : " هي " على معنى : فإذا هي بارزة واقفة ، يعني : من قربها ، كأنها آتية حاضرة ، ثم ابتدأ فقال : " شاخصة " ، ذكره الثعلبي .

    والرابع : أن " هي " كناية عن القصة ، والمعنى : القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري . قال المفسرون : تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة ، ويقولون : " يا ويلنا قد كنا " ; أي : في الدنيا ، " في غفلة من هذا " ; أي : عن هذا ، " بل كنا ظالمين " أنفسنا بكفرنا ومعاصينا . ثم خاطب أهل مكة فقال : " إنكم وما تعبدون من دون الله " يعني : الأصنام ، " حصب جهنم " وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو العالية ، وعمر بن عبد العزيز : ( حطب ) بالطاء . وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، وابن السميفع : ( حضب ) بالضاد المعجمة المفتوحة . وقرأ عروة ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : ( حضب جهنم ) بإسكان الضاد المعجمة . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو حيوة ، ومعاذ القارئ : ( حضب ) بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة . وقرأ أبو مجلز ، [ ص: 391 ] وأبو رجاء ، وابن محيصن : ( حصب ) بفتح الحاء وبصاد غير معجمة ساكنة . قال الزجاج : من قرأ : ( حصب جهنم ) فمعناه : كل ما يرمى به فيها ، ومن قرأ : ( حطب ) فمعناه : ما توقد به . ومن قرأ بالضاد المعجمة فمعناه : ما تهيج به النار وتذكى به . قال ابن قتيبة : الحصب : ما ألقي فيها ، وأصله من الحصباء ، وهو الحصى ، يقال : حصبت فلانا : إذا رميته حصبا ، بتسكين الصاد ، وما رميت به فهو حصب ، بفتح الصاد .

    قوله تعالى : " أنتم " يعني : العابدين والمعبودين ، " لها واردون " ; أي : داخلون . " لو كان هؤلاء " يعني : الأصنام ، " آلهة " على الحقيقة ، " ما وردوها " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه إشارة إلى الأصنام ، والمعنى : لو كانوا آلهة ما دخلوا النار .

    والثاني : أنه إشارة إلى عابديها ، فالمعنى : لو كانت الأصنام آلهة ، منعت عابديها دخول النار .

    والثالث : أنه إشارة إلى الآلهة وعابديها ، بدليل قوله تعالى : " وكل فيها خالدون " يعني : العابد والمعبود .

    قوله تعالى : " لهم فيها زفير " قد شرحنا معنى الزفير في ( هود : 106 ) . وفي علة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار ، ثم يقذفون في توابيت من نار مقفلة عليهم ، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل . وقال ابن مسعود : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ، [ ص: 392 ] ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى ، فلا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحدهم أن في النار أحدا يعذب غيره .

    والثاني : أن السماع أنس ، والله لا يحب أن يؤنسهم ، قاله عون بن عمارة .

    والثالث : إنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
    إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

    قوله تعالى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " سبب نزولها أنه لما نزلت " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " ، شق ذلك على قريش ، وقالوا : شتم آلهتنا ، فجاء ابن الزبعرى فقال : ما لكم ؟ قالوا : شتم آلهتنا ، قال : وما قال ؟ فأخبروه ، فقال : ادعوه لي ، فلما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا محمد ; هذا شيء لآلهتنا خاصة ، أو لكل من عبد من دون الله ؟ قال : " لا ، بل لكل من عبد من دون الله " ، فقال ابن الزبعرى : خصمت ورب هذه البنية ، ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون ، وأن عيسى عبد صالح ، وأن عزيرا عبد صالح ، [ ص: 393 ] فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى تعبد عيسى ، وهذه اليهود تعبد عزيرا ، فضج أهل مكة ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال الحسين بن الفضل : إنما أراد بقوله : " وما تعبدون " : الأصنام دون غيرها ; لأنه لو أراد الملائكة والناس لقال : ( ومن ) . وقيل : " إن " بمعنى ( إلا ) ، فتقديره : إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى ، وهي قراءة ابن مسعود وأبي نهيك ، فإنهما قرءا : ( إلا الذين ) . وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية ، فقال : أنا منهم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن .

    وفي المراد " بالحسنى " قولان : أحدهما : الجنة ، قاله ابن عباس وعكرمة . والثاني : السعادة ، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى : " أولئك عنها " ; أي : عن جهنم ، وقد تقدم ذكرها . " مبعدون " والبعد : طول المسافة ، والحسيس : الصوت تسمعه من الشيء إذا مر قريبا منك . قال ابن عباس : لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إذا نزلوا منازلهم من الجنة .

    قوله تعالى : " لا يحزنهم الفزع الأكبر " وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، [ ص: 394 ] وابن أبي عبلة ، وابن محيصن ، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي : ( لا يحزنهم ) بضم الياء وكسر الزاي .

    وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال :

    أحدها : أنه النفخة الآخرة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم ، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: " وتتلقاهم الملائكة " .

    والثاني : أنه إطباق النار على أهلها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .

    والثالث : أنه ذبح الموت بين الجنة والنار ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال ابن جريج .

    والرابع : أنه حين يؤمر بالعبد إلى النار ، قاله الحسن البصري .

    وفي مكان تلقي الملائكة لهم قولان :

    أحدهما : إذا قاموا من قبورهم ، قاله مقاتل . والثاني : على أبواب الجنة ، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى : " هذا يومكم " فيه إضمار : يقولون ، هذا يومكم " الذي كنتم توعدون " فيه الجنة .

    قوله تعالى : " يوم نطوي السماء " وقرأ أبو العالية ، وابن أبي عبلة ، وأبو جعفر : ( تطوى ) بتاء مضمومة ( السماء ) بالرفع ، وذلك بمحو رسومها ، وتكدير نجومها ، وتكوير شمسها . " كطي السجل للكتب " قرأ الجمهور : ( السجل ) بكسر السين والجيم وتشديد اللام . وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، [ ص: 395 ] وأبو الجوزاء ، ومحبوب عن أبي عمرو : ( السجل ) بكسر السين وإسكان الجيم خفيفة . وقرأ أبو السماك كذلك ، إلا أنه فتح الجيم .

    قوله تعالى : " للكتب " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( للكتاب ) . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( للكتب ) على الجمع .

    وفي ( السجل ) أربعة أقوال :

    أحدها : أنه ملك ، قاله علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، والسدي .

    والثاني : أنه كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

    والثالث : أن السجل بمعنى : الرجل ، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس ، قال : السجل : هو الرجل . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : وقد قيل : ( السجل ) بلغة الحبشة : الرجل .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #393
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْحَجِّ
    الحلقة (393)
    صــ 396 إلى صــ 403




    والرابع : أنه الصحيفة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والفراء ، وابن قتيبة . وقرأت على شيخنا أبي منصور ، قال : قال أبو بكر ، يعني - ابن دريد - : السجل : الكتاب ، والله أعلم . ولا ألتفت إلى قولهم : إنه [ ص: 396 ] فارسي معرب ، والمعنى : كما يطوى السجل على ما فيه من كتاب . واللام بمعنى على . وقال بعض العلماء : المراد بالكتاب : المكتوب ، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة ، جعل السجل كأنه يطوي الكتاب .

    ثم استأنف ، فقال تعالى : " كما بدأنا أول خلق نعيده " الخلق هاهنا مصدر ، وليس بمعنى المخلوق .

    وفي معنى الكلام أربعة أقوال :

    أحدها : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا ، كذلك نعيدهم يوم القيامة ، روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلا كما خلقوا ، ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده " ، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد .

    والثاني : أن المعنى : إنا نهلك كل شيء كما كان أول مرة ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أن السماء تمطر أربعين يوما كمني الرجال ، فينبتون بالمطر في قبورهم كما ينبتون في بطون أمهاتهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والرابع : أن المعنى : قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء ، قاله الزجاج . [ ص: 397 ]

    قوله تعالى : " وعدا " قال الزجاج : هو منصوب على المصدر ; لأن قوله تعالى : " نعيده " بمعنى : وعدنا هذا وعدا . " إنا كنا فاعلين " ; أي : قادرين على فعل ما نشاء . وقال غيره : إنا كنا فاعلين ما وعدنا .

    قوله تعالى : " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : أن الزبور : جميع الكتب المنزلة من السماء ، والذكر : أم الكتاب الذي عند الله ، قاله سعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد ، وابن زيد ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير ، فإنه قال : الزبور : التوراة والإنجيل والقرآن ، والذكر : الذي في السماء .

    والثاني : أن الزبور : الكتب ، والذكر : التوراة ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أن الزبور : القرآن ، والذكر : التوراة والإنجيل ، قاله سعيد بن جبير في رواية .

    والرابع : أن الزبور : زبور داود ، والذكر : ذكر موسى ، قاله الشعبي . وفي الأرض المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه أرض الجنة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون . والثاني : أرض الدنيا ، وهو منقول عن ابن عباس أيضا . والثالث : الأرض المقدسة ، قاله ابن السائب .

    وفي قوله تعالى : " يرثها عبادي الصالحون " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وفي رواية : ترث أمة محمد أرض الدنيا بالفتوح .

    والثاني : بنو إسرائيل ، قاله ابن السائب . [ ص: 398 ]

    والثالث : أنه عام في كل صالح ، قاله بعض فقهاء المفسرين .

    قوله تعالى : " إن في هذا " يعني : القرآن ، " لبلاغا " ; أي : لكفاية ، والمعنى : أن من اتبع القرآن وعمل به ، كان القرآن بلاغه إلى الجنة .

    وقوله تعالى : " لقوم عابدين " قال كعب : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ، ويصومون شهر رمضان .

    قوله تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال ابن عباس : هذا عام للبر والفاجر ، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن كفر به صرفت عنه العقوبة إلى الموت والقيامة . وقال ابن زيد : هو رحمة لمن آمن به خاصة .
    قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون . [ ص: 399 ]

    قوله تعالى : " فهل أنتم مسلمون " قال ابن عباس : فهل أنتم مخلصون له العبادة ؟ قال أهل المعاني : هذا استفهام بمعنى الأمر .

    قوله تعالى : " فإن تولوا " ; أي : أعرضوا ولم يؤمنوا ، " فقل آذنتكم على سواء " في معنى الكلام قولان :

    أحدهما : نابذتكم وعاديتكم وأعلمتكم ذلك ، فصرت أنا وأنتم على سواء قد استوينا في العلم بذلك ، وهذا من الكلام المختصر ، قاله ابن قتيبة .

    والثاني : أعلمتكم بالوحي إلي لتستووا في الإيمان به ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " وإن أدري " ; أي : وما أدري ، " أقريب أم بعيد ما توعدون " بنزول العذاب بكم . " إنه يعلم الجهر " وهو ما يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم : متى هذا الوعد [ يس : 48 ] ، و " ما تكتمون " إسرارهم أن العذاب لا يكون .

    قوله تعالى : " لعله فتنة لكم " ، في هاء " لعله " قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى ما آذنهم به ، قاله الزجاج .

    والثاني : إلى العذاب ، فالمعنى : لعل تأخير العذاب عنكم فتنة ، قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي . ومعنى الفتنة هاهنا : الاختبار . " ومتاع إلى حين " ; أي : تستمعون إلى انقضاء آجالكم . " قل رب " وروى حفص عن عاصم : ( قال رب ) . " احكم " قرأ أبو جعفر : ( رب احكم ) بضم الباء . وروى زيد عن يعقوب : ( ربي ) بفتح الياء ( أحكم ) بقطع الهمزة وفتح الكاف ورفع الميم . ومعنى " احكم بالحق " ; أي : بعذاب كفار قومي الذي نزوله حق ، فحكم عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام ، والمعنى على هذا : افصل بيني وبين المشركين [ ص: 400 ] بما يظهر به الحق . ومعنى " على ما تصفون " ; أي : من كذبكم وباطلكم . وقرأ ابن عامر والمفضل عن عاصم : ( يصفون ) بالياء .

    فإن قيل : فهل يجوز على الله أن يحكم بغير الحق ؟

    فالجواب : أن المعنى : احكم بحكمك الحق ، كأنه استعجل النصر عليهم .
    [ ص: 401 ]

    سُورَةُ الْحَجِّ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ .

    فَصْلٌ : فِي نُزُولِهَا

    رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا ، غَيْرُ آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ : قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ، وَالَّتِي تَلِيهَا [ الْحَجّ 12 ، 13 ] . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ ، إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ . . . إِلَى آخَرِ الْأَرْبَعِ [ الْحَجّ : 53 - 57 ] . وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : نَزَلَتْ بِمَكَّةَ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ : [ ص: 402 ] هَذَانِ خَصْمَانِ وَاللَّتَانِ بَعْدَهَا [ الْحَجّ : 20 - 22 ] . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ : أَوَّلُهَا مَدَنِيٌّ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [ الْحَجّ : 38 ] وَسَائِرُهَا مَكِّيٌّ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ : هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ سِتِّ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَانِ خَصْمَانِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَمِيدِ [ الْحَجّ 20 - 25 ] . وَقَالَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ : هِيَ مِنْ أَعَاجِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ فِيهَا مَكِّيًّا وَمَدَنِيًّا ، وَحَضَرِيًّا وَسَفَرِيًّا ، وَحَرْبِيًّا وَسِلْمِيًّا ، وَلَيْلِيًّا وَنَهَارِيًّا ، وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا .

    فَأَمَّا الْمَكِّيُّ : فَمِنْ رَأْسِ الثَّلَاثِينَ مِنْهَا إِلَى آخِرِهَا .

    وَأَمَّا الْمَدَنِيُّ : فَمِنْ رَأْسِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ .

    وَأَمَّا اللَّيْلِيُّ : فَمِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخَرِ خَمْسِ آيَاتٍ .

    وَأَمَّا النَّهَارِيُّ : فَمِنْ رَأْسِ خَمْسِ [ آيَاتٍ ] إِلَى رَأْسِ تِسْعٍ .

    وَأَمَّا السَّفَرِيُّ : فَمِنْ رَأْسِ تِسْعٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ .

    وَأَمَّا الْحَضَرِيُّ : فَإِلَى رَأْسِ الْعِشْرِينَ [ مِنْهَا ] ، نُسِبَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِقُرْبِ مُدَّتِهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " اتَّقُوا رَبَّكُمْ " ; أَيِ : احْذَرُوا عِقَابَهُ ، " إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ " الزَّلْزَلَةُ : الْحَرَكَةُ عَلَى الْحَالَةِ الْهَائِلَةِ .

    وَفِي وَقْتِ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ قَوْلَانِ :

    أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ النُّشُورِ . رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ : " إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، وَقَالَ : تَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلِكَ ؟ فَإِنَّهُ يَوْمَ يُنَادِي الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ابْعَثْ بَعْثًا إِلَى النَّارِ " ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ ص: 403 ] " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآدَمَ : قُمْ ، فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ; وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ ، فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا " ، وَقَرَأَ الْآيَةَ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ : قِيَامُهَا ، يَعْنِي : أَنَّهَا تُقَارِبُ قِيَامَ السَّاعَةِ وَتَكُونُ مَعَهَا . وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ : هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #394
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْحَجِّ
    الحلقة (394)
    صــ 404 إلى صــ 411






    وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَكُونُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْقِيَامَةِ ، وَهِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، قَالَهُ عَلْقَمَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ . وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : سِتُّ آيَاتٍ قَبْلَ الْقِيَامَةِ ، بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ ، فَفَزِعَ الْجِنُّ إِلَى الْإِنْسِ ، وَالْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ ، فَمَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ ، فَقَالَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسِ : نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ ، فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبُحُورِ ، فَإِذَا هِيَ نَارٌ تَأَجَّجُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ ، وَالسَّمَاءُ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ جَاءَتْهُمْ [ ص: 404 ] الرِّيحُ فَمَاتُوا . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ قَبْلَ النَّفْخَةِ الْأُولَى ، وَذَلِكَ أَنْ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ، فَيَفْزَعُونَ فَزَعًا شَدِيدًا ، فَيَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " شَيْءٌ عَظِيمٌ " ; أَيْ : لَا يُوصَفُ لِعِظَمِهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " يَوْمَ تَرَوْنَهَا " يَعْنِي : الزَّلْزَلَةَ ، " تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ " فِيهِ قَوْلَانِ :

    أَحَدُهُمَا : تَسْلُو عَنْ وَلَدِهَا وَتَتْرُكُهُ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .

    وَالثَّانِي : تُشْغَلُ عَنْهُ ، قَالَهُ قُطْرُبٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ رَوَاحَةَ :

    وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ

    وَقَرَأَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : ( تُذْهِلُ ) بِرَفْعِ التَّاءِ وَكَسْرِ الهَاءِ ، ( كُلَّ ) بِنَصْبِ اللَّامِ . قَالَ الْأَخْفَشُ : وَإِنَّمَا قَالَ : " مُرْضِعَةٍ " ; لِأَنَّهُ أَرَادَ - وَاللَّه أَعْلَمُ - الْفِعْلَ ، وَلَوْ أَرَادَ الصِّفَةَ فِيمَا نَرَى لَقَالَ : مُرْضِعٍ . قَالَ الْحَسَنُ : تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا لِغَيْرِ فِطَامٍ ، وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا لِغَيْرِ تَمَامٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّلْزَلَةَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ بَعْدَ الْبَعْثِ لَا تَكُونُ حُبْلَى .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى " وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَابْنُ يَعْمُرَ : ( وَتُرَى ) بِضَمِّ التَّاءِ ، وَمَعْنَى " سُكَارَى " : مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ . " وَمَا هُمْ بِسُكَارَى " مِنَ الشَّرَابِ ، وَالْمَعْنَى : تَرَى النَّاسَ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى مِنْ ذُهُولِ عُقُولِهِمْ ; لِشِدَّةِ مَا يَمُرُّ بِهِمْ ، يَضْطَرِبُونَ اضْطِرَابَ السَّكْرَانِ مِنَ الشَّرَابِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَخَلَفٌ : ( سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى ) وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ . قَالَ الْفَرَّاءُ : [ ص: 405 ] وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْهَلْكَى وَالْجَرْحَى . وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ : ( سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ وَإِثْبَاتِ الْأَلَفِ . " وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُكْرَهُمْ مِنْ خَوْفِ عَذَابِهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ " قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَفِيمَا جَادَلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَذَّبَ بِهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي : أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ : لَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " بِغَيْرِ عِلْمٍ " ; أَيْ : إِنَّمَا يَقُولُهُ بِإِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ لَا بِعِلْمٍ . " وَيَتَّبِعُ " مَا يُسَوِّلُ لَهُ ، " كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ " وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى " الْمَرِيدِ " فِي سُورَةِ ( النِّسَاءِ : 117 ) .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ " : " كُتِبَ " بِمَعْنَى : قُضِيَ ، وَالْهَاءُ فِي " عَلَيْهِ " وَفِي " تَوَلاهُ " كِنَايَةٌ عَنِ الشَّيْطَانِ ، وَمَعْنَى الْآيَةِ : قُضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يَضِلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ . وَقَرَأَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ : ( كَتَبَ ) بِفَتْحِ الْكَافِ ، ( أَنَّهُ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، [ ( فَإِنَّهُ ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ] . وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالضَّحَّاكُ ، وَابْنُ يَعْمُرَ : ( إِنَّهُ ) ، ( فَإِنَّهُ ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى " السَّعِيرِ " فِي سُورَةِ ( النِّسَاءِ : 10 ) .
    يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة [ ص: 406 ] وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنـزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور .

    قوله تعالى : " يا أيها الناس " يعني : أهل مكة ، " إن كنتم في ريب من البعث " ; أي : في شك من القيامة ، " فإنا خلقناكم من تراب " يعني : خلق آدم ، " ثم من نطفة " يعني : خلق ولده ، والمعنى : إن شككتم في بعثكم فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم ، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقا بين الابتداء والإعادة . فأما النطفة : فهي المني . والعلقة : دم عبيط جامد ، وقيل : سميت علقة ; لرطوبتها وتعلقها بما تمر به ، فإذا جفت فليست علقة . والمضغة : لحمة صغيرة . قال ابن قتيبة : وسميت بذلك ; لأنها بقدر ما يمضغ ، كما قيل : غرفة لقدر ما يغرف .

    قوله تعالى : " مخلقة وغير مخلقة " فيه خمسة أقوال :

    أحدها : أن المخلقة : ما خلق سويا ، وغير المخلقة : ما ألقته الأرحام من النطف وهو دم قبل أن يكون خلقا ، قاله ابن مسعود .

    والثاني : أن المخلقة : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه ، وهو الذي يولد [ ص: 407 ] حيا لتمام ، وغير المخلقة : ما سقط غير حي لم يكمل خلقه بنفخ الروح فيه ، هذا معنى قول ابن عباس .

    والثالث : أن المخلقة : المصورة ، وغير المخلقة : غير مصورة ، قاله الحسن .

    والرابع : أن المخلقة وغير المخلقة : السقط ، تارة يسقط نطفة وعلقة ، وتارة قد صور بعضه ، وتارة قد صور كله ، قاله السدي .

    والخامس : أن المخلقة : التامة ، وغير المخلقة : السقط ، قاله الفراء وابن قتيبة .

    قوله تعالى : " لنبين لكم " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : خلقناكم لنبين لكم ما تأتون وما تذرون .

    والثاني : لنبين لكم في القرآن بدو خلقكم وتنقل أحوالكم .

    والثالث : لنبين لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم .

    والرابع : لنبين لكم أن البعث حق .

    وقرأ أبو عمران الجوني وابن أبي عبلة : ( ليبين لكم ) بالياء .

    قوله تعالى : " ونقر في الأرحام " وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء : ( ويقر ) بياء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء . وقرأ أبو الجوزاء وأبو إسحاق السبيعي : ( ويقر ) بياء مرفوعة وبكسر القاف ونصب الراء . والذي يقر في الأرحام هو الذي لا يكون سقطا . " إلى أجل مسمى " وهو أجل الولادة ، " ثم نخرجكم طفلا " [ ص: 408 ] قال أبو عبيدة : هو في موضع أطفال ، والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع ، قال الله تعالى : والملائكة بعد ذلك ظهير [ التحريم : 4 ] ; أي : ظهراء ، وأنشد :


    فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور


    وأنشد أيضا :


    في حلقكم عظم وقد شجينا


    وقال غيره : إنما قال : " طفلا " فوحد ; لأن الميم في قوله تعالى : " نخرجكم " قد دلت على الجميع ، فلم يحتج إلى أن يقول : أطفالا .

    قوله تعالى : " ثم لتبلغوا " فيه إضمار ، تقديره : ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم ، وقد سبق معنى " الأشد " ( الأنعام : 153 ) . " ومنكم من يتوفى " من قبل بلوغ الأشد ، " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " وقد شرحناه في ( النحل : 70 ) . ثم إن الله تعالى دلهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض ، فقال تعالى : " وترى الأرض هامدة " قال ابن قتيبة ; أي : ميتة يابسة ، ومثله : همدت النار : إذا طفئت فذهبت .

    قوله تعالى : " فإذا أنزلنا عليها الماء " يعني : المطر ، " اهتزت " ; أي : تحركت للنبات ، وذلك أنها ترتفع عن النبات إذا ظهر ، فهو معنى قوله تعالى : " وربت " ; أي : ارتفعت وزادت . وقال المبرد : أراد : اهتز نباتها وربا ، فحذف المضاف . قال الفراء : وقرأ أبو جعفر المدني : ( وربأت ) بهمزة مفتوحة بعد الباء . فإن كان ذهب إلى الربيئة الذي يحرس القوم ; أي : إنه يرتفع ، وإلا فهو غلط . [ ص: 409 ]

    قوله تعالى : " وأنبتت من كل زوج بهيج " قال ابن قتيبة : من كل جنس حسن يبهج ; أي : يسر ، وهو فعيل في معنى فاعل .

    قوله تعالى : " ذلك " قال الزجاج : المعنى : الأمر ذلك كما وصف لكم ، والأجود أن يكون موضع " ذلك " رفعا ، ويجوز أن يكون نصبا على معنى : فعل الله ذلك بأنه هو الحق .

    قوله تعالى : " وأن الساعة " ; أي : ولتعلموا أن الساعة آتية .
    ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد .

    قوله تعالى : " ومن الناس من يجادل " قد سبق بيانه . وهذا مما نزل في النضر أيضا . والهدى : البيان والبرهان .

    قوله تعالى : " ثاني عطفه " العطف : الجانب ، وعطفا الرجل : جانباه عن يمين وشمال ، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان ويلويه عند إعراضه عن المشي . قال الزجاج : " ثاني " منصوب على الحال ، ومعناه التنوين ، معناه : ثانيا عطفه . وجاء في التفسير : أن معناه : لاويا عنقه ، وهذا يوصف به المتكبر ، والمعنى : ومن الناس من يجادل بغير علم متكبرا .

    قوله تعالى : " ليضل " ; أي : ليصير أمره إلى الضلال ، فكأنه وإن لم يقدر أنه يضل ، فإن أمره يصير إلى ذلك . " له في الدنيا خزي " وهو ما أصابه يوم بدر ، وذلك أنه قتل . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ يونس : 70 ] إلى قوله تعالى : " ومن الناس من يعبد الله على حرف " وفي سبب نزول هذه الآية قولان :

    [ ص: 410 ] أحدهما : أن ناسا من العرب كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نحن على دينك ، فإن أصابوا معيشة ، ونتجت خيلهم ، وولدت نساؤهم الغلمان ، اطمأنوا وقالوا : هذا دين حق ، وإن لم يجر الأمر على ذلك قالوا : هذا دين سوء ، فينقلبون عن دينهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا معنى قول ابن عباس ، وبه قال الأكثرون .

    والثاني : أن رجلا من اليهود أسلم ، فذهب بصره وماله وولده ، فتشاءم بالإسلام ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أقلني ، فقال : " إن الإسلام لا يقال " . فقال : إن لم أصب في ديني هذا خيرا ، أذهب بصري ومالي وولدي . فقال : " يا يهودي ; إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب " ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطية عن أبي سعيد الخدري .
    ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد . [ ص: 411 ]

    قوله تعالى : " على حرف " قال مجاهد وقتادة : على شك . قال أبو عبيدة : كل شاك في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم . وبيان هذا أن القائم على حرف الشيء غير متمكن منه ، فشبه به الشاك ; لأنه قلق في دينه على غير ثبات ، ويوضحه قوله تعالى: " فإن أصابه خير " ; أي : رخاء وعافية ، " اطمأن به " على عبادة الله ، " وإن أصابته فتنة " اختبار بجدب وقلة مال ، " انقلب على وجهه " ; أي : رجع عن دينه إلى الكفر ، والمعنى : انصرف إلى وجهه الذي توجه منه ، وهو الكفر . " خسر الدنيا " حيث لم يظفر بما أراد منها ، وخسر " الآخرة " بارتداده عن الدين . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو مجلز ، ومجاهد ، وطلحة بن مصرف ، وابن أبي عبلة ، وزيد عن يعقوب : ( خاسر الدنيا ) بألف قبل السين ، وبنصب الراء ، ( والآخرة ) بخفض التاء . " يدعو " هذا المرتد ; أي : يعبد ، " ما لا يضره " إن لم يعبده ، " وما لا ينفعه " إن أطاعه ، " ذلك " الذي فعل ، " هو الضلال البعيد " عن الحق ، " يدعو لمن ضره " قال بعضهم : اللام صلة ، والمعنى : يدعو من ضره . وحكى الزجاج عن البصريين والكوفيين أن اللام معناها التأخير ، والمعنى : يدعو من لضره ، " أقرب من نفعه " ، قال : وشرح هذا : أن اللام لليمين والتوكيد ، فحقها أن تكون أول الكلام ، فقدمت لتجعل في حقها . قال السدي : ضره في الآخرة بعبادته إياه أقرب من نفعه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #395
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْحَجِّ
    الحلقة (395)
    صــ 412 إلى صــ 419






    فإن قيل : فهل للنفع من عبادة الصنم وجه ؟ [ ص: 412 ]

    فالجواب : أنه لا نفع من قبله أصلا ، غير أنه جاء على لغة العرب ، وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون : هذا بعيد .

    قوله تعالى : " لبئس المولى ولبئس العشير " قال ابن قتيبة : المولى : الولي ، والعشير : الصاحب والخليل .
    من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ وكذلك أنـزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .

    قوله تعالى : " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة " قال مقاتل : نزلت في نفر من أسد وغطفان ، قالوا : إنا نخاف أن لا ينصر محمد ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود ، وإلى نحو هذا ذهب أبو حمزة الثمالي والسدي . وحكى أبو سليمان الدمشقي : أن الإشارة بهذه الآية إلى الذين انصرفوا عن الإسلام لأن أرزاقهم ما اتسعت ، وقد شرحنا القصة في قوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف .

    وفي هاء " ينصره " قولان :

    أحدهما : أنها ترجع على " من " ، والنصر بمعنى : الرزق ، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء ، وبه قال مجاهد . قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل [ ص: 413 ] من بني بكر ، فقال : من ينصرني نصره الله ; أي : من يعطيني أعطاه الله ، ويقال : نصر المطر أرض كذا ; أي : جادها وأحياها ، قال الراعي :


    [ إذا أدبر الشهر الحرام فودعي بلاد تميم ] وانصري أرض عامر


    والثاني : أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا ، رواه التميمي عن ابن عباس ، وبه قال عطاء وقتادة . قال ابن قتيبة : وهذه كناية عن غير مذكور ، وكان قوم من المسلمين لشدة حنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر ، وآخرون من [ ص: 414 ] المشركين يريدون اتباعه ، ويخشون أن لا يتم أمره ، فقال هذه الآية للفريقين . ثم في معنى [ هذا ] النصر قولان :

    أحدهما : أنه الغلبة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، والجمهور .

    والثاني : أنه الرزق ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " فليمدد بسبب إلى السماء " في المراد بالسماء قولان :

    أحدهما : سقف بيته ، والمعنى : فليشدد حبلا في سقف بيته ، فليختنق به ، " ثم ليقطع " الحبل ليموت مختنقا ، هذا قول الأكثرين . ومعنى الآية : ليصور هذا الأمر في نفسه لا أنه يفعله ; لأنه إذا اختنق لا يمكنه النظر والعلم .

    والثاني : أنها السماء المعروفة ، والمعنى : فليقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قدر ، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى : " ثم ليقطع " قرأ أبو عمرو وابن عامر : ( ثم ليقطع ) ، ( ثم ليقضوا ) [ الحج : 29 ] بكسر اللام . زاد ابن عامر : ( وليوفوا ) [ الحج : 29 ] ، ( وليطوفوا ) [ الحج : 29 ] بكسر اللام أيضا . وكسر ابن كثير لام ( ثم ليقضوا ) فحسب . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بسكون هذه اللامات ، وكذلك في كل القرآن إذا كان قبلها واو ، أو فاء ، [ أو ] ثم . قال الفراء : من سكن فقد خفف ، وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء ، فأكثر كلام العرب تسكينها ، وقد كسرها بعضهم . قال أبو علي : الأصل الكسر ; لأنك إذا ابتدأت قلت : ليقم زيد .

    قوله تعالى : " هل يذهبن كيده " قال ابن قتيبة : المعنى : هل تذهبن حيلته غيظه ، والمعنى : ليجهد جهده .

    قوله تعالى : " وكذلك " ; أي : ومثل ذلك الذي تقدم من آيات القرآن ، [ ص: 415 ] " أنزلناه " يعني : القرآن . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : " إن الله يفصل بينهم " ; أي : يقضي " يوم القيامة " بينهم بإدخال المؤمنين الجنة والآخرين النار ، " إن الله على كل شيء " من أعمالهم " شهيد " .
    ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء .

    قوله تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ; أي : ألم تعلم . وقد بينا في سورة ( النحل : 49 ) معنى السجود في حق من يعقل ومن لا يعقل .

    قوله تعالى : " وكثير من الناس " يعني : الموحدين الذين يسجدون لله .

    وفي قوله تعالى : " وكثير حق عليه العذاب " قولان :

    أحدهما : أنهم الكفار ، وهم يسجدون ، وسجودهم سجود ظلهم ، قاله مقاتل .

    والثاني : أنهم لا يسجدون ، والمعنى : وكثير من الناس أبى السجود ، فحق عليه العذاب لتركه السجود ، هذا قول الفراء .

    قوله تعالى : " ومن يهن الله " ; أي : من يشقه الله فما له من مسعد ، " إن الله يفعل ما يشاء " في خلقه من الكرامة والإهانة . [ ص: 416 ]
    هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق .

    قوله تعالى : " هذان خصمان " اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

    أحدها : أنها نزلت في النفر الذين تبارزوا للقتال يوم بدر ، حمزة ، وعلي ، وعبيد بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة ، هذا قول أبي ذر .

    والثاني : أنها نزلت في أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله ، آمنا بمحمد ، وآمنا بنبيكم ، وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون نبينا ، ثم كفرتم به حسدا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس وقتادة .

    والثالث : أنها في جميع المؤمنين والكفار ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وعطاء ، ومجاهد . [ ص: 417 ]

    والرابع : أنها نزلت في اختصام الجنة والنار ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته ، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، قاله عكرمة .

    فأما قوله تعالى: " هذان " وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن كثير : ( هاذان ) بتشديد النون ( خصمان ) ، فمعناه : جمعان ، وليسا برجلين ، ولهذا قال تعالى : " اختصموا " ، ولم يقل : اختصما ، على أنه قرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : ( اختصما ) .

    وفي خصومتهم ثلاثة أقوال :

    أحدها : في دين ربهم ، وهذا على القولين الأولين . والثاني : في البعث ، قاله مجاهد . والثالث : أنه خصام مفاخرة ، على قول عكرمة .

    قوله تعالى : " قطعت لهم ثياب " ; أي : سويت وجعلت لباسا . قال ابن عباس : قمص من نار . وقال سعيد بن جبير : المراد بالنار هاهنا : النحاس . فأما " الحميم " فهو الماء الحار " يصهر به " ، قال الفراء : يذاب به ، يقال : صهرت الشحم بالنار . قال المفسرون : يذاب بالماء الحار ما في بطونهم من شحم أو معى حتى يخرج من أدبارهم ، وتنضج الجلود فتتساقط من حره . " ولهم مقامع " قال الضحاك : هي المطارق . وقال الحسن : إن النار ترميهم بلهبها ، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع ، فهووا فيها سبعين خريفا ، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها ، فلا يستقرون ساعة . قال مقاتل : إذا جاشت جهنم ألقتهم في أعلاها ، فيريدون الخروج ، فتتلقاهم خزنة جهنم بالمقامع فيضربونهم ، [ ص: 418 ] فيهوي أحدهم من تلك الضربة إلى قعرها . وقال غيره : إذا دفعتهم النار ظنوا أنها ستقذفهم خارجا منها ، فتعيدهم الزبانية بمقامع الحديد .
    إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد .

    قوله تعالى : " ولؤلؤا " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ( ولؤلو ) بالخفض . وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم : ( ولؤلؤا ) بالنصب . قال أبو علي : من خفض فالمعنى : يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ ، ومن نصب قال : ويحلون لؤلؤا .

    قوله تعالى : " وهدوا " ; أي : أرشدوا في الدنيا ، " إلى الطيب من القول " وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه " لا إله إلا الله والحمد لله " ، قاله ابن عباس ، وزاد ابن زيد : " والله أكبر " .

    والثاني : القرآن ، قاله السدي .

    والثالث : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حكاه الماوردي .

    فأما " صراط الحميد " فقال ابن عباس : هو طريق الإسلام .
    إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد [ ص: 419 ] الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم .

    قوله تعالى : " ويصدون عن سبيل الله " ; أي : يمنعون الناس من الدخول في الإسلام . قال الزجاج : ولفظ " يصدون " لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي ; لأن معنى " الذين كفروا " : الذين هم كافرون ، فكأنه قال : إن الكافرين والصادين ، فأما خبر " إن " فمحذوف ، فيكون المعنى : إن الذين هذه صفتهم هلكوا .

    وفي " المسجد الحرام " قولان :

    أحدهما : جميع الحرم . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كانوا يرون الحرم كله مسجدا .

    والثاني : نفس المسجد ، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى : " الذي جعلناه للناس " هذا وقف التمام .

    وفي معناه قولان :

    أحدهما : جعلناه للناس كلهم ، لم نخص به بعضهم دون بعض ، هذا على أنه جميع الحرم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #396
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْحَجِّ
    الحلقة (396)
    صــ 420 إلى صــ 427





    والثاني : جعلناه قبلة لصلاتهم ومنسكا لحجتهم ، وهذا على أنه نفس المسجد . وقرأ إبراهيم النخعي ، وابن أبي عبلة ، وحفص عن عاصم : ( سواء ) بالنصب ، فيتوجه الوقف على ( سواء )، وقد وقف بعض القراء كذلك . قال أبو علي الفارسي : أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم ، فصار المعنى : الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء . فأما العاكف : فهو المقيم ، والبادي : الذي يأتيه من غير أهله ، وهذا من قولهم : بدا القوم : إذا خرجوا [ ص: 420 ] من الحضر إلى الصحراء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( البادي ) بالياء ، غير أن ابن كثير وقف بياء ، وأبو عمرو بغير ياء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، والمسيبي عن نافع بغير ياء في الحالتين .

    ثم في معنى الكلام قولان :

    أحدهما : أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها ، فليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر ، غير أنه لا يخرج أحد من بيته ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وإلى نحو هذا ذهب أبو حنيفة وأحمد ، ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام ، هذا على أن المسجد : الحرم كله .

    والثاني : أنهما يستويان في تفضيله وحرمته ، وإقامة المناسك به ، هذا قول الحسن ومجاهد . [ ومنهم ] من أجاز بيع دور مكة ، وإليه يذهب الشافعي . وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد : الحرم ، ويجوز أن يراد نفس المسجد .

    قوله تعالى : " ومن يرد فيه بإلحاد " الإلحاد في اللغة : العدول عن القصد ، والباء زائدة ، كقوله تعالى : تنبت بالدهن [ المؤمنون : 20 ] ، وأنشدوا :


    بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان


    المعنى : وأسفله ينبت المرخ ، وقال آخر :


    هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور
    [ ص: 421 ]

    وقال آخر :


    نحن بنو جعدة أرباب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج


    هذا قول جمهور اللغويين . قال ابن قتيبة : والباء قد تزاد في الكلام كهذه الآية ، وكقوله تعالى : اقرأ باسم ربك [ العلق : 1 ] ، وهزي إليك بجذع النخلة [ مريم : 24 ] ، بأييكم المفتون [ القلم : 6 ] ، تلقون إليهم بالمودة [ الممتحنة : 1 ] ، عينا يشرب بها [ الإنسان : 6 ] ; أي : يشربها ، وقد تزاد ( من ) كقوله تعالى : ما أريد منهم من رزق [ الذاريات : 57 ] ، وتزاد اللام كقوله تعالى : للذين هم لربهم يرهبون [ الأعراف : 154 ] ، والكاف كقوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ، و( عن ) كقوله تعالى : يخالفون عن أمره [ النور : 63 ] ، و( إن ) كقوله تعالى : فإنه ملاقيكم [ الجمعة : 8 ] ، و( إن ) الخفيفة كقوله تعالى : فيما إن مكناكم فيه [ الأحقاف : 26 ] ، و( ما ) كقوله تعالى : عما قليل ليصبحن نادمين [ المؤمنون : 40 ] ، والواو كقوله تعالى : وتله للجبين وناديناه [ الصافات : 103 ، 104 ] .

    وفي المراد بهذا الإلحاد خمسة أقوال :

    أحدها : أنه الظلم ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال مجاهد : هو عمل سيئة ، فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي ، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا تحتكروا الطعام بمكة ، فإن احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم . [ ص: 422 ]

    والثاني : أنه الشرك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وقتادة .

    والثالث : الشرك والقتل ، قاله عطاء .

    والرابع : أنه استحلال محظورات الإحرام ، وهذا المعنى محكي عن عطاء أيضا .

    والخامس : استحلال الحرام تعمدا ، قاله ابن جريج .

    فإن قيل : هل يؤاخذ الإنسان إن أراد الظلم بمكة ولم يفعله ؟

    فالجواب من وجهين :

    أحدهما : أنه إذا هم بذلك في الحرم خاصة ، عوقب ، هذا مذهب ابن مسعود ، فإنه قال : لو أن رجلا هم بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ، ولو أن رجلا هم بقتل مؤمن عند البيت وهو بـ " عدن أبين " ، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم . وقال الضحاك : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى ، فتكتب عليه ولم يعملها . وقال مجاهد : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات . وسئل الإمام أحمد : هل تكتب السيئة أكثر من واحدة ؟ فقال : لا ، إلا بمكة ; لتعظيم البلد . وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها ، وقد جاور جابر بن عبد الله ، وكان ابن عمر يقيم بها .

    والثاني : أن معنى " ومن يرد " : من يعمل . قال أبو سليمان الدمشقي : هذا قول سائر من حفظنا عنه .
    وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام [ ص: 423 ] معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق .

    قوله تعالى : " وإذ بوأنا لإبراهيم " قال ابن عباس : جعلنا . وقال مقاتل : دللناه عليه . وقال ثعلب : وإنما أدخل اللام على أن " بوأنا " في معنى : جعلنا ، فيكون بمعنى ردف لكم [ النمل : 72 ] ; أي : ردفكم . وقد شرحنا كيفية بناء البيت في ( البقرة : 129 ) .

    قوله تعالى : " أن لا تشرك بي شيئا " المعنى : وأوحينا إليه ذلك ، " وطهر بيتي " حرك هذه الياء نافع وحفص عن عاصم . وقد شرحنا الآية في ( البقرة : 125 ) .

    وفي المراد بـ " القائمين " قولان : أحدهما : القائمون في الصلاة ، قاله عطاء والجمهور . والثاني : المقيمون بمكة ، حكي عن قتادة .

    قوله تعالى : " وأذن في الناس بالحج " قال المفسرون : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ، أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج ، فقال إبراهيم : يا رب ; وما يبلغ صوتي ؟ وقال : أذن وعلي البلاغ ; فعلا على جبل أبي قبيس وقال : يا أيها الناس ; إن ربكم قد بنى بيتا فحجوه ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج ، فأجابوه : لبيك اللهم لبيك . والأذان بمعنى النداء والإعلام ، والمأمور بهذا الأذان إبراهيم في قول الجمهور ، [ ص: 424 ] إلا ما روي عن الحسن أنه قال : المأمور به محمد صلى الله عليه وسلم . والناس هاهنا : اسم يعم جميع بني آدم عند الجمهور ، إلا ما روى العوفي عن ابن عباس أنه قال : عنى بالناس : أهل القبلة .

    واعلم أن من أتى البيت الذي دعا إليه إبراهيم ، فكأنه قد أتى إبراهيم ; لأنه أجاب نداءه . وواحد الرجال هاهنا : راجل ، مثل : صاحب وصحاب ، والمعنى : يأتوك مشاة . وقد روي أن إبراهيم وإسماعيل حجا ماشيين ، وحج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا من المدينة إلى مكة ، والنجائب تقاد معه . وحج الإمام أحمد ماشيا مرتين أو ثلاثا .

    قوله تعالى : " وعلى كل ضامر " ; أي : ركبانا على ضمر من طول السفر . قال الفراء : و " يأتين " فعل للنوق . وقال الزجاج : " يأتين " على معنى الإبل . وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : ( يأتون ) بالواو .

    قوله تعالى : " من كل فج عميق " ; أي : طريق بعيد . وقد ذكرنا تفسير الفج عند قوله تعالى : وجعلنا فيها فجاجا [ الأنبياء : 31 ] .

    قوله تعالى : " ليشهدوا " ; أي : ليحضروا ، " منافع لهم " ، وفيها ثلاثة أقوال :

    أحدها : التجارة ، قاله ابن عباس والسدي .

    والثاني : منافع الآخرة ، قاله سعيد بن المسيب ، والزجاج في آخرين . [ ص: 425 ]

    والثالث : منافع الدارين جميعا ، قاله مجاهد . وهو أصح ; لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة ، وإنما الأصل قصد الحج ، والتجارة تبع .

    وفي الأيام المعلومات ستة أقوال :

    أحدها : أنها أيام العشر ، رواه مجاهد عن ابن عمر ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والشافعي .

    والثاني : تسعة أيام من العشر ، قاله أبو موسى الأشعري .

    والثالث : يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده ، رواه نافع عن ابن عمر ، ومقسم عن ابن عباس .

    والرابع : أنها أيام التشريق ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال عطاء الخراساني ، والنخعي ، والضحاك .

    والخامس : أنها خمسة أيام أولها يوم التروية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والسادس : ثلاثة أيام أولها يوم عرفة ، قاله مالك بن أنس . وقيل : إنما قال : " معلومات " ; ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها . قال الزجاج : والذكر هاهنا يدل على التسمية على ما ينحر ; لقوله تعالى : " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " . قال القاضي أبو يعلى : ويحتمل أن يكون الذكر المذكور هاهنا هو الذكر على الهدايا الواجبة ، كالدم الواجب لأجل التمتع والقران ، ويحتمل أن يكون الذكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق ; لأن الآية عامة في ذلك . [ ص: 426 ]

    قوله تعالى : " فكلوا منها " يعني : الأنعام التي تنحر ، وهذا أمر إباحة . وكان أهل الجاهلية لا يستحلون أكل ذبائحهم ، فأعلم الله عز وجل أن ذلك جائز ، غير أن هذا إنما يكون في الهدي المتطوع به ، فأما دم التمتع والقران ، فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه ، وقال الشافعي : لا يجوز . وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قال : من كل الهدي يؤكل ، إلا ما كان من فداء ، أو جزاء ، أو نذر . فأما " البائس " فهو ذو البؤس ، وهو شدة الفقر .

    قوله تعالى : " ثم ليقضوا تفثهم " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : حلق الرأس ، وأخذ الشارب ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وقص الأظفار ، والأخذ من العارضين ، ورمي الجمار ، والوقوف بعرفة ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني : مناسك الحج ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول ابن عمر .

    والثالث : حلق الرأس ، قاله مجاهد . [ ص: 427 ]

    والرابع : الشعر والظفر ، قاله عكرمة .

    والقول الأول أصح ; لأن التفث : الوسخ ، والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث . وقضاؤه : نقضه وإذهابه . والحاج مغبر شعث لم يدهن ولم يستحد ، فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه بالحلق ، والقلم ، وقص الأظفار ، ولبس الثياب ، ونحو ذلك ; فهذا قضاء تفثه . قال الزجاج : وأهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير ، وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال .

    قوله تعالى : " وليوفوا نذورهم " وروى أبو بكر عن عاصم : ( وليوفوا ) بتسكين اللام وتشديد الفاء . قال ابن عباس : هو نحر ما نذروا من البدن . وقال غيره : ما نذروا من أعمال البر في أيام الحج ، فإن الإنسان ربما نذر أن يتصدق إن رزقه الله رؤية الكعبة ، وقد يكون عليه نذور مطلقة ، فالأفضل أن يؤديها بمكة .

    قوله تعالى : " وليطوفوا بالبيت العتيق " هذا هو الطواف الواجب ; لأنه أمر به بعد الذبح ، والذبح إنما يكون في يوم النحر ، فدل على أنه الطواف المفروض .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #397
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْحَجِّ
    الحلقة (397)
    صــ 428 إلى صــ 435



    وفي تسمية البيت عتيقا أربعة أقوال :

    أحدها : لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة . روى عبد الله بن الزبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إنما سمى الله البيت : العتيق ; لأن الله أعتقه من الجبابرة ، فلم يظهر عليه جبار قط " ، وهذا قول مجاهد وقتادة . [ ص: 428 ]

    والثاني : أن معنى العتيق : القديم ، قاله الحسن وابن زيد .

    والثالث : لأنه لم يملك قط ، قاله مجاهد في رواية ، وسفيان بن عيينة .

    والرابع : لأنه أعتق من الغرق زمان الطوفان ، قاله ابن السائب . وقد تكلمنا في هذه السورة في "ليقضوا " ، و " ليوفوا " ، و " ليطوفوا " .
    ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق .

    قوله تعالى : " ذلك " ; أي : الأمر ذلك ، يعني : ما ذكر من أعمال الحج . " ومن يعظم حرمات الله " فيجتنب ما حرم الله عليه في الإحرام تعظيما لأمر الله . قال الليث : الحرمة : ما لا يحل انتهاكه . وقال الزجاج : الحرمة : ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه .

    قوله تعالى : " فهو " يعني : التعظيم ، " خير له عند ربه " في الآخرة ، " وأحلت لكم الأنعام " وقد سبق بيانها [ المائدة : 1 ] . " إلا ما يتلى عليكم " تحريمه ، يعني [ به ] : ما ذكر في ( المائدة : 3 ) من المنخنقة وغيرها . وقيل : وأحلت لكم الأنعام في حال إحرامكم ، إلا ما يتلى عليكم في الصيد ، فإنه حرام .

    قوله تعالى : " فاجتنبوا الرجس " ; أي : دعوه جانبا . قال الزجاج : و " من " هاهنا لتخليص جنس من أجناس ، المعنى : فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن . وقد شرحنا معنى الرجس في ( المائدة : 90 ) . [ ص: 429 ]

    وفي المراد بقول الزور أربعة أقوال :

    أحدها : شهادة الزور ، قاله ابن مسعود . والثاني : الكذب ، قاله مجاهد . والثالث : الشرك ، قاله أبو مالك . والرابع : أنه قول المشركين في الأنعام : هذا حلال وهذا حرام ، قاله الزجاج . قال : وقوله تعالى : " حنفاء لله " منصوب على الحال ، وتأويله : مسلمين لا ينسبون إلى دين غير الإسلام . ثم ضرب الله مثلا للمشرك ، فقال : " ومن يشرك بالله " إلى قوله : " سحيق " ، والسحيق : البعيد .

    واختلفوا في قراءة " فتخطفه " ، فقرأ الجمهور : ( فتخطفه ) بسكون الخاء من غير تشديد الطاء . وقرأ نافع بتشديد الطاء . وقرأ أبو المتوكل ومعاذ القارئ بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ونصب الفاء . وقرأ أبو رزين ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران الجوني بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء . وقرأ الحسن والأعمش بفتح التاء وكسر الخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء ، وكلهم فتح الطاء .

    وفي المراد بهذا المثل قولان :

    أحدهما : أنه شبه المشرك بالله في بعده عن الهدى وهلاكه ، بالذي يخر من السماء ، قاله قتادة .

    والثاني : أنه شبه حال المشرك في أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا دفع ضر يوم القيامة ، بحال الهاوي من السماء ، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى : " ذلك " ; أي : الأمر ذلك الذي ذكرناه ، " ومن يعظم شعائر الله " قد شرحنا معنى الشعائر في ( البقرة : 158 ) .

    وفي المراد بها هاهنا قولان :

    أحدهما : أنها البدن . وتعظيمها : استحسانها واستسمانها ، " لكم فيها منافع " [ ص: 430 ] قبل أن يسميها صاحبها هديا ، أو يشعرها ويوجبها ، فإذا فعل ذلك ، لم يكن له من منافعها شيء ، روى هذا المعنى مقسم عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك . وقال عطاء بن أبي رباح : لكم في هذه الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا ، إذا احتجتم إلى شيء من ذلك ، أو اضطررتم إلى شرب ألبانها ، " إلى أجل مسمى " وهو أن تنحر .

    والثاني : أن الشعائر : المناسك ومشاهد مكة ، والمعنى : لكم فيها منافع بالتجارة إلى أجل مسمى ، وهو الخروج من مكة ، رواه أبو رزين عن ابن عباس . وقيل : لكم فيها منافع من الأجر والثواب في قضاء المناسك إلى أجل مسمى ، وهو انقضاء أيام الحج .

    قوله تعالى : " فإنها " يعني : الأفعال المذكورة ، من اجتناب الرجس ، وقول الزور ، وتعظيم الشعائر . وقال الفراء : " فإنها " يعني : الفعلة " من تقوى القلوب " ، وإنما أضاف التقوى إلى القلوب ; لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب .

    قوله تعالى : " ثم محلها " ; أي : حيث يحل نحرها ، " إلى البيت " يعني : عند البيت ، والمراد به : الحرم كله ; لأنا نعلم أنها لا تذبح عند البيت ، ولا في المسجد ، هذا على القول الأول ، وعلى الثاني يكون المعنى : ثم محل الناس من إحرامهم إلى البيت ، وهو أن يطوفوا به بعد قضاء المناسك .
    ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .

    قوله تعالى : " ولكل أمة جعلنا منسكا " قرأ حمزة ، والكسائي ، وبعض [ ص: 431 ] أصحاب أبي عمرو بكسر السين . وقرأ الباقون بفتحها . فمن فتح أراد المصدر من نسك ينسك ، ومن كسر أراد مكان النسك كالمجلس والمطلع . ومعنى الآية : لكل جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين ; " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " ، وإنما خص بهيمة الأنعام ; لأنها المشروعة في القرب . والمراد من الآية : أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة ، وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة .

    قوله تعالى : " فإلهكم إله واحد " ; أي : لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه ، " فله أسلموا " ; أي : انقادوا واخضعوا ، وقد ذكرنا معنى الإخبات في ( هود : 23 ) ، وكذلك ألفاظ الآية التي تلي هذه .
    والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين .

    قوله تعالى : " والبدن " وقرأ الحسن وابن يعمر برفع الدال . قال الفراء : يقال : بدن وبدن ، والتخفيف أجود وأكثر ; لأن كل جمع كان واحده على ( فعلة ) ، ثم ضم أول جمعه خفف ، مثل : أكمة وأكم ، وأجمة وأجم ، وخشبة وخشب . وقال الزجاج : " البدن " منصوبة بفعل مضمر يفسره الذي ظهر ، والمعنى وجعلنا البدن . وإن شئت رفعتها على الاستئناف ، والنصب أحسن ، ويقال : بدن وبدن وبدنة ، مثل قولك : ثمر وثمر وثمرة ، وإنما سميت بدنة لأنها تبدن ; أي : تسمن . [ ص: 432 ]

    وللمفسرين في البدن قولان :

    أحدهما : أنها الإبل والبقر ، قاله عطاء .

    والثاني : الإبل خاصة ، حكاه الزجاج . وقال : الأول قول أكثر فقهاء الأمصار . قال القاضي أبو يعلى : البدنة : اسم يختص الإبل في اللغة ، والبقرة تقوم مقامها في الحكم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة .

    قوله تعالى : " جعلناها لكم من شعائر الله " ; أي : جعلنا لكم فيها عبادة لله ، من سوقها إلى البيت ، وتقليدها ، وإشعارها ، ونحرها ، والإطعام منها . " لكم فيها خير " وهو النفع في الدنيا والأجر في الآخرة ، " فاذكروا اسم الله عليها " ; أي : على نحرها ، " صواف " وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة : ( صوافن ) بالنون . وقرأ الحسن ، وأبو مجلز ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن يعمر : ( صوافي ) بالياء . قال الزجاج : " صواف " منصوبة على الحال ، ولكنها لا تنون لأنها لا تنصرف ; أي : قد صفت قوائمها ، والمعنى : اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها ، والبعير ينحر قائما ، وهذه الآية تدل على ذلك . ومن قرأ : ( صوافن ) فالصافن : التي تقوم على ثلاث ، والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه ، فهو الصافن ، والجميع صوافن . هذا ومن قرأ : ( صوافي ) بالياء وبالفتح بغير تنوين ، فتفسيره : خوالص ; أي : خالصة لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحدا . " فإذا وجبت جنوبها " ; أي : إذا سقطت إلى الأرض ، يقال : وجب الحائط وجبة : [ ص: 433 ] إذا سقط ، ووجب القلب وجيبا : إذا تحرك من فزع . واعلم أن نحرها قياما سنة ، والمراد بوقوعها على جنوبها : موتها ، والأمر بالأكل منها أمر إباحة ، وهذا في الأضاحي .

    قوله تعالى : " وأطعموا القانع والمعتر " وقرأ الحسن : ( والمعتر ) بكسر الراء خفيفة . وفيهما ستة أقوال :

    أحدها : أن القانع : الذي يسأل ، والمعتر : الذي يتعرض ولا يسأل ، رواه بكر بن عبد الله عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، واختاره الفراء .

    والثاني : أن القانع : المتعفف ، والمعتز : السائل ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والنخعي ، وعن الحسن كالقولين .

    والثالث : أن القانع : المستغني بما أعطيته وهو في بيته ، والمعتر : الذي يتعرض لك ويلم بك ولا يسأل ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال مجاهد : القانع : جارك الذي يقنع بما أعطيته ، والمعتر : الذي يتعرض ولا يسأل ، وهذا مذهب القرظي . فعلى هذا يكون معنى القانع : أن يقنع بما أعطي . ومن قال : هو المتعفف ، قال : هو القانع بما عنده .

    والرابع : القانع : أهل مكة ، والمعتر : الذي يعتر بهم من غير أهل مكة ، رواه خصيف عن مجاهد .

    والخامس : القانع : الجار وإن كان غنيا ، والمعتر : الذي يعتر بك ، رواه ليث عن مجاهد .

    والسادس : القانع : المسكين السائل ، والمعتر : الصديق الزائر ، قاله زيد بن أسلم . قال ابن قتيبة : يقال : قنع يقنع قنوعا : إذا سأل ، وقنع يقنع [ ص: 434 ] قناعة : إذا رضي ، ويقال في المعتر : اعترني واعتراني وعراني . وقال الزجاج : مذهب أهل اللغة : أن القانع : السائل ، يقال : قنع يقنع قنوعا : إذا سأل ، فهو قانع ، قال الشماخ :


    لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع


    أي : من السؤال ، ويقال : قنع قناعة : إذا رضي ، فهو قنع ، والمعتر والمعتري واحد .

    قوله تعالى : " كذلك " ; أي : مثل ما وصفنا من نحرها قائمة ، " سخرناها لكم " نعمة منا عليكم لتتمكنوا من نحرها على الوجه المسنون ، " لعلكم تشكرون " ; أي : لكي تشكروا .

    قوله تعالى : " لن ينال الله لحومها " وقرأ عاصم الجحدري ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : ( لن تنال الله لحومها ) بالتاء ، ( ولكن تناله التقوى ) بالتاء أيضا .

    سبب نزولها أن المشركين كانوا إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة ، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال المفسرون : ومعنى الآية : لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها ، وإنما يرفع إليه التقوى ، وهو ما أريد به وجهه منكم . فمن قرأ : ( تناله التقوى ) بالتاء ، فإنه أنث للفظ التقوى . ومن قرأ : ( يناله ) بالياء ; فلأن التقوى والتقى واحد . والإشارة بهذه الآية إلى أنه لا يقبل اللحوم والدماء ، إذا لم تكن صادرة عن تقوى الله ، وإنما يتقبل ما يتقونه به ، وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إذا عريت عن نية صحيحة . [ ص: 435 ]

    قوله تعالى : " كذلك سخرها " قد سبق تفسيره [ الحج : 37 ] . " لتكبروا الله على ما هداكم " ; أي : على ما بين لكم وأرشدكم إلى معالم دينه ومناسك حجه ، وذلك أن يقول : الله أكبر على ما هدانا ، " وبشر المحسنين " قال ابن عباس : يعني : الموحدين .
    إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .

    قوله تعالى : " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( يدفع ) ، ( ولولا دفع الله ) بغير ألف ، وهذا على مصدر ( دفع ) . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( إن الله يدافع ) بألف ، ( ولولا دفع ) بغير ألف ، وهذا على مصدر ( دافع ) ، والمعنى : يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم . قال الزجاج : والمعنى : إذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإشراكهم ، فإن الله يدفع عن حزبه . والـ " خوان " فعال من الخيانة ، والمعنى : أن من ذكر غير اسم الله ، وتقرب إلى الأصنام بذبيحته ، فهو خوان .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #398
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْحَجِّ
    الحلقة (398)
    صــ 436 إلى صــ 443





    قوله تعالى : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا " قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، [ ص: 436 ] وحمزة ، والكسائي : ( أذن ) بفتح الألف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، وحفص عن عاصم : ( أذن ) بضمها .

    قوله تعالى : " للذين يقاتلون " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم بكسر التاء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم بفتحها . قال ابن عباس : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول لهم : " اصبروا ، فإني لم أومر بالقتال " ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي أول آية أنزلت في القتال . وقال مجاهد : هم ناس خرجوا من مكة مهاجرين ، فأدركهم كفار قريش ، فأذن لهم في قتالهم . قال الزجاج : معنى الآية : أذن للذين يقاتلون أن يقاتلوا . " بأنهم ظلموا " ; أي : بسبب ما ظلموا . ثم وعدهم النصر بقوله : " وإن الله على نصرهم لقدير " ولا يجوز أن تقرأ بفتح " إن " هذه من غير خلاف بين أهل اللغة ; لأن " إن " إذا كانت معها اللام لم تفتح أبدا . وقوله : " إلا أن يقولوا ربنا الله " معناه : أخرجوا لتوحيدهم .

    قوله تعالى : " ولولا دفع الله الناس " قد فسرناه في ( البقرة : 251 ) .

    قوله تعالى : " لهدمت " قرأ ابن كثير ونافع : ( لهدمت ) خفيفة ، والباقون بتشديد الدال .

    فأما الصوامع ففيها قولان :

    أحدهما : أنها صوامع الرهبان ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وابن زيد .

    والثاني : أنها صوامع الصابئين ، قاله قتادة وابن قتيبة .

    فأما البيع فهي جمع بيعة ، وهي بيع النصارى . [ ص: 437 ]

    وفي المراد بالصلوات قولان :

    أحدهما : مواضع الصلوات . ثم فيها قولان : أحدهما : أنها كنائس اليهود ، قاله قتادة والضحاك ، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : قوله : " وصلوات " : هي كنائس اليهود ، وهي بالعبرانية : ( صلوثا ) . والثاني : أنها مساجد الصابئين ، قاله أبو العالية .

    والقول الثاني : أنها الصلوات حقيقة ، والمعنى : لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين ، لانقطعت الصلوات في المساجد ، قاله ابن زيد .

    فأما المساجد ، فقال ابن عباس : هي مساجد المسلمين . وقال الزجاج : معنى الآية : لولا دفع بعض الناس ببعض لهدمت في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفي زمن محمد المساجد .

    وفي قوله : " يذكر فيها اسم الله " قولان :

    أحدهما : أن الكناية ترجع إلى جميع الأماكن المذكورات ، قاله الضحاك .

    والثاني : إلى المساجد خاصة ; لأن جميع المواضع المذكورة الغالب فيها الشرك ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " ولينصرن الله من ينصره " ; أي : من ينصر دينه وشرعه .

    قوله تعالى : " الذين إن مكناهم في الأرض " قال الزجاج : هذه صفة ناصريه . قال المفسرون : التمكين في الأرض : نصرتهم على عدوهم ، والمعروف : لا إله إلا الله ، والمنكر : الشرك . قال الأكثرون : وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال القرظي : هم الولاة .

    قوله تعالى : " ولله عاقبة الأمور " ; أي : إليه مرجعها ; لأن كل ملك يبطل سوى ملكه . [ ص: 438 ]
    وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد .

    قوله تعالى : " ثم أخذتهم " ; أي : بالعذاب ، " فكيف كان نكير " أثبت الياء في " نكير " يعقوب [ في الحالين ] ، ووافقه ورش في إثباتها في الوصل ، والمعنى : كيف [ أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالإهلاك والمعنى : إني ] أنكرت عليهم أبلغ إنكار ، وهذا استفهام معناه التقرير .

    قوله تعالى : " أهلكناها " قرأ أبو عمرو : ( أهلكتها ) بالتاء ، والباقون : ( أهلكناها ) بالنون .

    قوله تعالى : " وبئر معطلة " قرأ ابن كثير ، [ وعاصم ] ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( وبئر ) مهموز . وروى ورش عن نافع بغير همز ، والمعنى : وكم بئر معطلة ; أي : متروكة . " وقصر مشيد " فيه قولان :

    أحدهما : مجصص ، قاله ابن عباس وعكرمة . قال الزجاج : أصل الشيد : الجص والنورة ، وكل ما بني بهما أو بأحدهما فهو مشيد .

    والثاني : طويل ، قاله الضحاك ومقاتل . وفي الكلام إضمار ، تقديره : وقصر مشيد معطل أيضا ليس فيه ساكن .
    أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن [ ص: 439 ] يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير .

    قوله تعالى : " أفلم يسيروا " قال المفسرون : أفلم يسر قومك في أرض اليمن والشام ، " فتكون لهم قلوب يعقلون بها " إذا نظروا آثار من هلك ، " أو آذان يسمعون بها " أخبار الأمم المكذبة ، " فإنها لا تعمى الأبصار " قال الفراء : الهاء في قوله : " فإنها " عماد ، والمعنى : أن أبصارهم لم تعم ، وإنما عميت قلوبهم . وأما قوله : " التي في الصدور " فهو توكيد ; لأن القلب لا يكون إلا في الصدر ، ومثله : تلك عشرة كاملة [ البقرة : 196 ] ، يطير بجناحيه [ الأنعام : 38 ] ، يقولون بأفواههم [ آل عمران : 167 ] .

    قوله تعالى : " ويستعجلونك بالعذاب " قال مقاتل : نزلت في النضر بن الحارث القرشي . وقال غيره : هو قولهم له : متى هذا الوعد [ الملك : 25 ] ، ونحوه من استعجالهم . " ولن يخلف الله وعده " في إنزال العذاب بهم في الدنيا ، فأنزله بهم يوم بدر ، " وإن يوما عند ربك " ; أي : من أيام الآخرة ، " كألف سنة مما تعدون " من أيام الدنيا . قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( تعدون ) بالتاء . وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : ( يعدون ) بالياء .

    فإن قيل : كيف انصرف الكلام من ذكر العذاب إلى قوله : " وإن يوما عند ربك " ؟ فعنه جوابان :

    أحدهما : أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا ، فقيل لهم : لن يخلف الله وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا ، وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا ، فكيف تستعجلون بالعذاب ؟ فقد تضمنت الآية وعدهم بعذاب الدنيا والآخرة ، هذا قول الفراء . [ ص: 440 ]

    والثاني : وإن يوما عند الله وألف سنة سواء في قدرته على عذابهم ، فلا فرق بين وقوع ما يستعجلونه وبين تأخيره في القدرة ، إلا أن الله تفضل عليهم بالإمهال ، هذا قول الزجاج .
    قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم .

    قوله تعالى : " ورزق كريم " يعني به : [ الرزق ] الحسن في الجنة .

    قوله تعالى : " والذين سعوا في آياتنا " ; أي : عملوا في إبطالها ، " معاجزين " قرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( معجزين ) بغير ألف . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( معاجزين ) بألف . قال الزجاج : ( معاجزين ) ; أي : ظانين أنهم يعجزوننا ; لأنهم ظنوا أنهم لا يبعثون ، وأنه لا جنة ولا نار . قال : وقيل في التفسير : معاجزين : معاندين ، وليس هو بخارج عن القول الأول . و " معجزين " تأويلها : أنهم كانوا يعجزون من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويثبطونهم عنه .
    وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . [ ص: 441 ]

    قوله تعالى : " وما أرسلنا من قبلك من رسول " الآية ، قال المفسرون : سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة ( النجم ) قرأها حتى بلغ قوله : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 19 ، 20 ] ، فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى ، فلما سمعت قريش بذلك فرحوا ، فأتاه جبريل فقال : ماذا صنعت ؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا ، فنزلت هذه الآية تطييبا لقلبه ، وإعلاما له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا . قال العلماء المحققون : وهذا لا يصح ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم عن مثل هذا ، ولو صح كان المعنى : أن بعض شياطين الإنس قال تلك الكلمات ، فإنهم كانوا إذا تلا لغطوا ، كما قال الله عز وجل : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه [ فصلت : 26 ] . قال : وفي معنى " تمنى " قولان :

    أحدهما : تلا ، قاله الأكثرون ، وأنشدوا : [ ص: 442 ]


    تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر


    وقال آخر :


    تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل
    [ ص: 443 ]

    والثاني : أنه من الأمنية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنى يوما أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومه ، فألقى الشيطان على لسانه لما كان قد تمناه ، قاله محمد بن كعب القرظي .

    قوله تعالى : " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " ; أي : يبطله ويذهبه . " ثم يحكم الله آياته " قال مقاتل : يحكمها من الباطل .

    قوله تعالى : " ليجعل " اللام متعلقة بقوله : " ألقى الشيطان " ، والفتنة هاهنا بمعنى : البلية والمحنة . والمرض : الشك والنفاق . " والقاسية قلوبهم " يعني : الجافية عن الإيمان . ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم ، والشقاق : غاية العداوة .

    قوله تعالى : " وليعلم الذين أوتوا العلم " وهو التوحيد والقرآن ، وهم المؤمنون . وقال السدي : التصديق بنسخ الله .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #399
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْحَجِّ
    الحلقة (399)
    صــ 444 إلى صــ 451





    قوله تعالى : " أنه الحق " إشارة إلى نسخ ما يلقي الشيطان ، فالمعنى : ليعلموا أن نسخ ذلك وإبطاله حق من الله ، " فيؤمنوا " بالنسخ ، " فتخبت له قلوبهم " ; أي : تخضع وتذل . ثم بين بباقي الآية أن هذا الإيمان والإخبات إنما هو بلطف الله وهدايته . [ ص: 444 ]

    قوله تعالى : " في مرية منه " ; أي : في شك .

    وفي هاء " منه " أربعة أقوال :

    أحدها : أنها ترجع إلى قوله : تلك الغرانيق العلا . والثاني : أنها ترجع إلى سجوده في سورة ( النجم ) . والقولان عن سعيد بن جبير ، فيكون المعنى : إنهم يقولون : ما باله ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها . والثالث : أنها ترجع إلى القرآن ، قاله ابن جريج . والرابع : أنها ترجع إلى الدين ، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى : " حتى تأتيهم الساعة " وفيها قولان :

    أحدهما : القيامة تأتي من تقوم عليه من المشركين ، قاله الحسن .

    والثاني : ساعة موتهم ، ذكره الواحدي .

    قوله تعالى : " أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " فيه قولان :

    أحدهما أنه يوم بدر ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .

    والثاني : أنه يوم القيامة ، قاله عكرمة والضحاك . وأصل العقم في الولادة ، يقال : امرأة عقيم : لا تلد ، ورجل عقيم : لا يولد له ، وأنشدوا :


    عقم النساء فلا يلدن شبيهه إن النساء بمثله عقم
    [ ص: 445 ]

    وسميت الريح العقيم بهذا الاسم ; لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر ، فقيل لهذا اليوم : عقيم ; لأنه لم يأت بخير .

    فعلى قول من قال : هو يوم بدر ، في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير ، قاله الضحاك .

    والثاني : لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل ، بل قتلوا قبل المساء ، قاله ابن جريج .

    والثالث : لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، قاله يحيى بن سلام .

    وعلى قول من قال : هو يوم القيامة ، في تسميته بذلك قولان :

    أحدهما : لأنه لا ليلة له ، قاله عكرمة .

    والثاني : لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج ، ذكره بعض المفسرين .
    الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم .

    قوله تعالى : " الملك يومئذ " ; أي : يوم القيامة ، " لله " من غير منازع ولا مدع ، " يحكم بينهم " ; أي : بين المسلمين والمشركين ، وحكمه بينهم بما ذكره في تمام الآية وما بعدها . ثم ذكر فضل المهاجرين ، فقال : " والذين هاجروا في سبيل الله " ; أي : من مكة إلى المدينة .

    وفي الرزق الحسن قولان : [ ص: 446 ]

    أحدهما : أنه الحلال ، قاله ابن عباس . والثاني : رزق الجنة ، قاله السدي .

    قوله تعالى : " ثم قتلوا أو ماتوا " وقرأ ابن عامر : ( قتلوا ) بالتشديد .

    قوله تعالى : " ليدخلنهم مدخلا " [ وقرأ نافع بفتح الميم ] . " يرضونه " يعني : الجنة . والمدخل يجوز أن يكون مصدرا ، فيكون المعنى : ليدخلنهم إدخالا يكرمون به فيرضونه ، ويجوز أن يكون بمعنى المكان . و " مدخلا " بفتح الميم على تقدير : فيدخلون مدخلا . " وإن الله لعليم " بنياتهم ، " حليم " عنهم .
    ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير .

    قوله تعالى : " ذلك " قال الزجاج : المعنى : الأمر ذلك ; أي : الأمر ما قصصنا عليكم . " ومن عاقب بمثل ما عوقب به " والعقوبة : الجزاء ، والأول ليس بعقوبة ، ولكنه سمي عقوبة لاستواء الفعلين في جنس المكروه ، كقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ الشورى : 40 ] ، لما كانت المجازاة إساءة بالمفعول به سميت سيئة ، ومثله : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] ، قاله الحسن . ومعنى الآية : من قاتل المشركين كما قاتلوه . " ثم بغي عليه " ; أي : ظلم بإخراجه عن منزله . وزعم مقاتل أن سبب نزول هذه الآية أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلة بقيت من المحرم فقاتلوهم ، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام ، فأبوا إلا القتال ، فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين ، [ ص: 447 ] ووقع في نفوس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ، فنزلت هذه الآية ، وقال : " إن الله لعفو " عنهم " غفور " لقتالهم في الشهر الحرام .

    قوله تعالى : " ذلك " ; أي : ذلك النصر ، " بأن الله " القادر على ما يشاء . فمن قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وأن الله سميع لدعاء المؤمنين بصير بهم ، حيث جعل فيهم الإيمان والتقوى ، " ذلك " الذي فعل من نصر المؤمنين " بأن الله هو الحق " ; أي : هو الإله الحق . " وأن ما يدعون " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( يدعون ) بالياء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم بالتاء ، والمعنى : وأن ما يعبدون " من دونه هو الباطل " .
    ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد .

    قوله تعالى : " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء " يعني : المطر ، " فتصبح الأرض مخضرة " بالنبات . وحكى الزجاج عن الخليل أنه قال : معنى الكلام : التنبيه ، كأنه قال : أتسمع ، أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا . وقال ثعلب : معنى الآية عند الفراء خبر ، كأنه قال : اعلم أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح ، ولو كان استفهاما والفاء شرطا لنصبه .

    قوله تعالى : " إن الله لطيف " ; أي : باستخراج النبات من الأرض رزقا لعباده ، " خبير " بما في قلوبهم عند تأخير المطر . وقد سبق معنى الغني الحميد في ( البقرة : 267 ) . [ ص: 448 ]
    ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور .

    قوله تعالى : " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض " يريد : البهائم التي تركب ، " ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه " قال الزجاج : كراهة أن تقع . وقال غيره : لئلا تقع . " إن الله بالناس لرءوف رحيم " فيما سخر لهم وفيما حبس عنهم من وقوع السماء عليهم . " وهو الذي أحياكم " بعد أن كنتم نطفا ميتة ، " ثم يميتكم " عند آجالكم ، " ثم يحييكم " للبعث والحساب ، " إن الإنسان " يعني : المشرك ، " لكفور " لنعم الله إذ لم يوحده .
    لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير .

    قوله تعالى : " لكل أمة جعلنا منسكا " قد سبق بيانه في هذه السورة [ الحج : 34 ] ، " فلا ينازعنك في الأمر " ; أي : في الذبائح ، وذلك أن [ ص: 449 ] كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الذبيحة ، فقالوا : كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ؟ يعنون : الميتة .

    فإن قيل : إذا كانوا هم المنازعين له ، فكيف قيل : " فلا ينازعنك في الأمر " ؟ .

    فقد أجاب عنه الزجاج ، فقال : المراد : النهي له عن منازعتهم ، فالمعنى : لا تنازعنهم ، كما تقول للرجل : لا يخاصمنك فلان في هذا أبدا ، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا من اثنين ; لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين ، فإذا قلت : لا يجادلنك فلان ، فهو بمنزلة : لا تجادلنه ، ولا يجوز هذا في قولك : لا يضربنك فلان ، وأنت تريد : لا تضربنه ، [ ولكن ] لو قلت : لا يضاربنك فلان ، لكان كقولك : لا تضاربن ، ويدل على هذا الجواب قوله : " وإن جادلوك " .

    قوله تعالى : " وادع إلى ربك " ; أي : إلى دينه والإيمان به . و " جادلوك " بمعنى : خاصموك في أمر الذبائح ، " فقل الله أعلم بما تعملون " من التكذيب ، فهو يجازيكم به . " الله يحكم بينكم يوم القيامة " ; أي : يقضي بينكم ، " فيما كنتم [ ص: 450 ] فيه تختلفون " من الدين ; أي : تذهبون إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون ، وهذا أدب حسن علمه الله عباده ، ليردوا به من جادل على سبيل التعنت ، ولا يجيبوه ولا يناظروه .

    فصل

    قال أكثر المفسرين : هذا نزل قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخ بآية السيف . وقال بعضهم : هذا نزل في حق المنافقين ، كانت تظهر من أقوالهم وأفعالهم فلتات تدل على شركهم ، ثم يجادلون على ذلك ، فوكل أمرهم إلى الله تعالى ، فالآية على هذا محكمة .

    قوله تعالى : " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض " هذا استفهام يراد به التقرير ، والمعنى : قد علمت ذلك . " إن ذلك " يعني : ما يجري في السماوات والأرض . " في كتاب " يعني : اللوح المحفوظ ، " إن ذلك " ; أي : علم الله بجميع ذلك ، " على الله يسير " سهل لا يتعذر عليه العلم به .
    ويعبدون من دون الله ما لم ينـزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ ص: 451 ]

    قوله تعالى : " ويعبدون " يعني : كفار مكة ، " ما لم ينزل به سلطانا " ; أي : حجة . " وما ليس لهم به علم " أنه إله ، " وما للظالمين " يعني : المشركين ، " من نصير " ; أي : مانع من العذاب . " وإذا تتلى عليهم آياتنا " يعني : القرآن ، والمنكر هاهنا بمعنى الإنكار ، فالمعنى : أثر الإنكار من الكراهة وتعبيس الوجوه معروف عندهم . " يكادون يسطون " ; أي : يبطشون ويوقعون بمن يتلو عليهم القرآن من شدة الغيظ ، يقال : سطا عليه ، وسطا به : إذا تناوله بالعنف والشدة . " قل " لهم يا محمد : " أفأنبئكم بشر من ذلكم " ; أي : بأشد عليكم وأكره إليكم من سماع القرآن ، ثم ذكر ذلك فقال : " النار " ; أي : هو النار .
    يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز .

    قوله تعالى : " يا أيها الناس ضرب مثل " قال الأخفش : إن قيل : أين المثل ؟


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #400
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    الحلقة (400)
    صــ 452 إلى صــ 459






    فالجواب : أنه ليس هاهنا مثل ، وإنما المعنى : يا أيها الناس ضرب لي مثل ; أي : شبهت بي الأوثان ، " فاستمعوا " لهذا المثل . وتأويل الآية : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي ، فاستمعوا حالها ، ثم بين ذلك بقوله : " إن الذين تدعون " ; أي : تعبدون ، " من دون الله " وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وابن أبي عبلة : ( يدعون ) بالياء المفتوحة . وقرأ ابن السميفع ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري : ( يدعون ) بضم الياء وفتح العين ، يعني : الأصنام . " لن يخلقوا ذبابا " والذباب واحد ، والجمع القليل : أذبة ، والكثير : الذبان ، مثل : [ ص: 452 ] غراب وأغربة وغربان . وقيل : إنما خص الذباب لمهانته واستقذاره وكثرته . " ولو اجتمعوا " يعني : الأصنام ، " له " ; أي : لخلقه ، " وإن يسلبهم " يعني : الأصنام . قال ابن عباس : كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجف ، فيأتي الذباب فيختلسه . وقال ابن جريج : كانوا إذا طيبوا أصنامهم عجنوا طيبهم بشيء من الحلواء ، كالعسل ونحوه ، فيقع عليه الذباب فيسلبها إياه ، فلا تستطيع الآلهة ولا من عبدها أن يمنعه ذلك . وقال السدي : كانوا يجعلون للآلهة طعاما ، فيقع الذباب عليه فيأكل منه . قال ثعلب : وإنما قال : " لا يستنقذوه منه " فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين ; إذ كانوا يعظمونها ويذبحون لها وتخاطب ، كقوله : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم [ النمل : 18 ] ، لما خاطبهم جعلهم كالآدميين ، ومثله : رأيتهم لي ساجدين [ يوسف : 40 ] ، وقد بينا هذا المعنى في ( الأعراف : 191 ) عند قوله تعالى : وهم يخلقون .

    قوله تعالى : " ضعف الطالب والمطلوب " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني : الطالب : الذباب يطلب ما يسلبه من الطيب الذي على الصنم ، والمطلوب : الصنم يطلب الذباب منه سلب ما عليه ، روي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث : الطالب : عابد الصنم يطلب التقرب بعبادته ، والمطلوب : الصنم ، هذا معنى قول الضحاك والسدي . [ ص: 453 ]

    قوله تعالى : " ما قدروا الله حق قدره " ; أي : ما عظموه حق عظمته ; إذ جعلوا هذه الأصنام شركاء له ، " إن الله لقوي " لا يقهر ، " عزيز " لا يرام .
    الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور .
    قوله تعالى : " الله يصطفي من الملائكة رسلا " كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت . " ومن الناس " الأنبياء المرسلين ، " إن الله سميع " لمقالة العباد ، " بصير " بمن يتخذه رسولا . وزعم مقاتل أن هذه الآية نزلت حين قالوا : أأنزل عليه الذكر من بيننا [ ص : 8 ] .
    قوله تعالى : " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " الإشارة إلى الذين اصطفاهم ، وقد بينا معنى ذلك في آية الكرسي [ البقرة : 255 ] .
    يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير [ ص: 454 ]

    قوله تعالى : " اركعوا واسجدوا " قال المفسرون : المراد : صلوا ; لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود . " واعبدوا ربكم " ; أي : وحدوه ، " وافعلوا الخير " يريد : أبواب المعروف ، " لعلكم تفلحون " ; أي : لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة .

    فصل

    لم يختلف أهل العلم في السجدة الأولى من ( الحج ) ، واختلفوا في هذه السجدة الأخيرة ، فروي عن عمر ، وابن عمر ، وعمار ، وأبي الدرداء ، وأبي موسى ، وابن عباس ، أنهم قالوا : في ( الحج ) سجدتان ، وقالوا : فضلت هذه السورة على غيرها بسجدتين ، وبهذا قال أصحابنا ، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه . وروي عن ابن عباس أنه قال : في ( الحج ) سجدة ، وبهذا قال الحسن ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وجابر بن زيد ، وأبو حنيفة وأصحابه ، ومالك ; ويدل على الأول ما روى عقبة بن عامر ، قال : قلت : يا رسول الله أفي ( الحج ) سجدتان ؟ قال : " نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما " . [ ص: 455 ]

    فصل

    واختلف العلماء في عدد سجود القرآن ، فروي عن أحمد روايتان : إحداهما : أنها أربع عشرة سجدة ، وبه قال الشافعي . والثانية : أنها خمس عشرة ، فزاد سجدة ( ص : 24 ) . وقال أبو حنيفة : هي أربع عشرة ، فأخرج التي في آخر ( الحج ) ، وأبدل منها سجدة ( ص : 24 ) .

    فصل

    وسجود التلاوة سنة ، وقال أبو حنيفة : واجب . ولا يصح سجود التلاوة إلا بتكبيرة الإحرام والسلام ، خلافا لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي . ولا يجزئ الركوع عن سجود التلاوة ، وقال أبو حنيفة : يجزئ . ولا يسجد المستمع إذا لم يسجد التالي ، نص عليه أحمد رضي الله عنه . وتكره قراءة السجدة في صلاة الإخفات ، خلافا للشافعي .

    قوله تعالى : " وجاهدوا في الله " في هذا الجهاد ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه فعل جميع الطاعات ، هذا قول الأكثرين . والثاني : أنه جهاد الكفار ، قاله الضحاك . والثالث : أنه جهاد النفس والهوى ، قاله عبد الله بن المبارك .

    فأما حق الجهاد ، ففيه ثلاثة أقوال : [ ص: 456 ]

    أحدها : أنه الجد في المجاهدة واستيفاء الإمكان فيها . والثاني : أنه إخلاص النية لله عز وجل . والثالث : أنه فعل ما فيه وفاء لحق الله عز وجل .

    فصل

    وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة ، واختلفوا في ناسخها على قولين :

    أحدهما : قوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

    والثاني : قوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن : 16 ] . وقال آخرون : بل هي محكمة ، ويؤكده القولان الأولان في تفسير حق الجهاد ، وهو الأصح ; لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها .

    قوله تعالى : " هو اجتباكم " ; أي : اختاركم واصطفاكم لدينه . والحرج : الضيق ، فما من شيء وقع الإنسان فيه إلا وجد له في الشرع مخرجا بتوبة ، أو كفارة ، أو انتقال إلى رخصة ، ونحو ذلك . وروي عن ابن عباس أنه قال : الحرج : ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد ، وضعه الله عن هذه الأمة .

    قوله تعالى : " ملة أبيكم " قال الفراء : المعنى : وسع عليكم كملة أبيكم ، فإذا ألقيت الكاف نصبت ، ويجوز النصب على معنى الأمر بها ; لأن أول الكلام أمر ، وهو قوله : " اركعوا واسجدوا " ، والزموا ملة أبيكم .

    فإن قيل : هذا الخطاب للمسلمين وليس إبراهيم أبا لكلهم ؟

    فالجواب : أنه إن كان خطابا عاما للمسلمين ، فهو كالأب لهم ; لأن حرمته وحقه عليهم كحق الولد ، وإن كان خطابا للعرب خاصة ، فإبراهيم أبو العرب قاطبة ، هذا قول المفسرين . والذي يقع لي أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن إبراهيم أبوه ، وأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة فيما خوطب به رسول الله . [ ص: 457 ]

    قوله تعالى : " هو سماكم المسلمين " في المشار إليه قولان :

    أحدهما : أنه الله عز وجل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور ; فعلى هذا في قوله : " من قبل " قولان : أحدهما : من قبل إنزال القرآن سماكم بهذا في الكتب التي أنزلها . والثاني : " من قبل " ; أي : في أم الكتاب ، وقوله : " وفي هذا " ; أي : في القرآن .

    والثاني : أنه إبراهيم عليه السلام حين قال : ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [ البقرة : 128 ] ، فالمعنى : من قبل هذا الوقت ، وذلك في زمان إبراهيم عليه السلام ، وفي هذا الوقت حين قال : " ومن ذريتنا أمة مسلمة " ، هذا قول ابن زيد .

    قوله تعالى : " ليكون الرسول " المعنى : اجتباكم وسماكم ليكون الرسول ، يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، " شهيدا عليكم " يوم القيامة أنه قد بلغكم ، وقد شرحنا هذا المعنى في ( البقرة : 143 ) إلى قوله : " وآتوا الزكاة " .

    قوله تعالى : " واعتصموا بالله " قال ابن عباس : سلوه أن يعصمكم من كل ما يسخط ويكره . وقال الحسن : تمسكوا بدين الله . وما بعد هذا مشروح في ( الأنفال : 40 ) .
    [ ص: 458 ]

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ .

    رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ قَرَأَ : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ " ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي " صَحِيحِهِ " . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ [ ص: 459 ] عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَاطَ حَائِطَ الْجَنَّةِ لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ، وَغَرَسَ غَرْسَهَا بِيَدِهِ ، فَقَالَ لَهَا : تَكَلَّمِي ، فَقَالَتْ : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، فَقَالَ لَهَا : طُوبَى لَكِ مَنْزِلَ الْمُلُوكِ " . قَالَ الْفَرَّاءُ : " قَدْ " هَاهُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَأْكِيدًا لِفَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَقْرِيبًا لِلْمَاضِي مِنَ الْحَالِ ; لِأَنَّ " قَدْ " تُقَرِّبُ الْمَاضِيَ مِنَ الْحَالِ حَتَّى تُلْحِقَهُ بِحُكْمِهِ ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ، قَبْلَ حَالِ قِيَامِهَا ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ : إِنَّ الْفَلَّاحَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ . وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ ، وَطِلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ : ( قَدْ أُفْلِحَ ) بِضَمِّ الْأَلْفِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَمَعْنَى الْآيَةِ : قَدْ نَالَ الْمُؤْمِنُونَ الْبَقَاءَ الدَّائِمَ فِي الْخَيْرِ . وَمَنْ قَرَأَ : ( قَدْ أُفْلِحَ ) بِضَمِّ الْأَلْفِ ، كَانَ مَعْنَاهُ : قَدْ أُصِيرُوا إِلَى الْفَلَاحِ . وَأَصِلُ الْخُشُوعِ فِي اللُّغَةِ : الْخُضُوعُ وَالتَّوَاضُعُ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •