تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 23 من 25 الأولىالأولى ... 13141516171819202122232425 الأخيرةالأخيرة
النتائج 441 إلى 460 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #441
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    الحلقة (441)
    صــ 361 إلى صــ 370






    قوله تعالى: إن بيوتنا عورة قال ابن قتيبة : أي: خالية، فقد [ ص: 361 ] أمكن من أراد دخولها، وأصل العورة: ما ذهب عنه الستر والحفظ، فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت، فإذا ذهبوا أعورت البيوت، تقول العرب: أعور منزلي: إذا ذهب ستره، أو سقط جداره، وأعور الفارس: إذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن، يقول الله: وما هي بعورة لأن الله يحفظها، ولكن يريدون الفرار . وقال الحسن، ومجاهد: قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق . وقال قتادة: قالوا بيوتنا مما يلي العدو، ولا نأمن على أهلنا، فكذبهم الله وأعلم أن قصدهم الفرار .

    قوله تعالى: ولو دخلت عليهم من أقطارها يعني المدينة; والأقطار: النواحي والجوانب، واحدها: قطر، ثم سئلوا الفتنة وقرأ علي بن أبي طالب عليه السلام، والضحاك، والزهري، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة: " ثم سيلوا " برفع السين وكسر الياء من غير همز . وقرأ أبي بن كعب، ومجاهد، وأبو الجوزاء: " ثم سوءلوا " برفع السين ومد الواو بهمزة مكسورة بعدها . وقرأ الحسن، وأبو الأشهب: " ثم سولوا " برفع السين وسكون الواو من غير مد ولا همز . وقرأ الأعمش، وعاصم الجحدري: " ثم سيلوا " بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو . ومعنى: سئلوا الفتنة ، أي: سئلوا فعلها; [والفتنة: الشرك، (لآتوها) ] قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: " لأتوها " بالقصر، أي: لقصدوها، ولفعلوها . وقرأ عاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: " لآتوها " بالمد، أي: لأعطوها . قال ابن عباس في معنى الآية: لو أن الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشرك لأشركوا .

    قوله تعالى: وما تلبثوا بها إلا يسيرا فيه قولان .

    أحدهما: وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا، قاله قتادة .

    [ ص: 362 ] والثاني: وما تلبثوا بالمدينة بعد الإجابة إلا يسيرا حتى يعذبوا، قاله السدي، وحكى أبو سليمان الدمشقي في الآية قولا عجيبا، وهو أن الفتنة هاهنا: الحرب، والمعنى: ولو دخلت المدينة على أهلها من أقطارها، ثم سئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادرين، وما تلبثوا- يعني الجيوش الداخلة عليهم بها- إلا قليلا حتى يخرجوهم منها; وإنما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشك في دينك; قال: وهذا المعنى حفظته من كتاب الواقدي .

    قوله تعالى: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر، فلما علموا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة قالوا: لئن شهدنا قتالا لنقاتلن، قاله قتادة .

    [ ص: 363 ] والثاني: أنهم أهل العقبة، وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طاعة الله ونصرة رسوله، قاله مقاتل .

    والثالث : أنه لما نزل بالمسلمين يوم أحد ما نزل، عاهد الله معتب بن قشير وثعلبة بن حاطب: لا نولي دبرا قط، فلما كان يوم الأحزاب نافقا، قاله الواقدي، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وهو أليق مما قبله . وإذا كان الكلام في حق المنافقين، فكيف يطلق القول على أهل العقبة كلهم!

    قوله تعالى: وكان عهد الله مسؤولا أي: يسألون عنه في الآخرة .

    ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم، فقال: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون بعد الفرار في الدنيا إلا قليلا وهو باقي آجالكم .

    ثم أخبر أن ما قدره عليهم لا يدفع، بقوله: من ذا الذي يعصمكم من الله أي: يجيركم ويمنعكم منه إن أراد بكم سوءا وهو الإهلاك والهزيمة والبلاء أو أراد بكم رحمة وهي النصر والعافية والسلامة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي: لا يجدون مواليا ولا ناصرا يمنعهم من مراد الله فيهم .
    قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا . أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب [ ص: 364 ] يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا . لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما

    قوله تعالى: قد يعلم الله المعوقين منكم في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أن رجلا انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأمه وأبيه وعنده شواء ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا ورسول الله بين الرماح والسيوف؟! فقال: هلم إلي، لقد أحيط بك وبصاحبك; والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا; فقال له: كذبت، والذي يحلف به، أما والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله: يسيرا ، هذا قول ابن زيد .

    والثاني: أن عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إلى المدينة، كانوا إذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم- يثبطونهم عن القتال- وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدا، فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب .

    والمعوق: المثبط; تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوقني: إذا [ ص: 365 ] منعك عن الوجه الذي تريده . وكان المنافقون يعوقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاره .

    قوله تعالى: والقائلين لإخوانهم هلم إلينا فيهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد .

    والثاني: أنهم اليهود دعوا إخوانهم من المنافقين إلى ترك القتال، قاله مقاتل .

    والثالث : أنهم المنافقون دعوا المسلمين إليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: ولا يأتون البأس أي: لا يحضرون القتال في سبيل الله إلا قليلا للرياء والسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك [القليل] لله لكان كثيرا .

    قوله تعالى: أشحة عليكم قال الزجاج: هو منصوب على الحال . المعنى: لا يأتون الحرب إلا تعذيرا، بخلاء عليكم .

    وللمفسرين فيما شحوا به أربعة أقوال . أحدها: أشحة بالخير، قاله مجاهد .

    [ ص: 366 ] والثاني: بالنفقة في سبيل الله . والثالث: بالغنيمة، رويا عن قتادة . وقال الزجاج: بالظفر والغنيمة . والرابع: بالقتال معكم، حكاه الماوردي .

    ثم أخبر عن جبنهم فقال: فإذا جاء الخوف أي: إذا حضر القتال رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت أي: كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته وغشيته أسبابه، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يطرف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل .

    فإذا ذهب الخوف سلقوكم قال الفراء: آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة حداد سليطة ذربة، والعرب تقول: صلقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة; وهذا قول الفراء . وقد قرأ بالصاد أبي بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين وقال الزجاج: معنى " سلقوكم " : خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة، يقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغا في خطبته أشحة على الخير أي: خاطبوكم وهم أشحة على المال والغنيمة قال قتادة: إذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا فلستم أحق بها منا; فـأما عند البأس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأما عند الغنيمة، فأشح قوم .

    وفي المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الغنيمة . والثاني: على المال أن ينفقوه في سبيل الله تعالى . والثالث: على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظفره .

    [ ص: 367 ] قوله تعالى: أولئك لم يؤمنوا أي: هم وإن أظهروا الإيمان فليسوا بمؤمنين، لنفاقهم فأحبط الله أعمالهم قال مقاتل: أبطل جهادهم، لأنه لم يكن في إيمان وكان ذلك الإحباط على الله يسيرا .

    ثم أخبر عنهم بما يدل على جبنهم، فقال: يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، وإن يأت الأحزاب [أي]: يرجعوا إليهم كرة ثانية للقتال يودوا لو أنهم بادون في الأعراب أي: يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، يسألون عن أنبائكم أي: ودوا لو أنهم بالبعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة، فرقا وجبنا; وقيل: بل يسألون شماتة بالمسلمين وفرحا بنكباتهم ولو كانوا فيكم أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم ما قاتلوا إلا قليلا فيه قولان .

    أحدهما: إلا رميا بالحجارة، قاله ابن السائب .

    والثاني: إلا رياء من غير احتساب، قاله مقاتل .

    ثم عاب من تخلف بالمدينة بقوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي: قدوة صالحة . والمعنى: لقد كان لكم به اقتداء لو اقتديتم به في الصبر [معه] كما صبر يوم أحد حتى كسرت رباعيته وشج جبينه وقتل عمه، وآساكم مع ذلك بنفسه .

    وقرأ عاصم: " أسوة " بضم الألف; والباقون بكسر الألف; وهما لغتان . قال الفراء: أهل الحجاز وأسد يقولون: " إسوة " بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: " أسوة " بالضم . وخص الله تعالى بهذه الأسوة المؤمنين، فقال: لمن كان يرجو الله واليوم الآخر والمعنى أن الأسوة برسول الله إنما كانت لمن كان يرجو الله [واليوم الآخر]; وفيه قولان .

    [ ص: 368 ] أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس . والثاني: يخشى الله ويخشى البعث، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: وذكر الله كثيرا أي: ذكرا كثيرا، لأن ذاكر الله متبع لأوامره، بخلاف الغافل عنه .

    ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وفي ذلك الوعد قولان .

    أحدهما: أنه قوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية: [البقرة:214] فلما عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين .

    والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحيرة ذكره الماوردي وغيره .

    قوله تعالى: وما زادهم يعني ما رأوه إلا إيمانا بوعد الله وتسليما لأمره .
    من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم [ ص: 369 ] إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا . وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا

    قوله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

    أحدهما: أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك . وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فلما قدم قال: غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن أشهدني الله عز وجل قتالا ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف الناس، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين; ثم [ ص: 370 ] مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، واها لريح الجنة . قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع; قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة، من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، قد مثلوا به; قال: فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه; قال أنس: فكنا نقول: أنزلت هذه الآية من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فيه وفي أصحابه .

    والثاني: أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله . روى النزال بن سبرة عن علي عليه السلام أنهم قالوا له: حدثنا عن طلحة، قال: ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى: فمنهم من قضى نحبه لا حساب عليه فيما يستقبل .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #442
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    الحلقة (442)
    صــ 371 إلى صــ 380





    [ ص: 371 ] وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة، وأولها في أنس . قال ابن جرير: ومعنى الآية: وفوا لله بما عاهدوه عليه . وفي ذلك أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإسلام والنصرة .

    والثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدرا، فعاهدوا الله أن لا يتأخروا بعدها .

    والثالث : أنهم عاهدوا أن لا يفروا إذا لاقوا، فصدقوا .

    والرابع : أنهم عاهدوا على البأساء والضراء وحين البأس .

    قوله تعالى: فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس .

    والثاني: فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش . ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء، قاله مجاهد .

    والثالث : فمنهم من قضى نذره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة . فيكون النحب على القول الأول: الأجل; وعلى الثاني: العهد; وعلى الثالث: النذر . وقال ابن قتيبة : " قضى نحبه " أي: قتل، وأصل النحب: النذر، كأن قوما نذروا أنهم إن لقوا العدو قاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله عليهم، فقتلوا، فقيل: فلان قضى نحبه، أي: قتل، فاستعير النحب مكان الأجل، لأن الأجل وقع بالنحب، وكان النحب سببا له، ومنه قيل: للعطية: " من " ، لأن من أعطى فقد من . قال ابن عباس: ممن قضى [ ص: 372 ] نحبه: حمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النضر وأصحابه . وقال ابن إسحاق: " فمنهم من قضى نحبه " من استشهد يوم بدر وأحد، " ومنهم من ينتظر " ما وعد الله من نصره، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه وما بدلوا أي: ما غيروا العهد الذي عاهدوا ربهم عليه كما غير المنافقون .

    قوله تعالى: ليجزي الله الصادقين بصدقهم وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا [الله] عليه ويعذب المنافقين بنقض العهد إن شاء وهو أن يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم في الدنيا، فيخرجهم من النفاق إلى الإيمان، فيغفر لهم .

    ورد الله الذين كفروا يعني الأحزاب، صدهم ومنعهم عن الظفر بالمسلمين بغيظهم أي: لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيرا أي: لم يظفروا بالمسلمين، وكان ذلك عندهم، خيرا فخوطبوا على استعمالهم وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والملائكة، وأنزل الذين ظاهروهم [ ص: 373 ] أي: عاونوا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وصاروا مع المشركين يدا واحدة .

    وهذه الإشارة إلى قصتهم

    ذكر أهل العلم بالسيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الخندق وضع عنه اللأمة واغتسل، فتبدى له جبريل، فقال: ألا أراك وضعت اللأمة، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة؟! إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم; فدعا عليا فدفع لواءه إليه، وبعث بلالا فنادى في الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن لا تصلوا العصر إلا ببني قريظة، ثم سار إليهم فحاصرهم خمسة عشر يوما أشد الحصار، وقيل: عشرين ليلة، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأرسله إليهم، فشاوروه في أمرهم، فأشار إليهم بيده: إنه الذبح، ثم ندم فقال: خنت الله ورسوله، فانصرف فارتبط في المسجد حتى أنزل الله [ ص: 374 ] توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم رسول الله محمد بن مسلمة، وكتفوا، ونحوا ناحية، وجعل النساء والذرية ناحية . وكلمت الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهبهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ; هكذا ذكر محمد بن سعد . وحكى غيره: أنهم نزلوا أولا على حكم سعد بن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة، فحكم فيهم أن يقتل كل من جرت عليه المواسي، وتسبى النساء والذراري، وتقسم الأموال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ; وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بهم فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود في السوق، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة .

    قوله تعالى: من صياصيهم قال ابن عباس وقتادة: من حصونهم; قال ابن قتيبة : وأصل الصياصي: قرون البقر، لأنها تمتنع بها، وتدفع عن أنفسها، [ ص: 375 ] فقيل للحصون: الصياصي، لأنها تمنع، وقال الزجاج: كل قرن صيصية، وصيصية الديك: شوكة يتحصن بها .

    قوله تعالى: وقذف في قلوبهم الرعب أي: ألقى فيها الخوف فريقا تقتلون وهم المقاتلة وتأسرون وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة : " وتأسرون " برفع السين فريقا وهم النساء والذراري، وأورثكم أرضهم وديارهم يعني عقارهم ونخيلهم ومنازلهم وأموالهم من الذهب والفضة والحلي والعبيد والإماء وأرضا لم تطئوها أي: لم تطؤوها بأقدامكم بعد، وهي مما سنفتحها عليكم; وفيها أربعة أقوال .

    أحدها: أنها فارس والروم، قاله الحسن . والثاني: ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة، قاله عكرمة . والثالث: مكة، قاله قتادة . والرابع: خيبر، قاله ابن زيد، وابن السائب، وابن إسحاق، ومقاتل
    يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا . ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها [ ص: 376 ] مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا

    قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك الآية، ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن شهرا، وصعد إلى غرفة له فمكث فيها، فنزلت هذه الآية، وكن أزواجه يومئذ تسعا: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وصفية الخيبرية، وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض الآية عليهن، فبدأ بعائشة، فاختارت الله ورسوله، ثم قالت: يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك; فقال: " إن الله بعثني مبلغا ولم يبعثني متعنتا " . وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب " الحدائق " وفي " المغني " بطوله .

    [ ص: 377 ] وفي ما خيرهن فيه قولان .

    أحدهما: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، هذا قول عائشة عليها السلام .

    والثاني: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، أو اختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، قاله الحسن، وقتادة .

    وفي سبب تخييره إياهن ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهن سألنه زيادة النفقة . والثاني: أنهن آذينه بالغيرة . والقولان مشهوران في التفسير .

    والثالث : أنه لما خير بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة أمر بتخيير نسائه ليكن على مثل حاله، حكاه أبو القاسم الصيمري .

    والمراد بقوله: أمتعكن : متعة الطلاق . والمراد بالسراح: الطلاق، [ ص: 378 ] وقد ذكرنا ذلك في (البقرة: 231) . والمراد بالدار الآخرة . الجنة . والمحسنات: المؤثرات للآخرة .

    قال المفسرون: فلما اخترنه أثابهن الله عز وجل ثلاثة أشياء . أحدها: التفضيل على سائر النساء بقوله: لستن كأحد من النساء ، والثاني: أن جعلهن أمهات المؤمنين، والثالث : أن حظر عليه طلاقهن والاستبدال بهن بقوله: لا يحل لك النساء من بعد [الأحزاب: 52] . وهل أبيح له بعد ذلك التزويج عليهن ؟ فيه قولان سيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى .

    قوله تعالى: من يأت منكن بفاحشة مبينة أي: بمعصية ظاهرة . قال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق يضاعف لها العذاب ضعفين أي: يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين، كما أنها تؤتى أجرها على الطاعة مرتين . وإنما ضوعف عقابهن، لأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة ما لا يشاهد غيرهن، فإذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، ولأن في معصيتهن أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم; وجرم من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر من جرم غيره .

    قوله تعالى: وكان ذلك على الله يسيرا أي: وكان عذابها على الله هينا . ومن يقنت أي: تطع، و " أعتدنا " قد سبق بيانه [النساء: 37]، والرزق الكريم: الحسن، وهو الجنة .

    ثم أظهر فضيلتهن على النساء بقوله: لستن كأحد من النساء قال الزجاج: لم يقل: كواحدة من النساء، لأن " أحدا " نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة . قال ابن عباس: يريد: ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي، وثوابكن أعظم إن اتقيتن ، فشرط عليهن التقوى بيانا أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 379 ] قوله تعالى: فلا تخضعن بالقول أي لا تلن بالكلام فيطمع الذي في قلبه مرض أي: فجور; والمعنى: لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى موافقتكن له; والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة .

    وقلن قولا معروفا أي: صحيحا عفيفا لا يطمع فاجرا .

    وقرن في بيوتكن قرأ نافع، وعاصم إلا أبان، وهبيرة، والوليد بن مسلم عن ابن عامر: " وقرن " بفتح القاف; وقرأ الباقون بكسرها . قال الفراء: من قرأ بالفتح، فهو من قررت في المكان، فخففت، كما قال: ظلت عليه عاكفا [طه: 97]، ومن قرأ بالكسر، فمن الوقار، يقال: قر في منزلك . وقال ابن قتيبة : من قرأ بالكسر، فهو من الوقار، يقال: وقر في منزله يقر وقورا . ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار . وقرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل: " واقررن " بإسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة مثله، إلا أنهما كسرا الراء الأولى .

    قال المفسرون: ومعنى الآية: الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن .

    قوله تعالى: ولا تبرجن قال أبو عبيدة: التبرج: أن يبرزن [ ص: 380 ] محاسنهن . وقال الزجاج: التبرج: إظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل .

    وفي الجاهلية الأولى أربعة أقوال .

    أحدها: أنها كانت بين إدريس ونوح، وكانت ألف سنة، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثاني: أنها كانت على عهد إبراهيم عليه السلام، وهو قول عائشة رضي الله عنها .

    والثالث : بين نوح وآدم، قاله الحكم .

    والرابع : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي . قال الزجاج: وإنما قيل: " الأولى " ، لأن كل متقدم أول، وكل متقدمة أولى، فتأويله: أنهم تقدموا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

    وفي صفة تبرج الجاهلية الأولى ستة أقوال .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #443
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    الحلقة (443)
    صــ 381 إلى صــ 390






    أحدها: أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال، فهو التبرج، قاله مجاهد . والثاني: أنها مشية فيها تكسر وتغنج، قاله قتادة . والثالث: أنه التبختر، قاله ابن أبي نجيح . والرابع: أن المرأة منهن كانت تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره، وذلك في زمن إبراهيم عليه السلام، [ ص: 381 ] قاله الكلبي . والخامس: أنها كانت تلقي الخمار عن رأسها ولا تشده، فيرى قرطها وقلائدها، قاله مقاتل . السادس: أنها كانت تلبس الثياب تبلغ المال، لا تواري جسدها، حكاه الفراء .

    قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس وفيه للمفسرين خمسة أقوال .

    أحدها: الشرك، قاله الحسن . والثاني: الإثم، قاله السدي . والثالث: الشيطان، قاله ابن زيد . والرابع: الشك . والخامس: المعاصي، حكاهما الماوردي . قال الزجاج: الرجس: كل مستقذر من مأكول أو عمل أو فاحشة .

    ونصب " أهل البيت " على وجهين، أحدهما: على معنى: أعني أهل البيت، والثاني: على النداء، فالمعنى: يا أهل البيت .

    وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهن في بيته، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وابن السائب، ومقاتل . ويؤكد هذا القول أن ما قبله وبعده متعلق بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو أن جمع المؤنث بالنون، فكيف قيل: " عنكم " " ويطهركم " ؟ فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن، فغلب المذكر .

    والثاني: أنه خاص في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين، قاله أبو سعيد الخدري . وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك .

    والثالث : أنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، قاله الضحاك .

    [ ص: 382 ] وحكى الزجاج أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال الذين هم آله; قال: واللغة تدل على أنها للنساء والرجال جميعا، لقوله: عنكم بالميم، ولو كانت للنساء، لم يجز إلا " عنكن " " ويطهركن " .

    قوله تعالى: ويطهركم تطهيرا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: من الشرك، قاله مجاهد . والثاني: من السوء، قاله قتادة . والثالث: من الإثم، قاله السدي، ومقاتل .

    قوله تعالى: واذكرن فيه قولان .

    أحدهما: أنه تذكير لهن بالنعم .

    والثاني: أنه أمر لهن بحفظ ذلك . فمعنى واذكرن : واحفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله يعني القرآن .

    [ ص: 383 ] وفي الحكمة قولان . أحدهما: أنها السنة، قاله قتادة . والثاني: الأمر والنهي، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: إن الله كان لطيفا أي: ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله .
    إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما

    قوله تعالى: إن المسلمين والمسلمات في سبب نزولها خمسة أقوال .

    أحدها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن: ما له ليس يذكر إلا المؤمنون، ولا تذكر المؤمنات بشيء؟! فنزلت هذه الآية، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .

    والثاني: أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يذكر الرجال ولا نذكر! فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: لا أضيع عمل عامل منكم [آل عمران: 195]، قاله مجاهد . [ ص: 384 ] والثالث : أن أم عمارة الأنصارية قالت: قلت: يا رسول الله بأبي وأمي ما بال الرجال يذكرون، ولا تذكر النساء؟! فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة . وذكر مقاتل بن سليمان أن أم سلمة وأم عمارة قالتا ذلك، فنزلت [هذه] الآية في قولهما .

    والرابع : أن الله تعالى لما ذكر أزواج رسوله دخل النساء المسلمات عليهن فقلن: ذكرتن ولم نذكر، ولو كان فينا خير ذكرنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة .

    والخامس: أن أسماء بنت عميس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار، قال: " ومم ذاك " ؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فنزلت هذه الآية، ذكره مقاتل بن حيان .

    وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع [البقرة: 129، 109، الأحزاب: 31، آل عمران: 17، البقرة: 45، يوسف: 88، البقرة: 184، الأنبياء: 91، آل عمران: 191] .
    وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا . وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه [ ص: 385 ] أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا

    قوله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة الآية، في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فقالت: لا أرضاه، ولست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى فانكحيه، فإني قد رضيته لك " فأبت، فنزلت هذه الآية . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور . وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره ذلك كما كرهته زينب، فلما نزلت الآية رضيا وسلما . قال مقاتل: والمراد بالمؤمن: عبد الله بن جحش، والمؤمنة: زينب بنت جحش .

    والثاني: أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أول امرأة هاجرت، فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " قد قبلتك " ، وزوجها زيد بن حارثة، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول الله، فزوجها عبده؟! فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد . والأول عند المفسرين أصح .

    [ ص: 386 ] قوله تعالى: إذا قضى الله ورسوله أمرا أي: حكما بذلك " أن تكون " وقرأ أهل الكوفة: " أن يكون " بالياء لهم الخيرة وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء : " الخيرة " بإسكان الياء; فجمع في الكناية في قوله: " لهم " ، لأن المراد جميع المؤمنين والمؤمنات، والخيرة: الاختيار، فأعلم الله عز وجل أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله . فلما زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا مكثت عنده حينا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزل زيد فنظر إليها وكانت بيضاء جميلة من أتم نساء قريش، فوقعت في قلبه، فقال: " سبحان مقلب القلوب " ، وفطن زيد، فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها . وقال بعضهم: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد، فرأى زينب، فقال: " سبحان مقلب القلوب " ، فسمعت ذلك زينب، فلما جاء زيد ذكرت له ذلك، فعلم أنها قد وقعت في نفسه، فأتاه فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها . وقال ابن زيد: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى باب زيد- وعلى الباب ستر من شعر- فرفعت الريح الستر، فرأى زينب، فلما وقعت في قلبه كرهت إلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله أريد فراقها، فقال له: " اتق الله " . وقال مقاتل: لما فطن زيد لتسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا، فهي تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أمسك عليك زوجك واتق الله " . ثم إن زيدا طلقها [ ص: 387 ] بعد ذلك، فأنزل الله تعالى: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق .

    قوله تعالى: واتق الله أي: في أمرها فلا تطلقها وتخفي في نفسك أي: تسر وتضمر في قلبك ما الله مبديه أي: مظهره; وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: حبها، قاله ابن عباس .

    والثاني: عهد عهده الله إليه أن زينب ستكون له زوجة، فلما أتى زيد يشكوها، قال له " أمسك عليك زوجك واتق الله " ، وأخفى في نفسه ما الله مبديه، قاله علي بن الحسين .

    والثالث : إيثاره لطلاقها، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل .

    والرابع : أن الذي أخفاه: إن طلقها زيد تزوجتها، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: وتخشى الناس فيه قولان .

    أحدهما: أنه خشي اليهود أن يقولوا: تزوج محمد امرأة ابنه، رواه عطاء عن ابن عباس .

    [ ص: 388 ] والثاني: أنه خشي لوم الناس أن يقولوا: أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها .

    قوله تعالى: والله أحق أن تخشاه أي: أولى أن تخشى في كل الأحوال . وليس المراد أنه لم يخش الله في هذه الحال، ولكن لما كان لخشيته بالخلق نوع تعلق قيل له: الله أحق أن تخشى منهم . قالت عائشة: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية، ولو كتم شيئا من الوحي لكتمها .

    فصل

    وقد ذهب بعض العلماء إلى تنزيه رسول الله من حبها وإيثاره طلاقها . وإن كان ذلك شائعا في التفسير . قالوا: وإنما عوتب في هذه القصة على شيئين، [ ص: 389 ] [ ص: 390 ] أحدهما: أنه أخبر بأنها ستكون زوجة له، فقال لزيد: " أمسك عليك زوجك " فكتم ما أخبره الله به من أمرها حياء من زيد أن يقول له: إن زوجتك ستكون امرأتي; وهذا يخرج على ما ذكرنا عن علي بن الحسين، وقد نصره الثعلبي، والواحدي .

    والثاني: أنه لما رأى اتصال الخصومة بين زيد وزينب، ظن أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها، وأضمر أنه إن طلقها تزوجتها صلة لرحمها، وإشفاقا عليها، لأنها كانت بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، فعاتبه الله على إضمار ذلك وإخفائه حين قال لزيد: " أمسك عليك زوجك " ، وأراد منه أن يكون ظاهره وباطنه عند الناس سواء كما قيل له في قصة رجل أراد قتله: هلا أومأت إلينا بقتله؟ فقال: " ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين " ، ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمة الله عليه .

    قوله تعالى: فلما قضى زيد منها وطرا قال الزجاج: الوطر: كل حاجة لك فيها همة، فإذا بلغها البالغ قيل: قد قضى وطره . وقال غيره: قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، ثم صار عبارة عن الطلاق، لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة . والمعنى: لما قضى زيد حاجته من نكاحها زوجناكها ، وإنما ذكر قضاء الوطر هاهنا ليبين أن امرأة المتبنى تحل وإن وطئها، وهو قوله: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ; والمعنى: زوجناك زينب- وهي امرأة زيد الذي تبنيته- لكيلا يظن أن امرأة المتبنى لا يحل نكاحها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #444
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    الحلقة (444)
    صــ 400 إلى صــ 401





    وروى مسلم في [ ص: 391 ] أفراده من حديث أنس بن مالك قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: " اذهب فاذكرها علي " ، قال زيد: فانطلقت، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن .

    وذكر أهل العلم أن من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجيز له التزويج بغير مهر ليخلص قصد زوجاته لله دون العوض، وليخفف عنه، وأجيز له التزويج بغير ولي، لأنه مقطوع بكفاءته، وكذلك هو مستغن في نكاحه عن الشهود . وكانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهلوكن، وزوجني الله عز وجل .
    ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا . الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما

    [ ص: 392 ] قوله تعالى: ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له قال قتادة فيما أحل الله له من النساء .

    قوله تعالى: سنة الله هي منصوبة على المصدر، لأن معنى " ما كان على النبي من حرج " : سن الله سنة واسعة لا حرج فيها . والذين خلوا: هم النبيون; فالمعنى: أن سنة الله في التوسعة على محمد فيما فرض له، كسنته في الأنبياء الماضين . قال ابن السائب: هكذا سنة الله في الأنبياء، كداود، فإنه كان له مائة امرأة، وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية، [ ص: 393 ] وكان أمر الله قدرا مقدورا أي: قضاء مقضيا . وقال ابن قتيبة : " سنة الله في الذين خلوا " معناه: لا حرج على أحد فيما لم يحرم عليه .

    ثم أثنى الله على الأنبياء بقوله: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله أي: لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أحل لهم . وباقي الآية قد تقدم بيانه [النساء: 6]

    قوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم قال المفسرون: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، قال الناس: إن محمدا قد تزوج امرأة ابنه، فنزلت هذه الآية، والمعنى: ليس بأب لزيد فتحرم عليه زوجته ولكن رسول الله قال الزجاج: من نصبه، فالمعنى ولكن كان رسول الله، وكان خاتم النبيين; ومن رفعه، فالمعنى: ولكن هو رسول الله; ومن قرأ: " خاتم " بكسر التاء، فمعناه: وختم النبيين; ومن فتحها، فالمعنى: آخر النبيين . قال ابن عباس: يريد: لو لم أختم به النبيين، لجعلت له ولدا يكون بعده نبيا .

    [ ص: 394 ] [ ص: 395 ]
    [ ص: 396 ] يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا و سبحوه بكرة وأصيلا . هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما

    قوله تعالى: اذكروا الله ذكرا كثيرا قال مجاهد: هو أن لا ينساه أبدا . وقال ابن السائب: يقال: " ذكرا كثيرا " بالصلوات الخمس . وقال مقاتل بن حيان: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال: وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول ربكم: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه " .

    [ ص: 397 ] قوله تعالى: وسبحوه بكرة وأصيلا قال أبو عبيدة: الأصيل: ما بين العصر إلى الليل . وللمفسرين في هذا التسبيح قولان .

    أحدهما: أنه الصلاة، واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بكرة: صلاة الفجر .

    واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها صلاة العصر، [ ص: 398 ] قاله أبو العالية، وقتادة . والثاني: أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب . والثالث: أنها الظهر والعصر، قاله مقاتل .

    والقول الثاني: أنه التسبيح باللسان، وهو قول: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله " ، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: هو الذي يصلي عليكم وملائكته في صلاة الله علينا خمسة أقوال .

    أحدها: أنها رحمته، قاله الحسن . والثاني: مغفرته، قاله سعيد بن جبير . والثالث: ثناؤه، قاله أبو العالية، والرابع : كرامته، قاله سفيان . والخامس: بركته، قاله أبو عبيدة .

    وفي صلاة الملائكة قولان .

    أحدهما: أنها دعاؤهم، قاله أبو العالية . والثاني: استغفارهم، قاله مقاتل .

    وفي الظلمات والنور ها هنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: الضلالة والهدى، قاله ابن زيد . والثاني: الإيمان والكفر، قاله مقاتل . والثالث: الجنة والنار، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: تحيتهم الهاء والميم كناية عن المؤمنين .

    فأما الهاء في قوله: يلقونه ففيها قولان .

    أحدهما: أنها ترجع إلى الله عز وجل . ثم فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه: تحيتهم من الله يوم يلقونه سلام . وروى صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يسلم على أهل الجنة . والثاني: تحيتهم من الملائكة يوم يلقون الله: سلام، [ ص: 399 ] قاله مقاتل . وقال أبو حمزة الثمالي: تسلم عليهم الملائكة يوم القيامة، وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم . والثالث: تحيتهم بينهم يوم يلقون ربهم: سلام وهو أن يحيي بعضهم بعضا بالسلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    والقول الثاني: أن الهاء ترجع إلى ملك الموت، وقد سبق ذكره في ذكر الملائكة . قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال له: ربك يقرئك السلام . وقال البراء بن عازب: في قوله: تحيتهم يوم يلقونه قال: ملك الموت، ليس مؤمن يقبض روحه إلا سلم عليه . فأما الأجر الكريم، فهو الحسن في الجنة .
    يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا . ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا

    [ ص: 400 ] قوله تعالى: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا أي: على أمتك بالبلاغ ومبشرا بالجنة لمن صدقك ونذيرا أي: منذرا بالنار لمن كذبك، وداعيا إلى الله أي: إلى توحيده وطاعته بإذنه أي: بأمره، لا أنك فعلته من تلقاء نفسك وسراجا منيرا أي: أنت لمن اتبعك " سراجا " أي: كالسراج المضيء في الظلمة يهتدى به .

    قوله تعالى: وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وهو الجنة . قال جابر بن عبد الله: لما أنزل قوله: إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآيات [الفتح] قال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية .

    قوله تعالى: ولا تطع الكافرين قد سبق في أول السورة .

    قوله تعالى: ودع أذاهم قال العلماء: معناه: لا تجازهم عليه وتوكل على الله في كفاية شرهم; وهذا منسوخ بآية السيف .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #445
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    الحلقة (445)
    صــ 401 إلى صــ 410




    [ ص: 401 ] يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا

    قوله تعالى: إذا نكحتم المؤمنات قال الزجاج: معنى (نكحتم) [ ص: 402 ] تزوجتم . ومعنى " تمسوهن " تقربوهن . وقرأ حمزة، والكسائي: " تماسوهن " بألف .

    قوله تعالى: فما لكم عليهن من عدة تعتدونها أجمع العلماء أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عدة; وعندنا أن الخلوة توجب العدة وتقرر الصداق، خلافا للشافعي .

    قوله تعالى: فمتعوهن المراد به من لم يسم لها مهرا، لقوله في (البقرة: 236) . أو تفرضوا لهن فريضة وقد بينا المتعة هنالك وكان سعيد بن المسيب وقتادة يقولان: هذه الآية منسوخة بقوله: فنصف ما فرضتم [البقرة: 237] .

    قوله تعالى: وسرحوهن سراحا جميلا أي: من غير إضرار . وقال قتادة: هو طلاقها طاهرا من غير جماع . وقال القاضي أبو يعلي: الأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق، لأنه قد ذكر الطلاق، وإنما هو بيان أنه لا سبيل له عليها، وأن عليه تخليتها من يده وحباله .

    فصل

    واختلف العلماء فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم تزوجها; فعندنا أنها لا تطلق، وهو قول ابن عباس، وعائشة، والشافعي، واستدل أصحابنا [ ص: 403 ] بهذه الآية، وأنه جعل الطلاق بعد النكاح . وقال سماك بن الفضل: النكاح عقدة، والطلاق يحلها، فكيف يحل عقدة لم تعقد؟! فجعل بهذه الكلمة قاضيا على " صنعاء " . وقال أبو حنيفة: ينعقد الطلاق، فإذا وجد النكاح وقع . وقال مالك: ينعقد ذلك في خصوص النساء، وهو إذا كان في امرأة بعينها، ولا ينعقد في عمومهن . فأما إذا قال: إن ملكت فلانا فهو حر، ففيه عن أحمد روايتان .
    يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما . ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا

    قوله تعالى: إنا أحللنا لك أزواجك ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلها له، فقال: أزواجك اللاتي آتيت أجورهن أي: مهورهن، وهن اللواتي تزوجتهن بصداق وما ملكت يمينك يعني الجواري [ ص: 404 ] مما أفاء الله عليك أي: رد عليك من الكفار، كصفية وجويرية، فإنه أعتقهما وتزوجهما وبنات عمك وبنات عماتك يعني نساء قريش وبنات خالك وبنات خالاتك يعني نساء بني زهرة اللاتي هاجرن معك إلى المدينة . قال القاضي أبو يعلى: و[ظاهر] هذا يدل على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يحل له نكاحها . وقالت أم هانئ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذر، ثم أنزل الله تعالى: " إنا أحللنا لك أزواجك " إلى قوله: اللاتي هاجرن معك قالت: فلم أكن حل له، لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء; وهذا يدل من مذهبها أن تخصيصه بالمهاجرات قد أوجب حظر من لم تهاجر .

    وذكر بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه . وحكى الماوردي في ذلك قولين . أحدهما: أن الهجرة شرط في إحلال النساء له على الإطلاق . والثاني: أنه شرط في إحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات .

    [ ص: 405 ] قوله تعالى: وامرأة مؤمنة أي: وأحللنا لك امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها لك، إن أراد النبي أن يستنكحها أي: إن آثر نكاحها خالصة لك أي: خاصة . قال الزجاج: وإنما قال: " إن وهبت نفسها للنبي " ولم يقل: " لك " ، لأنه لو قال: " لك " ، جاز أن يتوهم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاز في بنات العم وبنات العمات . و " خالصة " منصوب على الحال .

    وللمفسرين في معنى خالصة ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن المرأة إذا وهبت له نفسها، لم يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب .

    والثاني: أن له أن ينكحها بلا ولي ولا مهر دون غيره، قاله قتادة .

    والثالث : خالصة لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، وهذا قول الشافعي، وأحمد .

    وفي المرأة التي وهبت له نفسها أقوال . أحدها: أم شريك . والثاني: خولة بنت حكيم . ولم يدخل بواحدة منهما . وذكروا أن ليلى بنت الخطيم وهبت [ ص: 406 ] نفسها له فلم يقبلها . قال ابن عباس: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له . وقد حكي عن ابن عباس أن التي وهبت نفسها له ميمونة بنت الحارث، وعن الشعبي: أنها زينب بنت خزيمة . والأول: أصح .

    قوله تعالى: قد علمنا ما فرضنا عليهم أي: على المؤمنين غيرك في أزواجهم وفيه قولان .

    أحدهما: أن لا يجاوز الرجل أربع نسوة، قاله مجاهد .

    والثاني: أن لا يتزوج الرجل المرأة إلا بولي وشاهدين وصداق، قاله قتادة .

    قوله تعالى: وما ملكت أيمانهم أي: وما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور .

    قوله تعالى: لكيلا يكون عليك حرج هذا فيه تقديم; المعنى: [ ص: 407 ] أحللنا لك أزواجك، إلى قوله: خالصة لك من دون المؤمنين لكيلا يكون عليك حرج .

    قوله تعالى: ترجي من تشاء منهن قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " ترجئ " مهموزا; وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بغير همز . وسبب نزولها أنه لما نزلت آية التخيير المتقدمة، أشفقن أن يطلقن، فقلن: يا نبي الله، اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو رزين .

    وفي معنى الآية أربعة أقوال .

    أحدها: تطلق من تشاء من نسائك، وتمسك من تشاء من نسائك، قاله ابن عباس .

    والثاني: تترك نكاح من تشاء، وتنكح من نساء أمتك من تشاء، قاله الحسن .

    والثالث : تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها بغير طلاق، وتأتي من تشاء فلا تعزلها، قاله مجاهد . والرابع: تقبل من تشاء من المؤمنات اللواتي يهبن أنفسهن، وتترك من تشاء، قاله الشعبي، وعكرمة .

    وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مصاحبة نسائه كيف شاء من غير إيجاب القسمة عليه والتسوية بينهن، غير أنه كان يسوي [ ص: 408 ] بينهن . وقال الزهري: ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ منهن أحدا، ولقد آواهن كلهن حتى مات . وقال أبو رزين: آوى عائشة، وأم سلمة، وحفصة، وزينب، وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء . وأرجأ سودة، وجويرية، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء . وكان أراد فراقهن فقلن: اقسم لنا ما شئت، ودعنا على حالنا . وقال قوم: إنما أرجأ سودة وحدها لأنها وهبت يومها لعائشة، فتوفي وهو يقسم لثمان .

    قوله تعالى: وتؤوي أي: تضم، ومن ابتغيت ممن عزلت أي: إذا أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلت من القسمة فلا جناح عليك أي: لا ميل عليك بلوم ولا عتب ذلك أدنى أن تقر أعينهن أي: ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن . والمعنى: إنهن إذا علمن أن هذا أمر من الله، كان أطيب لأنفسهن . وقرأ ابن محيصن، وأبو عمران الجوني: " أن تقر " بضم التاء وكسر القاف " أعينهن " بنصب النون .

    [ ص: 409 ] ويرضين بما آتيتهن كلهن أي: بما أعطيتهن من تقريب وتأخير والله يعلم ما في قلوبكم من الميل إلى بعضهن . والمعنى: إنما خيرناك تسهيلا عليك .

    قوله تعالى: لا يحل لك النساء كلهم قرأ: " لا يحل " بالياء، غير أبي عمرو، فإنه قرأ بالتاء; والتأنيث ليس بحقيقي، إنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان .

    وفي قوله: من بعد ثلاثة أقوال .

    أحدها: من بعد نسائك اللواتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين، وهن التسع، فصار [مقصورا] عليهن ممنوعا من غيرهن وذكر أهل العلم أن طلاقه لحفصة وعزمه على طلاق سودة كان قبل التخيير .

    [ ص: 410 ] والثاني: من بعد الذي أحللنا لك، فكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على المذكور في قوله: إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله: خالصة لك ; قاله أبي بن كعب ، والضحاك .

    والثالث : لا تحل لك النساء غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات، وتحل لك المسلمات، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: ولا أن تبدل بهن فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن تطلق زوجاتك وتستبدل بهن سواهن، قاله الضحاك .

    والثاني: أن تبدل بالمسلمات المشركات، قاله مجاهد في آخرين .

    والثالث : أن تعطي الرجل زوجتك، وتأخذ زوجته، وهذه كانت عادة للجاهلية، قاله أبو هريرة، وابن زيد .

    قوله تعالى: إلا ما ملكت يمينك يعني الإماء .

    وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

    أحدها: إلا أن تملك بالسبي، فيحل لك وطؤها وإن كانت من غير الصنف الذي أحللته لك; وإلى هذا أومأ أبي بن كعب في آخرين .

    والثاني: إلا أن تصيب يهودية أو نصرانية فتطأها بملك اليمين، قاله ابن عباس، ومجاهد .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #446
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    الحلقة (446)
    صــ 411 إلى صــ 420





    [ ص: 411 ] والثالث : إلا أن تبدل أمتك بأمة غيرك، قاله ابن زيد .

    قال أبو سليمان الدمشقي: وهذه الأقوال جائزة، إلا أنا لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح يهودية ولا نصرانية بتزويج ولا ملك يمين، ولقد سبى ريحانة القرظية فلم يدن منها حتى أسلمت .

    فصل

    واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .

    أحدهما: أنها منسوخة بقوله: إنا أحللنا لك أزواجك وهذا مروي عن علي، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وعلي بن الحسين، والضحاك . وقالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء، قال أبو سليمان الدمشقي: يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات .

    والقول الثاني: أنها محكمة; ثم فيها قولان .

    أحدهما: أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخترنه بأن قصره عليهن، فلم يحل له غيرهن، ولم ينسخ هذا، قاله الحسن، وابن سيرين، وأبو أمامة بن سهل، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث .

    والثاني: أن المراد بالنساء ها هنا: الكافرات، ولم يجز له أن يتزوج كافرة، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد .
    [ ص: 412 ] يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية . في سبب نزولها ستة أقوال .

    [ ص: 413 ] القول الأول: أخرجاه في " الصحيحين " من حديث أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش دعا القوم، فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فإذا القوم جلوس، فرجع، وإنهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله تعالى هذه الآية .

    والثاني: أن ناسا من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس .

    والثالث : أن عمر بن الخطاب قال: قلت يا رسول الله! إن نساءك يدخل [ ص: 414 ] عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، أخرجه البخاري من حديث أنس، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كلاهما عن عمر .

    والرابع : أن عمر أمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟! فنزلت الآية، قاله ابن مسعود .

    والخامس: أن عمر كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلا يفعل، فخرجت سودة ليلة، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة- حرصا على أن ينزل الحجاب- فنزل الحجاب، رواه عكرمة عن عائشة .

    [ ص: 415 ] والسادس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، وكانت معهم، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت آية الحجاب، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: إلا أن يؤذن لكم إلى طعام أي: أن تدعوا إليه غير ناظرين أي: منتظرين إناه قال الزجاج: موضع " أن " نصب; والمعنى: إلا بأن يؤذن لكم، أو لأن يؤذن، و " غير " منصوبة على الحال; والمعنى: إلا أن يؤذن لكم غير منتظرين . و " إناه " : نضجه وبلوغه .

    قوله تعالى: فانتشروا أي: فاخرجوا .

    قوله تعالى: ولا مستأنسين لحديث المعنى: ولا تدخلوا مستأنسين، أي: طالبي الأنس لحديث، وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدثون طويلا، وكان ذلك يؤذيه، ويستحيي أن يقول لهم: قوموا، فعلمهم الله الأدب، فذلك قوله: والله لا يستحيي من الحق أي: لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق وإذا سألتموهن متاعا أي: شيئا يستمتع به وينتفع به من آلة المنزل فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر أي: سؤالكم إياهن المتاع من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الريبة .

    [ ص: 416 ] قوله تعالى: وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله أي: ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء . قال أبو عبيدة: و " كان " من حروف الزوائد . والمعنى: ما لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا . روى عطاء عن ابن عباس، قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة، فأنزل الله ما أنزل . وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله .

    قوله تعالى: إن ذلكم يعني نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند الله عظيما أي: ذنبا عظيم العقوبة .
    [ ص: 417 ] إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما . لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا

    قوله تعالى: إن تبدوا شيئا أو تخفوه قيل: إنها نزلت فيما أبداه القائل: لئن مات رسول الله لأتزوجن عائشة .

    قوله تعالى: لا جناح عليهن في آبائهن قال المفسرون: لما نزلت آية الحجاب، قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: لا جناح عليهن في آبائهن أي: في أن يروهن ولا يحتجبن عنهم، إلى قوله: ولا نسائهن قال ابن عباس: يعني نساء المؤمنين، لأن نساء اليهود والنصارى يصفن لأزواجهن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رأينهن .

    فإن قيل: ما بال العم والخال لم يذكرا؟ فعنه جوابان .

    [ ص: 418 ] أحدهما: لأن المرأة تحل لأبنائهما، فكره أن تضع خمارها عند عمها وخالها، لأنهما ينعتانها لأبنائهما، هذا قول الشعبي وعكرمة .

    والثاني: لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يذكرا، قاله الزجاج .

    فأما قوله: ولا ما ملكت أيمانهن ففيه قولان

    أحدهما: أنه أراد الإماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب .

    والثاني: أنه عام في العبيد والإماء . قال ابن زيد: كن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن من المماليك . وقد سبق بيان هذا في سورة (النور: 31) .

    قوله تعالى: واتقين الله أي: أن يراكن غير هؤلاء إن الله كان على كل شيء شهيدا أي: لم يغب عنه شيء .
    إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما . إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا

    قوله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد تقدمت في هذه السورة [الأحزاب: 43]

    قوله تعالى: صلوا عليه قال كعب بن عجرة: قلنا: يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: " اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على [آل] إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على [آل] إبراهيم، إنك حميد مجيد، [ ص: 419 ] أخرجه البخاري ومسلم . ومعنى قوله : " قد علمنا التسليم عليك " : ما يقال في التشهد: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " . وذهب ابن السائب إلى أن معنى التسليم: سلموا لما يأمركم به .

    قوله تعالى: إن الذين يؤذون الله ورسوله اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .

    [ ص: 420 ] أحدها: في الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي، قاله ابن عباس .

    والثاني: نزلت في المصورين، قاله عكرمة .

    والثالث : في المشركين واليهود والنصارى، وصفوا الله بالولد وكذبوا رسوله وشجوا وجهه وكسروا رباعيته وقالوا: مجنون شاعر ساحر كذاب . ومعنى أذى الله: وصفه بما هو منزه عنه، وعصيانه; ولعنهم في الدنيا: بالقتل والجلاء، وفي الآخرة: بالنار .

    قوله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات في سبب نزولها أربعة أقوال .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #447
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    الحلقة (447)
    صــ 421 إلى صــ 430





    [ ص: 421 ] أحدها: أن عمر بن الخطاب رأى جارية متبرجة فضربها وكف ما رأى من زينتها، فذهبت إلى أهلها تشكو، فخرجوا إليه فآذوه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني: أنها نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرون المرأة فيدنون منها فيغمزونها; وإنما كانوا يؤذون الإماء، غير أنه لم تكن الأمة تعرف من الحرة، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله السدي .

    والثالث : أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك، قاله الضحاك .

    والرابع : أن ناسا من المنافقين آذوا علي بن أبي طالب، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

    قال المفسرون: ومعنى الآية: يرمونهم بما ليس فيهم .
    يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما . لئن لم ينته المنافقون والذين في [ ص: 422 ] قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا . سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا

    قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك الآية، سبب نزولها أن الفساق كانوا يؤذون النساء إذا خرجن بالليل، فإذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا: هذه حرة، وإذا رأوها بغير قناع قالوا: أمة، فآذوها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي .

    قوله تعالى: يدنين عليهن من جلابيبهن قال ابن قتيبة : يلبسن الأردية . وقال غيره: يغطين رؤوسهن ووجوههن ليعلم أنهن حرائر ذلك أدنى أي: أحرى وأقرب أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين .

    قوله تعالى: لئن لم ينته المنافقون أي: عن نفاقهم والذين في قلوبهم مرض أي: فجور، وهم الزناة والمرجفون في المدينة بالكذب والباطل، يقولون: أتاكم العدو، وقتلت سراياكم وهزمت لنغرينك بهم أي: لنسلطنك عليهم بأن نأمرك بقتالهم . قال المفسرون: وقد أغري بهم، فقيل له: [ ص: 423 ] " جاهد الكفار والمنافقين " [التوبة: 73، التحريم: 9]، وقال يوم الجمعة " اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق، قم يا فلان فإنك منافق " ثم لا يجاورونك فيها أي: في المدينة إلا قليلا حتى يهلكوا، ملعونين منصوب على الحال; أي: لا يجاورونك إلا وهم ملعونون أينما ثقفوا أي: وجدوا وأدركوا أخذوا وقتلوا تقتيلا معنى الكلام: الأمر، أي: هذا الحكم فيهم، سنة الله أي: سن في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يفعل بهم هذا .
    يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا . إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا . يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا

    قوله تعالى: يسألك الناس عن الساعة قال عروة: الذي سأله عنها عتبة بن ربيعة .

    قوله تعالى: وما يدريك أي: أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى تكون؟ والمعنى: أنت لا تعرف ذلك; ثم قال: لعل الساعة تكون قريبا .

    فإن قيل: هلا قال: قريبة؟ فعنه ثلاثة أجوبة .

    أحدها: أنه أراد الظرف، ولو أراد صفة الساعة بعينها، لقال: قريبة، [ ص: 424 ] هذا قول أبي عبيدة . والثاني: أن المعنى راجع إلى البعث، أو إلى مجيء الساعة . والثالث: أن تأنيث الساعة غير حقيقي، ذكرهما الزجاج . وما بعد هذا قد سبق بيان ألفاظه [البقرة: 159، النساء: 10، الإسراء: 97] .

    فأما قوله: وأطعنا الرسولا فقال الزجاج: الاختيار الوقف بألف، لأن أواخر الآي وفواصلها تجري مجرى أواخر الأبيات، وإنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلف ليدل بالوقف بزيادة الحرف أن الكلام قد تم; وقد أشرنا إلى هذا في قوله: الظنونا [الأحزاب: 1] .

    قوله تعالى: أطعنا سادتنا وكبراءنا أي: أشرافنا وعظماءنا . قال مقاتل: هم المطعمون في غزوة بدر . وكلهم قرأوا: " سادتنا " على التوحيد، غير ابن عامر، فإنه قرأ: " ساداتنا " على الجمع مع كسر التاء، ووافقه المفضل، ويعقوب، إلا أبا حاتم فأضلونا السبيلا أي: عن سبيل الهدى، ربنا آتهم يعنون السادة ضعفين أي: ضعفي عذابنا، والعنهم لعنا كبيرا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: " كثيرا " بالثاء . وقرأ عاصم، وابن عامر: " كبيرا " بالباء . وقال أبو علي: الكثرة أشبه بالمرار المتكررة من الكبر .
    يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما

    قوله تعالى: لا تكونوا كالذين آذوا موسى أي: لا تؤذوا محمدا كما آذى بنو إسرائيل موسى فينزل بكم ما نزل بهم .

    [ ص: 425 ] وفي ما آذوا به موسى أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم قالوا: هو آدر، فذهب يوما يغتسل، ووضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج في طلبه، فرأوه فقالوا: والله ما به من بأس . والحديث مشهور في الصحاح كلها من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم; وقد ذكرته بإسناده في " المغني " و " الحدائق " . قال ابن قتيبة : والآدر: عظيم الخصيتين .

    والثاني: أن موسى صعد الجبل ومعه هارون، فمات هارون، فقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، فآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مرت به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات، فبرأه الله من ذلك، قاله علي عليه السلام .

    [ ص: 426 ] والثالث : أن قارون استأجر بغيا لتقذف موسى بنفسها على ملأ من بني إسرائيل فعصمها الله وبرأ موسى من ذلك، قاله أبو العالية .

    والرابع : أنهم رموه بالسحر والجنون، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: وكان عند الله وجيها قال ابن عباس: كان عند الله حظيا لا يسأله شيئا إلا أعطاه . وقد بينا معنى الوجيه في (آل عمران: 45) . وقرأ ابن مسعود ، والأعمش وأبو حيوة: " وكان عبدا لله " بالتنوين والباء، وكسر اللام .

    قوله تعالى: وقولوا قولا سديدا فيه أربعة أقوال .

    [ ص: 427 ] أحدها: صوابا، قاله ابن عباس . والثاني: صادقا، قاله الحسن . والثالث: عدلا، قاله السدي . والرابع: قصدا، قاله ابن قتيبة .

    ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه " لا إله إلا الله " ، قاله ابن عباس، وعكرمة . والثاني: أنه العدل في جميع الأقوال والأعمال، قاله قتادة . والثالث: في شأن زينب وزيد ، ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يصلح، قاله مقاتل بن حيان .

    قوله تعالى: يصلح لكم أعمالكم فيه قولان .

    أحدهما: يتقبل حسناتكم، قاله ابن عباس . والثاني: يزكي أعمالكم، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: فقد فاز فوزا عظيما أي: نال الخير وظفر به .
    إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما

    قوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة فيها قولان .

    أحدهما: أنها الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، إن أدتها أثابها، وإن ضيعتها عذبها، فكرهت ذلك; وعرضها على آدم فقبلها بما فيها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس; وكذلك قال سعيد بن جبير: عرضت الأمانة على آدم فقيل له: تأخذها بما فيها، إن أطعت غفرت لك، وإن [ ص: 428 ] عصيت عذبتك، فقال: قبلت، فما كان إلا كما بين صلاة العصر إلى أن غربت الشمس حتى أصاب الذنب . وممن ذهب إلى أنها الفرائض قتادة، والضحاك، والجمهور .

    والثاني: أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضا عليها . روى السدي عن أشياخه أن آدم لما أراد الحج قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال، فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وتجيء وتجد أهلك كما يسرك، فلما انطلق آدم قتل قابيل هابيل، فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه، فذلك حيث يقول الله عز وجل: إنا عرضنا الأمانة إلى قوله: وحملها الإنسان وهو ابن آدم، فما قام بها .

    وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن آدم لما حضرته الوفاة قال: يا رب، من أستخلف من بعدي؟ فقيل له: اعرض خلافتك على جميع الخلق، فعرضها، فكل أباها غير ولده .

    وللمفسرين في المراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض قولان .

    أحدهما: أن الله تعالى ركب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهن خطابه، وأنطقهن بالجواب حين عرضها عليهن، ولم يرد بقوله: " أبين " المخالفة، [ ص: 429 ] ولكن أبين للخشية والمخافة، لأن العرض كان تخييرا لا إلزاما، وأشفقن بمعنى خفن منها أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب، هذا قول الأكثرين .

    والثاني: أن المراد بالآية: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة، قاله الحسن .

    وفي المراد بالإنسان أربعة أقوال . أحدها: آدم في قول الجمهور . والثاني: قابيل في قول السدي . والثالث: الكافر والمنافق، قاله الحسن . والرابع: جميع الناس، قاله ثعلب .

    قوله تعالى: إنه كان ظلوما جهولا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: ظلوما لنفسه، غرا بأمر ربه، قاله ابن عباس، والضحاك .

    والثاني: ظلوما لنفسه، جهولا بعاقبة أمره، قاله مجاهد .

    والثالث : ظلوما بمعصية ربه، جهولا بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب .

    وذكر الزجاج في الآية وجها يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنه موافق للتفسير فقال: إن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأما السماوات والأرض فقالتا: أتينا طائعين [فصلت: 11]، وأعلمنا أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجدون لله، فعرفنا الله تعالى أن السموات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكل من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كل من أثم فقد احتمل الإثم، وكذلك قال الحسن: " وحملها الإنسان " أي: الكافر والمنافق حملاها، أي: خانا ولم يطيعا; فأما من أطاع، فلا يقال: كان ظلوما جهولا .

    [ ص: 430 ] قوله تعالى: ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات قال ابن قتيبة : المعنى: عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهم الله، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي: يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إن وقع منهم تقصير في الطاعات .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #448
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ سَبَإٍ
    الحلقة (448)
    صــ 431 إلى صــ 440




    [ ص: 431 ]
    سُورَةُ سَبَإٍ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

    وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ السَّائِبِ، وَمُقَاتِلٌ: فِيهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سَبَإٍ: 6] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ . يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُ مْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ . لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ [ ص: 432 ] عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ . وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ

    قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مُلْكًا وَخَلْقًا وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ يَحْمَدُهُ أَوْلِيَاؤُهُ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزُّمَرِ :74] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الْأَعْرَافِ: 43 ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فَاطِرٍ: 34] .

    يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ مِنْ بَذْرٍ أَوْ مَطَرٍ أَوْ كَنْزٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ وَنَبَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَطَرٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ مَلَكٍ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا مِنْ مَلَكٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ دُعَاءٍ .

    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أَيْ: لَا نُبْعَثُ .

    [ ص: 433 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: عَالِمِ الْغَيْبِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو : " عَالَمِ الْغَيْبِ " بِكَسْرِ الْمِيمِ; وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِرَفْعِهَا . وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ : " عَلَّامِ الْغَيْبِ " بِالْكَسْرِ وَلَامٍ قَبْلَ الْأَلِفِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ كَسَرَ، فَعَلَى مَعْنَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَالَمِ الْغَيْبِ; وَمَنْ رَفَعَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ " عَالِمِ الْغَيْبِ " خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً، خَبَرُهُ لا يَعْزُبُ عَنْهُ ; وَ " عَلَّامٌ " أَبْلَغُ مِنْ " عَالِمٍ " . وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ: " لَا يَعْزِبُ " بِكَسْرِ الزَّايِ; وَهُمَا لُغَتَانِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: " وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ " بِالنَّصْبِ فِيهِمَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى : بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُ مُ الْمُجَازَاةُ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَعْنَى: أَثْبَتَ مِثْقَالَ الذَّرَّةِ وَأَصْغَرَ مِنْهُ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلِيُرِيَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، [وَالْمُفَضَّلُ]: " مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ " رَفْعًا; وَالْبَاقُونَ بِالْخَفْضِ فِيهِمَا .

    وَفِي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    [ ص: 434 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يَعْنِي الْقُرْآنَ هُوَ الْحَقَّ قَالَ الْفَرَّاءُ: " هُوَ " عِمَادٌ، فَلِذَلِكَ انْتَصَبَ الْحَقُّ . وَمَا أَخْلَلْنَا بِهِ فَقَدْ سَبَقَ فِي مَوَاضِعَ [الْحَجِّ: 51، 52، الْبَقَرَةِ: 130، 267] .
    وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد . أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب

    قوله تعالى: وقال الذين كفروا وهم منكرو البعث، قال بعضهم لبعض: هل ندلكم على رجل ينبئكم أي: يقول لكم: إنكم إذا مزقتم كل ممزق أي: فرقتم كل تفريق; والممزق هاهنا مصدر بمعنى التمزيق إنكم لفي خلق جديد أي: يجدد خلقكم للبعث . ثم أجاب بعضهم فقالوا: أفترى على الله كذبا حين زعم أنا نبعث؟! وألف " أفترى " ألف استفهام، وهو استفهام تعجب وإنكار، أم به جنة أي: جنون؟! فرد الله عليهم فقال: بل أي: ليس الأمر كما تقولون من الافتراء والجنون، بل الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم الذين يجحدون البعث في العذاب إذا بعثوا في الآخرة والضلال البعيد من الحق في الدنيا .

    ثم وعظهم فقال: أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء [ ص: 435 ] والأرض وذلك أن الإنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله; فالمعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إن شئت خسفت بهم الأرض، وإن شئت أسقطت عليهم قطعة من السماء، إن في ذلك أي: فيما يرون من السماء والأرض لآية تدل على قدرة الله تعالى على بعثهم والخسف بهم لكل عبد منيب أي: راجع إلى طاعة الله، متأمل لما يرى .
    ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير

    قوله تعالى: ولقد آتينا داود منا فضلا وهو النبوة والزبور وتسخير الجبال والطير، إلى غير ذلك مما أنعم الله به عليه يا جبال أوبي معه وروى الحلبي عن عبد الوارث: " أوبي " بضم الهمزة وتخفيف الواو . قال الزجاج: المعنى: وقلنا: يا جبال أوبي معه، أي: رجعي معه . والمعنى: سبحي معه ورجعي التسبيح . ومن قرأ: " أوبي " ، معناه: عودي في التسبيح معه كلما عاد . وقال ابن قتيبة : " أوبي " أي: سبحي، وأصل التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله، وينزل ليلا، فكأنه أراد: ادأبي النهار [كله] بالتسبيح إلى الليل .

    [ ص: 436 ] قوله تعالى: والطير وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن أبي عبلة : " والطير " بالرفع . فأما قراءة النصب، فقال أبو عمرو بن العلاء: هو عطف على قوله: ولقد آتينا داود منا فضلا والطير أي: وسخرنا له الطير . قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصبا على النداء، كأنه قال: دعونا الجبال والطير، فالطير معطوف على موضع الجبال، وكل منادى عند البصريين فهو في موضع نصب; قال: وأما الرفع، فمن جهتين، إحداهما: أن يكون نسقا على ما في " أوبي، فالمعنى: يا جبال رجعي التسبيح معه أنت والطير; والثانية: على النداء، المعنى: يا جبال ويا أيها الطير أوبي [معه]

    قال ابن عباس: كانت الطير تسبح معه إذا سبح، وكان إذا قرأ لم تبق دابة إلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه . وقال وهب بن منبه: كان يقول للجبال: سبحي، وللطير: أجيبي، ثم يأخذ هو في تلاوة الزبور بين ذلك بصوته الحسن، فلا يرى الناس منظرا أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئا أطيب منه .

    قوله تعالى: وألنا له الحديد أي: جعلناه لينا . قال قتادة: سخر الله له الحديد بغير نار، فكان يسويه بيده، لا يدخله النار، ولا يضربه بحديدة، وكان أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح .

    قوله تعالى: أن اعمل قال الزجاج: معناه: وقلنا له: اعمل، ويكون في معنى " لأن يعمل " سابغات أي: دروعا سابغات، فذكر الصفة لأنها تدل على الموصوف .

    قال المفسرون: كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، [ ص: 437 ] فيعمل الدرع في بعض يوم فيبيعه بمال كثير، فيأكل ويتصدق . والسابغات: الدروع الكوامل التي تغطي لابسها حتى تفضل عنه فيجرها على الأرض .

    وقدر في السرد أي: اجعله على قدر الحاجة . قال ابن قتيبة : السرد: النسج، ومنه يقال لصانع الدروع: سراد وزراد، تبدل من السين الزاي، كما يقال: سراط وزراط . وقال الزجاج: السرد في اللغة: تقدمة الشيء إلى الشيء تأتي به متسقا بعضه في إثر بعض متتابعا . ومنه قولهم: سرد فلان الحديث .

    وفي معنى الكلام قولان .

    أحدهما: عدل المسمار في الحلقة ولا تصغره فيقلق، ولا تعظمه فتنفصم الحلقة، قاله مجاهد .

    والثاني: لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها، قاله قتادة .

    قوله تعالى: واعملوا صالحا خطاب لداود وآله .
    ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير . يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين [ ص: 438 ] قوله تعالى: ولسليمان الريح قرأ الأكثرون بنصب الريح على معنى: وسخرنا لسليمان الريح . وروى أبو بكر، والمفضل عن عاصم: " الريح " رفعا، أي: له تسخير الريح . وقرأ أبو جعفر: " الرياح " على الجمع .

    غدوها شهر قال قتادة: تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين . قال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان الخيل عن الصلاة فعقرها، أبدله الله خيرا منها وأسرع وهي الريح، فكان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع .

    قوله تعالى: وأسلنا له عين القطر قال الزجاج: القطر: النحاس، وهو الصفر، أذيب مذ ذاك وكان قبل سليمان لا يذوب .

    قال المفسرون: أجرى الله لسليمان عين الصفر حتى صنع منها ما أراد من غير نار، كما ألين لداود الحديد بغير نار، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهن كجري الماء; وإنما يعمل الناس اليوم مما أعطي سليمان .

    [ ص: 439 ] قوله تعالى: ومن الجن المعنى: وسخرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه أي: بأمره; سخرهم الله له، وأمرهم بطاعته; والكلام يدل على أن منهم من لم يسخر له ومن يزغ منهم أي: يعدل عن أمرنا له بطاعة سليمان نذقه من عذاب السعير ; وهل هذا في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان . أحدهما: في الآخرة، قاله الضحاك . والثاني: في الدنيا، قاله مقاتل . وقيل: إنه كان مع سليمان ملك بيده سوط من نار، فمن زاغ من الجن ضربه الملك بذلك السوط .

    يعملون له ما يشاء من محاريب وفيها ثلاثة أقوال . أحدها: أنها المساجد، قاله مجاهد ، وابن قتيبة . والثاني: القصور، قاله عطية . والثالث: المساجد والقصور، قاله قتادة . وأما التماثيل، فهي الصور; قال الحسن: ولم تكن يومئذ محرمة; ثم فيها قولان .

    أحدهما: أنها كانت كالطواويس والعقبان والنسور على كرسيه ودرجات سريره لكي يهابها من أراد الدنو منه، قاله الضحاك .

    والثاني: أنها كانت صور النبيين والملائكة لكي يراهم الناس مصورين، فيعبدوا مثل عبادتهم ويتشبهوا بهم، قاله ابن السائب .

    وفي ما كانوا يعملونها منه قولان . أحدهما: من النحاس، قاله مجاهد . والثاني: من الرخام والشبه، قاله قتادة .

    قوله تعالى: وجفان كالجواب الجفان: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة; والجوابي; جمع جابية، وهي الحوض الكبير يجبى فيه الماء، أي: يجمع .

    [ ص: 440 ] قرأ ابن كثير، وأبو عمرو : " كالجوابي " بياء، إلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف . قال الزجاج: وأكثر القراء على الوقف بغير ياء، وكان الأصل الوقف بالياء، إلا أن الكسرة تنوب عنها .

    قال المفسرون: كانوا يصنعون [له] القصاع كحياض الإبل، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها .

    قوله تعالى: وقدور راسيات أي: ثوابت; يقال: رسا يرسو: إذا ثبت .

    وفي علة ثبوتها في مكانها قولان . أحدهما: أن أثافيها منها، قاله ابن عباس . والثاني: أنها لا تنزل لعظمها، قاله ابن قتيبة .

    قال المفسرون: وكانت القدور كالجبال لا تحرك من أماكنها، يأكل من القدر ألف رجل .

    قوله تعالى: اعملوا آل داود شكرا المعنى: وقلنا: اعملوا بطاعة الله شكرا له على ما آتاكم .

    قوله تعالى: فلما قضينا عليه الموت يعني على سليمان .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #449
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ سَبَإٍ
    الحلقة (449)
    صــ 441 إلى صــ 450






    [ ص: 441 ] قال المفسرون: كانت الإنس تقول: إن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد، فوقف سليمان في محرابه يصلي متوكئا على عصاه، فمات، فمكث كذلك حولا والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته حتى أكلت الأرض عصا سليمان، فخر فعلموا بموته، وعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب .

    وقيل: إن سليمان سأل الله تعالى أن يعمي على الجن موته، فأخفاه الله عنهم حولا .

    وفي سبب سؤاله قولان .

    أحدهما: لأن الجن كانوا يقولون للإنس: إننا نعلم الغيب، فأراد تكذيبهم .

    والثاني: لأنه كان قد بقي من عمارة بيت المقدس بقية .

    فأما دابة الأرض فهي: الأرضة . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: " دابة الأرض " بفتح الراء .

    والمنسأة: العصا . قال الزجاج: وإنما سميت منسأة، لأنه ينسأ بها، أي: يطرد ويزجر . قال الفراء: أهل الحجاز لا يهمزون المنسأة، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها .

    قوله تعالى: فلما خر أي: سقط تبينت الجن أي: ظهرت، وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموا ما لبثوا في العذاب المهين [ ص: 439 ] أي: ما عملوا مسخرين وهو ميت وهم يظنونه حيا . وقيل: تبينت الجن، أي: علمت، لأنها كانت تتوهم باستراقها السمع أنها تعلم الغيب، فعلمت حينئذ خطأها في ظنها . وروى رويس عن يعقوب: " تبينت " برفع التاء والباء وكسر الياء .
    لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور . فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور . وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ

    قوله تعالى: ( لقد كان لسبإ في مساكنهم آية ) قرأ ابن كثير، [ ص: 440 ] ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " في مساكنهم " . وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: " مسكنهم " بفتح الكاف من غير ألف . وقرأ الكسائي، وخلف: " مسكنهم " بكسر الكاف، وهي لغة .

    قال المفسرون: المراد بسبإ هاهنا: القبيلة التي هم من أولاد سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان; وقد ذكرنا في سورة (النمل: 22) الخلاف في هذا، وأن قوما يقولون: هو اسم بلد، وليس باسم رجل . وذكر الزجاج في هذا المكان أن من قرأ: " لسبأ " بالفتح وترك الصرف، جعله اسما للقبيلة، ومن صرف وكسر ونون، جعله اسما للحي واسما لرجل; وكل جائز حسن . و آية رفع، اسم " كان " ، و جنتان رفع على نوعين، أحدهما: أنه بدل من " آية " ، والثاني: على إضمار، كأنه لما قيل: " آية " ، قيل: الآية جنتان .

    الإشارة إلى قصتهم

    ذكر العلماء بالتفسير والسير أن بلقيس لما ملكت [قومها] جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصرها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا، أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها، فأبت، فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك، فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا: فإنا نطيعك، فجاءت إلى واديهم- وكانوا [ ص: 444 ] إذا مطروا أتاه السيل من مسيرة أيام- فأمرت به، فسد ما بين الجبلين بمسناة، وحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسوية، إلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذكره [النمل: 29- 44]، وبقوا بعدها على حالهم . وقيل: إنما بنوا ذلك البنيان لئلا يغشى السيل أموالهم فيهلكها، فكانوا يفتحون من أبواب السد ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه، وكانت لهم جنتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضهم، وكثرت فواكههم، وإن كانت المرأة لتمر بين الجنتين والمكتل على رأسها، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تمس بيدها شيئا منه، ولم يكن [يرى] في بلدهم حية ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمر الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القمل، فيموت القمل لطيب هوائها . وقيل لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة أي: هذه بلدة طيبة، أو بلدتكم بلدة طيبة، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي ورب غفور أي: والله رب غفور، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا، فكذبوا الرسل، ولم يقروا بنعم الله، فذلك قوله: فأعرضوا أي: عن الحق، وكذبوا أنبياءهم فأرسلنا عليهم سيل العرم وفيه أربعة أقوال .

    [ ص: 445 ] أحدها: أن العرم: الشديد، رواه علي بن أبي طالب عن ابن عباس . وقال ابن الأعرابي: العرم: السيل الذي لا يطاق .

    والثاني: [أنه] اسم الوادي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، ومقاتل .

    والثالث : أنه المسناة، قاله مجاهد ، وأبو ميسرة، والفراء، وابن قتيبة . وقال أبو عبيدة: العرم: جمع عرمة، وهي: السكر والمسناة .

    والرابع : أن العرم: الجرذ الذي نقب عليهم السكر، حكاه الزجاج .

    وفي صفة إرسال هذا السيل عليهم قولان .

    أحدهما: أن الله تعالى بعث على سكرهم دابة من الأرض فنقبت فيه نقبا، فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال قتادة والضحاك في آخرين: بعث الله عليهم جرذا يسمى الخلد- والخلد: الفأر الأعمى- فنقبه من أسفله، فأغرق الله [به] جناتهم، وخرب به أرضهم .

    والثاني: أنه أرسل عليهم ماء أحمر، أرسله في السد فنسفه وهدمه وحفر الوادي، ولم يكن الماء أحمر من السد، وإنما كان سيلا أرسل عليهم، قاله مجاهد .

    قوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم يعني اللتين تطعمان الفواكه جنتين ذواتي أكل خمط قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " أكل " بالتنوين . وقرأ أبو عمرو: " أكل " بالإضافة . وخفف الكاف ابن كثير ونافع، وثقلها الباقون . أما الأكل، فهو الثمر .

    وفي المراد بـ الخمط ثلاثة أقوال . [ ص: 446 ] أحدها: أنه الأراك، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور; فعلى هذا، أكله: ثمره; ويسمى ثمر الأراك: البرير .

    والثاني: أنه كل شجرة ذات شوك، قاله أبو عبيدة .

    والثالث : أنه كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله، قاله المبرد والزجاج . فعلى هذا القول، الخمط: اسم للمأكول، فيحسن على هذا قراءة من نون الأكل; وعلى ما قبله، هو اسم شجرة، والأكل ثمرها، فيحسن قراءة من أضاف .

    فأما الأثل، ففيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الطرفاء، قاله ابن عباس . والثاني: أنه السمر، حكاه ابن جرير . والثالث: أنه شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه .

    قوله تعالى: وشيء من سدر قليل فيه تقديم، وتقديره: وشيء قليل من سدر، وهو شجر النبق . والمعنى أنه كان الخمط والأثل في جنتيهم [ ص: 447 ] أكثر من السدر . قال قتادة: بينا شجرهم من خير الشجر، إذ صيره الله من شر الشجر .

    قوله تعالى: ذلك جزيناهم أي: ذلك التبديل جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور .

    فإن قيل: قد يجازى المؤمن والكافر، فما معنى هذا التخصيص؟ فعنه جوابان .

    أحدهما: أن المؤمن يجزى ولا يجازى، فيقال في أفصح اللغة: جزى الله المؤمن، ولا يقال: جازاه، لأن " جازاه " بمعنى كافأه، فالكافر يجازى بسيئته مثلها، مكافأة له، والمؤمن يزاد في الثواب ويتفضل عليه، هذا قول الفراء .

    والثاني: أن الكافر ليست له حسنة تكفر ذنوبه، فهو يجازى بجميع الذنوب، والمؤمن قد أحبطت حسناته سيئاته، هذا قول الزجاج . وقال طاووس: الكافر يجازى ولا يغفر له، والمؤمن لا يناقش الحساب .

    قوله تعالى: وجعلنا بينهم هذا معطوف على قوله تعالى: لقد كان لسبإ ; والمعنى: كان من قصصهم أنا جعلنا بينهم وبين القرى التي [ ص: 448 ] باركنا فيها وهي: قرى الشام; وقد سبق بيان معنى البركة فيها [الأنبياء: 71] هذا قول الجمهور . وحكى ابن السائب أن الله تعالى لما أهلك جنتيهم قالوا للرسل: قد عرفنا نعمة الله علينا، فلئن رد إلينا ما كنا عليه لنعبدنه عبادة شديدة، فرد عليهم النعمة، وجعل لهم قرى ظاهرة فعادوا إلى الفساد وقالوا: باعد بين أسفارنا، فمزقوا .

    قوله تعالى: قرى ظاهرة أي: متواصلة ينظر بعضها إلى بعض وقدرنا فيها السير فيه قولان .

    أحدهما: أنهم كانوا يغدون فيقيلون في قرية، ويروحون فيبيتون في قرية، قاله الحسن، وقتادة .

    والثاني: أنه جعل ما بين القرية والقرية مقدارا واحدا، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: سيروا فيها والمعنى: وقلنا لهم: سيروا فيها ليالي وأياما أي: ليلا ونهارا آمنين من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سبع أو تعب . وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان، فبطروا النعمة وملوها كما مل بنو إسرائيل المن والسلوى فقالوا ربنا بعد بين أسفارنا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو : " بعد " بتشديد العين وكسرها . وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة: " باعد " بألف وكسر العين . وعن ابن عباس كالقراءتين . قال ابن عباس: إنهم قالوا: لو كانت جناتنا أبعد مما هي، كان أجدر أن يشتهى جناها . قال أبو سليمان الدمشقي: لما ذكرتهم الرسل نعم الله، أنكروا أن يكون ما هم فيه نعمة، [ ص: 449 ] وسألوا الله أن يباعد بين أسفارهم . وقرأ يعقوب: [ " ربنا " برفع الباء] " باعد " بفتح العين والدال، جعله فعلا ماضيا على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله عز وجل بهم . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن [السلمي]، وأبو رجاء ، وابن السميفع، وابن أبي عبلة : " بعد " برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف، على طريق الشكاية إلى الله عز وجل . وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني: " بوعد " برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين .

    قوله تعالى: وظلموا أنفسهم فيه قولان . أحدهما: بالكفر وتكذيب الرسل . والثاني: بقولهم " بعد بين أسفارنا " .

    فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم يتحدثون بما فعل بهم ومزقناهم كل ممزق أي: فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، لأن الله لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل في الفرقة بسبأ إن في ذلك أي: فيما فعل بهم لآيات أي: لعبرا لكل صبار عن معاصي الله شكور لنعمه،

    قوله تعالى: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " عليهم " بمعنى " فيهم " ، [ ص: 450 ] وصدقه في ظنه أنه ظن بهم أنهم يتبعونه إذ أغواهم، فوجدهم كذلك . وإنما قال: ولأضلنهم ولأمنينهم [النساء: 119] بالظن، لا بالعلم، فمن قرأ: " صدق " بتشديد الدال، فالمعنى: حقق ما ظنه فيهم بما فعل بهم; ومن قرأ بالتخفيف، فالمعنى: صدق عليهم في ظنه بهم .

    وفي المشار إليهم قولان .

    أحدهما: أنهم أهل سبإ . والثاني: سائر المطيعين لإبليس .

    قوله تعالى: وما كان له عليهم من سلطان قد شرحناه في قوله: ليس لك عليهم سلطان [الحجر: 42 قال الحسن: والله ما ضربهم بعصا ولا قهرهم على شيء إلا أنه دعاهم إلى الأماني والغرور .

    قوله تعالى: إلا لنعلم أي: ما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين . وقرأ الزهري: " إلا ليعلم " بياء مرفوعة على ما لم يسم فاعله . وقرأ ابن يعمر: " ليعلم " بفتح الياء .

    وفي المراد بعلمه هاهنا ثلاثة أقوال قد شرحناه في أول (العنكبوت: 3) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #450
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ سَبَإٍ
    الحلقة (450)
    صــ 451 إلى صــ 460





    وربك على كل شيء من الشك والإيمان حفيظ ، وقال ابن قتيبة : والحفيظ بمعنى الحافظ . قال الخطابي: وهو فعيل بمعنى فاعل، كالقدير، والعليم، فهو يحفظ السماوات والأرض بما فيها لتبقى مدة بقائها، ويحفظ عباده من [ ص: 451 ] المهالك، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نياتهم، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذنوب، ويحرسهم من مكايد الشيطان .
    قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير . ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير

    قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم المعنى: قل للكفار: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لينعموا عليكم بنعمة، أو يكشفوا عنكم بلية . ثم أخبر عنهم فقال: لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض أي: من خير وشر ونفع وضر وما لهم فيهما من شرك لم يشاركونا في شيء من خلقهما، وما له أي: وما لله منهم أي: من الآلهة من ظهير أي: من معين على شيء .

    ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: " أذن له " بفتح الألف . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: " أذن له " برفع الألف . وعن عاصم كالقراءتين . أي: لا تنفع شفاعة ملك ولا نبي حتى يؤذن له في الشفاعة، وقيل: حتى يؤذن له فيمن يشفع . وفي هذا رد عليهم حين قالوا: إن هذه الآلهة تشفع لنا .

    [ ص: 452 ] حتى إذا فزع عن قلوبهم قرأ الأكثرون: " فزع " بضم الفاء وكسر الزاي . قال ابن قتيبة : خفف عنها الفزع . وقال الزجاج: معناه: كشف الفزع عن قلوبهم . وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وأبان: " فزع " بفتح الفاء والزاي، والفعل لله عز وجل . وقرأ الحسن، وقتادة، وابن يعمر: " فرغ " بالراء غير معجمة، وبالغين معجمة، وهو بمعنى الأول، لأنها فرغت من الفزع . وقال غيره: بل فرغت من الشك والشرك .

    وفي المشار إليهم قولان .

    أحدهما: أنهم الملائكة . وقد دل الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله، ولم يذكره في الآية، لأن إخراج الفزع يدل على حصوله . وفي سبب فزعهم قولان .

    أحدهما: أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى . روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل: ماذا قال ربك؟ قال: فيقول: الحق، فينادون: الحق الحق " وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قضى الله عز وجل الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا: [ ص: 453 ] للذي قال الحق وهو العلي الكبير "

    والثاني: أنهم يفزعون من قيام الساعة . وفي السبب الذي ظنوه بدنو الساعة ففزعوا، قولان .

    أحدهما: أنه لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ثم بعث الله محمدا، أنزل الله جبريل بالوحي، فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة، ومقاتل، وابن السائب . وقيل: لما علموا بالإيحاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فزعوا، لعلمهم أن ظهوره من أشراط الساعة .

    والثاني: أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا، يسمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا، ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا كلما مروا عليهم، رواه الضحاك عن ابن مسعود .

    والقول الثاني: أن الذي أشير إليهم المشركون; ثم في معنى الكلام قولان .

    أحدهما: أن المعنى: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت- إقامة للحجة عليهم- قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا: الحق، فأقروا حين لم ينفعهم الإقرار، قاله الحسن، وابن زيد .

    [ ص: 454 ] والثاني: حتى إذا كشف الغطاء عن قلوبهم يوم القيامة، قيل لهم: ماذا قال ربكم؟ قاله مجاهد .
    قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين . قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم . قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم

    قوله تعالى: قل من يرزقكم من السماوات يعني المطر والأرض يعني النبات والثمر . وإنما أمر أن يسأل الكفار عن هذا، احتجاجا عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة، وهم لا يثبتون رازقا سواه، ولهذا قيل له: قل الله لأنهم لا يجيبون بغير هذا; وهاهنا تم الكلام . ثم أمره أن يقول لهم: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين مذهب المفسرين أن " أو " هاهنا بمعنى الواو . وقال أبو عبيدة: معنى الكلام: وإنا لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين . وقال الفراء: معنى " أو " عند المفسرين معنى الواو، وكذلك هو في المعنى، غير أن العربية على غير ذلك، لا تكون " أو " بمنزلة الواو، ولكنها تكون في الأمر المفوض، كما تقول: إن شئت فخذ درهما أو اثنين، فله أن يأخذ واحدا أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة، وإنما معنى الآية: وإنا لضالون أو مهتدون، وإنكم أيضا لضالون أو مهتدون، وهو يعلم أن [ ص: 455 ] رسوله المهتدي، وأن غيره الضال، كما تقول للرجل تكذبه: والله إن أحدنا لكاذب- وأنت تعنيه- فكذبته تكذيبا غير مكشوف; ويقول الرجل: والله لقد قدم فلان، فيقول له من يعلم كذبه: قل: إن شاء الله، فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب; ومن كلام العرب أن يقولوا: قاتله الله، ثم يستقبحونها، فيقول: قاتعه الله، ويقول بعضهم :كاتعه الله; ويقولون: جوعا، دعاء على الرجل، ثم يستقبحونها فيقولون: جودا، وبعضهم يقول: جوسا; ومن ذلك قولهم: ويحك وويسك، وإنما هي في معنى " ويلك " إلا أنها دونها .

    قوله تعالى: قل لا تسألون عما أجرمنا أي: لا تؤاخذون به ولا نسأل عما تعملون من الكفر والتكذيب; والمعنى إظهار التبري منهم . وهذه الآية عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك .

    قوله تعالى: قل يجمع بيننا ربنا يعني عند البعث في الآخرة ثم يفتح بيننا أي يقضي بالحق أي: بالعدل وهو الفتاح القاضي العليم بما يقضي قل للكفار أروني الذين ألحقتم به شركاء أي: أعلموني من أي وجه ألحقتموهم وهم لا يخلقون ولا يرزقون كلا ردع وتنبيه; والمعنى: ارتدعوا عن هذا القول، وتنبهوا عن ضلالتكم، فليس الأمر على ما أنتم عليه .
    [ ص: 456 ] وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون

    قوله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس أي: عامة لجميع الخلائق . وفي الكلام تقديم، تقديره: وما أرسلناك إلا للناس كافة . وقيل: معنى " كافة للناس " : تكفهم عما هم عليه من الكفر، والهاء فيه للمبالغة .

    ويقولون متى هذا الوعد يعنون العذاب الذي يعدهم به في يوم القيامة; وإنما قالوا هذا، لأنهم ينكرون البعث، قل لكم ميعاد يوم وفيه قولان . أحدهما: أنه يوم الموت عند النزع والسياق، قاله الضحاك . والثاني: يوم القيامة، قاله أبو سليمان الدمشقي .
    [ ص: 457 ] وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون

    قوله تعالى: وقال الذين كفروا يعني مشركي مكة لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه يعنون التوراة والإنجيل، وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا: إن صفة محمد في كتابنا، فكفر أهل مكة بكتابهم .

    ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال: ولو ترى إذ الظالمون يعني مشركي مكة موقوفون عند ربهم في الآخرة يرجع بعضهم إلى بعض القول أي: يرد بعضهم على بعض في الجدال واللوم يقول الذين استضعفوا وهم الأتباع للذين استكبروا وهم الأشراف والقادة: لولا أنتم لكنا مؤمنين أي: مصدقين بتوحيد الله; والمعنى: أنتم منعتمونا عن الإيمان; فأجابهم المتبوعون فقالوا: أنحن صددناكم عن الهدى أي: منعناكم عن الإيمان بعد إذ جاءكم به الرسول؟ بل كنتم مجرمين بترك الإيمان- وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سببا للعداوة في الآخرة- فرد عليهم الأتباع فقالوا: بل مكر الليل والنهار أي: بل مكركم بنا في الليل والنهار . قال الفراء: [ ص: 458 ] وهذا مما تتوسع فيه العرب لوضوح معناه، كما يقولون: ليله قائم، ونهاره صائم، فتضيف الفعل إلى غير الآدميين، والمعنى لهم . وقال الأخفش: وهذا كقوله: من قريتك التي أخرجتك [محمد: 13] قال جرير:


    لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم


    وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: " بل مكر " بفتح الكاف والراء " الليل والنهار " برفعهما . وقرأ ابن يعمر: " بل مكر " بإسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها " الليل والنهار " بنصبهما .

    قوله تعالى: إذ تأمروننا أن نكفر بالله وذلك أنهم كانوا يقولون لهم: إن ديننا حق ومحمد كذاب، وأسروا الندامة وقد سبق بيانه في (يونس: 54) .

    قوله تعالى: وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا إذا دخلوا جهنم غلت أيديهم إلى أعناقهم، وقالت لهم خزنة جهنم: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا . قال أبو عبيدة: مجاز " هل " هاهنا مجاز الإيجاب، وليس باستفهام; والمعنى: ما تجزون إلا ما كنتم تعملون .

    وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون . وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون والذين [ ص: 459 ] يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون . قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين

    وما أرسلنا في قرية من نذير أي: نبي ينذر إلا قال مترفوها وهم أغنياؤها ورؤساؤها .

    قوله تعالى: وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا . في المشار إليهم [ ص: 460 ] قولان . أحدهما: أنهم المترفون من كل أمة . والثاني: مشركو مكة، فظنوا من جهلهم أن الله خولهم المال والولد لكرامتهم عليه، فقالوا: وما نحن بمعذبين لأن الله أحسن إلينا بما أعطانا فلا يعذبنا، فأخبر أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ; والمعنى أن بسط الرزق وتضييقه ابتلاء وامتحان، لا أن البسط يدل على رضى الله، ولا التضييق يدل على سخطه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك . ثم صرح بهذا المعنى بقوله: وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى قال الفراء: يصلح أن تقع " التي " على الأموال والأولاد جميعا، لأن الأموال جمع والأولاد جمع; وإن شئت وجهت " التي " إلى الأموال، واكتفيت بها من ذكر الأولاد; وأنشد لمرار الأسدي:


    نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف


    وقد شرحنا هذا في قوله: ولا ينفقونها في سبيل الله [التوبة: 34] وقال الزجاج: المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم، ولا أولادكم بالذين يقربونكم، فحذف اختصارا . وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وأبو الجوزاء: " باللاتي تقربكم " . قال الأخفش: و " زلفى " هاهنا اسم مصدر، كأنه قال: تقربكم عندنا ازدلافا . وقال ابن قتيبة : " زلفى " أي: قربى ومنزلة عندنا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #451
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ سَبَإٍ
    الحلقة (451)
    صــ 461 إلى صــ 470





    [ ص: 461 ] قوله تعالى: إلا من آمن قال الزجاج: المعنى: ما تقرب الأموال إلا من آمن وعمل بها في طاعة الله، فأولئك لهم جزاء الضعف والمراد به ها هنا عشر حسنات، تأويله: لهم جزاء الضعف الذي قد أعلمتكم مقداره . وقال ابن قتيبة : لم يرد فيما يرى أهل النظر- والله أعلم- أنهم يجازون بواحد مثله، ولا اثنين، ولكنه أراد جزاء التضعيف، وهو مثل يضم إلى مثل ما بلغ، وكأن الضعف الزيادة، فالمعنى: لهم جزاء الزيادة . وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ورويس، وزيد عن يعقوب: " لهم جزاء " بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلا " الضعف " بالرفع . وقرأ أبو الجوزاء، وقتادة، وأبو عمران الجوني: " لهم جزاء " بالرفع والتنوين " الضعف " بالرفع .

    قوله تعالى: وهم في الغرفات يعني [في] غرف الجنة، وهي البيوت فوق الأبنية . وقرأ حمزة: " في الغرفة " على التوحيد; أراد اسم الجنس . وقرأ الحسن، وأبو المتوكل: " في الغرفات " بضم الغين وسكون الراء مع الألف . وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: بضم الغين وفتح الراء مع الألف آمنون من الموت والغير . وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [الحج: 51، الرعد: 26 إلى قوله: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه أي: يأتي ببدله، يقال: أخلف الله له وعليه: إذا أبدل ما ذهب عنه وفي معنى الكلام أربعة أقوال .

    أحدها: ما أنفقتم من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه، قاله سعيد بن جبير .

    والثاني: ما أنفقتم في طاعته، فهو يخلفه في الآخرة بالأجر، قاله السدي .

    والثالث : ما أنفقتم في الخير والبر فهو يخلفه، إما أن يعجله في الدنيا، أو يدخره لكم في الآخرة، قاله ابن السائب .

    [ ص: 462 ] والرابع : أن الإنسان قد ينفق ماله في الخير ولا يرى له خلفا أبدا; وإنما معنى الآية: ما كان من خلف فهو منه، ذكره الثعلبي .

    قوله تعالى: وهو خير الرازقين لما دار على الألسن أن السلطان يرزق الجند، وفلان يرزق عياله، أي: يعطيهم، أخبر أنه خير المعطين .

    ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون . فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين . وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير

    [ ص: 463 ] قوله تعالى: ويوم يحشرهم جميعا يعني المشركين; وقال مقاتل: يعني الملائكة ومن عبدها ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وهذا استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين; فنزهت الملائكة ربها عن الشرك فـ قالوا سبحانك أي: تنزيها لك مما أضافوه إليك من الشركاء أنت ولينا من دونهم أي: نحن نتبرأ إليك منهم، ما توليناهم ولا اتخذناهم عابدين، ولسنا نريد وليا غيرك بل كانوا يعبدون الجن أي: يطيعون الشياطين في عبادتهم إيانا أكثرهم بهم أي: بالشياطين مؤمنون أي: مصدقون لهم فيما يخبرونهم من الكذب أن الملائكة بنات الله، فيقول الله تعالى: فاليوم يعني في الآخرة لا يملك بعضكم لبعض يعني العابدين والمعبودين نفعا بالشفاعة ولا ضرا بالتعذيب ونقول للذين ظلموا فعبدوا غير الله ذوقوا عذاب النار الآية .

    ثم أخبر أنهم يكذبون محمدا والقرآن بالآية التي تلي هذه، وتفسيرها ظاهر .

    ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بينة، ولم يكذبوا محمدا عن يقين، ولم يأتهم قبله كتاب ولا نبي يخبرهم بفساد أمره، فقال: وما آتيناهم من كتب يدرسونها قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن [ ص: 464 ] ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد; وهذا محمول على الذين أنذرهم نبينا [محمد] صلى الله عليه وسلم; وقد كان إسماعيل نذيرا للعرب .

    ثم أخبر عن عاقبة المكذبين قبلهم مخوفا لهم، فقال:

    وكذب الذين من قبلهم يعني الأمم الكافرة وما بلغوا معشار ما آتيناهم وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: ما بلغ كفار مكة معشار ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوة والمال وطول العمر، قاله الجمهور .

    والثاني: ما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا هؤلاء من الحجة والبرهان .

    والثالث : ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، حكاهما الماوردي .

    والمعشار: العشر . والنكير: اسم بمعنى الإنكار، قال الزجاج: والمعنى: فكيف كان نكيري; وإنما حذفت الياء، لأنه آخر آية .
    قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد . قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب

    قوله تعالى: قل إنما أعظكم أي: آمركم وأوصيكم بواحدة وفيها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها " لا إله إلا الله " ، رواه ليث عن مجاهد .

    [ ص: 465 ] والثاني: طاعة الله، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والثالث : أنها قوله: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ، قاله قتادة . والمعنى: أن التي أعظكم بها، قيامكم وتشميركم لطلب الحق، وليس بالقيام على الأقدام . والمراد بقوله: مثنى أي: يجتمع اثنان فيتناظران في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بـ فرادى : أن يتفكر الرجل وحده، ومعنى الكلام: ليتفكر الإنسان منكم وحده، وليخل بغيره، وليناظر، وليستشر، فيستدل بالمصنوعات على صانعها، ويصدق الرسول على اتباعه، وليقل الرجل لصاحبه: هلم فلنتصادق هل رأينا بهذا الرجل جنة قط، أو جربنا عليه كذبا قط . وتم الكلام عند قوله: ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ، وفيه اختصار تقديره: ثم تتفكروا لتعلموا صحة ما أمرتكم به وأن الرسول ليس بمجنون، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد في الآخرة .

    قوله تعالى: قل ما سألتكم من أجر على تبليغ الرسالة فهو لكم [ ص: 466 ] والمعنى: ما أسألكم شيئا; ومثله قول القائل ما لي في هذا فقد وهبته لك، يريد: ليس لي فيه شيء .

    قوله تعالى: قل إن ربي يقذف بالحق أي: يلقي الوحي إلى أنبيائه علام الغيوب وقرأ أبو رجاء : " علام " بنصب الميم .

    قل جاء الحق وهو الإسلام والقرآن .

    وفي المراد بالباطل ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الشيطان، لا يخلق أحدا ولا يبعثه، قاله قتادة .

    والثاني: أنه الأصنام، لا تبدئ خلقا ولا تحيي، قاله الضحاك . وقال أبو سليمان: لا يبتدئ الصنم من عنده كلاما فيجاب، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة .

    والثالث : أنه الباطل الذي يضاد الحق; فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحق، فلم تبق منه بقية يقبل بها أو يدبر أو يبدئ أو يعيد، ذكره جماعة من المفسرين .

    قوله تعالى: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي أي: إثم ضلالتي [ ص: 467 ] على نفسي، وذلك أن كفار مكة زعموا أنه قد ضل حين ترك دين آبائه وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي من الحكمة والبيان .
    ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب . وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد . وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب

    قوله تعالى: ولو ترى إذ فزعوا في زمان هذا الفزع قولان .

    أحدهما: أنه حين البعث من القبور، قاله الأكثرون .

    والثاني: أنه عند ظهور العذاب في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة . وقال سعيد بن جبير: هو الجيش الذي يخسف به بالبيداء، يبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقوا، وهذا حديث مشروح في التفسير، وأن هذا الجيش يؤم البيت الحرام لتخريبه، فيخسف بهم . وقال الضحاك وزيد بن أسلم: هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من المشركين .

    [ ص: 468 ] [ ص: 469 ] قوله تعالى: فلا فوت المعنى: فلا فوت لهم، أي: لا يمكنهم أن يفوتونا وأخذوا من مكان قريب فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: من مكانهم يوم بدر، قاله زيد بن أسلم . والثاني: من تحت أقدامهم بالخسف، قاله مقاتل . والثالث: من القبور، قاله ابن قتيبة . وأين كانوا، فهم من الله قريب .

    قوله تعالى: وقالوا أي: حين عاينوا العذاب آمنا به في هاء الكناية أربعة أقوال .

    أحدها: أنها تعود إلى الله عز وجل، قاله مجاهد . والثاني: إلى البعث، قاله الحسن . والثالث: إلى الرسول، قاله قتادة . والرابع: إلى القرآن، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: وأنى لهم التناوش قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " التناوش " غير مهموز . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم: بالهمز . قال الفراء: من همز جعله من " نأشت " ، ومن لم يهمز، جعله من " نشت " ، وهما متقاربان; والمعنى: تناولت الشيء، بمنزلة: ذمت الشيء وذأمته: إذا عبته; وقد تناوش القوم في القتال: إذ تناول بعضهم بعضا بالرماح، ولم يتدانوا كل التداني، وقد يجوز همز " التناؤش " وهي من " نشت " لانضمام الواو، مثل قوله: وإذا الرسل أقتت [المرسلات: 11] وقال الزجاج: من همز " التناؤش " فلأن واو التناوش مضمومة، وكل واو مضمومة ضمتها لازمة، إن شئت أبدلت منها همزة، وإن شئت لم تبدل، نحو: أدؤر . وقال ابن قتيبة : معنى الآية: وأنى لهم [ ص: 470 ] التناوش لما أرادوا بلوغه وإدراك ما طلبوا من التوبة من مكان بعيد وهو الموضع الذي تقبل فيه التوبة . وكذلك قال المفسرون: أنى لهم بتناول الإيمان والتوبة وقد تركوا ذلك في الدنيا والدنيا قد ذهبت؟!

    قوله تعالى: وقد كفروا به في هاء الكناية أربعة أقوال قد تقدمت في قوله: آمنا به [سبأ: 52] . ومعنى من قبل أي: في الدنيا من قبل معاينة أهوال الآخرة ويقذفون بالغيب أي: يرمون بالظن من مكان بعيد وهو بعدهم عن العلم بما يقولون .

    وفي المراد بمقالتهم هذه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم يظنون أنهم يردون إلى الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أنه قولهم في الدنيا: لا بعث لنا ولا جنة ولا نار، قاله الحسن، وقتادة .

    والثالث : أنه قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ساحر، هو كاهن، هو شاعر، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون أي: منع هؤلاء الكفار مما يشتهون، وفيه ستة أقوال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #452
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ فَاطِرٍ
    الحلقة (452)
    صــ 471 إلى صــ 480





    أحدها: أنه الرجوع إلى الدنيا، قاله ابن عباس . والثاني: الأهل والمال والولد، قاله مجاهد . والثالث: الإيمان، قاله الحسن . والرابع: طاعة الله، قاله قتادة . والخامس: التوبة، قاله السدي . والسادس: حيل بين الجيش الذي [ ص: 471 ] خرج لتخريب الكعبة وبين ذلك بأن خسف بهم، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: كما فعل وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب، وأبو عمران: " كما فعل " بفتح الفاء والعين بأشياعهم من قبل قال الزجاج: أي: بمن كان مذهبه مذهبهم . قال المفسرون: والمعنى: كما فعل بنظرائهم من الكفار من قبل هؤلاء، فإنهم حيل بينهم وبين ما يشتهون . وقال الضحاك: هم أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة إنهم كانوا في شك من البعث ونزول العذاب بهم مريب أي: موقع للريبة والتهمة .
    [ ص: 472 ] سُورَةُ فَاطِرٍ

    وَتُسَمَّى سُورَةَ الْمَلَائِكَةِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

    قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَيْ: خَالِقُهُمَا مُبْتَدِئًا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى اخْتَصَمَ أَعْرَابِيَّانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، أَيِ: ابْتَدَأَتُهَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ وَرَوَى الْحَلَبِيُّ وَالْقَزَّازُ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ: [ ص: 473 ] " جَاعِلٌ " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ " الْمَلَائِكَةَ " بِالنَّصْبِ رُسُلا يُرْسِلُهُمْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ أُولِي أَجْنِحَةٍ أَيْ: أَصْحَابَ أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَبَعْضُهُمْ لَهُ جَنَاحَانِ، وَبَعْضُهُمْ [لَهُ] ثَلَاثَةٌ، وَبَعْضُهُمْ لَهُ أَرْبَعَةٌ . وَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ زَادَ فِي خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ الْأَجْنِحَةَ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: يَزِيدُ فِي الْأَجْنِحَةِ مَا يَشَاءُ، رَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ .

    وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْخُلُقُ الْحَسَنُ، رَوَاهُ عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ .

    وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ حُسْنُ الصَّوْتِ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ .

    وَالْخَامِسُ: الْمَلَاحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أَيْ: مِنْ خَيْرٍ وَرِزْقٍ . وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْمَطَرَ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : " فَلَا مُمْسِكَ لَهُ " . وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ إِمْسَاكَ مَا فَتَحَ وَفَتْحَ مَا أَمْسَكَ .
    يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون . وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا [ ص: 474 ] ولا يغرنكم بالله الغرور . إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير

    قوله تعالى: يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم قال المفسرون: الخطاب لأهل مكة، و اذكروا بمعنى " احفظوا " ونعمة الله عليهم: إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم .

    هل من خالق غير الله وقرأ حمزة والكسائي: " غير الله " بخفض الراء; قال أبو علي: جعلاه صفة على اللفظ، وذلك حسن لإتباع الجر . وهذا استفهام تقرير وتوبيخ; والمعنى: لا خالق سواه يرزقكم من السماء المطر و من (الأرض) النبات ، وما بعد هذا قد سبق بيانه [الأنعام: 95 آل عمران: 184، البقرة: 210، لقمان: 33] إلى قوله: إن الشيطان لكم عدو أي: إنه يريد هلاككم فاتخذوه عدوا أي: أنزلوه من أنفسكم منزلة الأعداء، وتجنبوا طاعته إنما يدعو حزبه أي: شيعته إلى الكفر ليكونوا من أصحاب السعير .
    أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون . والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور

    [ ص: 475 ] قوله تعالى أفمن زين له سوء عمله اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها نزلت في أبي جهل ومشركي مكة، قاله ابن عباس .

    والثاني: في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى، قاله سعيد بن جبير .

    والثالث : أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله أبو قلابة .

    فإن قيل: أين جواب أفمن زين له ؟ .

    فالجواب من وجهين ذكرهما الزجاج .

    أحدهما: أن الجواب محذوف; والمعنى: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟! ويدل على هذا قوله: فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء .

    والثاني: أن المعنى: أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليهم حسرات؟! ويدل على هذا قوله:فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .

    [ ص: 476 ] وقرأ أبو جعفر: " فلا تذهب " بضم التاء وكسر الهاء " نفسك " بنصب السين .

    وقال ابن عباس: لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرة على تركهم الإيمان .

    قوله تعالى: فتثير سحابا أي: تزعجه من مكانه; وقال أبو عبيدة: تجمعه وتجيء به، و سقناه بمعنى " نسوقه " ; والعرب قد تضع " فعلنا " في موضع " نفعل " وأنشدوا:

    إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني وما سمعوا من صالح دفنوا

    المعنى: يطيروا ويدفنوا .

    قوله تعالى: كذلك النشور وهو الحياة . وفي معنى الكلام قولان .

    أحدهما: كما أحيا الله الأرض بعد موتها يحيي الموتى يوم البعث . روى أبو رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله: كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: " هل مررت بوادي أهلك محلا، ثم مررت به يهتز خضرا؟ " قلت: نعم، قال: " فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه " .

    والثاني: كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يحيي الله الموتى بالماء .

    [ ص: 477 ] قال ابن مسعود : يرسل الله تعالى ماء من تحت العرش كمني الرجال، قال: فتنبت لحمانهم وجسمانهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ هذه الآية . وقد ذكرنا في (الأعراف: 57) نحو هذا الشرح .
    من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور

    قوله تعالى: من كان يريد العزة فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فلله العزة جميعا ، قاله مجاهد .

    والثاني: من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله، قاله قتادة . وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز "

    والثالث : من كان يريد العزة لمن هي، فإنها لله جميعا، قاله الفراء .

    قوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرحمن السلمي، والنخعي، والجحدري، والشيزري عن الكسائي: [ ص: 478 ] " يصعد الكلام الطيب " وهو توحيده وذكره والعمل الصالح يرفعه قال علي بن المديني: الكلم الطيب: لا إله إلا الله، والعمل الصالح: أداء الفرائض واجتناب المحارم .

    وفي هاء الكناية في قوله: يرفعه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها ترجع إلى الكلم الطيب; فالمعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك . وكان الحسن يقول: يعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل قبل، وإن خالف رد .

    والثاني: أنها ترجع إلى العمل الصالح، فالمعنى: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، فهو عكس القول الأول، وبه قال أبو صالح، وشهر بن حوشب . فإذا قلنا: إن الكلم الطيب هو التوحيد، كانت فائدة هذا القول أنه لا يقبل عمل صالح إلا من موحد .

    والثالث : أنها ترجع إلى الله عز وجل; فالمعنى: والعمل الصالح يرفعه الله إليه، أي: يقبله، قاله قتادة .

    قوله تعالى: والذين يمكرون السيئات قال أبو عبيدة: يمكرون: بمعنى: يكتسبون ويجترحون . ثم في المشار إليهم أربعة أقوال . [ ص: 479 ] أحدها: أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، قاله أبو العالية .

    والثاني: أنهم أصحاب الرياء، قاله مجاهد ، وشهر بن حوشب .

    والثالث : أنهم الذين يعملون السيئات، قاله قتادة، وابن السائب .

    والرابع : أنهم قائلو الشرك، قاله مقاتل .

    وفي معنى يبور قولان .

    أحدهما: يبطل، قاله ابن قتيبة . والثاني: يفسد، قاله الزجاج .
    والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير . وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية [ ص: 480 ] تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير

    قوله تعالى: والله خلقكم من تراب يعني آدم ثم من نطفة يعني نسله ثم جعلكم أزواجا أي: أصنافا، ذكورا وإناثا; قال قتادة: زوج بعضهم ببعض .

    قوله تعالى: وما يعمر من معمر أي: ما يطول عمر أحد ولا ينقص وقرأ الحسن، ويعقوب: " ينقص " بفتح الياء وضم القاف من عمره في هذه الهاء قولان .

    أحدهما: أنها كناية عن آخر، فالمعنى: ولا ينقص من عمر آخر; وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في آخرين . قال الفراء: وإنما كني عنه كأنه الأول، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول ،كأنه قال: ولا ينقص من عمر معمر، ومثله في الكلام: عندي درهم ونصفه; والمعنى: ونصف آخر .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #453
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ فَاطِرٍ
    الحلقة (453)
    صــ 481 إلى صــ 490






    والثاني: أنها ترجع إلى المعمر المذكور; فالمعنى: ما يذهب من عمر هذا المعمر يوم أو ليلة إلا وذلك مكتوب; قال سعيد بن جبير: مكتوب في أول الكتاب: عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل من ذلك: ذهب يوم، [ ص: 481 ] ذهب يومان، ذهبت ثلاثة، إلى أن ينقطع عمره; وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين .

    فأما الكتاب، فهو اللوح المحفوظ .

    وفي قوله إن ذلك على الله يسير قولان .

    أحدهما: أنه يرجع إلى كتابة الآجال . والثاني: إلى زيادة العمر ونقصانه .

    قوله تعالى: وما يستوي البحران يعني العذب والملح; وهذه الآية وما بعدها قد سبق بيانها [الفرقان: 53، النحل: 14، آل عمران: 27، الرعد: 2] إلى قوله: ما يملكون من قطمير قال ابن عباس: هو القشر الذي يكون على ظهر النواة .

    قوله تعالى: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأنهم جماد ولو سمعوا بأن يخلق الله لهم أسماعا ما استجابوا لكم أي: لم يكن عندهم إجابة ويوم القيامة يكفرون بشرككم أي: يتبرؤون من عبادتكم ولا ينبئك يا محمد مثل خبير أي: عالم بالأشياء، يعني نفسه عز وجل; والمعنى أنه لا أخبر منه عز وجل بما أخبر أنه سيكون .
    [ ص: 482 ] يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد . وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير . وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور . ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير

    يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله أي: المحتاجون إليه والله هو الغني عن عبادتكم الحميد عند خلقه بإحسانه إليهم . وما بعد هذا قد تقدم [ ص: 483 ] بيانه [إبراهيم: 19، الأنعام: 164] إلى قوله: وإن تدع مثقلة أي: نفس مثقلة بالذنوب إلى حملها الذي حملت من الخطايا لا يحمل منه شيء ولو كان الذي تدعوه ذا قربى ذا قرابة إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب أي: يخشونه ولم يروه; والمعنى: إنما تنفع بإنذارك أهل الخشية، فكأنك تنذرهم دون غيرهم لمكان اختصاصهم بالانتفاع، ومن تزكى أي: تطهر من الشرك والفواحش، وفعل الخير فإنما يتزكى لنفسه أي: فصلاحه لنفسه وإلى الله المصير فيجزي بالأعمال .

    وما يستوي الأعمى والبصير يعني المؤمن والمشرك ولا الظلمات يعني الشرك والضلالات ولا النور الهدى والإيمان، ولا الظل ولا الحرور فيه قولان .

    أحدهما: ظل الليل وسموم النهار، قاله عطاء .

    والثاني: الظل: الجنة، والحرور: النار، قاله مجاهد . قال الفراء: الحرور بمنزلة السموم، وهي الرياح الحارة . والحرور تكون بالنهار وبالليل، والسموم لا تكون إلا بالنهار . وقال أبو عبيدة: الحرور تكون بالنهار مع الشمس، وكان رؤبة يقول: الحرور بالليل، والسموم بالنهار .

    قوله تعالى: وما يستوي الأحياء ولا الأموات فيهم قولان .

    أحدهما: أن الأحياء: المؤمنون، والأموات: الكفار .

    والثاني: أن الأحياء: العقلاء، والأموات: الجهال . [ ص: 484 ] وفي " لا " المذكورة في هذه الآية قولان .

    أحدهما: أنها زائدة مؤكدة . والثاني: أنها نافية لاستواء أحد المذكورين مع الآخر .

    قال قتادة: هذه أمثال ضربها الله تعالى للمؤمن والكافر، يقول: كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن .

    إن الله يسمع من يشاء أي: يفهم من يريد إفهامه وما أنت بمسمع من في القبور وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والجحدري: " بمسمع من " على الإضافة; يعني الكفار، شبههم بالموتى، إن أنت إلا نذير قال بعض المفسرين: نسخ معناها بآية السيف .

    [ ص: 485 ] قوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أي: ما من أمة إلا قد جاءها رسول . وما بعد هذا قد سبق بيانه [آل عمران: 184، الحج: 44] إلى قوله: فكيف كان نكير أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، ووافقه في الوصل ورش .
    ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور

    قوله تعالى: ومن الجبال جدد بيض أي: ومما خلقنا من الجبال جدد . قال ابن قتيبة : الجدد: الخطوط والطرائق تكون في الجبال، فبعضها بيض، وبعضها حمر، وبعضها غرابيب سود، والغرابيب جمع غربيب، وهو الشديد السواد، يقال: أسود غربيب، وتمام الكلام عند قوله: كذلك ، يقول: من الجبال مختلف ألوانه، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك أي: كاختلاف الثمرات . قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وسود غرابيب، لأنه يقال: أسود غربيب، [ ص: 486 ] وقلما يقال: غربيب أسود . وقال الزجاج: المعنى: ومن الجبال غرابيب سود، وهي ذوات الصخر الأسود . وقال ابن دريد: الغربيب: الأسود، أحسب أن اشتقاقه من الغراب .

    وللمفسرين في المراد بالغرابيب ثلاثة أقوال .

    أحدها: الطرائق السود، قاله ابن عباس . والثاني: الأودية السود، قاله قتادة . والثالث: الجبال السود، قاله السدي .

    ثم ابتدأ فقال: إنما يخشى الله من عباده العلماء يعني العلماء بالله عز وجل . قال ابن عباس: يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني . وقال مجاهد والشعبي: العالم من خاف الله . وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم .
    إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير

    قوله تعالى: إن الذين يتلون كتاب الله يعني قراء القرآن، فأثنى عليهم بقراءة القرآن; وكان مطرف يقول: هذه آية القراء .

    وفي قوله: يتلون قولان . أحدهما: يقرؤون . والثاني: يتبعون . [ ص: 487 ] قال أبو عبيدة: وأقاموا الصلاة بمعنى ويقيمون، وهو إدامتها لمواقيتها وحدودها .

    قوله تعالى: يرجون تجارة قال الفراء: هذا جواب قوله: إن الذين يتلون . قال المفسرون: والمعنى: يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسد ولن تهلك ولن تكسد ليوفيهم أجورهم أي: جزاء أعمالهم ويزيدهم من فضله قال ابن عباس: سوى الثواب ما لم تر عين ولم تسمع أذن .

    فأما الشكور، فقال الخطابي: هو الذي يشكر اليسير من الطاعة، فيثيب عليه الكثير من الثواب، ويعطي الجزيل من النعمة، ويرضى باليسير من الشكر; ومعنى الشكر المضاف إليه: الرضى بيسير الطاعة من العبد، والقبول له، وإعظام الثواب عليه; وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشكور ترغيب الخلق في الطاعة قلت أو كثرت، لئلا يستقلوا القليل من العمل، ولا يتركوا اليسير منه .
    إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير

    قوله تعالى: إن الذين يتلون كتاب الله يعني قراء القرآن، فأثنى عليهم بقراءة القرآن; وكان مطرف يقول: هذه آية القراء .

    وفي قوله: يتلون قولان . أحدهما: يقرؤون . والثاني: يتبعون . [ ص: 487 ] قال أبو عبيدة: وأقاموا الصلاة بمعنى ويقيمون، وهو إدامتها لمواقيتها وحدودها .

    قوله تعالى: يرجون تجارة قال الفراء: هذا جواب قوله: إن الذين يتلون . قال المفسرون: والمعنى: يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسد ولن تهلك ولن تكسد ليوفيهم أجورهم أي: جزاء أعمالهم ويزيدهم من فضله قال ابن عباس: سوى الثواب ما لم تر عين ولم تسمع أذن .

    فأما الشكور، فقال الخطابي: هو الذي يشكر اليسير من الطاعة، فيثيب عليه الكثير من الثواب، ويعطي الجزيل من النعمة، ويرضى باليسير من الشكر; ومعنى الشكر المضاف إليه: الرضى بيسير الطاعة من العبد، والقبول له، وإعظام الثواب عليه; وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشكور ترغيب الخلق في الطاعة قلت أو كثرت، لئلا يستقلوا القليل من العمل، ولا يتركوا اليسير منه .
    ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير . جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير

    قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب في " ثم " وجهان; أحدهما: أنها بمعنى الواو، والثاني: أنها للترتيب . والمعنى: أنزلنا الكتب المتقدمة، ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا وفيهم قولان .

    أحدهما: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنهم الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن .

    [ ص: 488 ] وفي الكتاب قولان .

    أحدهما: أنه اسم جنس والمراد به الكتب التي أنزلها الله عز وجل، وهذا يخرج على القولين . فإن قلنا: الذين اصطفوا أمة محمد، فقد قال ابن عباس: إن الله أورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم كل كتاب أنزله . وقال ابن جرير الطبري: ومعنى ذلك: أورثهم الإيمان بالكتب كلها- وجميع الكتب تأمر باتباع القرآن- فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها; واستدل على صحة هذا القول بأن الله تعالى قال في الآية التي قبل هذه: والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق وأتبعه بقوله: ثم أورثنا الكتاب فعلمنا أنهم أمة محمد، إذ كان معنى الميراث: انتقال شيء من قوم، إلى قوم ولم تكن أمة على عهد نبينا انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته . فإن قلنا: هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى: أورثنا كل كتاب أنزل على نبي ذلك النبي وأتباعه .

    والقول الثاني: أن المراد بالكتاب القرآن .

    وفي معنى أورثنا قولان .

    أحدهما: أعطينا، لأن الميراث عطاء، قاله مجاهد .

    والثاني: أخرنا، ومنه الميراث، لأنه تأخر عن الميت فالمعنى: أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة، إكراما لها، ذكره بعض أهل المعاني .

    قوله تعالى: فمنهم ظالم لنفسه فيه أربعة أقوال .

    [ ص: 489 ] أحدها: أنه صاحب الصغائر; روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له " . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، قال: " كلهم في الجنة " .

    والثاني: أنه الذي مات على كبيرة ولم يتب منها، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثالث : أنه الكافر، رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس، وقد رواه ابن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا يكون الاصطفاء لجملة من أنزل عليه الكتاب، كما قال: وإنه لذكر لك ولقومك [الزخرف: 44] أي: لشرف لكم، وكم من مكرم لم يقبل الكرامة!

    والرابع : أنه المنافق: حكي عن الحسن . وقد روي عن الحسن أنه [ ص: 490 ] قال: الظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد: الذي قد استوت حسناته وسيئاته، والسابق: من رجحت حسناته . وروي عن عثمان بن عفان أنه تلا هذه الآية، فقال: سابقنا أهل جهادنا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا .

    قوله تعالى: ومنهم سابق وقرأ أبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع: " سباق " مثل: فعال بالخيرات أي: بالأعمال الصالحة إلى الجنة، أو إلى الرحمة بإذن الله أي: بإرادته وأمره ذلك هو الفضل الكبير يعني إيراثهم الكتاب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #454
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ فَاطِرٍ
    الحلقة (454)
    صــ 491 إلى صــ 499





    ثم أخبر بثوابهم، فجمعهم في دخول الجنة فقال: جنات عدن يدخلونها قرأ أبو عمرو وحده: " يدخلونها " بضم الياء; وفتحها الباقون وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: (ولؤلؤا) بالنصب . وروى [ ص: 491 ] أبو بكر عن عاصم أنه كان يهمز الواو الثانية ولا يهمز الأولى; وفي رواية أخرى أنه كان يهمز الأولى ولا يهمز الثانية . والآية مفسرة في سورة (الحج: 23) . قال كعب: تحاكت مناكبهم ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم .
    وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور . الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور . وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا

    ثم أخبر عما يقولون عند دخولها، وهو قوله: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن الحزن و الحزن واحد، كالبخل والبخل .

    وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال . أحدها: أنه الحزن لطول المقام في المحشر . روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أما السابق، فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد، فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه، فإنه حزين في ذلك المقام " ، فهو الحزن والغم، وذلك قوله تعالى: الحمد لله الذي [ ص: 492 ] أذهب عنا الحزن .

    والثاني: أنه الجوع، رواه أبو الدرداء أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ولا يصح]، وبه قال شمر بن عطية . وفي لفظ عن شمر أنه قال: الحزن: هم الخبز، وكذلك روي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحزن: هم الخبز في الدنيا .

    والثالث : أنه حزن النار، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

    والرابع : حزنهم في الدنيا على ذنوب سلفت منهم، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والخامس: حزن الموت، قاله عطية .

    والآية عامة في هذه الأقوال وغيرها، ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه، وإنما حزنوا على ذنوبهم وما يوجبه الخوف .

    [ ص: 493 ] قوله تعالى: الذي أحلنا أي: أنزلنا دار المقامة قال الفراء: المقامة هي الإقامة، والمقامة: المجلس، بالفتح لا غير، قال الشاعر:


    يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب


    قوله تعالى: من فضله قال الزجاج: أي: بتفضله، لا بأعمالنا . والنصب: التعب . واللغوب: الإعياء من التعب . ومعنى " لغوب " : شيء يلغب; أي: لا نتكلف شيئا نعنى منه .

    قوله تعالى: لا يقضى عليهم فيموتوا أي: يهلكون فيستريحوا مما هم فيه، ومثله: فوكزه موسى فقضى عليه [القصص: 51] .

    [ ص: 494 ] قوله تعالى: كذلك نجزي كل كفور وقرأ أبو عمرو: " يجزى " بالياء " كل " برفع اللام . وقرأ الباقون: " نجزي " بالنون " كل " بنصب اللام .

    قوله تعالى: وهم يصطرخون فيها وهو افتعال من الصراخ: والمعنى: يستغيثون، فيقولون: ربنا أخرجنا نعمل صالحا أي: نوحدك ونطيعك غير الذي كنا نعمل من الشرك والمعاصي; فوبخهم الله تعالى بقوله: أولم نعمركم قال أبو عبيدة: معناه التقرير، وليس باستفهام; والمعنى: أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر؟!

    وفي مقدار هذا التعمير أربعة أقوال .

    أحدها: أنه سبعون سنة، قال ابن عمر: هذه الآية تعبير لأبناء السبعين .

    والثاني: أربعون سنة .

    والثالث : ستون سنة، رواهما مجاهد عن ابن عباس، وبالأول منهما قال الحسن، وابن السائب .

    والرابع : ثماني عشرة سنة، قاله عطاء، ووهب بن منبه، وأبو العالية، وقتادة .

    قوله تعالى: وجاءكم النذير فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الشيب، قاله ابن عمر، وعكرمة، وسفيان بن عيينة; والمعنى: أو لم نعمركم حتى شبتم؟! . والثاني: النبي صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة، وابن زيد، [ ص: 495 ] وابن السائب، ومقاتل . والثالث: موت الأهل والأقارب . والرابع: الحمى، ذكرهما الماوردي .

    قوله تعالى: فذوقوا يعني: العذاب فما للظالمين من نصير أي: من مانع يمنع عنهم . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [المائدة: 7] إلى قوله: خلائف في الأرض وهي الأمة التي خلفت من قبلها ورأت فيمن تقدمها ما ينبغي أن تعتبر به فمن كفر فعليه كفره أي: جزاء كفره .
    قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا . إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا

    قوله تعالى: أرأيتم شركاءكم المعنى: أخبروني عن الذين عبدتم من دون الله واتخذتموهم شركاء بزعمكم، بأي شيء أوجبتم لهم الشركة في العبادة؟! أبشيء [ ص: 496 ] خلقوه من الأرض، أم شاركوا خالق السماوات في خلقها؟! ثم عاد إلى الكفار فقال: أم آتيناهم كتابا يأمرهم بما يفعلون فهم على بينت منه قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، وحفص عن عاصم: " على بينة " على التوحيد . وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " بينات " جمعا . والمراد: البيان بأن مع الله شريكا بل إن يعد الظالمون يعني المشركين يعد بعضهم بعضا أن الأصنام تشفع لهم، وأنه لا حساب عليهم ولا عقاب . وقال مقاتل: ما يعد الشيطان الكفار من شفاعة الآلهة إلا باطلا .

    قوله تعالى: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا أي: يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع . قال الفراء: (ولئن) بمعنى " ولو " ، و " إن " بمعنى " ما " ، فالتقدير: ولو زالتا ما أمسكهما من أحد . وقال الزجاج: لما قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، كادت السماوات يتفطرن والجبال أن تزول والأرض أن تنشق، فأمسكها الله عز وجل; وإنما وحد " الأرض " مع جمع " السموات " ، لأن الأرض تدل على الأرضين . ولئن زالتا تحتمل وجهين . أحدهما: زوالهما يوم القيامة . والثاني: أن يقال تقديرا: وإن لم تزولا، وهذا مكان يدل على القدرة، غير أنه ذكر الحلم فيه، لأنه لما أمسكهما [ ص: 497 ] عند قولهم: اتخذ الرحمن ولدا [مريم: 88]، حلم فلم يعجل لهم العقوبة .
    وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا . استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا

    قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم يعني كفار مكة حلفوا بالله قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لئن جاءهم نذير أي: رسول الله ليكونن أهدى أي: أصوب دينا من إحدى الأمم يعني اليهود والنصارى والصابئين فلما جاءهم نذير وهو محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم مجيئه إلا نفورا أي: تباعدا عن الهدى، استكبارا في الأرض أي: عتوا على الله وتكبرا عن الإيمان به . قال الأخفش: نصب " استكبارا " على البدل من النفور . قال الفراء: المعنى: [ ص: 498 ] فعلوا ذلك استكبارا ومكر السيئ ، فأضيف المكر إلى السيئ، كقوله: وإنه لحق اليقين [الحاقة: 51]، وتصديقه في قراءة عبد الله: " ومكرا سيئا " ، والهمزة في " السيئ " مخفوضة، وقد جزمها الأعمش وحمزة، لكثرة الحركات; قال الزجاج: وهذا عند النحويين الحذاق لحن، إنما يجوز في الشعر اضطرارا . وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على " مكر السيئ " فيترك الحركة، وهو وقف حسن تام، فغلط الراوي، فروى أنه كان يحذف الإعراب في الوصل، فتابع حمزة الغالط، فقرأ في الإدراج بترك الحركة .

    وللمفسرين في المراد بـ ( مكر السيئ ) قولان .

    أحدهما: أنه الشرك . قال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك .

    والثاني: أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: فهل ينظرون أي: ينتظرون إلا سنت الأولين أي: إلا أن ينزل العذاب بهم كما نزل بالأمم المكذبة قبلهم فلن تجد لسنت الله في العذاب تبديلا وإن تأخر ولن تجد لسنت الله تحويلا أي: لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم إلى غيرهم .

    أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء [ ص: 499 ] في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا

    قوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا هذا عام، وبعضهم يقول: أراد بالناس المشركين . والمعنى:لو يؤاخذهم بأفعالهم لعجل لهم العقوبة . وقد شرحنا هذه الآية في (النحل: 61) . وما أخللنا به فقد سبق بيانه [يوسف: 109، الروم: 9، الأعراف: 34، النحل: 61] .

    قوله تعالى: فإن الله كان بعباده بصيرا قال ابن جرير: بصيرا بمن يستحق العقوبة ومن يستوجب الكرامة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #455
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ يَس
    الحلقة (455)
    صــ 3 إلى صــ 10




    [ ص: 3 ] سُورَةُ يَس

    وَفِيهَا قَوْلَانِ

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْجُمْهُورُ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آَيَةً مِنْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس: 45] .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَقَالَ: لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ . إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ

    وَفِي قَوْلِهِ: يس خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهَا: يَا إِنْسَانُ، بِالْحَبَشِيَّة ِ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: يَا مُحَمَّدُ، قَالَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالضَّحَّاكُ .

    [ ص: 4 ] وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: يَا رَجُلُ، قَالَهُ الْحَسَنُ .

    وَالْخَامِسُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: "يَسِنِ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ . وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالنُّونِ جَمِيعًا . وَقَرَأَ أَبُو حَصِينٍ الْأَسَدِيُّ: بِكَسْرِ الْيَاءِ وَإِظْهَارِ النُّونِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَالَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ افْتِتَاحِ السُّوَرِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: "يَسِنُ وَالْقُرْآَنُ" بِفَتْحِ النُّونِ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنْ "يَس" اسْمٌ لِلسُّورَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْلُ يَس، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ هَابِيلَ وَقَابِيلَ لَا يَنْصَرِفُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ فُتِحَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالتَّسْكِينُ أَجْوَدُ، لِأَنَّهُ حَرْفُ هِجَاءٍ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ هَذَا قَسَمٌ، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى "الْحَكِيمِ" [الْبَقَرَةِ: 32]، قَالَ الزَّجَّاجُ : وَجَوَابُهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَحْسَنُ مَا جَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ "لِمَنَ الْمُرْسَلِينَ" خَبَرُ "إِنَّ"، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ خَبَرًا ثَانِيًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّكَ لِمَنَ الْمُرْسَلِينَ، إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "عَلَى صِرَاطٍ" مِنْ صِلَةِ "الْمُرْسَلِينَ" ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّكَ لِمَنَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا عَلَى طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو : "تَنْزِيلُ" [ ص: 5 ] بِرَفْعِ اللَّامِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ : "تَنْزِيلَ" بِنَصْبِ اللَّامِ . وَعَنْ عَاصِمٍ كَالْقِرَاءَتَي ْنِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، فَعَلَى الْمَصْدَرِ، عَلَى مَعْنَى: نَزَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَنْزِيلًا، وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ، فَعَلَى مَعْنَى: الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ نَصَبَ أَرَادَ إِنَّكَ لِمَنَ الْمُرْسَلِينَ تَنْزِيلًا حَقًّا مُنْزَلًا وَيَكُونُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ . وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَبُو رَزِينٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيّ ُ " "تَنْزِيلِ" بِكَسْرِ اللَّامِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا الْقُرْآَنُ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ، الرَّحِيمِ بِخَلْقِهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فِي "مَا" قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَفْيٌ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالزَّجَّاجُ فِي الْأَكْثَرِينَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى "كَمَا"، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى "الَّذِي" .

    قَوْلُهُ تَعَالَى" فَهُمْ غَافِلُونَ أَيْ: عَنْ حُجَجِ التَّوْحِيدِ وَأَدِلَّةِ الْبَعْثِ .
    لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون . إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون . وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم . إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين .

    لقد حق القول فيه قولان . أحدهما: وجب العذاب . والثاني: سبق القول بكفرهم .

    [ ص: 6 ] قوله تعالى: على أكثرهم يعني أهل مكة، وهذه إشارة إلى إرادة الله تعالى السابقة لكفرهم فهم لا يؤمنون لما سبق من القدر بذلك .

    إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها مثل، وليس هناك غل حقيقة، قاله أكثر المحققين، ثم لهم فيه ثلاثة أقوال . أحدها أنها مثل لمنعهم عن كل خير، قاله قتادة . والثاني: لحبسهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع كالأغلال، قاله الفراء، وابن قتيبة . والثالث: لمنعهم من الإيمان بالله، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    والقول الثاني: أنها موانع حسية منعت كما يمنع الغل; قال مقاتل بن سليمان: حلف أبو جهل لئن رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ليدمغنه، فجاءه وهو يصلي، فرفع حجرا فيبست يده والتصق الحجر بيده، فرجع إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، فقام رجل منهم فأخذ الحجر، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم طمس الله على بصره فلم يره فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فنزل في أبي جهل: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا . . . الآية، ونزل في الآخر: وجعلنا من بين أيديهم سدا .

    [ ص: 7 ] والقول الثالث: أنه على حقيقته، إلا أنه وصف لما سينزله الله تعالى بهم في النار، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: فهي إلى الأذقان قال الفراء "فهي" كناية عن الإيمان، ولم تذكر، لأن الغل لا يكون إلا في اليمين والعنق جامعا لهما، فاكتفي بذكر أحدهما عن صاحبه . وقال الزجاج : "هي" كناية عن الأيدي، ولم يذكر إيجازا، لأن الغل يتضمن اليد والعنق، وأنشد:


    وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني


    وإنما قال: أيهما، لأنه قد علم أن الخير والشر معرضان للإنسان . قال الفراء: والذقن أسفل اللحيين، والمقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه . قال أبو عبيدة: كل رافع رأسه فهو مقامح وقامح، والجمع: قماح، فإن فعل ذلك بإنسان فهو مقمح، ومنه هذه الآية . وقال ابن قتيبة : يقال: بعير قامح، وإبل قماح: إذا رويت من الماء فقمحت، قال الشاعر -وذكر سفينة-:


    ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح


    وقال الأزهري: المراد أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم; رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها .

    [ ص: 8 ] قوله تعالى: وجعلنا من بين أيديهم سدا قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بفتح السين، والباقون: بضمها وقد تكلمنا على الفرق [بينهما] في [الكهف: 94] . وفي معنى الآية قولان .

    أحدهما: منعناهم عن الإيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج عن الكفر .

    والثاني: حجبناهم عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظلمة لما قصدوه بالأذى

    قوله تعالى فأغشيناهم قال ابن قتيبة : أغشينا عيونهم وأعميناهم عن الهدى .

    وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ويحيى بن يعمر: "فأعشيناهم" بعين غير معجمة . ثم ذكر أن الإنذار لا ينفعهم لإضلاله إياهم بالآية التي بعد هذه . ثم أخبر عمن ينفعه الإنذار بقوله: إنما تنذر أي: إنما ينفع إنذارك من اتبع الذكر وهو القرآن، فعمل به وخشي الرحمن بالغيب وقد شرحناه في [الأنبياء: 49]، والأجر الكريم: الحسن، وهو الجنة . إنا نحن نحيي الموتى للبعث ونكتب ما قدموا من خير وشر في دنياهم . وقرأ النخعي، والجحدري : "ويكتب" بياء مرفوعة وفتح التاء "وآثارهم" برفع الراء .

    وفي آثارهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها خطاهم بأرجلهم، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة . قال أبو سعيد الخدري: شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: ونكتب ما قدموا وآثارهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم منازلكم، فإنما تكتب آثاركم"، وقال قتادة وعمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلا شيئا، لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدم ابن آدم . [ ص: 9 ] والثاني: أنها الخطا إلى الجمعة، قاله أنس بن مالك .

    والثالث: ما أثروا من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعدهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، واختاره الفراء، وابن قتيبة ، والزجاج .

    قوله تعالى: وكل شيء وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: "وكل" برفع اللام، أي: من الأعمال أحصيناه أي: حفظناه في إمام مبين وهو اللوح المحفوظ .
    [ ص: 10 ] واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون . إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون . قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون . قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون . وما علينا إلا البلاغ المبين . قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم . قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون .

    قوله تعالى: واضرب لهم مثلا المعنى: صف لأهل مكة مثلا; أي: شبها . وقال الزجاج : المعنى: مثل لهم مثلا أصحاب القرية وهو بدل من مثل، كأنه قال: اذكر لهم أصحاب القرية . وقال عكرمة، وقتادة: هذه القرية هي أنطاكية .

    إذ أرسلنا إليهم اثنين وفي اسميهما ثلاثة أقوال . أحدها: صادق وصدوق، قاله ابن عباس، وكعب . والثاني: يوحنا وبولس، قاله وهب بن منبه . والثالث: تومان وبولس، قاله مقاتل .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #456
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ يَس
    الحلقة (456)
    صــ 11 إلى صــ 20





    [ ص: 11 ] قوله تعالى: فعززنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: "فعززنا" بتشديد الزاي، قال ابن قتيبة : المعنى: قوينا وشددنا، يقال: تعزز لحم الناقة: إذا صلب . وقرأ أبو بكر، والمفضل عن عاصم: "فعززنا" خفيفة، قال أبو علي: أراد: فغلبنا . قال مقاتل: واسم هذا الثالث شمعون، وكان من الحواريين، وهو وصي عيسى عليه السلام . قال وهب: وأوحى الله إلى شمعون يخبره خبر الاثنين ويأمره بنصرتهما، فانطلق يؤمهما . وذكر الفراء أن هذا الثالث كان قد أرسل قبلهما; قال: ونراه في التنزيل كأنه بعدهما، وإنما المعنى: فعززنا بالثالث الذي قبلهما، والمفسرون على أنه إنما أرسل لنصرتهما، ثم إن الثالث إنما يكون بعد ثان، فأما إذا سبق الاثنين فهو أول; وإني لأتعجب من قول الفراء . واختلف المفسرون فيمن أرسل هؤلاء الرسل على قولين . أحدهما: أن الله تعالى أرسلهم، وهو ظاهر القرآن، وهو مروي عن ابن عباس، وكعب، ووهب .

    والثاني: أن عيسى أرسلهم، وجاز أن يضاف ذلك إلى الله تعالى لأنهم رسل رسوله، قاله قتادة، وابن جريج .

    قوله تعالى: قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا أي: مالكم علينا فضل في شيء وما أنزل الرحمن من شيء أي: لم ينزل كتابا ولم يرسل رسولا .

    [ ص: 12 ] وما بعده ظاهر إلى قوله قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أن المطر حبس عنهم، فقالوا: إنما أصابنا هذا من قبلكم لئن لم تنتهوا أي: تسكتوا عنا لنرجمنكم أي: لنقتلنكم .

    قالوا طائركم معكم أي: شؤمكم معكم بكفركم، لا بنا أإن ذكرتم قرأ ابن كثير: "أين ذكرتم" بهمزة واحدة بعدها ياء; وافقه أبو عمرو، إلا أنه كان يمد . قال الأخفش: معناه: حيث ذكرتم، أي: وعظتم وخوفتم، وهذا استفهام جوابه محذوف، تقديره: أئن ذكرتم تطيرتم بنا؟! وقيل أئن ذكرتم قلتم هذا القول؟ والمسرفون هاهنا: المشركون
    وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون . وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون . أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون . إني إذا لفي ضلال مبين . إني آمنت بربكم فاسمعون . قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون . بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين . وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .

    قوله تعالى: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى واسمه حبيب النجار، وكان مجذوما، وكان قد آمن بالرسل لما وردوا القرية، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب القرية، فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم، جاء يسعى، فقال ما قصه الله علينا إلى قوله: وهم مهتدون يعني [ ص: 13 ] الرسل، فأخذوه ورفعوه إلى الملك، فقال له الملك: أفأنت تتبعهم؟ فقال: وما لي أسكن هذه الياء حمزة، وخلف، ويعقوب لا أعبد الذي فطرني أي: وأي شيء لي إذا لم أعبد خالقي وإليه ترجعون عند البعث، فيجزيكم بكفركم؟!

    فإن قيل: لم أضاف الفطرة إلى نفسه والبعث إليهم وهو يعلم أن الله قد فطرهم جميعا كما يبعثهم جميعا؟

    فالجواب: أن إيجاد الله تعالى نعمة يوجب الشكر، والبعث في القيامة وعيد يوجب الزجر، فكانت إضافة النعمة إلى نفسه أظهر في الشكر، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ في الزجر .

    ثم أنكر عبادة الأصنام بقوله: أأتخذ من دونه آلهة .

    قوله تعالى: لا تغن عني شفاعتهم يعني أنه لا شفاعة لهم فتغني، ولا ينقذون أثبت ها هنا الياء في الحالين يعقوب، وورش، والمعنى: لا يخلصوني من ذلك المكروه . إني إذا فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو .

    قوله تعالى: إني آمنت بربكم فتح هذه الياء أهل الحجاز وأبو عمرو .

    وفيمن خاطبهم بإيمانه قولان . أحدهما: أنه خاطب قومه بذلك، قاله ابن مسعود . والثاني: أنه خاطب الرسل .

    ومعنى فاسمعون اشهدوا لي بذلك، قاله الفراء . وقال أبو عبيدة: المعنى: فاسمعوا مني . وأثبت ياء "فاسمعوني" في الحالين يعقوب . قال ابن مسعود: لما خاطب قومه بذلك، وطئوه بأرجلهم . وقال السدي: رموه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي .

    قوله تعالى: قيل ادخل الجنة لما قتلوه فلقي الله، قيل له: "ادخل الجنة"، [ ص: 14 ] فلما دخلها قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي ، وفي "ما" قولان .

    أحدهما: أنها مع "غفر" في موضع مصدر; والمعنى: بغفران الله لي .

    والثاني: أنها بمعنى "الذي"، فالمعنى: ليتهم يعلمون بالذي غفر لي [به] ربي فيؤمنون، فنصحهم حيا وميتا .

    فلما قتلوه عجل الله لهم العذاب، فذلك قوله: وما أنزلنا على قومه يعني قوم حبيب من بعده أي: من بعد قتله من جند من السماء يعني الملائكة، أي: لم ينتصر منهم بجند من السماء وما كنا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم . وقيل: المعنى: ما بعثنا إليهم بعده نبيا، ولا أنزلنا عليهم رسالة .

    إن كانت إلا صيحة واحدة قال المفسرون: أخذ جبريل عليه السلام بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة واحدة، فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس، كالنار إذا طفئت، وهو قوله: فإذا هم خامدون أي: ساكنون كهيأة الرماد الخامد .
    يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون . وإن كل لما جميع لدينا محضرون . وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون . وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون . ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون . سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون .

    [ ص: 15 ] قوله تعالى: يا حسرة على العباد قال الفراء: المعنى: يالها حسرة على العباد . وقال الزجاج : الحسرة أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبه حسيرا . وفي المتحسر على العباد قولان .

    أحدهما: أنهم يتحسرون على أنفسهم، قال مجاهد والزجاج: استهزاؤهم بالرسل كان حسرة عليهم في الآخرة . وقال أبو العالية: لما عاينوا العذاب، قالوا: يا حسرتنا على المرسلين، كيف لنا بهم الآن حتى نؤمن .

    والثاني: أنه تحسر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل، قاله الضحاك .

    ثم خوف كفار مكة فقال: ألم يروا أي: ألم يعلموا كم أهلكنا قبلهم من القرون فيعتبروا ويخافوا أن نعجل لهم الهلاك كما عجل لمن أهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا؟! . قال الفراء: وألف "أنهم" مفتوحة، لأن المعنى: ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون وقد كسرها الحسن، كأنه لم يوقع الرؤية على "كم"، فلم يقعها على "أن"، وإن استأنفتها كسرتها .

    قوله تعالى: وإن كل لما وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة: "لما" بالتشديد، جميع لدينا محضرون أي: إن الأمم يحضرون يوم القيامة، فيجازون بأعمالهم . قال الزجاج : من قرأ "لما" بالتخفيف، فـ "ما" زائدة مؤكدة، والمعنى: وإن كلا لجميع، ومعناه: وما كل إلا جميع لدينا محضرون . ومن قرأ "لما" بالتشديد، فهو بمعنى "إلا"، تقول: "سألتك لما فعلت" و "إلا فعلت"0

    [ ص: 16 ] وآية لهم الأرض الميتة وقرأ نافع: "الميتة" بالتشديد، وهو الأصل، والتخفيف أكثر، وكلاهما جائز; و "آية" مرفوعة بالابتداء، وخبرها "لهم"، ويجوز أن يكون خبرها "الأرض الميتة"; والمعنى: وعلامة تدلهم على التوحيد وأن الله يبعث الموتى أحياء الأرض الميتة .

    قوله تعالى: فمنه يأكلون يعني ما يقتات من الحبوب .

    قوله تعالى: وجعلنا فيها وقوله: وفجرنا فيها يعني في الأرض .

    قوله تعالى: ليأكلوا من ثمره يعني النخيل، وهو في اللفظ مذكر .

    وما عملته أيديهم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحفص عن عاصم: "عملته" بهاء . وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "عملت" بغير هاء . والهاء مثبتة في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة، ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة . قال الزجاج : موضع "ما" خفض; والمعنى: ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم; ويجوز أن يكون "ما" نفيا; المعنى: ولم تعمله أيديهم، وهذا على قراءة من أثبت الهاء، فإذا حذفت الهاء، فالاختيار أن تكون "ما" في موضع خفض، وتكون بمعنى "الذي" فيحسن حذف الهاء; وكذلك ذكر المفسرون القولين، فمن قال بالأول، قال: ليأكلوا مما عملت أيديهم، وهو الغروس والحروث التي تعبوا فيها، ومن قال بالثاني، قال: ليأكلوا ما ليس من صنعهم، ولكنه من فعل الحق عز وجل أفلا يشكرون الله تعالى فيوحدوه؟! .

    ثم نزه نفسه بقوله: سبحان الذي خلق الأزواج كلها يعني الأجناس كلها مما تنبت الأرض من الفواكه والحبوب وغير ذلك .

    [ ص: 17 ] ومن أنفسهم وهم الذكور والإناث ومما لا يعلمون من دواب البر والبحر وغير ذلك مما لم يقفوا على علمه .
    وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون . والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم . والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم . لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون .

    قوله تعالى: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار أي: وعلامة لهم تدل على توحيدنا وقدرتنا الليل نسلخ منه النهار; قال الفراء: نرمي بالنهار عنه، و "منه" بمعنى "عنه" . وقال أبو عبيدة: نخرج منه النهار ونميزه منه فتجيء الظلمة، قال الماوردي: وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء، فإذا خرج منه أظلم . وقوله: فإذا هم مظلمون أي: داخلون في الظلام .

    والشمس أي: وآية لهم الشمس تجري لمستقر لها وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: إلى موضع قرارها; روى أبو ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "لمستقر لها" قال: "مستقرها تحت العرش"، وقال: "إنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الطلوع، فيؤذن لها" .

    [ ص: 18 ] [ ص: 19 ] والثاني: أن مستقرها مغربها لا تجاوزه ولا تقتصر عنه، قاله مجاهد .

    والثالث: لوقت واحد لا تعدوه، قاله قتادة . وقال مقاتل: لوقت لها إلى يوم القيامة .

    والرابع: تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها الذي لا تجاوزه، ثم ترجع إلى أول منازلها، قاله ابن السائب . وقال ابن قتيبة : إلى مستقر لها، ومستقرها: أقصى منازلها في الغروب، [وذلك] لأنها لا تزال تتقدم إلى أقصى مغاربها، ثم ترجع .

    وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وعلي بن الحسين، والشيزري عن الكسائي: "لا مستقر لها" والمعنى أنها تجري أبدا لا تثبت في مكان واحد .

    قوله تعالى: ذلك الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير العزيز في ملكه العليم بما يقدر .

    قوله تعالى: والقمر قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : "والقمر" بالرفع . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: "والقمر" بالنصب . قال الزجاج : من قرأ بالنصب فالمعنى: وقدرنا القمر قدرناه منازل، ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: وآية لهم القمر قدرناه، ويجوز أن يكون على الابتداء، [ ص: 20 ] و"قدرناه" الخبر .

    قال المفسرون: ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ينزلها من أول الشهر إلى آخره، وقد سميناها في سورة [يونس: 5]، فإذا صار إلى آخر منازله، دق فعاد كالعرجون، وهو عود العذق الذي تركته الشماريخ، فإذا جف وقدم يشبه الهلال . قال ابن قتيبة : و "القديم" هاهنا: الذي قد أتى عليه حول، شبه القمر آخر ليلة يطلع به . قال الزجاج : وتقدير "عرجون": فعلون من الانعراج .

    وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك ، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: "كالعرجون"، بكسر العين .

    قوله تعالى: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهما إذا اجتمعا في السماء، كان أحدهما بين يدي الآخر، فلا يشتركان في المنازل، قاله ابن عباس .

    والثاني: لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر، قاله مجاهد .

    والثالث: لا يجتمع ضوء أحدهما مع الآخر، فإذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر، قاله قتادة; فيكون وجه الحكمة في ذلك أنه لو اتصل الضوء لم يعرف الليل .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #457
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ يَس
    الحلقة (457)
    صــ 21 إلى صــ 30




    قوله تعالى: ولا الليل سابق النهار وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، [ ص: 21 ] وأبو عمران، وعاصم الجحدري: "سابق" بالتنوين "النهار" بالنصب، وفيه قولان .

    أحدهما: لا يتقدم الليل قبل استكمال النهار .

    والثاني: لا يأتي ليل بعد ليل من غير نهار فاصل بينهما . وباقي الآية مفسر في سورة [الأنبياء:33 ] .
    وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون . وخلقنا لهم من مثله ما يركبون . وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون . إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين . وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون . وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين .

    قوله تعالى: وآية لهم أنا حملنا ذريتهم قرأ نافع، وابن عامر: "ذرياتهم" على الجمع; وقرأ الباقون من السبعة: "ذريتهم" على التوحيد . قال المفسرون: أراد: في سفينة نوح، فنسب الذرية إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم، كأنه قال: ذرية الناس . وقال الفراء: أي: ذرية من هو منهم، فجعلها ذرية لهم، وقد سبقتهم . وقال غيره: هو حمل الأنبياء في أصلاب الآباء حين ركبوا السفينة، ومنه قول العباس:


    بل نطفة تركب السفين وقد ألجم نسرا وأهله الغرق


    قال المفضل بن سلمة: الذرية: النسل، لأنهم من ذرأهم الله منهم، والذرية [ ص: 22 ] أيضا: الآباء، لأن الذر وقع منهم، فهو من الأضداد، ومنه هذه الآية، وقد شرحنا هذا في قوله: ذرية بعضها من بعض [آل عمران: 34]; والمشحون: المملوء .

    قوله تعالى: وخلقنا لهم من مثله فيه قولان .

    أحدهما: مثل سفينة نوح، وهي السفن، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، وأبو مالك، وأبو صالح، والمراد بهذا ذكر منته بأن خلق الخشب الذي تعمل منه السفن .

    والثاني: أنها الإبل، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعن الحسن وقتادة كالقولين .

    قوله تعالى: فلا صريخ لهم أي: لا مغيث ولا مجير ولا هم ينقذون أي: ينجون من الغرق، يقال: أنقذه واستنقذه: إذا خلصه من المكروه إلا رحمة منا المعنى: إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم .

    قوله تعالى: وإذا قيل لهم يعني الكفار اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم فيه أربعة أقوال .

    أحدها: "ما بين أيديكم": ما مضى من الذنوب، "وما خلفكم": ما يأتي من الذنوب، قاله مجاهد .

    [ ص: 23 ] والثاني: ["ما بين أيدكم"] ما تقدم من عذاب الله للأمم، "وما خلفكم" من أمر الساعة، قاله قتادة .

    والثالث: "ما بين أيديكم" من الدنيا، "وما خلفكم" من عذاب الآخرة . قاله سفيان .

    والرابع: "ما بين أيديكم" من أمر الآخرة، "وما خلفكم" من أمر الدنيا فلا تغتروا بها، قاله ابن عباس والكلبي .

    لعلكم ترحمون أي: لتكونوا على رجاء الرحمة من الله . وجواب "إذا" محذوف، تقديره: إذا قيل لهم هذا، أعرضوا; ويدل على هذا المحذوف قوله: وما تأتيهم من آية أي: من دلالة تدل على صدق الرسول .
    وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين . ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين . ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون . فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون . ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون . قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون . إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون . فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون . إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون . هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون . لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون . سلام قولا من رب رحيم .

    [ ص: 24 ] قوله تعالى: وإذا قيل لهم أنفقوا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها: في اليهود، قاله الحسن . والثاني: في الزنادقة، قاله قتادة . والثالث: في مشركي قريش، قاله مقاتل; وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين النصيب الذي زعمتم أنه لله من الحرث والأنعام، فقالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه . وقال ابن السائب: كان العاص بن وائل إذا سأله مسكين، قال: اذهب إلى ربك فهو أولى بك مني، ويقول: قد منعه الله، أطعمه أنا؟! ومعنى الكلام أنهم قالوا: لو أراد الله أن يرزقهم لرزقهم، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نطعمهم; وهذا خطأ منهم، لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضا، ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة، والمؤمن لا يعترض على المشيئة، وإنما يوافق الأمر . وقيل: إنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء .

    وفي قوله: إن أنتم إلا في ضلال مبين قولان . أحدهما: أنه من قول الكفار للمؤمنين، يعنون: إنكم في خطإ من اتباع محمد . والثاني: أنه من قول الله للكفار لما ردوه من جوانب المؤمنين .

    قوله تعالى: متى هذا الوعد؟ يعنون القيامة; والمعنى: متى إنجاز هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ يعنون محمدا وأصحابه .

    ما ينظرون أي: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي النفخة الأولى . و يخصمون بمعنى يختصون، فأدغمت التاء في الصاد . قرأ ابن كثير، وأبو عمرو : "يخصمون" بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد . وروي عن أبي عمرو اختلاس حركة الخاء . وقرأ عاصم، وابن عامر، والكسائي: [ ص: 25 ] "يخصمون" بفتح الياء وكسر الخاء . وعن عاصم كسر الياء والخاء . وقرأ نافع بسكون الخاء وتشديد الصاد . وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد، أي: يخصم بعضهم بعضا . وقرأ أبي بن كعب : "يختصمون" بزيادة تاء; والمعنى أن الساعة تأتيهم أغفل ما كانوا عنها وهم متشاغلون في متصرفاتهم وبيعهم وشرائهم، فلا يستطيعون توصية قال مقاتل: أعجلوا عن الوصية فماتوا، ولا إلى أهلهم يرجعون أي: لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم; فهذا وصف ما يلقون في النفخة الأولى . ثم ذكر ما يلقون في النفخة الثانية فقال: ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث يعني القبور، إلى ربهم ينسلون أي: يخرجون بسرعة، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة [الأنبياء: 96] . قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين ، والضحاك ، وعاصم الجحدري: "من بعثنا" بكسر الميم والثاء وسكون العين . قال المفسرون: إنما قالوا هذا لأن الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين . قال أبي بن كعب : ينامون نومة قبل البعث، فإذا بعثوا قالوا هذا .

    [ ص: 26 ] قوله تعالى: هذا ما وعد الرحمن في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه قول المؤمنين، قاله مجاهد، وقتادة، وابن أبي ليلى . قال قتادة: أول الآية للكافرين، وآخرها للمؤمنين .

    والثاني: أنه قول الملائكة لهم، قاله الحسن .

    والثالث: أنه قول الكافرين، يقول بعضهم لبعض: هذا الذي أخبرنا به المرسلون أننا نبعث ونجازى، قاله ابن زيد .

    قال الزجاج : "من مرقدنا" هو وقف التمام، ويجوز أن يكون "هذا" من نعت "مرقدنا" على معنى: من بعثنا من مرقدنا هذا الذي كنا راقدين فيه؟ ويكون في قوله: "ما وعد الرحمن" أحد إضمارين، إما "هذا"، وإما "حق"، فيكون المعنى: حق ما وعد الرحمن .

    [ ص: 27 ] ثم ذكر النفخة الثانية، فقال: إن كانت إلا صيحة واحدة ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إن أصحاب الجنة اليوم يعني في الآخرة في شغل قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : "في شغل" بإسكان الغين . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: "في شغل" بضم الشين والغين . وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وأيوب السختياني: "في شغل" بفتح الشين والغين . وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك ، والنخعي، وابن يعمر، والجحدري : "في شغل" بفتح الشين وسكون الغين، وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن شغلهم افتضاض العذارى، رواه شقيق عن ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك .

    والثاني: ضرب الأوتار، رواه عكرمة عن ابن عباس; وعن عكرمة كالقولين، ولا يثبت هذا القول .

    والثالث: النعمة، قاله مجاهد . وقال الحسن: شغلهم: نعيمهم عما فيه أهل النار من العذاب .

    [ ص: 28 ] قوله تعالى: فاكهون وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وقتادة، وأبو الجوزاء، والنخعي، وأبو جعفر: "فكهون" . وهل بينهما فرق؟ فيه قولان .

    أحدهما: أن بينهما فرقا .

    فأما "فاكهون" ففيه أربعة أقوال . أحدها: فرحون، قاله ابن عباس . والثاني: معجبون، قاله الحسن، وقتادة . والثالث: ناعمون، قاله أبو مالك، ومقاتل . والرابع: ذوو فاكهة، كما يقال: فلان لابن تامر، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة .

    وأما "فكهون" ففيه قولان . أحدهما: أن الفكه: الذي يتفكه، تقول العرب للرجل إذا كان يتفكه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض الناس: إن فلانا لفكه بكذا، ومنه يقال للمزاح: فكاهة، قاله أبو عبيدة . والثاني: أن فكهين بمعنى فرحين، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    والقول الثاني: أن فاكهين وفكهين بمعنى واحد، كما يقال: حاذر وحذر، قاله الفراء . وقال الزجاج : فاكهون وفكهون بمعنى فرحين . وقال أبو زيد: الفكه: الطيب النفس الضحوك، يقال: رجل فاكه وفكه .

    قوله تعالى: هم وأزواجهم يعني حلائلهم في ظلال وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: "في ظلل" . قال الفراء: الظلال جمع ظل، والظلل جمع ظلة، وقد تكون الظلال جمع ظلة أيضا، كما يقال: خلة وخلل; فإذا كثرت فهي الخلال والخلال والقلال . قال مقاتل: والظلال: أكنان القصور .

    [ ص: 29 ] قال أبو عبيدة: والمعنى أنهم لا يضحون . فأما الأرائك، فقد بيناها في سورة [الكهف: 31] .

    قوله تعالى: ولهم ما يدعون قال ابن قتيبة : ما يتمنون، ومنه يقول الناس: هو في خير ما ادعى، أي: ما تمنى، والعرب تقول: ادع ما شئت، أي: تمن ما شئت . وقال الزجاج : هو مأخوذ من الدعاء; والمعنى: كل ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم . وقوله: سلام بدل من "ما"; المعنى: لهم ما يتمنون سلام، أي: هذا منى أهل الجنة أن يسلم الله عليهم . و قولا منصوب على معنى: سلام يقوله الله قولا . قال أبو عبيدة: "سلام" رفع على "لهم"; فالمعنى: لهم فيها فاكهة ولهم فيها سلام، وقال الفراء: معنى الكلام: لهم ما يدعون مسلم خالص، ونصب القول، كأنك قلت: قاله قولا، وإن شئت جعلته نصبا من قوله: ولهم ما يدعون قولا، كقولك: عدة من الله . وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، والجحدري : "سلاما قولا" بنصبهما جميعا .
    وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون .

    [ ص: 30 ] قوله تعالى: وامتازوا اليوم أيها المجرمون قال ابن قتيبة : أي: انقطعوا عن المؤمنين وتميزوا منهم، يقال: مزت الشيء من الشيء: إذا عزلته عنه، فانماز وامتاز، وميزته فتميز .

    قال المفسرون: إذا اختلط الإنس والجن في الآخرة، قيل: "وامتازوا اليوم أيها المجرمون"، فيقال للمجرمين: ألم أعهد إليكم؟ أي: ألم آمركم، ألم أوصيكم؟ . و "تعبدوا" بمعنى تطيعوا، والشيطان هو إبليس، زين لهم الشرك فأطاعوه، إنه لكم عدو مبين ظاهر العداوة، أخرج أبويكم من الجنة .

    وأن اعبدوني قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي: "وأن اعبدوني" بضم النون . وقرأ عاصم، وأبو عمرو ، وحمزة: "وأن اعبدوني" بكسر النون; والمعنى: وحدوني هذا صراط مستقيم يعني التوحيد .

    ولقد أضل منكم جبلا قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: "جبلا" بضم الجيم والباء وتخفيف اللام . وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: "جبلا" بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام . وقرأ نافع، وعاصم: "جبلا" بكسر الجيم والباء مع تشديد اللام . وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والزهري، والأعمش: "جبلا" بضم الجيم والباء مع تشديد اللام . وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع: "جبلا" بكسر الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام . وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ: "جبلا" برفع الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #458
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ يَس
    الحلقة (458)
    صــ 31 إلى صــ 40




    وقرأ أبو العالية، وابن يعمر: "جبلا" بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام . وقرأ أبو عمران الجوني، وعمرو بن دينار: "جبالا" مكسورة الجيم مفتوحة الباء وبألف . ومعنى الكلمة كيف تصرفت في هذه اللغات: الخلق والجماعة; فالمعنى: [ ص: 31 ] ولقد أضل منكم خلقا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون؟ ; فالمعنى: قد رأيتم آثار الهالكين قبلكم بطاعة الشيطان، أفلم تعقلوا ذلك؟! وقرأ ابن عباس، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر: "أفلم يكونوا يعقلون" بالياء فيهما، فإذا أدنوا إلى جهنم قيل لهم: هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا اصلوها أي: قاسوا حرها .
    اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون . ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون . ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون . ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون .

    قوله تعالى: اليوم نختم على أفواههم وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: "يختم" بياء مضمومة وفتح التاء "وتكلمنا" قرأ ابن مسعود: "ولتكلمنا" بزيادة لام مكسورة وفتح الميم وواو قبل اللام . وقرأ أبي بن كعب ، وابن أبي عبلة: "لتكلمنا" بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب الميم; وقرؤوا جميعا: "ولتشهد أرجلهم" بلام مكسورة وبنصب الدال .

    ومعنى "نختم": نطبع عليها، وقيل: منعها من الكلام هو الختم عليها، وفي سبب ذلك أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم لما قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين [الأنعام: 23] ختم الله على أفواههم ونطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري .

    والثاني: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي صارت شهودا [عليهم] .

    [ ص: 32 ] والثالث: ليعرفهم أهل الموقف، فيتميزوا منهم بذلك .

    والرابع: لأن إقرار الجوارح أبلغ في الإقرار من نطق اللسان، ذكرهن الماوردي .

    فإن قيل: ما الحكمة في تسمية نطق اليد كلاما ونطق الرجل شهادة؟

    فالجواب: أن اليد كانت مباشرة والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل .

    قوله تعالى: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: ولو نشاء لأذهبنا أعينهم حتى لا يبدو لها شق ولا جفن .

    والمطموس: الذي لا يكون بين جفنيه شق، فاستبقوا الصراط أي: فتبادروا إلى الطريق فأنى يبصرون [أي]: فكيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم؟! وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء: "فاستبقوا" بكسر الباء "فأنى تبصرون" بالتاء . وهذا تهديد لأهل مكة، وهو قول الأكثرين .

    والثاني: ولو نشاء لأضللناهم وأعميناهم عن الهدى، فأنى يبصرون الحق؟! رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم وأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم، فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم؟! روي عن جماعة منهم مقاتل .

    قوله تعالى: ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم وروى أبو بكر عن عاصم: "على مكاناتهم"; وقد سبق بيان هذا [البقرة: 65] .

    [ ص: 33 ] وفي المراد بقوله: "لمسخناهم" أربعة أقوال أحدها: لأهلكناهم، قاله ابن عباس . والثاني: لأقعدناهم على أرجلهم، قاله الحسن، وقتادة . والثالث: لجعلناهم حجارة، قاله أبو صالح، ومقاتل . والرابع: لجعلناهم قردة وخنازير لا أرواح فيها، قاله ابن السائب .

    وفي قوله: فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ثلاثة أقوال . أحدها: فما استطاعوا أن يتقدموا ولا أن يتأخروا، قاله قتادة . والثاني: فما استطاعوا مضيا عن العذاب، ولا رجوعا إلى الخلقة الأولى بعد المسخ، قاله الضحاك . والثالث: مضيا من الدنيا ولا رجوعا إليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    قوله تعالى: ومن نعمره ننكسه في الخلق قرأ حمزة: "ننكسه" مشددة مع ضم النون الأولى وفتح الثانية; والباقون: بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد; وعن عاصم كالقراءتين . ومعنى الكلام: من نطل عمره ننكس خلقه، فنجعل مكان القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم، فنرده إلى أرذل العمر . أفلا يعقلون قرأ نافع، وأبو عمرو : "أفلا تعقلون" بالتاء، والباقون بالياء . والمعنى: أفلا يعقلون أن من فعل هذا قادر على البعث؟!
    وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين . لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين .

    قوله تعالى: وما علمناه الشعر قال المفسرون: إن كفار مكة قالوا: إن [ ص: 34 ] هذا القرآن شعر وإن محمدا شاعر، فقال الله تعالى: "وما علمناه الشعر" وما ينبغي له أي: ما يتسهل له ذلك . قال المفسرون: ما كان يتزن له بيت شعر، حتى إنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه تمثل يوما فقال:

    "كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا"

    فقال أبو بكر: يا رسول الله، إنما قال الشاعر:


    كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا


    أشهد أنك رسول الله، ما علمك الله الشعر، وما ينبغي لك .
    ودعا يوما بعباس بن مرادس فقال: "أنت القائل:


    أتجعل نهبي ونهب العبيـ ـد بين الأقرع وعيينة"؟


    فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي لم يقل كذلك، فأنشده أبو بكر، فقال [ ص: 35 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يضرك بأيهما بدأت" فقال أبو بكر: والله ما أنت بشاعر" ولا ينبغي لك الشعر .
    وتمثل يوما، فقال:


    "ويأتيك من لم تزوده بالأخبار"


    فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: "إني لست بشاعر، ولا ينبغي لي" .
    وإنما منع من قول الشعر، لئلا تدخل الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن فيقولون: قوي على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشعر .

    [ ص: 36 ] [ ص: 37 ] قوله تعالى: إن هو يعني القرآن إلا ذكر إلا موعظة وقرآن مبين فيه الفرائض والسنن [والأحكام] .

    قوله تعالى: لينذر قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "لينذر" بالياء، يعنون القرآن . وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: "لتنذر" بالتاء، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لتنذر يا محمد بما في القرآن . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن السميفع: "لينذر" بياء مرفوعة وفتح الذال والراء جميعا .

    قوله تعالى: من كان حيا وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: حي القلب حي البصر، قاله قتادة .

    والثاني: من كان عاقلا، قاله الضحاك . قال الزجاج : من كان يعقل ما يخاطب به، فإن الكافر كالميت في ترك النذير .

    والثالث: مهتديا، قاله السدي وقال مقاتل: من كان مهتديا في علم الله .

    والرابع: من كان مؤمنا، قاله يحيى بن سلام; وهذا على المعنى الذي قد سبق في قوله: إنما تنذر الذين يخشون ربهم [فاطر: 18]، ويجوز أن يريد: إنما ينفع إنذارك من كان مؤمنا في علم الله .

    قوله تعالى: ويحق القول على الكافرين معناه: يجب . وفي المراد بالقول قولان . أحدهما: أنه العذاب . والثاني: الحجة .
    أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون . وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون . ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون . واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون . لا يستطيعون نصرهم وهم لهم [ ص: 38 ] جند محضرون . فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون .

    ثم ذكرهم قدرته فقال: أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما قال ابن قتيبة : يجوز أن يكون المعنى: مما عملناه بقوتنا وقدرتنا، وفي اليد القدرة والقوة على العمل، فتستعار اليد فتوضع موضعها، هذا مجاز للعرب يحتمله هذا الحرف، والله أعلم بما أراد . وقال غيره: ذكر الأيدي ها هنا يدل على انفراده بما خلق، والمعنى: لم يشاركنا أحد في إنشائنا; والواحد منا إذا قال: عملت هذا بيدي، دل ذلك على انفراده بعمله . وقال أبو سليمان الدمشقي: معنى الآية: مما أوجدناه بقدرتنا وقوتنا; وهذا إجماع أنه لم يرد هاهنا إلا ما ذكرنا .

    قوله تعالى: فهم لها مالكون فيه قولان .

    أحدهما: ضابطون، قاله قتادة، ومقاتل . قال الزجاج : ومثله في الشعر:


    أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا


    أي: لا أضبط رأس البعير .

    والثاني: قادرون عليها بالتسخير لهم، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: وذللناها لهم أي: سخرناها، فهي ذليلة لهم فمنها ركوبهم قال ابن قتيبة : الركوب: ما يركبون، والحلوب: ما يحلبون . قال الفراء: ولو قرأ قارئ: "فمنها ركوبهم"، كان وجها، كما تقول: منها أكلهم وشربهم وركوبهم . وقد قرأ بضم الراء الحسن، وأبو العالية، [ ص: 39 ] والأعمش، وابن يعمر في آخرين . وقرأ أبي بن كعب ، وعائشة: "ركوبتهم" بفتح الراء والباء وزيادة تاء مرفوعة . قال المفسرون: يركبون من الأنعام الإبل، ويأكلون الغنم، ولهم فيها منافع من الأصواف والأوبار والأشعار والنسل ومشارب [من] ألبانها، أفلا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه؟! .

    ثم ذكر جهلهم فقال: واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون أي: لتمنعهم من عذاب الله; ثم أخبر أن ذلك لا يكون بقوله: لا يستطيعون نصرهم أي: لا تقدر الأصنام على منعهم من أمر أراده الله بهم وهم يعني الكفار لهم يعني الأصنام جند محضرون وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: جند في الدنيا محضرون في النار، قاله الحسن .

    والثاني: محضرون عند الحساب، قاله مجاهد .

    والثالث: المشركون جند للأصنام، يغضبون لها في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرا، قاله قتادة . وقال مقاتل: الكفار يغضبون للآلهة ويحضرونها في الدنيا . وقال الزجاج : هم للأصنام ينتصرون، وهي لا تستطيع نصرهم .

    والرابع: هم جند محضرون عند الأصنام يعبدونها، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: فلا يحزنك قولهم يعني قول كفار مكة في تكذيبك إنا نعلم ما يسرون في ضمائرهم من تكذيبك وما يعلنون بألسنتهم من ذلك; والمعنى: إنا نثيبك ونجازيهم .
    [ ص: 40 ] أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين . وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم . قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون . أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم . إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون .

    قوله تعالى: أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية والتي بعدها على خمسة أقوال .

    أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي، أخذ عظما من البطحاء ففته بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال: "نعم، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم"، فنزلت هذه الآيات، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني: أنه عبد الله بن أبي بن سلول، جرى له نحو هذه القصة، رواه العوفي عن ابن عباس .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #459
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الصَّافَّاتِ
    الحلقة (459)
    صــ 41 إلى صــ 50




    [ ص: 41 ] والثالث: أنه أبو جهل ابن هشام، وأن هذه القصة جرت له، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والرابع: أنه أمية بن خلف، قاله الحسن .

    والخامس: أنه أبي بن خلف الجمحي، وهذه القصة جرت له، قاله مجاهد، وقتادة، والجمهور، وعليه المفسرون .

    ومعنى الكلام :التعجب من جهل هذا المخاصم في إنكاره البعث; والمعنى: ألا يعلم أنه مخلوق فيتفكر في بدء خلقه فيترك خصومته؟! وقيل: هذا تنبيه له على نعمة الله عليه حيث أنشأه من نطفة فصار مجادلا .

    وضرب لنا مثلا في إنكار البعث بالعظم البالي حين فته بيده، وتعجب ممن يقول: إن الله يحييه ونسي خلقه أي: نسي خلقنا له، أي: [ ص: 42 ] ترك النظر في خلق نفسه إذ خلق من نطفة قال من يحيي العظام وهي رميم؟! أي: بالية، يقال: رم العظم، إذا بلي، فهو رميم، لأنه معدول عن فاعله، وكل معدول عن وجهه ووزنه فهو مصروف عن إعرابه، كقوله: وما كانت أمك بغيا [مريم: 28]، فأسقط الهاء لأنها مصروفة عن "باغية"; فقاس هذا الكافر قدرة الله تعالى بقدرة الخلق، فأنكر إحياء العظم البالي لأن ذلك ليس في مقدور الخلق . قل يحييها الذي أنشأها أي: ابتدأ خلقها أول مرة وهو بكل خلق من الابتداء والإعادة عليم .

    الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا قال ابن قتيبة : أراد الزنود التي توري بها الأعراب من شجر المرخ والعفار .

    فإن قيل: لم قال: "الشجر الأخضر"، ولم يقل: الشجر الخضر؟

    فالجواب: أن الشجر جمع، وهو يؤنث ويذكر، قال الله تعالى: فمالئون منها البطون [الواقعة: 53]، وقال: فإذا أنتم منه توقدون .

    ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، فقال: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر وقرأ أبو بكر الصديق، وعاصم الجحدري: "يقدر" بياء من غير ألف على أن يخلق مثلهم؟! وهذا استفهام تقرير; والمعنى: من قدر على ذلك العظيم، قدر على هذا اليسير . وقد فسرنا [ ص: 43 ] معنى "أن يخلق مثلهم" في [بني إسرائيل: 99]; ثم أجاب هذا الاستفهام فقال: بلى وهو الخلاق يخلق خلقا بعد خلق . وقرأ أبي بن كعب ، والحسن، وعاصم الجحدري: "وهو الخالق" العليم بجميع المعلومات . والملكوت والملك واحد . وباقي السورة قد تقدم شرحه [البقرة: 117 ،32، الأنعام: 75] .
    [ ص: 44 ] سُورَةُ الصَّافَّاتِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    وَالصَّافَّاتِ صَفًّا . فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا . فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا . إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ . رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فِيهَا قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْجُمْهُورُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ صُفُوفٌ فِي السَّمَاءِ، لَا يَعْرِفُ مَلَكٌ مِنْهُمْ مَنْ إِلَى جَانِبِهِ، لَمْ يَلْتَفِتْ مُنْذُ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . وَقِيلَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاقِفَةً إِلَى أَنْ يَأْمُرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا يَشَاءُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا الطَّيْرُ، كَقَوْلِهِ: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النُّورِ: 41]، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ .

    [ ص: 45 ] وَفِي الزَّاجِرَاتِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَزْجُرُ السَّحَابَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْجُمْهُورُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا زَوَاجِرُ الْقُرْآَنِ وَكُلُّ مَا يَنْهَى وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبِيحِ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    وَفِي ( التاليات ذِكْرًا ) ثَلَاثَةُ أَقَوْالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ تَقْرَأُ كُتُبَ اللَّهِ تَعَالَى: قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: [وَالْحَسَنُ]، وَالْجُمْهُورُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الرُّسُلُ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّالِثُ: مَا يُتْلَى فِي الْقُرْآَنِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    وَهَذَا قَسَمٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَجَوَابُهُ: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَرَبِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّهُ وَاحِدٌ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّ الْمَشَارِقِ قَالَ السُّدِّيُّ: الْمَشَارِقُ ثَلَاثَمِائَةٌ وَسُتُّونَ مَشْرِقًا، وَالْمَغَارِبُ مِثْلُهَا، عَلَى عَدَدِ أَيَّامِ السَّنَةِ .

    فَإِنْ قِيلَ: لِمَ تَرَكَ ذِكْرَ الْمَغَارِبِ؟

    [ ص: 46 ] فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَشَارِقَ تَدُلُّ عَلَى الْمَغَارِبِ، لِأَنَّ الشُّرُوقَ قَبْلَ الْغُرُوبِ .
    إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب . وحفظا من كل شيطان مارد . لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب . إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب .

    قوله تعالى: إنا زينا السماء الدنيا يعني التي تلي الأرض، وهي أدنى السموات إلى الأرض بزينة الكواكب قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو ، والكسائي: "بزينة الكواكب" مضافا، أي: بحسنها وضوئها . وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: "بزينة" منونة وخفض "الكواكب" [وجعل "الكواكب"] بدلا من الزينة لأنها هي، كما تقول: مررت بأبي عبد الله زيد; [فالمعنى: إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب . وقرأ أبو بكر عن عاصم: "بزينة" بالتنوين وبنصب "الكواكب"]; والمعنى: زينا السماء الدنيا بأن زينا الكواكب فيها حين ألقيناها في منازلها وجعلناها ذات نور . قال الزجاج : ويجوز أن يكون "الكواكب" في النصب بدلا من قوله: "بزينة" لأن قوله: "بزينة" في موضع نصب . وقرأ أبي بن كعب ، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو حصين الأسدي في آخرين: "بزينة" بالتنوين "الكواكب" برفع الباء; قال الزجاج : والمعنى: إنا زينا السماء الدنيا بأن زينتها الكواكب وبأن زينت الكواكب . وحفظا أي: وحفظناها حفظا . فأما المارد، فهو العاتي، وقد شرحنا هذا في قوله: شيطانا مريدا [النساء: 117] .

    قوله تعالى: لا يسمعون قال الفراء: "لا" هاهنا كقوله: كذلك [ ص: 47 ] سلكناه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون به [الشعراء :200 ،201]; ويصلح في "لا" على هذا المعنى الجزم، فإن العرب تقول: ربطت الفرس لا ينفلت . وقال غيره: لكي لا يسمعوا إلى الملإ الأعلى، وهم الملائكة الذين في السماء . وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: "لا يسمعون" بتشديد السين، وأصله: يتسمعون، فأدغمت التاء في السين . وإنما قال: إلى الملإ الأعلى لأن العرب تقول: سمعت فلانا، وسمعت من فلان، وإلى فلان .

    ويقذفون من كل جانب بالشهب دحورا قال قتادة: أي: قذفا بالشهب . وقال ابن قتيبة : أي: طردا، يقال: دحرته دحرا ودحورا، أي: دفعته . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن، والضحاك ، وأيوب السختياني، وابن أبي عبلة: "دحورا بفتح الدال" .

    وفي "الواصب" قولان .

    أحدهما: أنه الدائم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة .

    والثاني: أنه الموجع، قاله أبو صالح، والسدي .

    وفي زمان هذا العذاب قولان . أحدهما: أنه في الآخرة . والثاني: [أنه] في الدنيا، فهم يخرجون بالشهب ويخبلون إلى النفخة الأولى في الصور .

    قوله تعالى: إلا من خطف الخطفة قرأ ابن السميفع: "خطف" بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها . وقرأ أبو رجاء، والجحدري : بكسر الخاء والطاء جميعا والتخفيف . قال الزجاج : خطف وخطف، بفتح الطاء وكسرها، يقال: خطفت أخطف، وخطفت أخطف: إذا أخذت الشيء بسرعة، [ ص: 48 ] ويجوز "إلا من خطف" بفتح الخاء وتشديد الطاء، ويجوز "خطف" بكسر الخاء وفتح الطاء; والمعنى: اختطف، فأدغمت التاء في الطاء، وسقطت الألف لحركة الخاء; فمن فتح الخاء، ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في "اختطف"، ومن كسر الخاء، فلسكونها وسكون الطاء . فأما من روى[ "خطف" ] بكسر الخاء والطاء، فلا وجه لها إلا وجها ضعيفا جدا، وهو أن يكون على إتباع الطاء كسرة الخاء . قال المفسرون: والمعنى: إلا من اختطف الكلمة من كلام الملائكة مسارقة فأتبعه أي: لحقه شهاب ثاقب قال ابن قتيبة : أي: كوكب مضيء، يقال: أثقب نارك، أي: أضئها، والثقوب: ما تذكى به النار .
    فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب . بل عجبت ويسخرون . وإذا ذكروا لا يذكرون . وإذا رأوا آية يستسخرون . وقالوا إن هذا إلا سحر مبين . أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون . أوآباؤنا الأولون . قل نعم وأنتم داخرون . فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون . وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين . هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون . احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون . من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم . وقفوهم إنهم مسؤولون . ما لكم لا تناصرون . بل هم اليوم مستسلمون .

    قوله تعالى: فاستفتهم أي: فسلهم سؤال تقرير أهم أشد خلقا أي: أحكم صنعة أم من خلقنا فيه قولان .

    [ ص: 49 ] أحدهما: أن المعنى: أم من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسموات والأرض، قاله ابن جرير .

    والثاني: أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة، والمعنى إنهم ليسوا بأقوى من أولئك وقد أهلكناهم بالتكذيب، فما الذي يؤمن هؤلاء؟!

    ثم ذكر خلق الناس فقال: إنا خلقناهم من طين لازب قال الفراء، وابن قتيبة : أي: لاصق لازم، والباء تبدل من الميم لقرب مخرجيهما . قال ابن عباس: هو الطين الحر الجيد اللزق . وقال غيره: هو الطين الذي ينشف عنه الماء وتبقى رطوبته في باطنه فيلصق باليد كالشمع . وهذا إخبار عن تساوي الأصل في خلقهم وخلق من قبلهم; فمن قدر على إهلاك الأقوياء، قدر على إهلاك الضعفاء .

    قوله تعالى: بل عجبت "بل" معناه: ترك الكلام الأول والأخذ في الكلام الآخر، كأنه قال: دع يا محمد ما مضى .

    وفي "عجبت" قراءتان قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وابن عامر: "بل عجبت" بفتح التاء . وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وأبو مجلز، والنخعي، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وابن أبي ليلى، وحمزة، والكسائي في آخرين: "بل عجبت" بضم التاء، [واختارها الفراء] . فمن فتح، أراد: بل عجبت يا محمد، ويسخرون هم . قال ابن السائب: أنت تعجب منهم، وهم يسخرون منك . وفي ما عجب منه قولان، أحدهما: من الكفار إذ لم يؤمنوا بالقرآن، والثاني: إذ كفروا بالبعث . ومن ضم، أراد الإخبار عن الله عز وجل [ ص: 50 ] أنه عجب، قال الفراء; وهي قراءة علي، وعبد الله، وابن عباس، وهي أحب إلي; وقد أنكر هذه القراءة قوم، منهم شريح القاضي، فإنه قال: إن الله لا يعجب، إنما يعجب من لا يعلم قال الزجاج : وإنكار هذه القراءة غلط لأن العجب من الله خلاف العجب من الآدميين، وهذا كقوله: ويمكر الله [الأنفال: 30] وقوله: سخر الله منهم [التوبة: 79]، وأصل العجب في اللغة: أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله، قال: قد عجبت من كذا، وكذلك إذا فعل الآدميون ما ينكره الله عز وجل، جاز أن يقول: عجبت، والله قد علم الشيء قبل كونه . وقال ابن الأنباري: المعنى: جازيتهم على عجبهم من الحق، فسمى الجزاء على الشيء باسم الشيء الذي له الجزاء، فسمى فعله عجبا وليس بعجب في الحقيقة، لأن المتعجب يدهش ويتحير، والله عز وجل قد جل عن ذلك; وكذلك سمي تعظيم الثواب عجبا، لأنه إنما يتعجب من الشيء إذا كان في النهاية، والعرب تسمي الفعل باسم الفعل إذا داناه من بعض وجوهه وإن كان مخالفا له في أكثر معانيه قال عدي:


    ثم أضحوا لعب الدهر بهم [وكذلك الدهر يودي بالرجال]


    فجعل إهلاك الدهر وإفساده لعبا . وقال ابن جرير: من ضم التاء، فالمعنى: بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا وتكذيبهم تنزيلي . وقال غيره: إضافة العجب إلى الله على ضربين، أحدهما: بمعنى الإنكار والذم، كهذه الآية، والثاني: بمعنى الاستحسان والإخبار عن تمام الرضى، كقوله عليه السلام: "عجب ربك من شاب ليست له صبوة"




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #460
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الصَّافَّاتِ
    الحلقة (460)
    صــ 51 إلى صــ 60





    [ ص: 51 ] قوله تعالى: وإذا ذكروا لا يذكرون أي: إذا وعظوا بالقرآن لا يذكرون ولا يتعظون . وقرأ سعيد بن جبير، والضحاك ، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: "ذكروا" بتخفيف الكاف .

    وإذا رأوا آية قال ابن عباس: يعني انشقاق القمر يستسخرون قال أبو عبيدة: يستسخرون ويسخرون سواء . قال ابن قتيبة : يقال: سخر واستسخر، كما يقال: قر واستقر، وعجب واستعجب، ويجوز أن يكون يسألون غيرهم من المشركين أن يسخروا من رسول الله، كما يقال: استعتبته، أي: سألته العتبى، واستوهبته، أي: سألته الهبة، واستعفيته: سألته العفو .

    وقالوا إن هذا يعنون انشقاق القمر إلا سحر مبين أي: بين لمن تأمله أنه سحر .

    أإذا متنا قد سبق بيان [هذه] الآية [مريم: 66] .

    [ ص: 52 ] أوآباؤنا هذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف، كقوله: أوأمن أهل القرى [الأعراف: 98] . وقرأ نافع، وابن عامر: "أو آباؤنا الأولون" بسكون الواو هاهنا وفي [الواقعة: 48] .

    قل نعم أي: نعم تبعثون وأنتم داخرون أي: صاغرون .

    فإنما هي زجرة واحدة أي: فإنما قصة البعث صيحة واحدة من إسرافيل، وهي نفخة البعث، وسميت زجرة، لأن مقصودها الزجر فإذا هم ينظرون قال الزجاج : أي: يحيون ويبعثون بصراء ينظرون، فإذا عاينوا بعثهم، ذكروا إخبار الرسل عن البعث، وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين أي: يوم الحساب والجزاء، فتقول الملائكة: هذا يوم الفصل أي: يوم القضاء الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء; ويقول الله عز وجل يومئذ للملائكة احشروا أي: اجمعوا الذين ظلموا من حيث هم، وفيهم قولان . أحدهما: أنهم المشركون . والثاني: أنه عام في كل ظالم . وفي أزواجهم أربعة أقوال .

    أحدها: أمثالهم وأشباههم، وهو قول عمر، وابن عباس، والنعمان بن بشير، ومجاهد في آخرين . وروي عن عمر قال: يحشر صاحب الربا مع صاحب الربا، وصاحب الزنا مع صاحب الزنا، وصاحب الخمر مع صاحب الخمر .

    والثاني: أن أزواجهم: المشركات . قاله الحسن .

    والثالث: أشياعهم، قاله قتادة .

    والرابع: قرناؤهم من الشياطين الذين أضلوهم، قاله مقاتل .

    وفي قوله: وما كانوا يعبدون ثلاثة أقوال . أحدها: الأصنام . قاله عكرمة، وقتادة . والثاني: إبليس وحده، قاله مقاتل . والثالث: الشياطين، ذكره الماوردي وغيره .

    [ ص: 53 ] [ قوله تعالى: فاهدوهم إلى صراط الجحيم أي: دلوهم على طريقها; والمعنى: اذهبوا بهم إليها . قال الزجاج : يقال: هديت الرجل: إذا دللته، وهديت العروس إلى زوجها، وأهديت الهدية، فإذا جعلت العروس كالهدية، قلت: أهديتها] .

    قوله تعالى: وقفوهم أي: احبسوهم إنهم مسؤولون وقرأ ابن السميفع: "أنهم" بفتح الهمزة . قال المفسرون: لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط، لأن السؤال هناك . وفي هذا السؤال ستة أقوال .

    أحدها: أنهم سئلوا عن أعمالهم وأقوالهم في الدنيا . الثاني: عن "لا إله إلا الله"، رويا جميعا عن ابن عباس . والثالث: عن خطاياهم، قاله الضحاك . والرابع: سألهم خزنة جهنم: ألم يأتكم نذير [الملك: 8] ونحو هذا، قاله مقاتل والخامس: أنهم يسألون عما كانوا يعبدون، ذكره ابن جرير . والسادس: أن سؤالهم قوله: ما لكم لا تناصرون؟! ، [ذكره الماوردي] . قال المفسرون: المعنى: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا؟! وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر: نحن جميع منتصر [القمر: 44]، فقيل لهم ذلك يومئذ توبيخا . والمستسلم: المنقاد الذليل; والمعنى أنهم منقادون لا حيلة لهم .
    وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين . قالوا بل لم تكونوا مؤمنين . وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين . فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون . فأغويناكم إنا كنا غاوين . فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين . إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون . [ ص: 54 ] ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون . بل جاء بالحق وصدق المرسلين . إنكم لذائقو العذاب الأليم . وما تجزون إلا ما كنتم تعملون . إلا عباد الله المخلصين . أولئك لهم رزق معلوم . فواكه وهم مكرمون . في جنات النعيم . على سرر متقابلين . يطاف عليهم بكأس من معين . بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون . وعندهم قاصرات الطرف عين . كأنهن بيض مكنون .

    قوله تعالى: وأقبل بعضهم على بعض فيهم قولان . أحدهما: الإنس على الشياطين . والثاني: الأتباع على الرؤساء يتساءلون تساؤل توبيخ وتأنيب ولوم، فيقول الأتباع للرؤساء: [لم] غررتمونا؟ ويقول الرؤساء: لم قبلتم منا؟ فذلك قوله: قالوا يعنى الأتباع للمتبوعين إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: كنتم تقهروننا بقدرتكم علينا، لأنكم كنتم أعز منا، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني: من قبل الدين فتضلونا عنه، قاله الضحاك . وقال الزجاج : تأتوننا من قبل الدين فتخدعونا بأقوى الأسباب .

    والثالث: كنتم توثقون ما كنتم تقولون بأيمانكم، فتأتوننا من قبل الأيمان التي تحلفونها ، حكاه علي بن أحمد النيسابوري . فيقول المتبوعون لهم: بل لم تكونوا مؤمنين أي: لم تكونوا على حق فنضلكم عنه إنما الكفر من قبلكم .

    وما كان لنا عليكم من سلطان فيه قولان . أحدهما: أنه القهر . والثاني: الحجة . فيكون المعنى على الأول: وما كان لنا عليكم من قوة نقهركم بها .

    [ ص: 55 ] ونكرهكم على متابعتنا، وعلى الثاني: لم نأتكم بحجة على ما دعوناكم إليه كما أتت الرسل .

    قوله تعالى: فحق علينا قول ربنا أي: فوجبت علينا كلمة العذاب، وهي قوله: لأملأن جهنم [الأعراف: 18] إنا لذائقون العذاب جميعا نحن وأنتم، فأغويناكم أي، أضللناكم عن الهدى بدعائكم إلى ما نحن عليه، وهو قوله: إنا كنا غاوين .

    ثم أخبر عن الأتباع والمتبوعين بقوله: فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ، والمجرمون هاهنا: المشركون، إنهم كانوا في الدنيا إذا قيل لهم لا إله إلا الله أي: قولوا هذه الكلمة يستكبرون أي: يتعظمون عن قولها، ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا المعنى: أنترك عبادة آلهتنا لشاعر أي: لاتباع شاعر؟! يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الله عليهم فقال: بل أي: ليس الأمر على ما قالوا، بل جاء بالحق وهو التوحيد والقرآن، وصدق المرسلين الذين كانوا قبله; والمعنى أنه أتى بما أتوا به . ثم خاطب المشركين بما يعد هذا إلى قوله: إلا عباد الله المخلصين يعني الموحدين . قال أبو عبيدة: والعرب تقول: إنكم لذاهبون إلا زيدا . وفي ما استثناهم منه قولان .

    أحدهما: من الجزاء على الأعمال، فالمعنى: إنا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم، بل نغفر لهم، قاله ابن زيد .

    والثاني: من دون العذاب; فالمعنى: فإنهم لا يذوقون العذاب، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: أولئك لهم رزق معلوم فيه قولان . أحدهما: أنه الجنة، قاله قتادة . والثاني: أنه الرزق في الجنة، قاله السدي .

    [ ص: 56 ] فعلى هذا، في معنى "معلوم" قولان . أحدهما: أنه بمقدار الغداة والعشي، قاله ابن السائب . والثاني: أنهم حين يشتهونه يؤتون به، قاله مقاتل .

    ثم بين الرزق فقال: فواكه [وهي جمع فاكهة] وهي الثمار كلها، رطبها ويابسها وهم مكرمون بما أعطاهم الله . وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [الحجر: 47] إلى قوله: يطاف عليهم بكأس من معين قال الضحاك: كل كأس ذكرت في القرآن، فإنما عني بها الخمر، [قال أبو عبيدة: الكأس: الإناء بما فيه، والمعين: الماء الطاهر الجاري . قال الزجاج : الكأس: الإناء الذي فيه الخمر]، ويقع الكأس على كل إناء مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس . والمعين: الخمر تجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العيون .

    قوله تعالى: بيضاء قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن . قال أبو سليمان الدمشقي: ويدل على أنه أراد بالكأس الخمر، أنه قال: "بيضاء"، فأنث، ولو أراد الإناء على انفراده، أو الإناء والخمر، لقال: أبيض . وقال ابن جرير: إنما أراد بقوله: "بيضاء" الكأس، ولتأنيث الكأس أنثت البيضاء .

    قوله تعالى: لذة قال ابن قتيبة : أي: لذيذة، يقال: شراب لذاذ: إذا كان طيبا . وقال الزجاج : أي: ذات لذة .

    لا فيها غول فيه سبعة أقوال .

    أحدها: ليس فيها صداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني: ليس فيها وجع بطن، [رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد] .

    [ ص: 57 ] والثالث: ليس فيها صداع رأس، قاله قتادة .

    والرابع: ليس فيها أذى ولا مكروه، قاله سعيد بن جبير .

    والخامس: لا تغتال عقولهم، قاله السدي . وقال الزجاج : لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها وجع .

    والسادس: ليس فيها إثم، حكاه ابن جرير .

    والسابع: ليس فيها شيء من هذه الآفات، لأن كل من ناله شيء من هذه الآفات، قيل: قد غالته غول، فالصواب أن يكون نفي الغول عنها يعم جميع هذه الأشياء، هذا اختيار ابن جرير .

    قوله تعالى: ولا هم عنها ينزفون قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الزاي هاهنا وفي [الواقعة: 19] . وفتح عاصم الزاي هاهنا، وكسرها في [الواقعة: 19] . وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، . وابن عامر: بفتح الزاي في السورتين . قال الفراء: فمن فتح، فالمعنى: لا تذهب عقولهم بشربها . يقال للسكران: نزيف ومنزوف; "ومن" كسر، ففيه وجهان . أحدهما: لا ينفدون شرابهم، أي: هو دائم أبدا . والثاني: لا يسكرون، قال الشاعر:


    لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا


    قوله تعالى: وعندهم قاصرات الطرف فيه قولان .

    أحدهما: أنهن النساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم . وأصل القصر: الحبس، قال ابن زيد: إن المرأة منهن لتقول [ ص: 58 ] لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي .

    والثاني: أنهن قد قصرن طرف الأزواج عن غيرهن، لكمال حسنهن، سمعته من الشيخ أبي محمد بن الخشاب النحوي .

    وفي العين ثلاثة أقوال . أحدها: حسان العيون، قاله مجاهد . والثاني: عظام الأعين، قاله السدي، وابن زيد . والثالث: كبار العيون حسانها، وواحدتهن عيناء، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: كأنهن بيض مكنون في المراد بالبيض هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنه اللؤلؤ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة .

    والثاني: بيض النعام، قاله الحسن، وابن زيد، والزجاج . قال جماعة من أهل اللغة: والعرب تشبه المرأة الحسناء في بياضها وحسن لونها بيضة النعامة، وهو أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون المرأة بيضاء مشربة صفرة .

    والثالث: أنه البيض حين يقشر قبل أن تمسه الأيدي، قاله السدي، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جرير .

    فأما المكنون، فهو المصون . فعلى القول الأول: هو مكنون في صدفه، وعلى الثاني: هو مكنون بريش النعام، وعلى الثالث: هو مكنون بقشره .
    [ ص: 59 ] فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قال قائل منهم إني كان لي قرين . يقول أإنك لمن المصدقين . أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون . قال هل أنتم مطلعون . فاطلع فرآه في سواء الجحيم . قال تالله إن كدت لتردين . ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين . أفما نحن بميتين . إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين . إن هذا لهو الفوز العظيم . لمثل هذا فليعمل العاملون .

    قوله تعالى: فأقبل بعضهم على بعض يعني أهل الجنة يتساءلون عن أحوال كانت في الدنيا .

    قال قائل منهم إني كان لي قرين فيه أربعة أقوال . أحدها: أنه الصاحب في الدنيا . والثاني: أنه الشريك، رويا عن ابن عباس . والثالث: أنه الشيطان، قاله مجاهد . والرابع: أنه الأخ; قال مقاتل: وهما الأخوان المذكوران في سورة [الكهف: 32] في قوله: واضرب لهم مثلا رجلين ; والمعنى: كان لي صاحب أو أخ ينكر البعث، يقول أإنك لمن المصدقين قال الزجاج : هي مخففة الصاد، من صدق يصدق فهو مصدق، ولا يجوز هاهنا تشديد الصاد . قال المفسرون: والمعنى: أئنك لمن المصدقين بالبعث؟ وقرأ بكر بن عبد الرحمن القاضي عن حمزة: "المصدقين" بتشديد الصاد .

    [ ص: 60 ] قوله تعالى: أإنا لمدينون أي: مجزيون بأعمالنا; يقال: دنته بما صنع، أي: جازيته . فأحب المؤمن أن يرى قرينة الكافر، فقال لأهل الجنة: هل أنتم مطلعون أي: هل تحبون الاطلاع إلى النار لتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهلها؟ وقرأ ابن عباس، والضحاك ، وأبو عمران، وابن يعمر: "هل أنتم مطلعون" بإسكان الطاء وتخفيفها فاطلع بهمزة مرفوعة وسكون الطاء . وقرأ أبو رزين، وابن أبي عبلة: "مطلعون" بكسر النون . قال ابن مسعود: اطلع ثم التفت إلى أصحابه فقال: لقد رأيت جماجم القوم تغلي; قال ابن عباس: وذلك أن في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى النار .

    قوله تعالى: فرآه يعني قرينة الكافر في سواء الجحيم أي: في وسطها . وقيل: إنما سمي الوسط سواء، لاستواء المسافة منه إلى الجوانب . قال خليد العصري: والله لولا أن الله عرفه إياه، ما عرفه، لقد تغير حبره وسبره . فعند ذلك قال تالله إن كدت لتردين قال المفسرون: معناه: والله ما كدت إلا تهلكني; يقال أرديت فلانا، أي: أهلكته . ولولا نعمة ربي أي: إنعامه علي بالإسلام لكنت من المحضرين معك في النار .

    قوله تعالى: أفما نحن بميتين فيه ثلاثة أقوال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •