تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 4 من 25 الأولىالأولى 1234567891011121314 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 80 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #61
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (61)
    صــ326 إلى صــ 330


    إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير .

    قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي قال ابن السائب: لما نزل قوله تعالى: وما أنفقتم من نفقة قالوا: يا رسول الله ، صدقة السر أفضل ، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية قال الزجاج ، يقال: بدا الشيء يبدو: إذا ظهر ، وأبديته إبداء: إذا أظهرته ، وبدا لي بداء: إذا تغير رأيي عما كان عليه .

    قوله تعالى: (فنعما هي) في "نعم" أربع لغات . "نعم" بفتح النون ، وكسر العين ، مثل: علم . و"نعم" بكسرها ، و"نعم" بفتح النون ، وتسكين العين ، و"نعم" بكسر النون وتسكين العين . وأما قوله (فنعما هي) فقرأ نافع في غير رواية "ورش" وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والمفضل: "فنعما" بكسر النون ، والعين ساكنة . وقرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية حفص ، ونافع في رواية "ورش" ، ويعقوب بكسر النون والعين . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف: "فنعما" بفتح النون ، وكسر العين ، وكلهم شددوا الميم . وكذلك خلافهم في سورة النساء . قال الزجاج: "ما" في تأويل الشيء ، أي: فنعم الشيء هي . وقال أبو علي: نعم الشيء إبداؤها . وقوله تعالى: (فهو خير لكم) يعني الإخفاء . واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها ، وفي الفريضة قولان . أحدهما: أن إظهارها [ ص: 326 ] أفضل ، قاله ابن عباس في آخرين . واختاره القاضي أبو يعلى . وقال الزجاج: كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن فأما اليوم ، فالناس يسيؤون الظن ، فإظهارها أحسن . والثاني: إخفاؤها أفضل ، قاله الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب . وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة ، وحملوا (وإن تخفوها) على النافلة ، وهذا قول عجيب . وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين . أحدهما: يرجع إلى المعطي ، وهو بعده عن الرياء ، وقربه من الإخلاص ، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية . والثاني: يرجع إلى المعطى ، وهو دفع الذل عنه بإخفاء الحال ، لأنه في العلانية ينكسر .

    قوله تعالى: ويكفر عنكم من سيئاتكم قرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، وأبو بكر عن عاصم (ونكفر عنك) بالنون والرفع ، والمعنى: ونحن نكفر عنكم ، ويجوز أن يكون مستأنفا . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي: "ونكفر" بالنون وجزم الراء . قال أبو علي: وهذا على حمل الكلام على موضع قوله: (فهو خير لكم) لأن قوله: (فهو خير لكم) في موضع جزم ، ألا ترى أنه لو قال: وإن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم ، ومثله لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن [ المنافقون: 10 ] . حمل قوله . "وأكن" على موضع "فأصدق" . وقرأ ابن عامر: "ويكفر" بالياء والرفع ، وكذلك عن حفص عن عاصم على الكناية عن الله عز وجل ، وقرأ أبان عن عاصم ، "وتكفر" بالتاء المرفوعة ، وفتح الفاء مع تسكين الراء .

    قوله تعالى: (من سيئاتكم) في "من" قولان . أحدهما: أنها زائدة . والثاني: أنها داخلة للتبعيض . قال أبو سليمان الدمشقي: ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل .
    ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [ ص: 327 ] قوله تعالى: ليس عليك هداهم) في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الجمهور . والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم" فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير . والخير في الآية ، أريد به المال ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . ومعنى: (فلأنفسكم) أي: فلكم ثوابه .

    قوله تعالى: وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين ، أعلمهم الله أنه قد علم أن مرادهم ما عنده ، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم ، فقد أعلمهم بالجزاء عليه .

    قوله تعالى: (يوف إليكم) أي: توفون أجره ومعنى الآية: ليس عليك أن يهتدوا ، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام ، فإن تصدقتم عليهم أثبتم ، والآية محمولة على صدقة التطوع ، إذ لا يجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئا .
    للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم .

    قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لما حثهم على الصدقات والنفقات ، دلهم على خير من تصدق عليه . وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله: فإن أحصرتم [ البقرة: 11 ] وفي المراد بـ "الذين أحصروا" أربعة أقوال . أحدها: أنهم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: أنهم فقراء المهاجرين ، قاله مجاهد .

    [ ص: 328 ] . والثالث: أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو ، فلا يقدرون على الاكتساب ، قاله قتادة . والرابع: أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فصاروا زمنى ، قاله سعيد بن جبير ، واختاره الكسائي ، وقال: أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس ، لقال: حصروا ، وإنما الإحصار من الخوف ، أو المرض . والحصر: الحبس في غيرهما . وفي سبيل الله قولان . أحدهما: أنه الجهاد ، والثاني: الطاعة . وفي الضرب في الأرض قولان . أحدهما: أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم ، نقل عن ابن عباس . والثاني: الكسب ، قاله قتادة . وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال . أحدها: الفقر ، قاله ابن عباس . والثاني: أمراضهم ، قاله ابن جبير ، وابن زيد . والثالث: التزامهم بالجهاد ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: (يحسبهم الجاهل) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي "يحسبهم" و"يحسبن" بكسر السين في جميع القرآن . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو جعفر بفتح السين في الكل . قاله أبو علي: فتح السين أقيس ، لأن الماضي إذا كان على "فعل" ، نحو: حسب ، كان المضارع على "يفعل" ، مثل: فرق يفرق ، وشرب يشرب ، والكسر حسن لموضع السمع . قاله ابن قتيبة: لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل ، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخبر ، فكأنه قال: يحسبهم من لا يخبر أمرهم . والتعفف: ترك السؤال ، يقال: عف عن الشيء وتعفف . والسيما: العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصله من السمة . وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال . أحدها: تجملهم ، قاله ابن عباس . والثاني: خشوعهم ، قاله مجاهد . والثالث: أثر الفقر عليهم ، قاله السدي والربيع بن أنس ، وهذا يدل على أن للسيما حكما يتعلق بها . قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار [ ص: 329 ] الحرب ، ولا يعرف أمره: ينظر إلى سيماه ، فإن كان عليه سيما الكفار من عدم الختان ، حكم له بحكمهم ، فلم يدفن في مقابر المسلمين ، ولم يصل عليه ، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم . وأما الإلحاف ، فهو: الإلحاح ، قال ابن قتيبة: يقال: ألحف في المسألة: إذا ألح ، وقال الزجاج: معنى ألحف: شمل بالمسألة ، ومنه اشتقاق اللحاف ، لأنه يشمل الإنسان بالتغطية ، فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير ملحفين؟ فالجواب: أن لا ، وإنما معنى الكلام: أنه لم يكن منهم سؤال ، فيكون إلحاف .

    قال الأعشى:


    لا يغمز الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر


    معناه: ليس بساقه أين ولا وصب ، فيغمزها لذلك . قال الفراء: ومثله أن تقول: قلما رأيت مثل هذا الرجل ، ولعلك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه ، فهم لا يسألون الناس إلحافا ، ولا غير إلحاف . وإلى نحو هذا ذهب الزجاج ، وابن الأنباري في آخرين .
    الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

    قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عز وجل ، رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس [ ص: 330 ] وهو قول أبي الدرداء ، وأبي أمامة ، ومكحول ، والأوزاعي في آخرين . والثاني: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإنه كان معه أربعة دراهم ، فأنفق في الليل درهما وبالنهار درهما ، وفي السر درهما ، وفي العلانية درهما ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن السائب ، ومقاتل . والثالث: أنها نزلت في علي ، وعبد الرحمن بن عوف ، فإن عليا بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلا ، وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهارا ، رواه الضحاك عن ابن عباس .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #62
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (62)
    صــ331 إلى صــ 335


    الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

    قوله تعالى: الذين يأكلون الربا الربا: أصله في اللغة: الزيادة ، ومنه الربوة والرابية ، وأربى فلان على فلان: زاد . وهذا الوعيد يشمل الآكل ، والعامل به ، وإنما خص الآكل بالذكر ، لأنه معظم المقصود . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه "لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" .

    قوله تعالى: (لا يقومون) قال ابن قتيبة أي: يوم البعث من القبور . والمس: الجنون ، يقال: رجل ممسوس . فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا كما قال تعالى: يوم يخرجون من الأجداث سراعا [ المعارج: 43 ] . إلا أكلة الربا ، فإنهم يقومون ويسقطون ، لأن الله أربى الربا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم ، فلا يقدرون على الإسراع . وقال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة .

    [ ص: 331 ] قوله تعالى: (ذلك) أي: هذا الذي ذكر من عقابهم (بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) وقيل: إن ثقيفا كانوا أكثر العرب ربا ، فلما نهوا عنه; قالوا: إنما هو مثل البيع .

    قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه قال الزجاج: كل تأنيث ليس بحقيقي ، فتذكيره جائز ، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبران عن معنى واحد .

    قوله تعالى: (فله ما سلف) أي: ما أكل من الربا .

    وفي قوله تعالى: (وأمره إلى الله) قولان . أحدهما: أن "الهاء" ترجع إلى المربي ، فتقديره: إن شاء عصمه منه ، وإن شاء لم يفعل ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل . والثاني: أنها ترجع إلى الربا ، فمعناه: يعفو الله عما شاء منه ، ويعاقب على ما شاء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى: (ومن عاد) قاله ابن جبير: من عاد إلى الربا مستحلا محتجا بقوله تعالى: إنما البيع مثل الربا .
    يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

    قوله تعالى: (يمحق الله الربا) فيه قولان . أحدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله ، ومنه: محاق الشهر لنقصان الهلال فيه . روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير . والثاني: أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    قوله تعالى: (ويربي الصدقات) قال ابن جبير: يضاعفها . والكفار: الذي يكثر فعل ما يكفر به ، والأثيم: المتمادي في ارتكاب الإثم المصر عليه .
    [ ص: 332 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين .

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا في نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف ، وفي بني المغيرة من بني مخزوم ، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف ، فلما وضع الله الربا ، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، هذا قول ابن عباس . والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان ، والعباس ، كانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجذاذ ، قال صاحب التمر: إن أخذتما مالكما ، لم يبق لي ولعيالي ما يكفي ، فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا ، فلما حل الأجل ، طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فنهاهما ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عطاء وعكرمة . والثالث: أنها نزلت في العباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية ، وكانا يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ، ولهما أموال عظيمة في الربا ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس" هذا قول السدي . قال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك: إنما قال: (ما بقي من الربا) لأن كل ربا كان قد ترك ، فلم يبق إلا ربا ثقيف . وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه ، وقبض بعضه في كفره ، ثم أسلم ، فيجب عليه أن يترك ما بقي ، ويعفى له عما مضى . فأما المراباة بعد الإسلام ، فمردوده فيما قبض ، ويسقط ما بقي .
    [ ص: 333 ] فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .

    قوله تعالى: فإن لم تفعلوا فأذنوا قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر (فأذنوا) مقصورة ، مفتوحة الذال . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم: "فآذنوا" بمد الألف وكسر الذال . قال الزجاج: من قرأ: فأذنوا ، بقصر الألف ، وفتح الذال ، فالمعنى: أيقنوا . ومن قرأ بمد الألف ، وكسر الذال ، فمعناه: أعلموا كل من لم يترك الربا أنه حرب . قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب .

    [ ص: 334 ] قوله تعالى: وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون أي: التي أقرضتموها ، لا تظلمون ، فتأخذون أكثر منها ، ولا تظلمون فتنقصون منها ، والجمهور على فتح "تاء" تظلمون الأولى ، وضم "تاء" تظلمون الثانية . وروى المفضل عن عاصم: ضم الأولى ، وفتح الثانية .
    وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون .

    قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة) ذكر ابن السائب ، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: وذروا ما بقي من الربا قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا ، وندع لكم الربا ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، فنزلت هذا الآية . فأما العسرة ، فهي الفقر ، والضيق . والجمهور على تسكين السين ، وضمها أبو جعفر هاهنا ، وفي (ساعة العسرة) وقرأ الجمهور بفتح سين "الميسرة" وضمها نافع ، وتابعه زيد عن يعقوب على ضم السين ، إلا أنه زاد ، فكسر الراء ، وقلب التاء هاء ، ووصلها بباء . قال الزجاج: ومعنى وإن كان: وإن وقع . والنظرة: التأخير ، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسرا ، وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى: (وأن تصدقوا) والأكثرون على تشديد الصاد ، وخففها عاصم مع تشديد الدال . وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصدق .
    واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله قرأ أبو عمرو بفتح تاء "ترجعون" وضمها الباقون . قاله ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، وعطية ، ومقاتل في آخرين: هذه آخر آية نزلت من القرآن . قال ابن عباس: وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها بأحد وثمانين [ ص: 335 ] يوما ، وقال ابن جريج: توفي بعدها بتسع ليال . وقال مقاتل: بسبع ليال . قوله تعالى: ثم توفى كل نفس ما كسبت أي: تعطى جزاء ما كسبت .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #63
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (63)
    صــ336 إلى صــ 340

    يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم [ ص: 336 ] قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين قال الزجاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته ، فأخذت منه بدين ، وأعطيته .

    قال الشاعر:


    داينت أروى والديون تقضى فماطلت بعضا وأدت بعضا


    والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى ، فاكتبوه ، فأمر الله تعالى بكتابة الدين ، وبالإشهاد ، حفظا منه للأموال ، وللناس من الظلم ، لأن من كانت عليه البينة ، قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه . وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم خاصة . فإن قيل: ما الفائدة في قوله "بدين" و"تداينتم" يكفي عنه؟ فالجواب: أن تداينتم يقع على معنيين . أحدهما: المشاراة والمبايعة والإقراض . والثاني: المجازاة بالأفعال ، فالأول يقال فيه: الدين بفتح الدال ، والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال . قال تعالى: يسألون أيان يوم الدين [ الذاريات: 12 ] أي: يوم الجزاء .

    وأنشدوا:


    دناهم كما دانوا


    [ ص: 337 ] فدل قوله "بدين" على المراد بقوله "تداينتم" ذكره ابن الأنباري . فأما العدل فهو الحق . قال قتادة: لا تدعن حقا ، ولا تزيدن باطلا .

    قوله تعالى: (ولا يأب كاتب) أي: يمتنع أن يكتب كما علمه الله ، وفيه قولان . أحدهما: كما علمه الله الكتابة ، قاله سعيد بن جبير . وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد . والثاني: كما أمره الله به الحق ، قاله الزجاج . قوله تعالى: وليملل الذي عليه الحق قال سعيد بن جبير : يعني المطلوب ، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب ، (ولا يبخس منه شيئا) أي: لا ينقص عند الإملاء . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل ، وأمليت أملي لغتان ، فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال ، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره .

    قوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه الجاهل بالأموال ، والجاهل بالإملاء . قاله مجاهد ، وابن جبير . والثاني: أنه الصبي والمرأة ، قاله الحسن . والثالث: أنه الصغير ، قاله الضحاك ، والسدي . والرابع: أنه المبذر ، قاله القاضي أبو يعلى . وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال . أحدها: أنه العاجز والأخرس ، ومن به حمق ، قاله ابن عباس ، وابن جبير . والثاني: أنه الأحمق ، قاله مجاهد ، والسدي . والثالث: أنه الصغير قاله القاضي أبو يعلى .

    قوله تعالى: أو لا يستطيع أن يمل هو قاله ابن عباس: لا يستطيع لعيه . وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما عليه ، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون .

    قوله تعالى: (فليملل وليه) في هاء الكناية قولان . أحدها: أنها تعود إلى الحق ، فتقديره: فليملل ولي الحق ، هذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، [ ص: 338 ] واختاره ابن قتيبة . والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق ، وهذا قول الضحاك ، وابن زيد ، واختاره الزجاج ، وعاب قول الأولين ، فقال: كيف يقبل قول المدعي؟! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد ، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا . والعدل: الإنصاف . وقي قوله تعالى: (من رجالكم) قولان . أحدهما: أنه يعني الأحرار ، قاله مجاهد ، والثاني: أهل الإسلام ، وهذا اختيار الزجاج ، والقاضي أبي يعلى ، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية .

    قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين) أراد: فإن لم يكن الشهيدان رجلين (فرجل وامرأتان) ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان .

    قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين . قوله تعالى: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ذكر الزجاج ، أن الخليل ، وسيبويه ، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم ، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين ، لأن تذكر إحداهما الأخرى . ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى . وقرأ حمزة "إن تضل" بكسر الألف . والضلال هاهنا: النسيان ، قاله ابن عباس والضحاك ، والسدي ، والربيع ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة . وأما قوله: "فتذكر" فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بالتخفيف مع نصب الراء ، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف ، وقرأ الباقون بالنصب ، وتشديد الكاف ، فمن شدد أراد الإدكار عند النسيان ، وفي قراءة من خفف قولان . أحدهما: أنها بمعنى المشددة أيضا ، وهذا قول الجمهور . قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي: ومعنى القراءتين واحد . والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ، وهذا مذهب سفيان بن عيينة ، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه ، واختاره القاضي أبو يعلى ، وقد رده جماعة ، منهم ابن قتيبة . قال أبو علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي ، لأنهن لو بلغن ما بلغن ، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهن رجل ، ولأن الضلال هاهنا: النسيان ، فينبغي أن يقابل بما يعادله ، وهو التذكير .

    [ ص: 339 ] قوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحواء العظيم ، [فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة ] فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت هذه الآية . وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: إلى تحمل الشهادة ، وإثباتها في الكتاب ، قاله ابن عباس ، وعطية ، وقتادة ، والربيع . والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها ، قاله سعيد بن جبير ، وطاووس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والشعبي ، وأبو مجلز ، والضحاك ، وابن زيد . ورواه الميموني عن أحمد بن حنبل . والثالث: إلى تحملها وإلى أدائها ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، واختاره الزجاج ، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره ، فأما إن كان قد تحملها جماعة ، لم تتعين عليه ، وكذلك في حال تحملها ، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد ، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه .

    قوله تعالى: (ولا تسأموا) أي: لا تملوا وتضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله ، أي: إلى محل أجله (ذلكم أقسط عند الله) أي: أعدل ، (وأقوم للشهادة) لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه (وأدنى) أي: أقرب (ألا ترتابوا) أي: لا تشكوا (إلا أن تكون) الأموال (تجارة) أي: إلا أن تقع تجارة . وقرأ عاصم "تجارة" بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة ، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل ، فأباح ترك الكتاب فيها توسعة ، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول أو مشروب .

    قوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه .

    [ ص: 340 ] فصل

    وهذه الآية تتضمن الأمر بإثبات الدين في كتاب ، وإثبات شهادة في البيع والدين . واختلف العلماء ، هل هذا أمر وجوب ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب فعلى هذا هو محكم ، وذهبت طائفة إلى أن الكتاب والإشهاد واجبان ، روي عن ابن عمر ، وأبي موسى ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وعطاء ، والضحاك ، وأبي قلابة ، والحكم ، وابن زيد . ثم اختلف هؤلاء ، هل هذا الحكم باق ، أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #64
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (64)
    صــ341 إلى صــ 345

    قوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من "يضار" وسكونها . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه لا يضار بأن يدعي وهو [ ص: 341 ] مشغول ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والفراء ، ومقاتل . وقال الربيع: كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي ، فيقول: إني مشغول ، فيلزمه ، ويقول: إنك قد أمرت بالكتابة ، فيضاره ، ولا يدعه ، وهو يجد غيره ، وكذلك يفعل الشاهد ، فنزلت ولا يضار كاتب ولا شهيد . والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له ، بأن يكتب غير ، ما يمل عليه وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه ، هذا قول الحسن ، وطاووس ، وقتادة ، وابن زيد ، واختاره ابن قتيبة ، والزجاج . واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم قال: ولا يسمى من دعا كاتبا ليكتب ، وهو مشغول ، أو شاهد; فاسقا ، إنما يسمى من حرف الكتاب ، أو كذب في الشهادة ، فاسقا . والثالث: أن معنى المضارة: امتناع الكاتب أن يكتب ، والشهادة أن يشهد ، وهذا قول عطاء في آخرين .

    قوله تعالى: (وإن تفعلوا) يعني: المضارة .
    وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم .

    قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر) إنما خص السفر ، لأن الأغلب عدم الكاتب ، والشاهد فيه . ومقصود الكلام: إذا عدمتم التوثق بالكتاب ، والإشهاد ، فخذوا الرهن .

    قوله تعالى: فرهان قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعبد الوارث (فرهن) بضم الراء والهاء من غير ألف ، وأسكن الهاء عبد الوارث . ووجهه التخفيف . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي (فرهان) بكسر الراء ، وفتح الهاء ، وإثبات [ ص: 342 ] الألف . قال ابن قتيبة: من قرأ (فرهان) أراد: جمع رهن ، ومن قرأ (فرهن) أراد: جمع رهان ، فكأنه جمع الجمع .

    قوله تعالى: (مقبوضة) يدل على أن من شرط لزوم الرهن القبض ، وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولا ، فإن كان مما لا ينقل ، كالدور والأرضين ، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه .

    قوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا أي: فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم ، فدفع ماله بغير كتاب ، ولا شهود ، ولا رهن ، (فليؤد الذي اؤتمن) وهو المدين (أمانته وليتق الله ربه) أن يخون من ائتمنه .

    قوله تعالى: (فإنه آثم قلبه) قال السدي عن أشياخه: فإنه فاجر قلبه . قال القاضي أبو يعلى: إنما أضاف الإثم إلى القلب ، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب ، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أدائها .
    لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .

    قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله أما إبداء ما في النفس ، فإنه العمل بما أضمره العبد ، أو النطق ، وهذا مما يحاسب عليه العبد ، ويؤاخذ به ، وأما ما يخفيه في نفسه ، فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين . أحدهما: أنه عام في جميع المخفيات ، وهو قول الأكثرين . واختلفوا: هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة ، أم منسوخ؟ على قولين . أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة: 286 ] . هذا قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية ، والحسن ، والشعبي ، وابن سيرين ، [ ص: 343 ] وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والسدي ، وابن زيد ، ومقاتل . والثاني: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم ، فيؤاخذ به من يشاء ، ويغفره لمن يشاء ، وهذا مروي عن ابن عمر ، والحسن ، واختاره أبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية لم تنسخ ، ولكن الله عز وجل إذا جمع الخلائق ، يقول لهم: إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ، ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله تعالى: (يحاسبكم به الله) يقول: يخبركم به الله ، وأما أهل الشرك والريب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .

    [ ص: 344 ] والأكثرون على تسكين راء "فيغفر" وباء "يعذب" منهم ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي . وإنما جزموا لإتباع هذا ما قبله ، وهو "يحاسبكم" وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وعاصم ويعقوب: برفع الراء ، والباء فيهما . فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول ، قال ابن الأنباري: وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا ، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء . قال: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة ، لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي . وقد روي عن عائشة أنها قالت: أما ما أعلنت ، فالله يحاسبك به ، وأما ما أخفيت ، فما عجلت لك به العقوبة في الدنيا . والقول الثاني: أنه أمر خاص في نوع من المخفيات ، ولأرباب هذا القول فيه قولان . أحدهما: أنه كتمان الشهادة ، قاله ابن عباس في رواية ، وعكرمة ، والشعبي . والثاني: أنه الشك واليقين ، قاله مجاهد . فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة .
    آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .

    قوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه" قال أبو بكر النقاش: معناه: كفتاه عن قيام الليل .

    [ ص: 345 ] وقيل: إنهما نزلتا على سبب ، وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما أنزل الله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ] فقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها (آمن الرسول) . قال الزجاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ، ختمها بتصديق نبيه ، والمؤمنين . وقرأ ابن عباس (وكتابه) فقيل له في ذلك ، فقال: كتاب أكثر من كتب ، ذهب به إلى اسم الجنس ، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس ، وقد وافق ابن عباس وفي قراءته حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وكذلك في (التحريم) ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر (وكتبه) هاهنا بالجمع ، وفي (التحريم) بالتوحيد . وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين .

    قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين مثل "رسلنا" و"رسلكم" بإسكان السين ، وثقل ما عدا ذلك . وعنه في قوله تعالى: (على رسلك) روايتان ، التخفيف والتثقيل . وقرأ الباقون كل ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل . ومعنى قوله: لا نفرق بين أحد من رسله أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب ، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، وقرأ يعقوب (لا يفرق) بالياء ، وفتح الراء .

    قوله تعالى: (غفرانك) أي: نسألك غفرانك . والمصير: المرجع .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #65
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (65)
    صــ346 إلى صــ 350


    لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .

    قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الوسع: الطاقة . قاله ابن عباس ، وقتادة . ومعناه: لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته ، كتكليف الزمن السعي ، والأعمى النظر . فأما تكليف ما يستحيل من المكلف ، لفقد الآلات ، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان ، فالآية محمولة على القول الأول . ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: في سياق الآية ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعا ، كان السؤال عبثا ، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ الكهف: 57 ] وقال ابن الأنباري: المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشم ، وتحمل مكروه ، فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه ، ومثله قوله تعالى: ما كانوا يستطيعون السمع .

    قوله تعالى: (لها ما كسبت) قال ابن عباس: لها ما كسبت من طاعة (وعليها ما اكتسبت) من معصية . قال أبو بكر النقاش: فقوله: "لها" دليل على الخير ، و"عليها" دليل على الشر . وقد ذهب قوم إلى أن "كسبت" لمرة ومرات ، و"اكتسبت" لا يكون إلا لشيء بعد شيء ، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد ، كقوله عز وجل: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ الطارق: 17 ] .

    قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا) هذا تعليم من الله للخلق أن يقولوا ذلك ، قال ابن [ ص: 347 ] الأنباري: والمراد بالنسيان هاهنا: الترك مع العمد ، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته . والخطأ أيضا هاهنا من جهة العمد ، لا من جهة السهو ، يقال: أخطأ الرجل: إذا تعمد ، كما يقال: أخطأ إذا غفل . وفي "الإصر" قولان . أحدهما: أنه العهد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي . والثاني: الثقل ، أي: لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني إسرائيل ، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به فيه خمسة أقوال . أحدهما: أنه ما يصعب ويشق من الأعمال ، قاله الضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، والجمهور ، والثاني: أنه المحبة ، [ ص: 348 ] رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم . والثالث: الغلمة قاله مكحول . والرابع: حديث النفس ووساوسها . والخامس: عذاب النار .

    قوله تعالى: (أنت مولانا) أي: أنت ولينا (فانصرنا) أي: أعنا . وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة قال: آمين .

    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ .

    ذكر أهل التفسير أنها مدنية ، وأن صدرا من أولها نزل في وفد نجران ، قدموا النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكبا ، فيهم العاقب ، والسيد ، فخاصموه في عيسى ، فقالوا: إن لم يكن ولد الله ، فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر (آل عمران) إلى بضع وثمانين آية منها .

    بسم الله الرحمن الرحيم .
    الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان .

    قوله تعالى: (نزل عليك الكتاب) يعني: القرآن (بالحق) يعني: العدل . (مصدقا لما بين يديه) من الكتب . وقيل: إنما قال في القرآن: "نزل" بالتشديد ، وفي التوراة والإنجيل: أنزل ، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة ، وأنزل القرآن في مرات كثيرة . فأما التوراة ، فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجلعها من: ورى الزند يرى: إذا خرجت ناره ، وأوريته ، يريد أنها ضياء . قال ابن قتيبة: وفيه لغة أخرى: ورى يري ، ويقال: وريت بك زنادي . والإنجيل ، من نجلت الشيء: إذا أخرجته ، وولد الرجل: نجله ، كأنه هو استخرجه ، يقال: قبح الله ناجليه ، أي: والديه ، وقيل للماء يقطر من البئر: نجل ، يقال: قد استنجل الوادي: [إذا ظهر نزوزه ] . وإنجيل: إفعيل من ذلك ، كأن الله أظهر به عافيا من الحق دارسا . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: والإنجيل: أعجمي معرب ، قال: وقال بعضهم: إن كان عربيا ، فاشتقاقه من النجل ، وهو ظهور الماء على وجه الأرض ، واتساعه ، ونجلت الشيء: إذا استخرجته وأظهرته ، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم وقيل: هو إفعيل من النجل وهو الأصل: فالإنجيل أصل لعلوم وحكم وفي الفرقان [ ص: 350 ] هاهنا قولان . أحدهما: أنه القرآن ، قاله قتادة ، والجمهور . قال أبو عبيدة: سمي القرآن فرقانا ، لأنه فرق بين الحق والباطل ، والمؤمن والكافر ، والثاني: أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقال السدي: في الآية تقديم وتأخير ، تقديره: وأنزل التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، فيه هدى للناس .
    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ وَفْدَ نَجْرَانَ النَّصَارَى ، كَفَرُوا بِالْقُرْآَنِ ، وَبِمُحَمَّدٍ . وَالِانْتِقَامُ : الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُقُوبَةِ .
    إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: هَذَا تَعْرِيضٌ بِنَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ فِيمَا كَانُوا يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ مِنْ كَيْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرُ التَّصْوِيرِ فِي الْأَرْحَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرِ عِيسَى .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #66
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (66)
    صــ351 إلى صــ 355

    هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب .

    قوله تعالى: (منه آيات محكمات) المحكم: المتقن المبين ، وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال . أحدها: أنه الناسخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي في آخرين . والثاني: أنه الحلال والحرام ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد . والثالث: أنه ما علم العلماء تأويله ، روي عن جابر بن عبد الله . والرابع: أنه الذي لم ينسخ ، قاله الضحاك . والخامس: أنه ما لم تتكرر ألفاظه ، قاله ابن زيد . والسادس: أنه ما استقل بنفسه ، ولم يحتج إلى بيان ، ذكره [ ص: 351 ] القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد . وقال الشافعي ، وابن الأنباري: هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والسابع: أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة . والثامن: أنه الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى . وأم الكتاب أصله . قاله ابن عباس ، وابن جبير ، فكأنه قال: هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام ، ومجمع الحلال والحرام . وفي المتشابه سبعة أقوال . أحدها: أنه المنسوخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي في آخرين . والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل ، كقيام الساعة ، روي عن جابر بن عبد الله . والثالث: أنه الحروف المقطعة كقوله "ألم" ونحو ذلك ، قاله ابن عباس . والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه ، قاله مجاهد . والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد . والسادس: أنه ما احتمل من التأويل وجوها . وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات ، ولا يخفى على مميز ، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات . والسابع: أنه القصص ، والأمثال ، ذكره القاضي أبو يعلى . فإن قيل: فما فائدة إنزال المتشابه ، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة . أحدها: أنه لما كان كلام العرب على ضربين . أحدهما: الموجز الذي لا يخفى على سامعه ، ولا يحتمل غير ظاهره . والثاني: المجاز ، والكنايات ، والإشارات ، والتلويحات ، وهذا الضرب الثاني: هو المستحلى عند العرب ، والبديع في كلامهم ، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله ، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم ، ولو نزل كله محكما واضحا ، لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا . ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية ، أو تعريض أو تشبيه ، كان أفصح وأغرب .

    [ ص: 352 ] قال امرؤ القيس:


    وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل


    فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه ، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد ، وزاد في بلاغته . وقال امرؤ القيس أيضا:


    رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أنتصر


    وقال أيضا:


    فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل


    فجعل لليل صلبا وصدرا على جهة التشبيه ، نحسن بذلك شعره . وقال غيره:


    من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور


    أراد بالطابخين: الليل والنهار على جهة التشبيه . وقال آخر:


    تبكي هاشما في كل فجر كما تبكي على الفنن الحمام
    [ ص: 353 ] قاله آخر:


    عجبت لها أنى يكون غناؤها فصيحا ولم تفتح بمنطقها فما


    فجعل لها غناء وفما على جهة الاستعارة . والجواب الثاني: أن الله تعالى أنزله مختبرا به عباده ، ليقف المؤمن عنده ، ويرده إلى عالمه ، فيعظم بذلك ثوابه ، ويرتاب به المنافق ، فيداخله الزيغ ، فيستحق بذلك العقوبة ، كما ابتلاهم بنهر طالوت . والثالث: أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردهم المتشابه إلى المحكم ، فيطول بذلك فكرهم ، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم ، فيثابون على تعبهم ، كما يثابون على سائر عباداتهم ، ولو جعل القرآن كله محكما لاستوى فيه العالم والجاهل ، ولم يفضل العالم على غيره ، ولماتت الخواطر ، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم . وقد قال الحكماء: عيب الغنى: أنه يورث البلادة ، وفضل الفقر: أنه يبعث على الحيلة ، لأنه إذا احتاج احتال . والرابع: أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلمون ، ويمرنوهم على انتزاع الجواب ، لأنهم إذا قدروا على الغامض ، كانوا على الواضح أقدر ، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء ، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو ، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة ، وابن الأنباري .

    قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ في الزيغ قولان . أحدهما: أنه الشك ، قاله مجاهد ، والسدي . والثاني: أنه الميل ، قاله أبو مالك . وعن ابن عباس كالقولين . وقيل: هو الميل عن الهدى . وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال . أحدها: أنهم الخوارج ، قاله الحسن . والثاني: المنافقون ، قاله ابن جريج . والثالث: وفد نجران من النصارى ، قاله الربيع . والرابع: اليهود ، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجمل ، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: فيتبعون ما تشابه منه قال ابن عباس: يحيلون المحكم على المتشابه ، [ ص: 354 ] والمتشابه على المحكم ، ويلبسون . و قال السدي: يقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ، ثم نسخت؟! وفي المراد بالفتنة هاهنا ، ثلاثة أقوال . أحدها: أنها الكفر ، قاله السدي ، والربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة . والثاني: الشبهات ، قاله مجاهد . والثالث: إفساد ذات البين ، قاله الزجاج . وفي التأويل وجهان . أحدهما: أنه التفسير . والثاني: العاقبة المنتظرة . والراسخ: الثابت ، يقال: رسخ يرسخ رسوخا . وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان . أحدهما: أنهم لا يعلمونه ، وأنهم مستأنفون ، وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ (ويقول الراسخون في العلم آمنا به) وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن عباس ، وعروة ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز والفراء ، وأبو عبيدة ، وثعلب ، وابن الأنباري ، والجمهور . قال ابن الأنباري: في قراءة عبد الله (إن تأويله ، إلا عند الله والراسخون في العلم) وقي قراءة أبي ، وابن عباس (ويقول الراسخون) وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء ، استأثر بعلمها ، كقوله تعالى: قل إنما علمها عند الله [ الأعراف: 187 ] . و قوله تعالى: وقرونا بين ذلك كثيرا [ الفرقان: 38 ] فأنزل الله تعالى المجمل ، ليؤمن به المؤمن ، فيسعد ، ويكفر به الكافر ، فيشقى . والثاني: أنهم يعلمون ، فهم داخلون في الاستثناء . وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله ، وهذا قول مجاهد ، والربيع ، واختاره ابن قتيبة ، وأبو سليمان الدمشقي . قال ابن الأنباري: الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح ، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد .
    ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد .

    قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا أي يقولون: (ربنا لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وابن يعمر ، والجحدري "لا تزغ" بفتح التاء "قلوبنا" برفع الباء . ولدنك: بمعنى عندك . والوهاب: الذي يجود بالعطاء من غير [ ص: 355 ] استثابة ، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم ، ولا ولدا لعقيم ، والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء .
    إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار .

    قوله تعالى: لن تغني عنهم أموالهم أي: لن تدفع ، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا ، وكذلك الأولاد ، فأما في الآخرة ، فلا ينفع الكافر ماله ، ولا ولده . وقوله تعالى: (من الله) أي: من عذابه .
    كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب .

    قوله تعالى: (كدأب آل فرعون) في الدأب قولان . أحدهما: أنه العادة ، فمعناه: كعادة آل فرعون ، يريد: كفر اليهود ، ككفر من قبلهم ، قاله ابن قتيبة ، وقال ابن الأنباري: و"الكاف" في "كدأب" متعلقة بفعل مضمر ، كأنه قال: كفرت اليهود ، ككفر آل فرعون . والثاني: أنه الاجتهاد ، فمعناه: أن دأب هؤلاء ، وهو اجتهادهم في كفرهم ، وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام ، قاله الزجاج .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #67
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (67)
    صــ356 إلى صــ 360


    قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد
    .

    قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر (ستغلبون وتحشرون) بالتاء و(يرونهم) بالياء ، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء ، وقرأهن حمزة ، والكسائي بالياء . وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن يهود المدينة [ ص: 356 ] لما رأوا وقعة بدر ، هموا بالإسلام ، وقالوا: هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا ، لا ترد له راية ، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى ، فلما كانت أحد ، شكوا ، وقالوا: ما هو به ، ونقضوا عهدا كان بينهم وبين النبي ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة ، فقالوا: تكون كلمتنا واحدة ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . والثاني: أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر ، فحقق الله وعده يوم بدر ، روي عن ابن عباس ، والضحاك . والثالث: أن أبا سفيان في جماعة من قومه ، جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد وقعة بدر ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب .
    قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .

    قوله تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم المؤمنون ، روي عن ابن مسعود ، والحسن . والثاني: الكفار ، فيكون معطوفا على الذي قبله ، وهو يتخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفا . والثالث: أنهم اليهود ، ذكره الفراء ، وابن الأنباري ، وابن جرير . فإن قيل: لم قال: (قد كان لكم) ولم يقل: قد كانت لكم؟ فالجواب من وجهين . أحدهما: أن ما ليس بمؤنث حقيقي ، يجوز تذكيره . والثاني: أنه رد المعنى إلى البيان ، فمعناه: قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وترك اللفظ ، وأنشدوا:


    إن امرأ غره منكن واحدة ، بعدي وبعدك في الدنيا ، لمغرور


    وقد سبق معنى "الآية" و"الفئة" وكل مشكل تركت شرحه ، فإنك تجده فيما سبق والمراد بالفئتين: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ومشركو قريش يوم بدر . قاله قتادة [ ص: 357 ] والجماعة . وفي قوله تعالى: (يرونهم مثليهم) قولان . أحدهما: يرونهم ثلاثة أمثالهم ، قاله الفراء ، واحتج بأنك إذا قلت: عندي ألف دينار ، وأحتاج إلى مثليه ، فإنك تحتاج إلى ثلاثة آلاف . والثاني: أن معناه يرونهم ومثلهم ، قال الزجاج: وهو الصحيح .

    قوله تعالى: (رأي العين) أي: في رأي العين . قال ابن جرير: جاء هذا على مصدر رأيته ، ، يقال: رأيته رأيا ، ورؤية . واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال ، هي التي ذكرناها في قوله تعالى: (قد كان لكم آية) فإن قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون ، فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين ، فرأوهم على ما هم عليه ، ثم نصرهم الله ، وكذلك إن قلنا: إنهم اليهود . وإن قلنا: إنهم المشركون ، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر . وقد قرأ نافع: "ترونهم" بالتاء . قال ابن الأنباري: ذهب إلى أن الخطاب لليهود . قال الفراء: ويجوز لمن قرأ "يرونهم" بالياء أن يجعل الفعل لليهود ، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى: (قد كان لكم آية) لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى الخطاب . وقد شرحنا هذا في "الفاتحة" وغيرها . فإن قيل: كيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين ، وإن المسلمين استكثروا المشركين ، وقد بين قوله تعالى: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم [ الأنفال: 44 ] . أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب: أنهم استكثروهم في حال ، واستقلوهم في حال ، فإن [ ص: 358 ] قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون ، فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه ، ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم ، فنصرهم الله بذلك السبب . قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم ، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا . وقال في رواية أخرى: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة ، فأسرنا منهم رجلا ، فقلت: كم كنتم؟ قال: ألفا . وإن قلنا: إن الفئة الرائية المشركون ، فإنهم استقلوا المسلمين في حال ، فاجترؤوا عليهم ، واستكثروهم في حال ، فكان ذلك سبب خذلانهم ، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ ، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر . قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا .

    قوله تعالى: (والله يؤيد) أي: يقوي (إن في ذلك) في الإشارة قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى النصر . والثاني: إلى رؤية الجيش مثليهم ، والعبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين ، المؤدية إلى العلم ، وهي من العبور ، كأنه طريق يعبر به ، ويتوصل به إلى المراد . وقيل: العبرة: الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم . والأبصار: العقول والبصائر .
    زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب .

    قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات قرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو رجاء العطاردي ، ومجاهد ، وابن محيصن "زين" بفتح الزاي "حب" بنصب الباء ، وقد سبق في "البقرة" بيان التزيين . والقناطير: جمع قنطار ، قال ابن دريد: ليست النون فيه أصلية ، وأحسب أنه معرب . واختلف العلماء: هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان . أحدهما: أنه محدود ، ثم فيه [ ص: 359 ] أحد عشر قولا . أحدها: أنه ألف ومئتا أوقية ، رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال معاذ بن جبل ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النجود ، والحسن في رواية . والثاني: أنه اثنا عشر ألف أوقية ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وعن أبي هريرة كالقولين ، وفي رواية عن أبي هريرة أيضا: اثنا عشر أوقية . والثالث: أنه ألف ومئتا دينار ، ذكره الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس . والرابع: أنه اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، والضحاك ، كهذا القول ، والذي قبله . والخامس: أنه سبعون ألف دينار ، روي عن ابن عمر ، ومجاهد . والسادس: ثمانون ألف درهم ، أو مئة رطل من الذهب ، روي عن سعيد بن المسيب ، وقتادة . والسابع: أنه سبعة آلاف دينار ، قاله عطاء . والثامن: ثمانية آلاف مثقال ، قاله السدي . والتاسع: أنه ألف مثقال ذهب أو فضة ، قاله الكلبي . والعاشر: أنه ملء مسك ثور ذهبا ، قاله أبو نضرة ، وأبو عبيدة . والحادي عشر: القنطار: رطل من الذهب ، أو الفضة ، حكاه ابن الأنباري . والقول الثاني: أن القنطار ليس بمحدود . وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير ، بعضه على بعض ، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحد ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري . قاله ابن الأنباري: قال بعض اللغويين: القنطار: العقدة الوثيقة المحكمة من المال . وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها المضعفة ، قال ابن عباس: القناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة ، وهذا قول الفراء . والثاني: أنها المكملة ، كما تقول: بدرة مبدرة ، وألف مؤلفة ، وهذا قول ابن قتيبة . والثالث: أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم ، قاله السدي . وفي المسومة ثلاثة أقوال [ ص: 360 ] أحدها: أنها الراعية ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد في رواية ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، ومقاتل . قال ابن قتيبة: يقال: سامت الخيل ، وهي سائمة: إذا رعت ، وأسمتها وهي مسامة ، وسومتها فهي مسومة: إذا رعيتها والمسومة في غير هذا: المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيماء ، أي: بالعلامة . والثاني: أنها المعلمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، واختاره الزجاج ، وعن الحسن كالقولين . وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها معلمة بالشية ، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها ، روي عن قتادة . والثاني: بالكي ، روي عن المؤرج . والثالث: أنها البلق ، قاله ابن كيسان . والثالث: أنها الحسان ، قاله ابن عكرمة ، ومجاهد . فأما الأنعام ، فقال ابن قتيبة: هي: الإبل ، والبقر ، والغنم ، واحدها . نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه . والمآب: المرجع . وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها ، فيثاب عليها ، وإنما يتوجه الذم إلى سوء القصد فيها وبها .
    قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد .

    قوله تعالى: (قل أأنبئكم بخير من ذلكم) روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزل قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات قال عمر: يا رب الآن حين زينتها؟! فنزلت: قل أأنبئكم بخير من ذلكم ووجه الآية أنه خبر أن ما عنده خير مما في الدنيا ، وإن كان محبوبا ، ليتركوا ما يحبون لما يرجون . فأما الرضوان ، فقرأ عاصم ، إلا حفصا وأبان بن يزيد عنه ، برفع الراء في جميع القرآن ، واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى: من اتبع رضوانه [ المائدة: 16 ] . وقرأ الباقون بكسر الراء ، والكسر لغة قريش . قال الزجاج: يقال: رضيت الشيء أرضاه رضى ومرضاة ورضوانا ورضوانا . (والله بصير بالعباد) . يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا ، فهو يجازيهم على أعمالهم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #68
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (68)
    صــ361 إلى صــ 365


    الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار

    قوله تعالى: (الصابرين) أي: على طاعة الله عز وجل ، وعن محارمه (والصادقين) في عقائدهم وأقوالهم (والقانتين) بمعنى المطيعين لله (والمنفقين) في طاعته . وقال ابن قتيبة يعني: بالنفقة الصدقة . وفي معنى استغفارهم قولان . أحدهما: أنه الاستغفار المعروف باللسان ، قاله ابن مسعود ، والحسن في آخرين . والثاني: أنه الصلاة . قاله مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين . فعلى هذا إنما سميت الصلاة استغفارا ، لأنهم طلبوا بها المغفرة . فأما السحر ، فقال إبراهيم بن السري: السحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر ، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر ، فوصفهم الله بهذه الطاعات ، ثم وصفهم بأنهم لشدة خوفهم يستغفرون .
    شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم .

    قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، عرفاه بالصفة ، فقالا: أنت محمد؟ قال: "نعم" قالا: وأحمد؟ قال: "نعم" قالا: نسألك عن شهادة ، فإن أخبرتنا بها ، آمنا [ ص: 362 ] بك وصدقناك ، فقال: "سلاني" . فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله ، فنزلت هذه الآية ، فأسلما ، قاله ابن السائب . وقال غيره: هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام ، وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة . وقال سعيد بن جبير : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان ، فلما نزلت هذا الآية ، خرت الأصنام سجدا . وفي معنى (شهد الله) قولان . أحدهما: أنه بمعنى قضى وحكم ، قاله مجاهد ، والفراء ، وأبو عبيدة . والثاني: بمعنى بين ، قاله ثعلب والزجاج ، قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب ، وأموره المحكمات عند خلقه ، أنه لا إله إلا هو . وسئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، أما يدلان على الصانع الخبير؟! وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن السميفع ، وعاصم الجحدري (شهداء لله) بضم "الشين" وفتح "الهاء والدال" وبهمزة مرفوعة بعد المد ، وخفض "الهاء" من اسم الله تعالى (قائما بالقسط) أي: بالعدل . قال جعفر الصادق: وإنما كرر (لا إله إلا هو) لأن الأولى وصف وتوحيد ، والثاني: رسم وتعليم ، أي: قولوا: لا إله إلا هو .
    إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب .

    قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام الجمهور على كسر "إن" إلا الكسائي ، فإنه فتح "الألف" وهي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي رزين ، وأبي العالية ، وقتادة . قال أبو سليمان الدمشقي: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية ، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية ، نزلت هذه الآية . قال الزجاج: الدين: اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه ، وأمرهم بالإقامة عليه ، وأن يكون [ ص: 363 ] عادتهم ، وبه يجزيهم . وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الدين: ما التزمه العبد لله عز وجل . قال ابن قتيبة: والإسلام الدخول في السلم ، أي: في الانقياد والمتابعة ، ومثله الاستسلام ، يقال: سلم فلان لأمرك ، واستسلم ، وأسلم ، كما تقول: أشتى الرجل ، أي: دخل في الشتاء ، وأربع: دخل في الربيع . وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم اليهود ، قاله الربيع . والثاني: أنهم النصارى ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير . والثالث: أنهم اليهود ، والنصارى ، قاله ابن السائب . وقيل الكتاب هاهنا: اسم جنس بمعنى الكتب . وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال . أحدها: دينهم ، والثاني: أمر عيسى ، والثالث: دين الإسلام ، وقد عرفوا صحته . والرابع: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد عرفوا صفته .

    قوله تعالى: إلا من بعد ما جاءهم العلم أي: الإيضاح لما اختلفوا فيه (بغيا بينهم) قال الزجاج: معناه: اختلفوا للبغي ، لا لقصد البرهان ، وقد ذكرنا في "البقرة" معنى: سريع الحساب .
    فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد .

    قوله تعالى: (فإن حاجوك) أي: جادلوك ، وخاصموك . قال مقاتل: يعني اليهود ، وقال ابن جرير: يعني نصارى نجران في أمر عيسى ، وقال غيرهما: اليهود والنصارى . (فقل أسلمت وجهي لله) قال الفراء: معناه: أخلصت عملي ، وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله .

    قوله تعالى: (ومن اتبعن) أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة ، وابن شنبوذ عن قنبل ، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء . قال الزجاج: والأحب إلى اتباع المصحف . وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى: (ومن اتبعن) و(لئن أخرتن) و(ربي أكرمن) و(ربي أهانن) . فهو على ضربين . أحدهما: ما كان مع النون ، فإن [ ص: 364 ] كان رأس آية ، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء ، ويسمون أواخر الآي الفواصل ، كما أجازوا ذلك في الشعر ،

    قال الأعشى:


    ومن شانئ كاسف باله إذا ما انتسبت له أنكرن

    وهل يمنعني ارتيادي البلا
    د من حذر الموت أن يأتين


    فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية ، فالأكثر إثبات الياء ، وحذفها جيد أيضا ، خاصة مع النونات ، لأن أصل "اتبعني" "اتبعي" ولكن "النون" زيدت لتسلم فتحة العين ، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء ، فأما إذا لم تكن النون ، نحو غلامي وصاحبي ، فالأجود إثباتها ، وحذفها عند عدم النون جائز على قلته ، تقول: هذا غلام ، قد جاء غلامي ، وغلامي بفتح الياء وإسكانها ، فجاز الحذف ، لأن الكسرة تدل عليها .

    قوله تعالى: وقل للذين أوتوا الكتاب يريد اليهود والنصارى (والأميين) بمعنى مشركي العرب ، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم .

    قوله تعالى: (أأسلمتم) قال الفراء: هو استفهام ومعناه الأمر ، كقوله تعالى: فهل أنتم منتهون [ المائدة: 91 ] .

    [ ص: 365 ] فصل

    اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأن المراد بها تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم عند امتناع من لم يجبه ، لأنه كان يحرص على إيمانهم ، ويتألم من تركهم الإجابة . وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التبليغ ، وهذا منسوخ بآية السيف .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #69
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (69)
    صــ366 إلى صــ 370

    إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين .

    قوله تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله قال أبو سليمان الدمشقي: عنى بذلك اليهود والنصارى . قال ابن عباس: والمراد بآيات الله محمد والقرآن . وقد تقدم في "البقرة" شرح قتلهم الأنبياء ، والقسط ، والعدل . وقرأ الجمهور (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط) وقرأ حمزة "ويقاتلون" بألف . وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا [ ص: 366 ] في آخر النهار ، فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم . وإنما وبخ بهذا اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تولوا أولئك ، ورضوا بفعلهم (فبشرهم) بمعنى: أخبرهم ، وقد تقدم شرحه في "البقرة" ومعنى حبطت: بطلت .
    ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون .

    قوله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم . قالا: فإنه كان يهوديا . قال: فهلموا إلى التوراة ، فأبيا عليه ، فنزلت هذه الآية . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . والثاني: أن رجلا من اليهود ، وامرأة زنيا ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرفعوا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة ، فحكم عليها بالرجم ، فقالوا: جرت علينا يا محمد ، ليس علينا الرجم . فقال: بيني وبينكم التوراة ، فجاء ابن صوريا ، فقرأ من التوراة ، فلما أتى على آية الرجم ، وضع كفه عليها ، وقرأ ما بعدها ، فقال ابن سلام: قد جاوزها ، ثم قام ، فقرأها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين ، فرجما ، فغضب اليهود . فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام ، فقال نعمان بن أبي [ ص: 367 ] أوفى: هلم نحاكمك إلى الأحبار . فقال: بل إلى كتاب الله ، فقال: بل إلى الأحبار ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي . والرابع: أنها نزلت في جماعة من اليهود ، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا: نحن أحق بالهدى منك ، وما أرسل الله نبيا إلا من بني إسرائيل . قال: فأخرجوا التوراة ، فإني مكتوب فيها أني نبي ، فأبوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن سليمان .

    فأما التفسير ، فالنصيب الذي أوتوه: العلم الذي علموه من التوراة . وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان . أحدهما: أنه التوراة ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس ، وهو قول الأكثرين . والثاني: أنه القرآن ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وقتادة . وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال . أحدها: ملة إبراهيم . والثاني: حد الزنا . رويا عن ابن عباس . والثالث: صحة دين الإسلام ، قاله السدي . والرابع: صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل . فإن قيل: التولي هو الإعراض ، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه . أحدها: التأكيد . والثاني: أن يكون المعنى: يتولون عن الداعي ، ويعرضون عما دعا إليه . والثالث: يتولون بأبدانهم ، ويعرضون عن الحق بقلوبهم . والرابع: أن يكون الذين تولوا علماءهم ، والذين أعرضوا أتباعهم ، قاله ابن الأنباري .
    [ ص: 368 ] ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون .

    قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا) يعني: الذي حملهم على التولي والإعراض أنهم قالوا: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) وقد ذكرناها في "البقرة" و(يفترون) يختلقون . وفي الذي اختلقوه قولان . أحدهما: أنه قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، قاله مجاهد ، والزجاج . والثاني: قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه ، قاله قتادة ، ومقاتل .
    فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .

    قوله تعالى: (فكيف إذا جمعناهم) معناه: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم (ليوم) أي: لجزاء يوم ، أو لحساب يوم . وقيل "اللام" بمعنى: "في" .
    قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .

    قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك) في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما فتح مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود: هيهات ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس ، وأنس بن مالك ، والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، فنزلت هذه الآية ، حكاه قتادة . والثالث: أن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فأما التفسير ، فقال الزجاج: قال الخليل ، وسيبويه ، وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: "اللهم" بمعنى "يا الله" و"الميم" المشددة زيدت عوضا من "ياء" لأنهم لم يجدوا [ ص: 369 ] "يا" مع هذه "الميم" في كلمة ، ووجدوا اسم الله عز وجل مستعملا بـ"يا" إذا لم تذكر الميم ، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة "يا" في أولها . والضمة التي في "الهاء" هي ضمة الاسم المنادى المفرد . قال أبو سليمان الخطابي: ومعنى "مالك الملك" أنه بيده ، يؤتيه من يشاء ، قال: وقد يكون معناه: مالك الملوك ، ويحتمل أن يكون معناه: وارث الملك يوم لا يدعيه مدع ، كقوله تعالى: الملك يومئذ الحق للرحمن [ الفرقان: 26 ] .

    قوله تعالى: تؤتي الملك من تشاء في هذا الملك قولان . أحدهما: أنه النبوة ، قاله ابن جبير ، ومجاهد . والثاني: أنه المال ، والعبيد ، والحفدة ، ذكره الزجاج . وقال مقاتل: تؤتي الملك من تشاء ، يعني محمدا وأمته ، وتنزع الملك ممن تشاء ، يعني فارس والروم . (وتعز من تشاء) محمدا وأمته (وتذل من تشاء) فارس والروم . وبماذا يكون هذا العز والذل؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: العز بالنصر ، والذل بالقهر ، والثاني: العز بالغنى ، والذل بالفقر ، والثالث: العز بالطاعة ، والذل بالمعصية .

    قوله تعالى: (بيدك الخير) قال ابن عباس: يعني النصر والغنيمة ، وقيل: معناه بيدك الخير والشر ، فاكتفى بأحدهما ، لأنه المرغوب فيه .
    تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب .

    قوله تعالى: تولج الليل في النهار أي: تدخل ما نقصت من هذا في هذا . وقال ابن عباس ، ومجاهد: ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر . قال الزجاج: يقال: ولج الشيء يلج ولوجا وولجا وولجة .

    قوله تعالى: وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) و (لبلد ميت) [ الأعراف: 57 ] ، و (أومن كان ميتا) [ الأنعام: 122 ] ، و (وإن يكن ميتة) [ ص: 370 ] [ الأنعام: 139 ] ، و (الأرض الميتة) [ يس: 33 ] : كله بالتخفيف . وقرأ نافع: وحمزة: والكسائي: (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) و(لبلد ميت) و(إلى بلد ميت) وخفف حمزة ، والكسائي غير هذه الحروف . وقرأ نافع (أومن كان ميتا) و(الأرض الميتة) و(لحم أخيه ميتا) [ الحجرات: 12 ] وخفف في سائر القرآن ما لم يمت . وقال أبو علي: الأصل التثقيل ، والمخفف محذوف منه ، وما مات ، وما لم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال وأنشدوا:


    ومنهل فيه الغراب ميت سقيت منه القوم واستقيت


    فهذا قد مات وقال آخر:


    ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء


    فخفف ما مات ، وشدد ما لم يمت . وكذلك قوله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون [ الزمر: 30 ] . ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال . أحدها: أنه إخراج الإنسان حيا من النطفة ، وهي ميتة . وإخراج النطفة من الإنسان ، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة ، وإخراج البيضة من الطائر ، هذا قول ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والجمهور . والثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر ، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان ، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعطاء . والثالث: أنه إخراج السنبلة الحية من الحبة الميتة ، والنخلة الحية من النواة الميتة ، والنواة الميتة من النخلة الحية ، قاله السدي . وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس ، والحب اليابس من النبات الحي النامي .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #70
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (70)
    صــ371 إلى صــ 375


    قوله تعالى: (بغير حساب) أي: بغير تقتير ، قال الزجاج: يقال: للذي ينفق موسعا: فلان ينفق بغير حساب ، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا .
    لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير .

    قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها: أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود ، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي ، وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبي صلى الله عليه وسلم ، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: أن قوما من اليهود ، كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك ، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا فنزلت هذه الآية . روي عن ابن عباس أيضا . والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ، هذا قول المقاتلين ، ابن سليمان ، وابن حيان . فأما التفسير ، فقال الزجاج: معنى قوله تعالى: من دون المؤمنين أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن ، أي: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين ، وهذا كلام جرى على المثل في المكان ، كما تقول: زيد دونك ، ولست تريد المكان ، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان ، والخسة كالاستفال في المكان . ومعنى فليس من الله في شيء أي: فالله بريء منه .

    قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة قرأ يعقوب ، والمفضل عن عاصم "تقية" بفتح [ ص: 372 ] التاء من غير ألف ، قال مجاهد: إلا مصانعة في الدنيا . قال أبو العالية: التقاة باللسان ، لا بالعمل .

    فصل

    والتقية رخصة ، وليست بعزيمة . قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا . وقال: إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل بجهل ، فمتى يتبين الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في "النحل" عند قوله تعالى: إلا من أكره [ النحل: 106 ] ، إن شاء الله .
    قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير .

    قوله تعالى: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه قال ابن عباس: يعني اتخاذ الكافرين أولياء .
    يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد .

    قوله تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا قال الزجاج: نصب "اليوم" بقوله: ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم . قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون متعلقا بالمصير ، والتقدير: وإلى الله المصير ، يوم تجد . ويجوز أن يكون متعلقا بفعل مضمر ، والتقدير: اذكر يوم تجد . وفي كيفية وجود العمل وجهان . أحدهما: وجوده مكتوبا في الكتاب . والثاني: وجود الجزاء عليه . والأمد: الغاية .

    [ ص: 373 ] قال الطرماح:


    كل حي مستكمل عدة العم ر ومود إذا انقضى أمده


    يريد غاية أجله .
    قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم .

    قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقف على قريش ، وقد نصبوا أصنامهم يسجدون لها ، فقال: يا معشر قريش: "لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم" فقالوا: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله ، ليقربونا إلى الله زلفى . فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني: أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ، فنزلت هذه الآية ، فعرضها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، فلم يقبلوها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: أن ناسا قالوا: إنا لنحب ربنا حبا شديدا ، فأحب الله أن يجعل لحبه علما ، فأنزل هذه الآية ، قاله الحسن ، وابن جريج . والرابع: أن نصارى نجران ، قالوا: إنما تقول هذا في عيسى حبا لله ، وتعظيما له ، فنزلت هذه الآية ، ذكره ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، واختاره أبو سليمان الدمشقي .
    قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين .

    قوله تعالى: (قل أطيعوا الله والرسول) في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن [ ص: 374 ] عبد الله بن أبي قال لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله: ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم ، فنزلت هذا الآية ، هذا قول ابن عباس . والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا اليهود إلى الإسلام ، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أشد حبا لله مما تدعونا إليه ، فنزلت قل إن كنتم تحبون الله ونزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل . والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
    إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين .

    قوله تعالى: إن الله اصطفى آدم قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ، ويعقوب ، ونحن على دينهم ، فنزلت هذه الآية . قال الزجاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم ، فجعلهم صفوة خلقه ، وهذا تمثيل بما يرى ، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي ، فإذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عيانا ، فنحن نعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر ، فكذلك صفوة الله من خلقه . وفيه ثلاث لغات: صفوة ، وصفوة ، وصفوة . وأما آدم فعربي ، وقد ذكرنا اشتقاقه في "البقرة" وأما نوح ، فأعجمي معرب ، قال أبو سليمان الدمشقي: اسم نوح: السكن ، وإنما سمي نوحا ، لكثرة نوحه . وفي سبب نوحه خمسة أقوال . أحدها: أنه كان ينوح على نفسه ، قاله يزيد الرقاشي ، والثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله ، وقومه . والثالث: لمراجعته ربه في ولده . والرابع: لدعائه على قومه بالهلاك . والخامس: أنه مر بكلب مجذوم ، فقال: اخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه: أعبتني يا نوح ، أم عبت الكلب؟ وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال . أحدها: أنه من كان على دينه ، قاله ابن عباس ، والحسن . والثاني: أنهم إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، قاله مقاتل . والثالث: أن المراد بـ"آل إبراهيم" هو نفسه ، كقوله: وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون [ البقرة: 248 ] ، ذكره بعض أهل التفسير . وفي "عمران" [ ص: 375 ] قولان . أحدهما: أنه والد مريم ، قاله الحسن ، ووهب . والثاني: أنه والد موسى ، وهارون ، قاله مقاتل . وفي "آله" ثلاثة أقوال . أحدها: أنه عيسى عليه السلام ، قاله الحسن . والثاني: أن آله موسى وهارون ، قاله مقاتل . والثالث: أنه المراد بـ"آله" نفسه ، ذكره بعض المفسرين ، وإنما خص هؤلاء بالذكر ، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم . وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال . أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان ، قاله ابن عباس ، واختاره الفراء ، والدمشقي . والثاني: اصطفاهم بالنبوة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل . والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم . والمراد بـ"العالمين" عالمو زمانهم ، كما ذكرنا في "البقرة" .
    ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .

    قوله تعالى: ذرية بعضها من بعض قال الزجاج: نصبها على البدل ، والمعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض . قال ابن الأنباري: وإنما قال: بعضها ، لأن لفظ الذرية مؤنث ، ولو قال: بعضهم ، ذهب إلى معنى الذرية . وفي معنى هذه البعضية قولان . أحدهما: أن بعضهم من بعض في التناصر والدين ، لا في التناسل ، وهو معنى قول ابن عباس ، وقتادة . والثاني: أنه في التسلسل ، لأن جميعهم ذرية آدم ، ثم ذرية نوح ، ثم ذرية إبراهيم ، ذكره بعض أهل التفسير . قال أبو بكر النقاش: ومعنى قوله: (ذرية بعضها من بعض) أن الأبناء ذرية للآباء ، والآباء ذرية للأبناء ، كقوله تعالى: حملنا ذريتهم في الفلك المشحون [ يس: 41 ] ، فجعل الآباء ذرية للأبناء ، وإنما جاز ذلك ، لأن الذرية مأخوذة من: ذرأ الله الخلق ، فسمي الولد للوالد ذرية ، لأنه ذرئ منه ، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذرية للابن ، لأن ابنه ذرئ منه ، فالفعل يتصل به من الوجهين ، ومثله: يحبونهم كحب الله [ البقرة: 165 ] فأضاف الحب إلى الله ، والمعنى: كحب المؤمن لله ، ومثله ويطعمون الطعام على حبه [ الدهر: 8 ] ، فأضاف الحب للطعام .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #71
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (71)
    صــ376 إلى صــ 380


    إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم .

    قوله تعالى: إذ قالت امرأت عمران في "إذ" قولان . أحدهما: أنها زائدة ، واختاره أبو عبيدة ، وابن قتيبة . والثاني: أنها أصل في الكلام ، وفيها ثلاثة أقوال . أحدها: أن المعنى: اذكر إذ قالت امرأة عمران ، قاله المبرد ، والأخفش . والثاني: أن العامل في (إذ قالت) معنى الاصطفاء ، فيكون المعنى: اصطفى آل عمران ، إذ قالت امرأة عمران ، واصطفاهم إذ قالت الملائكة: يا مريم ، هذا اختيار الزجاج . والثالث: أنها من صلة "سميع" تقديره: والله سميع إذ قالت ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري . قال ابن عباس: واسم امرأة عمران حنة ، وهي أم مريم ، وهذا عمران بن ماتان ، وليس بـ "عمران أبي موسى " وليست هذه مريم أخت موسى . وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة والمحرر . العتيق . قال ابن قتيبة: يقال: أعتقت الغلام ، وحررته: سواء . وأرادت: أي نذرت أن أجعل ما في بطني محررا من التعبيد للدنيا ، ليعبدك . وقال الزجاج: كان على أولادهم فرضا أن يطيعوهم في نذرهم ، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادما في متعبدهم . وقال ابن إسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت ، فرأت طائرا يطعم فرخا له ، فدعت الله أن يهب لها ولدا ، وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس ، فحملت بمريم ، وهلك عمران ، وهي حامل . قال القاضي أبو يعلى: والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا ، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته ، وأن يعلمه القرآن ، والفقه ، وعلوم الدين ، صح النذر .
    فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم [ ص: 377 ] قوله تعالى: والله أعلم بما وضعت قرأ ابن عامر ، وعاصم إلا حفصا ويعقوب (بما وضعت) بإسكان العين ، وضم التاء . وقرأ الباقون بفتح العين ، وجزم التاء ، قال ابن قتيبة: من قرأ بجزم التاء ، وفتح العين ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره: إني وضعتها أنثى ، وليس الذكر كالأنثى ، والله أعلم بما وضعت . ومن قرأ بضم التاء ، فهو كلام متصل من كلام أم مريم .

    قوله تعالى: وليس الذكر كالأنثى من تمام اعتذارها ، ومعناه: لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر ، من خدمته المسجد ، والإقامة فيه ، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس . قال السدي: ظنت أن ما في بطنها غلام ، فلما وضعت جارية ، اعتذرت . ومريم: اسم أعجمي . وفي الرجيم قولان . أحدهما: الملعون ، قاله قتادة . والثاني: أنه المرجوم بالحجارة ، كما تقول: قتيل بمعنى مقتول ، قاله أبو عبيدة ، فعلى هذا سمي رجيما ، لأنه يرمى بالنجوم .
    فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .

    قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن قرأ مجاهد (فتقبلها) بسكون اللام (ربها) بنصب الباء (وأنبتها) بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء . قال الزجاج: الأصل في العربية: فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن "قبول" محمول على قبلها قبولا يقال: قبلت الشيء قبولا ، ويجوز قبولا: إذا رضيته . (وأنبتها نباتا حسنا) أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا ، وجاء "نباتا" على غير لفظ أنبت ، على معنى: نبتت نباتا حسنا . وقال ابن الأنباري: لما كان "أنبت" يدل على "نبت" حمل الفعل على المعنى ، فكأنه قال: وأنبتها ، فنبتت هي نباتا حسنا .

    [ ص: 378 ] قال امرؤ القيس:


    فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال


    أراد: أي رياضة: فلما دل "رضت" على "أذللت" حمله على المعنى . وللمفسرين في معنى النبات الحسن ، قولان أحدهما: أنه كمال النشوء ، قال ابن عباس: كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام ، والثاني: أنه ترك الخطايا ، قال قتادة: حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب ، كما يصيب بنو آدم .

    قوله تعالى: (وكفلها) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "وكفلها" بفتح الفاء خفيفة ، و"زكرياء" مرفوع ممدود . وروى أبو بكر عن عاصم: تشديد الفاء ، ونصب "زكرياء" ، وكان يمد "زكرياء" في كل القرآن في رواية أبي بكر . وروى حفص عن عاصم: تشديد الفاء و"زكريا" مقصور في كل القرآن . وكان حمزة والكسائي يشددان و"كفلها" ، ويقصران "زكريا" في كل القرآن . فأما "زكريا" فقال الفراء: فيه ثلاث لغات . أهل الحجاز يقولون: هذا زكريا قد جاء ، مقصور ، وزكرياء ، ممدود ، وأهل نجد يقولون: زكري ، فيجرونه ، ويلقون الألف . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، عن ابن دريد ، قال: زكريا اسم أعجمي ، يقال: زكري ، وزكرياء ممدود ، وزكريا مقصور ، وقال غيره: وزكري بتخفيف الياء ، فمن قال: زكرياء بالمد ، قال في التثنيه: زكرياوان ، وفي الجمع زكرياوون ، ومن قال: زكريا بالقصر ، قال في التثنيه زكريان ، كما [ ص: 379 ] تقول: مدنيان ، ومن قال: زكري بتخفيف الياء ، قال في التثنية: زكريان الياء خفيفة ، وفي الجمع: زكرون بطرح الياء .

    الإشارة إلى كفالة زكريا مريم

    قال السدي: انطلقت بها أمها في خرقها ، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم ، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ: أنا أحقكم بها ، عندي أختها ، فأبوا ، وخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها ، فجرت الأقلام ، وثبت قلم زكريا ، فكفلها . قال ابن عباس: كانوا سبعة وعشرين رجلا ، فقالوا: نطرح أقلامنا ، فمن صعد قلمه مغالبا للجرية فهو أحق بها ، فصعد قلمزكريا ، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه ، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء وقال مقاتل: كان يغلق عليها الباب ، ومعه المفتاح ، لا يأمن عليه أحدا ، وكانت إذا حاضت ، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى ، فإذا طهرت ، ردها إلى بيت المقدس . والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة . وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة ، لأجل أن أمها ماتت ، وكانت خالتها عنده ، فلما بلغت ، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها ، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة ، لأجل سنة أصابتهم . فقال محمد بن إسحاق: كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة ، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده ، فقالوا: ونحن أيضا كذلك ، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا ، فخرج السهم على جريج النجار ، وكان فقيرا ، وكان يأتيها باليسير ، فينمى ، فدخل زكريا ، فقال: ما هذا؟ على قدر نفقة جريج؟ فمن أين هذا؟ قالت: هو من عند الله . والصحيح ما عليه الأكثرون ، وأن القوم تشاحوا على كفالتها ، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران ، كذلك قال قتادة في آخرين ، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها . فأما المحراب ، فقال أبو عبيدة: [ ص: 380 ] المحراب سيد المجالس ، ومقدمها ، وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد . وقال الأصمعي: المحراب هاهنا: الغرفة . وقال الزجاج: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف .

    قال الشاعر:


    ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما


    قوله تعالى: (وجد عندها رزقا) قال ابن عباس: ثمار الجنة ، فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهذا قول الجماعة .

    قوله تعالى: (أنى لك هذا) أي: من أين؟ قال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج ، أغلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل وجد عندها رزقا . وقال الحسن: لم ترتضع ثديا قط ، وكان يأتيها رزقها من الجنة ، فيقول زكريا: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله ، فتكلمت وهي صغيرة . وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئرا ، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها: أنى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها . وما عليه الجمهور أصح . والحساب في اللغة: التقتير والتضييق .
    هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء .

    قوله تعالى: هنالك دعا زكريا ربه قال المفسرون: لما عاين زكريا هذه الآية العجيبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها ، طمع في الولد على الكبر . و (من لدنك) بمعنى: من عندك . والذرية ، تقال للجمع ، وتقال للواحد ، والمراد بها هاهنا: الواحد . قال الفراء: وإنما قال طيبة ، لتأنيث الذرية ، والمراد بالطيبة: النقية الصالحة . والسميع: بمعنى السامع . وقيل: أراد مجيب الدعاء


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #72
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (72)
    صــ381 إلى صــ 385

    فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين .

    قوله تعالى: (فنادته الملائكة) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر: فنادته بالتاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي: فناداه بألف ممالة ، قال أبو علي: هو كقوله تعالى: (وقال نسوة) [ يوسف: 20 ] . وقرأ علي ، وابن مسعود ، وابن عباس: "فناداه" بألف . وفي الملائكة قولان . أحدهما: جبريل وحده ، قال السدي ، ومقاتل ، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع ، تقول: ركبت في السفن ، وسمعت هذا من الناس . والثاني: أنهم جماعة من الملائكة ، وهو مذهب قوم ، منهم ابن جرير الطبري . وفي المحراب قولان . أحدهما: أنه المسجد . والثاني: أنه قبلة المسجد . وفي تسمية محراب الصلاة محرابا ، ثلاثة أقوال . أحدها: لانفراد الإمام فيه ، وبعده من الناس ، ومنه قولهم: فلان حرب لفلان: إذا كان بينهما مباغضة ، وتباعد ، ذكره ابن الأنباري عن أبيه ، عن أحمد بن عبيد . والثاني: أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن ، وأشرف المسجد مقام الإمام . والثالث: أنه من الحرب فالمصلي محارب للشيطان .

    قوله تعالى: (أن الله يبشرك بغلام) قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى: فنادته الملائكة بأن الله ، فلما حذف الجار منها ، وصل الفعل إليها ، فنصبها . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، بكسر "إن" فأضمر القول . والتقدير: فنادته ، فقالت: إن الله يبشرك . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو: يبشرك بضم الياء: وفتح الباء ، والتشديد في جميع القرآن إلا في (حم عسق) . (يبشر الله عباده) [ الشورى: 23 ] فإنهما فتحا الياء وضما الشين ، وخففاها . فأما نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، فشددا كل القرآن . وقرأ حمزة: "يبشر" خفيفا في كل القرآن ، إلا قوله تعالى: (فبم تبشرون) [ الحجر: 54 ] . وقرأ الكسائي "يبشر" مخففة في [ ص: 382 ] خمسة مواضع ، في (آل عمران) في قصة زكرياء ، وقصة مريم ، وفي بني (إسرائيل) ، وفي (الكهف) وفي (حم عسق) قال الزجاج: وفي "يبشرك" ثلاث لغات . أحدها: يبشرك ، بفتح الباء وتشديد الشين . والثانية: "يبشرك" بإسكان الباء ، وضم الشين . والثالثة: "يبشرك" بضم الياء وإسكان الباء ، فمعنى "يبشرك" بالتشديد و"يبشرك" بضم الياء: البشارة . ومعنى "يبشرك" بفتح الياء: يسرك ويفرحك ، يقال: بشرت الرجل أبشره: إذا أفرحته ، وبشر الرجل يبشر: إذا فرح .

    وأنشد الأخفش والكسائي:


    وإذا لقيت الباهشين إلى العلى غبرا أكفهم بقاع ممحل

    فأعنهم وابشر بما بشروا به
    وإذا هم نزلوا بضنك فانزل


    فهذا على بشر يبشر: إذا فرح . وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور ، ومنه قولهم: يلقاني ببشر . أي: بوجه منبسط ، وفي معنى تسميته "يحيى" خمسة أقوال . أحدها: لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه ، قاله ابن عباس . والثاني: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، قاله قتادة . والثالث: لأنه أحياه بين شيخ وعجوز ، قاله مقاتل . والرابع: لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها ، قاله الزجاج . والخامس: لأن الله أحياه بالطاعة ، [ ص: 383 ] فلم يعص ، ولم يهم ، قاله الحسن بن الفضل . وفي "الكلمة" قولان . أحدهما: أنها عيسى ، وسمي كلمة ، لأنه بالكلمة كان ، وهي "كن" وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل . وقيل: إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر ، وقتل يحيى قبل رفع عيسى . والثاني: أن الكلمة كتاب الله وآياته ، وهو قول أبي عبيدة في آخرين ووجهه أن العرب تقول: أنشدني فلان كلمة ، أي: قصيدة . وفي معنى السيد ثمانية أقوال . أحدها: أنه الكريم على ربه قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني: أنه الحليم التقي ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الضحاك . والثالث: أنه الحكيم ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والربيع ، ومقاتل . والرابع: أنه الفقيه العالم ، قاله سعيد بن المسيب . والخامس: أنه التقي ، رواه سالم عن ابن جبير . والسادس: أنه الحسن الخلق ، رواه أبو روق عن الضحاك . والسابع: أنه الشريف ، قاله ابن زيد . والثامن: أنه الذي يفوق قومه في الخير ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري: السيد هاهنا: الرئيس ، والإمام في الخير . فأما "الحصور" فقال ابن قتيبة: هو الذي لا يأتي النساء ، وهو فعول بمعنى مفعول ، كأنه محصور عنهن ، أي: محبوس عنهن . وأصل الحصر: الحبس . ومما جاء على "فعول" بمعنى "مفعول" ركوب بمعنى مركوب ، وحلوب بمعنى محلوب ، وهيوب بمعنى مهيب . واختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النساء؟ على أربعة أقوال . أحدها: أنه لم يكن له ما يأتي به النساء ، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا" قال: ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ عودا صغيرا ، ثم قال: "وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيدا وحصورا" وقال سعيد بن المسيب: كان له كالنواة . [ ص: 384 ] . والثاني: أنه كان لا ينزل الماء ، قاله ابن عباس ، والضحاك . والثالث: أنه كان لا يشتهي النساء ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسدي . والرابع: أنه كان يمنع نفسه من شهواتها ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: (ونبيا من الصالحين) قال ابن الأنباري: معناه: من الصالحي الحال عند الله .
    قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء .

    قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام) أي: كيف يكون؟! .

    قال الكميت:


    أنى ومن أين آبك الطرب


    قال العلماء ، منهم الحسن ، وابن الأنباري ، وابن كيسان: كأنه قال: من أي: وجه يكون لي الولد؟ أيكون بإزالة العقر عن زوجتي ، ورد شبابي؟ أم يأتي ونحن على حالنا؟ فكان ذلك على سبيل الاستعلام ، لا على وجه الشك . قال الزجاج: يقال: غلام بين الغلومية ، وبين الغلامية ، وبين الغلومة . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: الغلام: فعال ، من الغلمة ، وهي شدة شهوة النكاح . ويقال: للكهل: غلام .

    قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:

    [ ص: 385 ]
    غلام إذا هز القناة سقاها


    وكأن قولهم للكهل: غلام ، أي: قد كان مرة غلاما . وقولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل ، أي: سيصير غلاما . قال: وقيل: الغلام الطار الشارب ، ويقال: للجارية: غلامة . قال الشاعر:


    يهان لها الغلامة والغلام


    قوله تعالى: وقد بلغني الكبر أي: وقد بلغت الكبر ، قال الزجاج: كل شيء بلغته فقد بلغك . وفي سنة يومئذ ستة أقوال . أحدها: أنه كن ابن مائة وعشرين سنة ، وامرأته بنت ثمان وتسعين سنة ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه كان ابن بضع وسبعين سنة ، قاله قتادة . والثالث: ابن خمس وسبعين ، قاله مقاتل . والرابع: ابن سبعين ، حكاه فضيل بن غزوان . والخامس: ابن خمس وستين . والسادس: ابن ستين ، حكاهما الزجاج . قال اللغويون: والعاقر من الرجال والنساء: الذي لا يأتيه الولد ، وإنما قال: "عاقرا" ولم يقل: عاقرة ، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث ، والمذكر فيه كالمستعار ، فأجري مجرى "طالق" ، "حائض" هذا قول الفراء .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #73
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (73)
    صــ386 إلى صــ 390

    قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار
    [ ص: 386 ] قوله تعالى: (رب اجعل لي آية) أي: علامة على وجود الحمل . وفي علة سؤاله "آية" قولان . أحدهما: أن الشيطان جاءه ، فقال هذا الذي سمعت من صوت الشيطان ، ولو كان من وحي الله ، لأوحاه إليك ، كما يوحي إليك غيره ، فسأل الآية ، قاله السدي عن أشياخه . والثاني: أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر ، وليتعجل السرور ، لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله ، فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام . فأما "الرمز" فقال الفراء: الرمز بالشفتين ، والحاجبين ، والعينين ، وأكثره في الشفتين . قال ابن عباس: جعل يكلم الناس بيده . وإنما منع من مخاطبة الناس ، ولم يحبس عن الذكر لله تعالى . وقال ابن زيد: كان يذكر الله ، ويشير إلى الناس . وقال عطاء بن السائب: اعتقل لسانه من غير مرض . وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آية على وجود الحمل . وقال قتادة ، والربيع بن أنس: كان ذلك عقوبة له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة .

    قوله تعالى: (وسبح) قال مقاتل: صل . قال الزجاج: يقال: فرغت من سبحتي ، أي: من صلاتي . وسميت الصلاة تسبيحا ، لأن التسبيح تعظيم الله ، وتبرئته من السوء ، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء .

    قوله تعالى: (بالعشي) العشي: من حين نزول الشمس إلى آخر النهار (والإبكار): ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى: قال الشاعر:



    فلا الظل في برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي يذوق


    قال الزجاج: يقال: أبكر الرجل يبكر إبكارا ، وبكر يبكر تبكيرا ، وبكر يبكر [ ص: 387 ] في كل شيء تقدم فيه .
    وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين .

    قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك) قال جماعة من المفسرين: المراد بالملائكة: جبريل وحده . وقد سبق معنى الاصطفاء . وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه التطهير من الحيض ، قاله ابن عباس . وقال السدي: كانت مريم لا تحيض . وقال قوم: من الحيض والنفاس . والثاني: من مس الرجال ، روي عن ابن عباس أيضا . والثالث: من الكفر ، قاله الحسن ، ومجاهد . والرابع: من الفاحشة والإثم ، قاله مقاتل . وفي هذا الاصطفاء الثاني أربعة أقوال . أحدها: أنه تأكيد للأول . والثاني: أن الأول للعبادة ، والثاني: لولادة عيسى عليه السلام . والثالث: أن الاصطفاء الأول اختيار مبهم ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين . والرابع: أنه لما أطلق الاصطفاء الأول ، أبان بالثاني: أنها مصطفاة على النساء دون الرجال . قال ابن عباس ، والحسن ، وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها . قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين .
    يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين .

    قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك) قد سبق شرح القنوت في "البقرة" وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه العبادة ، قاله الحسن . والثاني: طول القيام في الصلاة ، قاله [ ص: 388 ] مجاهد . والثالث: الطاعة ، قاله قتادة ، والسدي ، وابن زيد . والرابع: الإخلاص ، قاله سعيد بن جبير . وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال . أحدها: أن الواو لا تقتضي الترتيب ، وإنما تؤذن بالجمع ، فالركوع مقدم ، قاله الزجاج في آخرين . والثاني: أن المعنى استعملي السجود في حال ، والركوع في حال ، لا أنها يجتمعان في ركعة ، فكأنه حث لها على فعل الخير . والثالث: أنه مقدم ومؤخر ، والمعنى: اركعي واسجدي ، كقوله تعالى: إني متوفيك ورافعك إلي [ آل عمران: 55 ] . ذكرهما ابن الأنباري . والرابع: أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . قال مقاتل: ومعناه: اركعي مع المصلين قراء بيت المقدس . قال مجاهد: سجدت حتى قرحت .
    ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين .

    قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب) "ذلك" إشارة على ما تقدم من قصة زكرياء ، ويحيى ، وعيسى ، ومريم . والأنباء: الأخبار . والغيب: ما غاب عنك . والوحي: كل شيء دللت به من كلام ، أو كتاب ، أو إشارة ، أو رسالة ، قاله ابن قتيبة . والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم بـ"الوجوه والنظائر" مونقة . وفي الأقلام ثلاثة أقوال . أحدها: أنها التي يكتب بها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي . والثاني: أنها العصي ، قاله الربيع بن أنس . والثالث: أنها القداح ، وهو اختيار ابن قتيبة ، وكذلك قال الزجاج: هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة . وإنما قيل للسهم: [ ص: 389 ] القلم ، لأنه يقلم ، أي: يبرى . وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء ، فقد قلمته ، ومنه القلم الذي يكتب به ، لأنه قلم مرة بعد مرة ، ومنه: قلمت أظفاري . قال: ومعنى: (أيهم يكفل مريم) لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم ، وهو الضمان للقيام بأمرها . ومعنى: (لديهم) عندهم وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفا . وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنه قول الله له: "كن" فكان ، قاله ابن عباس ، وقتادة . والثاني: أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى ، حكاه أبو سليمان . والثالث: أن الكلمة اسم لعيسى ، وسمي كلمة ، لأنه كان عن الكلمة . وقال القاضي أبو يعلى: لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى . وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال . أحدها: أنه لم يكن لقدمه أخمص ، والأخمص: ما يتجافى عن الأرض من باطن القدم ، رواه عطاء عن ابن عباس . والثاني: أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث: أنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد . والرابع: أن معنى المسيح: الصديق قاله مجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وذكره اليزيدي . قال أبو سليمان الدمشقي: ومعنى هذا أن الله مسحه ، فطهره من الذنوب . والخامس: أنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها ، ذكره ثعلب . وبيانه: أنه كان كثير السياحة . والسادس: أنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن ، قاله أبو سليمان الدمشقي ، وحكاه ابن القاسم وقال أبو عبيد: المسيح في كلام العرب على معنيين . أحدهما: المسيح الدجال ، والأصل فيه: الممسوح ، لأنه ممسوح أحد العينين . والمسيح عيسى ، وأصله بالعبرانية "مشيحا" بالشين ، فلما عربته العرب ، أبدلت من شينه سينا ، كما قالوا: موسى ، وأصله بالعبرانية موشى . قال ابن الأنباري: وإنما بدأ بلقبه ، فقال: المسيح عيسى بن مريم ، لأن المسيح أشهر من عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم . فأما قوله: عيسى بن مريم ، فإن ما نسبه إلى أمه ، لينفي ما قال عنه الملحدون من النصارى ، إذ أضافوه إلى الله تعالى .

    [ ص: 390 ] قوله تعالى: (وجيها) قال ابن زيد: التوجيه في كلام العرب: المحبب المقبول . وقال ابن قتيبة: الوجيه: ذو الجاه . وقال الزجاج: هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة ، يقال: قد وجه الرجل يوجه وجاهة ، ولفلان جاه عند الناس ، أي: منزلة رفيعة .

    قوله تعالى: (ومن المقربين) قال قتادة: عند الله يوم القيامة . والمهد: مضجع الصبي في رضاعه ، وهو مأخوذ من التمهيد ، وهو التوطئة . وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان . أحدهما: لتبرئه أمه مما قذفت به . والثاني: لتحقيق معجزاته الدالة على نبوته . قال ابن عباس: تكلم ساعة في مهده ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق . (وكهلا) قال: ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى ، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ، ثم رفعه الله . وقال وهب بن منبه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة ، فمكث في نبوته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله . قال ابن الأنباري: كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين ، ومن أربى عليها ، فقد دخل في الكهولة . والكهل عند العرب: الذي قد جاوز الثلاثين ، وإنما سمي الكهل كهلا ، لاجتماع قوته ، وكمال شبابه ، وهو من قولهم: قد اكتهل النبات . وقال ابن فارس: الكهل: الرجل حين وخطه الشيب . فإن قيل: قد علم أن الكهل يتكلم ، فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها: أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره ، أي: أنه يبلغ الكهولة . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: (وكهلا) قال: ذلك بعد نزوله من السماء . والثاني: أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه ، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال ، ولو كان إلها لم يدخل عليه هذا التغير ، ذكره ابن جرير الطبري . والثالث: أن المراد بالكهل: الحليم ، قاله مجاهد .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #74
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (74)
    صــ391 إلى صــ 395

    قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .

    قوله تعالى: (قالت رب أنى يكون لي ولد) في علة قولها هذا قولان . أحدهما: أنها قالت هذا تعجبا واستفهاما ، لا شكا وإنكارا ، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا ، وعلى هذا [ ص: 391 ] الجمهور . والثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل ، وكانت تظنه آدميا يريد بها سوءا ، ولهذا قالت: أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا [ مريم: 18 ] ، فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله ، لأنها لم تعلم أنه ملك ، فلذلك قالت: (أنى يكون لي ولد) قاله ابن الأنباري .

    قوله تعالى: (ولم يمسسني) أي: ولم يقربني زوج ، والمس: الجماع ، قاله ابن فارس . وسمي البشر بشرا ، لظهورهم ، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان ، وأبشرت الأرض: أخرجت نباتها . وبشرت الأديم: إذا قشرت وجهه ، وتباشير الصبح: أوائله . قال: يعني جبريل: (كذلك الله يخلق ما يشاء) أي: بسبب ، وبغير سبب ، وباقي الآية مفسر في "البقرة" .
    ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل .

    قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب) قرأ الأكثرون "ونعلمه" بالنون . وقرأ نافع ، وعاصم بالياء ، فعطفاه على قوله "يبشرك" وفي الكتاب قولان . أحدهما: أنه كتب النبيين وعلمهم ، قاله ابن عباس . والثاني: الكتابة ، قاله ابن جريج ومقاتل . قال ابن عباس: والحكمة: الفقه ، وقضاء النبيين .
    ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .

    قوله تعالى: (ورسولا) قال الزجاج: ينتصب على وجهين . أحدهما: ونجعله رسولا ، والاختيار عندي: ويكلم الناس رسولا .

    قوله تعالى: (أني أخلق) قرأ الأكثرون "أني" بالفتح ، فجعلوها بدلا من آية فكأنه قال: قد جئتكم بأني أخلق لكم ، وقرأ نافع بالكسر ، قال أبو علي: يحتمل وجهين . أحدهما: أن يكون مستأنفا . والثاني: أنه فسر الآية بقوله: أني أخلق ، أي: أصور وأقدر .

    [ ص: 392 ] قال ابن عباس: أخذ طينا ، وصنع منه خفاشا ، ونفخ فيه ، فإذا هو يطير ، ويقال: لم يصنع غير الخفاش ، ويقال: إن بني إسرائيل نعتوه بذلك لأن الخفاش عجيب الخلق . وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفاش . فسألوه أشد الطير خلقا ، لأنه يطير بغير ريش . وقال وهب: كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه ، فإذا غاب عن أعينهم ، سقط ميتا ، ليميز فعل الخلق من فعل الخالق . والأكثرون قرؤوا (فيكون طيرا) وقرأ نافع هاهنا وفي (المائدة) طائرا . قال أبو علي: حجة الجمهور قوله تعالى: (كهيئة الطير) ولم يقل: كهيئة الطائر . ووجهة قراءة نافع: أنه أراد: يكون ما أنفخ فيه ، أو ما أخلقه ، طائرا . وفي "الأكمه" أربعة أقوال . أحدها: أنه الذي يولد أعمى ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وسعيد عن قتادة ، وبه قال اليزيدي ، وابن قتيبة ، والزجاج . والثاني: أنه الأعمى ، ذكره ابن جريج عن ابن عباس ، ومعمر عن قتادة ، وبه قال الحسن ، والسدي . وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه: هو الذي يولد أعمى ، وهو الذي يعمى ، وإن كان بصيرا . والثالث: أنه الأعمش ، قاله عكرمة . والرابع: أنه الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، قاله مجاهد والضحاك . والأبرص: الذي به وضح . وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام ، علم الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك ، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص ، وكان ذلك دليلا على صدقه . قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا ، وإنما كان يداويهم بالدعاء . وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموت . وعن ابن عباس: أن الأربعة كلهم بقي حتى ولد له ، إلا سام بن نوح .

    قوله تعالى: (وأنبئكم بما تأكلون) قال سعيد بن جبير : كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون ، ويقول للغلام: يا غلام إن أهلك قد هيئوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه؟ وقال مجاهد: بما أكلتم البارحة ، وبما خبأتم منه . وعلى هذا المفسرون ، إلا أن [ ص: 393 ] قتادة كان يقول: وأنبئكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها ، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها ، ولا يدخروا ، فلما خانوا ، مسخوا خنازير .
    ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم .

    قوله تعالى: (ومصدقا لما بين يدي) قال الزجاج: نصب "مصدقا" على الحال ، أي: وجئتكم مصدقا (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) قال قتادة: كان قد حرم عليهم موسى الإبل والثروب وأشياء من الطير ، فأحلها عيسى .

    قوله تعالى: (وجئتكم بآية) أي: بآيات تعلمون بها صدقي ، وإنما وحد ، لأن الكل من جنس واحد (من ربكم) أي: من عند ربكم .
    فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون .

    قوله تعالى: (فلما أحس عيسى) أي: علم . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أحسست بالشيء ، وحسست به ، وقول الناس في المعلومات "محسوسات" خطأ ، إنما الصواب "المحسات" فأما المحسوسات ، فهي المقتولات ، يقال: حسه: إذا قتله . والأنصار: الأعوان . و"إلى" بمعنى "مع" في قول الجماعة ، قال الزجاج: وإنما حسنت في موضع "مع" لأن "إلى" غاية و"مع" تضم الشيء بالشيء . قال ابن الأنباري: ويجوز أن [ ص: 394 ] يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله . واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين ، فقال مجاهد: لما كفر به قومه ، وأرادوا قتله ، استنصر الحواريين . وقال غيره: لما كفروا به ، وأخرجوه من قريتهم ، استنصر الحواريين . وقيل: استنصرهم لإقامة الحق ، وإظهار الحجة . والجمهور على تشديد "ياء" الحواريين . وقرأ الجوني ، والجحدري ، وأبو حيوة: الحواريون بتخفيف الياء . وفي معنى الحواريين ستة أقوال . أحدها: أنهم الخواص الأصفياء ، قال ابن عباس: الحواريون: أصفياء عيسى . وقال الفراء: كانوا خاصة عيسى . وقال الزجاج: الحواريون في اللغة: الذين أخلصوا ، ونقوا من كل عيب ، وكذلك الدقيق: الحواري ، إنما سمي بذلك ، لأنه ينقى من لباب البر وخالصه . قال حذاق اللغويين: الحواريون: صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم . ويقال: عين حوراء: إذا اشتد بياضها . وخلص ، واشتد سوادها ، ولا يقال: امرأة حوراء ، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء . والثاني: أنهم البيض الثياب ، روى سعيد بن جبير . عن ابن عباس أنهم سموا بذلك ، لبياض ثيابهم . والثالث: أنهم القصارون ، سموا بذلك ، لأنهم كانوا يحورون الثياب ، أي: يبيضونها . قال الضحاك ، ومقاتل: الحواريون: هم القصارون . قال اليزيدي: ويقال: للقصارين: الحواريون ، لأنهم يبيضون الثياب ، ومنه سمي الدقيق: الحوارى ، والعين الحوراء: النقية المحاجر . والرابع: الحواريون: المجاهدون .

    وأنشدوا:


    ونحن أناس يملأ البيض هامنا ونحن حواريون حين نزاحف

    [ ص: 395 ] جماجمنا يوم اللقاء تراسنا
    إلى الموت نمشي ليس فينا تحانف


    والخامس: الحواريون: الصيادون . والسادس: الحواريون: الملوك ، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري . قال ابن عباس: وعدد الحواريين اثنا عشر رجلا . وفي صناعتهم قولان . أحدهما ، أنهم كانوا يصطادون السمك ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: أنهم كانوا يغسلون الثياب ، قاله الضحاك ، وأبو أرطأة .
    ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .

    قوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت) هذا قول الحواريين . والذي أنزل: الإنجيل والرسول: عيسى . وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال . أحدها: أنهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني: أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: أنهم الأنبياء ، لأن كل نبي شاهد أمته ، قاله عطاء . والرابع: أن الشاهدين: الصادقون ، قاله مقاتل . والخامس: أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتصديق . فمعنى الآية: صدقنا ، واعترفنا ، فاكتبنا مع من فعل فعلنا ، هذا قول الزجاج .
    ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين .

    قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله) قال الزجاج: المكر من الخلق: خبث وخداع ، ومن الله عز وجل: المجازاة ، فسمي باسم ذلك ، لأنه مجازاة عليه ، كقوله تعالى: الله يستهزئ بهم [ البقرة: 15 ] ، والله خير الماكرين [ آل عمران: 54 ] ، لأن مكره مجازاة ، ونصر للمؤمنين . قال ابن عباس: ومكرهم ، أن اليهود أرادوا قتل عيسى ، فدخل خوخة ، فدخل رجل منهم ، فألقى عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى إلى السماء ، فلما خرج إليهم ، ظنوه عيسى ، فقتلوه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #75
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (75)
    صــ396 إلى صــ 400

    إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون .

    قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك) قال ابن قتيبة: التوفي ، من استيفاء العدد ، يقال: توفيت ، واستوفيت ، كما يقال: تيقنت الخبر ، واستيقنته ، ثم قيل للموت: وفاة ، وتوف . وأنشد أبو عبيدة:


    إن بني الأدرد ليسوا من أحد ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد

    ولا توفاهم قريش في العدد


    أي: لا تجعلهم وفاء لعددها ، والوفاء: التمام . وفي هذا التوفي قولان . أحدهما: أنه الرفع إلى السماء . والثاني: أنه الموت . فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيما من غير تقديم وتأخير ، ويكون معنى "متوفيك" قابضك من الأرض وافيا تاما من غير أن ينال منك اليهود شيئا ، هذا قول الحسن ، وابن جريج ، وابن قتيبة ، واختاره الفراء ، ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى: فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [ المائدة: 117 ] ، أي: [ ص: 397 ] رفعتني إلى السماء من غير موت ، لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه ، لا بعد موته . وعلى القول الثاني: يكون في الآية تقديم وتأخير ، تقديره: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد ذلك ، هذا قول الفراء ، والزجاج في آخرين . فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعه إلى السماء لا يمنع من موته . قال سعيد بن المسيب: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . وقال مقاتل: رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان . وقيل: عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين . ويقال: ماتت قبل رفعه .

    قوله تعالى: (ومطهرك من الذين كفروا) فيه قولان . أحدهما: أنه رفعه من بين أظهرهم . والثاني: منعهم من قبله . وفي الذين اتبعوه قولان . أحدهما: أنهم المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم صدقوا بنبوته ، وأنه روح الله وكلمته ، هذا قول قتادة ، والربيع ، وابن السائب . والثاني: أنهم النصارى ، فهم فوق اليهود ، واليهود مستذلون مقهورون ، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: (فيما كنتم فيه تختلفون) يعني الدين .
    فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين .

    قوله تعالى: (فأما الذين كفروا) قيل: هم اليهود والنصارى ، وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية ، وفي الآخرة بالنار .
    وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين .

    قوله تعالى: (فيوفيهم أجورهم) قرأ الأكثرون بالنون ، وقرأ الحسن ، وقتادة ، وحفص عن عاصم: فيوفيهم بالياء معطوفا على قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى) .
    ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم

    [ ص: 398 ] قوله تعالى: (ذلك نتلوه عليك) يعني ما جرى من القصص . (من الآيات) يعني الدلالات على صحة رسالتك ، إذ كانت أخبارا لا يعلمها أمي . (والذكر الحكيم) قال ابن عباس: هو القرآن . قال الزجاج: معناه: ذو الحكمة في تأليفه ونظمه ، وإبانة الفوائد منه .
    إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .

    قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية ، مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم ، في أمر عيسى ، وقد ذكرناه في أول السورة . فأما تشبيه عيسى بآدم ، فلأنهما جميعا من غير أب .

    قوله تعالى: (خلقه من تراب) يعني: آدم . قال ثعلب: وهذا تفسير لأمر آدم . وليس بحال .

    قوله تعالى: (ثم قال له) يعني لآدم ، وقيل لعيسى (كن فيكون) أي: فكان: فأريد بالمستقبل الماضي ، كقوله تعالى: واتبعوا ما تتلو الشياطين أي: ما تلت الشياطين .
    الحق من ربك فلا تكن من الممترين .

    قوله تعالى: (الحق من ربك) قال الزجاج: الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف ، المعنى: الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك (فلا تكن من الممترين) أي: الشاكين والخطاب للنبي خطاب للخلق ، لأنه لم يشك .
    فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين [ ص: 399 ] قوله تعالى: (فمن حاجك فيه) في "هاء" فيه قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى عيسى . والثاني: إلى الحق . والعلم: البيان والإيضاح .

    قوله تعالى: (فقل تعالوا) قال ابن قتيبة: تعالى: تفاعل ، من علوت ، ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا ، وللنساء: تعالين ، قال الفراء: أصلها من العلو ، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها ، صارت عندهم بمنزلة "هلم" حتى استجازوا أن يقولوا للرجل ، وهو فوق شرف: تعالى ، أي: اهبط . وإنما أصلها: الصعود . قال المفسرون: أراد بأبنائنا: فاطمة والحسن ، والحسين . وروى مسلم في "صحيحه" من حديث سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" .

    قوله تعالى: (وأنفسنا) فيه خمسة أقوال . أحدها: أراد علي بن أبي طالب ، قاله الشعبي . والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس ابن عمه . والثاني: أراد الأخوان ، قاله ابن قتيبة . والثالث: أراد أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والرابع: أراد الأزواج . والخامس: أراد القرابة القريبة ، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري . فأما الابتهال ، فقال ابن قتيبة: هو التداعي باللعن ، يقال: عليه بهله الله . وبهلته أي: لعنته . وقال الزجاج: معنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدعاء ، وأصله: الالتعان ، يقال: بهله الله ، أي: لعنه . وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة . قال جابر بن عبد الله: قدم وفد نجران فيهم السيد والعاقب ، فذكر الحديث . إلى أن قال: فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه أن يفادياه ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين . ثم أرسل إليهما ، فأبيا أن يجيباه ، فأقرا له بالخراج ، فقال: [ ص: 400 ] والذي يعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهم نارا .
    إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم .

    قوله تعالى: (وما من إله إلا الله) قال الزجاج: دخلت "من" هاهنا توكيدا ودليلا على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة .

    فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين .

    قوله تعالى: (فإن تولوا) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: عن الملاعنة ، قاله مقاتل . والثاني: أنه عن البيان الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج . والثالث: عن الإقرار بوحدانية الله ، وتنزيهه عن الصاحبة والولد ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي الفساد هاهنا قولان . أحدهما: أنه العمل بالمعاصي ، قاله مقاتل . والثاني: الكفر ، ذكره الدمشقي .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #76
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (76)
    صــ401 إلى صــ 405

    قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

    قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم اليهود ، قاله قتادة ، وابن جريج ، والربيع بن أنس . والثاني: وفد نجران الذين حاجوا في عيسى ، قاله السدي ومقاتل . والثالث: أهل الكتابين جميعا ، قاله الحسن . وقال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان ، فبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس ، وأشراف الحبشة . فأما "الكلمة" فقال المفسرون هي: لا إله إلا الله . فإن قيل: [ ص: 401 ] فهذه كلمات ، فلم قال كلمة؟ فعنه جوابان . أحدهما: أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات . قال اللغويون: ومعنى كلمة: كلام فيه شرح قصة وإن طال ، تقول العرب: قال زهير في كلمته يراد في قصيدته .

    قالت الخنساء:


    وقافية مثل حد السنا ن تبقى ويذهب من قالها

    تقد الذؤابة من يذبل
    أبت أن تزايل أوعالها

    نطقت ابن عمرو فسهلتها
    ولم ينطق الناس أمثالها


    فأوقعت القافية على القصيدة كلها ، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة من البيت ، وإنما سميت قافية ، لإن الكلمة تتبع البيت ، وتقع آخره ، فسميت قافية من قول العرب: قفوت فلانا: إذا اتبعته ، وإلى هذا الجواب يذهب الزجاج وغيره . والثاني: أن المراد بالكلمة: كلمات ، فاكتفى بالكلمة من كلمات ، كما قال علقمة بن عبدة:


    بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب


    أراد: وأما جلودها ، فاكتفى بالواحد من الجمع ، ذكره والذي قبله ابن الأنباري .

    قوله تعالى: (سواء بيننا وبينكم) قال الزجاج: يعني بالسواء العدل ، وهو من استواء الشيء ، ويقال: للعدل سواء وسواء وسواء [ ص: 402 ] قال زهير بن أبي سلمى:


    أروني خطة ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء


    فإن تدعوا السواء فليس بيني وبينكم بني حصن بقاء


    قال: وموضع "أن" في قوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا الله) خفض على البدل من "كلمة" المعنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله . وجائز أن يكون "أن" في موضع رفع ، كأن قائلا قال: ما الكلمة؟ فأجيب ، فقيل: هي ألا نعبد إلا الله .

    قوله تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه سجود بعضهم لبعض ، قاله عكرمة . والثاني: لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله ، قاله ابن جريج . والثالث: أن نجعل غير الله ربا ، كما قالت النصارى في المسيح ، قاله مقاتل والزجاج .
    يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .

    قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) قال ابن عباس ، والحسن ، والسدي: اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران ، وأحبار اليهود ، فقال هؤلاء: ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقال هؤلاء: ما كان إلا نصرانيا . فنزلت هذه الآية .

    ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ ص: 403 ] قوله تعالى: (ها أنتم) قرأ ابن كثير "هأنتم" مثل: هعنتم ، فأبدل من همزة الاستفهام "الهاء" أراد: أأنتم . وقرأ نافع وأبو عمرو و"هانتم" ممدودا ، استفهام بلا همزة ، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي . "ها أنتم" ممدودا مهموزا ، ولم يختلفوا في مد "هؤلاء" و"أولاء" .

    قوله تعالى: (فيما لكم به علم) فيه قولان . أحدهما: أنه ما رأوا وعاينوا ، قاله قتادة . والثاني: ما أمروا به ، ونهوا عنه ، قاله السدي . فأما الذي ليس لهم به علم ، فهو شأن إبراهيم عليه السلام . وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى ، خمسمائة وخمس وسبعون سنة . وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة . وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة . وقد سبق في (البقرة) معنى الحنيف .
    ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .

    قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن رؤساء اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ، وأنه كان يهوديا ، وما بك إلا الحسد ، فنزلت هذه الآية . ومعناها: أحق الناس بدين إبراهيم ، الذين اتبعوه على دينه ، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم على دينه ، قاله ابن عباس . والثاني: أن عمرو بن العاص أراد أن يغضب النجاشي على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال للنجاشي: إنهم ليشتمون عيسى . فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا: يقول: إنه عبد الله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم . فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين ، فقال: والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يزن هذا القذى ، ثم قال: أبشروا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم .

    [ ص: 404 ] قال عمرو بن العاص : ومن حزب إبراهيم؟ قال هؤلاء الرهط وصاحبهم . فأنزل الله يوم خصومتهم على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، هذا قول عبد الرحمن بن غنم
    ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون .

    قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل ، وعمار بن ياسر: تركتما دينكما ، واتبعتما دين محمد ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والطائفة: اسم لجماعة مجتمعين على ما اجتمعوا عليه من دين ، ورأي ، ومذهب ، وغير ذلك . وفي هذه الطائفة قولان . أحدهما: أنهم اليهود ، قاله ابن عباس . والثاني: اليهود والنصارى ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والضلال: الحيرة . وفيه هاهنا قولان . أحدهما: أنه الاستنزال عن الحق إلى الباطل ، وهو قول ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: الإهلاك ، ومنه أإذا ضللنا في الأرض [ السجدة: 10 ] . قاله ابن جرير ، والدمشقي . وفي قوله: (وما يشعرون) قولان . أحدهما: وما يشعرون أن الله يدل المؤمنين على حالهم ، والثاني: وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم .
    يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون .

    قوله تعالى: (لم تكفرون بآيات الله) قال قتادة: يعني: محمدا والإسلام (وأنتم تشهدون) أن بعث محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به .
    يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون .

    قوله تعالى: (لم تلبسون الحق بالباطل) قال اليزيدي: معناه: لم تخلطون الحق بالباطل؟ قال ابن فارس: واللبس: اختلاط الأمر ، وفي الأمر لبسة ، أي: ليس بواضح .

    [ ص: 405 ] وفي الحق والباطل أربعة أقوال . أحدها: أن الحق: إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، والباطل: كتمانهم بعض أمره . والثاني: الحق: إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم غدوة ، والباطل: كفرهم به عشية ، رويا عن ابن عباس . والثالث: الحق: التوراة ، والباطل: ما كتبوه فيها بأيديهم ، قاله الحسن ، وابن زيد . والرابع: الحق: الإسلام ، والباطل: اليهودية والنصرانية ، قاله قتادة .

    قوله تعالى: (وتكتمون الحق) قال قتادة: كتموا الإسلام ، وكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #77
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (77)
    صــ406 إلى صــ 410

    وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون .

    قوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب) في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار ، فآمنوا ، وإذا كان آخره ، فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فينقلبون عن دينهم ، رواه عطية عن ابن عباس . وقال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر حبرا من اليهود ، فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار ، واكفروا آخره ، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمدا ليس بذلك ، فيشك أصحابه في دينهم ، ويقولون: هم أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فيرجعون إلى دينكم ، فنزلت هذه الآية . وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور . والثاني: أن الله تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر ، فقال قوم من علماء اليهود: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) يقولون: آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح ، واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار ، لعلهم يرجعون إلى قبلتكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، قال مجاهد ، وقتادة ، والزجاج في آخرين: وجه النهار: أوله .

    وأنشد الزجاج:


    من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار

    [ ص: 406 ] يجد النساء حواسرا يندبنه
    قد قمن قبل تبلج الأسحار

    ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم .

    قوله تعالى: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال . أحدها: أن معناه: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مما أوتيتم من العلم ، وفلق البحر ، والمن ، والسلوى ، وغير ذلك ، ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم ، لأنكم أصح دينا منهم ، فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم ، وتكون اللام في "لمن" صلة ، ويكون قوله تعالى: (قل إن الهدى هدى الله) كلاما معترضا بين كلامين ، هذا معنى قول مجاهد ، والأخفش . والثاني: أن كلام اليهود تام عند قوله: (لمن تبع دينكم) والباقي من قول الله تعالى ، لا يعترضه شيء من قولهم ، وتقديره: قل يا محمد: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ، إلا أن تجادلكم اليهود بالباطل ، فيقولون: نحن أفضل منكم ، هذا معنى قول الحسن ، وسعيد بن جبير . قال الفراء: [ ص: 407 ] معنى "أن يؤتى": أن لا يؤتى . والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، إلا من تبع دينكم ، فأخرت "أن" وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير ، ودخلت اللام على جهة التوكيد ، كقوله تعالى: عسى أن يكون ردف لكم [ النمل: 72 ] أي: ردفكم .

    وقال الشاعر:


    ما كنت أخدع للخليل بخلة حتى يكون لي الخليل خدوعا


    أراد: ما كنت أخدع الخليل .

    وقال الآخر:


    يذمون الدنيا وهم يحلبونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل


    أراد: يذمون الدنيا ، ذكره ابن الأنباري . والرابع: أن اللام غير زائدة ، والمعنى: لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود ، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين ، كان عونا لهم على تصديقه ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري: لا تؤمنوا أن محمدا وأصحابه على حق إلا لمن تبع دينكم ، مخافة أن يطلع على عنادكم الحق ، ويحاجوكم به عند ربكم . فعلى هذا يكون معنى الكلام: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي . وقرأ ابن كثير: أان يؤتى بهمزتين ، الأولى مخففة ، والثانية ملينة على الاستفهام ، مثل: أأنتم أعلم . قال أبو علي: ووجهها أن "أن" في موضع رفع بالابتداء ، وخبره: يصدقون به ، أو يعترفون به ، أو يذكرونه لغيركم ، ويجوز أن يكون [ ص: 408 ] موضع "أن" نصبا ، فيكون المعنى: أتشيعون ، أو أتذكرون أن يؤتى أحد ، ومثله في المعنى: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) [ البقرة: 76 ] . وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف: أن يؤتى ، بكسر الهمزة ، على معنى: ما يؤتى . وفي قوله تعالى: (أو يحاجوكم عند ربكم) قولان . أحدهما: أن معناه: ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم ، لأنهم لا حجة لهم ، قاله قتادة . والثاني: أن معناه: حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبد ، كما يقال: لا يلقاه أو تقوم الساعة ، قاله الكسائي .

    قوله تعالى: (إن الفضل بيد الله) قال ابن عباس: يعني النبوة ، والكتاب ، والهدى (يؤتيه من يشاء) لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم .
    يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

    قوله تعالى: (يختص برحمته من يشاء) في الرحمة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها الإسلام ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: النبوة ، قاله مجاهد . والثالث: القرآن والإسلام ، قاله ابن جريج .
    ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .

    قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار) قال ابن عباس: أودع رجل ألفا ومئتي أوقية من ذهب عبد الله بن سلام ، فأداهما إليه ، فمدحه الله بهذه الآية ، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء دينارا ، فخانه . وأهل الكتاب: اليهود . وقد سبق الكلام في القنطار . وقيل: إن "الباء" في قوله: "بقنطار" بمعنى "على" فأما الدينار ، فقرأت على [ ص: 409 ] شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال: الدينار فارسي معرب ، وأصله: دنار ، وهو وإن كان معربا ، فليس تعرف له العرب اسما غير الدينار ، فقد صار كالعربي ، ولذلك ذكره الله تعالى في كتابه ، لأنه خاطبهم بما عرفوا . واشتقوا منه فعلا ، فقالوا: رجل مدنر: كثير الدنانير . وبرذون مدنر: أشهب مستدير النقش ببياض وسواد . فإن قيل: لم خص أهل الكتاب بأن فيهم خائنا وأمينا والخلق على ذلك ، فالجواب: أنهم يخونون المسلمين استحلالا لذلك ، وقد بينه في قوله تعالى: (ليس علينا في الأميين سبيل) فحذر منهم . وقال مقاتل: الأمانة ترجع إلى من أسلم منهم ، والخيانة إلى من لم يسلم . وقيل: إن الذين يؤدون الأمانة: النصارى ، والذين لا يؤدونها: اليهود .

    قوله تعالى: (إلا ما دمت عليه قائما) قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: دمت ودمتم ، ومت ومتم . وتميم يقولون: مت ودمت بالكسر ، ويجتمعون في "يفعل" يدوم ويموت . وفي هذا القيام قولان . أحدهما: أنه التقاضي ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال ابن قتيبة: والمعنى: ما دمت مواظبا بالاقتضاء له والمطالبة . وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه ، ويتصرف . والتارك له يقعد عنه . [قال الأعشى:


    يقوم على الرغم في قومه فيعفوا إذا شاء أو ينتقم


    أي: يطالب بالذحل ولا يقعد عنه . قال تعالى: (ليسوا سواء) ] من أهل الكتاب أمة قائمة [ آل عمران: 113 ] . أي: علامة غير تاركه ، وقال تعالى: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ الرعد: 33 ] . أي: آخذ لها بما كسبت . والثاني: أنه القيام حقيقة ، فتقديره: إلا ما دمت قائما على رأسه ، فإنه يعترف بأمانته ، فإذا ذهبت ، ثم جئت ، جحدك ، قاله السدي .

    قوله تعالى: (ذلك) يعني: الخيانة . والسبيل: الإثم والحرج ، ونظيره ما على [ ص: 410 ] المحسنين من سبيل [ التوبة: 91 ] قال قتادة: إنما استحل اليهود أموال المسلمين ، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب .

    قوله تعالى: (ويقولون على الله الكذب) قال السدي: يقولون: قد أحل الله لنا أموال العرب .

    قوله تعالى: (وهم يعلمون) قولان . أحدهما: يعلمون أن الله قد أنزل في التوراة الوفاء ، وأداء الأمانة . والثاني: يقولون الكذب ، وهم يعلمون أنه كذب .
    بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين .

    قوله تعالى: (بلى) رد الله عز وجل عليهم قولهم: (ليس علينا في الأميين سبيل) بقوله: (بلى) قال الزجاج: وهو عندي وقف التمام ، ثم استأنف ، فقال: (من أوفى بعهده) ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله: (بلى من أوفى) . والعهد: ما عاهدهم الله عز وجل عليه في التوراة . وفي "هاء" (عهده) قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى . والثاني: إلى الموفي .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #78
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (78)
    صــ411 إلى صــ 415

    إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .

    قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض ، فجحده اليهودي ، فقدمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال [له ]: "ألك بينة"؟ قال: لا . قال لليهودي: "أتحلف"؟ فقال [ ص: 411 ] الأشعث: إذا يحلف فيذهب بمالي . فنزلت هذه الآية . أخرجه البخاري ومسلم . والثاني: أنها نزلت في اليهود ، عهد الله إليهم في التوراة تبيين صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا ، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا ، هذا قول عكرمة ، ومقاتل . والثالث: أن رجلا أقام سلعته في السوق أول النهار ، فلما كان آخره ، جاء رجل ، يساومه ، فحلف: لقد منعها أول النهار من كذا ، ولولا المساء لما باعها به ، فنزلت هذا الآية ، هذا قول الشعبي ، ومجاهد . فعلى القول الأول ، والثالث: العهد: لزوم الطاعة ، وترك المعصية ، وعلى الثاني: ما عهده إلى اليهود في التوراة . واليمين: الحلف . وإن قلنا: إنها في اليهود ، والكفار ، فإن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلا . وإن قلنا: إنها في العصاة ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا يكلمهم الله كلام خير . ومعنى (ولا ينظر إليهم) ، أي: لا يعطف عليهم بخير مقتا لهم ، قال الزجاج: تقول: فلان لا ينظر إلى فلان ، ولا يكلمه ، معناه: أنه غضبان عليه .

    قوله تعالى: (ولا يزكيهم) أي: لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم .
    وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .

    قوله تعالى: (وإن منهم لفريقا) اختلفوا فيمن نزلت على قولين . أحدهما: أنها نزلت في اليهود ، رواه عطية عن ابن عباس . والثاني: في اليهود والنصارى ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس .

    [ ص: 412 ] قوله تعالى: (وإن) هي كلمة مؤكدة ، واللام في قوله: "لفريقا" بتوكيد زائد على توكيد "إن" قال ابن قتيبة: ومعنى (يلوون ألسنتهم): يقلبونها بالتحريف والزيادة . والألسنة: جمع لسان ، قال أبو عمرو: واللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكره جمعه: ألسنة ، ومن أنثه جمعه: ألسنا . وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكرا . وتقول العرب: سبق من فلان لسان ، يعنون به الكلام ، فيذكرونه .

    وأنشد ابن الأعرابي:


    لسانك معسول ونفسك شحة وعند الثريا من صديقك مالكا


    وأنشد ثعلب:


    ندمت على لسان كان مني فليت بأنه في جوف عكم


    والعكم: العدل . ودل بقوله: كان مني ، على أن اللسان الكلام .

    وأنشد ثعلب:


    أتتني لسان بني عامر أحاديثها بعد قول نكر


    فأنث اللسان ، لأنه عنى الكلمة والرسالة .
    ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون
    [ ص: 413 ] قوله تعالى: ما كان لبشر في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن قوما من رؤساء اليهود والنصارى ، قالوا: يا محمد أتريد أن نتخذك ربا؟ فقال: معاذ الله ، ما بذلك بعثني ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والثاني: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا نسجد لك؟ قال: "لا فإنه لا ، ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله" فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن البصري . والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى . قاله الضحاك ، ومقاتل . وفيمن عنى بـ"البشر" قولان . أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم . والكتاب: القرآن ، قاله ابن عباس ، وعطاء . والثاني: عيسى ، والكتاب: الإنجيل ، قاله الضحاك ، ومقاتل . والحكم: الفقه والعلم ، قاله قتادة في آخرين . قال الزجاج: ومعنى الآية: لا يجتمع لرجل نبوة ، والقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله ، لأن الله لا يصطفي الكذبة .

    قوله تعالى: (ولكن كونوا) أي: ولكن يقول لهم: كونوا ، فحذف القول لدلالة الكلام عليه .

    فأما الربانيون ، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ، ويربونهم عليها . وقال ابن عباس ، وابن جبير: هم الفقهاء المعلمون . وقال قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء . قاله ابن قتيبة: واحدهم رباني ، وهم العلماء المعلمون . وقال أبو عبيد: أحسب الكلمة ليست بعربية ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين . قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء ، وأهل العلم ، قال: وسمعت رجلا عالما بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام ، والأمر والنهي . وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين: الرباني: منسوب إلى الرب ، لأن العلم: مما يطاع الله به ، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة ، كما قالوا: رجل لحياني: إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية .

    [ ص: 414 ] قوله تعالى: (بما كنتم تعلمون الكتاب) قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو: تعلمون ، بإسكان العين ، ونصب اللام . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: تعلمون مثقلا ، وكلهم قرؤوا: "تدرسون" خفيفة . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين ، وسيعد بن جبير ، وطلحة بن مصرف ، وأبو حيوة: تدرسون ، بضم التاء مع التشديد . والدراسة: القرآءة . قال الزجاج: ومعنى الكلام: ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدي العلماء والحكماء ، لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه .
    ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .

    قوله تعالى: (ولا يأمركم أن) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وخلف ، ويعقوب ، وعاصم في بعض الروايات عنه ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، واليزيدي في اختياره ، بنصب الراء . وقرأ الباقون برفع الراء ، فمن نصب كان المعنى: وما كان لبشر أن يأمركم ، ومن رفع قطعه مما قبله . قال ابن جريج: ولا يأمركم محمد .
    وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين .

    قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) قال الزجاج: موضع "إذ" نصب ، المعنى: واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله . قال ابن عباس: والميثاق: العهد . وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان . أحدهما: أنه تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ، روي عن علي ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي . والثاني: أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمنن بما جاء به الآخر منهم ، قاله [ ص: 415 ] طاووس . قال مجاهد ، والربيع بن أنس: هذه الآية خطأ من الكتاب ، وهي في قراءة ابن مسعود: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) واحتج الربيع بقوله تعالى: (ثم جاءكم رسول) وقال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين ، وأممهم ، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم ، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع ، وهذا معنى قول ابن عباس ، والزجاج .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #79
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (79)
    صــ416 إلى صــ 420

    واختلف العلماء في لام "لما" فقرأ الأكثرون "لما" بفتح اللام والتخفيف ، وقرأ حمزة مثلها ، إلا أنه كسر اللام ، وقرأ سعيد بن جبير "لما" مشددة الميم ، فقراءة ابن جبير ، معناها: حين آتيتكم . وقال الفراء في قراءة حمزة: يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم ، ثم جعل قوله: (لتؤمنن به) من الأخذ . قال الفراء: ومن نصب اللام جعلها زائدة . و"ما" هاهنا بمعنى الشرط والجزاء ، فالمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة . قال ابن الأنباري: اللام في قوله تعالى: (لما آتيتكم) على قراءة من شدد أو كسر: جواب لأخذ الميثاق قال: لأن أخذ الميثاق يمين ، وعلى قراءة من خففها ، معناها: القسم ، وجواب القسم اللام في قوله (لتؤمنن به) . وإنما خاطب ، فقال: آتيتكم . بعد أن ذكر [ ص: 416 ] النبيين وهم غيب ، لأن في الكلام معنى قول وحكاية ، فقال مخاطبا لهم: لما آتيتكم وقرأ نافع "آتيناكم" بالنون والألف .

    قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول) قال علي رضي الله عنه: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد ، إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه . وقال غيره: أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا . والإصر هاهنا: العهد في قول الجماعة . قال ابن قتيبة: أصل الإصر: الثقل ، فسمي العهد إصرا ، لأنه منع من الأمر الذي أخذ له ، وثقل وتشديد . وكلهم كسر ألف "إصري" . وروى أبو بكر ، عن عصام ضمه . قال أبو علي: يشبه أن يكون الضم لغة .

    قوله تعالى: (قال فاشهدوا) قال ابن فارس: الشهادة: الإخبار بما شوهد . وفيمن خوطب بهذا قولان . أحدهما: أنه خطاب للنبيين ، ثم فيه قولان . أحدهما: أنه معناه: فاشهدوا على أممكم ، قاله علي بن أبي طالب . والثاني: فاشهدوا على أنفسكم ، قاله مقاتل . والثاني: أنه خطاب للملائكة ، قاله سعيد بن المسيب . فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور .
    فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون .

    قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون) قرأ أبو عمرو: "يبغون بالياء مفتوحة . (وإليه ترجعون) بالتاء مضمومة ، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين . وروى حفص عن عاصم: "يبغون" و"يرجعون" بالياء فيهما ، وفتح الياء وكسر الجيم يعقوب على أصله . قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين ، فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم" . فغضبوا ، وقالوا: والله لا نرضى بقضائك ، ولا نأخذ بدينك ، فنزلت هذه الآية . والمراد بدين الله ، دين محمد صلى الله عليه وسلم . (وله أسلم) انقاد ، وخضع (طوعا وكرها) الطوع: الانقياد بسهولة ، والكره: الانقياد بمشقة وإباء من النفس .

    [ ص: 417 ] وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال . أحدها: أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعا وكرها ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، والأعمش عن مجاهد ، وبه قال السدي . والثاني: أن المؤمن يسجد طائعا ، والكافر يسجد ظله وهو كاره ، روي عن ابن عباس ، ورواه ابن أبي نجيح ، وليث عن مجاهد . والثالث: أن الكل أقروا له بأنه الخالق ، وإن أشرك بعضهم ، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه ، هذا قول أبي العالية ، ورواه منصور عن مجاهد . والرابع: أن المؤمن أسلم طائعا ، والكافر أسلم مخافة السيف ، هذا قول الحسن . والخامس: أن المؤمن أسلم طائعا ، والكافر أسلم حين رأى بأس الله ، فلم ينفعه في ذلك الوقت ، هذا قول قتادة . والسادس: أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلتهم ، لا يقدر أحد أن يمتنع من جبلة جبله عليها ، ولا على تغييرها ، هذا قول الزجاج ، وهو معنى قول الشعبي: انقاد كلهم له .
    قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

    قوله تعالى: (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن رجلا من الأنصار ارتد ، فلحق بالمشركين ، فنزلت هذه الآية ، إلى قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) فكتب بها قومه إليه ، فرجع تائبا [فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، وخلى عنه ] [ ص: 418 ] رواه عكرمة عن ابن عباس . وذكر مجاهد ، والسدي أن اسم ذلك الرجل: الحارث بن سويد . والثاني: أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا ، فيهم الحارث بن سويد ، فندم ، فرجع . رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل . والثالث: أنها في أهل الكتاب ، عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كفروا به . رواه عطية عن ابن عباس . وقال الحسن: هم اليهود والنصارى . وقيل: إن "كيف" هاهنا لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها الجحد ، أي: لا يهدي الله هؤلاء .
    خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم .

    قوله تعالى: (خالدين فيها) قال الزجاج: أي: في عذاب اللعنة (ولا هم ينظرون) أي: يؤخرون عن الوقت . قال: ومعنى: (أصلحوا) أي: أظهروا أنهم كانوا على ضلال ، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه ، وغروا به من تبعهم ممن لا علم له .

    فصل

    وهذه الآية استثنت من تاب ممن لم يتب وقد زعم قوم أنها نسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد ، وليس بنسخ .
    إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون [ ص: 419 ] قوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد ، فإنهم قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن ، قاله الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني . والثالث: أنها نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته ، ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم ، قاله أبو العالية . قال الحسن: كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كفرا . وفي علة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال . أحدها: أنهم ارتدوا ، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم ، والكفر في ضمائرهم ، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك ، ولم يتوبوا من الشرك ، قاله أبو العالية . والثالث: أن: معناه: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والسدي . والرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر ، قاله مجاهد .
    إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين .

    قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حيا في الإسلام ، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافرا . قال الزجاج: وملء الشيء: مقدار ما يملؤه . قال سيبويه ، والخليل: والملء بفتح الميم: الفعل تقول ملأت الشيء أملؤه ملأ ، المصدر بالفتح لا غير . والملاءة: التي تلبس ممدودة . والملاوة من الدهر: القطعة الطويلة [ ص: 420 ] منه ، يقولون: أبل جديدا ، وتمل حبيبا ، أي: عش معه دهرا طويلا . و(ذهبا) منصوب على التمييز . وقال ابن فارس: ربما أنث الذهب ، فقيل: ذهبة ، ويجمع على الأذهاب .

    قوله تعالى: (ولو افتدى به) قال الفراء: الواو هاهنا قد يستغنى عنها ، ولو حذفت كان صوابا ، كقوله تعالى: (وليكون من الموقنين) [ الأنعام: 75 ] قال الزجاج: هذا غلط ، لأن فائدة الواو بينة ، فليست مما يلقى . قال النحاس: قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية: الواو ليست مقحمة ، وتقديره: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى .
    لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم .

    قوله تعالى: (لن تنالوا البر) في البر أربعة أقوال . أحدها: أنه الجنة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي في آخرين . قال ابن جرير: فيكون المعنى: لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم . والثاني: التقوى ، قاله عطاء ، ومقاتل . والثالث: الطاعة ، قاله عطية . والرابع: الخير الذي يستحق به الأجر ، قاله أبو روق . قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي الأصل ، وإنما نفي وجود الكمال ، فكأنه قال: لن تنالوا البر الكامل .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #80
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
    الحلقة (80)
    صــ421 إلى صــ 425

    قوله تعالى: (حتى تنفقوا مما تحبون) فيه قولان . أحدهما: أنه نفقة العبد من ماله ، وهو صحيح شحيح ، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني: أنه الإنفاق من محبوب [ ص: 421 ] المال ، قاله قتادة ، والضحاك . وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها الصدقة المفروضة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضحاك . والثاني: أنها جميع الصدقات ، قاله ابن عمر . والثالث: أنها جميع النفقات التي يبتغى بها وجه الله تعالى ، سواء كانت صدقة ، أو لم تكن ، نقل عن الحسن ، واختاره القاضي أبو يعلى وروى البخاري ، ومسلم في "الصحيحين" من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس: فلما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة ، فقال: يا رسول الله إن الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء . وإنها صدقة لله ، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها حيث أراك الله ، فقال صلى الله عليه وسلم: "بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح [شك الراوي ] وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقسمها أبو طلحة في أقاربه ، وبني عمه . وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئا أحب إلي من جاريتي رميثة ، فهي حرة لوجه الله ، ثم قال: [ ص: 422 ] لولا أني أعود في شيء جعلته لله ، لنكحتها ، فأنكحها نافعا ، فهي أم ولده . وسئل أبو ذر: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة: عماد الإسلام ، والجهاد: سنام العمل ، والصدقة: شيء عجب . ثم قال السائل: يا أبا ذر لقد تركت شيئا هو أوثق عمل في نفسي لا أراك ذكرته قال: ما هو؟ قال: الصيام . فقال: قربة وليس هناك ، وتلا قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: (فإن الله به عليم) أي: يجازي عليه .
    كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين .

    قوله تعالى: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا على ملة إبراهيم" فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل ، وتشرب ألبانها؟ فقال: "كان ذلك حلا لإبراهيم" فقالوا: كل شيء نحرمه نحن ، فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا . فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم . قاله أبو روق ، وابن السائب و"الطعام" اسم للمأكول . قال ابن قتيبة: والحل: الحلال ، ومثله الحرم والحرام ، واللبس واللباس . وفي الذي حرمه على نفسه ، ثلاثة أقوال . أحدها: لحوم الإبل وألبانها . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعطاء ابن أبي رباح ، [ ص: 423 ] وأبي العالية في آخرين . والثاني: أنه العروق ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي في آخرين . والثالث: أنه زائدتا الكبد ، والكليتان ، والشحم إلا ما على الظهر ، قاله عكرمة . وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال . أحدها: أنه طال به مرض شديد ، فنذر: لئن شفاه الله ، ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني: أنه اشتكى عرق النسا فحرم العروق ، قاله ابن عباس في آخرين . والثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه النسا اجتناب ما حرمه ، فحرمه ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام ، أصابه عرق النسا ، فيبيت وقيدا فحرمه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . واختلفوا: هل حرم ذلك بإذن الله ، أو باجتهاده؟ على قولين . واختلفوا: بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود ، على ثلاثة أقوال . أحدها: أنه حرم عليهم بتحريمه ، ولم يكن محرما في التوراة ، قاله عطية . وقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد . والثاني: أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه ، لا أنه حرم عليهم بالشرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله ، فأكذبهم الله بقوله:( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) هذا قول الضحاك . والثالث: أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها . وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما ، حرم عليهم به طعام طيب ، أو صب عليهم عذاب ، هذا قول ابن السائب . قال ابن عباس: (فأتوا بالتوراة فاتلوها) هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!

    فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون .

    قوله تعالى: (فمن افترى) يقول: اختلق (على الله الكذب من بعد ذلك) أي: من بعد البيان في كتبهم ، وقيل: من بعد مجيئكم بالتوراة وتلاوتكم إياها .
    قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .

    قوله تعالى: (قل صدق الله) الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به ، وضده الكذب . واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين . أحدهما: أنه عنى قوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا) ، قاله مقاتل ، وأبو سليمان الدمشقي . والثاني: أنه عنى قوله تعالى: (كل الطعام كان حلا) قاله ابن السائب .

    إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين .

    قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس) قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة . وقال المسلمون: الكعبة أفضل ، فنزلت هذه الآية وفي معنى كونه "أول" قولان . أحدهما: أنه أول بيت كان في الأرض ، واختلف أرباب هذا القول ، كيف كان أول بيت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض ، فخلقه قبلها بألفي عام ، ودحاها من تحته ، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة على وجه الماء ، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة . وقال ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ، وبهذا القول يقول ابن عمر ، وابن عمرو ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي في آخرين . والثاني: أن آدم استوحش حين أهبط ، فأوحى الله إليه ، أن ابن لي بيتا في الأرض ، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي ، فبناه ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . والثالث: أنه أهبط مع آدم ، فلما [ ص: 425 ] كان الطوفان ، رفع فصار معمورا في السماء ، وبنى إبراهيم على أثره ، رواه شيبان عن قتادة . القول الثاني: أنه أول بيت وضع للناس للعبادة ، وقد كانت قبله بيوت ، هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والحسن ، وعطاء بن السائب في آخرين . فأما بكة ، فقال الزجاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقا من البك . يقال: بك الناس بعضهم بعضا ، أي: دفع . واختلفوا في تسميتها بكة على ثلاثة أقوال . أحدها: لازدحام الناس بها ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والفراء ، ومقاتل . والثاني: لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي: تدقها ، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله ، روي عن عبد الله بن الزبير ، وذكره الزجاج . والثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين ، يقال: بككت الرجل ، أي: وضعت منه ، ورددت نخوته ، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي ، وقطرب . واتفقوا على أن مكة اسم لجميع البلدة . واختلفوا في بكة على أربعة أقوال . أحدها: أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وإبراهيم . وعطية . والثاني: أنها ما حول البيت ، ومكة ما وراء ذلك ، قاله عكرمة . والثالث: أنها المسجد ، والبيت . ومكة اسم للحرم كله ، قاله الزهري ، وضمرة بن حبيب . والرابع: أن بكة هي مكة ، قاله الضحاك ، وابن قتيبة ، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم; يقال: سمد رأسه وسبد رأسه: إذا استأصله . وشر لازم ، ولازب .

    قوله تعالى: (مباركا) قال الزجاج: هو منصوب على الحال . المعنى: الذي استقر بمكة في حال بركته .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •