تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 24 من 25 الأولىالأولى ... 141516171819202122232425 الأخيرةالأخيرة
النتائج 461 إلى 480 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #461
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الصَّافَّاتِ
    الحلقة (461)
    صــ 61 إلى صــ 70





    أحدها: أنه إذا ذبح الموت، قال أهل الجنة: "أفما نحن بميتين، [ ص: 61 ] إلا موتتنا الأولى" التي كانت في الدنيا وما نحن بمعذبين ؟ فيقال لهم: لا; فعند ذلك قالوا: إن هذا لهو الفوز العظيم ، فيقول الله تعالى: لمثل هذا فليعمل العاملون ، قاله ابن السائب . وقيل: يقول ذلك للملائكة .

    والثاني: أنه قوله المؤمن لأصحابه، فقالوا له: إنك لا تموت، فقال: "إن هذا لهو الفوز العظيم" قاله مقاتل . وقال أبو سفيان الدمشقي: إنما خاطب المؤمن أهل الجنة بهذا على طريق الفرح بدوام النعيم، لا على طريق الاستفهام، لأنه قد علم أنهم ليسوا بميتين، ولكن أعاد الكلام ليزداد بتكراره على سمعه سرورا .

    والثالث: أنه قول المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ بما كان ينكره، ذكره الثعلبي .

    قوله تعالى: لمثل هذا يعني النعيم الذي ذكره في قوله: "أولئك لهم رزق معلوم" [الصافات: 41] فليعمل العاملون ، وهذا ترغيب في طلب ثواب الله عز وجل بطاعته .
    أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم . إنا جعلناها فتنة للظالمين . إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم . طلعها كأنه [ ص: 62 ] رءوس الشياطين . فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون . ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم . ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم . إنهم ألفوا آباءهم ضالين . فهم على آثارهم يهرعون . ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين . ولقد أرسلنا فيهم منذرين . فانظر كيف كان عاقبة المنذرين . إلا عباد الله المخلصين .

    أذلك خير يشير إلى ما وصف لأهل الجنة نزلا قال ابن قتيبة : أي: رزقا، ومنه: إقامة الإنزال، وإنزال الجنود: أرزاقها . وقال الزجاج : النزل هاهنا: الريع والفضل، يقال: هذا طعام له نزل ونزل، بتسكين الزاي وضمها; والمعنى: أذلك خير في باب الأنزال التي تتقوت ويمكن معها الإقامة، أم نزل أهل النار؟! وهو قوله: أم شجرة الزقوم ؟ .

    واختلف العلماء هل هذه الشجرة في الدنيا، أم لا؟

    فقال قطرب: هي شجرة مرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر . وقال غيره: الزقوم: ثمرة شجرة كريهة الطعم . وقيل: إنها لا تعرف في شجر الدنيا، وإنما هي في النار، يكره أهل النار على تناولها .

    قوله تعالى: إنا جعلناها فتنة للظالمين يعني للكافرين . وفي المراد بالفتنة ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه لما ذكر أنها في النار، افتتنوا وكذبوا، فقالوا: كيف يكون [ ص: 63 ] في النار شجرة، والنار تأكل الشجر؟! فنزلت هذه الآية، قاله قتادة . وقال السدي: فتنة لأبي جهل وأصحابه .

    والثاني: أن الفتنة بمعنى العذاب، قاله ابن قتيبة .

    والثالث: أن الفتنة بمعنى الاختبار، اختبروا بها فكذبوا، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: تخرج في أصل الجحيم أي: في قعر النار . قال الحسن: أصلها في قعر النار، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها . طلعها أي: ثمرها، وسمي طلعا، لطلوعة كأنه رءوس الشياطين .

    فإن قيل: كيف شبهها بشيء لم يشاهد؟ فعنه ثلاثة أجوبة .

    أحدها: أنه قد استقر في النفوس قبح الشياطين -وإن لم تشاهد- فجاز تشبيهها بما قد علم قبحه، قال امرؤ القيس:


    أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال


    قال الزجاج : هو لم ير الغول ولا أنيابها، ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ في باب المذكر أن يمثل بالشياطين، وفي باب المؤنث أن يشبه بالغول .

    والثاني: أن بين مكة واليمن شجر يسمى: رؤوس الشياطين، فشبهها بها، قاله ابن السائب .

    [ ص: 64 ] والثالث: أنه أراد بالشياطين: حيات لها رؤوس ولها أعراف، شبه طلعها برؤوس الحيات، ذكره الزجاج . قال الفراء: والعرب تسمي بعض الحيات شيطانا، وهو حية ذو عرف قبيح الوجه .

    قوله تعالى: فإنهم لآكلون منها أي: من ثمرها فمالئون منها البطون وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم .

    ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم قال ابن قتيبة : أي: خلطا من الماء الحار يشربونه عليها . قال أبو عبيدة: تقول العرب: كل شيء خلطته بغيره فهو مشوب . قال المفسرون: إذا أكلوا الزقوم ثم شربوا عليه الحميم، شاب الحميم الزقوم في بطونهم فصار شوبا له .

    ثم إن مرجعهم أي: بعد أكل الزقوم وشرب الحميم لإلى الجحيم وذلك أن الحميم خارج الجحيم، فهم يوردونه كما تورد الإبل الماء، ثم يردون إلى الجحيم; ويدل على هذا قوله: يطوفون بينها وبين حميم آن [الرحمن: 44] . و ألفوا بمعنى وجدوا . و يهرعون مشروح في [هود: 78]، والمعنى أنهم يتبعون آباءهم في سرعة . ولقد ضل قبلهم أي: قبل هؤلاء المشركين أكثر الأولين من الأمم الخالية .

    [ ص: 65 ] قوله تعالى: إلا عباد الله المخلصين يعنى الموحدين، فإنهم نجوا من العذاب . قال ابن جرير: وإنما حسن الاستثناء، لأن المعنى: فانظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله .
    ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون . ونجيناه وأهله من الكرب العظيم . وجعلنا ذريته هم الباقين . وتركنا عليه في الآخرين . سلام على نوح في العالمين . إنا كذلك نجزي المحسنين . إنه من عبادنا المؤمنين . ثم أغرقنا الآخرين .

    ولقد نادانا نوح أي دعانا . وفي دعائه قولان . أحدهما: أنه دعا مستنصرا على قومه . والثاني: أن ينجيه من الغرق فلنعم المجيبون نحن; والمعنى: إنا أنجيناه وأهلكنا قومه .

    وفي الكرب العظيم قولان: أحدهما: [أنه] الغرق . والثاني: أذى قومه .

    وجعلنا ذريته هم الباقين [وذلك] أن نسل [أهل] السفينة انقرضوا غير نسل ولده، فالناس كلهم من ولد نوح، وتركنا عليه أي: تركنا عليه ذكرا جميلا في الآخرين وهم الذين جاؤوا بعده إلى يوم القيامة . قال الزجاج : وذلك الذكر الجميل قوله: سلام على نوح في العالمين وهم الذين جاؤوا [ ص: 66 ] من بعده; والمعنى: تركنا عليه أن يصلى عليه في الآخرين إلى يوم القيامة . إنا كذلك نجزي المحسنين قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين .
    وإن من شيعته لإبراهيم . إذ جاء ربه بقلب سليم . إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون . أإفكا آلهة دون الله تريدون . فما ظنكم برب العالمين . فنظر نظرة في النجوم . فقال إني سقيم . فتولوا عنه مدبرين . فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون . ما لكم لا تنطقون . فراغ عليهم ضربا باليمين . فأقبلوا إليه يزفون . قال أتعبدون ما تنحتون . والله خلقكم وما تعملون . قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم . فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين . وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين . رب هب لي من الصالحين . فبشرناه بغلام حليم .

    قوله تعالى: وإن من شيعته لإبراهيم أي: من أهل دينه وملته . والهاء في "شيعته" عائدة على نوح في قول الأكثرين; وقال ابن السائب: تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم، واختاره الفراء .

    [ ص: 67 ] فإن قيل: كيف يكون من شيعته، وهو قبله؟

    فالجواب: أنه مثل قوله: حملنا ذريتهم [يس: 41]، فجعلها ذريتهم وقد سبقتهم، وقد شرحنا هذا فيما مضى [يس: 41] .

    قوله تعالى: إذ جاء ربه أي: صدق الله وآمن به بقلب سليم من الشرك وكل دنس، وفيه أقوال ذكرناها في [الشعراء: 89] .

    قوله تعالى: ماذا تعبدون؟ هذا استفهام توبيخ، كأنه وبخهم على عبادة غير الله . أإفكا أي: أتأفكون إفكا وتعبدون آلهة سوى الله؟! فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟! كأنه قال: فما ظنكم أن يصنع بكم؟

    فنظر نظرة في النجوم فيه قولان .

    أحدهما: [أنه] نظر في علم النجوم، وكان القوم يتعاطون علم النجوم، فعاملهم من حيث هم، وأراهم أني أعلم من ذلك ما تعلمون، لئلا ينكروا عليه ذلك . قال ابن المسيب: رأى نجما طالعا، فقال: إني مريض غدا .

    والثاني: أنه نظر إلى النجوم، لا في علمها .

    فإن قيل: فما كان مقصوده؟

    فالجواب: أنه كان لهم عيد ، فأراد التخلف عنهم ليكيد أصناهم، فاعتل بهذا القول .

    قوله تعالى: إني سقيم من معاريض الكلام . ثم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن معناه: سأسقم، قاله الضحاك . قال ابن الأنباري: أعلمه الله عز وجل أنه يمتحنه بالسقم إذا طلع نجم يعرفه، فلما رأى النجم، علم أنه سيسقم .

    [ ص: 68 ] والثاني: أني سقيم القلب عليكم إذ تكهنتم بنجوم لا تضر ولا تنفع، ذكره ابن الأنباري .

    والثالث: أنه سقم لعلة عرضت له، حكاه الماوردي . وذكر السدي أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم، فلما كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي رجلي، فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم أي: مال إليها -وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاما لتبارك فيه على زعمهم- فقال إبراهيم استهزاء بها ألا تأكلون؟ .

    وقوله: ضربا باليمين في اليمين ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها اليد اليمنى، قاله الضحاك .

    [ ص: 69 ] والثاني: بالقوة والقدرة، قاله السدي، والفراء .

    والثالث: باليمين التي سبقت منه، وهي قوله: "وتالله لأكيدن أصنامكم " [الأنبياء: 57]، حكاه الماوردي .

    قال الزجاج : "ضربا" مصدر; والمعنى: فمال على الأصنام يضربها ضربا باليمين; وإنما قال: "عليهم"، وهي أصنام، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يميز .

    فأقبلوا إليه يزفون قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: "يزفون" بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء . وقرأ حمزة، والمفضل عن عاصم: "يزفون" برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء . وقرأ ابن السميفع، وأبو المتوكل، والضحاك : "يزفون" بفتح الياء وكسر الزاي وتخفيف الفاء . وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو نهيك: "يزفون" بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء . قال الزجاج : أعرب القراءات فتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النعام، وهو ابتداء عدو النعام، يقال: زف النعام يزف; وأما ضم الياء، فمعناه: يصيرون إلى الزفيف، وأنشدوا:


    [تمنى حصين أن يسود جذاعه] فأضحى حصين قد أذل وأقهرا


    أي: صار إلى القهر . وأما كسر الزاي مع تخفيف الفاء، فهو من: وزف يزف، بمعنى أسرع يسرع، ولم يعرفه الكسائي ولا الفراء، وعرفه غيرهما .

    [ ص: 70 ] قال المفسرون: بلغهم ما صنع إبراهيم، فأسرعوا، فلما انتهوا إليه، قال لهم محتجا عليهم: أتعبدون ما تنحتون بأيديكم والله خلقكم وما تعملون؟! ، قال ابن جرير: في "ما" وجهان .

    أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: والله خلقكم و[عملكم .

    والثاني: أن تكون بمعنى "الذي"، فيكون المعنى: والله خلقكم] وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام; وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة [لله] .

    فلما لزمتهم الحجة قالوا ابنوا له بنيانا وقد شرحنا قصته في سورة [الأنبياء: 52 -74]، وبينا معنى الجحيم في [البقرة: 119]، والكيد الذي أرادوا به: إحراقه .

    ومعنى قوله: فجعلناهم الأسفلين أن إبراهيم علاهم بالحجة حيث سلمه الله من كيدهم وحل الهلاك بهم .

    وقال يعني إبراهيم إني ذاهب إلى ربي في هذا الذهاب قولان .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #462
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الصَّافَّاتِ
    الحلقة (462)
    صــ 71 إلى صــ 80





    أحدهما: أنه ذاهب حقيقة، وفي وقت قوله هذا قولان . أحدهما: أنه حين أراد هجرة قومه; فالمعنى: إني ذاهب إلى حيث أمرني ربي عز وجل سيهدين إلى حيث أمرني، وهو الشام، قاله الأكثرون . والثاني: حين ألقي في النار، قاله سليمان بن صرد; فعلى هذا، في المعنى قولان . أحدهما: ذاهب إلى الله بالموت، [ ص: 71 ] سيهدين إلى الجنة . والثاني: [ذاهب] إلى ما قضى [به] ربي، سيهدين إلى الخلاص من النار .

    والقول الثاني: إني ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي، قاله قتادة .

    فلما قدم الأرض المقدسة، سأل ربه الولد فقال: رب هب لي من الصالحين أي: ولدا صالحا من الصالحين، فاجتزأ بما ذكر عما ترك، ومثله: وكانوا فيه من الزاهدين [يوسف: 20]، فاستجاب له، وهو قوله: فبشرناه بغلام حليم وفيه قولان . أحدهما: أنه إسحاق . والثاني: أنه إسماعيل . قال الزجاج . هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم .
    فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين . فلما أسلما وتله للجبين . وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين . إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم . وتركنا عليه في الآخرين . سلام على إبراهيم . كذلك نجزي المحسنين . إنه من عبادنا المؤمنين . وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين . وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين .

    [ ص: 72 ] قوله تعالى: فلما بلغ معه السعي فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن المراد بالسعي هاهنا: العمل، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه المشي، والمعنى: مشى مع أبيه، قاله قتادة . قال ابن قتيبة : بلغ أن ينصرف معه ويعينه . قال ابن السائب: كان ابن ثلاث عشرة سنة .

    والثالث: أن المراد بالسعي: العبادة، قاله ابن زيد; فعلى هذا، يكون قد بلغ .

    قوله تعالى: إني أرى في المنام أني أذبحك أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في المنام، وإنما المعنى أنه أمر في المنام بذبحه، ويدل عليه قوله: افعل ما تؤمر . وذهب بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه، ولم ير إراقة الدم قال قتادة: ورؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئا، فعلوه . وذكر السدي عن أشياخه أنه لما بشر جبريل سارة بالولد، قال إبراهيم: هو إذا لله ذبيح، فلما فرغ من بنيان البيت، أتي في المنام، فقيل له: أوف بنذرك . واختلفوا في الذبيح على قولين .

    أحدهما: [أنه] إسحاق، قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والعباس ابن عبد المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، [ومسروق]، وعبيد بن عمير، والقاسم ابن أبي بزة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن جرير . وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام . وقيل: طويت له الأرض حتى حمله إلى المنحر بمنى في ساعة .

    والثاني: أنه إسماعيل، قاله ابن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، [ ص: 73 ] ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط . واختلفت الرواية عن ابن عباس، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق، وروى عنه عطاء، ومجاهد، والشعبي، وأبو الجوزاء، ويوسف بن مهران أنه إسماعيل، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين . وعن سعيد بن جبير، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والسدي روايتان . وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان . ولكل قوم حجة ليس هذا موضعها، وأصحابنا ينصرون القول الأول .

    الإشارة إلى قصة الذبح

    ذكر أهل العلم بالسير والتفسير أن إبراهيم لما أراد ذبح ولده، قال له: انطلق فنقرب قربانا إلى الله عز وجل، فأخذ سكينا وحبلا، ثم انطلق، حتى إذا ذهبا بين الجبال، قال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ قال: يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك، فقال له: اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أمي فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني; فأقبل عليه إبراهيم يقبله ويبكي ويقول: نعم العون أنت يا بني [ ص: 74 ] [ ص: 75 ] على أمر الله عز وجل، ثم إنه أمر السكين على حلقه فلم يحك شيئا . وقال مجاهد: لما أمرها على حلقه انقلبت، فقال: مالك؟ انقلبت، قال: اطعن بها طعنا . وقال السدي: ضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس; وهذا لا يحتاج إليه، بل منعها بالقدرة أبلغ . قالوا: فلما طعن بها، نبت، وعلم الله منهما الصدق في التسليم، فنودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذا فداء ابنك; فنظر إبراهيم، فإذا جبريل معه كبش أملح .

    قوله تعالى: فانظر ماذا ترى لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله عز وجل، ولكن أراد أن ينظر ما عنده من الرأي . وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: "ماذا تري" بضم التاء وكسر الراء; وفيها قولان . أحدهما: ماذا تريني من صبرك أو جزعك، قاله الفراء . والثاني: ماذا تبين، قاله الزجاج . وقال غيره: ماذا تشير .

    قوله تعالى: افعل ما تؤمر قال ابن عباس: افعل ما أوحي إليك من ذبحي ستجدني إن شاء الله من الصابرين على البلاء .

    قوله تعالى: فلما أسلما أي: استسلما لأمر الله عز وجل فأطاعا ورضيا . وقرأ علي، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والأعمش، وابن أبي عبلة: "فلما سلما" بتشديد اللام من غير همز قبل السين; والمعنى: سلما لأمر الله عز وجل .

    وفي جواب قوله: "فلما أسلما" قولان .

    أحدهما: أن جوابه: "وناديناه"، والواو زائدة، قاله الفراء .

    والثاني: أن الجواب محذوف لأن في الكلام دليلا عليه; والمعنى: فلما فعل ذلك، سعد وأجزل ثوابه، قاله الزجاج .

    [ ص: 76 ] قوله تعالى: وتله للجبين قال ابن قتيبة : أي: صرعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض، وهما جبينان والجبهة بينهما، وهي ما أصاب الأرض في السجود، والناس لا يكادون يفرقون بين الجبين والجبهة، فالجبهة مسجد الرجل الذي يصيبه ندب السجود، والجبينان يكتنفانها، من كل جانب جبين .

    قوله تعالى: وناديناه قال المفسرون: نودي من الجبل: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفيه قولان .

    أحدهما: قد عملت ما أمرت، وذلك أنه قصد الذبح بما أمكنه، وطاوعه الابن بالتمكين من الذبح، إلا أن الله عز وجل صرف ذلك كما شاء، فصار كأنه قد ذبح وإن لم يتحقق الذبح .

    والثاني: أنه رأى في المنام معالجة الذبح، ولم ير إراقة الدم، فلما فعل في اليقظة ما رأى في المنام، قيل له: "قد صدقت الرؤيا" .

    وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، والجحدري : "قد صدقت الرؤيا" بتخفيف الدال، وهاهنا تم الكلام . ثم قال تعالى: إنا كذلك أي: كما ذكرنا من العفو من ذبح ولده نجزي المحسنين .

    [ ص: 77 ] إن هذا لهو البلاء المبين في ذلك قولان . أحدهما: النعم البينة، قاله ابن السائب، ومقاتل . والثاني: الاختبار العظيم، قاله ابن زيد، وابن قتيبة . فعلى الأول، يكون قوله هذا إشارة إلى العفو عن الذبح . وعلى الثاني، يكون إشارة إلى امتحانه بذبح ولده .

    قوله تعالى: وفديناه يعني: الذبيح بذبح وهو بكسر الذال: اسم ما ذبح، وبفتح الذال: مصدر ذبحت، قاله ابن قتيبة . ومعنى الآية: خلصناه من الذبح بأن جعلنا الذبح فداء له . وفي هذا الذبح ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه كان كبشا أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاما، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقال في رواية سعيد بن جبير: هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه، كان في الجنة حتى فدي به .

    والثاني: أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين، رواه أبو الطفيل عن ابن عباس .

    والثالث: [أنه] ما فدي إلا بتيس من الأورى، أهبط عليه من ثبير، قاله الحسن .

    وفي معنى عظيم أربعة أقوال .

    أحدها: لأنه كان قد رعى في الجنة، قاله ابن عباس، وابن جبير .

    [ ص: 78 ] والثاني: لأنه ذبح على دين إبراهيم وسنته، قاله الحسن .

    والثالث: لأنه متقبل، قاله مجاهد . وقال أبو سليمان الدمشقي: لما قربه ابن آدم، رفع حيا، فرعى في الجنة، ثم جعل فداء الذبيح، فتقبل مرتين .

    والرابع: لأنه عظيم الشخص والبركة، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: وتركنا عليه قد فسرناه في هذه السورة [الصافات: 78] .

    قوله تعالى: وبشرناه بإسحاق من قال: إن إسحاق الذبيح، قال: بشر إبراهيم بنبوة إسحاق، وأثيب إسحاق بصبره النبوة، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، وبه قال قتادة، والسدي . ومن قال: الذبيح إسماعيل، قال: بشر الله إبراهيم بولد يكون نبيا بعد هذه القصة، جزاء لطاعته وصبره، وهذا قول سعيد ابن المسيب .

    قوله تعالى: وباركنا عليه وعلى إسحاق يعني بكثرة ذريتهما، وهم الأسباط كلهم ومن ذريتهما محسن أي: مطيع لله وظالم وهو العاصي له وقيل: المحسن: المؤمن، والظالم: الكافر .
    [ ص: 79 ] ولقد مننا على موسى وهارون . ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم . ونصرناهم فكانوا هم الغالبين . وآتيناهما الكتاب المستبين . وهديناهما الصراط المستقيم . وتركنا عليهما في الآخرين . سلام على موسى وهارون . إنا كذلك نجزي المحسنين . إنهما من عبادنا المؤمنين . وإن إلياس لمن المرسلين . إذ قال لقومه ألا تتقون . أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين . الله ربكم ورب آبائكم الأولين . فكذبوه فإنهم لمحضرون . إلا عباد الله المخلصين . وتركنا عليه في الآخرين . سلام على إل ياسين . إنا كذلك نجزي المحسنين . إنه من عبادنا المؤمنين

    قوله تعالى: ولقد مننا على موسى وهارون أي: أنعمنا عليهما بالنبوة .

    وفي الكرب العظيم قولان . أحدهما: استعباد فرعون وبلاؤه، وهو معنى قول قتادة . والثاني: الغرق، قاله السدي .

    قوله تعالى: ونصرناهم فيه قولان . أحدهما: [أنه] يرجع إلى موسى وهارون وقومهما . والثاني: [أنه] يرجع إليهما فقط، فجمعا، لأن العرب تذهب بالرئيس إلى الجمع، لجنوده وأتباعه، ذكرهما ابن جرير . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الأنبياء: 48] إلى قوله: وإن إلياس لمن المرسلين فيه قولان .

    أحدهما: أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، قاله الأكثرون .

    والثاني: أنه إدريس، قاله ابن مسعود، وقتادة، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: "وإن إدريس" مكان "إلياس" .

    [ ص: 80 ] قوله تعالى: إذ قال لقومه ألا تتقون أي: ألا تخافون الله فتوحدونه وتعبدونه؟! أتدعون بعلا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه بمعنى الرب، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . وقال الضحاك: كان ابن عباس قد أعياه هذا الحرف ، فبينا هو جالس، إذ مر أعرابي قد ضلت ناقته وهو يقول: من وجد ناقة أنا بعلها؟ فتبعه الصبيان يصيحون به: يا زوج الناقة، يا زوج الناقة، فدعاه ابن عباس فقال: ويحك، ما عنيت ببعلها؟ قال: أنا ربها، فقال ابن عباس: صدق الله "أتدعون بعلا": ربا . وقال قتادة: هذه لغة يمانية .

    والثاني: أنه اسم صنم كان لهم، قاله الضحاك، وابن زيد . وحكى ابن جرير أنه به سميت "بعلبك" .

    والثالث: أنها امرأه كانوا يعبدونها، حكاه محمد بن إسحاق .

    قوله تعالى: الله ربكم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: "الله ربكم" بالرفع . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ويعقوب: "الله" بالنصب .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #463
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الصَّافَّاتِ
    الحلقة (463)
    صــ 81 إلى صــ 90






    [ ص: 81 ] قوله تعالى: فكذبوه فإنهم لمحضرون النار، إلا عباد الله المخلصين الذين لم يكذبوه، فإنهم لا يحضرون النار .

    الإشارة إلى القصة

    ذكر أهل العلم بالتفسير والسير أنه لما كثرت الأحداث بعد قبض حزقيل النبي عليه السلام، وعبدت الأوثان، بعث الله تعالى إليهم إلياس، قال ابن إسحاق: وهو إلياس بن تشبي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، فجعل يدعوهم فلا يسمعون منه، فدعا عليهم بحبس المطر، فجهدوا جهدا شديدا، واستخفى إلياس خوفا منهم على نفسه . ثم إنه قال لهم يوما: إنكم قد هلكتم جهدا، وهلكت البهائم والشجر بخطاياكم، فاخرجوا بأصنامكم وادعوها، فإن استجابت لكم، فالأمر كما تقولون، وإن لم تفعل، علمتم أنكم على باطل فنزعتم عنه، ودعوت الله ففرج عنكم، فقالوا: أنصفت، فخرجوا بأصنامهم وأوثانهم، فدعوا فلم يستجب لهم، فعرفوا ضلالهم، فقالوا: ادع الله لنا، فدعا لهم، فأرسل المطر وعاشت بلادهم، فلم ينزعوا عما كانوا عليه، فدعا إلياس ربه أن يقبضه إليه ويريحه منهم، فقيل له: اخرج يوم كذا إلى مكان كذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج، فأقبل فرس من نار، فوثب عليه، فانطلق به، وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة، فكان إنسيا ملكيا، أرضيا سماويا .

    [ ص: 82 ] قوله تعالى: سلام على إل ياسين قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "إلياسين" موصولة مكسورة الألف ساكنة اللام، فجعلوها كلمة واحدة; وقرأ الحسن مثلهم، إلا أنه فتح الهمزة . وقرأ نافع، وابن عامر، وعبد الوارث، ويعقوب إلا زيدا: "إل ياسين" مقطوعة، فجعلوها كلمتين .

    وفي قراءة الوصل قولان .

    أحدهما: أنه جمع لهذا النبي وأمته المؤمنين به، وكذلك يجمع ما ينسب إلى الشيء بلفظ الشيء، فتقول: رأيت المهالبة، تريد: بني المهلب، والمسامعة، تريد: بني مسمع .

    والثاني: أنه اسم النبي وحده، وهو اسم عبراني، والعجمي من الأسماء قد يفعل به هكذا، [كما] تقول: ميكال وميكائيل، ذكر القولين الفراء والزجاج .

    فأما قراءة من قرأ: "إل ياسين" مفصولة، ففيها قولان .

    أحدهما: أنهم آل هذا النبي المذكور، وهو يدخل فيهم، كقوله عليه السلام: "اللهم صل على آل أبي أوفى"، فهو داخل فيهم، لأنه هو المراد بالدعاء .

    [ ص: 83 ] [ ص: 84 ] والثاني: أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الكلبي . وكان عبد الله بن مسعود يقرأ: "سلام على إدراسين" وقد بينا مذهبه في أن إلياس هو إدريس .

    فإن قيل: كيف قال: "إدراسين" وإنما الواحد إدريس، والمجموع إدريسي، لا إدراس ولا إدراسي؟

    فالجواب: أنه يجوز أن يكون لغة، كإبراهيم إبراهام، ومثله:


    قدني من نصر الخبيبين قدي


    وقرأ أبي بن كعب ، وأبو نهيك: "سلام على ياسين" بحذف الهمزة واللام .
    [ ص: 85 ] وإن لوطا لمن المرسلين . إذ نجيناه وأهله أجمعين . إلا عجوزا في الغابرين . ثم دمرنا الآخرين . وإنكم لتمرون عليهم مصبحين . وبالليل أفلا تعقلون .

    قوله تعالى: إذ نجيناه "إذ" هاهنا لا يتعلق بما قبله، لأنه لم يرسل إذ نجي، ولكنه يتعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد إذ نجيناه . وقد تقدم تفسير ما بعد هذا [الشعراء: 171] إلى قوله: وإنكم لتمرون عليهم مصبحين هذا خطاب لأهل مكة، كانوا إذا ذهبوا إلى الشام وجاؤوا، مروا على قرى قوم لوط صباحا ومساء، أفلا تعقلون فتعتبرون؟!
    وإن يونس لمن المرسلين . إذ أبق إلى الفلك المشحون . فساهم فكان من المدحضين . فالتقمه الحوت وهو مليم . فلولا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [ ص: 86 ] فنبذناه بالعراء وهو سقيم . وأنبتنا عليه شجرة من يقطين . وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون . فآمنوا فمتعناهم إلى حين .

    قوله تعالى: إذ أبق قال المبرد: تأويل "أبق": تباعد; وقال أبو عبيدة: فزع; وقال الزجاج : هرب; وقال بعض أهل المعاني: خرج ولم يؤذن له، فكان بذلك كالهارب من مولاه . قال الزجاج : والفلك: السفينة، والمشحون: المملوء، وساهم بمعنى [قارع]، من المدحضين أي: المغلوبين; قال ابن قتيبة : يقال: أدحض الله حجته، فدحضت، أي: أزالها [فزالت]، وأصل الدحض: الزلق .

    الإشارة إلى قصته

    قد شرحنا بعض قصته في آخر يونس وفي [الأنبياء: 86] على قدر ما تحتمله الآيات، ونحن نذكر هاهنا ما تحتمله . قال عبد الله بن مسعود: لما وعد يونس قومه بالعذاب بعد ثلاث، جأروا إلى الله عز وجل واستغفروا، فكف عنهم العذاب، فانطلق مغاضبا حتى انتهى إلى قوم في سفينة، فعرفوه فحملوه، فلما ركب السفينة وقفت، فقال: ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري، قال: لكني أدري، فيها عبد آبق من ربه، إنها والله لا تسير حتى تلقوه، فقالوا: أما أنت يا نبي الله فوالله لا نلقيك، قال: فاقترعوا، فمن قرع فليقع، فاقترعوا، فقرع يونس، فأبوا أن يمكنوه من الوقوع، فعادوا إلى القرعة حتى قرع يونس ثلاث مرات . وقال طاووس: إن صاحب السفينة هو الذي قال: إنما يمنعها أن تسير [ ص: 87 ] أن فيكم رجلا مشؤوما، فاقترعوا لنلقي أحدنا، فاقترعوا، فقرع يونس ثلاث مرات .

    قال المفسرون: وكل الله به حوتا، فلما ألقى نفسه في الماء التقمه، وأمر أن لا يضره ولا يكلمه، وسارت السفينة حينئذ . ومعنى التقمه: ابتلعه .

    وهو مليم قال ابن قتيبة : أي: مذنب، يقال: ألام الرجل: إذا أتى ذنبا يلام عليه، قال الشاعر:


    [تعد معاذرا لا عذر فيها] ومن يخذل أخاه فقد ألاما


    قوله تعالى: فلولا أنه كان من المسبحين فيه ثلاثة أقوال . أحدها: من المصلين، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير . والثاني: من العابدين، قاله مجاهد، ووهب بن منبه . والثالث: قول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء: 87]، قاله الحسن . وروى عمران القطان عن الحسن قال: والله ما كانت الا صلاة أحدثها في بطن الحوت; فعلى هذا القول، يكون تسبيحه في بطن الحوت . وجمهور العلماء على أنه أراد: لولا ما تقدم له قبل التقام الحوت إياه من التسبيح، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون قال قتادة: لصار بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة، ولكنه كان كثير الصلاة في الرخاء، فنجاه الله تعالى بذلك .

    [ ص: 88 ] وفي قدر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال . أحدها: أربعون يوما، قاله أنس بن مالك، وكعب، وأبو مالك، وابن جريج، والسدي . والثاني: سبعة أيام، قاله سعيد بن جبير، وعطاء . والثالث: ثلاثة أيام، قاله مجاهد، وقتادة . والرابع: عشرون يوما، قاله الضحاك . والخامس: بعض يوم، التقمه ضحى، ونبذه قبل غروب الشمس، قاله الشعبي .

    قوله تعالى: فنبذناه قال ابن قتيبة : أي: ألقيناه بالعراء وهي الأرض التي لا يتوارى فيها بشجر ولا غيره، وكأنه من عري الشيء .

    قوله تعالى: وهو سقيم أي: مريض; قال ابن مسعود كهيأة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش وقال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إلى الحوت أن ألقه في البر، فألقاه لا شعر عليه، ولا جلد ولا ظفر .

    قوله تعالى: وأنبتنا عليه شجرة من يقطين قال ابن عباس: هو القرع، وقد قال أمية بن أبي الصلت قبل الإسلام:


    فأنبت يقطينا عليه برحمة من الله لولا الله ألفي ضاحيا


    قال الزجاج : كل شجرة لا تنبت على ساق وإنما تمتد على وجه الأرض نحو القرع والبطيخ والحنظل، فهي يقطين، واشتقاقه من: قطن بالمكان: إذا أقام، فهذا الشجر ورقه كله على وجه الأرض، فلذلك قيل له: يقطين . قال ابن مسعود: كان يستظل بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟! قال يزيد بن عبد الله بن قسيط: قيض [الله] له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشيا فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه .

    [ ص: 89 ] فإن قيل: ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟

    فالجواب: أنه خرج كالفرخ على ما وصفنا، وجلده قد ذاب، فأدنى شيء يمر به يؤذيه، وفي ورق اليقطين خاصية، وهو أنه إذا ترك على شيء، لم يقربه ذباب، فأنبته الله عليه ليغطيه ورقها ويمنع الذباب ريحه أن يسقط عليه فيؤذيه .

    قوله تعالى: وأرسلناه إلى مائة ألف اختلفوا، هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه أم بعد ذلك؟ على قولين .

    أحدهما: أنها كانت بعد نبذ الحوت إياه، على ما ذكرنا في [يونس: 98]، وهو مروي عن ابن عباس .

    والثاني: أنها كانت قبل التقام الحوت له، وهو قول الأكثرين، منهم الحسن، ومجاهد، وهو الأصح، والمعنى: وكنا أرسلناه إلى مائة ألف، فلما خرج من بطن الحوت، أمر أن يرجع إلى قومه الذين أرسل إليهم .

    وفي قوله: [أو] ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها بمعنى "بل" قاله ابن عباس، والفراء .

    والثاني: أنها بمعنى الواو، قاله ابن قتيبة . وقد قرأ أبي بن كعب ، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني: "ويزيدون" من غير ألف .

    [ ص: 90 ] والثالث: أنها على أصلها، والمعنى: أو يزيدون في تقديركم، إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون .

    وفي زيادتهم أربعة أقوال . أحدها: أنهم كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفا، رواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني: أنهم كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا . والثالث: مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفا، رويا عن ابن عباس . والرابع: أنهم كانوا يزيدون سبعين ألفا، قاله سعيد بن جبير، ونوف .

    قوله تعالى: فآمنوا في وقت إيمانهم قولان . أحدهما: عند معاينة العذاب . والثاني: حين أرسل إليهم يونس فمتعناهم إلى حين إلى منتهى آجالهم .
    فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون . أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون . ألا إنهم من إفكهم ليقولون . ولد الله وإنهم لكاذبون . أصطفى البنات على البنين . ما لكم كيف تحكمون . أفلا تذكرون . أم لكم سلطان مبين . فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين . وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون . سبحان الله عما يصفون . إلا عباد الله المخلصين . فإنكم وما تعبدون . ما أنتم عليه بفاتنين . إلا من هو صال الجحيم .

    قوله تعالى: فاستفتهم أي سل أهل مكة سؤال توبيخ وتقرير، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات الله وهم شاهدون أي: حاضرون . ألا إنهم من إفكهم أي: كذبهم ليقولون ولد الله حين زعموا أن الملائكة بناته .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #464
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ صَ
    الحلقة (464)
    صــ 91 إلى صــ 100






    [ ص: 91 ] قوله تعالى: أصطفى البنات قال الفراء: هذا استفهام فيه توبيخ لهم، وقد تطرح ألف الاستفهام من التوبيخ، ومثله: أذهبتم طيباتكم [الأحقاف: 20]، و "أذهبتم" يستفهم بها ولا يستفهم ، ومعناهما واحد . وقرأ أبو هريرة، وابن المسيب، والزهري، وابن جماز عن نافع، وأبو جعفر، وشيبة: "وإنهم لكاذبون اصطفى" بالوصل غير مهموز ولا ممدود; قال أبو علي: وهو على [وجه] الخبر، كأنه قال: اصطفى البنات على البنين كما يقولون، كقوله: ذق إنك أنت العزيز الكريم [الدخان: 49] .

    قوله تعالى: ما لكم كيف تحكمون لله بالبنات ولأنفسكم بالبنين؟! أم لكم سلطان مبين أي: حجة [بينة] على ما تقولون، فأتوا بكتابكم الذي فيه حجتكم .

    وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم قالوا: هو وإبليس أخوان، رواه العوفي عن ابن عباس; قال الماوردي: وهو قول الزنادقة والذين يقولون: الخير من الله، والشر من إبليس .

    والثاني: أن كفار قريش قالوا: الملائكة بنات الله، والجنة صنف من الملائكة يقال لهم: الجنة، قاله مجاهد .

    والثالث: أن اليهود قالت: إن الله تعالى تزوج إلى الجن فخرجت من بينهم الملائكة، قاله قتادة، وابن السائب .

    فخرج في معنى الجنة قولان . أحدهما: أنهم الملائكة . والثاني: الجن .

    فعلى الأول، يكون معنى قوله: ولقد علمت الجنة أي: علمت الملائكة إنهم أي: إن هؤلاء المشركين لمحضرون النار .

    [ ص: 92 ] وعلى الثاني، ["ولقد علمت الجنة] إنهم" أي: إن الجن أنفسها "لمحضرون" الحساب .

    قوله تعالى: إلا عباد الله المخلصين يعني الموحدين . وفيما استثنوا منه قولان .

    أحدهما: أنهم استثنوا من حضور النار، قاله مقاتل . والثاني: مما يصف أولئك، وهو معنى قول ابن السائب .

    قوله تعالى: فإنكم يعني المشركين وما تعبدون من دون الله، ما أنتم عليه أي: على ما تعبدون بفاتنين أي: بمضلين أحدا، إلا من هو صال الجحيم أي: من سبق له في علم الله أنه يدخل النار .
    وما منا إلا له مقام معلوم . وإنا لنحن الصافون . وإنا لنحن المسبحون . وإن كانوا ليقولون . لو أن عندنا ذكرا من الأولين . لكنا عباد الله المخلصين . فكفروا به فسوف يعلمون . ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون . فتول عنهم حتى حين . وأبصرهم فسوف يبصرون . أفبعذابنا يستعجلون . فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . وتول عنهم حتى حين . وأبصر فسوف يبصرون . سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين .

    ثم أخبر عن الملائكة بقوله: وما منا والمعنى: ما منا ملك إلا له [ ص: 93 ] مقام معلوم أي: مكان في السموات مخصوص يعبد الله فيه، وإنا لنحن الصافون قال قتادة: صفوف في السماء . وقال السدي: هو الصلاة . وقال ابن السائب: صفوفهم في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض .

    قوله تعالى: وإنا لنحن المسبحون فيه قولان . أحدهما: المصلون . والثاني: المنزهون لله عز وجل عن السوء . وكان عمر بن الخطاب إذا أقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه وقال: يا أيها الناس استووا، فإنما يريد الله بكم هدي الملائكة، وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون .

    ثم عاد إلى الإخبار عن المشركين، فقال: وإن كانوا ليقولون اللام في "ليقولون" لام توكيد; والمعنى: وقد كان كفار قريش يقولون قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن عندنا ذكرا أي: كتابا من الأولين أي: مثل كتب الأولين، وهم اليهود والنصارى، لكنا عباد الله المخلصين أي: لأخلصنا العبادة لله عز وجل .

    فكفروا به فيه اختصار، تقديره: فلما آتاهم ما طلبوا، كفروا به، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وهذا تهديد لهم .

    ولقد سبقت كلمتنا أي: تقدم وعدنا للمرسلين بنصرهم والكلمة قوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة: 21]، إنهم لهم المنصورون بالحجة، وإن جندنا يعني حزبنا المؤمنين لهم الغالبون بالحجة أيضا والظفر . فتول عنهم أي: أعرض عن كفار مكة حتى حين أي: حتى تنقضي مدة إمهالهم . وقال مجاهد: حتى نأمرك بالقتال; [ ص: 94 ] فعلى هذا، الآية محكمة . وقال في رواية: حتى الموت; وكذلك قال قتادة . وقال ابن زيد: حتى القيامة; فعلى هذا، يتطرق نسخها . وقال مقاتل بن حيان: نسختها آية القتال .

    قوله تعالى: وأبصرهم أي: انظر إليهم إذا نزل العذاب . قال مقاتل بن سليمان: هو العذاب ببدر; وقيل: أبصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون ما أنكروا، وكانوا يستعجلون بالعذاب تكذيبا به، فقيل: أفبعذابنا يستعجلون؟! .

    فإذا نزل يعني العذاب . وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران، والجحدري ، وابن يعمر: "فإذا نزل" برفع النون وكسر الزاي وتشديدها بساحتهم أي: بفنائهم وناحيتهم . والساحة: فناء الدار . قال الفراء: العرب تكتفي بالساحة والعقوة من القوم، فيقولون: نزل بك العذاب وبساحتك . قال الزجاج : فكان عذاب هؤلاء القتل فساء صباح المنذرين أي: بئس صباح الذين أنذروا العذاب .

    ثم كرر ما تقدم توكيدا لوعده بالعذاب، فقال: وتول عنهم . . . . الآيتين .

    ثم نزه نفسه عن قولهم بقوله: سبحان ربك رب العزة قال مقاتل: يعني عزة من يتعزز من ملوك الدنيا .

    قوله تعالى: عما يصفون أي: من اتخاذ النساء والأولاد .

    [ ص: 95 ] وسلام على المرسلين فيه وجهان . أحدهما: تسليمه عليهم إكراما لهم . والثاني: إخباره بسلامتهم .

    والحمد لله رب العالمين على هلاك المشركين ونصرة الأنبياء والمرسلين .
    [ ص: 96 ] سُورَةُ صَ

    وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ دَاوُدَ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ [كُلُّهَا] بِإِجْمَاعِهِمْ

    فَأَمَّا سَبَبُ نُزُولِ أَوَّلِهَا، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا شَكَوَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: "يَا عَمِّ، إِنَّمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَذِلُّ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ بِهَا الْعَجَمُ"، قَالَ: كَلِمَةٌ؟ قَالَ: "كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ"، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، فَقَالُوا: أَجْعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟! فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: ص وَالْقُرْآنِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ . كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ .

    [ ص: 97 ] وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى "صَ" عَلَى سَبْعَةِ أَقَوْالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى: صَدَقَ مُحَمَّدٌ، رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّالِثُ: صَدَقَ اللَّهُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ: صَادِقٌ فِيمَا وَعَدَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : مَعْنَاهُ: الصَّادِقُ اللَّهُ تَعَالَى .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اسْمُ حَيَّةٍ رَأْسُهَا تَحْتَ الْعَرْشِ وَذَنَبُهَا تَحْتَ الْأَرْضِ السُّفْلَى، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَقَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ عِكْرِمَةَ .

    وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى: حَادِثِ الْقُرْآَنِ، أَيِ: انْظُرْ فِيهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرُوا، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، [وَالْحَسَنُ]، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى: صَادِ بِعَمَلِكَ الْقُرْآَنُ، أَيْ: عَارَضَهُ . وَقِيلَ: اعْرِضْهُ عَلَى عَمَلِكَ، فَانْظُرْ أَيْنَ هُوَ [مِنْهُ] .

    وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى: صَادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ الْخَلْقِ وَاسْتَمَالَهَا حَتَّى آَمَنُوا بِهِ وَأَحَبُّوهُ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي رَجَاءٍ، وَأَبِي الْجَوْزَاءِ، [ ص: 98 ] وَحَمِيدٍ، وَمَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَالْقِرَاءَةُ "صَادْ" بِتَسْكِينِ الدَّالِّ، لِأَنَّهَا مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي . وَقَدْ قُرِئَتْ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ; فَمَنْ فَتَحَهَا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا: لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . وَالثَّانِي: عَلَى مَعْنَى: أُتْلُ "صَادْ"، وَيَكُونُ [صَادْ] اسْمًا لِلسُّورَةِ يَنْصَرِفُ; وَمَنْ كَسَرَ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا: لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ أَيْضًا . وَالثَّانِي: عَلَى مَعْنَى: صَادِ الْقُرْآَنُ بِعَمَلِكَ، مِنْ قَوْلِكَ: صَادَى يُصَادِي: إِذَا قَابَلَ وَعَادَلَ، يُقَالُ: صَادَيْتُهُ: إِذَا قَابَلَتْهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: ذِي الذِّكْرِ فِي الْمُرَادِ بِالذِّكْرِ ثَلَاثَةُ أَقَوْالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الشَّرَفُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: الْبَيَانُ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: التَّذْكِيرُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .

    فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ جَوَابُ الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: "صَ وَالْقُرْآَنِ ذِي الذَّكَرِ"؟

    فَعَنْهُ خَمْسَةُ أَجْوِبَةٍ .

    أَحَدُهَا: أَنْ "صَ" جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَالْقُرْآَنِ"، فَـ "صَ" فِي مَعْنَاهَا، كَقَوْلِكَ: وَجَبَ وَاللَّهِ، نَزَلَ وَاللَّهِ، حُقٌّ وَاللَّهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبُ .

    [ ص: 99 ] وَالثَّانِي: أَنَّ جَوَابَ "صَ" قَوْلُهُ: "كَمْ أَهْلَكْنَا مَنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ"، وَمَعْنَاهُ: لَكُمْ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ، حُذِفَتِ اللَّامُ، وَمِثْلُهُ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا قَدْ أَفْلَحَ [الشَّمْسِ: 1 وَ 9]، فَإِنَّ الْمَعْنَى: لَقَدْ أَفْلَحَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ، تَبِعَهُ قَوْلُهُ: "قَدْ أَفْلَحَ"، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ أَيْضًا .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَوْلُهُ: "إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ" [ص: 14]، حَكَاهُ الْأَخْفَشُ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَوْلُهُ: "إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ" [ص: 64]، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا نَجِدُهُ مُسْتَقِيمًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، لِتَأَخُّرِهِ جِدًّا عَنْ قَوْلِهِ: وَالْقُرْآَنُ" .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَالْقُرْآَنُ ذِي الذِّكْرِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، وَإِلَى نَحْوِهِ ذَهَبَ قَتَادَةُ . وَالْعِزَّةُ: الْحَمِيَّةُ وَالتَّكَبُّرُ عَنِ الْحَقِّ . وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَبُو رَزِينٍ ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: "فِي غِرَّةٍ" بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ . وَالشِّقَاقُ: الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْكَلِمَتَيْنِ مَشْرُوحًا [الْبَقَرَةِ: 206، 138] .

    ثُمَّ خَوَّفَهُمْ بِقَوْلِهِ: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يَعْنِي الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ فَنَادَوْا عِنْدَ وُقُوعِ الْهَلَاكِ بِهِمْ . وَفِي هَذَا النِّدَاءِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الدُّعَاءُ . وَالثَّانِي: الِاسْتِغَاثَةُ .

    [ ص: 100 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ يَعْمُرَ: "وَلَاتَ حِينَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَرَفْعِ النُّونِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ حِينَ يَرَوْهُ فِرَارٌ . وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ "لَاتَ" بِمَعْنَى "لَيْسَ" . وَقَالَ وَهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هِيَ بِالسُّرْيَانِي َّةِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "لَاتَ" بِمَعْنَى "لَيْسَ"، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ بِحِينِ فِرَارٍ . وَمِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ يَخْفِضُ "لَاتَ"، وَالْوَجْهُ النَّصْبُ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى "لَيْسَ"، أَنْشَدَنِي الْمُفَضَّلُ:


    تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لَاتَ حِينًا وَأَضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ الْقَرِينَا


    قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : كَانَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ التَّاءَ فِي قَوْلِهِ: "وَلَاتَ" مُنْقَطِعَةٌ مِنْ "حِينَ" قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَقْفُ عِنْدِي عَلَى هَذَا الْحَرْفِ "وَلَا"، وَالِابْتِدَاءِ "تَحِينُ" لِثَلَاثِ حُجَجٍ .

    إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَشْهَدُ لَهَا، لِأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ حِينَ يَرَوْهُ فِرَارٌ; فَقَدْ عَلِمَ أَنْ "لَيْسَ" هِيَ أُخْتُ "لَا" وَفِي مَعْنَاهَا .

    وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّا لَا نَجْدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ "وَلَاتَ"، إِنَّمَا الْمَعْرُوفَةُ "لَا" .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #465
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ صَ
    الحلقة (465)
    صــ 101 إلى صــ 110






    وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذِهِ التَّاءَ، إِنَّمَا وَجَدْنَاهَا تَلْحَقُ مَعَ "حِينَ" وَمَعَ "الْآَنِ" وَمَعَ الْـ "أَوَانِ"، فَيَقُولُونَ: كَانَ هَذَا تَحِينَ كَانَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ: "تَأَوَانَ"، وَيُقَالُ: اذْهَبْ تَلَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ: [ ص: 101 ]
    الْعَاطِفُونَ تَحِينُ مَا مِنْ عَاطِفٍ وَالْمُطْعِمُون َ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعِمِ


    وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ: الْعَاطِفُونَهُ " بِالْهَاءِ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ: "حِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ"; قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْهَاءَ إِنَّمَا تُقْحَمُ عَلَى النُّونِ فِي مَوَاضِعِ الْقَطْعِ وَالسُّكُونِ، فَأَمَّا مَعَ الِاتِّصَالِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِ يَّ: النَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: "وَلَاتَ" هِيَ "لَا" زِيدَتْ فِيهَا التَّاءُ، كَمَا قَالُوا: ثُمَّ وَثَمَّتْ، وَرُبَّ وَرُبَّتْ، وَأَصْلُهَا هَاءٌ وُصِلَتْ بِـ "لَا"، فَقَالُوا: "لَاهٍ"، فَلَمَّا وَصَلُوهَا، جَعَلُوهَا تَاءً; وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ الْوَقْفُ عَلَى "لَا" .

    فَأَمَّا الْمَنَاصُ، فَهُوَ الْفِرَارُ . قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّوْصُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: التَّأَخُّرُ، وَالْبَوْصُ: التَّقَدُّمُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:


    أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إِذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةً وَتَبُوصُ


    [ ص: 102 ] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَنَاصُ: مَصْدَرُ نَاصَّ يَنُوصُ، وَهُوَ الْمَنْجَى وَالْفَوْزُ .
    وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب . أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب . وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق . أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب . أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب . أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب . جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب .

    قوله تعالى: وعجبوا يعني الكفار أن جاءهم منذر منهم يعني رسولا من أنفسهم ينذرهم النار .

    أجعل الآلهة إلها واحدا لأنه دعاهم إلى الله وحده وأبطل عبادة آلهتهم; وهذا قولهم لما اجتمعوا عند أبي طالب، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، وهي "لا إله إلا الله"، فقاموا يقولون: "أجعل الآلهة إلها واحدا"، ونزلت هذه الآية فيهم . إن هذا [الذي] يقول محمد من أن الآلهة إلها واحدا لشيء عجاب أي: لأمر عجب . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن السميفع: [ ص: 103 ] "عجاب" بتشديد الجيم . قال اللغويون: العجاب والعجاب والعجيب بمعنى واحد، كما تقول: كبير وكبار وكبار، وكريم وكرام وكرام، وطويل وطوال وطوال; وأنشد الفراء:


    جاؤوا بصيد عجب من العجب أزيرق العينين طوال الذنب


    قال قتادة: عجب المشركون أن دعي الله وحده، وقالوا: أيسمع لحاجتنا جميعا إله واحد؟!

    و قوله تعالى: وانطلق الملأ منهم قال المفسرون: لما اجتمع أشراف قريش عند أبي طالب وشكوا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سبق بيانه، نفروا من قول: "لا إله إلا الله"، وخرجوا من عند أبي طالب، فذلك قوله: "وانطلق الملأ منهم" . الانطلاق: الذهاب بسهولة، ومنه طلاقة الوجه . والملأ: أشراف قريش . فخرجوا يقول بعضهم لبعض: امشوا . و " أن " بمعنى "أي"; فالمعنى: أي: امشوا . قال الزجاج : ويجوز أن يكون المعنى: انطلقوا بأن امشوا، أي: انطلقوا بهذا القول . وقال بعضهم: المعنى: انطلقوا يقولون: امشوا إلى أبي طالب فاشكوا إليه ابن أخيه، واصبروا على آلهتكم أي: اثبتوا على عبادتها إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد لشيء يراد أي: لأمر يراد بنا .

    ما سمعنا بهذا الذي جاء به محمد من التوحيد في الملة الآخرة وفيها ثلاثة أقوال .

    أحدها: النصرانية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وإبراهيم بن المهاجر عن مجاهد، وبه قال محمد بن كعب القرظي، ومقاتل .

    [ ص: 104 ] والثاني: أنها ملة قريش، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة .

    والثالث: اليهودية والنصرانية، قاله الفراء، والزجاج; والمعنى أن اليهود أشركت بعزير، والنصارى قالت: ثالث ثلاثة، فلهذا أنكرت التوحيد .

    إن هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا اختلاق أي: كذب . أأنزل عليه الذكر يعنون القرآن . "عليه" يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بيننا أي: كيف خص بهذا دوننا وليس بأعلانا نسبا ولا أعظمنا شرفا؟! قال الله تعالى: بل هم في شك من ذكري أي: من القرآن; والمعنى أنهم ليسوا على يقين مما يقولون، إنما هم شاكون بل لما قال مقاتل: "لما" بمعنى "لم" كقوله: ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [الحجرات: 14] . وقال غيره: هذا تهديد لهم; والمعنى أنه لو نزل بهم العذاب، علموا أن ما قاله محمد حق . وأثبت ياء " عذابي " في الحالين يعقوب .

    قال الزجاج : ولما دل قولهم: "أأنزل عليه الذكر" على حسدهم له، أعلم الله عز وجل أن الملك والرسالة إليه، فقال: أم عندهم خزائن رحمة ربك ؟! قال المفسرون: ومعنى الآية: أبأيديهم مفاتيح النبوة فيضعونها حيث شاؤوا؟! والمعنى: ليست بأيديهم، ولا ملك السموات والأرض لهم، فإن ادعوا شيئا من ذلك فليرتقوا في الأسباب قال سعيد بن جبير: أي في أبواب السماء . وقال الزجاج : فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء .

    قوله تعالى: جند أي: هم جند . والجند: الأتباع; فكأنه قال: هم أتباع مقلدون ليس فيهم عالم راشد . و ما زائدة، و هنالك إشارة إلى بدر . والأحزاب: جميع من تقدمهم من الكفار الذين تحزبوا على [ ص: 105 ] الأنبياء . قال قتادة: أخبر الله نبيه وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر .
    كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد . وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب . إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب . وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق .

    قوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح قال أبو عبيدة: قوم من العرب يؤنثون "القوم"، وقوم يذكرون، فإن احتج عليهم بهذه الآية، قالوا: وقع المعنى على العشيرة، واحتجوا بقوله كلا إنها تذكرة [عبس: 11]، قالوا: والمضمر مذكر .

    قوله تعالى: وفرعون ذو الأوتاد فيه ستة أقوال .

    أحدها: أنه كان يعذب الناس بأربعة أوتاد يشدهم فيها، ثم يرفع صخرة فتلقى على الإنسان فتشدخه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وكذلك قال الحسن، ومجاهد: كان يعذب الناس بأوتاد يوتدها في أيديهم وأرجلهم .

    والثاني: أنه ذو البناء المحكم، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الضحاك، والقرظي، واختاره ابن قتيبة ، قال: والعرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون أنه دائم شديد، وأصل هذا، أن البيت [من بيوتهم] يثبت بأوتاد، قال الأسود بن يعفر:

    [ ص: 106 ]
    [ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة] في ظل ملك ثابت الأوتاد


    والثالث: أن المراد بالأوتاد: الجنود، رواه عطية عن ابن عباس، وذلك أنهم كانوا يشدون ملكه ويقوون أمره كما يقوي الوتد الشيء .

    والرابع: أنه كان يبني منارا يذبح عليها الناس .

    والخامس: أنه كان له أربع أسطوانات، فيأخذ الرجل فيمد كل قائمة إلى أسطوانة فيعذبه، روي القولان عن سعيد بن جبير .

    والسادس: أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها، قاله عطاء، وقتادة .

    ولما ذكر المكذبين، قال: أولئك الأحزاب فأعلمنا أن مشركي قريش من هؤلاء، وقد عذبوا وأهلكوا، فحق عقاب أثبت الياء في الحالين [ ص: 107 ] يعقوب . وما ينظر أي: وما ينتظر هؤلاء يعني كفار مكة إلا صيحة واحدة وفيها قولان . أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله مقاتل . والثاني: النفخة الأخيرة، قاله ابن السائب .

    وفي الفواق قراءتان . قرأ حمزة، وخلف، والكسائي: بضم الفاء . وقرأ الباقون: بفتحها . وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، وهو معنى قول الفراء، وابن قتيبة، والزجاج . قال الفراء: والمعنى: ما لها من راحة ولا إفاقة، وأصله من الإفاقة في الرضاع إذا ارتضعت البهيمة أمها ثم تركتها حتى تنزل شيئا من اللبن، فتلك الإفاقة . وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العيادة قدر فواق ناقة" . ومن يفتح الفاء، فيه لغة جيدة عالية . وقال ابن قتيبة : الفواق والفواق واحد، وهو أن تحلب الناقة وتترك ساعة حتى تنزل شيئا من اللبن، ثم تحلب، فما بين الحلبتين فواق، فاستعير الفواق في موضع المكث والانتظار . وقال الزجاج : الفواق: ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتق من الرجوع، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، يقال: أفاق من مرضه، أي: رجع إلى الصحة .

    والثاني: أن من فتحها، أراد: ما لها من راحة، ومن ضمها، أراد: فواق الناقة، قاله أبو عبيدة .

    [ ص: 108 ] وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال .

    أحدها: ما لها من رجعة، ثم فيه قولان . أحدهما: ما لها من ترداد، قاله ابن عباس، والمعنى أن تلك الصيحة لا تكرر . والثاني: ما لها من رجوع إلى الدنيا، قاله الحسن، وقتادة، والمعنى أنهم لا يعودون بعدها إلى الدنيا .

    والثاني: ما لهم منها من إفاقة، بل تهلكهم، قاله ابن زيد .

    والثالث: ما لها من فتور ولا انقطاع، قاله ابن جرير .

    والرابع: ما لها من راحة، حكاه جماعة من المفسرين .
    وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب . إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . والطير محشورة كل له أواب . وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب .

    قوله تعالى وقالوا ربنا عجل لنا قطنا في سبب قولهم هذا قولان .

    أحدهما: أنه لما ذكر لهم ما في الجنة، قالوا هذا، قاله سعيد بن جبير، والسدي .

    والثاني: أنه لما نزل قوله: فأما من أوتي كتابه بيمينه . . . الآيات [الحاقة: 19 37]، قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتبنا بشمائلنا؟! فعجل لنا قطنا، يقولون ذلك تكذيبا له، قاله أبو العالية، ومقاتل .

    وفي المراد بالقط أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الصحيفة، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال الفراء: القط [ ص: 109 ] في كلام العرب: الصك وقال أبو عبيدة: القط: الكتاب، والقطوط: الكتب بالجوائز، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، ومقاتل، وابن قتيبة .

    والثاني: أن القط: الحساب، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث: أنه القضاء، قاله عطاء الخراساني، والمعنى أنهم لما وعدوا بالقضاء بينهم، سألوا ذلك .

    والرابع: أنه النصيب، قاله سعيد بن جبير . ، [قال الزجاج : القط: النصيب، وأصله: الصحيفة يكتب للإنسان فيها شيء يصل إليه، واشتقاقه من قططت، أي: قطعت، فالنصيب: هو القطعة من الشيء . ثم في هذا القول للمفسرين قولان . أحدهما: أنهم سألوه نصيبهم من الجنة، قاله سعيد بن جبير] .

    والثاني: سألوه نصيبهم من العذاب، قاله قتادة . وعلى جميع الأقوال، إنما سألوا ذلك استهزاء لتكذيبهم بالقيامة .

    اصبر على ما يقولون أي: من تكذيبهم وأذاهم; وفي هذا قولان .

    [ ص: 110 ] أحدهما: أنه أمر بالصبر، سلوكا لطريق أولي العزم، وهذا محكم .

    والثاني: أنه منسوخ بآية السيف فيما زعم الكلبي .

    قوله تعالى: واذكر عبدنا داود في وجه المناسبة بين قوله: "اصبر" وبين قوله: "واذكر عبدنا داود" قولان .

    أحدهما: أنه أمر أن يتقوى على الصبر بذكر قوة داود على العبادة والطاعة

    والثاني: أن المعنى: عرفهم أن الأنبياء عليهم السلام -مع طاعتهم- كانوا خائفين مني، هذا داود مع قوته على العبادة، لم يزل باكيا مستغفرا، فكيف حالهم مع أفعالهم؟!

    فأما قوله: ذا الأيد فقال ابن عباس: هي القوة في العبادة . وفي "الصحيحين" من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" .

    وفي الأواب أقوال قد ذكرناها في [بني إسرائيل: 25] .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #466
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ صَ
    الحلقة (466)
    صــ 111 إلى صــ 120






    إنا سخرنا الجبال معه يسبحن قد ذكرنا تسبيح الجبال معه في [الأنبياء: 79]، وذكرنا معنى العشي في مواضع مما تقدم [آل عمران: 41، الأنعام: 53]، وذكرنا معنى الإشراق في [الحجر: 73] عند قوله: مشرقين . قال الزجاج : الإشراق: طلوع الشمس [وإضاءتها] . وروي عن ابن عباس [ ص: 111 ] أنه قال: طلبت صلاة الضحى، فلم أجدها إلا في هذه الآية . وقد ذكرنا عنه أن صلاة الضحى مذكورة في [النور: 36] في قوله: بالغدو والآصال .

    قوله تعالى: والطير محشورة وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء والضحاك ، وابن أبي عبلة: "والطير محشورة" بالرفع فيهما، أي: مجموعة إليه، تسبح الله معه كل له في هاء الكناية قولان .

    أحدهما: أنها ترجع إلى داود، أي: كل لداود أواب أي: رجاع إلى طاعته وأمره، والمعنى: كل له مطيع بالتسبيح معه، هذا قول الجمهور .

    والثاني: [أنها] ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى: كل مسبح لله، قاله السدي .

    قوله تعالى: وشددنا ملكه أي: قويناه . وفي ما شد به ملكه قولان .

    أحدهما: أنه الحرس والجنود; قال ابن عباس: كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل .

    والثاني: أنه هيبة ألقيت له في قلوب الناس; وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا .

    قوله تعالى: وآتيناه الحكمة وفيها أربعة أقوال أحدها: أنها الفهم، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد . والثاني: الصواب، قاله مجاهد . والثالث: السنة، قاله قتادة . والرابع: النبوة، قاله السدي .

    وفي فصل الخطاب أربعة أقوال .

    أحدها: علم القضاء والعدل، قاله ابن عباس، والحسن .

    [ ص: 112 ] والثاني: بيان الكلام، روي عن ابن عباس أيضا . وذكر الماوردي أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود .

    والثالث: قول: "أما بعد"، وهو أول من تكلم بها، قاله أبو موسى الأشعري، والشعبي .

    والرابع: تكليف المدعي البينة، والمدعى عليه اليمين، قاله شريح، وقتادة; وهو قول حسن، لأن الخصومة إنما تفصل بهذا .
    وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب . إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط . إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب . قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب . فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب . يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب .

    قوله تعالى: وهل أتاك نبأ الخصم قال أبو سليمان: المعنى: قد أتاك فاستمع له نقصص عليك .

    [ ص: 113 ] واختلف العلماء في السبب الذي امتحن لأجله داود عليه السلام بما امتحن به على خمسة أقوال .

    أحدها: أنه قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لو وددت أنك أعطيتني مثله، فقال الله تعالى: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به وأعطيتك كما أعطيتهم؟ قال: نعم، فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت، فذهب ليأخذها، فرأى امرأة تغتسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال السدي .

    والثاني: أنه ما زال يجتهد في العبادة حتى برز له قرناؤه من الملائكة وكانوا يصلون معه ويسعدونه بالبكاء، فلما استأنس بهم، قال: أخبروني بأي شيء أنتم موكلون؟ قالوا: ما نكتب عليك ذنبا، بل نكتب صالح عملك ونثبتك ونوفقك ونصرف عنك السوء، فقال في نفسه: ليت شعري، كيف أكون لو خلوني ونفسي; وتمنى أن يخلى بينه وبين نفسه ليعلم كيف يكون، فأمر الله تعالى قرناءه أن يعتزلوه ليعلم أنه لا غناء به عن الله [عز وجل، فلما فقدهم، جد واجتهد ضعف عبادته إلى أن ظن أنه قد غلب نفسه، فأراد الله تعالى] أن يعرفه ضعفه، فأرسل إليه طائرا من طيور الجنة، فسقط في محرابه، فقطع صلاته ومد يده إليه، فتنحى عن مكانه، فأتبعه بصره، فإذا امرأة أوريا، هذا قول وهب بن منبه .

    [ ص: 114 ] والثالث: أنه تذاكر هو وبنو إسرائيل، فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته، أغلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد وأكب على قراءة الزبور، فإذا حمامة من ذهب، فأهوى إليها فطارت، فتبعها فرأى المرأة، رواه مطر عن الحسن .

    والرابع: أنه قال لبني إسرائيل حين ملك: والله لأعدلن بينكم، ولم يستثن، فابتلي، رواه قتادة عن الحسن .

    والخامس: أنه أعجبه كثرة عمله، فابتلي، قاله أبو بكر الوراق .

    الإشارة إلى قصة ابتلائه

    قد ذكرنا عن وهب أنه قال: كانت الحمامة من طيور الجنة . وقال السدي: تصور له الشيطان في صورة حمامة . قال المفسرون: إنه لما تبع الحمامة، رأى امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل، وقيل: بل على سطح لها، فعجب [ ص: 115 ] من حسنها، فحانت منها التفاتة فرأت ظله، فنقضت شعرها، فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها، فسأل عنها، فقيل: هذه امرأة أرويا، وزوجها في غزاة، فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا، وقدمه قبل التابوت، وكان من قدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح عليه أو يستشهد، ففعل ذلك، ففتح عليه، فكتب إلى داود يخبره، فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، ففتح له، فكتب إلى داود يخبره، فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، فقتل في المرة الثالثة، فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود، فهي أم سليمان، فلما دخل بها، لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله عز وجل ملكين في صورة إنسيين، وقيل: لم يأته الملكان حتى جاء منها سليمان وشب، ثم أتياه فوجداه في محراب عبادته، فمنعهما الحرس من الدخول إليه، فتسوروا المحراب عليه; وعلى هذا الذي ذكرناه من القصة أكثر المفسرين، وقد روى نحوه العوفي عن ابن عباس، وروي عن الحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل في آخرين . وذكر جماعة من المفسرين أن داود لما نظر إلى المرأة، سأل عنها، وبعث زوجها إلى الغزاة مرة بعد مرة إلى أن قتل، فتزوجها; وروي مثل [هذا] عن ابن عباس، ووهب، والحسن في جماعة . قال المصنف: وهذا لا يصح من طريق النقل، ولا يجوز من حيث المعنى، لأن الأنبياء منزهون عنه .

    وقد اختلف المحققون في ذنبه الذي عوتب عليه على أربعة أقوال .

    أحدها: أنه لما هويها، قال لزوجها: تحول لي عنها، فعوتب على ذلك . وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما زاد داود على أن قال لصاحب [ ص: 116 ] المرأة: أكفلنيها وتحول لي عنها; ونحو ذلك روي عن ابن مسعود . وقد حكى أبو سليمان الدمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غزاته، فأدناه وأكرمه جدا، إلى أن قال له يوما: انزل لي عن امرأتك; وانظر أي امرأة شئت في بني إسرائيل أزوجكها، أو أي أمة شئت أبتاعها لك، فقال: لا أريد بامرأتي بديلا; فلما لم يجبه إلى ما سأل، أمره أن يرجع إلى غزاته .

    والثاني: أنه تمنى تلك المرأة حلالا، وحدث نفسه بذلك، فاتفق غزو أوريا وهلاكه من غير أن يسعى في سبب قتله ولا في تعريضه للهلاك، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده، ثم تزوج امرأته، فعوتب على ذلك . وذنوب الأنبياء عليهم السلام وإن صغرت، فهي عظيمة عند الله عز وجل .

    والثالث: أنه لما وقع بصره عليها، أشبع النظر إليها حتى علقت بقلبه .

    والرابع: أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة، فخطبها داود مع علمه بأن أوريا قد خطبها، فتزوجها، فاغتم أوريا، وعاتب الله تعالى داود إذ لم يتركها لخاطبها الأول; واختار القاضي أبو يعلى هذا القول، واستدل عليه بقوله: وعزني في الخطاب ، قال: فدل هذا على أن الكلام إنما كان بينهما في الخطبة، ولم يكن قد تقدم تزوج الآخر، فعوتب داود عليه السلام لشيئين ينبغي للأنبياء التنزه عنهما، أحدهما: خطبته على خطبته غيره، والثاني: إظهار الحرص على التزويج مع كثرة نسائه، ولم يعتقد ذلك معصية، فعاتبه الله تعالى عليها; قال: فأما ما روي أنه نظر إلى المرأة فهويها وقدم زوجها للقتل، [ ص: 117 ] فإنه وجه لا يجوز على الأنبياء، لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العلم بها .

    قال الزجاج : إنما قال: "الخصم" بلفظ الواحد، وقال: "تسوروا المحراب" بلفظ الجماعة، لأن قولك: خصم، يصلح للواحد والاثنين والجماعة والذكر والأنثى، تقول: هذا خصم، وهي خصم، وهما خصم، وهم خصم; وإنما يصلح لجميع ذلك لأنه مصدر، تقول: خصمته أخصمه خصما . والمحراب هاهنا كالغرفة، قال الشاعر:

    [ ص: 118 ]
    ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما


    و "تسوروا" يدل على علو .

    قال المفسرون: كانا ملكين، وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما السلام، أتياه لينبهاه على التوبة . وإنما قال: "تسوروا" وهما اثنان، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء، والاثنان فما فوقهما جماعة .

    قوله تعالى: إذ دخلوا على داود قال الفراء: يجوز أن يكون معنى "تسوروا" دخلوا، فيكون تكرارا; ويجوز أن تكون "إذ" بمعنى "لما"، فيكون المعنى: إذ تسوروا المحراب لما دخلوا، ولما تسوروا إذ دخلوا .

    قوله تعالى: ففزع منهم وذلك أنهما أتيا على غير صفة مجيء الخصوم، وفي غير وقت الحكومة، ودخلا تسورا من غير إذن . وقال أبو الأحوص: دخلا عليه وكل واحد منهما آخذ برأس صاحبه . و خصمان مرفوع بإضمار "نحن" قال ابن الأنباري: [المعنى]: نحن كخصمين، ومثل خصمين، فسقطت الكاف، وقام الخصمان مقامها، كما تقول العرب: عبد الله القمر حسنا، وهم يريدون: مثل القمر، قالت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمها:


    من حس لي الأخوين كالغصنين أو من رآهما

    أسدين في عيل يحيد القوم عن عرواهما


    [ ص: 119 ] صقرين لا يتذللان ولا يباح حماهما

    رمحين خطيين في كبد السماء تراهما


    أرادت: مثل أسدين، ومثل صقرين، فأسقطت مثلا وأقامت الذي بعده مقامه . ثم صرف الله عز وجل النون والألف في "بعضنا" إلى "نحن" المضمر، كما تقول العرب: نحن قوم شرف أبونا، ونحن قوم شرف أبوهم، والمعنى واحد . والحق هاهنا: العدل .

    ولا تشطط أي: لا تجر، يقال: شط وأشط: إذا جار . وقرأ ابن أبي عبلة: "ولا تشطط" بفتح التاء وضم الطاء . قال الفراء: وبعض العرب يقول: شططت علي في السموم، وأكثر الكلام "أشططت" بالألف، وشطت الدار: تباعدت .

    قوله تعالى: واهدنا إلى سواء الصراط أي: إلى قصد الطريق; والمعنى: احملنا على الحق . فقال داود: تكلما، فقال أحدهما: إن هذا أخي قال ابن الأنباري: المعنى: قال أحد الخصمين اللذين شبه الملكان بهما: إن هذا أخي، فأضمر القول لوضوح معناه له تسع وتسعون نعجة قال الزجاج : كني عن المرأة بالنعجة . وقال غيره: العرب تشبه النساء بالنعاج، وتوري عنها بالشاء والبقر . قال ابن قتيبة : ورى عن ذكر النساء بذكر النعاج، كما قال عنترة:

    [ ص: 120 ]
    يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت علي وليتها لم تحرم


    يعرض بجارية، يقول: أي صيد أنت لمن حل له أن يصيدك! فأما أنا، فإن حرمة الجوار قد حرمتك علي . وإنما ذكر الملك هذا العدد لأنه عدد نساء داود .

    قوله تعالى: ولي نعجة واحدة فتح الياء حفص عن عاصم، وأسكنها الباقون .

    فقال أكفلنيها قال ابن قتيبة : أي: ضمها إلي واجعلني كافلها . وقال الزجاج : انزل أنت عنها واجعلني أنا أكفلها .

    قوله تعالى: وعزني في الخطاب أي: غلبني في القول . وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين [العقيلي]، والضحاك ، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: "وعازني" بألف، أي: غالبني . قال ابن مسعود، وابن عباس في قوله "وعزني في الخطاب": ما زاد على أن قال: انزل لي عنها . وروى العوفي عن ابن عباس قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشد مني .

    فإن قيل: كيف قال الملكان هذا، وليس شيء منه موجودا عندهما؟

    فالجواب: أن العلماء قالوا: إنما هذا على سبيل المثل والتشبيه بقصة داود، وتقدير كلامهما: ما تقول إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا؟ وكان داود لا يرى أن عليه تبعة فيما فعل، فنبهه الله بالملكين . وقال ابن قتيبة : هذا مثل ضربه الله [له] ونبهه على خطيئته . وقد ذكرنا آنفا أن المعنى: نحن كخصمين .

    قوله تعالى: قال يعني داود لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #467
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ صَ
    الحلقة (467)
    صــ 121 إلى صــ 130






    [ ص: 121 ] قال الفراء: أي: بسؤاله نعجتك، فإذا ألقيت الهاء من السؤال، أضفت الفعل إلى النعجة، ومثله: لا يسأم الإنسان من دعاء الخير [فصلت: 49]، أي: من دعائه بالخير، فلما ألقى الهاء، أضاف الفعل إلى الخير، وألقى من الخير الباء، وأنشدوا:


    فلست مسلما ما دمت حيا على زيد بتسليم الأمير


    أي: بتسليم على الأمير .

    قوله تعالى: إلى نعاجه أي: ليضمها إلى نعاجه . قال ابن قتيبة : المعنى: بسؤال نعجتك مضمومة إلى نعاجه، فاختصر . قال: ويقال "إلى" بمعنى "مع" .

    فإن قيل: كيف حكم داود قبل أن يسمع كلام الآخر؟

    فالجواب: أن الخصم الآخر اعترف، فحكم عليه باعترافه، وحذف ذكر الاعتراف اكتفاء بفهم السامع، والعرب تقول: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال، أي: فاتجرت فكسبت، ويدل عليه قول السدي: إن داود قال للخصم الآخر: ما تقول؟ قال: نعم، أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي وهو كاره، قال: إذا لا ندعك، وإن رمت هذا ضربنا منك هذا -ويشير إلى أنفه وجبهته- فقال: أنت يا داود أحق أن يضرب هذا منك حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لأوريا إلا واحدة، فنظر داود فلم ير أحدا، فعرف ما وقع فيه .

    قوله تعالى: وإن كثيرا من الخلطاء يعني الشركاء، واحدهم: خليط، وهو المخالط في المال . وإنما قال هذا لأنه ظنهما شريكين، إلا الذين آمنوا [ ص: 122 ] أي: فإنهم لا يظلمون أحدا، وقليل ما هم "ما" زائدة، والمعنى: وقليل هم، وقيل: المعنى: هم قليل، يعني الصالحين الذين لا يظلمون .

    قوله تعالى: وظن داود أي: أيقن وعلم أنما فتناه فيه قولان . أحدهما: اختبرناه . والثاني: ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها . وقرأ عمر بن الخطاب: "أنما فتناه" بتشديد التاء والنون جميعا . وقرأ أنس بن مالك، وأبو رزين ، والحسن، وقتادة، وعلي بن نصر عن أبي عمرو: "أنما فتناه" بتخفيف التاء والنون جميعا، يعني الملكين، قال أبو علي الفارسي: يريد: صمدا له . وفي سبب علمه وتنبيهه على ذلك ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن الملكين أفصحا له بذلك، على ما ذكرناه عن السدي .

    والثاني: أنهما عرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه، فعلم أنه عني بذلك، قاله وهب .

    والثالث: أنه لما حكم بينهما، نظر أحدهما إلى صاحبه وضحك، ثم صعدا إلى السماء وهو ينظر، فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: فاستغفر ربه قال المفسرون: لما فطن داود بذنبه خر راكعا، قال ابن عباس: أي: ساجدا، وعبر عن السجود بالركوع، لأنهما بمعنى الانحناء . وقال بعضهم: المعنى: فخر بعد أن كان راكعا .

    فصل

    واختلف العلماء هل هذه من عزائم السجود؟ على قولين . أحدهما: ليست [ ص: 123 ] من عزائم السجود، قاله الشافعي . والثاني: أنها من عزائم السجود، قاله أبو حنيفة . وعن أحمد روايتان . قال المفسرون: فبقي في سجوده أربعين ليلة، لا يرفع رأسه إلا لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بد منها، ولا يأكل ولا يشرب، فأكلت الأرض من جبينه، ونبت العشب من دموعه، ويقول في سجوده: رب داود، زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب . قال مجاهد: نبت البقل من دموعه حتى غطى رأسه، ثم نادى: رب قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء، فنودي: أجائع فتطعم، أم مريض فتشفى، أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحيبا هاج كل شيء نبت، فعند ذلك غفر له، وقال ثابت البناني: اتخذ داود سبع حشايا من شعر وحشاهن من الرماد، ثم بكى حتى أنفذها دموعا، ولم يشرب شرابا إلا ممزوجا بدموع عينيه . وقال وهب بن منبه: نودي: يا داود ارفع رأسك فإنا قد غفرنا لك، فرفع رأسه وقد زمن وصار مرعشا .

    [ ص: 124 ] فأما قوله: وأناب فمعناه: رجع من ذنبه تائبا إلى ربه، فغفرنا له ذلك يعني الذنب وإن له عندنا لزلفى [قال ابن قتيبة ]: أي: تقدم وقربة .

    قوله تعالى: وحسن مآب قال مقاتل: حسن مرجع، وهو ما أعد الله له في الجنة .

    قوله تعالى: يا داود المعنى: وقلنا له يا داود إنا جعلناك أي: صيرناك خليفة في الأرض أي: تدبر أمر العباد من قبلنا بأمرنا، فكأنك خليفة عنا فاحكم بين الناس بالحق أي: بالعدل ولا تتبع الهوى أي: لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله عز وجل فيضلك عن سبيل الله أي: عن دينه إن الذين يضلون وقرأ أبو نهيك، وأبو حيوة، وابن يعمر: "يضلون" بضم الياء .

    قوله تعالى: بما نسوا يوم الحساب فيه قولان .

    أحدهما: بما تركوا العمل ليوم الحساب، قاله السدي . قال الزجاج : لما تركوا العمل لذلك اليوم، صاروا بمنزلة الناسين .

    والثاني: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا، أي: تركوا القضاء بالعدل، وهو قول عكرمة .
    [ ص: 125 ] وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار . أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار . كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب .

    قوله تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا أي: عبثا ذلك ظن الذين كفروا أن ذلك خلق لغير شيء، وإنما خلق للثواب والعقاب .

    أم نجعل الذين آمنوا قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة مثل ما تعطون، فنزلت هذه الآية . وقال ابن السائب: نزلت في الستة الذين تبارزوا يوم بدر، علي رضي الله عنه، وحمزة رضي الله عنه، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، فذكر أولئك بالفساد في الأرض لعملهم فيها بالمعاصي، وسمى المؤمنين بالمتقين لاتقائهم الشرك، وحكم الآية عام .

    قوله تعالى: كتاب أي: هذا كتاب، يعني القرآن، وقد بينا معنى بركته في سورة [الأنعام: 92] .

    [ ص: 126 ] ليدبروا آياته وقرأ عاصم في رواية: "لتدبروا آياته" بالتاء خفيفة الدال، أي: ليتفكروا فيها فيتقرر عندهم صحتها وليتذكر بما فيه من المواعظ أولو الألباب ، وقد سبق بيان هذا [الرعد: 19] .
    ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب . إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد . فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب . ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق . ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب . قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب . فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب . والشياطين كل بناء وغواص . وآخرين مقرنين في الأصفاد . هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب . وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب . واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب . اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب . ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب . وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب .

    قوله تعالى: نعم العبد يعني به سليمان .

    [ ص: 127 ] وفي الأواب أقوال قد تقدمت في [بني إسرائيل: 25] أليقها بهذا المكان أنه رجاع بالتوبة إلى الله تعالى مما يقع منه من السهو والغفلة .

    قوله تعالى: إذ عرض عليه بالعشي وهو ما بعد الزوال الصافنات وهي الخيل . وفي معنى الصافنات قولان .

    أحدهما: أنها القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل; وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وابن زيد، واختاره الزجاج ، وقال: هذا أكثر قيام الخيل إذا وقفت كأنها تراوح بين قوائمها، قال الشاعر:


    ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا


    والثاني: أنها القائمة، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث، قال الفراء: على هذا رأيت العرب، وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة . وقال ابن قتيبة : الصافن في كلام العرب: الواقف من الخيل وغيرها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقوم له الرجال صفونا، فليتبوأ مقعده من النار"، [ ص: 128 ] أي: يديمون القيام له .

    فأما الجياد، فهي السراع في الجري . وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه عرضها لأنه أراد جهاد عدو له، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

    والثاني: أنها كانت من دواب البحر . قال الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة . وقال إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرسا ذات أجنحة . وقال ابن زيد: أخرجتها له الشياطين من البحر .

    والثالث: أنه ورثها من أبيه داود عليه السلام، فعرضت عليه، قاله وهب بن منبه، ومقاتل .

    والرابع: أنه غزا جيشا، فظفر به وغنمها، فدعا بها فعرضت عليه، قاله ابن السائب .

    وفي عددها أربعة أقوال . أحدها: ثلاثة عشر ألفا، قاله وهب . والثاني: عشرون ألفا، قاله سعيد بن مسروق . والثالث: ألف فرس، قاله ابن السائب، ومقاتل . والرابع: عشرون فرسا، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي .

    [ ص: 129 ] قال المفسرون: ولم تزل تعرض عليه إلى أن غابت الشمس، ففاتته صلاة العصر، وكان مهيبا لا يبتدئه أحد بشيء، فلم يذكروه، ونسي هو، فلما غابت الشمس ذكر الصلاة، فقال إني أحببت فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو حب الخير وفيه قولان . أحدهما: أنه المال، قاله سعيد بن جبير، والضحاك . والثاني: حب الخيل، قاله قتادة، والسدي . والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأنه أراد بالخير الخيل، وهي مال . وقال الفراء: العرب تسمي الخيل: الخير . قال الزجاج : وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخيل: زيد الخير، ومعنى "أحببت" آثرت حب الخير على ذكر ربي; وكذلك قال غير الزجاج : "عن" بمعنى "على" . وقال بعضهم: يحتمل المعنى: فشغلني عن ذكر ربي . قال أبو عبيدة: ومعنى [الكلام]: أحببت حبا، ثم أضاف الحب إلى الخير . وقال ابن قتيبة : سمى الخيل خيرا، لما فيها من الخير . والمفسرون على أن المراد بذكر ربه: صلاة العصر، قاله علي، وابن مسعود، وقتادة في آخرين . وقال الزجاج : لا أدري هل كانت صلاة العصر مفروضة، أم لا؟، إلا أن اعتراضه الخيل شغله عن وقت كان يذكر الله فيه حتى توارت بالحجاب [ ص: 130 ] قال المصنف: وأهل اللغة يقولون: يعني الشمس، ولم يجر لها ذكر، ولا أحسبهم أعطوا في هذا الفكر حقه، لأن في الآية دليلا على الشمس، وهو قوله: "بالعشي" ومعناه: عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، ولا يجوز الإضمار إلا أن يجري ذكر، أو دليل ذكر فيكون بمنزلة الذكر; وأما الحجاب، فهو ما يحجبها عن الأبصار .

    قوله تعالى: ردوها علي قال المفسرون: لما شغله عرض الخيل عليه عن الصلاة، فصلاها بعد خروج وقتها، اغتم وغضب، وقال: "ردوها علي"، يعني: أعيدوا الخيل علي فطفق قال ابن قتيبة : أي: أقبل مسحا قال الأخفش: أي: يمسح مسحا .

    فأما السوق، فجمع ساق، مثل دور ودار . وهمز السؤق ابن كثير، قال أبو علي: وغير الهمز أحسن منه . وقرأ أبو عمران الجوني، وابن محيصن: "بالسؤوق" مثل الرؤوس . وفي المراد بالمسح هاهنا ثلاثة أقوال .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #468
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ صَ
    الحلقة (468)
    صــ 131 إلى صــ 140





    أحدها: أنه ضربها بالسيف . وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في [ ص: 131 ] قوله: "فطفق مسحا بالسوق والأعناق" قال: "بالسيف" . وروى مجاهد عن ابن عباس قال: مسح أعناقها وسوقها بالسيف . وقال الحسن، وقتادة، وابن السائب: قطع أعناقها وسوقها، وهذا اختيار السدي، ومقاتل، والفراء، وأبي عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة ، وأبي سليمان الدمشقي، والجمهور .

    والثاني: أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد: مسحها بيده، وهذا اختيار ابن جرير، والقاضي أبي يعلى .

    [ ص: 132 ] والثالث: أنه كوى سوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى: حكاه الثعلبي .

    والمفسرون على القول الأول، وقد اعترضوا [على] القول الثاني، وقالوا: أي مناسبة بين شغلها إياه عن الصلاة وبين مسح أعرافها حبا لها؟! ولا أعلم قوله: "حبا لها" يثبت عن ابن عباس . وحملوا قول مجاهد "مسحها بيده" أي: تولى ضرب أعناقها .

    فإن قيل: فالقول الأول يفسد بأنه لا ذنب للحيوان، فكيف وجه العقوبة إليه وقصد التشفي بقتله، وهذا يشبه فعل الجبارين، لا فعل الأنبياء؟

    فالجواب: أنه لم يكن ليفعل ذلك إلا وقد أبيح له، وجائز أن يباح له ما يمنع منه في شرعنا، على أنه إذا ذبحها كانت قربانا ، وأكل لحمها جائز، فما وقع تفريط، قال وهب بن منبه: لما ضرب سوقها وأعناقها، شكر الله تعالى له ذلك، فسخر له الريح مكانها، وهي أحسن في المنظر، وأسرع في السير، وأعجب في الأحدوثة .

    قوله تعالى: ولقد فتنا سليمان أي: ابتليناه وامتحناه بسلب ملكه وألقينا على كرسيه أي: على سريره جسدا وفيه قولان .

    أحدهما: أنه شيطان، قاله ابن عباس، والجمهور . وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال . أحدها: صخر، رواه العوفي عن ابن عباس . وذكر العلماء أنه كان شيطانا مريدا لم يسخر لسليمان . والثاني: آصف، قاله مجاهد، إلا أنه ليس بالمؤمن الذي عنده الاسم الأعظم، إلا أن بعض ناقلي التفسير حكى أنه [ ص: 133 ] آصف الذي عنده علم من الكتاب، وأنه لما فتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبت، فقال آصف: أنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك، فقام في مقامه، وسار بالسيرة الجميلة، هذا لا يصح، ولا ذكره من يوثق به . والثالث: حبقيق، قاله السدي; والمعنى: أجلسنا على كرسيه في ملكه شيطانا . ثم أناب أي: رجع . وفيما رجع إليه قولان . أحدهما: تاب من ذنبه، قاله قتادة . والثاني: رجع إلى ملكه، قاله الضحاك .

    وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال . أحدها: أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق، إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا، وأوحى الله تعالى إليه أنه سيصيبك بلاء، فكان لا يدري أيأتيه من السماء، أو من الأرض، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: أن زوجته جرادة كانت آثر النساء عنده، فقالت له يوما: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وإني أحب أن تقضي له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي لأجل ما قال، قاله السدي . والثالث: أن زوجته جرادة كان قد سباها في غزاة له، وكانت بنت ملك فأسلمت، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار، فسألها عن حالها، فقالت: أذكر أبي وما كنت فيه، فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلى بها، [ففعل]، فكانت إذا خرج سليمان، تسجد له هي وولائدها [أربعين صباحا، فلما علم سليمان، كسر تلك الصورة ، وعاقب المرأة وولائدها] ثم تضرع إلى الله تعالى مستغفرا مما كان في داره، فسلط الشيطان على خاتمه، [هذا قول وهب بن منبه . والرابع: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى [ ص: 134 ] إليه: يا سليمان، احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم؟! فسلط الشيطان على خاتمه]، قاله سعيد ابن المسيب . والخامس: أنه قارب امرأة من نسائه في الحيض أو غيره، قاله الحسن .

    والقول الثاني: أن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه: أنه ولد [له ولد] فاجتمعت الشياطين، فقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد، لم ينفعك من البلاء، [ ص: 135 ] فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله، فعلم بذلك سليمان، [فأمر السحاب] فحمله، وعدا ابنه في السحاب خوفا من الشياطين، فعاتبه الله تعالى على تخوفه من الشياطين، ومات الولد، فألقي على كرسيه ميتا جسدا، قاله الشعبي .

    والمفسرون على القول الأول . ونحن نذكر قصة ابتلائه على قول الجمهور .

    الإشارة إلى ذلك

    اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين .

    أحدهما: أنه كان جالسا على شاطئ البحر، فوقع منه في البحر، قاله علي رضي الله عنه .

    والثاني: أن شيطانا أخذه، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال .

    أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمام ووضع الخاتم تحت فراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطان يقول: أنا نبي الله، قاله سعيد بن المسيب .

    والثاني: أن سليمان قال للشيطان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه إياه، فنبذه في البحر، فذهب ملك سليمان، وقعد الشيطان على كرسيه، قاله مجاهد .

    والثالث: أنه دخل الحمام، ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثل لها في صورة سليمان وأخذ الخاتم منها، فلما خرج سليمان، طلبه [ ص: 136 ] منها، فقالت: قد دفعته إليك، فهرب سليمان، وجاء الشيطان فجلس على ملكه، قاله سعيد بن جبير .

    والرابع: أنه دخل الحمام، وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه الشيطان في البحر، فذهب ملك سليمان، وألقي على الشيطان شبهه، قاله قتادة .

    فأما قصة الشيطان، فذكر أكثر المفسرين أنه لما أخذ الخاتم رمى به في البحر، وألقي عليه شبه سليمان، فجلس على كرسيه، وتحكم في سلطانه .

    وقال السدي: لم يلقه في البحر حتى فر من مكان سليمان . وهل كان يأتي [نساء] سليمان؟ فيه قولان . أحدهما: أنه لم يقدر عليهن، قاله الحسن، وقتادة . والثاني: أنه كان يأتيهن في زمن الحيض، فأنكرنه، قاله سعيد ابن المسيب; والأول أصح . قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة، ويحكم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: إما أن تكونوا قد هلكتم أنتم، وإما أن يكون ملككم قد هلك، فاذهبوا إلى نسائه فاسألوهن، فذهبوا، فقلن: إنا والله قد أنكرنا ذلك; فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء .

    وفي كيفية بعد الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال .

    أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان، قاله سعيد بن المسيب .

    [ ص: 137 ] والثاني: أن سليمان لما رجع إلى ملكه وجاءته الريح والطير والشياطين، فر الشيطان حتى دخل البحر، قاله مجاهد .

    والثالث: أنه لما مضى أربعون يوما، طار الشيطان من مجلسه، قاله وهب .

    والرابع: أن بني إسرائيل لما أنكروه، أتوه فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة فقرؤوا، فطار بين أيديهم حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت، قاله السدي .

    وفي قدر مكث الشيطان قولان . أحدهما: أربعون يوما، قاله الأكثرون . والثاني: أربعة عشر يوما، حكاه الثعلبي .

    وأما قصة سليمان عليه السلام، فإنه لما سلب خاتمه، ذهب ملكه، فانطلق هاربا في الأرض . قال مجاهد: كان يستطعم فلا يطعم، فيقول: لو عرفتموني أعطيتموني، أنا سليمان، فيطردونه، حتى أعطته امرأة حوتا، فوجد خاتمه في بطن الحوت . وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر، فوجد صيادين قد صادوا سمكا كثيرا وقد أنتن عليهم بعضه، فأتاهم يستطعم، فقالوا: اذهب إلى تلك الحيتان فخذ منها، فقال: لا، أطعموني من هذا، فأبوا عليه، فقال: أطعموني فإني سليمان، فوثب إليه رجل منهم فضربه بالعصا غضبا لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئا، فشق بطن حوت، فإذا هو بالخاتم . وقال الحسن: ذكر لي أنه لم يؤوه أحد من الناس، ولم يعرف أربعين ليلة، وكان يأوي إلى امرأة مسكينة، فبينما هو يوما على شط نهر، وجد سمكة، فأتى بها المرأة فشقتها فإذا بالخاتم . وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشق بطنها فوجد خاتمه .

    وفي المدة التي سلب فيها الملك قولان . أحدهما: أربعون ليلة، [ ص: 138 ] كما ذكرنا عن الحسن . والثاني: خمسون ليلة: قاله سعيد بن جبير . قال المفسرون: فلما جعل الخاتم في يده، رد الله عليه بهاءه وملكه، فأظلته الطير، وأقبل لا يستقبله جني ولا طائر ولا حجر ولا شجر إلا سجد له، حتى انتهى إلى منزله . قال السدي: ثم أرسل إلى الشيطان، فجيء به، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وأقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر، فهو فيه إلى أن تقوم الساعة . وقال وهب: جاب صخرة فأدخله فيها، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم قذفه في البحر .

    قوله تعالى: وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فتح الياء نافع، وأبو عمرو . وفيه قولان .

    أحدهما: لا يكون لأحد بعدي، قاله مقاتل، وأبو عبيدة . وقد أخرج البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: ( هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) ، فرددته خاسئا" .

    [ ص: 139 ] والثاني: لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه، قاله الحسن، وقتادة . وإنما طلب هذا الملك، ليعلم أنه قد غفر له، ويعرف منزلته بإجابة دعوته، قاله الضحاك . ولم يكن في ملكه حين دعا بهذا الريح ولا الشياطين فسخرنا له الريح وقرأ أبو الجوزاء، وأبو جعفر، وأبو المتوكل: "الرياح" على الجمع .

    [ ص: 140 ] قوله تعالى: رخاء فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: مطيعة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والضحاك . والثاني: أنها الطيبة، قاله مجاهد . والثالث: اللينة، مأخوذ من الرخاوة، قاله اللغويون .

    فإن قيل: كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة [الأنبياء: 81] بأنها عاصفة؟

    فالجواب: أن المفسرين قالوا: كان يأمر العاصف تارة ويأمر الرخاء أخرى . وقال ابن قتيبة : كأنها كانت تشتد إذا أراد، وتلين إذا أراد .

    قوله تعالى: حيث أصاب أي: حيث قصد وأراد . قال الأصمعي: تقول العرب: أصاب فلان الصواب فأخطأ الجواب، أي: أراد الصواب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #469
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ صَ
    الحلقة (469)
    صــ 141 إلى صــ 150






    قوله تعالى: والشياطين أي: وسخرنا له الشياطين كل بناء يبنون له ما يشاء وغواص يغوصون له في البحار فيستخرجون الدر، وآخرين أي: وسخرنا له آخرين، وهم مردة الشياطين، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم . قال مقاتل: أوثقهم في الحديد . وقد شرحنا [ ص: 141 ] معنى مقرنين في الأصفاد في سورة نبي الله إبراهيم عليه السلام [إبراهيم: 49] .

    هذا عطاؤنا المعنى: قلنا له: هذا عطاؤنا . وفي المشار إليه قولان .

    أحدهما: أنه جميع ما أعطي، فامنن أو أمسك أي: أعط من شئت من المال، وامنع من شئت . والمن: الإحسان إلى من لا يطلب ثوابه .

    والثاني: أنه إشارة إلى الشياطين المسخرين له; فالمعنى: فامنن على من شئت باطلاقه، وأمسك من شئت منهم . وقد روي معنى القولين عن ابن عباس .

    قوله تعالى: بغير حساب قال الحسن: لا تبعة عليك في الدنيا ولا في الآخرة . وقال سعيد بن جبير: ليس عليك حساب يوم القيامة . وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: هذا عطاؤنا بغير حساب فامنن أو أمسك .

    وما بعد هذا قد سبق تفسيره [سبإ: 37، الرعد: 29، الأنبياء: 83] إلى قوله: مسني الشيطان وذلك أن الشيطان سلط عليه، فأضاف ما أصابه إليه .

    قوله تعالى: بنصب قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد; وقرأ [ ص: 142 ] الحسن، وابن أبي عبلة، وابن السميفع، والجحدري ، ويعقوب: بفتحهما . وهل بينهما فرق؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنهما سواء . قال الفراء: هما كالرشد والرشد، والعدم والعدم، والحزن والحزن; وكذلك قال ابن قتيبة ، والزجاج . قال المفسرون: والمراد بالنصب: الضر الذي أصابه .

    والثاني: أن النصب بتسكين الصاد: الشر، وبتحريكها: الإعياء، قاله أبو عبيدة .

    وقرأت عائشة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة، عن حفص: "بنصب" بضم النون والصاد جميعا . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الجوزاء، وهبيرة عن حفص: "بنصب" بفتح النون وسكون الصاد .

    وفي المراد بالعذاب قولان . أحدهما: أنه العذاب الذي أصاب جسده . والثاني: أنه أخذ ماله وولده .

    قوله تعالى: اركض أي: اضرب الأرض برجلك ، [ ص: 143 ] ومنه: ركضت الفرس . فركض فنبعت عين ماء، فذلك قوله عز وجل: هذا مغتسل بارد وشراب قال ابن قتيبة : المغتسل: الماء، وهو الغسول أيضا . قال الحسن: ركض برجله فنبعت عين [فاغتسل منها، ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا، ثم ركض برجله فنبعت عين] فشرب منها; وعلى هذا جمهور العلماء أنه ركض ركضتين فنبعت له عينان، فاغتسل من واحدة، وشرب من الأخرى .

    قوله تعالى: وخذ بيدك ضغثا كان قد حلف لئن شفاه الله ليجلدن زوجته مائة جلدة . وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن إبليس جلس في طريق زوجة أيوب كأنه طبيب، فقالت له: يا عبد الله: إن ها هنا إنسانا مبتلى، فهل لك أن تداويه؟ قال: نعم، إن شاء شفيته، على أن يقول إذا برأ: أنت شفيتني، فجاءت فأخبرته، فقال: ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني أن أجلدك مائة جلدة، رواه يوسف بن مهران [ ص: 144 ] عن ابن عباس .

    والثاني: أن إبليس لقيها فقال: إني أنا الذي فعلت بأيوب ما به، وأنا إله الأرض، وما أخذته منه فهو بيدي، فانطلقي أريك، فمشى بها غير بعيد، ثم سحر بصرها، فأراها واديا عميقا فيه أهلها وولدها ومالها، فأتت أيوب فأخبرته، فقال: ذاك الشيطان، ويحك كيف وعى قوله سمعك؟ والله لئن شفاني الله عز وجل لأجلدنك مائة، قاله وهب بن منبه .

    والثالث: أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلة، فقال: ليذبح لي هذه وقد برأ; فأخبرته، فحلف ليجلدنها، وقد ذكرنا هذا القول في سورة [الأنبياء: 83] عن الحسن .

    فأما الضغث، فقال الفراء: هو كل ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرطبة، قال: وما قام على ساق واستطال ثم جمعته، فهو ضغث . وقال ابن قتيبة : هو الحزمة من الخلال والعيدان . قال الزجاج : هو الحزمة من الحشيش والريحان وما أشبهه . قال المفسرون: جزى الله زوجته بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها فسهل الأمر، فجمع لها مائة عود، وقيل: مائة سنبلة، وقيل: كانت أسلا، وقيل: من الإذخر، وقيل: كانت شماريخ، فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمينه . وهل ذلك خاص له، أم لا؟ فيه قولان .

    [ ص: 145 ] أحدهما: أنه عام، وبه قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، [وابن أبي ليلى] . والثاني: أنه خاص لأيوب، قاله مجاهد .

    فصل

    وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك، والليث بن سعد: لا يبر، وبه قال أصحابنا . وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه في الضربة الواحدة كل واحد منها، فقد بر، واحتجوا بعموم قصة أيوب عليه الصلاة والسلام .

    قوله تعالى: إنا وجدناه صابرا أي: على البلاء الذي ابتليناه به .
    واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار . إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار . وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار . واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار . هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب . جنات عدن مفتحة لهم الأبواب . متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب . هذا ما توعدون ليوم الحساب . إن هذا لرزقنا ما له من نفاد .

    [ ص: 146 ] قوله تعالى: واذكر عبادنا وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن، وابن كثير: "عبدنا"، إشارة إلى إبراهيم، وجعلوا إسحاق ويعقوب عطفا عليه، لأنه الأصل وهما ولداه، والمعنى: اذكر صبرهم، فإبراهيم ألقي في النار، وإسحاق أضجع للذبح، ويعقوب صبر على ذهاب بصره وابتلي بفقد ولده; ولم يذكر إسماعيل معهم، لأنه لم يبتل كما ابتلوا .

    أولي الأيدي يعني القوة في الطاعة والأبصار البصائر في الدين والعلم . قال ابن جرير: وذكر الأيدي مثل، وذلك لأن باليد البطش، وبالبطش تعرف قوة القوي، فلذلك قيل للقوي: ذو يد; وعنى بالبصر: بصر القلب، وبه تنال معرفة الأشياء . وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن أبي عبلة: "أولي الأيد" بغير ياء في الحالين . قال الفراء: ولها وجهان . أحدهما: أن يكون القارئ لهذا أراد الأيدي، فحذف الياء، وهو صواب، مثل الجوار والمناد . والثاني: أن يكون من القوة والتأييد، من قوله: وأيدناه بروح القدس [البقرة: 87] .

    قوله تعالى: إنا أخلصناهم أي: اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين، فأفردناهم بمفردة من خصال الخير; ثم أبان عنها بقوله: ذكرى الدار .

    وفي المراد بالدار هاهنا قولان . أحدهما: الآخرة . والثاني: الجنة .

    وفي الذكرى قولان .

    [ ص: 147 ] أحدهما: أنها من الذكر، فعلى هذا يكون المعنى: أخلصناهم بذكر الآخرة، فليس لهم ذكر غيرها، قاله مجاهد، وعطاء، والسدي . وكان الفضيل ابن عياض رحمة الله عليه يقول: هو الخوف الدائم في القلب .

    والثاني: أنها التذكير، فالمعنى أنهم يدعون الناس إلى الآخرة وإلى عبادة الله تعالى، قاله قتادة .

    وقرأ نافع: "بخالصة ذكرى الدار"، فأضاف "خالصة" إلى "ذكرى الدار" .

    قال أبو علي: تحتمل قراءة من نون وجهين، أحدهما: أن تكون "ذكرى" بدلا من "خالصة"، والتقدير: أخلصناهم بذكر الدار، والثاني: أن يكون المعنى: أخلصناهم بأن يذكروا الدار بالتأهب للآخرة والزهد في الدنيا . ومن أضاف، فالمعنى: أخلصناهم بإخلاصهم ذكرى الدار بالخوف منها . وقال ابن زيد: أخلصناهم بأفضل ما في الجنة .

    قوله تعالى: وإنهم عندنا لمن المصطفين أي: من الذين اتخذهم الله صفوة فصفاهم من الأدناس الأخيار الذين اختارهم .

    واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل أي: اذكرهم بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم واليسع نبي، واسمه أعجمي معرب، وقد ذكرناه في [الأنعام: 85]، وشرحنا في سورة [الأنبياء: 85] قصة ذي الكفل، وتكلمنا في [البقرة: 125] في اسم إسماعيل، وزعم مقاتل أن إسماعيل هذا ليس بابن إبراهيم .

    [ ص: 148 ] قوله تعالى: هذا ذكر أي: شرف وثناء جميل يذكرون به أبدا وإن للمتقين لحسن مآب أي: حسن مرجع يرجعون إليه في الآخرة .

    ثم بين ذلك المرجع، فقال: جنات عدن مفتحة لهم الأبواب قال الفراء: إنما رفعت "الأبواب" لأن المعنى: مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة، فيقولون: مررت على رجل حسن العين، وقبيح الأنف، والمعنى: حسنة عينه، قبيح أنفه، ومنه قوله تعالى: فإن الجحيم هي المأوى [النازعات: 39] والمعنى: مأواه . وقال الزجاج : المعنى: مفتحة لهم الأبواب منها، فالألف واللام للتعريف، لا للبدل . قال ابن جرير: والفائدة في ذكر تفتيح الأبواب أن الله عز وجل أخبر عنها أن أبوابها تفتح لهم بغير فتح سكانها لها بيد، ولكن بالأمر، قال الحسن: هي أبواب تكلم، فتكلم: انفتحي، انغلقي .

    قوله تعالى: وعندهم قاصرات الطرف قد مضى بيانه في [الصافات: 48] .

    قال الزجاج : والأتراب: اللواتي أسنانهن واحدة وهن في غاية الشباب والحسن .

    قوله تعالى: هذا ما توعدون قرأ أبو عمرو، وابن كثير بالياء، والباقون بالتاء .

    قوله تعالى: ليوم الحساب اللام بمعنى "في" . والنفاد: الانقطاع . قال السدي: كلما أخذ من رزق الجنة شيء، عاد مثله .
    [ ص: 149 ] هذا وإن للطاغين لشر مآب . جهنم يصلونها فبئس المهاد . هذا فليذوقوه حميم وغساق . وآخر من شكله أزواج . هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار . قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار . قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار . وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار . أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار . إن ذلك لحق تخاصم أهل النار . قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار . رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار .

    قوله تعالى: هذا المعنى: هذا الذي ذكرناه وإن للطاغين يعني الكافرين لشر مآب ، ثم بين ذلك بقوله: جهنم والمهاد: الفراش . هذا فليذوقوه قال الفراء: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: هذا حميم وغساق فليذوقوه; وإن شئت جعلت الحميم مستأنفا، كأنك قلت: هذا فليذوقوه، ثم قلت: منه حميم، ومنه غساق، كقول الشاعر:


    حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود


    فأما الحميم، فهو الماء الحار . وأما الغساق، ففيه لغتان، قرأ حمزة، والكسائي، [ ص: 150 ] وخلف، وحفص: بالتشديد، وكذلك في [عم يتساءلون: 25]، تابعهم المفضل في عم يتساءلون ، وقرأ الباقون بالتخفيف وفي الغساق أربعة أقوال .

    أحدها: الزمهرير، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد: الغساق لا يستطيعون أن يذوقوه من برده .

    والثاني: أنه ما يجري من صديد أهل النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطية، وقتادة، وابن زيد .

    والثالث: أن الغساق: عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية أو عقرب أو غيرها، فيستنقع، فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام، ويجر لحمه جر الرجل ثوبه، قاله كعب .

    والرابع: أنه ما يسيل من دموعهم، قاله السدي . قال أبو عبيدة: الغساق: ما سال، يقال: غسقت العين والجرح . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن قتيبة قال: لم يكن أبو عبيدة [يذهب] إلى أن في القرآن شيئا من غير لغة العرب، وكان يقول: هو اتفاق يقع بين اللغتين، وكان [غيره] يزعم أن الغساق: البارد المنتن بلسان الترك . وقيل: فعال، من غسق يغسق; فعلى هذا يكون عربيا . وقيل في معناه: إنه الشديد البرد، يحرق من برده، وقيل: هو ما يسيل من جلود أهل النار من الصديد .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #470
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سورة الزمر
    الحلقة (470)
    صــ 151 إلى صــ 160





    قوله تعالى: وآخر قرأ أبو عمرو، والمفضل: "وأخر" بضم الهمزة من غير مد، فجمعا لأجل نعته بالأزواج، وهي جمع . وقرأ الباقون بفتح الألف ومده على التوحيد، واحتجوا بأن العرب تنعت الاسم إذا كان فعلا بالقليل [ ص: 151 ] والكثير; قال الفراء: تقول: عذاب فلان ضروب شتى، وضربان مختلفان; وإن شئت جعلت الأزواج نعتا للحميم والغساق والآخر، فهن ثلاثة، والأشبه أن تجعله صفة لواحد، وقال الزجاج : من قرأ "وآخر" بالمد، فالمعنى: وعذاب آخر من شكله أي: مثل الأول . ومن قرأ: "وأخر"، فالمعنى: وأنواع أخر، لأن قوله: أزواج بمعنى أنواع . وقال ابن قتيبة : "من شكله" أي: من نحوه، "أزواج" أي: أصناف . وقال ابن جرير: "من شكله" أي: من نحو الحميم . قال ابن مسعود في قوله: "وآخر من شكله": هو الزمهرير . وقال الحسن: لما ذكر الله تعالى العذاب الذي يكون في الدنيا، قال: "وآخر من شكله" أي: وآخر لم ير في الدنيا .

    قوله تعالى: هذا فوج هذا قول الزبانية للقادة المتقدمين في الكفر إذا جاؤوهم بالأتباع . وقيل: بل هو قول الملائكة لأهل النار كلما جاؤوهم بأمة بعد أمة . والفوج: الجماعة من الناس، وجمعه: أفواج . والمقتحم: الداخل في الشيء رميا بنفسه . قال ابن السائب: إنهم يضربون بالمقامع، فيلقون أنفسهم في النار ويثبون فيها خوفا من تلك المقامع . فلما قالت [ ص: 152 ] الملائكة ذلك لأهل النار، قالوا: لا مرحبا بهم، فاتصل الكلام كأنه قول واحد، وإنما الأول من قول الملائكة، والثاني من قول أهل النار; وقد بينا مثل هذا في قوله: ليعلم أني لم أخنه بالغيب [يوسف: 52] . والرحب والرحب: السعة . والمعنى: لا اتسعت بهم مساكنهم . قال أبو عبيدة: تقول العرب للرجل: لا مرحبا [بك] أي: لا رحبت عليك الأرض . وقال ابن قتيبة : معنى قولهم: "مرحبا وأهلا" أي: أتيت رحبا، أي: سعة، وأهلا، أي: أتيت أهلا لا غرباء، فائنس ولا تستوحش، وسهلا، أي: أتيت سهلا لا حزنا، وهو في مذهب الدعاء، كما تقول، لقيت خيرا . قال الزجاج : و "مرحبا" منصوب بقوله: رحبت بلادك مرحبا، وصادفت مرحبا، فأدخلت "لا" على ذلك المعنى .

    قوله تعالى" إنهم صالو النار أي: داخلوها كما دخلناها، ومقاسون حرها . فأجابهم القوم، فـ قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا . إن قلنا: إن هذا قول الأتباع للرؤساء، فالمعنى: أنتم زينتم لنا الكفر; [وإن قلنا: إنه قول الأمة المتأخرة للأمة المتقدمة، فالمعنى: أنتم شرعتم لنا الكفر] وبدأتم به قبلنا، فدخلتم النار قبلنا فبئس القرار أي: بئس المستقر والمنزل .

    قالوا ربنا من قدم لنا هذا أي: من سنه وشرعه فزده عذابا ضعفا في النار وقد شرحناه في [الأعراف: 38] . وفي القائلين لهذا قولان . أحدهما: أنه قول جميع أهل النار، قاله ابن السائب . والثاني: قول الأتباع . قاله مقاتل .

    قوله تعالى: وقالوا يعني أهل النار ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار قال المفسرون: إذا دخلوا النار، نظروا فلم يروا من كان [ ص: 153 ] يخالفهم من المؤمنين، فيقولون ذلك . قال مجاهد: يقول أبو جهل في النار: أين صهيب، أين عمار، أين خباب، أين بلال؟!

    قوله تعالى: أتخذناهم سخريا قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: "من الأشرار اتخذناهم" بالوصل على الخبر; أي: [إنا] اتخذناهم، وهؤلاء يبتدئون بكسر الهمزة . وقرأ الباقون بقطع الألف وفتحها على معنى الاستفهام، وهؤلاء يبتدئون بفتح الهمزة . وقال الفراء: وهذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ، والمعنى أنهم يوبخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين . و "سخريا" يقرأ بضم السين وكسرها . وقد شرحناها في آخر سورة [المؤمنين: 110] أم زاغت عنهم الأبصار أي: وهم معنا في النار ولا نراهم؟! وقال أبو عبيدة: "أم" هاهنا بمعنى "بل" .

    قوله تعالى: إن ذلك لحق قال الزجاج : [أي]: إن الذي وصفناه عنهم لحق . ثم بين ما هو، فقال: هو تخاصم أهل النار وقرأ أبو الجوزاء، وأبو الشعثاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: "تخاصم" برفع الصاد وفتح الميم، وكسر اللام من "أهل" وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وأبو المتوكل، وابن السميفع: "تخاصم أهل" بفتح الصاد والميم ورفع اللام .
    قل هو نبأ عظيم . أنتم عنه معرضون . ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون . إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين . إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين . [ ص: 154 ] فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين . قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . قال فاخرج منها فإنك رجيم . وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين . قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم . قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين . قال فالحق والحق أقول . لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين . قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين . إن هو إلا ذكر للعالمين . ولتعلمن نبأه بعد حين .

    قوله تعالى: قل هو نبأ عظيم النبأ: الخبر . وفي المشار إليه قولان . أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور . والثاني: أنه البعث بعد الموت، قاله قتادة . أنتم عنه معرضون أي: لا تتفكرون فيه فتعلمون صدقي في نبوتي، وأن ما جئت به من الأخبار عن قصص الماضين لم أعلمه إلا بوحي من الله . ويدل على هذا المعنى قوله: ما كان لي من علم بالملإ الأعلى يعني الملائكة إذ يختصمون في شأن آدم حين قال الله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة [البقرة:30]; والمعنى: إني [ ص: 155 ] ما علمت هذا إلا بوحي، إن يوحى إلي أي: ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير [أي]: إلا أني نبي أنذركم وأبين لكم ما تأتونه وتجتنبونه .

    إذ قال ربك هذا متصل بقوله: "يختصمون"، وإنما اعترضت تلك الآية بينهما . قال ابن عباس: اختصموا حين شووروا في خلق آدم، فقال الله لهم: إني جاعل في الأرض خليفة ، وهذه الخصومة منهم إنما كانت مناظرة بينهم . وفي مناظرتهم قولان .

    أحدهما: أنه قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها [البقرة: 30]، قاله ابن عباس، ومقاتل .

    والثاني: أنهم قالوا: لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم منه وأعلم، قاله الحسن; هذا قول الأكثر من المفسرين . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رأيت ربي عز وجل، فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: أنت أعلم يا رب، قال: في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات، فإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة . وأما الدرجات، فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام" .

    [ ص: 156 ] [ ص: 157 ] قوله تعالى: أستكبرت أي: أستكبرت بنفسك حين أبيت السجود أم كنت من العالين أي: من قوم يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك من قوم يتكبرون؟!

    قوله تعالى: فإنك رجيم أي: مرجوم بالذم واللعن .

    قوله تعالى: إلى يوم الوقت المعلوم وهو وقت النفخة الأولى، وهو حين موت الخلائق .

    وقوله: فبعزتك يمين بمعنى: فوعزتك . وما أخللنا به في هذه القصة فهو مذكور في [الأعراف: 12] و [الحجر: 34] وغيرهما مما تقدم .

    قوله تعالى: قال فالحق والحق أقول قرأ عاصم إلا حسنون عن هبيرة، وحمزة، وخلف، وزيد عن يعقوب: "فالحق" بالرفع في الأول ونصب الثاني، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد; قال ابن عباس في معناه: [ ص: 158 ] فأنا الحق وأقول الحق; وقال غيره: خبر الحق محذوف، تقديره: الحق مني . وقرأ محبوب عن أبي عمرو بالرفع فيهما; قال الزجاج : من رفعهما جميعا، كان المعنى فأنا الحق والحق أقول وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: بالنصب فيهما . قال الفراء: وهو على معنى قولك: حقا لآتينك، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء، وهو بمنزلة قولك: حمدا لله . وقال مكي بن أبي طالب: انتصب الحق الأول على الإغراء، أي: اتبعوا الحق، واسمعوا والزموا الحق . وقيل: هو نصب على القسم، كما تقول: الله لأفعلن، فتنصب حين حذفت الجار، لأن تقديره: فبالحق; فأما الحق الثاني، فيجوز أن يكون الأول، وكرره توكيدا، ويجوز أن يكون منصوبا بـ "أقول"، كأنه قال: وأقول الحق . وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو رجاء، ومعاذ القارئ، [والأعمش]: "فالحق" بكسر القاف "والحق" بنصبها . وقرأ أبو عمران [الجوني] بكسر القافين جميعا . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو نهيك: "فالحق" بالنصب "والحق" بالرفع .

    قوله تعالى: لأملأن جهنم منك أي: من نفسك وذريتك .

    قل ما أسألكم عليه من أجر أي: على تبليغ الوحي وما أنا من المتكلفين أي: لم أتكلف إتيانكم من قبل نفسي، إنما أمرت أن آتيكم، ولم أقل القرآن من تلقاء نفسي، إنما أوحي إلي .

    [ ص: 159 ] إن هو أي: ما هو، يعني القرآن إلا ذكر أي: موعظة للعالمين .

    ولتعلمن يا معاشر الكفار نبأه أي: خبر صدق القرآن بعد حين وفيه ثلاثة أقوال . أحدها: بعد الموت . والثاني: يوم القيامة، رويا عن ابن عباس، وبالأول يقول قتادة، وبالثاني يقول عكرمة . والثالث: يوم بدر، قاله السدي، ومقاتل . وقال ابن السائب: من بقي إلى أن ظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ومن مات علمه بعد الموت . وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك .
    [ ص: 160 ] سورة الزمر

    وتسمى سورة الغرف

    فصل في نزولها

    روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وجابر بن زيد . وروي عن ابن عباس أنه قال: فيها آيتان نزلتا بالمدينة: قوله: الله نزل أحسن الحديث [الزمر: 23] وقوله: يا عبادي الذين أسرفوا [الزمر: 53] . وقال مقاتل: فيها من المدني قل يا عبادي الذين أسرفوا . . . الآية [الزمر: 53]، وقوله: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة [الزمر: 10] . وفي رواية أخرى عنه قال: فيها آيتان مدنيتان يا عبادي الذين أسرفوا [الزمر: 53] وقوله: يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم [الزمر: 10] . وقال بعض السلف: فيها ثلاث آيات مدنيات قل يا عبادي الذين أسرفوا إلى قوله: وأنتم لا تشعرون [الزمر:53-55] .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #471
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سورة الزمر
    الحلقة (471)
    صــ 161 إلى صــ 170




    [ ص: 161 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين . ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار .

    قوله تعالى: تنزيل الكتاب قال الزجاج : الكتاب هاهنا القرآن، ورفع "تنزيل" من وجهين . أحدهما: الابتداء، ويكون الخبر من الله ، فالمعنى: نزل من عند الله . والثاني: على إضمار: هذا تنزيل الكتاب; و مخلصا منصوب على الحال; فالمعنى: فاعبد الله موحدا لا تشرك به شيئا .

    قوله تعالى: ألا لله الدين الخالص يعني: الخالص من الشرك، وما سواه ليس بدين الله الذي أمر به; [وقيل]: المعنى: لا يستحق الدين الخالص إلا الله .

    والذين اتخذوا من دونه أولياء يعنى آلهة، ويدخل في هؤلاء اليهود حين قالوا: عزير ابن الله والنصارى لقولهم: المسيح ابن الله [التوبة: 30] وجميع عباد الأصنام، ويدل عليه قوله بعد ذلك : لو أراد الله أن يتخذ ولدا [الزمر: 4] .

    [ ص: 162 ] قوله تعالى: ما نعبدهم أي: يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى أي: إلا ليشفعوا لنا إلى الله . والزلفى: القربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر، فكأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله تقريبا .

    إن الله يحكم بينهم أي: بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدين . وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك .

    قوله تعالى: إن الله لا يهدي أي: لا يرشد من هو كاذب في قوله: إن الآلهه تشفع كفار أي: كافر باتخاذها آلهة، وهذا إخبار عمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية .

    لو أراد الله أن يتخذ ولدا [أي]: على ما يزعم من ينسب ذلك إلى الله لاصطفى أي: لاختار مما يخلق . قال مقاتل: أي: من الملائكة .
    خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار .

    قوله تعالى: خلق السماوات والأرض بالحق [أي]: لم يخلقهما لغير شيء .

    [ ص: 163 ] يكور الليل على النهار قال أبو عبيدة: يدخل هذا على هذا . قال ابن قتيبة : وأصل التكوير: اللف، ومنه كور العمامة . وقال غيره . التكوير: طرح الشيء بعضه على بعض .

    وسخر الشمس والقمر أي: ذللهما للسير على ما أراد كل يجري لأجل مسمى أي: إلى الأجل الذي وقت الله للدنيا . وقد شرحنا معنى العزيز في [البقرة: 129] ومعنى الغفار في [طه: 82] .
    خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون .

    قوله تعالى: خلقكم من نفس واحدة يعني آدم ثم جعل منها زوجها أي: قبل خلقكم جعل منها زوجها، لأن حواء خلقت قبل الذرية، ومثله في الكلام أن تقول: قد أعطيتك اليوم شيئا، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر; هذا اختيار الفراء . وقال غيره: ثم أخبركم أنه خلق منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام أي: خلق ثمانية أزواج ، وقد بيناها في سورة [الأنعام: 143]

    خلقا من بعد خلق أي: نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظما ثم لحما ثم أنبت الشعر، إلى غير ذلك من تقلب الأحوال إلى إخراج الأطفال، هذا قول الجمهور . وقال ابن زيد: خلقا في البطون من بعد خلقكم في ظهر آدم .

    قوله تعالى: في ظلمات ثلاث ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة [ ص: 164 ] المشيمة، قاله الجمهور، وابن زيد معهم . وقال أبو عبيدة: إنها ظلمة صلب الأب، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم .

    قوله تعالى: فأنى تصرفون أي: من أين تصرفون عن طريق الحق بعد هذا البيان؟!
    إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور .

    إن تكفروا فإن الله غني عنكم أي: عن إيمانكم وعبادتكم ولا يرضى لعباده الكفر فيه قولان . أحدهما: لا يرضاه للمؤمنين، قاله ابن عباس . والثاني: لا يرضاه لأحد وإن وقع بإرادته، وفرق بين الإرادة والرضى، وقد أشرنا إلى هذا في [البقرة: 205] عند قوله: والله لا يحب الفساد .

    وإن تشكروا يرضه لكم أي: يرضى ذلك الشكر لكم، إنه عليم بذات الصدور أي: بما في القلوب .
    وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار .

    [ ص: 165 ] قوله تعالى: وإذا مس الإنسان ضر اختلفوا فيمن نزلت على قولين . أحدهما: في عتبة بن ربيعة، قاله عطاء . والثاني: في أبي حذيفة بن المغيرة، قاله مقاتل . والضر: البلاء والشدة .

    منيبا إليه أي: راجعا إليه من شركه .

    ثم إذا خوله أي: أعطاه وملكه نعمة منه بعد البلاء الذي أصابه، كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر نسي أي: ترك ما كان يدعو إليه، وفيه ثلاثة أقوال . أحدها: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله تعالى . والثاني: نسي الضر الذي [كان] يدعو [الله] إلى كشفه . والثالث: نسي الله الذي [كان] يتضرع إليه . قال الزجاج : وقد تدل "ما" على الله عز وجل، كقوله: ولا أنتم عابدون ما أعبد [الكافرون: 3] . وقال الفراء: ترك ما كان يدعو إليه . وقد سبق معنى الأنداد [البقرة: 22] ومعنى ليضل عن سبيل الله [الحج: 9] .

    قوله تعالى: قل تمتع بكفرك لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد، ومثله: فتمتعوا فسوف تعلمون [النحل: 55] .
    أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب . قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .

    قوله تعالى: أمن هو قانت قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وأبو جعفر، [ ص: 166 ] والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب: "أمن" بالتخفيف; وقرأ الباقون: بالتشديد . فأما المشددة، فمعناها: أهذا الذي ذكرنا خير، أمن هو قانت؟ والأصل في "أمن": أم من، فأدغمت الميم في الميم . وأما المخففة، ففي تقديرها ثلاثة أوجه .

    أحدها: أنها بمعنى النداء . قال الفراء: فسرها الذين قرؤوا بها فقالوا: يا من هو قانت، وهو وجه حسن، والعرب تدعو بالألف كما تدعو بياء، فيقولون: يا زيد أقبل، وأزيد أقبل، فيكون المعنى: أنه ذكر الناسي الكافر، ثم قص قصة الصالح بالنداء، كما تقول: فلان لا يصوم ولا يصلي، فيا من يصوم أبشر .

    والثاني: أن تقديرها: أمن هو قانت كمن ليس بقانت؟!

    والثالث: أمن هو قانت كمن جعل لله أندادا؟!

    وقد ذكرنا معنى القنوت في [البقرة: 116] ومعنى آناء الليل في [آل عمران: 113] .

    قوله تعالى: ساجدا وقائما يعني في الصلاة . وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال . أحدها: أنه أبو بكر الصديق، رواه عطاء عن ابن عباس . [ ص: 167 ] والثاني: عثمان بن عفان، قاله ابن عمر . والثالث: عمار بن ياسر، قاله مقاتل . والرابع: ابن مسعود، وعمار، وصهيب، وأبو ذر، قاله ابن السائب . والخامس: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه يحيى بن سلام .

    قوله تعالى: يحذر الآخرة أي: عذاب الآخرة . وقد قرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعروة، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأبو عمران: "يحذر عذاب الآخرة" بزيادة "عذاب" .

    ويرجو رحمة ربه فيها قولان . أحدهما: أنها المغفرة، قاله ابن السائب . والثاني: الجنة، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون أن ما وعد الله من الثواب [ ص: 168 ] والعقاب حق والذين لا يعلمون وباقي الآية قد تقدم في [الرعد: 19]، وكذلك قوله: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة قد تقدم في [النحل: 30] .

    وفي قوله: وأرض الله واسعة قولان . أحدهما: أنه حث لهم على الهجرة من مكة إلى حيث يأمنون . والثاني: أنها أرض الجنة رغبهم فيها .

    إنما يوفى الصابرون الذين صبروا لأجل الله تعالى على ما نالهم بغير حساب أي :يعطون عطاء كثيرا أوسع من أن يحسب وأعظم من أن يحاط به، لا على قدر أعمالهم .
    قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين . وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل الله أعبد مخلصا له ديني . فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين . لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون . والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد . الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .

    قوله تعالى: قل إني أمرت قال مقاتل: وذلك أن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على الذي أتيتنا به؟! ألا تنظر إلى ملة آبائك [ ص: 169 ] فتأخذ بها؟! فنزلت هذه الآية; والمعنى: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين أي: أمرت أن أعبده على التوحيد والإخلاص السالم من الشرك، وأمرت لأن أكون أول المسلمين من هذه الأمة .

    قل إني أخاف إن عصيت ربي بالرجوع إلى دين آبائي عذاب يوم عظيم وقد اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بينا في نظيرتها في [الأنعام: 15] .

    قل الله أعبد مخلصا له ديني بالتوحيد، فاعبدوا ما شئتم ، وهذا تهديد، وبعضهم يقول: هو منسوخ بآية السيف، وهذا باطل، لأنه لو كان أمرا، كان منسوخا، فأما أن يكون بمعنى الوعيد، فلا وجه لنسخه .

    قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار [و]خسروا أهليهم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم خسروا الحور العين اللواتي أعددن لهم في الجنة لو أطاعوا قاله الحسن، وقتادة .

    والثاني: خسروا الأهل في النار، إذ لا أهل لهم فيها، قاله مجاهد، وابن زيد .

    والثالث: خسروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا، إذ صاروا إلى النار بكفرهم، وصار أهلوههم إلى الجنة بإيمانهم، قاله الماوردي .

    قوله تعالى: لهم من فوقهم ظلل من النار وهي الأطباق من النار . وإنما قال: ومن تحتهم ظلل لأنها ظلل لمن تحتهم ذلك الذي وصف الله من العذاب يخوف الله به عباده المؤمنين .

    [ ص: 170 ] قوله تعالى: والذين اجتنبوا الطاغوت روى ابن زيد عن أبيه أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يوحدون الله تعالى: زيد بن عمرو بن نفيل، وأبو ذر، وسلمان الفارسي، رضى الله عنهم; قال: أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي .

    وفي المراد بالطاغوت هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها: الشياطين، قاله مجاهد . والثاني: الكهنة، قاله ابن السائب . والثالث: الأوثان، قاله مقاتل، فعلى قول مقاتل هذا: إنما قال: "يعبدوها" لأنها مؤنثة . وقال الأخفش: إنما قال: "يعبدوها" لأن الطاغوت في معنى جماعة، وإن شئت جعلته واحدا مؤنثا .

    قوله تعالى: وأنابوا إلى الله أي: رجعوا إليه بالطاعة لهم البشرى بالجنة فبشر عباد بباء، وحرك الياء أبو عمرو .

    ثم نعتهم فقال: الذين يستمعون القول وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: [أنه] القرآن، قاله الجمهور . فعلى هذا، في معنى فيتبعون أحسنه أقوال قد شرحناها في [الأعراف: 145] عند قوله: وأمر قومك يأخذوا بأحسنها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #472
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سورة الزمر
    الحلقة (472)
    صــ 171 إلى صــ 180





    والثاني: أنه جميع الكلام . ثم في المعنى قولان . أحدهما: [أنه الرجل] [ ص: 171 ] يجلس مع القوم فيسمع كلامهم، فيعمل بالمحاسن ويحدث بها، ويكف عن المساوئ ويظهرها، قاله ابن السائب . والثاني: [أنه] لما ادعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن، وأتت الكهنة بالكلام المزخرف في الأباطيل، فرق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله، فاتبعوا كلام الله، ورفضوا أباطيل أولئك، قاله أبو سليمان الدمشقي .
    أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار . لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد .

    قوله تعالى: أفمن حق عليه كلمة العذاب قال ابن عباس: سبق في علم الله أنه في النار .

    فإن قيل: كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟

    قيل: أما الفراء، فإنه يقول: هذا مما يراد به استفهام واحد، فسبق الاستفهام إلى غير موضعه فرد إلى موضعه الذي هو له، فيكون المعنى: أفأنت تنقذ من في النار من حقت عليه كلمة العذاب؟ ومثله: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون [المؤمنون: 35] فرد "أنكم" مرتين، والمعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم؟ ومثله: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ثم قال: فلا تحسبنهم [آل عمران: 188] فرد "تحسبن" مرتين، والمعنى: لا تحسبن الذين يفرحون بمفازة من العذاب . وقال الزجاج : يجوز أن يكون في الكلام محذوف، تقديره: أفمن حق عليه كلمة العذاب فيتخلص منه أو ينجو، أفأنت تنقذه؟ قال المفسرون: أفأنت [ ص: 172 ] تخلصه مما قدر له فتجعله مؤمنا؟ والمعنى: ما تقدر على ذلك قال عطاء: يريد بهذه الآية أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان .

    قوله تعالى: لكن الذين اتقوا وقرأ أبو المتوكل، وأبو جعفر: "لكن" بتشديد النون [وفتحها] . قال الزجاج : والغرف: هي المنازل الرفيعة في الجنة، من فوقها غرف أي: منازل أرفع منها .

    وعد الله منصوب على المصدر; فالمعنى: وعدهم الله غرفا وعدا . ومن قرأ: "وعد الله" بالرفع; المعنى: ذلك وعد الله .
    ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب .

    قوله تعالى: أنزل من السماء ماء قال الشعبي: كل ما في الأرض فمن السماء ينزل فسلكه ينابيع قال ابن قتيبة : أي: أدخله فجعله ينابيع، أي: عيونا تنبع، ثم يهيج أي: ييبس . قال الأصمعي: يقال للثبت إذا تم جفافه: قد هاج يهيج هيجا .

    فأما الحطام، فقال أبو عبيدة: هو ما يبس فتحات من النبات، ومثله الرفات . قال مقاتل: هذا مثل ضرب الدنيا، بينا ترى النبت أخضر، إذ تغير فيبس ثم هلك ،وكذلك الدنيا وزينتها . وقال غيره: هذا البيان للدلالة على قدرة الله عز وجل .
    [ ص: 173 ] أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين .

    قوله تعالى: أفمن شرح الله صدره قال الزجاج : جوابه متروك، لأن الكلام دال عليه، تقديره: أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد، ويدل على هذا قوله: فويل للقاسية قلوبهم ; وقد روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقلنا: يا رسول الله وما هذا الشرح؟ فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [الأنعام: 125] .

    قوله تعالى: فهو على نور فيه أربعة أقوال . أحدها: اليقين، قاله ابن عباس . والثاني: كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه، قاله قتادة . والثالث: البيان، قاله ابن السائب . والرابع: الهدى، قاله مقاتل .

    [ ص: 174 ] وفيمن نزلت هذه الآية؟ فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأبي بن خلف، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني: في علي وحمزة وأبي لهب وولده، قاله عطاء .

    والثالث: في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله قد بينا معنى القساوة في [البقرة: 74] .

    فإن قيل: كيف يقسو القلب من ذكر الله عز وجل؟

    فالجواب: أنه كلما تلي عليهم ذكر الله الذي يكذبون به، قست قلوبهم عن الإيمان به . وذهب مقاتل في آخرين إلى أن "من" هاهنا بمعنى "عن"، قال الفراء: كما تقول: أتخمت عن طعام أكلته، ومن طعام أكلته; وإنما قست قلوبهم من ذكر الله، لأنهم جعلوه كذبا فأقسى قلوبهم; ومن قال: قست قلوبهم عنه، أراد: أعرضت عنه . و [قد] قرأ أبي بن كعب ، وابن أبي عبلة، وأبو عمران: "قلوبهم عن ذكر الله" مكان قوله: "من" .
    الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد .

    [ ص: 175 ] قوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث يعني القرآن; وقد ذكرنا سبب نزولها في أول [يوسف] .

    قوله تعالى: كتابا متشابها فيه قولان .

    أحدهما: أن بعضه يشبه بعضا في الآي والحروف، فالآية تشبه الآية، والكلمة تشبه الكلمة، والحرف يشبه الحرف .

    والثاني: أن بعضه يصدق بعضا، فليس فيه اختلاف ولا تناقض .

    وإنما قيل له: مثاني لأنه كررت فيه القصص والفرائض والحدود والثواب والعقاب .

    فإن قيل: ما الحكمة في تكرار القصص، والواحدة قد كانت تكفي؟

    فالجواب: أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن، فيكون ذلك كافيا لهم، وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة مكررة، لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويلقيها إلى كل سمع . فأما فائدة تكرار الكلام من جنس واحد، كقوله: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " [الرحمن]، وقوله: لا أعبد ما تعبدون [الكافرون]، وقوله: أولى لك فأولى [القيامة: 34، 35] وما أدراك ما يوم الدين [الانفطار: 17، 18] فسنذكرها في سورة [الرحمن] عز وجل .

    قوله تعالى: تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم أي: تأخذهم [ ص: 176 ] قشعريرة، وهو تغير يحدث في جلد الإنسان من الوجل . وروى العباس ابن عبد المطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله، تحاتت ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها" .

    وفي معنى الآية ثلاثة أقوال . أحدها: تقشعر من وعيده، وتلين عند وعده، قاله السدي . والثاني: تقشعر من الخوف، وتلين من الرجاء . والثالث: تقشعر الجلود لإعظامه، وتلين عند تلاوته، ذكرهما الماوردي .

    وقال بعض أهل المعاني: مفعول الذكر في قوله: إلى ذكر الله محذوف، لأنه معلوم; والمعنى: تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله الجنة والثواب . قال قتادة: هذا نعت أولياء الله، تقشعر جلودهم [وتلين قلوبهم]، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان . وقد روى أبو حازم، قال: مر ابن عمر برجل ساقط من أهل العراق، فقال: ما شأنه؟ فقالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن يصيبه هذا، قال: إنا لنخشى الله عز وجل، وما نسقط . وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئت أبي، فقال لي: أين كنت؟ فقلت: وجدت قوما، ما رأيت خيرا منهم قط، يذكرون الله عز وجل فيرعد واحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله عز وجل، فقعدت معهم، فقال: لا تقعد معهم بعدها [أبدا]، قال: فرآني [ ص: 177 ] كأني لم يأخذ ذلك في، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا من خشية الله تعالى، أفترى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر؟ قال: فرأيت ذلك كذلك . وقال عكرمة: سئلت أسماء بنت أبي بكر: هل كان أحد من السلف يغشى عليه من الخوف؟ قالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون . وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر، كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم . فقلت لها: إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكان جواب يرعد عند الذكر، فقال له إبراهيم النخعي: إن كنت تملكه، فما أبالي أن لا أعتد بك، وإن كنت لا تملكه، فقد خالفت من كان قبلك .

    [ ص: 178 ] قوله تعالى: ذلك هدى الله في المشار إليه قولان . أحدهما: أنه القرآن، قاله مقاتل . والثاني: أنه ما ينزل بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد، ولينها عند الوعد، قاله ابن الأنباري .
    أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون . كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون . فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون . قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون .

    قوله تعالى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أي: شدته . قال الزجاج : جوابه محذوف، تقديره: كمن يدخل الجنة؟ وجاء في التفسير أن الكافر يلقى في النار مغلولا، ولا يتهيأ له أن يتقيها إلا بوجهه .

    ثم أخبر عما يقول الخزنة للكفار بقوله: وقيل للظالمين يعني الكافرين ذوقوا ما كنتم تكسبون أي: جزاء كسبكم .

    قوله تعالى: كذب الذين من قبلهم أي: من قبل كفار مكة فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون أي: وهم آمنون غافلون عن العذاب، [ ص: 179 ] فأذاقهم الله الخزي يعني الهوان والعذاب، ولعذاب الآخرة أكبر مما أصابهم في الدنيا لو كانوا يعلمون ، ولكنهم لا يعلمون ذلك .

    ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن أي: وصفنا لهم من كل مثل أي: من كل شبه يشبه أحوالهم .

    قوله تعالى: قرآنا عربيا قال الزجاج : "عربيا" منصوب على الحال، المعنى: ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه، فذكر "قرآنا" توكيدا، كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا، وجاءني عمرو إنسانا عاقلا، فذكر رجلا وإنسانا توكيدا .

    قوله تعالى: غير ذي عوج روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: غير مخلوق . وقال غيره: مستقيم غير مختلف .
    ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون . إنك ميت وإنهم ميتون . ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون .

    قوله تعالى: ضرب الله مثلا ثم بينه فقال: رجلا فيه شركاء متشاكسون قال ابن قتيبة : أي: مختلفون، يتنازعون ويتشاحون فيه، يقال: رجل شكس . وقال اليزيدي: الشكس من الرجال: الضيق الخلق .

    قال المفسرون: وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فإن الكافر يعبد [ ص: 180 ] آلهة شتى، فمثله بعبد يملكه جماعة يتنافسون في خدمته، ولا يقدر أن يبلغ رضاهم أجمعين; والمؤمن يعبد الله وحده، فمثله بعبد لرجل واحد، قد علم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاكس الخلطاء فيه، فذلك قوله: سلما لرجل قرأ ابن كثير، وأبو عمرو إلا عبد الوارث في غير رواية القزاز، وأبان عن عاصم: "ورجلا سالما" بألف وكسر اللام وبالنصب والتنوين فيهما; والمعنى: ورجلا خالصا لرجل قد سلم له من غير منازع . ورواه عبد الوارث إلا القزاز كذلك، إلا أنه رفع الاسمين، فقال: "ورجل سالم لرجل" وقرأ ابن أبي عبلة: "سلم لرجل" بكسر السين ورفع الميم . وقرأ الباقون: "ورجلا سلما" بفتح السين واللام [وبالنصب] فيهما والتنوين . والسلم، بفتح السين واللام، معناه الصلح، والسلم بكسر السين مثله . قال الزجاج : من قرأ: "سلما" و "سلما" فهما مصدران وصف بهما، فالمعنى: ورجلا ذا سلم لرجل وذا سلم لرجل; فالمعنى: ذا سلم; والسلم: الصلح، والسلم، بكسر السين مثله . وقال ابن قتيبة : [من قرأ]: "سلما لرجل" أراد: سلم إليه فهو سلم له . وقال أبو عبيدة: السلم والسلم الصلح .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #473
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سورة الزمر
    الحلقة (473)
    صــ 181 إلى صــ 190






    قوله تعالى: هل يستويان مثلا هذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا يستويان، لأن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتشاكسين . وقيل: لا يستويان في باب الراحة، لأن هذا قد عرف الطريق إلى رضى مالكه، وذاك متحير بين الشركاء . قال ثعلب: وإنما قال "هل يستويان مثلا" ولم يقل: مثلين، لأنهما جميعا ضربا [ ص: 181 ] مثلا واحدا، ومثله: وجعلنا ابن مريم وأمه آية [المؤمنون: 50]، ولم يقل: آيتين، لأن شأنهما واحد . وتم الكلام هاهنا، ثم قال: الحمد لله أي: له الحمد دون غيره من المعبودين بل أكثرهم لا يعلمون والمراد بالأكثر الكل .

    ثم أخبر نبيه بما بعد هذا الكلام أنه يموت، وأن الذين يكذبونه يموتون، وأنهم يجتمعون للخصومة عند الله عز وجل، المحق والمبطل، والمظلوم والظالم . وقال ابن عمر: نزلت هذه الآية وما ندري ما تفسيرها، وما نرى أنها نزلت الا فينا وفي أهل الكتابين، حتى قتل عثمان، فعرفت أنها فينا نزلت . وفي لفظ آخر: حتى وقعت الفتنة بين علي ومعاوية .
    فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين . والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون . لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين . ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون .

    [ ص: 182 ] قوله تعالى: فمن أظلم ممن كذب على الله بأن دعا له ولدا وشريكا وكذب بالصدق إذ جاءه وهو التوحيد والقرآن أليس في جهنم مثوى للكافرين أي: مقام للجاحدين؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير، يعني: إنه كذلك .

    قوله تعالى: والذي جاء بالصدق فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله علي بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد . ثم في الصدق الذي جاء به قولان . أحدهما: أنه "لا إله إلا الله"، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال [سعيد] بن جبير . والثاني: [أنه] القرآن، قاله قتادة .

    [وفي الذي صدق به ثلاثة أقوال . أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا، هو جاء بالصدق، وهو صدق به، قاله ابن عباس، والشعبي . والثاني: أنه أبو بكر، قاله علي بن أبي طالب . والثالث: أنهم المؤمنون، قاله قتادة]، والضحاك ، وابن زيد .

    والقول الثاني: [أن] الذي جاء بالصدق: أهل القرآن، وهو الصدق الذي يجيبون به يوم القيامة، وقد أدوا حقه، فهم الذين صدقوا به، قاله مجاهد .

    والثالث: أن الذي جاء بالصدق الأنبياء، قاله الربيع، فعلى هذا، يكون الذي صدق به: المؤمنون .

    والرابع: أن الذي جاء بالصدق: جبريل، وصدق به: محمد، قاله السدي .

    [ ص: 183 ] قوله تعالى: أولئك هم المتقون أي: الذين اتقوا الشرك; وإنما قيل: "هم"، لأن معنى "الذي" معنى الجمع، كذلك قال اللغويون، وأنشد أبو عبيدة، والزجاج:


    فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم، كل القوم، يا أم خالد


    قوله تعالى: ليكفر الله عنهم المعنى: أعطاهم ما شاؤوا ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ، أي: ليستر ذلك بالمغفرة ويجزيهم أجرهم بمحاسن أعمالهم، لا بمساوئها .
    أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام . ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون .

    [ ص: 184 ] قوله تعالى: أليس الله بكاف عبده ذكر المفسرون أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، ما تزال تذكر آلهتنا وتعيبها، فاتق أن تصيبك بسوء، فنزلت هذه الآية . والمراد بعبده هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم .

    وقرأ حمزة، والكسائي: "عباده" على الجمع، وهم الأنبياء، لأن الأمم قصدتهم بالسوء; فالمعنى أنه كما كفى الأنبياء قبلك، يكفيك . وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عمران الجوني: "بكافي" مثبتة الياء "عبده" بكسر الدال والهاء من غير ألف . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو العالية، وأبو الجوزاء، والشعبي مثله، إلا أنهم أثبتوا الألف في "عباده" . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش: "بكاف" بالتنوين، "عباده" على الجمع . وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء العطاردي: "يكافي" بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء "عباده" على الجمع .

    ويخوفونك بالذين من دونه أي: بالذين يعبدون من دونه، وهم الأصنام .

    ثم أعلم بما بعد هذا أن الإضلال والهداية إليه تعالى، وأنه منتقم ممن عصاه . ثم أخبر أنهم مع عبادتهم، يقرون أنه الخالق . ثم أمر أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون لا يملك كشف ضر ولا جذب خير .

    وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: "كاشفات ضره" و "ممسكات رحمته" منونا . والباقون: "كاشفات ضره" و "ممسكات رحمته" على الإضافة .
    [ ص: 185 ] قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون . من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم . إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل .

    قوله تعالى: قل يا قوم اعملوا ذكر بعض المفسرين أنها والآية التي تليا نسخت بآية السيف .

    قوله تعالى: إنا أنزلنا عليك الكتاب يعني القرآن للناس أي: لجميع الخلق بالحق ليس فيه باطل . وتمام الآية مفسر في آخر [يونس: 108]، وذكروا أنه منسوخ بآية السيف .
    الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .

    قوله تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها أي: يقبض الأرواح حين موت أجسادها والتي لم تمت أي: ويتوفى التي لم تمت في منامها .

    فيمسك أي: عن الجسد [والنفس] التي قضى عليها الموت وقرأ حمزة، والكسائي: "قضي" بضم القاف وفتح الياء، "الموت" بالرفع .

    ويرسل الأخرى إلى الجسد إلى أجل مسمى وهو انقضاء العمر إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون في أمر البعث . وروى [ ص: 186 ] [سعيد] بن جبير عن ابن عباس قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام، فيتعارفون ويتساءلون، ثم ترد أرواح الأحياء إلى أجسادها، فلا يخطأ بشيء منها، فذلك قوله: "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" وقال ابن عباس في رواية أخرى: في ابن آدم نفس وروح، فبالنفس العقل والتمييز، وبالروح النفس والتحريك، فإذا نام العبد، قبض الله نفسه ولم يقبض روحه . وقال ابن جريج: في الإنسان روح ونفس، بينهما حاجز، فهو تعالى يقبض النفس عند النوم يردها إلى الجسد عند الانتباه، فإذا أراد إماتة العبد في نومه، لم يرد النفس وقبض الروح .

    وقد اختلف العلماء، هل بين النفس والروح فرق؟ على قولين قد ذكرتهما في "الوجوه والنظائر"، وزدت هذه الآية شرحا في باب التوفي في كتاب "النظائر" . وذهب بعض العلماء إلى أن التوفي المذكور في حق النائم هو نومه، وهذا اختيار الفراء وابن الأنباري; فعلى هذا، يكون معنى توفي النائم: قبض نفسه عن التصرف، وإرسالها: إطلاقها باليقظة للتصرف .
    أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون . قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون .

    قوله تعالى: أم اتخذوا يعني كفار مكة .

    [ ص: 187 ] وفي المراد بالشفعاء قولان . أحدهما: أنها أصنام، زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم، قاله الأكثرون . والثاني: الملائكة، قاله مقاتل .

    قل أولو كانوا لا يملكون شيئا من الشفاعة ولا يعقلون أنكم تعبدونهم؟! وجواب هذا الاستفهام محذوف، تقديره: أولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم؟!

    قل لله الشفاعة جميعا أي: لا يملكها أحد إلا بتمليكه، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه .

    وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون . قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون . ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون . وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .

    قوله تعالى: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: انقبضت عن التوحيد، قاله ابن عباس، ومجاهد . والثاني: استكبرت، قاله قتادة . والثالث: نفرت، قاله أبو عبيدة، والزجاج .

    قوله تعالى: وإذا ذكر الذين من دونه يعني الأصنام إذا هم يستبشرون يفرحون . وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [الأنعام: 14، 73 ،البقرة: 113، الرعد: 18] إلى قوله: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون .

    [ ص: 188 ] قال السدي: ظنوا أن أعمالهم حسنات، فبدت لهم سيئات . وقال غيره: عملوا أعمالا ظنوا أنها تنفعهم، فلم تنفع مع شركهم . قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم; فهذا القول يحتمل وجهين .

    أحدهما: أنهم كانوا يرجون القرب من الله بعبادة الأصنام، فلما عوقبوا عليها، بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون .

    والثاني: أن البعث والجزاء لم يكن في حسابهم . وروي عن محمد بن المنكدر أنه جزع عند الموت وقال: أخشى هذه الآية أن يبدو لي ما لا أحتسب .

    قوله تعالى: وحاق بهم أي: نزل بهم ما كانوا به يستهزئون أي: ما كانوا ينكرونه ويكذبون به .
    فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون . قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون . فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين . أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون .

    قوله تعالى: فإذا مس الإنسان ضر دعانا قال مقاتل: هو أبو حذيفة ابن المغيرة، وقد سبق في هذه السورة نظيرها [الزمر: 8] . وإنما كنى عن النعمة بقوله: أوتيته ، لأن المراد بالنعمة: الإنعام .

    على علم عندي، أي: على خير علمه الله عندي . وقيل: على علم من الله بأني له أهل، قال الله تعالى: بل هي يعني النعمة التي أنعم [الله] عليه بها فتنة أي: بلوى يبتلى بها العبد ليشكر أو يكفر، [ ص: 189 ] ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم وامتحان . وقيل: "بل هي" أي: المقالة التي قالها "فتنة" .

    قد قالها يعني تلك الكلمة، وهي قوله: "إنما أوتيته على علم" الذين من قبلهم وفيهم قولان . أحدهما: أنهم الأمم الماضية، قاله السدي . والثاني: قارون، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: فما أغنى عنهم أي: ما دفع عنهم العذاب ما كانوا يكسبون وفيه ثلاثة أقوال . أحدها: من الكفر . والثاني: من عبادة الأصنام . والثالث: من الأموال .

    فأصابهم سيئات ما كسبوا أي: جزاء سيئاتهم، وهو العذاب .

    ثم أوعد كفار مكة، فقال: والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أي: إنهم لا يعجزون الله ولا يفوتونه .

    قال مقاتل: ثم وعظهم ليعلموا وحدانيته حين مطروا بعد سبع سنين، فقال: أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك أي: في بسط الرزق وتقتيره لآيات لقوم يؤمنون .
    قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم . وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون .

    قوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم في سبب نزولها أربعة أقوال .

    [ ص: 190 ] أحدها: أن ناسا من المشركين كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني: أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا، ثم عذبوا فافتتنوا، فكان أصحاب رسول الله يقولون: لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا، قوم تركوا دينهم بعذاب عذبوه، فنزلت هذه الآية، فكتبها عمر إلى عياش والوليد وأولئك النفر، فأسلموا وهاجروا; وهذا قول ابن عمر .

    والثالث: أنها نزلت في وحشي; وهذا القول ذكرناه مشروحا في آخر [الفرقان: 68] عن ابن عباس .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #474
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سورة الزمر
    الحلقة (474)
    صــ 191 إلى صــ 200






    والرابع: أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان [ ص: 191 ] وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد فعلنا ذلك؟! فنزلت هذه الآية; وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .

    ومعنى "أسرفوا على أنفسهم" ارتكبوا الكبائر . والقنوط بمعنى اليأس . وأنيبوا بمعنى ارجعوا إلى الله من الشرك والذنوب، وأسلموا له أي: أخلصوا له التوحيد . و "تنصرون" بمعنى تمنعون .

    واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم قد بيناه في قوله: يأخذوا بأحسنها [الأعراف: 145] .
    أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين . أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين .

    [ ص: 192 ] قوله تعالى: أن تقول نفس قال المبرد: المعنى: بادروا قبل أن تقول نفس، وحذرا من أن تقول نفس . وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول . ومعنى يا حسرتا يا ندامتا ويا حزنا . والتحسر: الاغتمام على ما فات . والألف في "يا حسرتا" هي [ياء] المتكلم، والمعنى: يا حسرتي، على الإضافة . قال الفراء: والعرب تحول الياء إلى الألف في كل كلام معناه الاستغاثة ويخرج على لفظ الدعاء، وربما أدخلت العرب الهاء بعد هذه الألف، فيخفضونها مرة، ويرفعونها أخرى، وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو عمران، وأبو الجوزاء: "يا حسرتي" بكسر التاء، على الإضافة إلى النفس . وقرأ معاذ القارئ، وأبو جعفر: "يا حسرتاي"، بألف بعد التاء وياء مفتوحة . قال الزجاج : وزعم الفراء أنه يجوز "يا حسرتاه على كذا" بفتح الهاء، و "يا حسرتاه" بالضم والكسر، والنحويون أجمعون لا يجيزون أن تثبت هذه الهاء مع الوصل .

    قوله تعالى: في جنب الله فيه خمسة أقوال . أحدها: في طاعة الله تعالى، قاله الحسن . والثاني: في حق الله، قاله سعيد بن جبير . والثالث: في أمر الله، قاله مجاهد، والزجاج . والرابع: في ذكر الله، قاله عكرمة، والضحاك . والخامس: في قرب الله; روي عن الفراء أنه قال: الجنب: القرب، أي: في قرب الله وجواره; يقال: فلان يعيش في جنب فلان، أي: في قربه وجواره; فعلى هذا يكون المعنى: [على] ما فرطت في طلب قرب الله تعالى، وهو الجنة .

    [ ص: 193 ] قوله تعالى: وإن كنت لمن الساخرين أي: وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالمؤمنين في الدنيا .

    أو تقول لو أن الله هداني أي: أرشدني إلى دينه لكنت من المتقين الشرك; فيقال لهذا القائل: بلى قد جاءتك آياتي قال الزجاج : و "بلى" جواب النفي، وليس في الكلام لفظ النفي، غير أن معنى "لو أن الله هداني": ما هديت، فقيل: "بلى قد جاءتك آياتي" . وروى ابن أبي سريج [عن الكسائي]: "جاءتك"، "فكذبت"، "واستكبرت"، "وكنت"، بكسر التاء فيهن، مخاطبة للنفس . ومعنى "استكبرت": تكبرت عن الإيمان بها .
    ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين . وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون .

    قوله تعالى: ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله فزعموا أن له ولدا وشريكا وجوههم مسودة . وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل . وباقي الآية قد ذكرناه آنفا [الزمر: 32] .

    قوله تعالى: وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "بمفازاتهم" . قال الفراء: وهو كما تقول: قد تبين أمر القوم وأمورهم، وارتفع الصوت والأصوات، والمعنى واحد . وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال . أحدها: بفضائلهم، قاله السدي . والثاني: بأعمالهم، قاله ابن السائب، ومقاتل . والثالث: بفوزهم من النار .

    [ ص: 194 ] قال المبرد: المفازة: مفعلة من الفوز، وإن جمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات، والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم، أي: بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة .
    الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل . له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون .

    قوله تعالى: له مقاليد السماوات والأرض قال ابن قتيبة : أي: مفاتيحها وخزائنها، لأن مالك المفاتيح مالك الخزائن، واحدها: إقليد، وجمع على غير واحد، كما قالوا: مذاكير جمع ذكر، ويقال: هو فارسي معرب . [وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: الإقليد: المفتاح، فارسي معرب]، قال الراجز:


    لم يؤذها الديك بصوت تغريد ولم تعالج غلقا بإقليد


    والمقليد: لغة في الإقليد، والجمع: مقاليد .

    وللمفسرين في المقاليد قولان . أحدهما: المفاتيح، قاله ابن عباس . والثاني: الخزائن، قاله الضحاك . وقال الزجاج : تفسيره أن كل شيء في السموات والأرض، فهو خالقه وفاتح بابه . قال المفسرون: مفاتيح السموات: المطر، ومفاتيح الأرض: النبات .
    قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون . ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين . بل الله فاعبد وكن من الشاكرين .

    [ ص: 195 ] قوله تعالى: أفغير الله تأمروني أعبد قرأ نافع، وابن عامر: "تأمروني أعبد" مخففة، غير أن نافعا فتح الياء، ولم يفتحها ابن عامر . وقرأ ابن كثير: "تأمروني" بتشديد النون وفتح الياء، وقرأ الباقون بسكون الياء . وذلك حين دعوه إلى دين آبائه أيها الجاهلون أي: فيما تأمرون .

    قوله تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك، وكذلك أوحي إلى الذين من قبلك . قال أبو عبيدة: ومجازها مجاز الأمرين اللذين يخبر عن أحدهما ويكف عن الآخر،قال ابن عباس: هذا أدب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتهديد لغيره، لأن الله عز وجل قد عصمه من الشرك . وقال غيره: إنما خاطبه بذلك، ليعرف من دونه أن الشرك يحبط الأعمال المتقدمة كلها ولو وقع من نبي . وقرأ أبو عمران، وابن السميفع، ويعقوب: "لنحبطن" بالنون، "عملك" بالنصب . بل الله فاعبد أي: وحد .
    وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون .

    قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره سبب نزولها أن رجلا من أهل الكتاب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، بلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والثرى على إصبع؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله [ ص: 196 ] ابن مسعود . [وقد أخرج البخاري ومسلم في "الصحيحين" نحوه في ابن مسعود] . وقد فسرنا أول هذه الآية في [الأنعام: 91] . قال ابن عباس: هذه الآية في الكفار، فأما من آمن بأنه على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره .

    ثم ذكر عظمته بقوله: والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه وقد أخرج البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟"; وأخرجا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟" . قال ابن عباس: الأرض والسموات كلها بيمينه .

    [ ص: 197 ] وقال سعيد بن جبير: السموات قبضة والأرضون قبضة .
    ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون . ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون .

    قوله تعالى: ونفخ في الصور فصعق وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري : "فصعق" بضم الصاد من في السماوات ومن في الأرض أي: ماتوا من الفزع وشدة الصوت . وقد بينا هذه الآية والخلاف في الذين استثنوا في سورة [النمل: 87] .

    ثم نفخ فيه أخرى وهي نفخة البعث فإذا هم يعني الخلائق قيام ينظرون .

    [ ص: 198 ] قوله تعالى: وأشرقت الأرض بنور ربها أي: أضاءت . والمراد بالأرض: عرصات القيامة .

    قوله تعالى: ووضع الكتاب فيه قولان . أحدهما: كتاب الأعمال، قاله قتادة، ومقاتل . والثاني: الحساب، قاله السدي . وفي الشهداء قولان .

    أحدهما: أنهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، قاله الجمهور . ثم فيهم أربعة أقوال . أحدها: أنهم المرسلون من الأنبياء . والثاني: أمة محمد يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وتكذيب الأمم إياهم، رويا عن ابن عباس رضي الله عنه . والثالث: الحفظة، قاله عطاء . والرابع: النبيون والملائكة وأمة محمد صلى الله عليه وسلم والجوارح، قاله ابن زيد .

    والثاني: أنهم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، قاله قتادة; والأول أصح .

    ووفيت كل نفس ما عملت أي: جزاء عملها وهو أعلم بما يفعلون أي: لا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد .
    وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين . قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين . وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها [ ص: 199 ] وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين . وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين . وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين .

    قوله تعالى: وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا قال أبو عبيدة: الزمر: جماعات في تفرقة بعضهم على إثر بعض، واحدها: زمرة .

    قوله تعالى: رسل منكم أي: من أنفسكم . و كلمة العذاب هي قوله: لأملأن جهنم [الأعراف: 18] .

    قوله تعالى: فتحت أبوابها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: "فتحت" "وفتحت" مشددتين; وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالتخفيف .

    وفي هذه الواو ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها زائدة، روي عن جماعة من اللغويين منهم الفراء .

    والثاني: أنها واو الحال; فالمعنى: جاؤوها وقد فتحت أبوابها، فدخلت [ ص: 200 ] الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه .

    أحدها: أن أهل الجنة جاؤوها وقد فتحت أبوابها ليستعجلوا السرور والفرح إذا رأوا الأبواب مفتحة، وأهل النار يأتونها وأبوابها مغلقة ليكون أشد لحرها، ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا من أصحابنا .

    والثاني: أن الوقوف على الباب المغلق نوع ذل، فصين أهل الجنة عنه، وجعل في حق أهل النار، ذكره لي بعض مشايخنا .

    والثالث: أنه لو وجد أهل الجنة بابها مغلقا لأثر انتظار فتحه في كمال الكرم، ومن كمال الكرم غلق باب النار إلى حين مجيء أهلها، لأن الكريم يعجل المثوبة، ويؤخر العقوبة، وقد قال عز وجل: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم [النساء: 147]; قال المصنف: هذا وجه خطر لي .

    والقول الثالث: أن الواو زيدت، لأن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، والعرب تعطف في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله: ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم [الكهف: 22]، حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي .

    واختلف العلماء أين جواب هذه الآية على ثلاثة أقوال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #475
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سورة غافر
    الحلقة (475)
    صــ 201 إلى صــ 210




    أحدها: أن الجواب محذوف، قاله أبو عبيدة، والمبرد، والزجاج في آخرين . وفي تقدير هذا المحذوف قولان . أحدهما: أن تقديره: حتى إذا جاءوها . . . . . إلى آخر الآية . . . . سعدوا، قاله المبرد . والثاني: حتى إذا جاءوها إلى قوله: [ ص: 201 ] فادخلوها خالدين . . . . دخلوها، وإنما حذف، لأن في الكلام دليلا عليه، وهذا اختيار الزجاج .

    والقول الثاني: أن الجواب: قال لهم خزنتها، والواو زائدة، ذكره الأخفش، قال: ومثله في الشعر:


    فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن إلا كلمة حالم بخيال


    أي: فإذا ذلك .

    والثالث: الجواب: حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها، والواو زائدة، حكاه الزجاج عن قوم من أهل اللغة .

    وفي قوله: طبتم خمسة أقوال . أحدها: أنهم إذا انتهوا إلى باب الجنة وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فلا يبقى في بطونهم أذى ولا قذى إلا خرج، ويغتسلون من الأخرى، فلا تغبر جلودهم ولا تشعث أشعارهم أبدا، حتى إذا انتهوا إلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها: "سلام عليكم طبتم"، رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه، وقد ذكرنا في [الأعراف: 44] نحوه عن ابن عباس . والثاني: طاب لكم [ ص: 202 ] المقام، قاله ابن عباس . والثالث: طبتم بطاعة الله، قاله مجاهد . والرابع: أنهم طيبوا قبل دخول الجنة بالمغفرة، واقتص من بعضهم لبعض، فلما هذبوا قالت لهم الخزنة: طبتم، قاله قتادة . والخامس: كنتم طيبين في الدنيا، قاله الزجاج .

    فلما دخلوها قالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده بالجنة وأورثنا الأرض أي أرض الجنة ( نتبوأ منها حيث نشاء ) أي: نتخذ فيها من المنازل ما نشاء . وحكى أبو سليمان الدمشقي أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأمم، فينزلون منها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأمم بعدهم فيها فلذلك قالوا: "نتبوأ من الجنة حيث نشاء"; يقول الله عز وجل: فنعم أجر العاملين أي: نعم ثواب المطيعين في الدنيا الجنة .

    قوله تعالى: وترى الملائكة حافين من حول العرش أي: محدقين به، يقال: حف القوم بفلان: إذا أحدقوا به; ودخلت "من" للتوكيد، كقولك: ما جاءني من أحد .

    يسبحون بحمد ربهم قال السدي، ومقاتل: بأمر ربهم . وقال بعضهم: يسبحون بالحمد له حيث دخل الموحدون الجنة . وقال ابن جرير: التسبيح هاهنا بمعنى الصلاة .

    قوله تعالى: وقضي بينهم أي: بين الخلائق بالحق أي: بالعدل وقيل الحمد لله رب العالمين هذا قول أهل الجنة شكرا لله تعالى على إنعامه .

    قال المفسرون: ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد فقال: "الحمد لله الذي [ ص: 203 ] خلق السماوات والأرض" [الأنعام: 1] وختم غاية الأمر -وهو استقرار الفريقين في منازلهم- بالحمد لله بهذه الآية، فنبه على تحميده في بداية كل أمر وخاتمته .
    [ ص: 204 ] سُورَةُ الْمُؤْمِنِ

    قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ الطَّوْلِ . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ أَنَّ فِيهَا آَيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَالَّتِي بَعْدَهَا [الْمُؤْمِنِ: 35، 36] . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَذَكَرَ أَنَّ الْحَوَامِيمَ كُلَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : يُقَالُ: إِنَّ "حم" اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أُضِيفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: سُورَةُ اللَّهِ، لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا، فَقِيلَ: آَلُ حَامِيمٍ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآَنُ كُلُّهُ سُوَرَ اللَّهِ، وَإِنَّ هَذَا كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ، وَحَرَمُ اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ، قَالَ الْكُمَيْتُ:


    وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آَلِ حَامِيمَ آَيَةٌ تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعَرَّبٌ


    وَقَدْ تُجْعَلُ "حم" اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَيَدْخُلُ الْإِعْرَابَ وَلَا يُصْرَفُ، وَمَنْ قَالَ هَذَا فِي الْجَمِيعِ: الْحَوَامِيمُ، كَمَا يُقَالُ: "طس" وَالطَّوَاسِينَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيِّ : الْعَرَبُ تَقُولُ: وَقَعَ فِي الْحَوَامِيمِ، وَفِي آَلِ حَمِيمٍ، أَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
    حَلَفْتُ بِالسَّبْعِ اللَّوَاتِي طُوِّلَتْ وَبِمِئِينَ بَعْدَهَا قَدْ أُمْئِيَتْ


    وَبِمَثَانٍ ثُنِّيَتْ فَكُرِّرَتْ وَبِالطَّوَاسِي نَ اللَّوَاتِي ثُلِّثَتْ


    [ ص: 205 ] وَبِالْحَوَامِي مِ اللَّوَاتِي سُبِّعَتْ [وَبِالْمُفَصَّل ِ اللَّوَاتِي فُصِّلَتْ]


    فَمَنْ قَالَ: وَقَعَ فِي آَلِ حَامِيمَ، جَعَلَ حَامِيمَ اسْمًا لِكُلِّهِنَّ; وَمَنْ قَالَ: وَقَعَ فِي الْحَوَامِيمِ، جَعَلَ "حم" كَأَنَّهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ . وَقَرَأْتُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ قَالَ: مِنَ الْخَطَإِ أَنْ تَقُولَ: قَرَأَتُ الْحَوَامِيمَ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالصَّوَابُ أَنْ تَقُولَ، قَرَأَتُ آَلَ حَامِيمَ . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ "إِذَا وَقَعَتْ فِي آَلِ حم وَقَعَتْ فِي رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ"، وَقَالَ الْكُمَيْتُ:

    وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آَلِ حَامِيمَ آَيَةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    حم . تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ .

    وَفِي حم أَرْبَعَةُ أَقَوْالٍ .

    أَحَدُهَا: قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ [الْمُؤْمِنِ: 10] .

    [ ص: 206 ] وَالثَّانِي: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَوْالٍ . أَحَدُهَا: أَنْ "الر" وَ "حم" وَ "نُونُ" حُرُوفِ الرَّحْمَنِ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاءَ مِفْتَاحُ اسْمِهِ "حَمِيدُ"، وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ "مَجِيدُ"، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْحَاءَ مِفْتَاحُ كُلِّ اسْمٍ لِلَّهِ ابْتِدَاؤُهُ حَاءٌ، مِثْلُ "حَكِيمٍ"، وَ "حَلِيمٍ"، وَ "حَيٍّ"، وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ كُلِّ اسْمٍ لَهُ، ابْتِدَاؤُهُ مِيمٌ مِثْلُ "مَلِكٍ"، وَ "مُتَكَبِّرٍ"، وَ "مَجِيدٍ"، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى "حم": قُضِيَ مَا هُوَ كَائِنٌ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالْكِسَائِيِّ مِثْلُ هَذَا كَأَنَّهُمَا أَرَادَا الْإِشَارَةَ إِلَى حم، بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَقَدْ قِيلَ فِي "حم": حُمَّ الْأَمْرُ . وَالرَّابِعُ: أَنْ "حم" اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "حم" بِفَتْحِ الْحَاءِ; وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ : بِكَسْرِهَا; وَاخْتَلَفَ عَنِ الْبَاقِينَ . قَالَ الزَّجَّاجُ : أَمَّا الْمِيمُ، فَسَاكِنَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ كُلِّهِمُ الَّا عِيسَى ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ فَتَحَهَا; وَفَتْحُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ "حم" اسْمًا لِلسُّورَةِ، فَيَنْصِبُهُ وَلَا يُنَوِّنُهُ، لِأَنَّهُ عَلَى لَفْظِ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّة ِ نَحْوَ هَابِيلَ وَقَابِيلَ . وَالثَّانِي: عَلَى مَعْنَى: اتْلُ حم; وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ فَتْحٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ حَيْثُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَيَكُونُ حِكَايَةَ حُرُوفِ الْهِجَاءِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ أَيْ: هَذَا تَنْزِيلُ الْكِتَابِ . وَالتَّوْبُ: [ ص: 207 ] جَمْعُ تَوْبَةٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مَنْ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا . وَالطَّوْلُ: الْفَضْلُ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو طَوْلٍ عَلَى قَوْمِهِ، أَيْ: ذُو فَضْلٍ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : يُقَالُ: طُلَّ عَلَيَّ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَيْ: تَفَضَّلْ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذُو: حَرْفُ النِّسْبَةِ، وَالنِّسْبَةُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: بِالْيَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: أَسَدِيٌّ، وَبِكْرِّيٌّ، وَالثَّانِي عَلَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمُ: الْمَهَالِبَةُ، وَالْمَسَامِعَة ُ، وَالْأَزَارِقَة ُ، وَالثَّالِثُ بِـ "ذِي" وَ "ذَاتُ"، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلُ مَالٍ، أَيْ: ذُو مَالٍ، وَكَبْشٍ صَافٍ، أَيْ: ذُو صُوفٍ، وَنَاقَةٍ ضَامِرٍ، أَيْ: ذَاتُ ضَمْرٍ; فَقَوْلُهُ: ذُو الطَّوْلِ، مَعْنَاهُ: أَهْلُ الطَّوْلِ وَالْفَضْلِ .
    ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد . كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب . وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار .

    قوله تعالى: ما يجادل في آيات الله أي: ما يخاصم فيها بالتكذيب لها ودفعها بالباطل إلا الذين كفروا وباقي الآية في [آل عمران: 196]; والمعنى: إن عاقبة أمرهم إلى العذاب كعاقبة من قبلهم .

    قوله تعالى: وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه فيه قولان . أحدهما: ليقتلوه، قاله ابن عباس، وقتادة . والثاني: ليحبسوه ويعذبوه، ويقال للأسير: أخيذ، حكاه ابن قتيبة . قال الأخفش: وإنما قال: "ليأخذوه" فجمع على الكل، لأن الكل مذكر ومعناه معنى الجماعة . وما بعد هذا مفسر في [الكهف: 56] إلى قوله: فأخذتهم أي: عاقبتهم وأهلكتهم [ ص: 208 ] فكيف كان عقاب استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم . وكذلك أي: مثل الذي حق على الأمم المكذبة حقت كلمت ربك بالعذاب، وهي قوله: لأملأن جهنم [الأعراف: 18]على الذين كفروا من قومك . وقرأ نافع، وابن عامر: ( حقت كلمات ربك ) ، أنهم قال الأخفش: لأنهم أو بأنهم أصحاب النار .
    الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم .

    ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال: الذين يحملون العرش وهم أربعة أملاك، فإذا كان يوم القيامة جعلوا ثمانية ومن حوله قال وهب بن منبه: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ليس فيهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبحه الآخر . وقال غيره: الذين حول العرش هم الكروبيون وهم سادة الملائكة . وقد ذكرنا في السورة المتقدمة معنى قوله: يسبحون بحمد ربهم [الزمر: 75] .

    قوله تعالى: ربنا أي يقولون: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما قال الزجاج : هو منصوب على التمييز . وقال غيره: المعنى: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء فاغفر للذين تابوا من الشرك واتبعوا سبيلك [ ص: 209 ] وهو دين الإسلام . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: وقهم السيئات قال قتادة: يعني العذاب .
    إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون . قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل . ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير .

    قوله تعالى: إن الذين كفروا ينادون لمقت الله قال المفسرون: لما رأوا أعمالهم وأدخلوا النار مقتوا أنفسهم لسوء فعلهم، فناداهم مناد: لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم .

    ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وهذا مثل قوله: وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [البقرة: 28] وقد فسرناه هنالك .

    قوله تعالى: فهل إلى خروج أي: من النار إلى الدنيا لنعمل بالطاعة من سبيل ؟ وفي الكلام اختصار، تقديره: فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك; وقيل لهم: ذلكم يعني العذاب الذي نزل بهم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم أي: إذا قيل "لا إله إلا الله" أنكرتم، وإن جعل له شريك آمنتم، فالحكم لله فهو الذي حكم على المشركين بالنار . وقد بينا في سورة [البقرة: 255] معنى العلي، وفي [الرعد: 9] معنى الكبير .
    [ ص: 210 ] هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب . فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون . رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق . يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار . اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب .

    هو الذي يريكم آياته أي: مصنوعاته التي تدل على وحدانيته وقدرته . والرزق هاهنا: المطر، سمي رزقا، لأنه سبب الأرزاق . و "يتذكر" بمعنى يتعظ، و "ينيب" بمعنى يرجع إلى الطاعة .

    ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال: فادعوا الله مخلصين له الدين أي: موحدين .

    قوله تعالى: رفيع الدرجات قال ابن عباس: يعني رافع السموات . وحكى الماوردي عن بعض المفسرين قال: معناه: عظيم الصفات .

    قوله تعالى: ذو العرش أي: خالقه ومالكه .

    قوله تعالى: يلقي الروح فيه خمسة أقوال .

    أحدها: أنه القرآن . والثاني: النبوة . والقولان مرويان عن ابن عباس . وبالأول قال ابن زيد، وبالثاني قال السدي . والثالث: الوحي، قاله قتادة . وإنما سمي القرآن والوحي روحا، لأن قوام الدين به، كما أن قوام البدن بالروح . والرابع: جبريل، قاله الضحاك . والخامس: الرحمة، حكاه إبراهيم الحربي .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #476
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سورة غافر
    الحلقة (476)
    صــ 211 إلى صــ 220




    [ ص: 211 ] قوله تعالى: من أمره فيه ثلاثة أقوال . أحدها: من قضائه، قاله ابن عباس . والثاني: بأمره، قاله مقاتل . والثالث: من قوله، ذكره الثعلبي .

    قوله تعالى: على من يشاء من عباده يعني الأنبياء .

    لينذر في المشار إليه قولان . أحدهما: أنه الله عز وجل . والثاني: النبي الذي يوحى إليه .

    والمراد بـ يوم التلاق : يوم القيامة . وأثبت ياء ( التلاقي ) في الحالين ابن كثير ويعقوب، وأبو جعفر وافقهما في الوصل; والباقون بغير ياء في الحالين . وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال .

    أحدها: أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس .

    والثاني: يلتقي فيه الأولون والآخرون، روي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: [يلتقي] فيه الخلق والخالق، قاله قتادة ومقاتل .

    والرابع: يلتقي المظلوم والظالم، قاله ميمون بن مهران .

    والخامس: يلتقي المرء بعمله، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: يوم هم بارزون أي: ظاهرون من قبورهم لا يخفى على الله منهم شيء .

    فإن قيل: فهل يخفى عليه منهم اليوم شيء؟

    فالجواب: أن لا، غير أن معنى الكلام التهديد بالجزاء; وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: لا يخفى عليه مما عملوا شيء، قاله ابن عباس . والثاني: [ ص: 212 ] لا يستترون منه بجبل ولا مدر، قاله قتادة . والثالث: أن المعنى: أبرزهم جميعا، لأنه لا يخفى عليه منهم شيء، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: لمن الملك اليوم اتفقوا على أن هذا يقوله الله عز وجل بعد فناء الخلائق . واختلفوا في وقت قوله له على قولين .

    أحدهما: [أنه] يقوله عند فناء الخلائق إذا لم يبق مجيب، فيرد هو على نفسه فيقول: لله الواحد القهار ، قاله الأكثرون .

    والثاني: أنه يقوله يوم القيامة .

    وفيمن يجيبه حينئذ قولان . أحدهما: أنه يجيب نفسه وقد سكت الخلائق لقوله، قاله عطاء . والثاني: أن الخلائق كلهم يجيبونه فيقولون: "لله الواحد القهار"، قاله ابن جريج .
    وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .

    قوله تعالى: وأنذرهم يوم الآزفة فيه قولان .

    أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الجمهور . قال ابن قتيبة : وسميت القيامة بذلك لقربها، يقال: أزف شخوص فلان، أي: قرب .

    والثاني: أنه يوم حضور المنية، قاله قطرب .

    [ ص: 213 ] قوله تعالى: إذ القلوب لدى الحناجر وذلك أنها ترتقي إلى الحناجر فلا تخرج ولا تعود، هذا على القول الأول . وعلى الثاني: القلوب هي النفوس تبلغ الحناجر عند حضور المنية; قال الزجاج : و كاظمين منصوب على الحال، والحال محمولة على المعنى; لأن القلوب لا يقال لها: كاظمين، وإنما الكاظمون أصحاب القلوب; فالمعنى: إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم . قال المفسرون: "كاظمين" أي: مغمومين ممتلئين خوفا وحزنا، والكاظم: الممسك للشيء على ما فيه; وقد أشرنا إلى هذا عند قوله: والكاظمين الغيظ [آل عمران: 134] .

    ما للظالمين يعني الكافرين من حميم أي: قريب ينفعهم ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته .

    يعلم خائنة الأعين قال ابن قتيبة : الخائنة والخيانة واحد . وللمفسرين فيها أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيريهم أنه يغض بصره، فإذا رأى منهم غفلة لحظ إليها، فإن خاف أن يفطنوا له غض بصره، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه نظر العين إلى ما نهي عنه، قاله مجاهد .

    والثالث: الغمز بالعين، قاله الضحاك والسدي . قال قتادة: هو الغمز بالعين فيما لا يحبه الله ولا يرضاه .

    والرابع: النظرة بعد النظرة، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: وما تخفي الصدور فيه ثلاثة أقوال . أحدها: ما تضمره من الفعل أن لو قدرت على ما نظرت إليه، قاله ابن عباس . والثاني: الوسوسة، [ ص: 214 ] قاله السدي . والثالث: ما يسره القلب من أمانة أو خيانة، حكاه الماوردي .
    والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير . أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق . ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب . ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب . فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال .

    قوله تعالى: والله يقضي بالحق أي: يحكم به فيجزي بالحسنة والسيئة والذين يدعون من دونه من الآلهة . وقرأ نافع، وابن عامر: "تدعون" بالتاء على معنى: قل لهم: لا يقضون بشيء أي: لا يحكمون بشيء ولا يجازون به; وقد نبه الله عز وجل بهذا على أنه حي، لأنه إنما يأمر ويقضي من كان حيا، وأيد ذلك بذكر السمع والبصر، لأنهما إنما يثبتان لحي، [ ص: 215 ] قاله أبو سليمان الدمشقي . وما بعد هذا قد تقدم بعضه [يوسف: 109] وبعضه ظاهر إلى قوله: كانوا هم أشد منهم قوة وقرأ ابن عامر: "أشد منكم" بالكاف، وكذلك هو في مصاحفهم، وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب، وما كان لهم من الله أي: من عذاب الله من واق بقي العذاب عنهم .

    ذلك أي: ذلك العذاب الذي نزل بهم بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات . . . . إلى آخر الآية .

    ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا . وأراد بقوله: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه أعيدوا القتل عليهم كما كان أولا، قاله ابن عباس . وقال قتادة: كان فرعون قد كف عن قتل الولدان، فلما بعث الله موسى، أعاد عليهم القتل ليصدهم بذلك عن متابعة موسى .

    قوله تعالى: وما كيد الكافرين إلا في ضلال أي: إنه يذهب باطلا ويحيق بهم ما يريده الله عز وجل .
    وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد . وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم [ ص: 216 ] إلا سبيل الرشاد . وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد . ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد . ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب .

    وقال فرعون ذروني أقتل موسى وإنما قال هذا، لأنه كان في خاصة فرعون من يمنعه من قتله خوفا من الهلاك وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله فليمنعه من القتل إني أخاف أن يبدل دينكم أي: عبادتكم إياي ( وأن يظهر في الأرض الفساد ) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: "وأن" بغير ألف . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: "أو أن" بألف قبل الواو، على معنى: إن لم يبدل دينكم أوقع الفساد، إلا أن نافعا وأبا عمرو قرأ: "يظهر" بضم الياء "الفساد" بالنصب . وقرأ الباقون: "يظهر" بفتح الياء "الفساد" بالرفع، والمعنى: يظهر الفساد بتغيير أحكامنا، فجعل ذلك فسادا بزعمه; وقيل: يقتل أبناءكم كما تفعلون بهم .

    فلما قال فرعون هذا، استعاذ موسى بربه فقال: إني عذت بربي وربكم قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر: "عذت" مبينة الذال، وأدغمها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف من كل متكبر أي: متعظم عن الإيمان . فقصد فرعون قتل موسى، فقال حينئذ رجل مؤمن من آل فرعون . . . [ ص: 217 ] وفي الآل هاهنا قولان .

    أحدهما: [أنه] بمعنى الأهل والنسب; قال السدي ومقاتل: كان ابن عم فرعون، وهو المراد بقوله: وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى [القصص: 20] .

    والثاني: أنه بمعنى القبيلة والعشيرة; قال قتادة ومقاتل: كان قبطيا . وقال قوم: كان إسرائيليا، وإنما المعنى: قال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون; وفي اسمه خمسة أقوال .

    أحدها: حزبيل، قاله ابن عباس، ومقاتل . والثاني: حبيب، قاله كعب . والثالث: سمعون، بالسين المهملة، قاله شعيب الجبائي . والرابع: جبريل . والخامس: شمعان، بالشين المعجمة، رويا عن ابن إسحاق، وكذلك حكى الزجاج "شمعان" بالشين، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضا . والأكثرون على أنه آمن بموسى لما جاء . وقال الحسن: كان مؤمنا قبل مجيء موسى، وكذلك امرأة فرعون . قال مقاتل: كتم إيمانه من فرعون مائة سنة .

    قوله تعالى: أتقتلون رجلا أن يقول أي: لأن يقول ربي الله وهذا استفهام إنكار وقد جاءكم بالبينات أي: بما يدل على صدقه، وإن يك كاذبا فعليه كذبه أي: لا يضركم ذلك وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم من العذاب . وفي "بعض" ثلاثة أقوال .

    [ ص: 218 ] أحدها: أنها بمعنى "كل" قاله أبو عبيدة، وأنشد للبيد:


    تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يعتلق بعض النفوس حمامها


    أراد: كل النفوس .

    والثاني: أنها صلة; والمعنى: يصبكم الذي يعدكم، حكي عن الليث .

    والثالث: أنها على أصلها، ثم في ذلك قولان . أحدهما: أنه وعدهم النجاة إن آمنوا، والهلاك إن كفروا، فدخل ذكر البعض لأنهم على أحد الحالين . والثاني: أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكهم في الدنيا بعض الوعد، ذكرهما الماوردي .

    قال الزجاج : هذا باب من النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس في هذا نفي إصابة الكل، ومثله قول الشاعر:


    قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون من المستعجل الزلل


    وإنما ذكر البعض ليوجب الكل، لأن البعض من الكل، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد أبان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه، فكأن المؤمن قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم; قال: وأما بيت لبيد، فإنه أراد ببعض النفوس: نفسه وحدها .

    [ ص: 219 ] قوله تعالى: إن الله لا يهدي أي: لا يوفق للصواب من هو مسرف وفيه قولان . أحدهما: أنه المشرك، قاله قتادة . والثاني: أنه السفاك للدم، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: ظاهرين في الأرض أي: عالين في أرض مصر فمن ينصرنا أي: من يمنعنا من بأس الله أي: من عذابه; والمعنى: لا تتعرضوا للعذاب بالتكذيب وقتل النبي; فقال فرعون عند ذلك: ما أريكم من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي وما أهديكم أي: أدعوكم الا إلى طريق الهدى في تكذيب موسى والإيمان بي، وهذا يدل على أنه انقطع عن جواب المؤمن .

    وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب قال الزجاج : أي: مثل يوم حزب حزب; والمعنى: أخاف أن تقيموا على كفركم فينزل بكم من العذاب مثل ما نزل بالأمم المكذبة رسلهم .

    قوله تعالى: يوم التناد قرأ عاصم، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: "التناد" بغير ياء . وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير، ويعقوب، وافقهم أبو جعفر في الوصل . وقرأ أبو بكر الصديق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وأبو العالية، والضحاك : "التناد" بتشديد الذال . قال الزجاج : أما إثبات الياء فهو الأصل، وحذفها حسن جميل، [ ص: 220 ] لأن الكسرة تدل على الياء، وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدال، ومن قرأ بالتشديد، فهو من قولهم: ند فلان، وند البعير: إذا هرب على وجهه، ويدل على هذا قوله: "يوم تولون مدبرين" وقوله: يوم يفر المرء من أخيه [عبس: 34]; قال أبو علي: معنى الكلام: إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد . قال الضحاك: إذا سمع الناس زفير جهنم وشهيقها ندوا فرارا منها في الأرض، فلا يتوجهون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة، فيرجعون من حيث جاؤوا . وقال غيره: يؤمر بهم إلى النار فيفرون ولا عاصم لهم . فأما قراءة التخفيف، فهي من النداء، وفيها للمفسرين أربعة أقوال .

    أحدها: أنه عند نفخة الفزع ينادي الناس بعضهم بعضا، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: أنفخ نفخة الفزع: فيفزع أهل السموات والأرض إلا من شاء الله، فتسير الجبال، وترج الأرض، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا [وهو قوله: "يوم التناد"]" .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #477
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سورة غافر
    الحلقة (477)
    صــ 221 إلى صــ 230




    [ ص: 221 ] والثاني: أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضا كما ذكر في [الأعراف: 44، 50]، وهذا قول قتادة .

    والثالث: أنه قولهم: يا حسرتنا يا ويلتنا، قاله ابن جريج .

    والرابع: أنه ينادى فيه كل أناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء .

    قوله تعالى: يوم تولون مدبرين فيه قولان . أحدهما: هربا من النار . والثاني: أنه انصرافهم إلى النار .

    قوله تعالى: ما لكم من الله من عاصم أي: من مانع .

    قوله تعالى: ولقد جاءكم يوسف وهو يوسف بن يعقوب، ويقال: إنه ليس به، وليس بشيء .

    قوله تعالى: من قبل أي: من قبل موسى بالبينات وهي الدلالات على التوحيد، كقوله: أأرباب متفرقون خير . . . . الآية [يوسف: 39]، وقال ابن السائب: البينات: تعبير الرؤيا وشق القميص، وقيل: بل بعثه الله تعالى بعد موت ملك مصر إلى القبط .

    قوله تعالى: فما زلتم في شك مما جاءكم به أي: من عبادة الله وحده حتى إذا هلك أي: مات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أي: إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد الحجة عليكم كذلك [ ص: 222 ] أي: مثل هذا الضلال يضل الله من هو مسرف أي: مشرك مرتاب أي: شاك في التوحيد وصدق الرسل .
    الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار . وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب . أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب .

    قوله تعالى: الذين يجادلون قال الزجاج : هذا تفسير المسرف المرتاب، والمعنى: هم الذين يجادلون في آيات الله . قال المفسرون: يجادلون في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان، أي: بغير حجة أتتهم من الله .

    كبر مقتا أي: كبر جدالهم مقتا عند الله وعند الذين آمنوا، والمعنى: يمقتهم الله ويمقتهم المؤمنون بذلك الجدال .

    كذلك أي: كما طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا وجادلوا بالباطل يطبع على كل قلب متكبر عن عبادة الله وتوحيده . وقد سبق بيان معنى الجبار [ ص: 223 ] في [هود: 59] . وقرأ أبو عمرو: "على كل قلب" بالتنوين، وغيره من القراء السبعة يضيفه . وقال أبو علي: المعنى: يطبع على جملة القلب من المتكبر . واختار قراءة الإضافة الزجاج ، قال: لأن المتكبر هو الإنسان، لا القلب .

    فإن قيل: لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدم القلب على الكل؟

    فالجواب: أن هذا جائز عند العرب، قال الفراء: تقدم هذا وتأخره واحد، سمعت بعض العرب يقول: هو يرجل شعره يوم كل جمعة، يريد: كل يوم جمعة والمعنى واحد . وقد قرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: "على قلب كل متكبر" بتقديم القلب .

    قال المفسرون: فلما وعظ المؤمن فرعون وزجره عن قتل موسى، قال فرعون لوزيره: يا هامان ابن لي صرحا وقد ذكرناه في [القصص: 38] .

    قوله تعالى: لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات قال ابن عباس وقتادة: يعني أبوابها . وقال أبو صالح: طرقها . وقال غيره: المعنى: لعلي أبلغ الطرق من سماء إلى سماء . وقال الزجاج : لعلي ما يؤديني إلى السموات . وما بعد هذا مفسر في [القصص: 38] إلى قوله: وكذلك أي: ومثل ما وصفنا زين لفرعون سوء عمله وصد عن سبيل الهدى . قرأ عاصم، وحمزة والكسائي: "وصد" بضم الصاد، والباقون بفتحها، وما كيد فرعون في إبطال آيات موسى إلا في تباب أي: في بطلان وخسران .
    [ ص: 224 ] وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد . يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار . من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب .

    ثم عاد الكلام إلى نصيحة المؤمن لقومه، وهو قوله: اتبعون أهدكم سبيل الرشاد أي: طريق الهدى، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع يعني الحياة في هذه الدار متاع يتمتع بها أياما ثم تنقطع وإن الآخرة هي دار القرار التي لا زوال لها .

    من عمل سيئة فيها قولان . أحدهما: أنها الشرك، ومثلها جهنم، قاله الأكثرون . والثاني: المعاصي، ومثلها: العقوبة بمقدارها، قاله أبو سليمان الدمشقي . فعلى الأول، العمل الصالح: التوحيد، وعلى الثاني، هو [على] الإطلاق .

    قوله تعالى: فأولئك يدخلون الجنة قرأ ابن كثير، وأبو عمرو : "يدخلون" بضم الياء . وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالفتح، وعن عاصم كالقراءتين .

    وفي قوله: بغير حساب قولان . أحدهما: أنهم لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة، قاله مقاتل . والثاني: أنه يصب عليهم الرزق صبا بغير تقتير، قاله أبو سليمان الدمشقي .
    [ ص: 225 ] ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار . تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار . لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار . فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد . فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب . النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب .

    قوله تعالى: ويا قوم ما لي أدعوكم أي: مالكم، كما تقول: ما لي أراك حزينا، معناه: مالك، ومعنى الآية: أخبروني كيف هذه الحال، أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان، وتدعونني إلى النار أي: إلى الشرك الذي يوجب النار؟! ثم فسر الدعوتين بما بعد هذا .

    ومعنى ليس لي به علم أي: لا أعلم هذا الذي ادعوه شريكا له . وقد سبق بيان ما بعد هذا [البقرة: 129، طه: 82] إلى قوله: ليس له دعوة وفيه قولان . أحدهما: ليس له استجابة دعوة، قاله السدي . والثاني: ليس له شفاعة، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: وأن مردنا إلى الله أي: مرجعنا; والمعنى: أنه يجازينا بأعمالنا . وفي المسرفين قولان قد ذكرناهما عند قوله: مسرف كذاب [غافر: 28] .

    قوله تعالى: فستذكرون ما أقول لكم وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، [ ص: 226 ] وأبو عمران الجوني، وأبو رجاء: "فستذكرون" بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها; وقرأ أبي بن كعب ، وأيوب السختياني: بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعا . أي: إذا نزل العذاب بكم ما أقول لكم في الدنيا من النصيحة؟!

    وأفوض أمري إلى الله أي: أرده، وذلك أنهم تواعدوه لمخالفته دينهم إن الله بصير بالعباد أي: بأوليائه وأعدائه .

    ثم خرج المؤمن عنهم، فطلبوه فلم يقدروا عليه، ونجا مع موسى لما عبر البحر، فذلك قوله: فوقاه الله سيئات ما مكروا أي: ما أرادوا به من الشر وحاق بآل فرعون لما لجوا في البحر سوء العذاب قال المفسرون: هو الغرق .

    قوله تعالى: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا قال ابن مسعود [ ص: 227 ] [ ص: 228 ] وابن عباس: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين فيقال: يا آل فرعون هذه داركم . وروى ابن جرير قال: حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: حدثنا حماد بن محمد البلخي قال: سمعت الأوزاعي، وسأله رجل، فقال: رأينا طيورا تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بيضا، فوجا فوجا، لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا، قال: وفطنتم إلى ذلك؟ قال: نعم، قال: إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء، فينبت عليها من الليل رياش بيض، وتتناثر السود، ثم تغدو ويعرضون على النار غدوا وعشيا، [ثم ترجع إلى وكورها]، فذلك دأبها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل: أدخلوا [ ص: 229 ] آل فرعون أشد العذاب . وقد روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن [أهل] الجنة، وإن كان من أهل النار فمن [أهل] النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" .

    وهذه الآية تدل على عذاب القبر، لأنه بين ما لهم في الآخرة فقال: ويوم تقوم الساعة أدخلوا قرأ ابن كثير، وابن عامر، [وأبو عمرو]، وأبو بكر وأبان عن عاصم: "الساعة ادخلوا" بالضم وضم الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول، والابتداء على قراءة هؤلاء بضم الألف . وقرأ الباقون: بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف .
    وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار . قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد . وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب . قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار .

    قوله تعالى: وإذ يتحاجون في النار المعنى: واذكر لقومك يا محمد [ ص: 230 ] إذ يختصمون، يعني أهل النار، والآية مفسرة في [سورة] [إبراهيم: 21]، والذين استكبروا هم القادة . ومعنى إنا كل فيها أي: نحن وأنتم، إن الله قد حكم بين العباد أي: قضى هذا علينا وعليكم . ومعنى قول الخزنة لهم: فادعوا أي: نحن لا ندعو لكم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال أي: إن ذلك يبطل ولا ينفع .

    إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن ذلك بإثبات حججهم . والثاني: بإهلاك عدوهم: والثالث: بأن العاقبة تكون لهم . وفصل الخطاب: أن نصرهم حاصل لابد منه، فتارة يكون بإعلاء أمرهم كما أعطى داود وسليمان من الملك ما قهرا به كل كافر، وأظهر محمدا صلى الله عليه وسلم على مكذبيه، وتارة يكون بالانتقام من مكذبيهم بإنجاء الرسل وإهلاك أعدائهم، كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه، وتارة يكون بالانتقام من مكذبيهم بعد وفاة الرسل، كتسليطه بختنصر على قتلة يحيى بن زكريا . وأما نصرهم يوم يقوم الأشهاد، فإن الله منجيهم من العذاب، وواحد الأشهاد شاهد، كما أن واحد الأصحاب صاحب . وفي الأشهاد ثلاثة أقوال .

    أحدها: الملائكة، شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب، قاله مجاهد، والسدي . قال مقاتل: وهم الحفظة من الملائكة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #478
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ السَّجْدَةِ
    الحلقة (478)
    صــ 231 إلى صــ 240






    [ ص: 231 ] والثاني: الملائكة والأنبياء، قاله قتادة .

    والثالث: أنهم أربعة: الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: يوم لا ينفع قرأ ابن كثير، وأبو عمرو : "تنفع" بالتاء، والباقون بالياء; لأن المعذرة والاعتذار بمعنى الظالمين معذرتهم أي: لا يقبل منهم إن اعتذروا ولهم اللعنة أي: البعد من الرحمة . وقد بينا في [الرعد: 25] أن "لهم" بمعنى "عليهم"، و سوء الدار : النار .
    ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب . هدى وذكرى لأولي الألباب . فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار . إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير . لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون . إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين . الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو [ ص: 232 ] فأنى تؤفكون . كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون . الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين . هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين . قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين . هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون . هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .

    ولقد آتينا موسى الهدى من الضلالة، يعني التوراة وأورثنا بني إسرائيل الكتاب بعد موسى، وهو التوراة أيضا في قول الأكثرين; وقال ابن السائب: التوراة والإنجيل والزبور . والذكرى بمعنى التذكير .

    فاصبر على أذاهم إن وعد الله حق في نصرك، وهذه الآية في هذه السورة في موضعين [غافر: 55، 77]، وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف . ومعنى "سبح": صل .

    وفي المراد بصلاة العشي والإبكار ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس .

    [ ص: 233 ] والثاني: صلاة الغداة وصلاة العصر، قاله قتادة .

    والثالث: أنها صلاة كانت قبل أن تفرض الصلوات، ركعتان غدوة، وركعتان عشية، قاله الحسن .

    وما بعد هذا قد تقدم آنفا [المؤمن: 4] إلى قوله: إن في صدورهم إلا كبر . . . الآية نزلت في قريش; والمعنى: ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من التكبر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر، لأن الله تعالى مذلهم، فاستعذ بالله من شرهم; ثم نبه على قدرته بقوله: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس أي: من إعادتهم، [ ص: 234 ] وذلك لكثرة أجزائها وعظم جرمها، فنبههم على قدرته على إعادة الخلق ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعني الكفار حين لا يستدلون بذلك على التوحيد . وقال مقاتل: عظمت اليهود الدجال وقالوا: إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان، فقال الله: إن الذين يجادلون في آيات الله لأن الدجال من آياته، بغير سلطان أي: [بغير] حجة، فاستعذ بالله من فتنة الدجال، قال: والمراد بـ "خلق الناس": الدجال; وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والأول أصح .

    وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ادعوني أستجب لكم فيه قولان . أحدهما: وحدوني واعبدوني أثبكم، قاله ابن عباس . والثاني: سلوني أعطكم، قاله السدي .

    إن الذين يستكبرون عن عبادتي فيه قولان . أحدهما: عن توحيدي، والثاني: عن دعائي ومسألتي سيدخلون جهنم قرأ ابن كثير . وأبو بكر [ ص: 235 ] عن عاصم، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو: "سيدخلون" [بضم الياء]، والباقون بفتحها . والداخر: الصاغر .

    وما بعد هذا قد سبق في مواضع متقرقة [يونس: 67، القصص: 73، الأنعام: 95، النمل: 61، الأعراف: 54، 29، الحج: 5] إلى قوله: ولتبلغوا أجلا مسمى وهو أجل الحياة إلى الموت ولعلكم تعقلون توحيد الله وقدرته .
    ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون . الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون . إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون . في الحميم ثم في النار يسجرون . ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون . من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين . ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون . ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين . فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون . ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم [ ص: 236 ] من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون . الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون . ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون . ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون . أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون . فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون .

    ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله يعني القرآن، يقولون: ليس من عند الله، أنى يصرفون أي: كيف صرفوا عن الحق إلى الباطل؟! وفيهم قولان . أحدهما: أنهم المشركون، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم القدرية، ذكره جماعة من المفسرين . وكان ابن سيرين يقول: إن لم تكن نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت .

    وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين ، وأبو مجلز، والضحاك ، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: "والسلاسل يسحبون" بفتح اللام والياء . وقال ابن عباس: إذا سحبوها كان أشد عليهم .

    [ ص: 237 ] قوله تعالى: يسجرون قال مجاهد: توقد بهم النار فصاروا وقودها .

    قوله تعالى: أين ما كنتم تشركون مفسر في [الأعراف: 190] .

    وفي قوله: لم نكن ندعو من قبل شيئا قولان .

    أحدهما: أنهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئا، لأنها لم تكن تضر ولا تنفع، وهو قول الأكثرين .

    والثاني: أنهم قالوه على وجه الجحود، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    كذلك أي: كما أضل الله هؤلاء يضل الكافرين .

    ذلكم العذاب الذي نزل بكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق أي: بالباطل وبما كنتم تمرحون وقد شرحنا المرح في [بني إسرائيل: 37] . وما بعد هذا قد تقدم بتمامه [النحل: 29، يونس: 109، النساء: 164] إلى قوله: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله وذلك لأنهم كانوا يقترحون عليه الآيات فإذا جاء أمر الله وهو قضاؤه بين الأنبياء وأممهم، و المبطلون : أصحاب الباطل .

    قوله تعالى: ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم أي: حوائجكم في البلاد .

    قوله تعالى: فأي آيات الله تنكرون استفهام توبيخ .

    قوله تعالى: فما أغنى عنهم في "ما" قولان . أحدهما: أنها للنفي . [ ص: 238 ] والثاني: [أنها] للاستفهام، ذكرهما ابن جرير .

    قوله تعالى: فرحوا بما عندهم من العلم في المشار إليهم قولان .

    أحدهما: [أنهم] الأمم المكذبة، قاله الجمهور; ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما: أنهم قالوا: نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نحاسب، قاله مجاهد . والثاني: فرحوا بما كان عندهم أنه علم، قاله السدي .

    والقول الثاني: أنهم الرسل; والمعنى: فرح الرسل لما هلك المكذبون ونجوا بما عندهم من العلم بالله إذ جاء تصديقه، حكاه أبو سليمان وغيره .

    قوله تعالى: وحاق بهم يعني بالمكذبين العذاب الذي كانوا به يستهزؤون . والبأس: العذاب . ومعنى سنت الله : أنه سن هذه السنة في الأمم، أي: أن إيمانهم لا ينفعهم إذا رأوا العذاب، وخسر هنالك الكافرون .

    [ ص: 239 ] فإن قيل: كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك؟

    فعنه جوابان . أحدهما: أن "خسر" بمعنى "هلك" قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه إنما بين لهم خسرانهم عند نزول العذاب، قاله الزجاج .
    [ ص: 240 ] سُورَةُ السَّجْدَةِ

    مَكِّيَّةٌ [كُلُّهَا] بِإِجْمَاعِهِمْ ، وَيُقَالُ لَهَا: سَجْدَةُ الْمُؤْمِنِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْمَصَابِيحُ .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    حم . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ . وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ . قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه ُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #479
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ السَّجْدَةِ
    الحلقة (479)
    صــ 241 إلى صــ 250





    قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ "تَنْزِيلُ" بِـ حم ،وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِإِضْمَارِ "هَذَا" . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : "تَنْزِيلُ" مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ [ ص: 241 ] "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ"، هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ . وَ قُرْآنًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، الْمَعْنَى: بُيِّنَتْ آيَاتُهُ فِي حَالِ جَمْعِهِ، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ: لِمَنْ يَعْلَمُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ تَكَبُّرًا عَنْهُ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ أَيْ: فِي أَغْطِيَةٍ فَلَا نَفْقَهُ قَوْلَكَ . وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ "الْأَكِنَّةِ" وَ "الْوَقْرِ" فِي [الْأَنْعَامِ: 25] . وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّا فِي تَرْكِ الْقَبُولِ مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَفْهَمُ، وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ أَيْ: حَاجِزٌ فِي النِّحْلَةِ وَالدِّينِ . قَالَ الْأَخْفَشُ: وَ "مِنْ" هَاهُنَا لِلتَّوْكِيدِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْمَلْ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: اعْمَلْ فِي إِبْطَالِ أَمْرِنَا إِنَّا عَامِلُونَ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِكَ . وَالثَّانِي: اعْمَلْ عَلَى دِينِكَ إِنَّا عَامِلُونَ عَلَى دِينِنَا .

    قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: لَوْلَا الْوَحْيُ لَمَا دَعَوْتُكُمْ .

    فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أَيْ: تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، وَاسْتَغْفِرُوه ُ مِنَ الشِّرْكِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: لَا يَشْهَدُونَ أَنْ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْمَعْنَى: لَا يُطَهِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِالتَّوْحِيدِ .

    وَالثَّانِي: لَا يُؤْمِنُونَ بِالزَّكَاةِ وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ .

    [ ص: 242 ] وَالثَّالِثُ: لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ .

    وَالرَّابِعُ: لَا يَتَصَدَّقُونَ، وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَاتِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالْخَامِسُ: لَا يُعْطُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَلَا يُزَكُّونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ وَلَا مَنْقُوصٍ .
    قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء [ ص: 243 ] للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم .

    قوله تعالى: خلق الأرض في يومين قال ابن عباس: في يوم الأحد والاثنين، وبه قال عبد الله بن سلام، والسدي، والأكثرون . وقال مقاتل: في يوم الثلاثاء والأربعاء . وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: "خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب "يوم الخميس"، وهذا الحديث يخالف ما تقدم، وهو أصح .

    [ ص: 244 ] قوله تعالى: وتجعلون له أندادا قد شرحناه في [البقرة: 22] و ذلك الذي فعل ما ذكر رب العالمين .

    وجعل فيها رواسي أي: جبالا ثوابت من فوق الأرض، وبارك فيها بالأشجار والثمار والحبوب والأنهار، وقيل: البركة فيها: أن ينمي فيها الزرع، فتخرج الحبة حبات، والنواة نخلة وقدر فيها أقواتها قال أبو عبيدة: هي جمع قوت، وهي الأرزاق وما يحتاج إليه .

    وللمفسرين في هذا التقدير خمسة أقوال .

    أحدها: أنه شقق الأنهار وغرس الأشجار . قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه قسم أرزاق العباد والبهائم، قاله الحسن .

    والثالث: أقواتها من المطر، قاله مجاهد .

    والرابع: قدر لكل بلدة ما لم يجعله في الأخرى كما أن ثياب اليمن لا تصلح إلا بـ "اليمن" والهروية بـ "هراة"، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة، قاله عكرمة، والضحاك .

    والخامس: قدر البر لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والذرة لأهل قطر، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: في أربعة أيام أي: في تتمة أربعة أيام . قال الأخفش: ومثله [أن] تقول: تزوجت أمس امرأة، واليوم ثنتين، وإحداهما التي تزوجتها أمس .

    قال المفسرون: يعني: الثلاثاء والأربعاء، وهما مع الأحد والإثنين أربعة أيام .

    [ ص: 245 ] قوله تعالى: سواء قرأ أبو جعفر: "سواء" بالرفع . وقرأ يعقوب، وعبد الوارث: "سواء" بالجر . وقرأ الباقون من العشرة: بالنصب . قال الزجاج : من قرأ بالخفض، جعل "سواء" من صفة الأيام; فالمعنى: في أربعة أيام مستويات تامات; ومن نصب، فعلى المصدر; فالمعنى: استوت سواء واستواء; ومن رفع، فعلى معنى: هي سواء .

    وفي قوله: للسائلين وجهان . أحدهما: للسائلين القوت، لأن كلا يطلب القوت ويسأله . والثاني: لمن يسأل: في كم خلقت الأرض؟ فيقال: خلقت في أربعة أيام سواء، لا زيادة ولا نقصان .

    قوله تعالى: ثم استوى إلى السماء قد شرحناه في [البقرة: 29] وهي دخان وفيه قولان .

    أحدهما: أنه لما خلق [الماء] أرسل عليه الريح فثار منه دخان فارتفع وسما، فسماه سماء .

    والثاني: أنه لما خلق الأرض أرسل عليها نارا، فارتفع منها دخان فسما .

    قوله تعالى: فقال لها وللأرض قال ابن عباس: قال للسماء: أظهري شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك، طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين قال الزجاج : هو منصوب على الحال، وإنما لم يقل: طائعات، لأنهن جرين مجرى ما يعقل ويميز، كما قال في النجوم: وكل في فلك يسبحون [يس: 40]، قال: وقد قيل: أتينا نحن ومن فينا طائعين .

    فقضاهن أي: خلقهن وصنعهن، قال أبو ذؤيب الهذلي:

    [ ص: 246 ]
    وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع


    معناه: عملهما وصنعهما .

    قوله تعالى: في يومين قال ابن عباس وعبد الله بن سلام: وهما يوم الخميس ويوم الجمعة . وقال مقاتل: الأحد والاثنين، لأن مذهبه أنها خلقت قبل الأرض . وقد بينا مقدار هذه الأيام في [الأعراف: 54] .

    وأوحى في كل سماء أمرها فيه قولان . أحدهما: أوحى ما أراد، وأمر بما شاء، قاله مجاهد، ومقاتل . والثاني: خلق في كل سماء خلقها، قاله السدي .

    قوله تعالى: وزينا السماء الدنيا أي: القربى إلى الأرض بمصابيح وهي النجوم، والمصابيح: السرج، فسمي الكوكب مصباحا، لإضاءته وحفظا قال الزجاج : معناه: وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حفظا .
    فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون . فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب [ ص: 247 ] الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون .

    قوله تعالى: فإن أعرضوا عن الإيمان بعد هذا البيان فقل أنذرتكم صاعقة الصاعقة: المهلك من كل شيء; والمعنى: أنذرتكم عذابا مثل عذابهم . وإنما خص القبيلتين، لأن قريشا يمرون على قرى القوم في أسفارهم .

    إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم أي: أتت آباءهم ومن كان قبلهم ومن خلفهم أي: من خلف الآباء، وهم الذين أرسلوا إلى هؤلاء المهلكين ألا تعبدوا أي: بأن لا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا أي: لو أراد دعوة الخلق لأنزل ملائكة .

    قوله تعالى: فاستكبروا أي: تكبروا عن الإيمان وعملوا بغير الحق . وكان هود قد تهددهم بالعذاب فقالوا: نحن نقدر على دفعه بفضل قوتنا . والآيات هاهنا: الحجج .

    وفي الريح الصرصر أربعة أقوال .

    أحدها: أنها الباردة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك . وقال الفراء: هي الريح الباردة تحرق كالنار، وكذلك قال الزجاج : هي الشديدة البرد جدا; فالصرصر متكرر فيها البرد، كما تقول: أقللت الشيء وقلقلته، فأقللته بمعنى رفعته، وقلقلته: كررت رفعه .

    [ ص: 248 ] والثاني: أنها الشديدة السموم، قاله مجاهد .

    والثالث: الشديدة الصوت، قاله السدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة .

    والرابع: الباردة الشديدة، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: في أيام نحسات قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : "نحسات" بإسكان الحاء; وقرأ الباقون: بكسرها . قال الزجاج : من كسر الحاء، فواحدهن " نحس "، ومن أسكنها، فواحدهن "نحس"; والمعنى: مشؤومات .

    وفي أول هذه الأيام ثلاثة أقوال . أحدها: غداة يوم الأحد، قاله السدي . والثاني: يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس . والثالث: يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام . والخزي: الهوان .

    قوله تعالى: وأما ثمود فهديناهم فيه ثلاثة أقوال . أحدها: بينا لهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير . وقال قتادة: بينا لهم سبيل الخير والشر . والثاني: دعوناهم، قاله مجاهد . والثالث: دللناهم على مذهب الخير، قاله الفراء .

    [ ص: 249 ] قوله تعالى: فاستحبوا العمى أي: اختاروا الكفر على الإيمان، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون أي: ذي الهوان، وهو الذي يهينهم .
    ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون . وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون . وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين . وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين .

    قوله تعالى: ويوم يحشر أعداء الله وقرأ نافع: "نحشر" بالنون "أعداء" بالنصب .

    [ ص: 250 ] قوله تعالى: فهم يوزعون أي: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا .

    حتى إذا ما جاءوها يعني النار التي حشروا إليها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال . أحدها: الأيدي والأرجل . والثاني: الفروج، رويا عن ابن عباس . والثالث: أنه الجلود نفسها، حكاه الماوردي . وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "هل تدرون مم أضحك؟" قال: قلنا: الله ورسوله أعلم . قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: يارب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز علي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل" .

    قوله تعالى: قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أي: مما نطق . وهاهنا تم الكلام . وما بعده ليس من جواب الجلود .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #480
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ السَّجْدَةِ
    الحلقة (480)
    صــ 251 إلى صــ 260






    قوله تعالى: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر، قرشي وختناه ثقفيان، أو ثقفي وختناه قرشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، [ ص: 251 ] فقال أحدهم: أترون الله يسمع كلامنا هذا؟! فقال الآخران: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإن لم نرفع لم يسمع، وقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: "وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم . . . . " إلى قوله: "من الخاسرين" . ومعنى "تستترون": تستخفون "أن يشهد" أي: من أن يشهد "عليكم سمعكم" لأنكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم، ولا تظنون أنها تشهد ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون قال ابن عباس: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكنه يعلم ما يظهر، وذلكم ظنكم أي: أن الله لا يعلم ما تعملون، أرداكم أهلككم .

    فإن يصبروا أي: على النار، فهي مسكنهم، وإن يستعتبوا أي: يسألوا أن يرجع لهم إلى ما يحبون، لم يرجع لهم، لأنهم لا يستحقون [ ص: 252 ] ذلك . يقال: أعتبني فلان، أي: أرضاني بعد إسخاطه إياي . واستعتبته، أي: طلبت منه أن يعتب، أي: يرضى .

    قوله تعالى: وقيضنا لهم قرناء أي: سببنا لهم قرناء من الشياطين فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: ما بين أيديهم: من أمر الآخرة أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وما خلفهم: من أمر الدنيا، فزينوا لهم اللذات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير .

    والثاني: ما بين أيديهم: من أمر الدنيا، وما خلفهم: من أمر الآخرة، على عكس الأول .

    والثالث: ما بين أيديهم: ما فعلوه، وما خلفهم: ما عزموا على فعله . وباقي الآية [قد] تقدم تفسيره [الإسراء: 16، الأعراف: 38] .
    وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون .

    قوله تعالى: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن أي: لا تسمعوه والغوا فيه أي: عارضوه باللغو، وهو الكلام الخالي عن فائدة . وكان الكفار يوصي بعضهم بعضا: إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تلبسوا عليهم قولهم . وقال مجاهد: والغوا فيه بالمكاء والصفير والتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ لعلكم تغلبون فيسكتون .

    قوله تعالى: ذلك جزاء أعداء الله يعني العذاب المذكور . وقوله: النار بدل من الجزاء لهم فيها دار الخلد أي: دار الإقامة . قال الزجاج : النار [ ص: 253 ] هي الدار، ولكنه كما تقول: لك في هذه الدار دار السرور، وأنت تعني الدار بعينها، قال الشاعر:


    أخو رغائب يعطيها ويسألها يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
    وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين . إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون . نزلا من غفور رحيم .

    قوله تعالى: وقال الذين كفروا لما دخلوا النار ربنا أرنا اللذين أضلانا وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: "أرنا" بسكون الراء . قال المفسرون: يعنون إبليس وقابيل، لأنهما سنا المعصية، نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين أي: في الدرك الأسفل، وهو أشد عذابا من غيره .

    ثم ذكر المؤمنين فقال: إن الذين قالوا ربنا الله [أي: وحدوه] ثم استقاموا فيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 254 ] أحدها: استقاموا على التوحيد، قاله أبو بكر الصديق، ومجاهد .

    والثاني: على طاعة الله وأداء فرائضه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة .

    والثالث: على الإخلاص والعمل إلى الموت، قاله أبو العالية، والسدي .

    وروى عطاء عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق، وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا، وقالت اليهود: ربنا الله، وعزير ابنه، ومحمد ليس بنبي، فلم يستقيموا، وقالت النصارى: ربنا الله، والمسيح ابنه، ومحمد ليس بنبي، فلم يستقيموا، وقال أبو بكر: ربنا الله وحده، ومحمد عبده ورسوله، فاستقام .

    قوله تعالى: تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا أي: بأن لا تخافوا . وفي وقت نزولها عليهم قولان .

    أحدهما: عند الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد; فعلى هذا في معنى "لا تخافوا" قولان . أحدهما: لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، قاله مجاهد . والثاني: لا تخافوا ما أمامكم، ولا تحزنوا على ما خلفكم، قاله عكرمة، والسدي .

    والقول الثاني: تتنزل عليهم إذا قاموا من القبور، قاله قتادة ; فيكون معنى "لا تخافوا": أنهم يبشرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة .

    [ ص: 255 ] قوله تعالى: نحن أولياؤكم قال المفسرون: هذا قول الملائكة لهم، والمعنى: نحن [الذين] كنا نتولاكم في الدنيا، لأن الملائكة تتولى المؤمنين وتحبهم لما ترى من أعمالهم المرفوعة إلى السماء، وفي الآخرة أي: ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة . وقال السدي: هم الحفظة على ابن آدم، فلذلك قالوا: "نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة"; وقيل: هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح .

    قوله تعالى: ولكم فيها أي: في الجنة .

    نزلا قال الزجاج : معناه: أبشروا بالجنة تنزلونها [نزلا] . وقال الأخفش: لكم فيها ما تشتهي أنفسكم أنزلناه نزلا .
    ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي [ ص: 256 ] هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم .

    قوله تعالى: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله فيمن أريد بهذا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم المؤذنون . روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نزلت في المؤذنين"، وهذا قول عائشة، ومجاهد، وعكرمة .

    [ ص: 257 ] والثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد .

    والثالث: أنه المؤمن أجاب الله إلى ما دعاه، ودعا الناس إلى ذلك وعمل صالحا في إجابته، قاله الحسن .

    وفي قوله: وعمل صالحا ثلاثة أقوال .

    أحدها: صلى ركعتين بعد الأذان، وهو قول عائشة، ومجاهد . وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم: "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله" قال: الأذان "وعمل صالحا" قال: الصلاة بين الأذان والإقامة .

    والثاني: أدى الفرائض وقام لله بالحقوق، قاله عطاء .

    والثالث: صام وصلى، قاله عكرمة .

    قوله تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة قال الزجاج : "لا" زائدة مؤكدة; والمعنى: ولا تستوي [الحسنة] والسيئة . وللمفسرين فيهما ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن الحسنة: الإيمان، والسيئة: الشرك، قاله ابن عباس . [ ص: 258 ] والثاني: الحلم والفحش، قاله الضحاك . والثالث: النفور والصبر، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن وذلك كدفع الغضب بالصبر، والإساءة بالعفو، فإذا فعلت ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصديق القريب . وقال عطاء: هو السلام على من تعاديه إذا لقيته . قال المفسرون: وهذه الآية منسوخة بآية السيف .

    قوله تعالى: وما يلقاها أي: ما يعطاها . قال الزجاج : ما يلقى هذه الفعلة: وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من الخير . وقال السدي: إلا ذو جد . وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة; فالمعنى: ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة .

    قوله تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ قد فسرناه في [الأعراف: 200] .
    [ ص: 259 ] ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير

    قوله تعالى: فإن استكبروا [أي: تكبروا عن التوحيد والعبادة] فالذين عند ربك يعني الملائكة يسبحون أي: يصلون . و "يسأمون" بمعنى يملون .

    وفي موضع السجدة قولان .

    أحدهما: أنه عند قوله: "يسأمون"، قاله ابن عباس، ومسروق، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى، لأنه تمام الكلام .

    والثاني: [أنه] عند قوله: إن كنتم إياه تعبدون ، روي عن أصحاب عبد الله، والحسن، وأبي عبد الرحمن .

    [ ص: 260 ] قوله تعالى: ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة قال قتادة: غبراء متهشمة . قال الأزهري: إذا يبست الأرض ولم تمطر، قيل: خشعت .

    قوله تعالى: اهتزت أي: تحركت بالنبات وربت أي: علت، لأن النبت إذا أراد أن يظهر ارتفعت له الأرض; وقد سبق بيان هذا [الحج: 5] .
    إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير . إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز . لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •