تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 21 من 25 الأولىالأولى ... 111213141516171819202122232425 الأخيرةالأخيرة
النتائج 401 إلى 420 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #401
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    الحلقة (401)
    صــ 460 إلى صــ 467




    وَفِي الْمُرَادِ بِالْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَنَّهُ النَّظَرُ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ . رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ [ ص: 460 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ ، فَنَزَلَتِ : " الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ " فَنَكَّسَ رَأْسَهُ . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَقَتَادَةُ .

    وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ ، وَأَنْ تُلِينَ كَنَفَكَ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

    وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ السُّكُونُ فِي الصَّلَاةِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَالزُّهْرِيُّ .

    وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ الْخَوْفُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ هَاهُنَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : الشِّرْكُ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : الْبَاطِلُ ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : الْمَعَاصِي ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالرَّابِعُ : الْكَذِبُ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالْخَامِسُ : الشَّتْمُ وَالْأَذَى الَّذِي كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْكُفَّارِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَاللَّغْوُ : كُلُّ لَعِبٍ وَلَهْوٍ ، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ مُطَّرَحَةٌ مُلْغَاةٌ ; فَالْمَعْنَى : شَغَلَهُمُ الْجِدُّ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَنِ اللَّغْوِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ " ; أَيْ : مُؤَدُّونَ ، فَعَبَّرَ عَنِ التَّأْدِيَةِ بِالْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ فَعَلَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ " قَالَ الْفَرَّاءُ : " عَلَى " بِمَعْنَى " مِنْ " . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى : أَنَّهُمْ يُلَامُونَ فِي إِطْلَاقِ مَا حُظِرَ عَلَيْهِمْ وَأُمِرُوا بِحِفْظِهِ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُلَامُونَ . [ ص: 461 ]

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " فَمَنِ ابْتَغَى " ; أَيْ : طَلَبَ ، " وَرَاءَ ذَلِكَ " ; أَيْ : سِوَى الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَا تِ ، " فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ " يَعْنِي : الْجَائِرِينَ الظَّالِمِينَ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ تَجَاوَزُوا إِلَى مَا لَا يَحِلُّ . " وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ " قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ : ( لِأَمَانَتِهِمْ ) وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ ، وَالْمَعْنَى : لِلْأَمَانَاتِ الَّتِي ائْتُمِنُوا عَلَيْهَا ، فَتَارَةً تَكُونُ الْأَمَانَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَتَارَةً تَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِهِ ، فَعَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْكُلِّ ، وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ . وَمَعْنَى " رَاعُونَ " : حَافِظُونَ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَأَصِلُ الرَّعْيِ فِي اللُّغَةِ : الْقِيَامُ عَلَى إِصْلَاحِ مَا يَتَوَلَّاهُ الرَّاعِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " عَلَى صَلَوَاتِهِمْ " قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَعَاصِمٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ : ( صَلَوَاتِهِمْ ) عَلَى الْجَمْعِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : ( صَلَاتِهِمْ ) عَلَى التَّوْحِيدِ ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ . وَالْمُحَافَظَة ُ عَلَى الصَّلَوَاتِ : أَدَاؤُهَا فِي أَوْقَاتِهَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ " ذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْفَعُ لِلْكُفَّارِ الْجَنَّةَ ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ فِيهَا لَوْ أَنَّهُمْ أَطَاعُوا ، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَرِثُونَهُمْ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : " أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ " . وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا فِي ( الْأَعْرَافِ : 43 ) عِنْدَ قَوْلِهِ : " أُورِثْتُمُوهَا " ، وَشَرَحْنَا مَعْنَى الْفِرْدَوْسِ فِي ( الْكَهْفِ : 107 ) .
    ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه [ ص: 462 ] خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون .

    قوله تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان " فيه قولان :

    أحدهما : أنه آدم عليه السلام ، وإنما قيل : " من سلالة " ; لأنه استل من كل الأرض ، هذا مذهب سلمان الفارسي ، وابن عباس في رواية ، وقتادة .

    والثاني : أنه ابن آدم ، والسلالة : النطفة استلت من الطين ، والطين : آدم عليه السلام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال الزجاج : والسلالة : فعالة ، وهي القليل مما ينسل ، وكل مبني على ( فعالة ) يراد به القليل ، من ذلك : الفضالة ، والنخالة ، والقلامة .

    قوله تعالى : " ثم جعلناه " يعني : ابن آدم ، " نطفة في قرار " وهو الرحم ، " مكين " ; أي : حريز ، قد هيئ لاستقراره فيه . وقد شرحنا في سورة ( الحج : 5 ) معنى النطفة والعلقة والمضغة .

    قوله تعالى : " فخلقنا المضغة عظاما " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( عظاما فكسونا العظام ) على الجمع . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : ( عظما فكسونا العظم ) على التوحيد .

    قوله تعالى : " ثم أنشأناه خلقا آخر " وهذه الحالة السابعة . قال علي عليه السلام : لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع .

    وفي محل هذا الإنشاء قولان :

    أحدهما : أنه بطن الأم . ثم في صفة الإنشاء قولان : أحدهما : أنه نفخ [ ص: 463 ] الروح فيه ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، والشعبي ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك في آخرين . والثاني : أنه جعله ذكرا أو أنثى ، قاله الحسن .

    والقول الثاني : أنه بعد خروجه من بطن أمه . ثم في صفة هذا الإنشاء أربعة أقوال : أحدها : أن ابتداء ذلك الإنشاء أنه استهل ، ثم دل على الثدي ، وعلم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن فطم ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن تقلب في البلاد ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثاني : أنه استواء الشباب ، قاله ابن عمر ومجاهد . والثالث : أنه خروج الأسنان والشعر ، قاله الضحاك ، فقيل له : أليس يولد وعلى رأسه الشعر ؟ فقال : وأين العانة والإبط ؟ والرابع : أنه إعطاء العقل والفهم ، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى : " فتبارك الله " ; أي : استحق التعظيم والثناء . وقد شرحنا معنى " تبارك " في ( الأعراف : 54 ) . " أحسن الخالقين " ; أي : المصورين والمقدرين ، والخلق في اللغة : التقدير . وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وعنده عمر ، إلى قوله تعالى : " خلقا آخر " ، فقال عمر : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد ختمت بما تكلمت به يابن الخطاب " .

    فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : " أحسن الخالقين " وقوله : هل من خالق غير الله [ فاطر : 3 ] ؟ [ ص: 464 ]

    فالجواب : أن الخلق يكون بمعنى الإيجاد ، ولا موجد سوى الله ، ويكون بمعنى التقدير ، كقول زهير :


    [ ولأنت تفري ما خلقت ] وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري


    فهذا المراد هاهنا ، أن بني آدم قد يصورون ويقدرون ويصنعون الشيء ، فالله خير المصورين والمقدرين . وقال الأخفش : الخالقون هاهنا هم الصانعون ، فالله خير الخالقين .

    قوله تعالى : " ثم إنكم بعد ذلك " ; أي : بعد ما ذكر من تمام الخلق ، " لميتون " عند انقضاء آجالكم . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وعكرمة ، وابن أبي عبلة : ( لمائتون ) بألف . قال الفراء : والعرب تقول لمن لم يمت : إنك مائت عن قليل ، وميت ، ولا يقولون للميت الذي قد مات : هذا مائت ، إنما يقال في الاستقبال فقط ، وكذلك يقال : هذا سيد قومه اليوم ، فإذا أخبرت أنه يسودهم عن قليل ، قلت : هذا سائد قومه عن قليل ، وكذلك هذا شريف القوم ، وهذا شارف عن قليل ، وهذا الباب كله في العربية على ما وصفت لك .
    ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين وأنـزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين . [ ص: 465 ]

    قوله تعالى : " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق " يعني : السماوات السبع . قال الزجاج : كل واحدة طريقة . وقال ابن قتيبة : إنما سميت طرائق بالتطارق ; لأن بعضها فوق بعض ، يقال : طارقت الشيء : إذا جعلت بعضه فوق بعض .

    قوله تعالى : " وما كنا عن الخلق غافلين " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : ما غفلنا عنهم إذ بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب .

    والثاني : ما كنا تاركين لهم بغير رزق فأنزلنا المطر .

    والثالث : لم نغفل عن حفظهم من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم .

    قوله تعالى : " وأنزلنا من السماء ماء بقدر " يعلمه الله ، وقال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة .

    قوله تعالى : " وشجرة " هي معطوفة على قوله : " جنات " . وقرأ أبو مجلز ، وابن يعمر ، وإبراهيم النخعي : ( وشجرة ) بالرفع ، والمراد بهذه الشجرة : شجرة الزيتون .

    فإن قيل : لماذا خص هذه الشجرة من بين الشجر ؟

    فالجواب من أربعة أوجه :

    أحدها : لكثرة انتفاعهم بها ، فذكرهم من نعمه ما يعرفون ، وكذلك [ ص: 466 ] خص النخيل والأعناب في الآية الأولى ; لأنهما كانا جل ثمار الحجاز وما والاها ، وكانت النخيل لأهل المدينة ، والأعناب لأهل الطائف .

    والثاني : لأنهم لا يكادون يتعاهدونها بالسقي ، وهي تخرج الثمرة التي يكون منها الدهن .

    والثالث : أنها تنبت بالماء الذي هو ضد النار ، وفي ثمرتها حياة للنار ومادة لها .

    والرابع : لأن أول زيتونة نبتت بذلك المكان فيما زعم مقاتل .

    قوله تعالى : " طور سيناء " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : ( طور سيناء ) مكسورة السين . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي مفتوحة السين ، وكلهم مدها . قال الفراء : العرب تقول : ( سيناء ) بفتح السين في جميع اللغات ، إلا بني كنانة فإنهم يكسرون السين . قال أبو علي : ولا تنصرف هذه الكلمة ; لأنها جعلت اسما لبقعة أو أرض ، وكذلك ( سينين ) ، ولو جعلت اسما للمكان ، أو للمنزل ، أو نحو ذلك من الأسماء المذكرة لصرفت ; لأنك كنت قد سميت مذكرا بمذكر . والطور : الجبل .

    وفي معنى " سيناء " خمسة أقوال :

    أحدها : أنه بمعنى الحسن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال الضحاك : " الطور " : الجبل بالسريانية ، و " سيناء " : الحسن بالنبطية . وقال عطاء : يريد : الجبل الحسن .

    والثاني : أنه المبارك ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أنه اسم حجارة بعينها ، أضيف الجبل إليها لوجودها عنده ، قاله مجاهد .

    والرابع : أن طور سيناء : الجبل المشجر ، قاله ابن السائب . [ ص: 467 ]

    والخامس : أن سيناء : اسم المكان الذي به هذا الجبل ، قاله الزجاج . قال الواحدي : وهو أصح الأقوال . قال ابن زيد : وهذا هو الجبل الذي نودي منه موسى ، وهو بين مصر وأيلة .

    قوله تعالى : " تنبت بالدهن " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( تنبت ) برفع التاء وكسر الباء . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بفتح التاء وضم الباء . قال الفراء : وهما لغتان : نبتت وأنبتت ، وكذلك قال الزجاج : يقال : نبت الشجر وأنبت في معنى واحد ، قال زهير :


    رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل


    قال : ومعنى " تنبت بالدهن " : تنبت ومعها دهن ، كما تقول : جاءني زيد بالسيف ; أي : جاءني ومعه السيف . وقال أبو عبيدة : معنى الآية : تنبت الدهن ، والباء زائدة ، كقوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم [ الحج : 25 ] ، وقد بينا هذا المعنى هناك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #402
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    الحلقة (402)
    صــ 468 إلى صــ 475




    قوله تعالى : " وصبغ " وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، وإبراهيم النخعي ، [ ص: 468 ] والأعمش : ( وصبغا ) بالنصب . وقرأ ابن السميفع : ( وصباغ ) بألف مع الخفض . قال ابن قتيبة : الصبغ مثل الصباغ ، كما يقال : دبغ ودباغ ، ولبس ولباس . قال المفسرون : والمراد بالصبغ هاهنا : الزيت ; لأنه يلون الخبز إذا غمس فيه ، والمراد : أنه إدام يصبغ به .
    وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون .

    قوله تعالى : " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم " وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : ( نسقيكم ) بفتح النون . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم بضمها . وقد شرحنا هذا في ( النحل : 66 ) إلى قوله تعالى : " ولكم فيها منافع كثيرة " يعني : في ظهورها وألبانها ، وأولادها ، وأصوافها وأشعارها ، " ومنها تأكلون " من لحومها وأولادها والكسب عليها .

    قوله تعالى : " وعليها " يعني : الإبل خاصة ، " وعلى الفلك تحملون " فالإبل تحمل في البر ، والسفن تحمل في البحر .
    ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنـزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين [ ص: 469 ] وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ثم أنشأنا من بعدهم . قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون .

    قوله تعالى : " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه " قال المفسرون : هذا تعزية [ ص: 470 ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا الرسول الصابر ; ليتأسى به في صبره ، وليعلم أن الرسل قبله قد كذبوا .

    قوله تعالى : " يريد أن يتفضل عليكم " ; أي : يعلوكم بالفضيلة فيصير متبوعا ، " ولو شاء الله " أن لا يعبد شيء سواه ; " لأنزل ملائكة " تبلغ عنه أمره لم يرسل بشرا ، " ما سمعنا بهذا " الذي يدعونا إليه نوح من التوحيد ، " في آبائنا الأولين " فأما الجنة فمعناها : الجنون .

    وفي قوله : " حتى حين " قولان :

    أحدهما : أنه الموت ، فتقديره : انتظروا موته . والثاني : أنه وقت منكر .

    قوله تعالى : " قال رب انصرني " وقرأ عكرمة وابن محيصن : ( قال رب ) بضم الباء ، وفي القصة الأخرى [ المؤمنون : 39 ] .

    قوله تعالى : " بما كذبون " وقرأ يعقوب : ( كذبوني ) بياء ، وفي القصة التي تليها أيضا : ( فاتقوني ) [ المؤمنون : 52 ] ، ( أن يحضروني ) [ المؤمنون : 98 ] ، ( رب ارجعوني ) [ المؤمنون : 99 ] ، ( ولا تكلموني ) [ المؤمنون : 108 ] ، أثبتهن في الحالين يعقوب ، والمعنى : انصرني بتكذيبهم ; أي : انصرني بإهلاكهم جزاء لهم بتكذيبهم . " فأوحينا إليه " قد شرحناه في ( هود : 37 ) إلى قوله : " فاسلك فيها " ; أي : ادخل في سفينتك ، " من كل زوجين اثنين " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم " ( من كل ) بكسر اللام من غير تنوين . وقرأ حفص عن عاصم : ( من كل ) بالتنوين . قال أبو علي : قراءة الجمهور إضافة " كل " إلى " زوجين " ، وقراءة حفص تئول إلى زوجين ; لأن المعنى : من كل الأزواج زوجين . [ ص: 471 ]

    قوله تعالى : " وقل رب أنزلني منزلا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( منزلا ) بضم الميم . وروى أبو بكر عن عاصم فتحها . والمنزل بفتح الميم : اسم لكل ما نزلت به ، والمنزل بضمها : المصدر بمعنى الإنزال ، تقول : أنزلته إنزالا ومنزلا .

    وفي الوقت الذي قال فيه نوح ذاك قولان :

    أحدهما : عند نزوله في السفينة . والثاني : عند نزوله من السفينة .

    قوله تعالى : " إن في ذلك " ; أي : في قصة نوح وقومه ، " لآيات وإن كنا " ; أي : وما كنا ، " لمبتلين " ; أي : لمختبرين إياهم بإرسال نوح إليهم . " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " يعني : عادا ، " فأرسلنا فيهم رسولا منهم " وهو هود ، هذا قول الأكثرين . وقال أبو سليمان الدمشقي : هم ثمود والرسول صالح . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : " أيعدكم أنكم " قال الزجاج : موضع " أنكم " نصب على معنى : أيعدكم [ أنكم ] مخرجون إذا متم ، فلما طال الكلام أعيد ذكر " أن " ، كقوله : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم [ التوبة : 63 ] .

    قوله تعالى : " هيهات هيهات " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( هيهات هيهات ) بفتح التاء فيهما في الوصل وإسكانها في الوقف . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو مجلز ، وهارون عن أبي عمرو : ( هيهاتا هيهاتا ) بالنصب والتنوين . وقرأ ابن مسعود ، وعاصم الجحدري ، وأبو حيوة الحضرمي ، وابن السميفع : ( هيهات هيهات ) بالرفع والتنوين . وقرأ أبو العالية وقتادة : ( هيهات هيهات ) بالخفض والتنوين . وقرأ أبو جعفر : ( هيهات هيهات ) بالخفض من غير تنوين وكان يقف بالهاء . وقرأ أبو المتوكل ، [ ص: 472 ] الناجي ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : ( هيهات هيهات ) بالرفع من غير تنوين . وقرأ معاذ القارئ ، وابن يعمر ، وأبو رجاء ، وخارجة عن أبي عمرو : ( هيهات هيهات ) بإسكان التاء فيهما . وفي " هيهات " عشر لغات قد ذكرنا منها سبعة عن القراء ، والثامنة : ( أيهات ) ، والتاسعة : ( أيهان ) بالنون ، والعاشرة : ( أيها ) بغير نون ، ذكرهن ابن القاسم ، وأنشد الأحوص في الجمع بين لغتين منهن :


    تذكر أياما مضين من الصبا وهيهات هيهاتا إليك رجوعها


    قال الزجاج : فأما الفتح فالوقف فيه بالهاء ، تقول : ( هيهاه ) إذا فتحت ووقفت بعد الفتح ، فإذا كسرت ووقفت على التاء كنت ممن ينون في الوصل ، أو كنت ممن لا ينون . وتأويل " هيهات " : البعد لما توعدون . وإذا قلت : ( هيهات ما قلت ) فمعناه : بعيد ما قلت . وإذا قلت : ( هيهات لما قلت ) فمعناه : البعد لما قلت . ويقال : ( أيهات ) في معنى ( هيهات ) ، وأنشدوا :


    وأيهات أيهات العقيق ومن به وأيهات وصل بالعقيق نواصله


    قال أبو عمرو بن العلاء : إذا وقفت على ( هيهات ) فقل : ( هيهاه ) . وقال الفراء : الكسائي يختار الوقف بالهاء ، وأنا أختار التاء .

    قوله تعالى : " لما توعدون " قرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : ( ما توعدون ) بغير لام . قال المفسرون : استبعد القوم بعثهم بعد الموت ; إغفالا منهم للتفكر في بدو أمرهم وقدرة الله على إيجادهم ، وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدا . " إن هي إلا حياتنا الدنيا " يعنون : ما الحياة إلا ما نحن فيه ، وليس بعد الموت حياة . [ ص: 473 ]

    فإن قيل : كيف قالوا : " نموت ونحيا " وهم لا يقرون بالبعث ؟

    فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزجاج :

    أحدها : نموت ويحيا أولادنا ، فكأنهم قالوا : يموت قوم ويحيا قوم .

    والثاني : نحيا ونموت ; لأن الواو للجمع لا للترتيب .

    والثالث : ابتداؤنا موات في أصل الخلقة ، ثم نحيا ، ثم نموت .

    قوله تعالى : " إن هو " يعنون : الرسول . وقد سبق تفسير ما بعد هذا [ هود : 7 ، النحل : 38 ] إلى قوله : " قال عما قليل " قال الزجاج : معناه : عن قليل ، و " ما " زائدة بمعنى التوكيد .

    قوله تعالى : " ليصبحن نادمين " ; أي : على كفرهم ، " فأخذتهم الصيحة بالحق " ; أي : باستحقاقهم العذاب بكفرهم . قال المفسرون : صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم ، فصاروا لشدتها غثاء . قال أبو عبيدة : الغثاء : ما أشبه الزبد ، وما ارتفع على السيل ، ونحو ذلك مما لا ينتفع به في شيء . وقال ابن قتيبة : المعنى : فجعلناهم هلكى كالغثاء ، وهو ما علا السيل من الزبد والقمش ; لأنه يذهب ويتفرق . وقال الزجاج : الغثاء : الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إذا جرى السيل رأيته مخالطا زبده . وما بعد هذا قد سبق شرحه [ الحجر : 5 ] إلى قوله تعالى : " ثم أرسلنا رسلنا تترى " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : ( تترى كلما ) منونة والوقف بالألف . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي بلا تنوين ، والوقف عند نافع وابن عامر بألف . وروى هبيرة وحفص عن عاصم أنه يقف بالياء . قال أبو علي : يعني بقوله : يقف بالياء : [ ص: 474 ] أي : بألف ممالة . قال الفراء : أكثر العرب على ترك التنوين ، ومنهم من نون . قال ابن قتيبة : والمعنى : نتابع بفترة بين كل رسولين ، وهو من التواتر ، والأصل : وترى ، فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التقوى والتخمة . وحكى الزجاج عن الأصمعي أنه قال : معنى واترت الخبر : أتبعت بعضه بعضا ، وبين الخبرين هنية . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : ومما تضعه العامة غير موضعه قولهم : تواترت كتبي إليك ، يعنون : اتصلت من غير انقطاع ، فيضعون التواتر في موضع الاتصال ، وذلك غلط ، إنما التواتر : مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه ، وهو التفاعل من الوتر ، وهو الفرد ، يقال : واترت الخبر : أتبعت بعضه بعضا وبين الخبرين هنيهة . قال الله تعالى : " ثم أرسلنا رسلنا تترى " أصلها : ( وترى ) من المواترة ، فأبدلت التاء من الواو ، ومعناه : منقطعة متفاوتة ; لأن بين كل نبيين دهرا طويلا . وقال أبو هريرة : لا بأس بقضاء رمضان تترى ; أي : منقطعا . فإذا قيل : واتر فلان كتبه ، فالمعنى : تابعها وبين كل كتابين فترة .

    قوله تعالى : " فأتبعنا بعضهم بعضا " ; أي : أهلكنا الأمم بعضهم في إثر بعض ، " وجعلناهم أحاديث " قال أبو عبيدة : أي : يتمثل بهم في الشر ، ولا يقال في الخير : جعلته حديثا .
    ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين . [ ص: 475 ]

    قوله تعالى : " فاستكبروا " ; أي : عن الإيمان بالله وعبادته ، " وكانوا قوما عالين " ; أي : قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم .

    قوله تعالى : " وقومهما لنا عابدون " ; أي : مطيعون . قال أبو عبيدة : كل من دان لملك فهو عابد له .
    ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين .

    قوله تعالى : " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني : التوراة ، أعطيها جملة واحدة بعد غرق فرعون ، " لعلهم " يعني : بني إسرائيل ، والمعنى : لكي يهتدوا .

    قوله تعالى : " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : ( آيتين ) على التثنية ، وهذا كقوله : وجعلناها وابنها آية [ الأنبياء : 91 ] ، وقد سبق شرحه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #403
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    الحلقة (403)
    صــ 476 إلى صــ 483



    قوله تعالى : " وآويناهما " ; أي : جعلناهما يأويان ، " إلى ربوة " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ( ربوة ) بضم الراء . وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها . وقد شرحنا معنى الربوة في ( البقرة : 265 ) . ( ذات قرار ) ; أي : مستوية يستقر عليها ساكنوها ، والمعنى : ذات موضع قرار . وقال الزجاج : أي : ذات مستقر . " ومعين " وهو الماء الجاري من العيون . وقال ابن قتيبة : " ذات قرار " ; أي : يستقر بها للعمارة ، " ومعين " : هو الماء الظاهر ، [ ص: 476 ] ويقال : هو مفعول من العين ، كأن أصله معيون ، كما يقال : ثوب مخيط ، وبر مكيل .

    واختلف المفسرون في موضع هذه الربوة الموصوفة على أربعة أقوال :

    أحدها : أنها دمشق ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب .

    والثاني : أنها بيت المقدس ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، وعن الحسن كالقولين .

    والثالث : أنها الرملة من أرض فلسطين ، قاله أبو هريرة .

    والرابع : مصر ، قاله وهب بن منبه ، وابن زيد ، وابن السائب .

    فأما السبب الذي لأجله أويا إلى الربوة ، فقال أبو صالح عن ابن عباس : فرت مريم بابنها عيسى من ملكهم ، ثم رجعت إلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة . قال وهب بن منبه : وكان الملك أراد قتل عيسى . [ ص: 477 ]
    يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون .

    قوله تعالى : " يا أيها الرسل " قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين : يعني بالرسل هاهنا : محمدا صلى الله عليه وسلم وحده ، وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع ، ويتضمن هذا أن الرسل جميعا كذا أمروا ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة والزجاج ، والمراد بالطيبات : الحلال . قال عمرو بن شرحبيل : كان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه . [ ص: 478 ]

    قوله تعالى : " وإن هذه أمتكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : ( وأن ) بالفتح وتشديد النون . وافق ابن عامر في فتح الألف ، لكنه سكن النون . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : ( وإن ) بكسر الألف وتشديد النون . قال الفراء : من فتح عطف على قوله : " إني بما تعملون عليم " ، وبأن هذه أمتكم ، فموضعها خفص ; لأنها مردودة على " ما " ، وإن شئت كانت منصوبة بفعل مضمر ، كأنك قلت : واعلموا هذا ، ومن كسر استأنف . قال أبو علي الفارسي : وأما ابن عامر فإنه خفف النون المشددة ، وإذا خففت تعلق بها ما يتعلق بالمشددة . وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في ( الأنبياء : 92 ) إلى قوله : " زبرا " وقرأ ابن عباس وأبو عمران الجوني : ( زبرا ) برفع الزاي وفتح الباء . وقرأ أبو الجوزاء وابن السميفع : ( زبرا ) برفع الزاي وإسكان الباء . قال الزجاج : من قرأ : ( زبرا ) بضم الباء ، فتأويله : جعلوا دينهم كتبا مختلفة ، جمع زبور . ومن قرأ : ( زبرا ) بفتح الباء ، أراد : قطعا .

    قوله تعالى : " كل حزب بما لديهم فرحون " ; أي : بما عندهم من الدين الذي ابتدعوه معجبون ، يرون أنهم على الحق .

    وفي المشار إليهم قولان :

    أحدهما : أنهم أهل الكتاب ، قاله مجاهد .

    والثاني : أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب ، قاله ابن السائب . [ ص: 479 ]

    قوله تعالى : " فذرهم في غمرتهم " وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب : ( في غمراتهم ) على الجمع . قال الزجاج : في عمايتهم وحيرتهم . " حتى حين " ; أي : إلى حين يأتيهم ما وعدوا به من العذاب . قال مقاتل : يعني : كفار مكة .

    فصل

    وهل هذه الآية منسوخة أم لا ؟ فيها قولان :

    أحدهما : أنها منسوخة بآية السيف . والثاني : أن معناها التهديد فهي محكمة .

    قوله تعالى : " أيحسبون أنما نمدهم به " وقرأ عكرمة وأبو الجوزاء : ( يمدهم ) بالياء المرفوعة وكسر الميم . وقرأ أبو عمران الجوني : ( نمدهم ) بنون مفتوحة ورفع الميم . قال الزجاج : المعنى : أيحسبون أن الذي نمدهم به " من مال وبنين " مجازاة لهم ؟ إنما هو استدراج . " نسارع لهم في الخيرات " ; أي : نسارع لهم به في الخيرات . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، وأيوب السختياني : ( يسارع ) بياء مرفوعة وكسر الراء . وقرأ معاذ القارئ وأبو المتوكل مثله ، إلا أنهما فتحا الراء . وقرأ أبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( يسرع ) بياء مرفوعة وسكون السين ونصب الراء من غير ألف .

    قوله تعالى : " بل لا يشعرون " ; أي : لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم .
    إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون . [ ص: 480 ]

    ثم ذكر المؤمنين فقال : " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " وقد شرحنا هذا المعنى في قوله : وهم من خشيته مشفقون [ الأنبياء : 28 ] .

    قوله تعالى : " والذين يؤتون ما آتوا " وقرأ عاصم الجحدري : ( يأتون ما أتوا ) بقصر همزة ( أتوا ) . وسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، فقالت : يا رسول الله ; أهم الذين يذنبون وهم مشفقون ؟ فقال : " لا ، بل هم الذين يصلون وهم مشفقون ، ويصومون وهم مشفقون ، ويتصدقون وهم مشفقون أن لا يتقبل منهم " . قال الزجاج : فمعنى " يؤتون " : يعطون ما أعطوا وهم يخافون أن لا يتقبل منهم . " أنهم إلى ربهم راجعون " ; أي : لأنهم يوقنون أنهم يرجعون . ومعنى " يأتون " : يعملون الخيرات وقلوبهم خائفة أن يكونوا مع اجتهادهم مقصرين . " أولئك يسارعون في الخيرات " وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع : ( يسرعون ) برفع الياء وإسكان السين وكسر الراء من غير ألف . قال الزجاج : يقال : أسرعت وسارعت في معنى واحد ، إلا أن سارعت أبلغ من أسرعت . " وهم لها " ; أي : من أجلها ، وهذا كما تقول : أنا أكرم فلانا لك ; أي : من أجلك . وقال بعض أهل العلم : الوجل المذكور هاهنا واقع على مضمر . [ ص: 481 ]


    ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون .

    قوله تعالى : " ولدينا كتاب " يعني : اللوح المحفوظ . " ينطق بالحق " قد أثبت فيه أعمال الخلق فهو ينطق بما يعملون ، " وهم لا يظلمون " ; أي : لا ينقصون من ثواب أعمالهم . ثم عاد إلى الكفار فقال : " بل قلوبهم في غمرة من هذا " قال مقاتل : في غفلة عن الإيمان بالقرآن . وقال ابن جرير : في عمى عن هذا القرآن . قال الزجاج : يجوز أن يكون إشارة إلى ما وصف من أعمال البر في قوله : " أولئك يسارعون في الخيرات " ، فيكون المعنى : بل قلوب هؤلاء في عماية من هذا ، ويجوز أن يكون إشارة إلى الكتاب ، فيكون المعنى : بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطق بالحق وأعمالهم محصاة فيه .

    فخرج في المشار إليه بـ " هذا " ثلاثة أقوال :

    أحدها : القرآن . والثاني : أعمال البر . والثالث : اللوح المحفوظ .

    قوله تعالى : " ولهم أعمال من دون ذلك " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : أعمال سيئة دون الشرك ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثاني : خطايا سيئة من دون ذلك الحق ، قاله مجاهد . وقال ابن جرير : من دون أعمال المؤمنين وأهل التقوى والخشية . [ ص: 482 ]

    والثالث : أعمال غير الأعمال التي ذكروا بها سيعملونها ، قاله الزجاج .

    والرابع : أعمال - من قبل الحين الذي قدر الله تعالى أنه يعذبهم عند مجيئه - من المعاصي ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " هم لها عاملون " إخبار بما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم لا بد لهم من عملها .

    قوله تعالى : " حتى إذا أخذنا مترفيهم " ; أي : أغنياءهم ورؤساءهم ، والإشارة إلى قريش . وفي المراد " بالعذاب " قولان :

    أحدهما : ضرب السيوف يوم بدر ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك .

    والثاني : الجوع الذي عذبوا به سبع سنين ، قاله ابن السائب . و " يجأرون " بمعنى : يصيحون . " لا تجأروا اليوم " ; أي : لا تستغيثوا من العذاب ، " إنكم منا لا تنصرون " ; أي : لا تمنعون من عذابنا . " قد كانت آياتي تتلى عليكم " يعني : القرآن ، " فكنتم على أعقابكم تنكصون " ; أي : ترجعون وتتأخرون عن الإيمان بها ، " مستكبرين " منصوب على الحال . وقوله : " به " الكناية عن البيت الحرام ، وهي كناية عن غير مذكور ، والمعنى : إنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم ; لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم . تقولون : نحن أهل الحرم فلا نخاف أحدا ، ونحن أهل بيت الله وولاته ، هذا مذهب ابن عباس وغيره . قال الزجاج : ويجوز أن تكون الهاء في " به " للكتاب ، فيكون المعنى : تحدث لكم تلاوته عليكم استكبارا .

    قوله تعالى : " سامرا " قال أبو عبيدة : معناه : تهجرون سمارا ، والسامر بمعنى السمار ، بمنزلة طفل في موضع أطفال ، وهو من سمر الليل . وقال [ ص: 483 ] ابن قتيبة : " سامرا " ; أي : متحدثين ليلا ، والسمر : حديث الليل . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو العالية ، وابن محيصن : ( سمرا ) بضم السين وتشديد الميم وفتحها ، جمع سامر . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري : ( سمارا ) برفع السين وتشديد الميم وألف بعدها .

    قوله تعالى : " تهجرون " قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( تهجرون ) بفتح التاء وضم الجيم . وفي معناها أربعة أقوال :

    أحدها : تهجرون ذكر الله والحق ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : تهجرون كتاب الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .

    والثالث : تهجرون البيت ، قاله أبو صالح . وقال سعيد بن جبير : كانت قريش تسمر حول البيت ، وتفتخر به ولا تطوف به .

    والرابع : تقولون هجرا من القول ، وهو اللغو والهذيان ، قاله ابن قتيبة . قال الفراء : يقال : قد هجر الرجل في منامه : إذا هذى ، والمعنى : إنكم تقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه وما لا يضره .

    وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن محيصن ، ونافع : ( تهجرون ) بضم التاء وكسر الجيم . قال ابن قتيبة : وهذا من الهجر ، وهو السب والإفحاش من المنطق ، يريد : سبهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه . وقرأ أبو العالية ، وعكرمة ، وعاصم الجحدري ، وأبو نهيك : ( تهجرون ) بتشديد الجيم ورفع التاء . قال ابن الأنباري : ومعناها معنى قراءة ابن عباس . [ ص: 484 ]

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #404
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    الحلقة (404)
    صــ 484 إلى صــ 494




    أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون .

    قوله تعالى : " أفلم يدبروا القول " يعني : القرآن ، فيعرفوا ما فيه من الدلالات والعبر على صدق رسولهم . " أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين " المعنى : أليس قد أرسل الأنبياء إلى أممهم كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ " أم لم يعرفوا رسولهم " هذا توبيخ لهم ; لأنهم عرفوا نسبه وصدقه وأمانته ، صغيرا وكبيرا ، ثم أعرضوا عنه . والجنة : الجنون ، " بل جاءهم بالحق " يعني : القرآن .
    ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم .

    قوله تعالى : " ولو اتبع الحق أهواءهم " في المراد بالحق قولان :

    أحدهما : أنه الله عز وجل ، قاله مجاهد ، وابن جريج ، والسدي في آخرين .

    والثاني : أنه القرآن ، ذكره الفراء والزجاج . فعلى القول الأول يكون المعنى : لو جعل الله لنفسه شريكا كما يحبون . وعلى الثاني : لو نزل القرآن بما يحبون من جعل شريك لله . لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم ; أي : بما فيه شرفهم وفخرهم ، وهو القرآن . " فهم عن ذكرهم معرضون " ; أي : قد تولوا عما جاءهم من شرف الدنيا والآخرة . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء : ( بل أتيناهم بذكراهم فهم عن ذكراهم معرضون ) بألف فيهما . " أم تسألهم " عما جئتهم به ، " خرجا " [ ص: 485 ] قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : ( خرجا ) بغير ألف ، [ ( فخراج ) بألف ] . وقرأ ابن عامر : ( خرجا فخرج ) بغير ألف في الحرفين . وقرأ حمزة والكسائي : ( خراجا ) بألف ، ( فخراج ) بألف في الحرفين . ومعنى " خرجا " : أجرا ومالا . " فخراج ربك " ; أي : فما يعطيك ربك من أجره وثوابه ، " خير وهو خير الرازقين " ; أي : أفضل من أعطى ، وهذا على سبيل التنبيه لهم أنه لم يسألهم أجرا ، لا أنه قد سألهم . والناكب : العادل ، يقال : نكب عن الطريق ; أي : عدل عنه .
    وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون .

    قوله تعالى : " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر " قال ابن عباس : الضر هاهنا : الجوع الذي نزل بأهل مكة حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اللهم أعني على قريش بسنين كسني يوسف " ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكا إليه الضر وأنهم قد أكلوا القد والعظام ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، وهو العذاب المذكور في قوله : " ولقد أخذناهم بالعذاب " .

    قوله تعالى : " حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه يوم بدر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . [ ص: 486 ]

    والثاني : أنه الجوع الذي أصابهم ، قاله مقاتل .

    والثالث : باب من عذاب جهنم في الآخرة ، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى : " إذا هم فيه مبلسون " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو المتوكل ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارئ : ( مبلسون ) بفتح اللام . وقد شرحنا معنى المبلس في ( الأنعام : 45 ) .
    وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون .

    قوله تعالى : " قليلا ما تشكرون " قال المفسرون : يريد : أنهم لا يشكرون أصلا .

    قوله تعالى : " ذرأكم في الأرض " ; أي : خلقكم من الأرض .

    قوله تعالى : " وله اختلاف الليل والنهار " ; أي : هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض . " أفلا تعقلون " ما ترون من صنعه ؟ وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : " قل لمن الأرض " ; أي : قل لأهل مكة المكذبين بالبعث : لمن الأرض ، " ومن فيها " من الخلق ، " إن كنتم تعلمون " بحالها ، " سيقولون لله " قرأ أبو عمرو : ( لله ) بغير ألف هاهنا وفي اللذين بعدها بألف . وقرأ الباقون : ( لله ) في المواضع الثلاثة . وقراءة أبي عمرو على القياس . قال الزجاج : ومن قرأ : ( سيقولون الله ) فهو جواب السؤال ، ومن قرأ : ( لله ) فجيد أيضا ; لأنك [ ص: 487 ] إذا قلت : من صاحب هذه الدار ؟ فقيل : لزيد ، جاز ; لأن معنى ( من صاحب هذه الدار ؟ ) : لمن هي . وقال أبو علي الفارسي : من قرأ : ( لله ) في الموضعين الآخرين ، فقد أجاب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ . وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : ( سيقولون الله ) ( الله ) ( الله ) بألف فيهن كلهن . قال أبو علي الأهوازي : وهو في مصاحف أهل البصرة بألف فيهن .
    قوله تعالى : " قل أفلا تذكرون " فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء ، أقدر على إحياء الأموات .
    قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون .

    قوله تعالى : " أفلا تتقون " فيه قولان :

    أحدهما : تتقون عبادة غيره . والثاني : تخشون عذابه . فأما الملكوت فقد شرحناه في ( الأنعام : 75 ) .

    قوله تعالى : " وهو يجير ولا يجار عليه " ; أي : يمنع [ من ] السوء من شاء ، ولا يمنع منه من أراده بسوء ، يقال : أجرت فلانا ; أي : حميته ، وأجرت عليه ; أي : حميت عنه .
    قوله تعالى : " فأنى تسحرون " قال ابن قتيبة : أنى تخدعون وتصرفون عن هذا ؟
    بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا [ ص: 488 ] بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون .

    قوله تعالى : " بل أتيناهم بالحق " ; أي : بالتوحيد والقرآن ، " وإنهم لكاذبون " فيما يضيفون إلى الله من الولد والشريك ، ثم نفاهما عنه بما بعد هذا إلى قوله : " إذا لذهب كل إله بما خلق " ; أي : لانفرد بخلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ، ولمنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق ، " ولعلا بعضهم على بعض " ; أي : غلب بعضهم بعضا .

    قوله تعالى : " عالم الغيب " قرأ ابن كثير وأبو [ عمرو ، وابن ] عامر ، وحفص عن عاصم : ( عالم ) بالخفض . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : ( عالم ) بالرفع . قال الأخفش : الجر أجود ; ليكون الكلام من وجه واحد ، والرفع على أن يكون خبر ابتداء محذوف ، ويقويه أن الكلام الأول قد انقطع .
    قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون .

    قوله تعالى : " إما تريني " وقرأ أبو عمران الجوني والضحاك : ( ترئني ) بالهمز بين الراء والنون من غير ياء والمعنى : إن أريتني ما يوعدون من القتل والعذاب ، فاجعلني خارجا عنهم ولا تهلكني بهلاكهم ، فأراه الله تعالى ما وعدهم ببدر وغيرها ، ونجاه ومن معه .

    قوله تعالى : " ادفع بالتي هي أحسن السيئة " فيه أربعة أقوال : [ ص: 489 ]

    أحدها : ادفع إساءة المسيء بالصفح ، قاله الحسن .

    والثاني : ادفع الفحش بالسلام ، قاله عطاء والضحاك .

    والثالث : ادفع الشرك بالتوحيد ، قاله ابن السائب .

    والرابع : ادفع المنكر بالموعظة ، حكاه الماوردي . وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوخ بآية السيف .

    قوله تعالى : " نحن أعلم بما يصفون " ; أي : بما يقولون من الشرك والتكذيب ، والمعنى : إنا نجازيهم على ذلك . " وقل رب أعوذ " ; أي : ألجأ وأمتنع ، " بك من همزات الشياطين " قال ابن قتيبة : هو نخسها وطعنها ، ومنه قيل للعائب : همزة ، كأنه يطعن وينخس إذا عاب . وقال ابن فارس : الهمز كالعصر ، يقال : همزت الشيء في كفي ، ومنه الهمز في الكلام ; لأنه كأنه يضغط الحرف . وقال غيره : الهمز في اللغة : الدفع ، وهمزات الشياطين : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي .

    قوله تعالى : " أن يحضرون " ; أي : أن يشهدون ، والمعنى : أن يصيبوني بسوء ; لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إلا بسوء . ثم أخبر أن هؤلاء الكفار المنكرين للبعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند الموت بالآية التي تلي هذه ، وقيل : هذا السؤال منهم للملائكة الذين يقبضون أرواحهم .
    فإن قيل : كيف قال : " ارجعون " وهو يريد : ارجعني ؟
    فالجواب : أن هذا اللفظ تعرفه العرب للعظيم الشأن ، وذلك أنه يخبر عن نفسه [ فيه ] بما تخبر به الجماعة ، كقوله : إنا نحن نحيي ونميت [ ق : 43 ] ، فجاء خطابه كإخباره عن نفسه ، هذا قول الزجاج . [ ص: 490 ]
    حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون .

    قوله تعالى : " لعلي أعمل صالحا فيما تركت " قال ابن عباس : فيما مضى من عمري . وقال مقاتل : فيما تركت من العمل الصالح .

    قوله تعالى : " كلا " ; أي : لا يرجع إلى الدنيا ، " إنها " يعني : مسألته الرجعة ، " كلمة هو قائلها " ; أي : هو كلام لا فائدة له فيه . " ومن ورائهم " ; أي : أمامهم وبين أيديهم ، " برزخ " قال ابن قتيبة : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة ، وكل شيء بين شيئين فهو برزخ . وقال الزجاج : البرزخ في اللغة : الحاجز ، وهو هاهنا ما بين موت الميت وبعثه .

    قوله تعالى : " فإذا نفخ في الصور " في هذه النفخة قولان :

    أحدهما : أنها النفخة الأولى ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني : أنها الثانية ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " فلا أنساب بينهم " في الكلام محذوف ، تقديره : لا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها أو يتقاطعون بها ; لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ ، إنما يرفع التواصل والتفاخر بها .

    وفي قوله : " ولا يتساءلون " ثلاثة أقوال : [ ص: 491 ]

    أحدها : لا يتساءلون بالأنساب أن يترك بعضهم لبعض حقه .

    والثاني : لا يسأل بعضهم بعضا عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه .

    والثالث : لا يسأل بعضهم بعضا من أي قبيل أنت ، كما تفعل العرب لتعرف النسب فتعرف قدر الرجل . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ الأعراف : 8 ] إلى قوله : " تلفح وجوههم النار " قال الزجاج : تلفح وتنفح بمعنى واحد ، إلا أن اللفح أعظم تأثيرا . والكالح : الذي قد تشمرت شفته عن أسنانه ، نحو ما ترى [ من ] رءوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمرت الشفاه . وقال ابن مسعود : قد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشيط بالنار . وروى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : " تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته " .
    ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا [ ص: 492 ] وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون .

    قوله تعالى : " ألم تكن " المعنى : ويقال لهم : ألم تكن ، " آياتي تتلى عليكم " ، يعني : القرآن . " قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا " قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( شقوتنا ) بكسر الشين من غير ألف . وقرأ عمرو بن العاص ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو رجاء العطاردي كذلك ، إلا أنه بفتح الشين . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي : ( شقاوتنا ) بألف مع فتح الشين والقاف . وعن الحسن وقتادة كذلك ، إلا أن الشين مكسورة . قال المفسرون : أقر القوم بأن ما كتب عليهم من الشقاء منعهم الهدى .

    قوله تعالى : " ربنا أخرجنا منها " ; أي : من النار . قال ابن عباس : طلبوا الرجوع إلى الدنيا . " فإن عدنا " ; أي : إلى الكفر والمعاصي .

    قوله تعالى : " اخسئوا " قال الزجاج : تباعدوا تباعد سخط ، يقال : خسأت الكلب أخسؤه : إذا زجرته ليتباعد .

    قوله تعالى : " ولا تكلمون " ; أي : في رفع العذاب عنكم . قال عبد الله بن عمرو : إن أهل جهنم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم ، ثم يقول : إنكم ماكثون [ الزخرف : 77 ] ، ثم ينادون ربهم " ربنا أخرجنا منها " فيدعهم مثل عمر الدنيا ، ثم يقول : " إنكم ماكثون " ، ثم ينادون ربهم " ربنا أخرجنا منها " فيدعهم مثل عمر الدنيا ، ثم يرد عليهم " اخسئوا فيها ولا تكلمون " فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة ، إن كان إلا الزفير والشهيق . [ ص: 493 ]

    ثم بين الذي لأجله أخسأهم بقوله : " إنه " . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : ( أنه ) بفتح الهمزة . " كان فريق من عبادي " قال ابن عباس : يريد : المهاجرين .

    قوله تعالى : " فاتخذتموهم " قال الزجاج : الأجود إدغام الذال في التاء لقرب المخرجين ، وإن شئت أظهرت ; لأن الذال من كلمة والتاء من كلمة ، وبين الذال والتاء في المخرج شيء من التباعد .

    قوله تعالى : " سخريا " قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو حاتم عن يعقوب : ( سخريا ) بضم السين هاهنا وفي ( ص : 63 ) ، تابعهم المفضل في ( ص : 32 ) . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر بكسر السين في السورتين . ولم يختلف في ضم السين في الحرف الذي في ( الزخرف : 32 ) . واختار الفراء الضم ، والزجاج الكسر . وهل هما بمعنى ؟ فيه قولان :

    أحدهما : أنهما لغتان ومعناهما واحد ، قاله الخليل وسيبويه ، ومثله قول العرب : بحر لجي ولجي ، وكوكب دري ودري .

    والثاني : أن الكسر بمعنى الهمز ، والضم بمعنى السخرة والاستعباد ، قاله أبو عبيدة ، وحكاه الفراء ، وهو مروي عن الحسن وقتادة .

    قال أبو علي : قراءة من كسر أرجح من قراءة من ضم ; لأنه من الهزء ، والأكثر في الهزء كسر السين . قال مقاتل : كان رءوس كفار قريش ، كأبي جهل ، وعقبة ، [ والوليد ] ، قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كعمار ، وبلال ، وخباب ، وصهيب ، سخريا يستهزئون بهم ويضحكون منهم . [ ص: 494 ]

    قوله تعالى : " حتى أنسوكم ذكري " ; أي : أنساكم الاشتغال بالاستهزاء بهم ذكري ، فنسب الفعل إلى المؤمنين وإن لم يفعلوه ; لأنهم كانوا السبب في وجوده ، كقوله : إنهن أضللن كثيرا من الناس [ إبراهيم : 36 ] .

    قوله تعالى : " إني جزيتهم اليوم بما صبروا " ; أي : على أذاكم واستهزائكم . " أنهم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( أنهم ) بفتح الألف . وقرأ حمزة والكسائي : ( إنهم ) بكسرها . فمن فتح ( أنهم ) فالمعنى : جزيتهم بصبرهم الفوز ، ومن كسر ( إنهم ) استأنف .
    قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين .

    قوله تعالى : " قال كم لبثتم " قرأ نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( قال كم لبثتم ) ، وهذا سؤال الله تعالى للكافرين . وفي وقته قولان :

    أحدهما : أنه يسألهم يوم البعث .

    والثاني : بعد حصولهم في النار .

    وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : ( قل كم لبثتم ) وفيها قولان :

    أحدهما : أنه خطاب لكل واحد منهم ، والمعنى : قل يا أيها الكافر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #405
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ النُّورِ
    الحلقة (405)
    صــ 3 إلى صــ 10




    [ ص: 495 ]

    والثاني : أن المعنى : قولوا ، فأخرجه مخرج الأمر للواحد ، والمراد الجماعة ; لأن المعنى مفهوم . وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي يدغمون ثاء ( لبثتم ) ، والباقون لا يدغمونها . فمن أدغم فلتقارب مخرج الثاء والتاء ، ومن لم يدغم فلتباين المخرجين .

    وفي المراد بالأرض قولان : أحدهما : أنها القبور . والثاني : الدنيا . فاحتقر القوم ما لبثوا لما عاينوا من الأهوال والعذاب ، فقالوا : " لبثنا يوما أو بعض يوم " قال الفراء : والمعنى : لا ندري كم لبثنا .

    وفي المراد بالعادين قولان :

    أحدهما : الملائكة ، قاله مجاهد .

    والثاني : الحساب ، قاله قتادة . وقرأ الحسن ، والزهري ، وأبو عمران الجوني ، وابن يعمر : ( العادين ) بتخفيف الدال .

    قوله تعالى : " قال إن لبثتم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( قال إن لبثتم ) . وقرأ حمزة والكسائي : ( قل إن لبثتم ) على معنى : قل أيها السائل عن لبثهم . وزعموا أن في مصحف أهل الكوفة : ( قل ) في الموضعين ، فقرأهما حمزة والكسائي على ما في مصاحفهم ; أي : ما لبثتم في الأرض ، " إلا قليلا " ; لأن مكثهم في الأرض وإن طال ، فإنه متناه ، ومكثهم في النار لا يتناهى .

    وفي قوله : " لو أنكم كنتم تعلمون " قولان :

    أحدهما : لو علمتم قدر لبثكم في الأرض .

    والثاني : لو علمتم أنكم إلى الله ترجعون فعملتم لذلك .

    قوله تعالى : " أفحسبتم " ; أي : أفظننتم . " أنما خلقناكم عبثا " ; أي : [ ص: 496 ] للعبث . والعبث في اللغة : اللعب ، وقيل : هو الفعل لا لغرض صحيح . " وأنكم إلينا لا ترجعون " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : ( لا ترجعون ) بضم التاء . وقرأ حمزة والكسائي بفتحها . " فتعالى الله " عما يصفه به الجاهلون من الشرك والولد . " الملك " قال الخطابي : هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات . وأما المالك : فهو الخالص الملك . وقد ذكرنا معنى " الحق " في ( يونس : 32 ) .

    قوله تعالى : " رب العرش الكريم " والكريم في صفة الجماد بمعنى : الحسن . وقرأ ابن محيصن : ( الكريم ) برفع الميم ، يعني : الله عز وجل .

    قوله تعالى : " لا برهان له به " ; أي : لا حجة له به ولا دليل . وقال بعضهم : معناه : فلا برهان له به .

    قوله تعالى : " فإنما حسابه عند ربه " ; أي : جزاؤه عند ربه .

    تم - بعون الله تبارك وتعالى - الجزء الخامس من كتاب

    " زاد المسير في علم التفسير " ويليه الجزء السادس

    وأوله تفسير " سورة النور "
    [ ص: 3 ] سُورَةُ النُّورِ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

    وَهِيَ مَدَنيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    رَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْمِغْزَلَ وَسُورَةَ النُّورِ " يَعْنِي: النِّسَاءَ .

    [ ص: 4 ] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: سُورَةٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ . وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: " سُورَةً " بِالنَّصْبِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنْ رَفَعَ، فَعَلَى الِابْتِدَاءِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا قَبِيحٌ، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ، وَ أَنْزَلْنَاهَا صِفَةٌ لَهَا، وَإِنَّمَا الرَّفْعُ عَلَى إِضْمَارِ: هَذِهِ سُورَةٌ، وَالنَّصْبُ عَلَى وَجْهَيْنِ،أَحَ دُهُمَا عَلَى مَعْنَى: أَنْزَلْنَا سُورَةً، وَعَلَى مَعْنَى: اتْلُ سُورَةً .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَرَضْنَاهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالزُّهْرِيُّ وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ يَعْمُرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالتَّخْفِيفِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ، أَيْ إِنَّنَا فَرَضْنَا فِيهَا فُرُوضًا، وَالثَّانِي: عَلَى مَعْنَى: بَيِّنًا وَفَصَّلْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ; وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ، فَمَعْنَاهُ: أَلْزَمْنَاكُمُ الْعَمَلَ [ ص: 5 ] بِمَا فَرَضَ فِيهَا . وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ شَدَّدَ، أَرَادَ: فَصَّلْنَا فَرَائِضَهَا، وَمَنْ خَفَّفَ، فَمَعْنَاهُ: فَرَضْنَا مَا فِيهَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالرَّفْعِ . وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: " الزَّانِيَةَ " بِالنَّصْبِ . وَاخْتَارَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ الرَّفْعَ اخْتِيَارَ الْأَكْثَرِينَ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالرَّفْعُ أَقْوَى فِي الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ زَنَى فَاجْلِدُوهُ، فَتَأْوِيلُهُ الِابْتِدَاءُ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى: اجْلِدُوا الزَّانِيَةَ . فَأَمَّا الْجَلْدُ فَهُوَ ضَرْبُ الْجِلْدِ; يُقَالُ: جَلَدَهُ: إِذَا ضَرَبَ جِلْدَهُ، كَمَا يُقَالُ: بَطَّنَهُ: إِذَا ضَرَبَ بَطْنَهُ .

    قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَمَعْنَى الْآيَةِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إِذَا كَانَا حُرَّيْنِ بَالِغَيْنِ بِكْرَيْنِ، فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ .

    فَصْلٌ

    قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْجَلْدِ عَلَى الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ زِيَادَةٌ عَلَى الْجَلْدِ بِتَغْرِيبٍ عَامٍ، وَفِي حَقِّ الثَّيِّبِ زِيَادَةٌ عَلَى الْجَلْدِ بِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ . فَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ " . وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ النَّفْيِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ [ ص: 6 ] أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلَيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ عَطَاءُ، وَطَاوُوسُ، وَسُفْيَانُ، وَمَالِكُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، قَالَ: وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْبِكْرُ، [ ص: 7 ] فَأَمَّا الثَّيِّبُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَلْدُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الرَّجْمُ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي ُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ مِثْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَأْخُذْكُمْ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ يُعْمُرٍ، وَالْأَعْمَشُ: " يَأْخُذْكُمْ " بِالْيَاءِ، بِهِمَا رَأْفَةٌ قَرَأَ نَافِعُ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ : " رَأْفَةٌ " بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ . وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَمُجَاهِدُ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَصْرِهَا عَلَى وَزْنِ رَعْفَةٍ . وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ : " رَآفَةٌ " مِثْلَ سَآمَةٍ وَكَآبَةٍ .

    وَفِي مَعْنَى الْكَلَامِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ، فَتُخَفِّفُوا الضَّرْبَ، وَلَكِنْ أَوْجِعُوهُمَا، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ .

    وَالثَّانِي: لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلَا تُقِيمُوهَا، قَالَهُ مُجَاهِدُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ فِي آخَرِينَ .

    فَصْلٌ

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنَ الْقَذْفِ، وَالْقَذْفُ أَشَدُّ مِنَ الشُّرْبِ، وَيُضْرَبُ الشَّارِبُ أَشَدَّ مِنْ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ، وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّعْزِيرُ أَشَدُّ الضَّرْبِ، وَضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ، وَضَرْبُ الشَّارِبِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَذْفِ . وَقَالَ مَالِكُ: الضَّرْبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا سَوَاءً غَيْرُ مُبَرِّحٍ .

    [ ص: 8 ] فَصْلٌ

    فَأَمَّا مَا يُضْرَبُ مِنَ الْأَعْضَاءِ، فَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَلْدِ الزَّانِي، قَالَ: يُجَرَّدُ، وَيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ حَقُّهُ، وَلَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ وَلَا رَأْسُهُ . وَنَقَلَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ: لَا يُضْرَبُ الرَّأْسُ وَلَا الْوَجْهُ وَلَا الْمَذَاكِيرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكُ: لَا يُضْرَبُ إِلَّا فِي الظَّهْرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُتَّقَى الْفَرْجُ وَالْوَجْهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي دِينِ اللَّهِ فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: فِي حُكْمِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: فِي طَاعَةِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الزَّجَاجُ: الْقِرَاءَةُ بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا . وَالْمُرَادُ بِعَذَابِهِمَا ضَرْبُهُمَا .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّائِفَةِ هَاهُنَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: الرَّجُلُ فَمَا فَوْقَهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدُ وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْوَاحِدُ طَائِفَةٌ .

    وَالثَّانِي: الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءُ; وَعَنْ عِكْرِمَةَ كَالْقَوْلَيْنِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَى غَيْرِ مَا عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ فِي مَعْنَى جَمَاعَةٍ، وَأَقَلُّ الْجَمَاعَةِ اثْنَانِ .

    وَالثَّالِثُ: ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .

    وَالرَّابِعُ: أَرْبَعَةٌ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

    وَالْخَامِسُ: عَشْرَةٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . [ ص: 9 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: كَانَتِ امْرَأَةٌ تُسَافِحُ، وَتَشْتَرِطُ لِلَّذِي يَتَزَوَّجُهَا أَنْ تَكْفِيَهُ النَّفَقَةَ فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ يَتَزَوَّجَهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي بَغَايَا، كُنَّ بِمَكَّةَ، وَمِنْهُنَّ تِسْعٌ صَوَاحِبُ رَايَاتٍ، وَكَانَتْ بُيُوتُهُنَّ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ : الْمَوَاخِيرُ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ إِلَّا زَانٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، أَوْ مُشْرِكٌ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَأَرَادَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نِكَاحَهُنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .

    قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَمَعْنَى الْآيَةِ: الزَّانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَزَوَّجُ مِنْ أُولَئِكَ الْبَغَايَا إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً لِأَنَّهُنَّ كَذَلِكَ كُنَّ وَالزَّانِيَةُ مِنْهُنَّ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إِذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهُمَا .

    [ ص: 10 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: " وَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ " بِزِيَادَةِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ فَتْحِ حُرُوفِ " حَرَّمَ " .

    وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: " وَحَرُمَ ذَلِكَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً . ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نِكَاحُ الزَّوَانِي; قَالَهُ مُقَاتِلُ . وَالثَّانِي: الزِّنَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
    والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم

    قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات شرائط الإحصان في الزنا الموجب للرجم عندنا أربعة: البلوغ، والحرية، والعقل، والوطء في نكاح صحيح . فأما الإسلام، فليس بشرط في الإحصان، خلافا لأبي حنيفة، ومالك . وأما شرائط إحصان القذف فأربع: الحرية، والإسلام، والعفة، وأن يكون المقذوف ممن يجامع مثله . ومعنى الآية: يرمون المحصنات بالزنا، فاكتفى بذكره المتقدم عن إعادته . ثم لم يأتوا على ما رموهن به بأربعة شهداء عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك فاجلدوهم يعني القاذفين .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #406
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ النُّورِ
    الحلقة (406)
    صــ 11 إلى صــ 20




    فصل

    وقد أفادت هذه الآية أن على القاذف إذا لم يقم البينة الحد ورد الشهادة وثبوت الفسق . واختلفوا هل يحكم بفسقه ورد شهادته بنفس القذف، أم بالحد؟ فعلى قول أصحابنا: إنه يحكم بفسقه ورد شهادته إذا لم يقم البينة، وهو قول [ ص: 11 ] الشافعي . وقال أبو حنيفة، ومالك: لا يحكم بفسقه، وتقبل شهادته ما لم يقم الحد عليه .

    فصل

    والتعريض بالقذف- كقوله لمن يخاصمه: ما أنت بزان، ولا أمك زانية- يوجب الحد في المشهور من مذهبنا . وقال أبو حنيفة: لا يوجب الحد . وحد العبد في القذف نصف حد الحر، وهو أربعون، قاله الجماعة، إلا الأوزاعي فإنه قال: ثمانون . فأما قاذف المجنون، فقال الجماعة: لا يحد . وقال الليث: يحد .

    فأما الصبي، فإن كان مثله يجامع أو كانت صبية مثلها يجامع، فعلى القاذف الحد .

    وقال مالك: يحد قاذف الصبية التي يجامع مثلها، ويحد قاذف الصبي .

    وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يحد قاذفهما . فإن قذف رجل جماعة بكلمة واحدة، فعليه حد واحد، وإن أفرد كل واحد بكلمة، فعليه لكل واحد حد، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى; وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه حد واحد، سواء قذفهم بكلمة أو بكلمات .

    فصل

    وحد القذف حق لآدمي، يصح أن يبرأ منه، ويعفى عنه . وقال أبو حنيفة: هو حق لله . وعندنا [أنه] لا يستوفى إلا بمطالبة المقذوف، وهو قول الأكثرين . وقال ابن أبي ليلى: يحده الإمام وإن لم يطالب المقذوف .

    [ ص: 12 ] قوله تعالى: إلا الذين تابوا أي: من القذف وأصلحوا قال ابن عباس: أظهروا التوبة; وقال غيره: لم يعودوا إلى قذف المحصنات .

    وفي هذا الاستثناء قولان .

    أحدهما أنه نسخ حد القذف وإسقاط الشهادة معا، وهذا قول عكرمة، والشعبي، وطاووس، ومجاهد، والقاسم بن محمد، والزهري، والشافعي، وأحمد .
    والثاني: أنه يعود إلى الفسق فقط، وأما الشهادة، فلا تقبل أبدا، قاله الحسن، وشريح، وإبراهيم، وقتادة . فعلى هذا القول انقطع الكلام عند قوله: " أبدا " ; وعلى القول الأول وقع الاستثناء على جميع الكلام، وهذا أصح، لأن المتكلم بالفاحشة لا يكون أعظم جرما من راكبها، فإذا قبلت شهادة المقذوف بعد ثبوته، فالرامي أيسر جرما، وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فإنه إذا أسلم قبلت شهادته .
    والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . [ ص: 13 ] والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم

    قوله تعالى: والذين يرمون أزواجهم سبب نزولها أن هلال بن أمية وجد عند أهله رجلا، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله إني جئت أهلي، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتد عليه، فقال سعد بن عبادة: الآن يضرب رسول الله هلالا ويبطل شهادته، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه [إذ] نزل عليه الوحي، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس . وفي حديث آخر أن الرجل الذي قذفها به شريك بن سحماء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهلال حين قذفها: " ائتني بأربعة شهداء، وإلا فحد في ظهرك " ، فنزلت هذه الآية، فنسخ حكم الجلد في حق الزوج القاذف .

    [ ص: 14 ] فصل

    في بيان حكم الآية

    إذا قذف الرجل زوجته بالزنا، لزمه الحد، وله التخلص منه بإقامة البينة، أو باللعان، فإن أقام البينة لزمها الحد، وإن لاعنها، فقد حقق عليها الزنا، ولها التخلص منه باللعان; فإن نكل الزوج عن اللعان، فعليه حد القذف، وإن نكلت الزوجة، لم تحد، وحبست حتى تلاعن أو تقر بالزنا في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: يخلى سبيلها . وقال أبو حنيفة: لا يحد واحد منهما، ويحبس حتى يلاعن . وقال مالك، والشافعي: يجب الحد على الناكل منهما .

    فصل

    ولا تصح الملاعنة إلا بحضرة الحاكم . فإن كانت المرأة خفرة، بعث الحاكم من يلاعن بينهما . وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقول الزوجة أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول: وغضب الله عليها إن كان من الصادقين . والسنة أن يتلاعنا قياما، ويقال للزوج إذا بلغ اللعنة: اتق الله فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكذلك يقال للزوجة إذا بلغت إلى الغضب . فإن كان بينهما ولد، اقتصر نفيه عن الأب إلى ذكره في اللعان، فيزيد في الشهادة: وما هذا الولد ولدي وتزيد هي: وإن هذا الولد ولده .

    [ ص: 15 ] فصل

    واختلف الفقهاء في الزوجين اللذين يجري بينهما اللعان، فالمشهور عن أحمد أن كل زوج صح قذفه صح لعانه، فيدخل تحت هذا المسلم والكافر والحر والعبد، وكذلك المرأة، وهذا قول مالك، والشافعي . وقال أبو حنيفة: لا يجوز اللعان بين الحر والأمة، ولا بين العبد والحرة، ولا بين الذميين، أو إذا كان أحدهما ذميا; ونقل حرب عن أحمد نحو هذا، والمذهب هو الأول . ولا تختلف الرواية عن أحمد أن فرقة اللعان لا تقع بلعان الزوج وحده . واختلف هل تقع بلعانهما من غير فرقة الحاكم على روايتين . وتحريم اللعان مؤبد، فإن أكذب الملاعن نفسه لم تحل له زوجته أيضا، وبه قال عمر، وعلي وابن مسعود; وعن أحمد روايتان، أصحهما: هذا، والثانية: يجتمعان بعد التكذيب، وهو قول أبي حنيفة .

    قوله تعالى: ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم وقرأ أبو المتوكل . وابن يعمر، والنخعي: " تكن " بالتاء .

    قوله تعالى: فشهادة أحدهم أربع شهادات قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " أربع " بفتح العين . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: برفع العين . قال الزجاج: من رفع " أربع " ، فالمعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القذف أربع; ومن نصب فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربعا .

    قوله تعالى: والخامسة قرأ حفص عن عاصم: " والخامسة " نصبا، حملا على نصب " أربع شهادات " .

    قوله تعالى: أن لعنت الله عليه قرأ نافع، ويعقوب، والمفضل: " أن [ ص: 16 ] لعنة الله " و " أن غضب الله " بتخفيف النون فيهما وسكونهما ورفع الهاء من " لعنة " والباء من " غضب " ، إلا أن نافعا كسر الضاد من " غضب " وفتح الباء .

    قوله تعالى: ويدرأ عنها أي: ويدفع عنها العذاب وفيه ثلاثة أقوال .
    أحدها: [أنه] الحد . والثاني: الحبس ذكرهما ابن جرير . والثالث العار .
    قوله تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته أي: ستره ونعمته . قال الزجاج: وجواب " لولا " هاهنا متروك; والمعنى: لولا ذلك لنال الكاذب منكم عذاب عظيم . وقال غيره: لولا فضل الله لبين الكاذب من الزوجين فأقيم عليه الحد، وأن الله تواب يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة حكيم فيما فرض من الحدود .
    إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم [ ص: 17 ] ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم

    قوله تعالى: إن الذين جاءوا بالإفك أجمع المفسرون; أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها نزلت في قصة عائشة . وفي حديث الإفك أن هذه الآية إلى عشر آيات نزلت في قصة عائشة . وقد ذكرنا حديث الإفك في كتاب " الحدائق " وفي كتاب " المغني في التفسير " فلم نطل بذكره، لأن غرضنا اختصار هذا الكتاب ليحفظ . فأما الإفك، فهو الكذب، والعصبة: الجماعة .

    [ ص: 18 ] ومعنى قوله: منكم أي: من المؤمنين . وروى عروة عن عائشة أنها قالت هم أربعة: حسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي [بن سلول]، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وكذلك عدهم مقاتل .

    قوله تعالى: لا تحسبوه شرا لكم قال المفسرون: هذا خطاب لعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة; والمعنى: إنكم تؤجرون فيه، لكل امرئ منهم يعني: من العصبة الكاذبة ما اكتسب من الإثم أي: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه، والذي تولى كبره منهم وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، ومجاهد، وابن أبي عبلة ، والحسن، ومحبوب عن أبي عمرو، ويعقوب: " كبره " بضم [ ص: 19 ] الكاف . قال الكسائي: وهما لغتان . وقال ابن قتيبة : كبر الشيء: معظمه، ومنه هذه الآية . قال قيس بن الخطيم يذكر امرأة:

    تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنعرف

    وفي المتولي لذلك قولان .

    أحدهما: أنه عبد الله بن أبي، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وعروة عن عائشة، وبه قال مجاهد، والسدي، ومقاتل . قال المفسرون: هو الذي أشاع الحديث، فله عذاب عظيم بالنار . وقال الضحاك هو الذي بدأ بذلك .

    والثاني: أنه حسان; روى الشعبي أن عائشة قالت: ما سمعت أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة; فقيل: يا أم المؤمنين، أليس الله يقول: والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم فقالت: أليس قد ذهب بصره؟ وروى عنها مسروق أنها قالت: وأي عذاب أشد من العمى، ولعل الله أن يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره، تعني حسان بن ثابت .

    [ ص: 20 ] ثم إن الله عز وجل أنكر على الخائضين في الإفك بقوله: لولا إذ سمعتموه أي: هلا إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة ظن المؤمنون من العصبة الكاذبة، وهم حسان ومسطح والمؤمنات وهي: حمنة بنت جحش بأنفسهم وفيها ثلاثة أقوال .

    أحدها: بأمهاتهم . والثاني: بأخواتهم . والثالث: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة، وقالوا هذا إفك مبين أي: كذب بين . وجاء في التفسير أن أبا أيوب الأنصاري قالت له أمه: ألا تسمع ما يقول الناس في أمر عائشة؟! فقال: هذا إفك مبين، أكنت يا أماه فاعلته؟ قالت: معاذ الله، قال: فعائشة والله خير منك; فنزلت هذه الآية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #407
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ النُّورِ
    الحلقة (407)
    صــ 21 إلى صــ 30




    قوله تعالى: لولا جاءوا أي: هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم [عائشة] بأربعة شهداء وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: " بأربعة " منونة; والمعنى: يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله أي: في حكمه هم الكاذبون . ثم ذكر القاذفين فقال: ولولا فضل الله عليكم ورحمته أي: لولا ما من [الله] به عليكم، لمسكم أي: لأصابكم في ما أفضتم أي: أخذتم وخضتم فيه من الكذب والقذف [ ص: 21 ] عذاب عظيم في الدنيا والآخرة . ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال: إذ تلقونه وكان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، فيتلقاه بعضهم من بعض . وقرأ عمر بن الخطاب: " إذ تلقونه " بتاء واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة; وقرأ معاوية، وابن السميفع مثله، إلا أنهما فتحا التاء والقاف . وقرأ ابن مسعود: " تتلقونه " بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف . وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، ومجاهد، وأبو حيوة: " تلقونه " بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف . وقال الزجاج: " تلقونه " : يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه; ومعناه: إذ تسرعون بالكذب، يقال: ولق يلق: إذا أسرع في الكذب وغيره، قال الشاعر:


    جاءت به عنس من الشام تلق


    أي: تسرع . وقال ابن قتيبة: " تلقونه " أي: تقبلونه، ومن قرأ: " تلقونه " أخذه من الولق، وهو الكذب .

    قوله تعالى: وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم أي: من غير أن تعلموا أنه حق وتحسبونه يعني: ذلك القذف هينا أي: سهلا لا إثم [ ص: 22 ] فيه وهو عند الله عظيم في الوزر . ثم زاد عليهم في الإنكار فقال: ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أي: ما يحل وما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا سبحانك وهو يحتمل التنزيه والتعجب . وروت عائشة أن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له: ألم تسمع ما يتحدث الناس؟! فقال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ... الآية، فنزلت الآية . وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك، فنزلت الآية المتقدمة . وروي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ذلك قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فقيل للناس: هلا قلتم كما قال سعد؟!

    قوله تعالى: يعظكم الله أي: ينهاكم الله أن تعودوا لمثله أي: إلى مثله إن كنتم مؤمنين لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة . ويبين الله لكم الآيات في الأمر والنهى .

    ثم هدد القاذفين بقوله: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة أي يحبون أن يفشو القذف بالفاحشة، وهي الزنا في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا يعني: الجلد والآخرة عذاب النار . وروت عمرة عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم . وروى أبو صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، فأما الثلاثة فتابوا، وأما عبد الله فمات منافقا، وبعض العلماء ينكر صحة هذا، ويقول: لم يضرب أحدا .
    [ ص: 23 ] قوله تعالى: والله يعلم شر ما خضتم فيه وما يتضمن من سخط الله وأنتم لا تعلمون ذلك، ولولا فضل الله عليكم جوابه محذوف، تقديره: لعاقبكم فيما قلتم لعائشة . قال ابن عباس: يريد: مسطحا، وحسان، وحمنة .
    يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم

    قوله تعالى: لا تتبعوا خطوات الشيطان أي: تزيينه لكم قذف عائشة . وقد سبق شرح " خطوات الشيطان " وبيان " الفحشاء والمنكر " [البقرة:168، 169] .

    قوله تعالى: ما زكا منكم وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة: " ما زكى " بتشديد الكاف .

    وفيمن خوطب بهذا قولان .

    أحدهما : أنه عام في الخلق . والثاني: أنه خاص للمتكلمين في الإفك .

    ثم في معناه أربعة أقوال .
    أحدها: ما اهتدى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثاني: ما أسلم، قاله ابن زبد . والثالث: ما صلح، قاله مقاتل . والرابع: ما طهر، قاله ابن قتيبة .
    قوله تعالى: ولكن الله يزكي من يشاء أي: يطهر من يشاء من [ ص: 24 ] الإثم بالتوبة والغفران; فالمعنى: وقد شئت أن أتوب عليكم، والله سميع عليم علم ما في نفوسكم من التوبة والندامة .
    ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم

    قوله تعالى: ولا يأتل وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة : " ولا يتأل " بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يتعل . قال المفسرون: سبب نزولها أن أبا بكر الصديق كان ينفق على مسطح لقرابته وفقره، فلما خاض في أمر عائشة قال أبو بكر: والله لا أنفق عليه [شيئا] أبدا، فنزلت هذه الآية . فأما الفضل، فقال أبو عبيدة : هو التفضل، والسعة: الجدة . قال المفسرون: والمراد به: أبو بكر .
    قوله تعالى: أن يؤتوا قال ابن قتيبة: معناه: أن لا يؤتوا، فحذف " لا " . فأما قوله: أولي القربى فإنه يعني مسطحا، وكان ابن خالة أبي بكر، وكان مسكينا، وكان مهاجرا . قال المفسرون: فلما سمع أبو بكر ألا تحبون أن يغفر الله لكم قال: بلى يا رب، وأعاد نفقته على مسطح .
    إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم [ ص: 25 ] ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين

    قوله تعالى: إن الذين يرمون المحصنات يعني: العفائف الغافلات عن الفواحش، لعنوا في الدنيا أي: عذبوا بالجلد وفي الآخرة بالنار .

    واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقوال .

    أحدها: أنها نزلت في عائشة خاصة . قال خصيف: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية، فقلت: من قذف محصنة لعنه الله؟ قال: لا، إنما أنزلت هذه الآية في عائشة خاصة .

    والثاني: أنها في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك .

    والثالث: أنها في المهاجرات . قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا إنما خرجت تفجر، فنزلت هذه الآية .

    والرابع: أنها عامة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، وبه قال قتادة، وابن زيد .

    [ ص: 26 ] فإن قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟

    فالجواب: [أن] من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمنا، فاستغني عن ذكر المؤمنين، ومثله: سرابيل تقيكم الحر [ النحل:81] أراد: والبرد، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " يشهد " بالياء; وهو إقرارها بما تكلموا به من الفرية . قال أبو سليمان الدمشقي: وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم . وقال ابن جرير: المعنى: أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض .
    قوله تعالى: يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق أي: حسابهم العدل، وقيل: جزاءهم الواجب . وقرأ مجاهد، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس، والأعمش: " دينهم الحق " برفع القاف ويعلمون أن الله هو الحق المبين قال ابن عباس: وذلك أن عبد الله بن أبي كان يشك في الدين، فإذا كانت القيامة علم حيث لا ينفعه .
    الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم

    قوله تعالى: الخبيثات للخبيثين فيه أربعة أقوال .

    أحدها: الكلمات الخبيثات لا يتكلم بها إلا الخبيث من الرجال والنساء، والكلمات الطيبات لا يتكلم . بها إلا الطيبون من الرجال والنساء .

    والثاني: الكلمات الخبيثات إنما تلصق بالخبيثين من الرجال والنساء، فأما الطيبات والطيبون، فلا يصلح أن يقال في حقهم إلا الطيبات .
    [ ص: 27 ] والثالث: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال .
    والرابع: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال، وكذلك الطيبات . أولئك يعني: عائشة وصفوان مبرءون أي منزهون مما يقولون من الفرية لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم في الجنة .
    يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون . فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون

    قوله تعالى: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها أن امرأة من الأنصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي، فنزلت هذه الآية; فقال أبو بكر بعد نزولها: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن، فنزل قوله: ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة . . الآية . ومعنى قوله: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم [ ص: 28 ] أي: بيوتا ليست لكم . واختلف القراء في باء البيوت، فقرأ بعضهم بضمها، وبعضهم بكسرها . وقد بينا ذلك في (البقرة: 189 .

    قوله تعالى: حتى تستأنسوا قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: حتى تسلموا وتستأنسوا . قال الزجاج: و " تستأنسوا " في اللغة، بمعنى تستأذنوا، وكذلك هو في التفسير، والاستئذان: الاستعلام، تقول: آذنته بكذا، أي: أعلمته وآنست منه كذا، أي: علمت منه، ومثله: فإن آنستم منهم رشدا [النساء: 6] أي: علمتم . فمعنى الآية: حتى تستعلموا، يريد أهلها أن تدخلوا، أم لا قال المفسرون: وصفة الاستعلام أن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ولا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا بالاستئذان، لهذه الآية، ذلكم خير لكم من أن تدخلوا بغير إذن لعلكم تذكرون أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء: قلت لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرك أن ترى منهن عورة؟ قلت: لا، قال: فاستأذن .

    قوله تعالى: فإن لم تجدوا فيها أحدا أي: إن وجدتموها خالية فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا أي: إن ردوكم فلا تقفوا على أبوابهم وتلازموها، هو أزكى لكم يعني: الرجوع خير لكم وأفضل والله بما تعملون من الدخول بإذن وغير إذن عليم

    [ ص: 29 ] فصل

    وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان .

    أحدهما: أن حكمها عام في جميع البيوت، ثم نسخت منها البيوت التي ليس لها أهل يستأذنون بقوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ، هذا مروي عن الحسن، وعكرمة .

    والثاني: أن الآيتين محكمتان، فالاستئذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل، والثانية وردت في بيوت لا ساكن لها، والإذن لا يتصور من غير آذن، فإذا بطل الاستئذان، لم تكن البيوت الخالية داخلة في الأولى، وهذا أصح .

    قوله تعالى: أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها خمسة أقوال .

    أحدها: أنها الخانات والبيوت المبينة للسابلة ليأووا إليها، ويؤووا أمتعتهم قاله قتادة .

    والثاني: أنها البيوت الخربة، والمتاع: قضاء الحاجة فيها من الغائط والبول، قاله عطاء .

    والثالث: أنها بيوت مكة، قاله محمد بن الحنفية .
    والرابع: حوانيت التجار التي بالأسواق، قاله ابن زيد .
    والخامس: أنها جميع البيوت التي لا ساكن لها، لأن الاستئذان إنما جعل لأجل الساكن، قاله ابن جريج .
    فيخرج في معنى " المتاع " ثلاثة أقوال .
    [ ص: 30 ] أحدهما: الأمتعة التي تباع وتشترى . والثاني: إلقاء الأذى من الغائط والبول . والثالث: الانتفاع بالبيوت لاتقاء الحر والبرد .
    قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون

    قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم في " من " قولان .

    أحدهما: أنها صلة . والثاني: أنها أصل، لأنهم لم يؤمروا بالغض مطلقا، وإنما أمروا بالغض عما لا يحل .

    وفي قوله: ويحفظوا فروجهم قولان . أحدهما: عما لا يحل لهم، قاله الجمهور . والثاني: عن أن ترى فهو أمر لهم بالاستتار، قاله أبو العالية وابن زيد .

    قوله تعالى: ذلك إشارة إلى الغض وحفظ الفروج أزكى لهم أي: خير وأفضل إن الله خبير بما يصنعون في الأبصار والفروج . ثم أمر النساء بما أمر به الرجال .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #408
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ النُّورِ
    الحلقة (408)
    صــ 31 إلى صــ 40






    [ ص: 31 ] قوله تعالى: ولا يبدين زينتهن أي: لا يظهرنها لغير محرم . وزينتهن على ضربين، خفية كالسوارين والقرطين والدملج والقلائد ونحو ذلك، وظاهرة وهي المشار إليها بقوله: إلا ما ظهر منها وفيه سبعة أقوال .

    أحدهما: أنها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود; وفي لفظ آخر قال: هو الرداء . والثاني: أنها الكف والخاتم والوجه . والثالث: الكحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس . والرابع: القلبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة . والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد . والسادس: الخاتم والسوار، قاله الحسن . والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك . قال القاضي أبو يعلى: والقول الأول أشبه، وقد نص عليه أحمد، فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شئ منها عورة حتى الظفر، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شئ من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان [ ص: 32 ] لعذر مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فإنه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها، وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن .

    فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟!

    فالجواب: أن في تغطيته مشقة، فعفي عنه .

    قوله تعالى: وليضربن بخمرهن وهي جمع خمار ، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والمعنى: وليلقين مقانعهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن . وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم النخعي، والأعمش: " على جيوبهن " بكسر الجيم، ولا يبدين زينتهن يعني: الخفية، وقد سبق بيانها إلا لبعولتهن قال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجه .

    قوله تعالى: أو نسائهن يعني: المسلمات . قال أحمد: لا يحل للمسلمة أن تكشف رأسها عند نساء أهل الذمة، واليهودية والنصرانية لا تقبلان المسلمة .

    [ ص: 33 ] قوله تعالى: أو ما ملكت أيمانهن قال أصحابنا: المراد به: الإماء دون العبيد . وقال أصحاب الشافعي: يدخل فيه العبيد، فيجوز للمرأة عندهم أن تظهر لمملوكها ما تظهر لمحارمها، لأن مذهب الشافعي أنه محرم لها، وعندنا أنه ليس بمحرم، ولا يجوز أن ينظر إلى غير وجهها وكفيها، وقد نص أحمد على أنه يجوز أن ينظر إلى شعر مولاته، قال القاضي أبو يعلى: وإنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء، لأن الذين تقدم ذكرهم أحرار، فلما ذكر الإماء زال الإشكال .

    قوله تعالى: أو التابعين وهم الذين يتبعون القوم ويكونون معهم لإرفاقهم إياهم، أو لأنهم نشؤوا فيهم .

    وللمفسرين في هذا التابع ستة أقوال .

    أحدها: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، قاله قتادة، وكذلك قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء . والثاني: أنه العنين، قاله عكرمة . والثالث: المخنث كان يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن، قاله الحسن . والرابع: أنه الشيخ [ ص: 34 ] الفاني، والخامس: أنه الخادم، قالهما ابن السائب . والسادس: أنه الذي لا يكترث بالنساء، إما لكبر أو لهرم أو لصغر، ذكره ابن المنادي من أصحابنا . قال الزجاج: " غير " صفة للتابعين . وفيه دليل على أن قوله: أو ما ملكت أيمانهن معناه: غير أولي الإربة من الرجال والمعنى: ولا يبدين زينتهن لمماليكهن، ولا لتباعهن، إلا أن يكونوا غير أولي الإربة، والإربة: الحاجة، ومعناه: غير ذوي الحاجات إلى النساء .
    قوله تعالى: أو الطفل قال ابن قتيبة: يريد الأطفال، بدليل قوله: لم يظهروا على عورات النساء أي: لم يعرفوها .
    قوله تعالى: ولا يضربن بأرجلهن أي: بإحدى الرجلين على الأخرى ليضرب الخلخال الخلخال فيعلم أن عليها خلخالين .
    [ ص: 35 ] وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين

    قوله تعالى: وأنكحوا الأيامى وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل أيم وامرأة أيم، ورجل أرمل وامرأة أرملة، ورجل بكر وامرأة بكر: إذا لم يتزوجا وامرأة ثيب ورجل ثيب: إذا كانا قد تزوجا، والصالحين من عبادكم أي: من عبيدكم، يقال، عبد وعباد وعبيد، كما يقال: كلب وكلاب وكليب . وقرأ الحسن، ومعاذ القارئ: " من عبيدكم " .

    [ ص: 36 ] قال المفسرون والمراد بالآية الندب . ومعنى الصلاح هاهنا: الإيمان . والمراد بالعباد: المملوكون، فالمعنى: زوجوا المؤمنين من عبيدكم وولائدكم . ثم رجع إلى الأحرار فقال: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فأخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر .

    قوله تعالى: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا أي: وليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد ما ينكح به من صداق ونفقة . وقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا معشر الشباب عليكم بالباءة فمن لم يجد فعليه بالصيام فإنه له وجاء " .

    [ ص: 37 ] قوله تعالى: والذين يبتغون الكتاب أي: يطلبون المكاتبة من العبيد والإماء على أنفسهم، فكاتبوهم فيه قولان .

    أحدهما: أنه مندوب إليه، قاله الجمهور .

    والثاني: أنه واجب، قاله عطاء، وعمرو بن دينار . وذكر المفسرون: أنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له: صبيح، سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا .

    قوله تعالى: إن علمتم فيهم خيرا فيه ستة أقوال .

    أحدها: إن علمتم لهم مالا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، والضحاك . والثاني: إن علمتم لهم حيلة، يعني: الكسب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث: إن علمتم فيهم دينا، قاله الحسن . والرابع: إن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير، قاله سعيد بن جبير . والخامس: إن أقاموا الصلاة، قاله عبيدة السلماني . والسادس: إن علمتم لهم صدقا ووفاء قاله إبراهيم .

    قوله تعالى : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم فيه قولان .

    أحدهما : أنه خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة ، أمروا أن يعطوا المكاتبين من سهم الرقاب ، روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال : هو سهم الرقاب يعطى منه المكاتبون .

    والثاني : أنه خطاب للسادة ، أمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئا .

    قال أحمد والشافعي : الإيتاء واجب ، وقدره أحمد بربع مال الكتابة . وقال الشافعي : ليس بمقدر . وقال أبو حنيفة ومالك : لا يجب الإيتاء . وقد روي عن عمر بن الخطاب [ ص: 38 ] أنه كاتب غلاما له يقال له : أبو أمية فجاءه بنجمه حين حل ; فقال : اذهب يا أبا أمية فاستعن به في مكاتبتك ، قال : يا أمير المؤمنين ، لو أخرته حتى يكون في آخر النجوم ؟ فقال : يا أبا أمية ، إني أخاف أن لا أدرك ذلك ، ثم قرأ : " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " ، قال عكرمة : وكان ذلك أول نجم أدي في الإسلام .

    قوله تعالى: ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي سفيان عن جابر ، قال : كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له : اذهبي فابغينا شيئا ، فنزلت هذه الآية . قال المفسرون : وكان له جاريتان ، معاذة ومسيكة ، فكان يكرههما على الزنا ، ويأخذ منهما الضريبة ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه إن كان خيرا فقد استكثرنا منه ، وإن كان شرا فقد آن لنا أن ندعه ، فنزلت هذه الآية . وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوار كن لعبد الله بن أبي : معاذة ، ومسيكة ، وأميمة ، وقتيلة ، وعمرة ، وأروى . فأما الفتيات ، فهن الإماء . والبغاء : الزنا . والتحصن : التعفف .

    واختلفوا في معنى إن أردن تحصنا على أربعة أقوال .

    أحدها : أن الكلام ورد على سبب ، وهو الذي ذكرناه ، فخرج النهي عن صفة السبب ، وإن لم يكن شرطا فيه .

    [ ص: 39 ] والثاني : أنه إنما شرط إرادة التحصن ، لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن ، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن ، فإنها تبغي بالطبع .

    والثالث : أن " إن " بمعنى " إذ " ، ومثله : وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين [البقرة:278] وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران:139] .

    والرابع : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : " وأنكحوا الأيامى " إلى قوله : وإمائكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لتبتغوا عرض الحياة الدنيا وهو كسبهن وبيع أولادهن ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور للمكرهات رحيم وقرأ ابن عباس ، وأبو عمران الجوني ، وجعفر بن محمد : " من بعد إكراههن لهن غفور رحيم " .
    قوله تعالى: آيات مبينات قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة غير أبي بكر ، وأبان : " مبينات " بكسر الياء في الموضعين في هذه السورة [النور : 34 ، 46] ، وآخر سورة (الطلاق : 11)
    قوله تعالى : ومثلا من الذين خلوا أي : شبها من حالهم بحالكم أيها المكذبون ، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذبين قبلهم .
    الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم

    قوله تعالى : الله نور السماوات والأرض فيه قولان .

    أحدهما : هادي أهل السماوات والأرض ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، [ ص: 40 ] وبه قال أنس بن مالك ، وبيان هذا أن النور في اللغة : الضياء ، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مبصراتها ، فورد النور مضافا إلى الله تعالى ، لأنه هو الذي يهدي المؤمنين ويبين لهم ما يهتدون به ، والخلائق بنوره يهتدون .

    والثاني : مدبر السماوات والأرض ، قاله مجاهد ، والزجاج . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو المتوكل ، وابن السميفع : " الله نور " بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء " السماوات " بالخفض " والأرض " بالنصب .

    قوله تعالى: مثل نوره في هاء الكناية أربعة أقوال .

    أحدها : أنها ترجع إلى الله عز وجل ، قال ابن عباس : مثل هداه في قلب المؤمن .

    والثاني : أنها ترجع إلى المؤمن ، فتقديره : مثل نور المؤمن ، قاله أبي بن كعب . وكان أبي وابن مسعود يقرآن : " مثل نور من آمن به "

    والثالث : أنها ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله كعب .

    والرابع : أنها ترجع إلى القرآن قاله سفيان .

    فأما المشكاة ، ففيها ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنها في موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأنبوب ، والمصباح : الضوء ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أنها القنديل ، والمصباح : الفتيلة ، قاله مجاهد .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #409
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ النُّورِ
    الحلقة (409)
    صــ 41 إلى صــ 50






    والثالث : أنها الكوة التي لا منفذ لها ، والمصباح : السراج ، قاله كعب ، وكذلك قال الفراء : المشكاة : الكوة التي ليست بنافذة . وقال ابن قتيبة : المشكاة: [ ص: 41 ] الكوة بلسان الحبشة . وقال الزجاج : هي من كلام العرب ، والمصباح السراج .

    وإنما ذكر الزجاجة ، لأن النور في الزجاج أشد ضوءا منه في غيره . وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وابن أبي عبلة : " في زجاجة الزجاجة " بفتح الزاي فيهما وقرأ معاذ القارئ ، وعاصم الجحدري ، وابن يعمر : بكسر الزاي فيهما . قال بعض أهل المعاني : معنى الآية : كمثل مصباح في مشكاة ، فهو من المقلوب .

    فأما الدري ، فقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وأبان عن عاصم " دريء " بكسر الدال وتخفيف الياء ممدودا مهموزا . قال ابن قتيبة : المعنى على هذا : إنه من الكواكب الدراريء ، وهي اللاتي يدرأن عليك ، أي : يطلعن . وقال الزجاج : هو مأخوذ من درأ يدرأ : إذا اندفع منقضا فتضاعف نوره ، يقال : تدارأ الرجلان : إذا تدافعا . وروى المفضل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مد ، وهي قراءة عبد الله بن عمر والزهري ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : " دري " بضم الدال وكسر الراء [ ص: 42 ] وتشديد الياء من غير مد ولا همز ، وقرأ عثمان بن عفان ، وابن عباس ، وعاصم الجحدري : " دريء " بفتح الدال وكسر الراء ممدودا مهموزا . وقرأ أبي بن كعب ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة : بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مد ولا همز . وقرأ ابن مسعود وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن يعمر : بفتح الدال وكسر الراء مهموزا مقصورا . قال الزجاج : الدري : منسوب إلى أنه كالدر في صفائه وحسنه . وقال الكسائي : الدري : الذي يشبه الدر ، والدري : جار ، والدري : يلتمع ، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم والوليد بن عتبة عن ابن عامر : بضم الدال وتخفيف الياء مع إثبات الهمزة والمد ، قال الزجاج : فالنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا ; وقال الفراء : ليس هذا بجائز في العربية ، لأنه ليس في الكلام " فعيل " إلا أعجمي ، مثل مريق ، وما أشبهه . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي : المريق : العصفر ، أعجمي معرب ، وليس في كلامهم اسم على زنة فعيل . قال أبو علي : وقد حكى سيبويه عن أبي الخطاب : كوكب دريء : من الصفات ، ومن الأسماء : المريق : العصفر .

    قوله تعالى: يوقد قرأ ابن كثير . وأبو عمرو : بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب الدال ، يريدان المصباح ، لأنه هو الذي يوقد . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : " يوقد " بالياء مضمومة مع ضم الدال ، يريدون المصباح أيضا . وقرأ حمزة والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " توقد " بضم التاء والدال ، يريدون الزجاجة ، قال الزجاج : والمقصود : مصباح الزجاجة ، فحذف المضاف .

    قوله تعالى: من شجرة أي : من زيت شجرة ، فحذف المضاف ، يدلك على ذلك قوله : يكاد زيتها يضيء ; والمراد بالشجرة هاهنا : شجرة الزيتون، [ ص: 43 ] وبركتها من وجوه ، فإنها تجمع الأدم والدهن والوقود ، فيوقد بحطب الزيتون ويغسل برماده الإبريسم ، ويستخرج دهنه أسهل استخراج ، ويورق غصنه من أوله إلى آخره . وإنما خصت بالذكر هاهنا دون غيرها ، لأن دهنها أصفى وأضوأ .

    قوله تعالى: لا شرقية ولا غربية فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنها بين الشجر ، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس ، قاله أبي بن كعب ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني : أنها في الصحراء لا يظلها جبل ولا كهف ، ولا يواريها شيء ، فهو أجود لزيتها ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والزجاج . والثالث : أنها من شجر الجنة ، لا من شجر الدنيا ، قاله الحسن .

    قوله تعالى: يكاد زيتها يضيء أي : يكاد من صفائه يضيء قبل أن تصيبه النار بأن يوقد به . نور على نور قال مجاهد : النار على الزيت . وقال ابن السائب : المصباح نور ، والزجاجة نور . وقال أبو سليمان الدمشقي : نور النار ، ونور الزيت ، ونور الزجاجة ، يهدي الله لنوره فيه أربعة أقوال .

    [ ص: 44 ] أحدها : لنور القرآن . والثاني : لنور الإيمان . والثالث : لنور محمد صلى الله عليه وسلم . والرابع : لدينه الإسلام .
    فصل
    فأما وجه هذا المثل ، ففيه ثلاثة أقوال .
    أحدها : أنه شبه نور محمد صلى الله عليه وسلم بالمصباح النير ; فالمشكاة جوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمصباح النور الذي في قلبه ، والزجاجة قلبه ، فهو من شجرة مباركة ، وهو إبراهيم عليه السلام ، سماه شجرة مباركة ، لأن أكثر الأنبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني ، يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتبين للناس أنه نبي ولو لم يتكلم . وقال القرظي : المشكاة : إبراهيم ، والزجاجة : إسماعيل ، والمصباح : محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم . وقال الضحاك : شبه عبد المطلب بالمشكاة ، وعبد الله بالزجاجة ، ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالمصباح .

    والثاني : أنه شبه نور الإيمان في قلب المؤمن بالمصباح ، فالمشكاة : قلبه ، والمصباح : نور الإيمان فيه . وقيل : المشكاة : صدره ، والمصباح : القرآن والإيمان اللذان في [ ص: 45 ] صدره ، والزجاجة : قلبه ، فكأنه مما فيه من القرآن والإيمان كوكب مضيء توقد من شجرة ، وهي الإخلاص ، فمثل الإخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس ، فكذلك هذا المؤمن قد احترس من أن تصيبه الفتن ، فإن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن قال صدق ، وإن حكم عدل ، فقلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى كما يكاد هذا الزيت يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته اشتد نوره ، فالمؤمن كلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى نور يوم القيامة .
    والثالث : أنه شبه القرآن بالمصباح يستضاء به ولا ينقص ، والزجاجة : قلب المؤمن ، والمشكاة : لسانه وفمه ، والشجرة المباركة : شجرة الوحي ، تكاد حجج القرآن تتضح وإن لم نقرأ . وقيل : تكاد حجج الله تضيء لمن فكر فيها وتدبرها ولو لم ينزل القرآن ، نور على نور أي : القرآن نور من الله لخلقه مع ما قد قام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن .
    قوله تعالى: ويضرب الله الأمثال أي : ويبين الله الأشباه للناس ؛ تقريبا إلى الأفهام ، وتسهيلا لسبل الإدراك .
    في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال . رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب
    قوله تعالى: في بيوت قال الزجاج : " في " من صلة قوله : " كمشكاة " ، [ ص: 46 ] فالمعنى : كمشكاة في بيوت ; ويجوز أن تكون متصلة بقوله : يسبح له فيها فتكون فيها تكريرا على التوكيد ; والمعنى : يسبح لله رجال في بيوت .
    فإن قيل : المشكاة إنما تكون في بيت واحد ، فكيف قال : في بيوت ؟
    فعنه جوابان . أحدهما : أنه من الخطاب المتلون الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع ، كقوله : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء [الطلاق:1] .

    والثاني : أنه راجع إلى كل واحد من البيوت ، فالمعنى : في كل بيت مشكاة . وللمفسرين في المراد بالبيوت ها هنا ثلاثة أقوال .
    أحدها : أنها المساجد ، قاله ابن عباس ، والجمهور . والثاني : بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد . والثالث : بيت المقدس ، قاله الحسن .
    فأما أذن فمعناه : أمر . وفي معنى أن ترفع قولان :
    أحدهما : أن تعظم ، قاله الحسن ، والضحاك .
    والثاني : أن تبنى ، قاله مجاهد ، وقتادة .


    [ ص: 47 ] وفي قوله : ويذكر فيها اسمه قولان .

    أحدهما : توحيده ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : يتلى فيها كتابه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    قوله تعالى: يسبح قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : " يسبح " بكسر الباء ; وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : بفتحها . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو حيوة : " تسبح " بتاء مرفوعة وكسر الباء ورفع الحاء .

    وفي قوله : يسبح له فيها قولان .

    أحدهما : أنه الصلاة . ثم في صلاة الغدو قولان . أحدهما : أنها صلاة الفجر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثاني : صلاة الضحى ، روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : إن صلاة الضحى لفي كتاب الله ، وما يغوص عليها إلا غواص ، ثم قرأ " يسبح له فيها بالغدو والآصال " . وفي صلاة الآصال قولان . أحدهما : أنها صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، قاله ابن السائب . والثاني : صلاة العصر ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    والقول الثاني : أنه التسبيح المعروف ، ذكره بعض المفسرين .

    قوله تعالى: رجال لا تلهيهم أي لا تشغلهم تجارة ولا بيع قال ابن السائب : التجار : الجلابون ، والباعة : المقيمون . وقال الواقدي : التجارة ها هنا بمعنى الشراء .

    [ ص: 48 ] وفي المراد بذكر الله ثلاثة أقوال .

    أحدها : الصلاة المكتوبة ، قاله ابن عباس ، وعطاء . وروى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " .

    والثاني : عن القيام بحق الله ، قاله قتادة .

    والثالث : عن ذكر الله باللسان ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى: وإقام الصلاة أي : أدائها لوقتها وإتمامها .

    فإن قيل : إذا كان المراد بذكر الله الصلاة ، فما معنى إعادتها؟

    فالجواب : أنه بين أنهم يقيمونها بأدائها في وقتها .

    قوله تعالى: تتقلب فيه القلوب والأبصار في معناه ثلاثة أقوال .

    أحدها : أن من كان قلبه مؤمنا بالبعث والنشور ، ازداد بصيرة برؤية ما وعد به ; ومن كان قلبه على غير ذلك ، رأى ما يوقن معه بأمر القيامة ، قاله الزجاج .

    والثاني : أن القلوب تتقلب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك ، والأبصار تتقلب ، تنظر من أين يؤتون كتبهم ، أمن قبل اليمين ، أم من قبل الشمال؟ وأي ناحية يؤخذ بهم ، أذات اليمين أم ذات الشمال؟ قاله ابن جرير .
    والثالث : تتقلب القلوب فتبلغ إلى الحناجر ، وتتقلب الأبصار إلى الزرق بعد الكحل والعمى بعد النظر .
    قوله تعالى: ليجزيهم المعنى : يسبحون الله ليجزيهم أحسن ما عملوا أي : ليجزيهم بحسناتهم . فأما مساوئهم فلا يجزيهم بها ويزيدهم من فضله [ ص: 49 ] ما لم يستحقوه بأعمالهم والله يرزق من يشاء بغير حساب قد شرحناه في (آل عمران : 27) .
    والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب . أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

    ثم ضرب الله مثلا للكفار فقال : والذين كفروا أعمالهم كسراب قال ابن قتيبة : السراب : ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار ، والآل : ما رأيته في أول النهار وآخره ، وهو يرفع كل شيء ، والقيعة والقاع واحد . وقرأ أبي بن كعب ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : " بقيعات " . وقال الزجاج : القيعة جمع قاع ، مثل جار وجيرة ، والقيعة والقاع : ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات ، فالذي يسير فيه يرى كأن فيه ماء يجري ، وذلك هو السراب ، والآل مثل السراب ، إلا أنه يرتفع وقت الضحى- كالماء- بين السماء والأرض يحسبه الظمآن- وهو الشديد العطش- ماء ، حتى إذا جاء إلى موضع السراب رأى أرضا لا ماء فيها ، فأعلم الله أن الكافر الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله- كظن الذي يظن السراب ماء- وعمله قد حبط .

    قوله تعالى: ووجد الله عنده أي : قدم على الله فوفاه حسابه أي : جازاه بعمله ; وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن ، والمراد به الخبر عن الكافر .

    [ ص: 50 ] قوله تعالى: والله سريع الحساب مفسر في (البقرة : 202) .

    قوله تعالى: أو كظلمات في هذا المثل قولان .
    أحدهما : أنه لعمل الكافر ، قاله الجمهور ، واختاره الزجاج .
    والثاني : أنه مثل لقلب الكافر في أنه لا يعقل ولا يبصر ، قاله الفراء . فأما اللجي ، فهو العظيم اللجة ، وهو العميق (يغشاه) أي : يعلو ذلك البحر موج من فوقه أي : من فوق الموج موج ، والمعنى : يتبع الموج موج ، حتى كان بعضه فوق بعض ، من فوقه أي : من فوق ذلك الموج سحاب .
    ثم ابتدأ فقال : ظلمات يعني : ظلمة البحر ، وظلمة الموج [الأول ، وظلمة الموج] الذي فوق الموج ، وظلمة السحاب . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن : " سحاب ظلمات " مضافا إذا أخرج يده يعني : إذا أخرجها مخرج ، لم يكد يراها فيه قولان .
    أحدهما : أنه لم يرها ، قاله الحسن ، واختاره الزجاج . قال : لأن في دون هذه الظلمات لا يرى الكف ; وكذلك قال ابن الأنباري : معناه : لم يرها البتة ، لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمات على أن الرؤية معدومة ، فبان بهذا الكلام أن يكد زائدة للتوكيد ، بمنزلة ما في قوله : عما قليل ليصبحن نادمين [المؤمنون : 40] .
    والثاني : أنه لم يرها إلا بعد الجهد ، قاله المبرد . قال الفراء : وهذا كما تقول : ما كدت أبلغ إليك ، وقد بلغت ، قال الفراء : وهذا وجه العربية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #410
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ النُّورِ
    الحلقة (410)
    صــ 51 إلى صــ 60





    فصل

    فأما وجه المثل ، فقال المفسرون : لما ضرب الله للمؤمن مثلا بالنور، [ ص: 51 ] ضرب للكافر هذا المثل بالظلمات ; والمعنى : أن الكافر في حيرة لا يهتدي لرشد . وقيل : الظلمات : ظلمة الشرك وظلمة المعاصي . وقال بعضهم : ضرب الظلمات مثلا لعمله ، والبحر اللجي لقلبه ، والموج لما يغشى قلبه من الشرك والجهل والحيرة ، والسحاب للرين والختم على قلبه ، فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة .
    قوله تعالى: ومن لم يجعل الله له نورا فيه قولان .
    أحدهما : دينا وإيمانا ، قاله ابن عباس ، والسدي . والثاني : هداية ، قاله الزجاج .
    ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون . ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير

    قوله تعالى: ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض قد تقدم تفسيره [ البقرة : 30] .

    قوله تعالى: والطير أي : وتسبح له الطير صافات أي : باسطات أجنحتها في الهواء . وإنما خص الطير بالذكر ، لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت ، فهي خارجة عن جملة من في السماوات والأرض .

    قوله تعالى: كل أي : من الجملة التي ذكرها قد علم صلاته وتسبيحه قال المفسرون : الصلاة ، لبني آدم ، والتسبيح ، لغيرهم من الخلق .

    وفي المشار إليه بقوله : قد علم قولان .

    أحدهما : أنه الله تعالى ، والمعنى : قد علم الله صلاة المصلي وتسبيحه ، قاله الزجاج .
    [ ص: 52 ] والثاني : أنه المصلي والمسبح . ثم فيه قولان . أحدهما : قد علم المصلي والمسبح صلاة نفسه وتسبيحه ، أي : قد عرف ما كلف من ذلك . والثاني : قد علم المصلي صلاة الله وتسبيحه ، أي : علم أن ذلك لله تعالى وحده .
    وقرأ قتادة ، وعاصم الجحدري ، وابن يعمر : " كل قد علم " برفع العين وكسر اللام " صلاته وتسبيحه " بالرفع فيهما .
    ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .

    قوله تعالى: ألم تر أن الله يزجي سحابا أي : يسوقه ثم يؤلف بينه أي : يضم بعضه إلى بعض ، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة . والسحاب لفظه لفظ الواحد ، ومعناه الجمع ، فلهذا قال : يؤلف بينه ثم يجعله ركاما أي : يجعل بعض السحاب فوق بعض فترى الودق وهو المطر . قال الليث : الودق : المطر كله شديده وهينه .

    قوله تعالى : من خلاله وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والضحاك : " من خلله " ، والخلال : جمع خلل ، مثل : جبال وجبل . وينزل من السماء مفعول الإنزال محذوف ، تقديره : وينزل من السماء من جبال فيها من برد بردا ، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه . و " من " الأولى لابتداء الغاية ؛ لأن ابتداء الإنزال من السماء ، والثانية للتبعيض ؛ لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال ، والثالثة لتبيين الجنس ، لأن جنس تلك [الجبال] [ ص: 53 ] جنس البرد ; قال المفسرون : وهي جبال في السماء مخلوقة من برد وقال الزجاج : معنى الكلام : وينزل من السماء من جبال برد فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، المعنى : هذا خاتم حديد في يدي .
    قوله تعالى : فيصيب به أي : بالبرد من يشاء فيضره في زرعه وثمره . والسنا : الضوء ، يذهب وقرأ مجاهد ، وأبو جعفر : " يذهب " بضم الياء وكسر الهاء . يقلب الله الليل والنهار أي : يأتي بهذا ، ويذهب بهذا إن في ذلك التقلب لعبرة لأولي الأبصار أي : دلالة لأهل البصائر والعقول على وحدانية الله وقدرته .
    والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير

    قوله تعالى : والله خلق كل دابة وقرأ حمزة ، والكسائي : " والله خالق كل دابة من ماء " وفي الماء قولان .
    أحدهما : أن الماء أصل كل دابة . والثاني : أنه النطفة ، والمراد به : جميع الحيوان المشاهد في الدنيا . وإنما قال : " فمنهم " تغليبا لما يعقل . وإنما لم يذكر الذي يمشي على أكثر من أربع ؛ لأنه في رأي العين كالذي يمشي على أربع ، وقيل : لأنه يعتمد في المشي على أربع . وإنما سمى السائر على بطنه ماشيا ، لأن كل سائر ومستمر يقال له : ماش وإن لم يكن حيوانا ، حتى إنه يقال : قد مشى هذا الأمر ، هذا قول الزجاج . وقال أبو عبيدة : إنما هذا على سبيل التشبيه بالماشي ، لأن المشي لا يكون على البطن ، إنما يكون [ ص: 54 ] لمن له قوائم ، فإذا خلطوا ما له قوائم بما لا قوائم له ، جاز ذلك ، كما يقولون : أكلت خبزا ولبنا ، ولا يقال : أكلت لبنا .
    لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون

    قوله تعالى: ويقولون آمنا بالله قال المفسرون : نزلت في رجل من المنافقين يقال له : بشر كان بينه وبين يهودي حكومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما ، فقال المنافق لليهودي : إن محمدا يحيف علينا ! ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف ، فنزلت هذه الآية .

    قوله تعالى: ثم يتولى فريق منهم يعني : المنافقين من بعد ذلك أي : من بعد قولهم : آمنا وما أولئك يعني : المعرضين عن حكم الله ورسوله بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله أي : إلى كتابه ورسوله ليحكم بينهم [ ص: 55 ] الرسول إذا فريق منهم معرضون ومعنى الكلام : أنهم كانوا يعرضون عن حكم الرسول عليهم ، لعلمهم أنه يحكم بالحق ; وإن كان الحق لهم على غيرهم ، أسرعوا إلى حكمه مذعنين ، لثقتهم أنه يحكم لهم بالحق . قال الزجاج : والإذعان في اللغة : الإسراع مع الطاعة ، تقول : قد أذعن لي ، أي : قد طاوعني لما كنت ألتمسه منه .

    قوله تعالى: أفي قلوبهم مرض أي : كفر أم ارتابوا أي : شكوا في القرآن؟ وهذا استفهام ذم وتوبيخ ، والمعنى : أنهم كذلك ، وإنما ذكره بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ في ذمهم ، كما قال جرير في المدح :


    ألستم خير من ركب المطايا [وأندى العالمين بطون راح]


    أي : أنتم كذلك . فأما الحيف ، فهو : الميل في الحكم ; يقال : حاف في قضيته ، أي : جار ، بل أولئك هم الظالمون أي : لا يظلم الله ورسوله أحدا ، بل هم الظالمون لأنفسهم بالكفر والإعراض عن حكم الرسول .

    ثم نعت المؤمنين ، فقال : إنما كان قول المؤمنين قال الفراء : ليس هذا بخبر ماض ، وإنما المعنى : إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا أن يقولوا سمعنا . وقرأ الحسن ، وأبو الجوزاء : " إنما كان قول المؤمنين " بضم اللام . وقرأ أبو جعفر ، وعاصم الجحدري ، وابن أبي [ليلى] : " ليحكم بينهم " برفع الياء وفتح الكاف . وقال المفسرون : المعنى : سمعنا قول رسول الله صلى عليه وسلم وأطعنا أمره ، وإن كان ذلك فيما يكرهونه .
    قوله تعالى: ويخش الله أي : فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما بعد أن يعصيه . وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وورش عن نافع : " ويتقهي " [ ص: 56 ] موصولة بياء . وروى قالون عن نافع : " ويتقه فأولئك " بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء . وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : " ويتقه " جزما .
    وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون . قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين

    قوله تعالى: وأقسموا بالله قال المفسرون : لما نزل في هؤلاء المنافقين ما نزل من بيان كراهتهم لحكم الله ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا ، فكيف لا نرضى حكمك؟! فنزلت هذه الآية .

    وقد بينا معنى جهد أيمانهم [المائدة : 53] ، لئن أمرتهم ليخرجن من أموالهم وديارهم ، وقيل : ليخرجن إلى الجهاد قل لا تقسموا هذا تمام الكلام ; ثم قال : طاعة معروفة قال الزجاج : المعنى : أمثل من قسمكم الذي لا تصدقون فيه طاعة معروفة . قال ابن قتيبة : وبعض النحويين يقول : الضمير فيها : لتكن منكم طاعة معروفة ، أي : صحيحة لا نفاق فيها .
    قوله تعالى: فإن تولوا هذا خطاب لهم ، والمعنى : فإن تتولوا ، فحذف إحدى التاءين ومعنى التولي : الإعراض عن طاعة الله ورسوله ،فإنما عليه يعني : الرسول ما حمل من التبليغ وعليكم ما حملتم من الطاعة ; وذر بعض المفسرين أن هذا منسوح بآية السيف ، وليس بصحيح .
    [ ص: 57 ] قوله تعالى: وإن تطيعوه يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم تهتدوا ، وكان بعض السلف يقول : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا ، نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا ، نطق بالبدعة ، لقوله : وإن تطيعوه تهتدوا .
    وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون

    قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم روى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآواهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، كانوا لا يبيتون إلا في السلاح ، ولا يصبحون إلا في لأمتهم ، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل؟! فنزلت هذه الآية . قال أبو العالية : لما أظهر الله عز وجل رسوله على جزيرة العرب ، وضعوا السلاح وأمنوا ، ثم قبض الله نبيه ، فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة ، فأدخل الله عز وجل عليهم الخوف ، فغيروا فغير [ ص: 58 ] الله تعالى ما بهم . وروى أبو صالح عن ابن عباس : أن هذا الوعد وعده الله أمة محمد في التوراة والإنجيل . وزعم مقاتل أن كفار مكة لما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن العمرة عام الحديبية ، قال المسلمون : لو أن الله تعالى فتح علينا مكة ، فنزلت هذه الآية .

    قوله تعالى: ليستخلفنهم أي : ليجعلنهم يخلفون من قبلهم ، والمعنى : ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها . وعلى قول مقاتل : المراد بالأرض مكة .

    قوله تعالى: كما استخلف الذين من قبلهم وقرأ أبو بكر عن عاصم : " كما استخلف " بضم التاء وكسر اللام ; يعني : بني إسرائيل ، وذلك أنه لما هلكت الجبابرة بمصر ، أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم .
    قوله تعالى: وليمكنن لهم دينهم وهو الإسلام ، وتمكينه : إظهاره على كل دين ، وليبدلنهم وقرأ ابن كثير ، وأبو بكر ، وأبان ، ويعقوب : " وليبدلنهم " بسكون الباء وتخفيف الدال من بعد خوفهم أمنا لأنهم كانوا مظلومين مقهورين ، يعبدونني هذا استئناف كلام في الثناء عليهم ، ومن كفر بعد ذلك بهذه النعم ، أي : جحد حقها . قال المفسرون : وأول من كفر بهذه النعم قتلة عثمان .
    [ ص: 59 ] لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير
    قوله تعالى: لا تحسبن الذين كفروا قرأ ابن عامر ، وحمزة عن عاصم : " لا يحسبن " بالياء وفتح السين . وقرأ الباقون : بالتاء وكسر السين .
    [ ص: 60 ] يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم
    قوله تعالى: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم في سبب نزولها قولان .
    أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه غلاما من الأنصار يقال له : مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر على حالة كره عمر رؤيته عليها ، فقال : يا رسول الله ، وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
    والثاني : أن أسماء بنت مرثد كان لها غلام ، فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #411
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ النُّورِ
    الحلقة (411)
    صــ 61 إلى صــ 70



    [ ص: 61 ] ومعنى الآية : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ; وفيهم قولان .

    أحدهما : أنه أراد الذكور دون الإناث ، قاله ابن عمر .

    والثاني : الذكور والإناث ، رواه أبو حصين عن أبي عبد الرحمن . ومعنى الكلام : ليستأذنكم مماليككم في الدخول عليكم . قال القاضي أبو يعلى : والأظهر أن يكون المراد : العبيد الصغار والإماء الصغار ، لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته ، فكيف يضاف إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين؟!

    قوله تعالى: والذين لم يبلغوا الحلم وقرأ عبد الوارث : " الحلم " بإسكان اللام منكم أي : من أحراركم من الرجال والنساء ثلاث مرات أي : ثلاثة أوقات ; ثم بينها فقال : من قبل صلاة الفجر وذلك لأن الإنسان قد يبيت عريانا ، أو على حالة لا يحب أن يطلع عليه فيها وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة أي : القائلة ومن بعد صلاة العشاء حين يأوي الرجل إلى زوجته ، ثلاث عورات قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : " ثلاث عورات " برفع الثاء من " ثلاث " ، والمعنى : هذه الأوقات هي ثلاث عورات ، لأن الإنسان يضع فيها ثيابه ، فربما بدت عورته . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " ثلاث عورات " بنصب الثاء ; قال أبو علي : وجعلوه بدلا من قوله : ثلاث مرات والأوقات ليست عورات ، ولكن المعنى : أنها أوقات ثلاث عورات ، فلما حذف المضاف أعرب [بإعراب المحذوف] . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وسعيد بن جبير ، والأعمش : " عورات " بفتح الواو ، ليس عليكم يعني : المؤمنين الأحرار ولا عليهم يعني : الخدم [ ص: 62 ] والغلمان جناح أي : حرج بعدهن أي : بعد مضي هذه الأوقات أن لا يستأذنوا ، فرفع الحرج عن الفريقين ، طوافون عليكم أي : هم طوافون عليكم بعضكم على بعض أي : يطوف بعضكم وهم المماليك على بعض وهم الأحرار .

    فصل

    وأكثر علماء المفسرين على أن هذه الآية محكمة ، وممن روي عنه ذلك ابن عباس ، والقاسم بن محمد ، وجابر بن زيد ، والشعبي . وحكي عن سعيد بن المسيب أنها منسوخة بقوله : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ; والأول أصح ، لأن معنى هذه الآية : وإذا بلغ الأطفال منكم ، أو من الأحرار الحلم ، فليستأذنوا ، أي : في جميع الأوقات في الدخول عليكم كما استأذن الذين من قبلهم يعني : كما استأذن الأحرار الكبار ، الذين هم قبلهم في الوجود ، وهم الذين أمروا بالاستئذان على كل حال ; فالبالغ يستأذن في كل وقت ، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث .

    قوله تعالى: والقواعد من النساء قال ابن قتيبة : يعني : العجز ، واحدها : قاعد ، ويقال : إنما قيل لها : قاعد ، لقعودها عن الحيض والولد ، وقد تقعد عن الحيض والولد ومثلها يرجو النكاح ، ولا أراها سميت قاعدا إلا بالقعود ، لأنها إذا أسنت عجزت عن التصرف وكثرة الحركة ، وأطالت القعود ، فقيل لها : " قاعد " بلا هاء ، ليدل حذف الهاء على أنه قعود كبر ، كما قالوا : " امرأة حامل " ، ليدلوا بحذف الهاء على أنه حمل حبل ، وقالوا في غير ذلك : قاعدة في بيتها ، وحاملة على ظهرها .

    قوله تعالى: أن يضعن ثيابهن أي : عند الرجال ; ويعني بالثياب: [ ص: 63 ] الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار ، هذا المراد بالثياب ، لا جميع الثياب ، غير متبرجات بزينة أي : من غير أن يردن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن ; والتبرج : إظهار المرأة محاسنها ، وأن يستعففن فلا يضعن تلك الثياب خير لهن ، قال ابن قتيبة : والعرب تقول : امرأة واضع : إذا كبرت فوضعت الخمار ، ولا يكون هذا إلا في الهرمة . قال القاضي أبو يعلى : وفي هذه الآية دلالة على أنه يباح [للعجوز] كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال ، وأما شعرها ، فيحرم النظر إليه كشعر الشابة .
    ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون

    قوله تعالى: ليس على الأعمى حرج في سبب نزولها خمسة أقوال .

    أحدها : أنه لما نزل قوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [النساء : 29] تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج ، وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، [ ص: 64 ] والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والمريض لا يستوفي الطعام ، فنزلت هذه الآية . ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أن ناسا كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا ، فكانوا يتقون أن يأكلوا منها ويقولون : نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن المسيب .

    والثالث : أن العرجان والعميان كانوا يمتنعون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يتقذرونهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك .

    والرابع : أن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمون المريض والزمن ، ذهبوا به إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم وبعض من سمى الله عز وجل في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من أكل ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .

    والخامس : أنها نزلت في إسقاط الجهاد عن أهل الزمانة المذكورين في الآية ، قاله الحسن ، وابن يزيد .

    [ ص: 65 ] فعلى القول الأول يكون معنى الآية : ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه ، ولا في الأعرج وتكون " على " بمعنى " في " ، ذكره ابن جرير ، وكذلك يخرج [معنى الآية] على كل قول بما يليق به . وقد كان جماعة من المفسرين يذهبون إلى أن آخر الكلام " ولا على المريض حرج " وأن ما بعده مستأنف لا تعلق له به ، وهو يقوي قول الحسن ، وابن زيد .

    قوله تعالى: أن تأكلوا من بيوتكم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنها بيوت الأولاد .

    والثاني : البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم ، فيكون الخطاب لأهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله ، ونسبها إليهم لأنهم سكانها .

    والثالث : أنها بيوتهم ، والمراد أكلهم من مال عيالهم وأزواجهم ، لأن بيت المرأة كبيت الرجل .

    وإنما أباح الأكل من بيوت القرابات المذكورين ، لجريان العادة ببذل طعامهم لهم ; فإن كان الطعام وراء حرز ، لم يجز هتك الحرز .

    قوله تعالى: أو ما ملكتم مفاتحه فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنه الوكيل ، لا بأس أن يأكل اليسير ، وهو معنى قول ابن عباس . وقرأها سعيد بن جبير ، وأبو العالية : " ملكتم " بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها على ما لم يسم فاعله ، وفسرها سعيد فقال : يعني القهرمان الذي بيده المفاتيح .

    وقرأ أنس بن مالك ، وقتادة ، وابن يعمر : " مفتاحه " بكسر الميم على التوحيد .

    والثاني : بيت الإنسان الذي يملكه ، وهو معنى قول قتادة .

    والثالث : بيوت العبيد ، قاله الضحاك .

    [ ص: 66 ] قوله تعالى:

    أو صديقكم

    قال ابن عباس : نزلت هذه في الحارث بن عمرو ، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا ، وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا ، فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ، فنزلت هذه الآية . وكان الحسن وقتادة يريان الأكل من طعام الصديق بغير استئذان جائزا .

    قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا في سبب نزول هذه [الآية] ثلاثة أقوال .

    أحدها : أن حيا من بني كنانة يقال لهم : بنو ليث كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة والضحاك .

    والثاني : أن قوما من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فنزلت هذه الآية ، ورخص لهم أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا ، قاله عكرمة .

    والثالث : أن المسلمين كانوا يتحرجون من مؤاكلة أهل الضر خوفا من أن يستأثروا عليهم ، ومن الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الناس في مأكلهم وزيادة بعضهم على بعض ، فوسع عليهم ، وقيل : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أي : مجتمعين أو أشتاتا أي : متفرقين ، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: فإذا دخلتم بيوتا فيها ثلاثة أقوال .

    [ ص: 67 ] أحدها : أنها بيوت أنفسكم ، فسلموا على أهاليكم وعيالكم ، قال جابر بن عبد الله ، وطاوس ، وقتادة .

    والثاني : أنها المساجد ، فسلموا على من فيها ، قاله ابن عباس .

    والثالث : بيوت الغير ; فالمعنى : إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم ، قاله الحسن .

    قوله تعالى: تحية قال الزجاج : هي منصوبة على المصدر ، لأن قوله : فسلموا بمعنى : فحيوا وليحي بعضكم بعضا تحية ، من عند الله قال مقاتل : مباركة بالأجر ، طيبة أي : حسنة .
    إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم

    قوله تعالى: وإذا كانوا معه يعني : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر جامع أي : على أمر طاعة يجتمعون عليها ، نحو الجهاد والجمعة والعيد ونحو ذلك لم يذهبوا حتى يستأذنوه قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر [ ص: 68 ] يوم الجمعة ، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر ، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم ، فالأمر إليه في ذلك . قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده .

    قوله تعالى: واستغفر لهم الله أي : لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذرا .
    لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم

    قوله تعالى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنه نهي عن التعرض لإسخاط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه إذا دعا على شخص فدعوته موجبة ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أنهم أمروا أن يقولوا : يا رسول الله ، ونهوا أن يقولوا : يا محمد ، قاله سعيد بن جبير ، وعلقمة ، والأسود ، وعكرمة ، ومجاهد .

    والثالث : أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم ، حكاه الماوردي .

    وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وأبو المتوكل ، ومعاذ القارئ : " دعاء الرسول نبيكم " بياء مشددة ونون قبل الباء .

    قوله تعالى: قد يعلم الله الذين يتسللون التسلل : الخروج في خفية .

    [ ص: 69 ] واللواذ : أن يستتر بشيء مخافة من يراه . والمراد بقوله قد يعلم التهديد بالمجازاة . قال الفراء : كان المنافقون يشهدون الجمعة فيذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبهم بالآيات التي أنزلت فيهم ، فإن خفي لأحدهم القيام قام ، فذلك قوله : قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا أي : يلوذ هذا بهذا ، أي : يستتر ذا بذا .

    وإنما قال : لواذا لأنها مصدر " لاوذت " ، ولو كان مصدرا لـ " لذت " لقلت : لذت لياذا ، كما تقول : قمت قياما . وكذلك قال ثعلب : وقع البناء على لاوذ ملاوذة ، ولو بني على لاذ يلوذ ، لقيل : لياذا . وقيل : هذا كان في حفر الخندق ، كان المنافقون ينصرفون عن غير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفين .

    قوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره في هاء الكناية قولان .

    أحدهما : أنها ترجع إلى الله عز وجل ، قاله مجاهد .

    والثاني : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة .

    وفي " عن " قولان .

    أحدهما : [أنها] زائدة ، قاله الأخفش . والثاني : أن معنى " يخالفون " : يعرضون عن أمره .

    وفي الفتنة هاهنا ثلاثة أقوال .

    أحدها : الضلالة ، قاله ابن عباس . والثاني : بلاء في الدنيا ، قاله مجاهد . والثالث : كفر ، قاله السدي ، ومقاتل .

    [ ص: 70 ] قوله تعالى: أو يصيبهم عذاب أليم فيه قولان .

    أحدهما : القتل في الدنيا . والثاني : عذاب جهنم في الآخرة .

    قوله تعالى: قد يعلم ما أنتم عليه أي : ما في أنفسكم ، وما تنطوي عليه ضمائركم من الإيمان والنفاق ; وهذا تنبيه على الجزاء على ذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #412
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    الحلقة (412)
    صــ 71 إلى صــ 80



    [ ص: 71 ] سُورَةُ الْفُرْقَانِ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا . وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يَخْلُقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ فِي آخَرِينَ : هِيَ مَكِّيَّةٌ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا : إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِلَى قَوْلِهِ : غَفُورًا رَحِيمًا [الْفُرْقَانِ : 68-70] .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي (الْأَعْرَافِ : 45) وَالْفَرْقَانُ : الْقُرْآنُ ، سُمِّيَ فُرْقَانًا ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ .

    وَالْمُرَادُ بِعَبْدِهِ : مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِيَكُونَ فِيهِ قَوْلَانِ .

    [ ص: 72 ] أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَبْدِهِ ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ . وَالثَّانِي : عَنِ الْقُرْآنِ ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْعَالَمِينَ يَعْنِي الْجِنَّ وَالْإِنْسَ نَذِيرًا [أَيْ] : مُخَوِّفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا : سَوَّاهُ وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ ، فَلَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ . وَالثَّانِي : قَدَّرَ لَهُ مَا يُصْلِحُهُ وَيُقِيمُهُ . وَالثَّالِثُ : قَدَّرَ لَهُ تَقْدِيرًا مِنَ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ .

    ثُمَّ ذَكَرَ مَا صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ ، فَقَالَ : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يَعْنِي : الْأَصْنَامَ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يَخْلُقُونَ أَيْ : وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا أَيْ : دَفْعَ ضُرٍّ ، وَلَا جَرَّ نَفْعٍ ، لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا قُدْرَةَ لَهَا ، وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا أَيْ : لَا تَمْلِكُ أَنْ تُمِيتَ أَحَدًا ، وَلَا أَنْ تُحَيِيَ أَحَدًا ، وَلَا أَنْ تَبْعَثَ أَحَدًا مِنَ الْأَمْوَاتِ ; وَالْمَعْنَى : كَيْفَ يَعْبُدُونَ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَيَتْرُكُونَ عِبَادَةَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ؟!
    وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما

    قوله تعالى: وقال الذين كفروا يعني : مشركي قريش ; وقال مقاتل : هو قول النضر بن الحارث من بني عبد الدار إن هذا أي : ما هذا ، يعنون القرآن إلا إفك أي : كذب افتراه أي : اختلقه من تلقاء نفسه وأعانه عليه قوم آخرون قال مجاهد : يعنون اليهود ; وقال مقاتل أشاروا إلى عداس [ ص: 73 ] مولى حويطب ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبر مولى لعامر أيضا ، وكان الثلاثة من أهل الكتاب .

    قوله تعالى: فقد جاءوا ظلما وزورا قال الزجاج : المعنى : فقد جاءوا بظلم وزور ، فلما سقطت الباء ، أفضى الفعل فنصب ، والزور : الكذب . وقالوا أساطير الأولين المعنى : وقالوا : الذي جاء به أساطير الأولين ; وقد بينا ذلك في (الأنعام : 25) . قال المفسرون : والذي قال هذا هو النضر بن الحارث .

    ومعنى اكتتبها أمر أن تكتب له . وقرأ ابن مسعود ، وإبراهيم النخعي ، وطلحة بن مصرف : " اكتتبها " برفع التاء الأولى وكسر الثانية ، والابتداء على قراءتهم برفع الهمزة ، فهي تملى عليه أي : تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها ، لأنه لم يكن كاتبا ، بكرة وأصيلا أي : غدوة وعشيا . قل لهم يا محمد : أنزله يعني : القرآن الذي يعلم السر أي : لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض .
    وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا

    قوله تعالى: وقالوا يعني المشركين مال هذا الرسول يأكل الطعام أنكروا أن يكون الرسول بشرا يأكل الطعام ويمشي في الطرق كما يمشي سائر الناس يطلب المعيشة ; والمعنى : أنه ليس بملك ولا ملك ، لأن الملائكة لا تأكل ، والملوك لا تتبذل في الأسواق ، فعجبوا أن يكون مساويا للبشر لا يتميز عليهم [ ص: 74 ] بشيء ; وإنما جعله الله بشرا ليكون مجانسا للذين أرسل إليهم ، ولم يجعله ملكا يمتنع من المشي في الأسواق ، لأن ذلك من فعل الجبابرة ، ولأنه أمر بدعائهم ، فاحتاج أن يمشي بينهم .

    قوله تعالى: لولا أنزل إليه ملك وذلك أنهم قالوا له : سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا ، فذلك قوله : أو يلقى إليه كنز أي : ينزل إليه كنز من السماء أو تكون له جنة يأكل منها أي : بستان يأكل من ثماره . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : " يأكل منها " بالياء ، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ حمزة ، والكسائي : " نأكل " بالنون ، قال أبو علي : المعنى : يكون له علينا مزية في الفضل بأكلنا من جنته . وباقي الآية مفسر في (بني إسرائيل : 47) .

    قوله تعالى: انظر يا محمد كيف ضربوا لك الأمثال حين مثلوك بالمسحور ، وبالكاهن والمجنون والشاعر فضلوا بهذا عن الهدى فلا يستطيعون سبيلا فيه قولان .

    أحدهما : لا يستطيعون مخرجا من الأمثال التي ضربوها ، قاله مجاهد ، والمعنى أنهم كذبوا ولم يجدوا على قولهم حجة وبرهانا . وقال الفراء : لا يستطيعون في أمرك حيلة .

    والثاني : سبيلا إلى الطاعة ، قاله السدي .
    تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا . بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا [ ص: 75 ] مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا

    ثم أخبر أنه لو شاء لأعطاه خيرا مما قالوا في الدنيا ، وهو قوله : خيرا من ذلك يعني : لو شئت لأعطيتك في الدنيا خيرا مما قالوا ، لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة . ويجعل لك قصورا قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : " ويجعل لك قصورا " برفع اللام . وقرأ أبو عمرو ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : " ويجعل " بجزم اللام . فمن قرأ بالجزم ، كان المعنى : إن يشأ يجعل لك جنات ويجعل [لك] قصورا . ومن رفع ، فعلى الاستثناء [المعنى] : ويجعل لك قصورا في الآخرة . وقد سبق معنى " أعتدنا " [النساء : 37] ومعنى " السعير " [النساء:10] .

    قوله تعالى: إذا رأتهم من مكان بعيد قال السدي عن أشياخه : من مسيرة مائة عام .

    فإن قيل : السعير مذكر ، فكيف قال : " إذا رأتهم " ؟

    فالجواب : أنه أراد بالسعير النار .

    قوله تعالى: سمعوا لها تغيظا فيه قولان .

    أحدهما : غليان تغيظ ، قاله الزجاج . قال المفسرون : والمعنى أنها تتغيظ عليهم ، فيسمعون صوت تغيظها وزفيرها كالغضبان إذا غلا صدره من الغيظ .

    والثاني : يسمعون فيها تغيظ المعذبين وزفيرهم ، حكاه ابن قتيبة .

    قوله تعالى: وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا قال المفسرون : تضيق عليهم كما يضيق الزج على الرمح ، وهم قد قرنوا مع الشياطين ، والثبور : الهلكة . وقرأ عاصم الجحدري ، وابن السميفع : " ثبورا " بفتح الثاء .

    [ ص: 76 ] قوله تعالى: وادعوا ثبورا كثيرا قال الزجاج : الثبور مصدر ، فهو للقليل والكثير على لفظ الواحد ، كما تقول ضربته ضربا كثيرا ، والمعنى : هلاكهم أكثر من أن يدعوا مرة واحدة وروى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول من يكسى من أهل النار يوم القيامة إبليس ، يكسى حلة من النار فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه ، وذريته خلفه وهو يقول : وا ثبوراه ، وهم ينادون : يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار ، فينادي : يا ثبوراه ، وينادون : يا ثبورهم ، فيقول الله عز وجل : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا .
    قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا . لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا

    قوله تعالى: قل أذلك يعني : السعير خير أم جنة الخلد وهذا تنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين ، لا على أن في السعير خيرا . وقال الزجاج : قد وقع التساوي بين الجنة والنار في أنهما منزلان ، فلذلك وقع التفضيل بينهما .

    [ ص: 77 ] قوله تعالى: كانت لهم جزاء أي : ثوابا ومصيرا أي : مرجعا .

    قوله تعالى: كان على ربك المشار إليه ، إما الدخول وإما الخلود وعدا وعدهم الله إياه على ألسنة الرسل .

    وفي معنى مسؤولا قولان .

    أحدهما : مطلوبا . وفي الطالب له قولان . أحدهما : أنهم المؤمنون ، سألوا الله في الدنيا إنجاز ما وعدهم [به] . والثاني : أن الملائكة سألته ذلك لهم ، وهو قوله : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم [غافر:8] .

    والثاني : أن معنى المسؤول : الواجب .
    ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل . قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا . وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا

    قوله تعالى: ويوم يحشرهم قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم : " يحشرهم " " فيقول " بالياء فيهما . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي، [ ص: 78 ] وأبو بكر عن عاصم : " نحشرهم " بالنون " فيقول " بالياء . وقرأ ابن عامر : " نحشرهم " " فنقول " بالنون فيهما جميعا ; يعني : المشركين ، وما يعبدون قال مجاهد : يعني عيسى وعزيرا والملائكة . وقال عكرمة ، والضحاك : يعني الأصنام ، فيأذن الله للأصنام في الكلام ، ويخاطبها فيقول أأنتم أضللتم عبادي أي : أمرتموهم بعبادتكم أم هم ضلوا السبيل أي : أخطأوا الطريق . قالوا يعني الأصنام سبحانك نزهوا الله تعالى أن يعبد غيره ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم ; والمعنى : ما كان ينبغي لنا أن نعبد نحن غيرك ، فكيف ندعو إلى عبادتنا؟! فدل هذا الجواب على أنهم لم يأمروا بعبادتهم . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وابن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وأبو جعفر ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : " أن نتخذ " برفع النون وفتح الخاء . ثم ذكروا سبب تركهم الإيمان ، فقالوا : ولكن متعتهم أي : أطلت لهم العمر وأوسعت لهم الرزق حتى نسوا الذكر أي : تركوا الإيمان بالقرآن والاتعاظ به وكانوا قوما بورا قال ابن عباس : هلكي . وقال في رواية أخرى ، البور : [في] لغة أزد عمان : الفاسد . قال ابن قتيبة : هو من بار يبور : إذا هلك وبطل ، يقال : بار الطعام : إذا كسد ، وبارت الأيم : إذا لم يرغب فيها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم ، قال : وقال أبو عبيدة : يقال : رجل بور ، وقوم بور ، لا يجمع ولا يثنى ، واحتج بقول الشاعر :

    [ ص: 79 ]
    يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور


    وقد سمعنا بـ " رجل بائر " ، ورأيناهم ربما جمعوا " فاعلا " على " فعل " ، نحو عائذ وعوذ ، وشارف وشرف . قال المفسرون : فيقال للكفار حينئذ فقد كذبوكم أي : فقد كذبكم المعبودون في قولكم : إنهم آلهة . وقرأ سعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومعاذ القارئ ، وابن شنبوذ عن قنبل : " بما يقولون " بالياء ; والمعنى : كذبوكم بقولهم : سبحانك ما كان ينبغي لنا الآية ; هذا قول الأكثرين . وقال ابن زيد : الخطاب للمؤمنين ; فالمعنى : فقد كذبكم المشركون بما تقولون : إن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: ( فما يستطعيون صرفا ولا نصرا ) قرأ الأكثرون بالياء . وفيه وجهان .

    أحدهما : فما يستطيع المعبودون صرفا للعذاب عنكم ولا نصرا لكم .

    والثاني : فما يستطيع الكفار صرفا لعذاب الله عنهم ولا نصرا لأنفسهم .

    وقرأ حفص عن عاصم : " تستطيعون " بالتاء ; والخطاب للكفار . وحكى ابن قتيبة عن يونس البصري أنه قال : الصرف : الحيلة من قولهم : إنه ليتصرف .

    قوله تعالى: ومن يظلم منكم أي : بالشرك نذقه في الآخرة .

    وقرأ عاصم الجحدري ، والضحاك ، وأبو الجوزاء [وقتادة] : " يذقه " بالياء عذابا كبيرا أي : شديدا . وما أرسلنا قبلك من المرسلين قال الزجاج : في الآية محذوف، [ ص: 80 ] تقديره : وما أرسلنا قبلك رسلا من المرسلين ، فحذفت " رسلا " لأن قوله : من المرسلين يدل عليها .

    قوله تعالى: إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق أي : إنهم كانوا على مثل حالك ، فكيف تكون بدعا منهم؟!

    فإن قيل : لم كسرت " إنهم " هاهنا ، وفتحت في [ (براءة : 54) في ] قوله : أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم فقد بينا هنالك علة فتح تلك ; فأما كسر هذه ، فذكر ابن الأنباري فيه وجهين .

    أحدهما : أن تكون فيها واو حال مضمرة ، فكسرت بعدها " إن " للاستئناف ، فيكون التقدير : إلا وإنهم ليأكلون الطعام ، فأضمرت الواو هاهنا كما أضمرت في قوله أو هم قائلون [الأعراف:4] ، والتأويل : أو وهم قائلون .

    والثاني : أن تكون كسرت لإضمار " من " قبلها ، فيكون التقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا من إنهم ليأكلون ، قال الشاعر :
    فظلوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يثني دمعة العين بالمهل


    أراد : من دمعه .

    قوله تعالى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة الفتنة : الابتلاء والاختبار .

    وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنه افتتان الفقير بالغني ، يقول : لو شاء لجعلني غنيا ، والأعمى بالبصير ، والسقيم بالصحيح ، قاله الحسن .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #413
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    الحلقة (413)
    صــ 81 إلى صــ 90





    [ ص: 81 ] والثاني : ابتلاء الشريف بالوضيع ، والعربي بالمولى ، فإذا أراد الشريف أن يسلم فرأى الوضيع قد سبقه بالإسلام أنف فأقام على كفره ، قاله ابن السائب .

    والثالث : أن المستهزئين من قريش كانوا إذا رأوا فقراء المؤمنين ، قالوا : انظروا إلى أتباع محمد من موالينا ورذالتنا ، قاله مقاتل .

    فعلى الأول : يكون الخطاب بقوله : أتصبرون لأهل البلاء . وعلى الثاني : للرؤساء ، فيكون المعنى : أتصبرون على سبق الموالي والأتباع . وعلى الثالث : للفقراء ; فالمعنى : أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم ، والمعنى : قد علمتم ما وعد الصابرون ، وكان ربك بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع .
    وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا . وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا

    قوله تعالى: وقال الذين لا يرجون لقاءنا أي : لا يخافون البعث لولا أي : هلا أنزل علينا الملائكة فكانوا رسلا إلينا وأخبرونا بصدقك، [ ص: 82 ] أو نرى ربنا فيخبرنا أنك رسوله ، لقد استكبروا في أنفسهم أي : تكبروا حين سألوا هذه الآيات وعتوا عتوا كبيرا قال الزجاج : العتو في اللغة : مجاوزة القدر في الظلم .

    قوله تعالى: يوم يرون الملائكة فيه قولان .

    أحدهما : عند الموت . والثاني : يوم القيامة .

    قال الزجاج : وانتصب اليوم على معنى : لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة ، و يومئذ مؤكد لـ يوم يرون الملائكة ; والمعنى أنهم يمنعون البشرى في ذلك اليوم ; ويجوز أن يكون " يوم " منصوبا على معنى : اذكر يوم يرون الملائكة ، ثم أخبر فقال : لا بشرى ، والمجرمون هاهنا : الكفار .

    قوله تعالى: ويقولون حجرا محجورا وقرأ قتادة ، والضحاك ، ومعاذ القارئ : " حجرا " بضم الحاء . قال الزجاج : وأصل الحجر في اللغة : ما حجرت عليه ، أي : منعت من أن يوصل إليه ، ومنه حجر القضاة على الأيتام .

    وفي القائلين لهذا قولان .

    أحدهما : أنهم الملائكة يقولون للكفار : حجرا محجورا ، أي : حراما محرما . وفيما حرموه عليهم قولان . أحدهما : البشرى ، فالمعنى : حرام محرم أن تكون لكم البشرى ، قاله الضحاك ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . والثاني : أن تدخلوا الجنة ، قاله مجاهد .

    والثاني : أنه قول المشركين إذا عاينوا العذاب ، ومعناه الاستعاذة من الملائكة ، روي عن مجاهد أيضا . وقال ابن فارس : كان الرجل إذا لقي من يخافه في الشهر الحرام ، قال : حجرا ، أي : حرام عليك أذاي ، فإذا رأى [ ص: 83 ] المشركون الملائكة يوم القيامة ، قالوا : حجرا محجورا ، يظنون أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا .

    قوله تعالى: وقدمنا قال ابن قتيبة : أي : قصدنا وعمدنا ، والأصل أن من أراد القدوم إلى موضع عمد له وقصده .

    قوله تعالى: إلى ما عملوا من عمل [أي] من أعمال الخير فجعلناه هباء لأن العمل لا يتقبل مع الشرك .

    وفي الهباء خمسة أقوال .

    أحدها : أنه ما رأيته يتطاير في الشمس التي تدخل من الكوة مثل الغبار ، قاله علي عليه السلام ، والحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، واللغويون ; والمعنى أن الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء .

    والثاني : أنه الماء المهراق ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث : أنه ما تنسفه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر ، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس .

    والرابع : أنه الشرر الذي يطير من النار إذا أضرمت ، فإذا وقع لم يكن شيئا رواه عطية عن ابن عباس ،

    والخامس : أنه ما يسطع من حوافر الدواب ، قاله مقاتل . والمنثور : المتفرق .

    قوله تعالى: أصحاب الجنة يومئذ أي : يوم القيامة ، خير مستقرا [ ص: 84 ] أفضل منزلا من المشركين وأحسن مقيلا قال الزجاج : المقيل : المقام وقت القائلة ، وهو النوم نصف النهار . وقال الأزهري : القيلولة عند العرب : الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم . وقال ابن مسعود ، وابن عباس : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار .
    ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا . ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا . لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا

    قوله تعالى: ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا هذا معطوف على قوله : يوم يرون الملائكة ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : " تشقق " بالتشديد ، فأدغموا التاء في الشين ، لأن الأصل : تتشقق . قال الفراء : المعنى : تتشقق السماء عن الغمام ، وتنزل فيه الملائكة ، و " على " و " عن " و " الباء " في هذا الموضع بمعنى واحد ، لأن العرب تقول : رميت عن القوس ، وبالقوس ، وعلى القوس ; والمعنى واحد . وقال أبو علي الفارسي : المعنى : تتشقق السماء وعليها غمام ، كما تقول : ركب الأمير بسلاحه ، وخرج بثيابه ، وإنما تتشقق السماء لنزول الملائكة . قال ابن عباس : تتشقق السماء عن الغمام ، وهو الغيم الأبيض ، وتنزل الملائكة في الغمام . وقال مقاتل : المراد بالسماء : السماوات ، تتشقق عن الغمام ، وهو غمام أبيض كهيئة الضباب ، فتنزل الملائكة عند انشقاقها .

    وقرأ ابن كثير : " وننزل " بنونين : الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة، [ ص: 85 ] واللام مضمومة ، و " الملائكة " نصبا . وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو عمران الجوني : " ونزل " بنون واحدة مفتوحة ونصب الزاي وتشديدها وفتح اللام ونصب " الملائكة " . وقرأ ابن يعمر : " ونزل " بفتح النون واللام والزاي والتخفيف " الملائكة " بالرفع .

    قوله تعالى: الملك يومئذ الحق للرحمن قال الزجاج : المعنى : الملك الذي هو الملك حقا للرحمن . فأما العسير ، فهو العصب الشديد يشتد على الكفار ، ويهون على المؤمنين فيكون كمقدار صلاة مكتوبة .

    قوله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه في سبب نزولها ثلاثة أقوال .

    أحدها : أن أبي بن خلف كان يحضر [عند] رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجالسه من غير أن يؤمن به ، فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس .

    والثاني : أن عقبة دعا قوما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام فأكلوا ، وأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل ، وقال : " لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " ، فشهد بذلك عقبة ، فبلغ ذلك أبي بن خلف ، وكان خليلا له ، فقال : صبوت يا عقبة؟! فقال : لا والله ، ولكنه أبى أن يأكل حتى قلت ذلك ، وليس من نفسي ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .

    [ ص: 86 ] والثالث : أن عقبة كان خليلا لأمية بن خلف ، فأسلم عقبة ، فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا ، فكفر وارتد لرضا أمية ، فنزلت هذه الآية ، قاله الشعبي .

    فأما الظالم [المذكور] هاهنا ، فهو الكافر ، وفيه قولان .

    أحدهما : أنه أبي بن خلف ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : عقبة بن أبي معيط ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .

    قال عطاء : يأكل يديه حتى تذهبا إلى المرفقين ، ثم تنبتان ، فلا يزال هكذا كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل .

    قوله تعالى: يا ليتني اتخذت الأكثرون يسكنون " يا ليتني " وأبو عمرو يحركها ; قال أبو علي : والأصل التحريك ، لأنها بإزاء الكاف التي للخطاب ، إلا أن حرف اللين تكره فيه الحركة ، ولذلك أسكن من أسكن ; والمعنى : ليتني اتبعته فاتخذت معه طريقا إلى الهدى .

    قوله تعالى: ليتني لم أتخذ فلانا في المشار إليه أربعة أقوال .

    أحدها : أنه عنى أبي بن خلف ، قاله ابن عباس . والثاني : عقبة بن أبي معيط ، قاله أبو مالك . والثالث : الشيطان ، قاله مجاهد . والرابع : أمية بن خلف ، قاله السدي .

    فإن قيل : إنما يكنى من يخاف المبادأة أو يحتاج إلى المداجاة ، فما وجه الكناية؟

    فالجواب : أنه أراد بالظالم : كل ظالم ، وأراد بفلان : كل من أطيع في معصية وأرضي بسخط الله ، وإن كانت الآية نزلت في شخص ، قاله ابن قتيبة .

    [ ص: 87 ] قوله تعالى: لقد أضلني عن الذكر أي : صرفني عن القرآن والإيمان به بعد إذ جاءني مع الرسول ، وهاهنا تم الكلام . ثم قال الله تعالى : وكان الشيطان للإنسان يعني : الكافر خذولا يتبرأ [منه] في الآخرة .
    وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا

    قوله تعالى: وقال الرسول يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهذا عند كثير من العلماء أنه يقوله يوم القيامة ; فالمعنى : ويقول الرسول يومئذ . وذهب آخرون ، منهم مقاتل ، إلى أن الرسول قال ذلك شاكيا من قومه إلى الله تعالى حين كذبوه . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، [وأبو عمرو] : " إن قومي اتخذوا " بتحريك الياء ; وأسكنها عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي .

    وفي المراد بقوله : مهجورا قولان .

    أحدهما : متروكا لا يلتفتون إليه ولا يؤمنون به ، وهذا معنى قول ابن عباس ، ومقاتل .

    [ ص: 88 ] والثاني : هجروا فيه ، أي : جعلوه كالهذيان ، ومنه يقال : فلان يهجر في منامه ، أي : يهذي ، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج : الهجر : ما لا ينتفع به من القول . قال المفسرون : فعزاه الله عز وجل ، فقال : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا أي : كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك ، جعلنا لكل نبي عدوا من كفار قومه ; والمعنى : لا يكبرن هذا عليك ، فلك بالأنبياء أسوة ، وكفى بربك هاديا ونصيرا يمنعك من عدوك . قال الزجاج : والباء في قوله : بربك زائدة ; فالمعنى : كفى ربك هاديا ونصيرا .
    وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا . ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا

    قوله تعالى: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة أي : كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور ، فقال الله عز وجل : كذلك أي : أنزلناه كذلك متفرقا ، لأن معنى ما قالوا : لم نزل عليه متفرقا؟ فقيل : إنما أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك أي : لنقوي به قلبك فتزداد بصيرة ، وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كل أمر وحادثة ، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه ، ورتلناه ترتيلا أي : أنزلناه على الترتيل ، وهو التمكث الذي يضاد العجلة .

    قوله تعالى: ولا يأتونك يعني المشركين بمثل يضربونه لك في مخاصمتك وإبطال أمرك إلا جئناك بالحق أي : بالذي هو الحق لترد به كيدهم وأحسن تفسيرا من مثلهم ; والتفسير : البيان والكشف .

    قال مقاتل : ثم أخبر بمستقرهم في الآخرة ، فقال : الذين يحشرون على [ ص: 89 ] وجوههم وذلك أن كفار مكة قالوا : إن محمدا وأصحابه شر خلق الله ، فنزلت هذه الآية .

    قوله تعالى: أولئك شر مكانا أي : منزلا ومصيرا وأضل سبيلا دينا وطريقا من المؤمنين .
    ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا . فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما . وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا

    قوله تعالى: اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا .

    إن قيل : إنما عاينوا الآيات بعد [وجود] الرسالة ، فكيف يقع التكذيب منهم قبل وجود الآيات؟

    فالجواب : أنهم كانوا مكذبين أنبياء الله وكتبه المتقدمة ، ومن كذب نبيا فقد كذب سائر الأنبياء ولهذا قال : وقوم نوح لما كذبوا الرسل ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون المراد به نوح وحده ، وقد ذكر بلفظ الجنس ، كما يقال : فلان يركب الدواب ، وإن لم يركب إلا دابة واحدة ; وقد شرحنا هذا في (هود : 59) عند قوله : وعصوا رسله . وقد سبق معنى التدمير [الأعراف : 137] .

    قوله تعالى: وأصحاب الرس في الرس ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنها بئر كانت تسمى الرس ، قاله ابن عباس في رواية العوفي .

    [ ص: 90 ] وقال في رواية عكرمة : هي بئر بأذربيجان . وزعم ابن السائب أنها بئر دون اليمامة . وقال السدي : بئر بأنطاكية .

    والثاني : أن الرس قرية من قرى اليمامة ، قاله قتادة .

    والثالث : أنها المعدن ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة .

    وفي تسميتها بالرس قولان .

    أحدهما : أنهم رسوا نبيهم في البئر ، قاله عكرمة . قال الزجاج : رسوه ، أي : دسوه فيها .

    والثاني : أن كل ركية لم تطو فهي رس ، قاله ابن قتيبة .

    واختلفوا في أصحاب الرس على خمسة أقوال .

    أحدها : أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة ، فبعث الله تعالى إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب ، فحفروا له بئرا وألقوه فيها ، فهلكوا ، قاله علي عليه السلام .

    والثاني : أنهم قوم كان لهم نبي يقال له : حنظلة بن صفوان ، فقتلوا نبيهم فأهلكهم الله ، قاله سعيد بن جبير .

    والثالث : أنهم كانوا أهل بئر ينزلون عليها ، وكانت لهم مواش ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فبعث الله إليهم شعيبا ، فتمادوا في طغيانهم ، فانهارت البئر ، فخسف بهم وبمنازلهم ، قاله وهب بن منبه .

    والرابع : أنهم الذين قتلوا حبيبا النجار ، قتلوه في بئر لهم ، وهو الذي قال : يا قوم اتبعوا المرسلين [يس:20] ، قاله السدي .

    والخامس : أنهم قوم قتلوا نبيهم وأكلوه وأول من عمل السحر نساؤهم ، قاله ابن السائب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #414
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    الحلقة (414)
    صــ 91 إلى صــ 100




    [ ص: 91 ] قوله تعالى: وقرونا المعنى : وأهلكنا قرونا بين ذلك كثيرا أي : بين عاد وأصحاب الرس . وقد سبق بيان القرن [الأنعام : 6] . وفي هذه القصص تهديد لقريش .

    قوله تعالى: وكلا ضربنا له الأمثال أي : أعذرنا إليه بالموعظة وإقامة الحجة وكلا تبرنا قال الزجاج : التتبير : التدمير ، وكل شيء كسرته وفتتته فقد تبرته ، وكسارته : التبر ، ومن هذا قيل لمكسور الزجاج : التبر ، وكذلك تبر الذهب .
    ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا . وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا . أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا

    قوله تعالى: ولقد أتوا يعني كفار مكة على القرية التي أمطرت مطر السوء يعني قرية قوم لوط التي رميت بالحجارة أفلم يكونوا يرونها في أسفارهم فيعتبروا؟! ثم أخبر بالذي جرأهم على التكذيب ، فقال : بل كانوا لا يرجون نشورا أي : لا يخافون بعثا ، هذا قول المفسرين . وقال الزجاج : الذي عليه أهل اللغة أن الرجاء ليس بمعنى الخوف ، وإنما المعنى : بل كانوا لا يرجون ثواب عمل الخير ، فركبوا المعاصي .

    [ ص: 92 ] قوله تعالى: وإذا رأوك إن يتخذونك أي : ما يتخذونك إلا هزوا أي : مهزوءا به . ثم ذكر ما يقولون من الاستهزاء : أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا أي : ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن صبرنا عليها أي : على عبادتها ; قال الله تعالى : وسوف يعلمون حين يرون العذاب في الآخرة من أضل أي : من أخطأ طريقا عن الهدى ، أهم ، أم المؤمنون .

    ثم عجب نبيه من جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إليه الهوى ، فقال : أرأيت من اتخذ إلهه هواه قال ابن عباس : كان أحدهم يعبد الحجر ، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر . وقال قتادة : هو الكافر لا يهوى شيئا إلا ركبه .

    وقال ابن قتيبة : المعنى يتبع هواه ويدع الحق ، فهو له كالإله .

    قوله تعالى: أفأنت تكون عليه وكيلا أي : حفيظا يحفظه من اتباع هواه . وزعم الكلبي أن هذه الآية منسوخة بآية القتال .

    قوله تعالى: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون يعني أهل مكة ; والمراد : يسمعون سماع طالب الإفهام أو يعقلون ما يعاينون من الحجج والأعلام إن هم إلا كالأنعام وفي وجه تشبيههم بالأنعام قولان .

    أحدهما : أن الأنعام تسمع الصوت ولا تفقه القول .

    والثاني : أنه ليس لها هم إلا المأكل والمشرب .

    قوله تعالى: بل هم أضل سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها وتنقاد لأربابها وتقبل على المحسن إليها ، وهم على خلاف ذلك .
    ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا [ ص: 93 ] وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا

    قوله تعالى: ألم تر إلى ربك أي : إلى فعل ربك . وقال الزجاج : معناه : ألم تعلم ، فهو من رؤية القلب ، ويجوز أن يكون من رؤية العين ; فالمعنى : ألم تر إلى الظل كيف مده ربك؟ والظل من وقت طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس ولو شاء لجعله ساكنا أي : ثابتا دائما لا يزول ثم جعلنا الشمس عليه دليلا فالشمس دليل على الظل ، فلولا الشمس ما عرف أنه شيء ، كما أنه لولا النور ما عرفت الظلمة ، فكل الأشياء تعرف بأضدادها .

    قوله تعالى: ثم قبضناه إلينا يعني : الظل قبضا يسيرا وفيه قولان .

    أحدهما : سريعا ، قاله ابن عباس . والثاني : خفيا ، قاله مجاهد .

    وفي وقت قبض الظل قولان . أحدهما : عند طلوع الشمس يقبض الظل وتجمع أجزاؤه المنبسطة بتسليط الشمس عليه حتى تنسخه شيئا فشيئا والثاني : عند غروب الشمس تقبض أجزاء الظل بعد غروبها ، ويخلف كل جزء منه جزءا من الظلام .

    قوله تعالى: وهو الذي جعل لكم الليل لباسا أي : ساترا بظلمته ، لأن ظلمته تغشى الأشخاص وتشتمل عليها اشتمال اللباس على لابسه والنوم [ ص: 94 ] سباتا قال ابن قتيبة : أي : راحة ، ومنه يوم السبت ، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة ، وكان الفراغ منه في يوم السبت ، فقيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا فيه شيئا ، فسمي يوم السبت ، أي : يوم الراحة ، وأصل السبت : التمدد ، ومن تمدد استراح . وقال ابن الأنباري : أصل السبت : القطع ; فالمعنى : وجعلنا النوم قطعا لأعمالكم .

    قوله تعالى: وجعل النهار نشورا فيه قولان . أحدهما : تنتشرون فيه لابتغاء الرزق ، قاله ابن عباس . والثاني : تنشر الروح باليقظة كما تنشر بالبعث ، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: وهو الذي أرسل الرياح قد شرحناه في (الأعراف : 75) إلى قوله : وأنزلنا من السماء ماء طهورا يعني : المطر . قال الأزهري : الطهور في اللغة : الطاهر المطهر . والطهور ما يتطهر به ، كالوضوء الذي يتوضأ به ، والفطور الذي يفطر عليه .

    قوله تعالى: لنحيي به بلدة ميتا وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وأبو جعفر : " ميتا " بالتشديد . قال الزجاج : لفظ البلدة مؤنث ، وإنما قيل : " ميتا " لأن معنى البلدة والبلد سواء . وقال غيره : إنما قال : " ميتا " ، لأنه أراد بالبلدة المكان . وقد سبق معنى صفة البلدة بالموت [الأعراف : 57] ومعنى : ونسقيه [الفرقان : 49]؟؟؟ . وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، والضحاك ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : " ونسقيه " بفتح النون . فأما الأناسي ، فقال الزجاج : هو جمع إنسي ، مثل كرسي وكراسي ; ويجوز أن يكون جمع إنسان ، وتكون الياء بدلا من النون ، الأصل : أناسين مثل سراحين . وقرأ أبو مجلز، [ ص: 95 ] والضحاك ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري : " وأناسي " بتخفيف الياء .

    قوله تعالى: ولقد صرفناه يعني المطر بينهم مرة لهذه البلدة ، ومرة لهذه ليذكروا أي : ليتفكروا في نعم الله عليهم فيحمدوه . وقرأ حمزة ، والكسائي : " ليذكروا " خفيفة الذال . قال أبو علي : يذكر في معنى يتذكر ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا وهم الذين يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، كفروا بنعمة الله . ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا المعنى : إنا بعثناك إلى جميع القرى لعظم كرامتك ، فلا تطع الكافرين وذلك أن كفار مكة دعوه إلى دين آبائهم ، وجاهدهم به أي بالقرآن جهادا كبيرا أي : تاما شديدا .
    وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا . وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا

    قوله تعالى: وهو الذي مرج البحرين قال الزجاج : أي : خلى بينهما ; تقول : مرجت الدابة وأمرجتها : إذا خليتها ترعى ، ومنه الحديث : " مرجت [ ص: 96 ] عهودهم وأماناتهم " أي : اختلطت . قال المفسرون : والمعنى أنه أرسلهما في مجاريهما ، فما يلتقيان ، ولا يختلط الملح بالعذب ، ولا العذب بالملح ، وهو قوله : هذا يعني : أحد البحرين عذب أي : طيب ; يقال : عذب الماء يعذب عذوبة ، فهو عذب . قال الزجاج : والفرات صفة للعذب ، وهو أشد الماء عذوبة ، والأجاج صفة للملح ، وهو : المر الشديد المرارة . وقال ابن قتيبة : هو أشد الماء ملوحة ، وقيل : هو الذي يخالطه مرارة ، ويقال : ماء ملح ، ولا يقال : مالح ، والبرزخ : الحاجز . وفي هذا الحاجز قولان .

    أحدهما : أنه مانع من قدرة الله تعالى ، قاله الأكثرون . قال الزجاج : فهما في مرأى العين مختلطان ، وفي قدرة الله منفصلان لا يختلط أحدهما بالآخر . قال أبو سليمان الدمشقي : ورأيت عند عبادان من سواد البصرة الماء العذب ينحدر في دجلة نحو البحر ، ويأتي المد من البحر ، فيلتقيان ، فلا يختلط أحد الماءين بالآخر ، يرى ماء البحر إلى الخضرة الشديدة ، وماء دجلة إلى الحمرة الخفيفة ، فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذبا لا يخالطه شيء ، وإلى جانبه ماء البحر في مكان واحد .

    والثاني : أن الحاجز : الأرض واليبس ، وهو قول الحسن ; والأول أصح .

    قوله تعالى: وحجرا محجورا قال الفراء : أي : حراما محرما أن يغلب أحدهما صاحبه .

    [ ص: 97 ] قوله تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا أي : من النطفة بشرا ، أي : إنسانا فجعله نسبا وصهرا أي : ذا نسب وصهر . قال علي عليه السلام : النسب : ما لا يحل نكاحه ، والصهر : ما يحل نكاحه . وقال الضحاك : النسب سبع ، وهو قوله : حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله : وبنات الأخت ، والصهر خمس ، وهو قوله : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم إلى قوله : من أصلابكم [النساء : 23] . وقال طاوس : الرضاعة من الصهر . وقال ابن قتيبة : " نسبا " أي : قرابة النسب ، " وصهرا " أي : قرابة النكاح . وكل شيء من قبل الزوج ، مثل الأب والأخ ، فهم الأحماء ، واحدهم حما ، مثل : قفا ، وحمو مثل أبو ، وحمء مهموز ساكن الميم ، وحم مثل أب . وحماة المرأة : أم زوجها ، لا لغة فيها غير هذه وكل شيء من قبل المرأة ، فهم الأختان . والصهر يجمع ذلك كله . وحكى



    ابن فارس عن الخليل ، أنه قال : لا يقال لأهل بيت الرجل إلا أختان ، ولأهل بيت المرأة إلا أصهار . ومن العرب من يجعلهم أصهارا كلهم . والصهر : إذابة الشيء . وذكر الماوردي أن المناكح سميت صهرا ، لاختلاط الناس بها كما يختلط الشيء إذا صهر .

    قوله تعالى: وكان الكافر على ربه ظهيرا فيه أربعة أقوال .

    أحدها : معينا للشيطان على ربه ، لأن عبادته للأصنام معاونة للشيطان .

    والثاني : معينا للمشركين على أن لا يوحدوا الله تعالى .

    والثالث : معينا على أولياء ربه .

    والرابع : وكان الكافر على ربه هينا ذليلا ، من قولك : ظهرت بفلان : إذا جعلته وراء ظهرك ولم تلتفت إليه . قالوا : والمراد بالكافر هاهنا أبو جهل .
    [ ص: 98 ] وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا . وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا . وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا

    قوله تعالى: ما أسألكم عليه أي : على القرآن وتبليغ الوحي من أجر وهذا توكيد لصدقه ، لأنه لو سألهم شيئا من أموالهم لاتهموه ، إلا من شاء معناه : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بإنفاق ماله في مرضاته ، فعل ذلك ، فكأنه قال : لا أسألكم لنفسي . وقد سبق تفسير الكلمات التي تلي هذه [آل عمران : 159 ، البقرة : 30 ، الأعراف : 54] إلى قوله : فاسأل به خبيرا ، و " به " بمعنى : " عنه " ، قال [علقمة بن عبدة] :

    فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب

    وفي هاء " به " ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنها ترجع إلى الله عز وجل . والثاني : إلى اسمه الرحمن ، لأنهم قالوا : لا نعرف الرحمن . والثالث : إلى ما ذكر من خلق السماوات والأرض وغير ذلك .

    وفي " الخبير " أربعة أقوال .

    أحدها : أنه جبريل ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه الله عز وجل ، والمعنى: [ ص: 99 ] سلني فأنا الخبير ، قاله مجاهد . والثالث : [أنه] القرآن ، قاله شمر . والرابع : مسلمة أهل الكتاب ، قاله أبو سليمان ، وهذا يخرج على قولهم : لا نعرف الرحمن ، فقيل : سلوا مسلمة أهل الكتاب ، فإن الله تعالى خاطب موسى في التوراة باسمه الرحمن ، فعلى هذا ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد سواه .

    قوله تعالى: وإذا قيل لهم يعني كفار مكة اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن قال المفسرون : إنهم قالوا : لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، فأنكروا أن يكون من أسماء الله تعالى ، أنسجد لما تأمرنا وقرأ حمزة ، والكسائي : " يأمرنا " بالياء ، أي : لما يأمرنا به محمد ، وهذا استفهام إنكار ، ومعناه : لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له ، وزادهم ذكر الرحمن نفورا أي : تباعدا من الإيمان .
    تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا . وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا

    قوله تعالى: تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا قد شرحناه في (الحجر : 16) . والمراد بالسراج : الشمس . وقرأ حمزة ، والكسائي : " سرجا " بضم السين والراء وإسقاط الألف . قال الزجاج : أراد : الشمس : والكواكب العظام ; ويجوز " سرجا " بتسكين الراء ، مثل رسل ورسل . قال الماوردي : لما اقترن بضوء الشمس وهج حرها ، جعلها لأجل الحرارة سراجا ، ولما عدم ذلك في القمر جعله نورا .

    قوله تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة فيه قولان .

    أحدهما : أن كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون ، فهذا أبيض ، وهذا [ ص: 100 ] أسود ، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال قتادة .

    والثاني : أن كل واحد منهما يخلف صاحبه ، رواه عمرو بن قيس الملائي عن مجاهد ، وبه قال ابن زيد وأهل اللغة ، وأنشدوا قول زهير :


    بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم


    أي : إذا ذهبت طائفة جاءت طائفة .

    قوله تعالى: لمن أراد أن يذكر أي : يتعظ ويعتبر باختلافهما . وقرأ حمزة : " يذكر " خفيفة الذال مضمومة الكاف ، وهي في معنى : يتذكر ، أو أراد شكر الله تعالى فيهما .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #415
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    الحلقة (415)
    صــ 101 إلى صــ 110





    وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقرا ومقاما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما

    [ ص: 101 ] قوله تعالى: وعباد الرحمن الذين يمشون وقرأ علي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وابن السميفع : " يمشون " برفع الياء وفتح الميم والشين وبالتشديد .

    وقال ابن قتيبة : إنما نسبهم إليه لاصطفائه إياهم كقوله : ناقة الله [الأعراف : 73] ، ومعنى " هونا " مشيا رويدا ، ومنه يقال : أحبب حبيبك هونا ما . وقال مجاهد : يمشون بالوقار والسكينة . وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي : سدادا . وقال الحسن : لا يجهلون على أحد ، وإن جهل عليهم حلموا . وقال مقاتل بن حيان : " قالوا سلاما " أي : قولا يسلمون فيه من الإثم . وهذه الآية محكمة عند الأكثرين . وزعم قوم أن المراد بها أنهم يقولون للكفار : ليس بيننا وبينكم غير السلام ، ثم نسخت بآية السيف .

    [ ص: 102 ] قوله تعالى: والذين يبيتون لربهم قال الزجاج : كل من أدركه الليل فقد بات ، نام أو لم ينم ; يقال : بات فلان قلقا ، إنما المبيت إدراك الليل .

    قوله تعالى: كان غراما فيه خمسة أقوال متقارب معانيها .

    أحدها : دائما ، رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني : موجعا ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث : ملحا ، قاله ابن السائب ; وقال ابن جريج : لا يفارق . والرابع : هلاكا ، قاله أبو عبيدة . والخامس : أن الغرام في اللغة : أشد العذاب ، قال الشاعر :

    ويوم النسار ويوم الجفا ر كانا عذابا وكانا غراما

    قاله الزجاج .

    قوله تعالى: ساءت مستقرا أي : بئس موضع الاستقرار وموضع الإقامة هي .

    قوله تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : " يقتروا " مفتوحة الياء مكسورة التاء وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : " يقتروا " بفتح الياء وضم التاء . وقرأ نافع ، وابن عامر : " يقتروا " بضم الياء وكسر التاء .

    وفي معنى الكلام قولان .

    أحدهما : أن الإسراف : مجاوزة الحد في النفقة ، والإقتار : التقصير عما لا بد [ ص: 103 ] منه ، ويدل على هذا قول عمر بن الخطاب : كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى .

    والثاني : [أن] الإسراف : الإنفاق في معصية الله وإن قل ، والإقتار : منع حق الله تعالى ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج في آخرين .

    قوله تعالى: وكان يعني الإنفاق بين ذلك أي : بين الإسراف والإقتار قواما أي : عدلا ; قال ثعلب : القوام ، بفتح القاف : الاستقامة والعدل ، وبكسرها : ما يدوم عليه الأمر ويستقر .
    والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما

    قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر في سبب نزولها ثلاثة أقوال .

    أحدها : ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت : ثم أي؟ قال : " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك " ، قلت: [ ص: 104 ] ثم أي؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ، فأنزل الله تعالى تصديقها والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية .

    والثاني : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت هذه الآية ، إلى قوله : غفورا رحيما أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثالث : أن وحشيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد كنت أحب أن أراك على غير جوار ، فأما إذا أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله ، قال : فإني أشركت بالله وقتلت التي حرم الله وزنيت ، فهل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية ، فتلاها عليه ، فقال : أرى شرطا ، فلعلي لا أعمل صالحا ، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله ، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:48] ، فدعاه فتلاها عليه ، فقال : ولعلي ممن لا يشاء [الله] ، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله ، فنزلت : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية [الزمر : 53] ، فقال : نعم ، الآن لا أرى شرطا ، فأسلم ، رواه عطاء عن ابن عباس ; وهذا وحشي هو قاتل حمزة ; وفي هذا الحديث المذكور عنه نظر ، وهو بعيد الصحة ، والمحفوظ في إسلامه غير هذا ، وأنه قدم [ ص: 105 ] مع رسل الطائف فأسلم من غير اشتراط . وقوله : يدعون معناه : يعبدون . وقد سبق بيان قتل النفس بالحق في (الأنعام : 151) .

    قوله تعالى: يلق أثاما وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو المتوكل : " يلق " برفع الياء وفتح اللام وتشديد القاف مفتوحة . قال ابن عباس : يلق جزاء . وقال مجاهد ، وعكرمة : وهو واد في جهنم . وقال ابن قتيبة : يلق عقوبة ، وأنشد :


    [جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا] والعقوق له أثام؟؟؟
    قال الزجاج : وقوله : يلق أثاما جزما على الجزاء . قال أبو عمرو الشيباني : يقال : قد لقي أثام ذلك ، أي : جزاء ذلك ، وسيبويه والخليل يذهبان إلى أن معناه : يلق جزاء الأثام . قال سيبويه : وإنما جزم " يضاعف له العذاب " لأن مضاعفة العذاب لقي الآثام ، فلذلك جزمت ، كما قال الشاعر :


    متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا


    لأن الإتيان هو الإلمام ، فجزم " تلمم " لأنه بمعنى " تأتي . وقرأ الحسن : " يضعف " ، وهو جيد بالغ ; تقول : ضاعفت الشيء وضعفته . وقرأ عاصم : " يضاعف " بالرفع على تفسير " يلق أثاما " كأن قائلا قال : ما لقي الأثام؟ فقيل : يضاعف للآثم العذاب . وقرأ أبو المتوكل ، وقتادة ، وأبو حيوة : " يضعف " برفع الياء وسكون الضاد وفتح العين خفيفة من غير ألف . وقرأ أبو حصين الأسدي ، والعمري عن أبي جعفر مثله ، إلا أن العين مكسورة ، و " العذاب " بالنصب .

    [ ص: 106 ] قوله تعالى: ويخلد وقرأ أبو حيوة ، وقتادة ، والأعمش : " ويخلد " برفع الياء وسكون الخاء وفتح اللام مخففة . وقرأ عاصم الجحدري ، وابن يعمر ، وأبو المتوكل مثله ، إلا أنهم شددوا اللام .

    فصل

    ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية قولان .

    أحدهما : أنها منسوخة ; وفي ناسخها ثلاثة أقوال . أحدها : أنه قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم [النساء : 93] ، قاله ابن عباس . وكان يقول " هذه مكية ، والتي في " النساء " مدنية . والثاني : أنها نسخت بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك الآية [النساء : 48] . والثالث : أن الأولى نسخت بالثانية ، وهي قوله : إلا من تاب .

    والقول الثاني : أنها محكمة ; والخلود إنما كان لانضمام الشرك إلى القتل والزنا . وفساد القول الأول ظاهر ، لأن القتل لا يوجب تخليدا عند الأكثرين ; وقد بيناه في سورة (النساء : 93) ، والشرك لا يغفر إذا مات المشرك عليه ، والاستثناء ليس بنسخ .

    قوله تعالى: إلا من تاب قال ابن عباس : قرأنا على عهد رسول الله سنتين . " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " ثم نزلت " إلا من تاب " فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء فرحه بها ، وبـ إنا فتحنا لك فتحا مبينا [الفتح : 1]

    [ ص: 107 ] قوله تعالى: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات اختلفوا في كيفية هذا التبديل وفي زمان كونه ، فقال ابن عباس : يبدل الله شركهم إيمانا وقتلهم إمساكا ، وزناهم إحصانا ; وهذا يدل على أنه يكون في الدنيا ، وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد . والثاني أن هذا يكون في الآخرة ، قاله سلمان رضي الله عنه ، وسعيد بن المسيب ، وعلي بن الحسين .

    وقال عمرو بن ميمون : يبدل الله سيئات المؤمن إذا غفرها له حسنات ، حتى إن العبد يتمنى أن تكون سيئاته أكثر مما هي . وعن الحسن كالقولين . وروي عن الحسن أنه قال : ود قوم يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذنوب ; فقيل : من هم؟ قال : هم الذين قال الله تعالى فيهم : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، ويؤكد هذا القول حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل يوم القيامة ، فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، فتعرض عليه صغار ذنوبه وتنحى عنه كبارها ، فيقال : عملت يوم كذا ، كذا وكذا ، وهو مقر لا ينكر ، وهو مشفق من الكبار ، فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة " ، أخرجه مسلم في " صحيحه " .
    [ ص: 108 ] ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا . والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا . والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما

    قوله تعالى: ومن تاب ظاهر هذه التوبة أنها عن الذنوب المذكورة . وقال ابن عباس : يعني : ممن لم يقتل ولم يزن ، وعمل صالحا فإني قد قدمتهم وفضلتهم على من قاتل نبيي واستحل محارمي .

    قوله تعالى: فإنه يتوب إلى الله متابا قال ابن الأنباري : معناه : من أراد التوبة وقصد حقيقتها ، فينبغي له أن يريد الله بها ولا يخلط بها ما يفسدها ; وهذا كما يقول الرجل من تجر فإنه يتجر في البز ومن ناظر فإنه يناظر في النحو ، أي : من أراد ذلك ، فينبغي أن يقصد هذا الفن ; قال : ويجوز أن يكون معنى [هذه] الآية : ومن تاب وعمل صالحا ، فإن ثوابه وجزاءه يعظمان له عند ربه الذي أراد بتوبته ، فلما كان قوله : فإنه يتوب إلى الله متابا يؤدي عن هذا المعنى ، كفى منه ، وهذا كما يقول الرجل للرجل : إذا تكلمت فاعلم [ ص: 109 ] أنك تكلم الوزير ، أي : تكلم من يعرف كلامك ويجازيك ، ومثله قوله تعالى: إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت [يونس : 71] أي : فإني أتوكل على من ينصرني ولا يسلمني . وقال قوم : معنى الآية : فإنه يرجع إلى الله مرجعا يقبله منه .

    قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور فيه ثمانية أقوال .

    أحدها : أنه الصنم ; روى الضحاك عن ابن عباس أن الزور صنم كان للمشركين . والثاني : أنه الغناء ، قاله محمد بن الحنفية ، ومكحول ; وروى ليث عن مجاهد قال : لا يسمعون الغناء . والثالث : الشرك ، قاله الضحاك ، وأبو مالك . والرابع : لعب كان لهم في الجاهلية ، قاله عكرمة . والخامس : الكذب ، قاله قتادة ، وابن جريج . والسادس : شهادة الزور ، قاله علي بن أبي طلحة . والسابع : أعياد المشركين ، قاله الربيع بن أنس . والثامن : مجالس الخنا ، قاله عمرو بن قيس .

    [ ص: 110 ] وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال .

    أحدها : المعاصي قاله الحسن . والثاني : أذى المشركين إياهم ، قاله مجاهد . والثالث : الباطل ، قاله قتادة . والرابع : الشرك ، قاله الضحاك . والخامس : إذا ذكروا النكاح كنوا عنه ، قاله مجاهد . وقال محمد بن علي : إذا ذكروا الفروج كنوا عنها .

    قوله تعالى: مروا كراما فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : مروا حلماء ، قاله ابن السائب . والثاني : مروا معرضين عنه ، قاله مقاتل . والثالث : أن المعنى : إذا مروا باللغو جاوزوه ، قاله الفراء .

    قوله تعالى: والذين إذا ذكروا أي : وعظوا بآيات ربهم وهي القرآن لم يخروا عليها صما وعميانا قال ابن قتيبة : لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها ، عمي لم يروها . وقال غيره من أهل اللغة : لم يثبتوا على حالتهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يروا ، وإن لم يكونوا خروا حقيقة ; تقول العرب : شتمت فلانا فقام يبكي ، وقعد يندب ، وأقبل يعتذر ، وظل يتحير ، وإن لم يكن قام ولا قعد .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #416
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    الحلقة (416)
    صــ 111 إلى صــ 120





    [ ص: 111 ] قوله تعالى: هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : " وذرياتنا " على الجمع . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، [وحفص] عن عاصم : " وذريتنا " على التوحيد ، قرة أعين وقرأ ابن مسعود ، وأبو حيوة : " قرات أعين " يعنون : من يعمل بطاعتك فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة . وسئل الحسن عن قوله : " قرة أعين " في الدنيا أم في الآخرة؟ قال : لا ، بل في الدنيا ، وأي شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يطيعون الله ، والله ما طلب القوم إلا أن يطاع الله فتقر أعينهم . قال الفراء : إنما قال : " قرة " لأنها فعل ، والفعل لا يكاد يجمع ، ألا ترى إلى قوله : وادعوا ثبورا كثيرا [الفرقان : 14] فلم يجمعه ; والقرة مصدر ، تقول : قرت عينه قرة ، ولو قيل : قرة عين أو قرات أعين كان صوابا . وقال غيره : أصل القرة من البرد ، لأن العرب تتأذى بالحر ، وتستروح إلى البرد .

    قوله تعالى: واجعلنا للمتقين إماما فيه قولان .

    أحدهما : اجعلنا أئمة يقتدى بنا ، قاله ابن عباس . وقال غيره : هذا من الواحد الذي يراد به الجمع ، كقوله : إنا رسول رب العالمين [الشعراء : 16] ، وقوله : فإنهم عدو لي [الشعراء : 77] .

    والثاني : اجعلنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم ، قاله مجاهد ; فعلى هذا يكون الكلام من المقلوب ، فيكون المعنى : واجعل المتقين لنا إماما .
    [ ص: 112 ] أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما . خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما

    قوله تعالى: أولئك يجزون الغرفة قال ابن عباس : يعني الجنة . وقال غيره : الغرفة : كل بناء عال مرتفع ، والمراد غرف الجنة ، وهي من الزبرجد والدر والياقوت ، بما صبروا على دينهم وعلى أذى المشركين .

    قوله تعالى: ويلقون فيها قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : " ويلقون " بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " ويلقون " بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف ، تحية وسلاما قال ابن عباس : يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، ويرسل إليهم الرب عز وجل بالسلام . وقال مقاتل : " تحية " يعني السلام ، " وسلاما " أي : سلم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم .

    قوله تعالى: قل ما يعبأ بكم ربي فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : ما يصنع بكم! قاله ابن عباس . والثاني : أي وزن يكون لكم عنده ; تقول : ما عبأت بفلان ، أي : ما كان له عندي وزن ولا قدر ، قاله الزجاج . والثالث : ما يعبأ بعذابكم ، قاله ابن قتيبة .

    وفي قوله : لولا دعاؤكم أربعة أقوال .

    أحدها : لولا إيمانكم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    [ ص: 113 ] والثاني : لولا عبادتكم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث : لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه ، قاله مجاهد ; والمراد نفع الخلق ، لأن الله تعالى غير محتاج .

    والرابع : لولا توحيدكم ، حكاه الزجاج . وعلى قول الأكثرين ليس في الآية إضمار ; وقال ابن قتيبة : فيها إضمار تقديره : ما يعبأ بعذابكم لولا ما تدعونه من الشريك والولد ، ويوضح ذلك [قوله] : فسوف يكون لزاما يعني : العذاب ، ومثله قول الشاعر :


    من شاء دلى النفس في هوة ضنك ولكن من له بالمضيق


    أي : بالخروج من المضيق . وهل هذا خطاب للمؤمنين ، أو للكفار؟ فيه قولان .

    فأما قوله تعالى: فقد كذبتم فهو خطاب لأهل مكة حين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسوف يكون يعني : تكذيبكم لزاما أي : عذابا لازما [لكم] ; وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنه قتلهم يوم بدر ، فقتلوا يومئذ ، واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم ، وهذا مذهب ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومجاهد في آخرين . والثاني : أنه الموت ، قاله ابن عباس . والثالث : أن اللزام : القتال ، قاله ابن زيد .
    [ ص: 114 ] سُورَةُ الشُّعَرَاءِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا ، إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ ، مِنْ قَوْلِهِ : وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشُّعَرَاءِ : 224] إِلَى آخِرِهَا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    طسم . تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ . فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

    قَوْلُهُ تَعَالَى: طسم قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ : " طسم " بِفَتْحِ الطَّاءِ وَإِدْغَامِ النُّونِ مِنْ هِجَاءِ " سِين " عِنْدَ الْمِيمِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَخَلَفٌ ، وَأَبَانُ ، وَالْمُفَضَّلُ : " طسم " وَ " طس " [النَّمْلِ] بِإِمَالَةِ الطَّاءِ فِيهِمَا .

    وَأَظْهَرَ النُّونَ مِنْ هِجَاءِ " سِين " عِنْدَ الْمِيمِ حَمْزَةُ هَاهُنَا وَفِي (الْقَصَصِ) .

    [ ص: 115 ] وَفِي مَعْنَى " طسم " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا : أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ كَلِمَاتٍ ، ثُمَّ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : [مَا] رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " طسم " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الطَّاءُ : طُورُ سَيْنَاءَ ، وَالسِّينُ : الْإِسْكَنْدَرِ يَّةُ ، وَالْمِيمُ : مَكَّةُ " . وَالثَّانِي : [أَنَّ] الطَّاءَ : طَيْبَةُ ، وَسِينَ : بَيْتُ الْمَقْدِسِ ، وَمِيمَ : مَكَّةُ ، [رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ] . وَالثَّالِثُ : الطَّاءُ : شَجَرَةُ طُوبَى ، وَالسِّينُ : سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى ، وَالْمِيمُ : مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ .

    وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ مَرْيَمَ . وَقَالَ الْقُرَظِيُّ : أَقْسَمَ اللَّهُ بِطُولِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ .

    وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَأَبُو رَوْقٍ . وَمَا بَعْدَ [ ص: 116 ] هَذَا قَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ [الْمَائِدَةِ : 15 ، الْكَهْفِ : 6] إِلَى قَوْلِهِ : أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى : لَعَلَّكَ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ .

    ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَا يَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَفَعَلَ ، فَقَالَ : إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ : " إِنْ يَشَأْ يُنَزِّلْ " بِالْيَاءِ فِيهِمَا ، عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ جَعَلَ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِلْأَعْنَاقِ ، ثُمَّ جَعَلَ " خَاضِعِينَ " لِلرِّجَالِ ، لِأَنَّ الْأَعْنَاقَ إِذَا خَضَعَتْ فَأَرْبَابُهَا خَاضِعُونَ . وَقِيلَ : لَمَّا وَصَفَ الْأَعْنَاقَ بِالْخُضُوعِ ، وَهُوَ مِنْ صِفَات بَنِي آدَمَ ، أَخْرَجَ الْفِعْلَ مَخْرَجَ الْآدَمِيِّينَ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يُوسُفَ : 4] ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : قَوْلُهُ : " فَظَلَّتْ " مَعْنَاهُ : فَتَظَلُّ ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَقَعُ فِيهِ لَفْظُ الْمَاضِي فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ ، كَقَوْلِكَ : إِنْ تَأْتِنِي أَكْرَمْتُكَ ، مَعْنَاهُ : أُكْرِمْكَ ; وَإِنَّمَا قَالَ : " خَاضِعِينَ " لِأَنَّ خُضُوعَ الْأَعْنَاقِ هُوَ خُضُوعُ أَصْحَابِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُضُوعَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِخُضُوعِ الْأَعْنَاقِ ، جَازَ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :


    رَأَتْ مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ


    فَلَمَّا كَانَتِ السُّنُونَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَرٍّ ، أَخْبَرَ عَنِ السِّنِينَ ، وَإِنْ كَانَ أَضَافَ إِلَيْهَا الْمُرُورَ . قَالَ : وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ يَعْنِي بِالْأَعْنَاقِ كُبَرَاءَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ . وَجَاءَ فِي [ ص: 117 ] اللُّغَةِ أَنَّ أَعْنَاقَهُمْ جَمَاعَاتُهُمْ ; يُقَالُ : جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ ، أَيْ : جَمَاعَةٌ . وَمَا بَعْدَ هَذَا قَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ [الْأَنْبِيَاءِ : 2] إِلَى قَوْلِهِ : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ يَعْنِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَبَاتٌ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : مِنْ كُلِّ جِنْسٍ حَسَنٍ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الزَّوْجُ : النَّوْعُ ، وَالْكَرِيمُ : الْمَحْمُودُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ الْإِنْبَاتِ لآيَةً تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ : مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ يُؤْمِنُ فِي عِلْمِ اللَّهِ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِهِ الرَّحِيمُ بِأَوْلِيَائِهِ .
    وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين . قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون . ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون . قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين . وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين . ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل

    قوله تعالى: وإذ نادى المعنى : واتل هذه القصة على قومك .

    قوله تعالى: أن يكذبون ياء " يكذبون " محذوفة ، ومثلها أن يقتلون [الشعراء : 14] سيهدين [الشعراء : 62] فهو يهدين [الشعراء : 78] [ ص: 118 ] ويسقين [الشعراء:79] فهو يشفين [الشعراء : 80] ثم يحيين [الشعراء : 81] كذبون [الشعراء : 117] وأطيعون [الشعراء : 108] فهذه ثمان آيات أثبتهن في الحالين يعقوب .

    قوله تعالى: ويضيق صدري أي بتكذيبهم إياي ولا ينطلق لساني للعقدة التي كانت بلسانه . وقرأ يعقوب : " ويضيق " " ولا ينطلق " بنصب القاف فيهما ، فأرسل إلى هارون المعنى : ليعينني ، فحذف ، لأن في الكلام دليلا عليه . ولهم علي ذنب وهو القتيل الذي وكزه فقضى عليه ; والمعنى : ولهم علي دعوى ذنب فأخاف أن يقتلون به قال كلا وهو ردع وزجر عن الإقامة على هذا الظن ; والمعنى : لن يقتلوك لأني لا أسلطهم عليك ، فاذهبا يعني : أنت وأخوك بآياتنا وهي : ما أعطاهما من المعجزة إنا يعني نفسه عز وجل معكم فأجراها مجرى الجماعة مستمعون نسمع ما تقولان وما يجيبونكما به .

    قوله تعالى: إنا رسول رب العالمين قال ابن قتيبة : الرسول يكون بمعنى الجميع ، كقوله : هؤلاء ضيفي [الحجر : 68] وقوله : ثم نخرجكم طفلا [الحج : 5] . وقال الزجاج : المعنى : إنا رسالة رب العالمين ، أي : ذوو رسالة رب العالمين ، قال الشاعر :


    لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول


    أي : برسالة .

    [ ص: 119 ] قوله تعالى: أن أرسل المعنى : بأن أرسل معنا بني إسرائيل أي : أطلقهم من الاستعباد ، فأتياه فبلغاه الرسالة ، فـ قال ألم نربك فينا وليدا أي : صبيا صغيرا ولبثت فينا من عمرك سنين وفيها ثلاثة أقوال .

    أحدها : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن عباس . والثاني : أربعون سنة ، قاله ابن السائب . والثالث : ثلاثون سنة ، قاله مقاتل . والمعنى : فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا ، وقتلت منا نفسا ، وهو قوله : وفعلت فعلتك وهي قتل النفس . قال الفراء . وإنما نصبت الفاء ، لأنها مرة واحدة ، ولو أريد بها مثل الجلسة والمشية جاز كسرها .

    وفي قوله : وأنت من الكافرين قولان .

    أحدهما : من الكافرين لنعمتي ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والضحاك ، وابن زيد .

    والثاني : من الكافرين بإلهك ، كنت معنا على ديننا الذي تعيب ، قاله الحسن ، والسدي . فعلى الأول : وأنت من الكافرين الآن . وعلى الثاني : وكنت .

    وفي قوله : وأنا من الضالين ثلاثة أقوال .

    أحدها : من الجاهلين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة . وقال بعض المفسرين : المعنى : إني كنت جاهلا لم يأتني من الله شيء .

    والثاني : من الخاطئين ; والمعنى : إني قتلت النفس خطأ ، قاله ابن زيد .

    والثالث : من الناسين ، ومثله : أن تضل إحداهما [البقرة : 282] ، قاله أبو عبيدة .

    قوله تعالى: ففررت منكم أي : ذهبت من بينكم لما خفتكم على [ ص: 120 ] نفسي إلى مدين ، وقرأ عاصم الجحدري ، والضحاك ، وابن يعمر : (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم ، فوهب لي ربي حكما وفيه قولان .

    أحدهما : النبوة ، قاله ابن السائب . والثاني : العلم والفهم ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: وتلك نعمة تمنها علي يعني التربية أن عبدت بني إسرائيل أي : اتخذتهم عبيدا ; يقال : عبدت فلانا وأعبدته واستعبدته : إذا اتخذته عبدا .

    وفي " أن " وجهان .

    أحدهما : أن تكون في موضع رفع على البدل من " نعمة " .

    والثاني : أن تكون في موضع نصب بنزع الخافض ، تقديره : لأن عبدت ، أو لتعبيدك .

    واختلف العلماء في تفسير الآية ، ففسرها قوم على الإنكار ، وقوم على الإقرار .

    فمن فسرها على الإنكار قال معنى الكلام : أوتلك نعمة؟! على طريق الاستفهام ، ومثله هذا ربي [الأنعام : 76] ، وقوله : فهم الخالدون [الأنبياء : 34] ، وأنشدوا :


    [لم أنس يوم الرحيل وقفتها وجفنها من دموعها شرق]


    وقولها والركاب سائرة تتركنا هكذا وتنطلق




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #417
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    الحلقة (417)
    صــ 121 إلى صــ 130






    [ ص: 121 ] وهذا قول جماعة منهم . ثم لهم في معنى الكلام ووجهه أربعة أقوال .

    أحدها : أن فرعون أخذ أموال بني إسرائيل واستعبدهم وأنفق على موسى منها ، فأبطل موسى النعمة لأنها أموال بني إسرائيل ، قاله الحسن .

    والثاني : أن المعنى : إنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكفلني أهلي ، وكانت أمي تستغني عن قذفي في اليم ، فكأنك تمن علي بما كان بلاؤك سببا له ، وهذا قول المبرد ، والزجاج ، والأزهري .

    والثالث : أن المعنى : تمن علي بإحسانك إلي خاصة ، وتنسى إساءتك بتعبيدك بني إسرائيل؟! قاله مقاتل .

    والرابع : أن المعنى : كيف تمن علي بالتربية وقد استعبدت قومي؟! ومن أهين قومه فقد ذل ، فقد حبط إحسانك إلي بتعبيدك قومي ، حكاه الثعلبي .

    فأما من فسرها على الإقرار ، فإنه قال : عدها موسى نعمة حيث رباه ولم يقتله ولا استعبده . فالمعنى : هي لعمري نعمة إذ ربيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إسرائيل ; فـ " أن " تدل على المحذوف ، ومثله في الكلام- أن تضرب بعض عبيدك وتترك الآخر ، فيقول المتروك : هذه نعمة علي أن ضربت فلانا وتركتني ، ثم تحذف " وتركتني " لأن المعنى معروف ، هذا قول الفراء .
    قال فرعون وما رب العالمين . قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون . قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون . قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون

    [ ص: 122 ] قوله تعالى: قال فرعون وما رب العالمين سأله عن ماهية من لا ماهية له ، فأجابه بما يدل عليه من مصنوعاته .

    وفي قوله : إن كنتم موقنين قولان .

    أحدهما : أنه خلق السماوات والأرض .

    والثاني : إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه ، فكذلك ، فأيقنوا أن رب العالمين رب السماوات والأرض . قال يعني : فرعون لمن حوله من أشراف قومه ألا تستمعون معجبا لهم .

    فإن قيل : فأين جوابهم؟

    فالجواب : أنه أراد ألا تستمعون قول موسى؟ فرد موسى ، لأنه المراد [ ص: 123 ] بالجواب ، ثم زاد في البيان بقوله : ربكم ورب آبائكم الأولين ، فأعرض فرعون عن جوابه ونسبه إلى الجنون ، فلم يحفل موسى بقول فرعون ، واشتغل بتأكيد الحجة ، فـ قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون أي : إن كنتم ذوي عقول ، لم يخف عليكم ما أقول .
    قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين . قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين . فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين . قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون . قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم . فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون . لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين . قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون . فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون . فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون

    قوله تعالى: أولو جئتك بشيء مبين أي : بأمر ظاهر تعرف به صدقي أتسجنني؟! وما بعد هذا مفسر في (الأعراف : 107) إلى قوله : فجمع [ ص: 124 ] السحرة لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة ، وكان عيدا لهم ، وقيل للناس يعني أهل مصر . وذهب ابن زيد إلى أن اجتماعهم كان بالإسكندرية .

    قوله تعالى: لعلنا نتبع السحرة قال الأكثرون : أرادوا سحرة فرعون ; فالمعنى : لعلنا نتبعهم على أمرهم . وقال بعضهم : أرادوا موسى وهارون ، وإنما قالوا ذلك استهزاء . قال ابن جرير : و " لعل " هاهنا بمعنى " كي " . وقوله : بعزة فرعون أي : بعظمته .
    قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين . قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين

    قوله تعالى: فلسوف تعلمون قال الزجاج : اللام دخلت للتوكيد .

    قوله تعالى: لا ضير أي : لا ضرر . قال ابن قتيبة : هو من ضاره يضوره ويضيره ; بمعنى : ضره . والمعنى : لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا ، لأنا ننقلب إلى ربنا في الآخرة مؤملين غفرانه .

    قوله تعالى: أن كنا أي : لأن كنا أول المؤمنين بآيات موسى في هذه الحال .
    وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون . فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون . وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون . فأخرجناهم [ ص: 125 ] من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم . كذلك وأورثناها بني إسرائيل

    قوله تعالى: إنكم متبعون أي : يتبعكم فرعون وقومه .

    قوله تعالى: إن هؤلاء المعنى : وقال فرعون إن هؤلاء ، يعني بني إسرائيل لشرذمة قال ابن قتيبة : أي : طائفة . قال الزجاج : والشرذمة في كلام العرب : القليل . قال المفسرون : وكانوا ستمائة ألف ، وإنما استقلهم بالإضافة إلى جنده وكان جنده لا يحصى .

    قوله تعالى: وإنهم لنا لغائظون تقول : غاظني الشيء ، إذا أغضبك .

    قال ابن جرير : وذكر أن غيظهم كان لقتل الملائكة من قتلت من أبكارهم .

    قال : ويحتمل أن غيظهم لذهابهم بالعواري التي استعاروها من حليهم ، ويحتمل أن يكون لفراقهم إياهم وخروجهم من أرضهم على كره منهم .

    قوله تعالى: وإنا لجميع حاذرون قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : " حذرون " بغير ألف . وقرأ الباقون : " حاذرون " بألف . وهل بينهما فرق؟ فيه قولان .

    أحدهما : أن الحاذر : المستعد ، والحذر : المتيقظ . وجاء في التفسير أن معنى حاذرين : مؤدون ، أي : ذوو أداة ، وهي السلاح ، لأنها أداة الحرب .

    والثاني : أنهما لغتان معناهما واحد ; قال أبو عبيدة : يقال : رجل حذر وحذر وحاذر . والمقام الكريم : المنزل الحسن .

    وفي قوله : كذلك قولان .

    أحدهما : كذلك أفعل بمن عصاني ، قاله ابن السائب . والثاني : الأمر كذلك أي : كما وصفنا ، قاله الزجاج .

    [ ص: 126 ] قوله تعالى: وأورثناها بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى ردهم إلى مصر بعد غرق فرعون ، وأعطاهم ما كان لفرعون وقومه من المساكن والأموال .

    وقال ابن جرير الطبري : إنما جعل ديار آل فرعون ملكا لبني إسرائيل ولم يرددهم إليها لكنه جعل مساكنهم الشام .
    فأتبعوهم مشرقين . فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين . فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين . وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم

    قوله تعالى: فأتبعوهم قال ابن قتيبة : لحقوهم مشرقين أي : حين شرقت الشمس ، أي طلعت ، يقال : أشرقنا : دخلنا في الشروق ، كما يقال : أمسينا وأصبحنا . وقرأ الحسن ، وأيوب السختياني : " فاتبعوهم " بالتشديد .

    قوله تعالى: فلما تراءى الجمعان وقرأ أبو رجاء ، والنخعي ، والأعمش : " تراأى " ؟؟ بكسر الراء وفتح الهمزة ، أي : تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه .

    قوله تعالى: كلا أي : لن يدركونا إن معي ربي سيهدين أي : سيدلني على طريق النجاة .

    قوله تعالى: فانفلق فيه إضمار " فضرب فانفلق " ، أي : انشق الماء اثني عشر طريقا فكان كل فرق أي : كل جزء انفرق منه . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري : " كل فلق " باللام ، كالطود وهو الجبل .

    [ ص: 127 ] قوله تعالى: وأزلفنا ثم الآخرين أي : قربنا الآخرين من الغرق ، وهم أصحاب فرعون . وقال أبو عبيدة : " أزلفنا " أي : جمعنا . قال الزجاج : وكلا القولين حسن ، لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض ، وأصل الزلفى في كلام العرب : القربى . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأبو رجاء ، والضحاك ، وابن يعمر : " أزلقنا " بقاف ، وكذلك قرأوا : وأزلفت الجنة [الشعراء : 90] بقاف [أيضا] .

    قوله تعالى: إن في ذلك لآية يعني : في إهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم وما كان أكثرهم مؤمنين أي : لم يكن أكثر أهل مصر مؤمنين ، إنما آمنت آسية ، وخربيل مؤمن آل فرعون ، وفنة الماشطة ، ومريم- امرأة دلت موسى على عظام يوسف- ، هذا قول مقاتل . وما أخللنا به من تفسير كلمات في قصة موسى ، فقد سبق بيانها ، وكذلك ما يفقد ذكره في مكان ، فهو إما أن يكون قد سبق ، وإما أن يكون ظاهرا ، فتنبه لهذا .
    واتل عليهم نبأ إبراهيم . إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين . قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون . قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون . أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين . الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا [ ص: 128 ] مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين

    قوله تعالى: هل يسمعونكم والمعنى : هل يسمعون دعاءكم . وقرأ سعيد بن جبير ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : " هل يسمعونكم " بضم الياء وكسر الميم ، إذ تدعون قال الزجاج : إن شئت بينت الذال ، وإن شئت أدغمتها في التاء وهو أجود في العربية ، لقرب الذال من التاء .

    قوله تعالى: أو ينفعونكم أي : إن عبدتموهم أو يضرون إن لم تعبدوهم؟ فأخبروا عن تقليد آبائهم .

    قوله تعالى: فإنهم عدو لي فيه وجهان .

    أحدهما : أن لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع ; فالمعنى : فإنهم أعداء لي .

    والثاني : فإن كل معبود لكم عدو لي .

    فإن قيل : ما وجه وصف الجماد بالعداوة؟

    فالجواب : من وجهين . أحدهما : أن معناه : فإنهم عدو لي يوم القيامة إن عبدتهم . والثاني : أنه من المقلوب ; والمعنى : فإني عدو لهم ، لأن من عاديته عاداك ، قاله ابن قتيبة .

    وفي قوله إلا رب العالمين قولان .

    أحدهما : أنه استثناء من الجنس ، لأنه علم أنهم كانوا يعبدون الله مع آلهتهم ، قاله ابن زيد .

    والثاني : أنه من غير الجنس ; والمعنى : لكن رب العالمين [ليس كذلك] ، قاله أكثر النحويين .

    [ ص: 129 ] قوله تعالى: الذي خلقني فهو يهدين أي : إلى الرشد ، لا ما تعبدون ، والذي هو يطعمني ويسقين أي : هو رازقي الطعام والشراب .

    فإن قيل : لم قال : " مرضت " ، ولم يقل " أمرضني " ؟

    فالجواب : أنه أراد الثناء على ربه فأضاف إليه الخير المحض ، لأنه لو قال : " أمرضني " لعد قومه ذلك عيبا ، فاستعمل حسن الأدب ; ونظيره قصة الخضر حين قال في العيب : فأردت [الكهف:79] ، وفي الخير المحض : فأراد ربك [الكهف : 82] .

    فإن قيل : فهذا يرده قوله : والذي يميتني .

    فالجواب : أن القوم كانوا لا ينكرون الموت ، وإنما يجعلون له سببا سوى تقدير الله عز وجل ، فأضافه إبراهيم إلى الله عز وجل ، وقوله : ثم يحيين يعني للبعث ، [وهو] أمر لا يقرون به ، وإنما قاله استدلالا عليهم ; والمعنى : أن ما وافقتموني عليه موجب لصحة قولي فيما خالفتموني فيه .

    قوله تعالى: والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يعني : ما يجري على مثلي من الزلل ; والمفسرون يقولون : إنما عنى الكلمات الثلاث التي ذكرناها في (الأنبياء : 63) ، يوم الدين يعني : يوم الحشر والحساب ; وهذا احتجاج على قومه أنه لا تصلح الإلهية إلا لمن فعل هذه الأفعال .
    رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين . واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم . واغفر [ ص: 130 ] لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون . يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم

    قوله تعالى: هب لي حكما فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : النبوة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : اللب ، قاله عكرمة . والثالث : الفهم والعلم ، قاله مقاتل . وقد بينا قوله : وألحقني بالصالحين في سورة (يوسف : 101) ، وبينا معنى لسان صدق في (مريم : 50) والمراد بالآخرين : الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة .

    قوله تعالى: واغفر لأبي قال الحسن : بلغني أن أمه كانت مسلمة على دينه ، فلذلك لم يذكرها .

    فإن قيل : فقد قال : اغفر لي ولوالدي [إبراهيم : 41] .

    قيل : أكثر الذكر إنما جرى لأبيه ، فيجوز أن يسأل الغفران لأمه وهي مؤمنة ، فأما أبوه فلا شك في كفره . وقد بينا سبب استغفاره لأبيه في (براءة : 113) ، وذكرنا معنى الخزي في (آل عمران : 192) .

    قوله تعالى : يوم يبعثون يعني : الخلائق .

    قوله تعالى: إلا من أتى الله بقلب سليم فيه ستة أقوال .

    أحدها : سليم من الشرك ، قاله الحسن ، وابن زيد .

    والثاني : سليم من الشك ، قاله مجاهد .

    والثالث : سليم ، أي : صحيح ، وهو قلب المؤمن ، لأن قلب الكافر والمنافق مريض ، قاله سعيد بن المسيب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #418
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    الحلقة (418)
    صــ 131 إلى صــ 140





    [ ص: 131 ] والرابع : أن السليم في اللغة : اللديغ ، فالمعنى : كاللديغ من خوف الله تعالى ، قاله الجنيد .

    والخامس : سليم من آفات المال والبنين ، قاله الحسين بن الفضل .

    والسادس : سليم من البدعة ، مطمئن على السنة ، حكاه الثعلبي .

    وأزلفت الجنة للمتقين . وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون . من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون . وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون . تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين . وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين . ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم

    قوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين أي : قربت إليهم حتى نظروا إليها ، وبرزت الجحيم أي : أظهرت للغاوين وهم الضالون ، وقيل لهم على وجه التوبيخ أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أي : يمنعونكم من العذاب ، أو يمتنعون منه .

    قوله تعالى: فكبكبوا قال السدي : هم المشركون . قال ابن قتيبة : ألقوا على رؤوسهم ، وأصل الحرف " كببوا " من قولك : كببت الإناء ، فأبدل من الباء الوسطى كافا ، استثقالا لاجتماع ثلاث باءات ، كما قالوا : " كمكموا " من " الكمة " ، والأصل : " كمموا " . وقال الزجاج : [ ص: 132 ] معناه : طرح بعضهم على بعض ; وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب ، كأنه إذا ألقي ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر فيها .

    وفي الغاوين ثلاثة أقوال .

    أحدها : المشركون ، قاله ابن عباس .

    والثاني : الشياطين ، قاله قتادة ، ومقاتل .

    والثالث : الآلهة ، قاله السدي . وجنود إبليس أتباعه من الجن والإنس . قالوا وهم فيها يختصمون يعني : هم وآلهتهم ، تالله إن كنا قال الفراء : لقد كنا . وقال الزجاج : ما كنا إلا في ضلال .

    قوله تعالى : إذ نسويكم أي : نعدلكم بالله في العبادة ، وما أضلنا إلا المجرمون فيهم قولان .

    أحدهما : الشياطين . والثاني : أولوهم الذين اقتدوا بهم ، قال عكرمة : إبليس وابن آدم القاتل .

    قوله تعالى : فما لنا من شافعين هذا قولهم إذا شفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون . وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل يقول في الجنة : ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم ، فيقول الله عز وجل : أخرجوا له صديقه إلى الجنة ، فيقول من بقي [في النار] : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " ؟ . والحميم : القريب الذي توده ويودك والمعنى : ما لنا [ ص: 133 ] من ذي قرابة يهمه أمرنا ، فلو أن لنا كرة أي : رجعة إلى الدنيا فنكون من المؤمنين لتحل لنا الشفاعة كما حلت للموحدين .
    كذبت قوم نوح المرسلين . إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين . فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . فاتقوا الله وأطيعون

    قوله تعالى: كذبت قوم نوح قال الزجاج : القوم مذكرون ; والمعنى : كذبت جماعة قوم نوح .

    قوله تعالى: إذ قال لهم أخوهم نوح كانت الأخوة من جهة النسب بينهم ، لا من جهة الدين ، ألا تتقون عذاب الله بتوحيده وطاعته ، إني لكم رسول أمين على الرسالة فيما بيني وبين ربكم . وما أسألكم عليه من أجر أي : على الدعاء إلى التوحيد .
    قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون . قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون . وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين . قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين [ ص: 134 ] قوله تعالى: واتبعك الأرذلون وقرأ يعقوب بفتح الهمزة وتسكين التاء وضم العين : " وأتباعك الأرذلون " ، وفيهم ثلاثة أقوال .

    أحدها : الحاكة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : الحاكة والأساكفة ; قاله عكرمة .

    والثالث : المساكين الذين ليس لهم مال ولا عز ، قاله عطاء . وهذا جهل منهم ، لأن الصناعات لا تضر في باب الديانات .

    قوله تعالى: وما علمي بما كانوا يعملون أي : لم أعلم أعمالهم وصنائعهم ، ولم أكلف ذلك ، إنما كلفت أن أدعوهم ، إن حسابهم فيما يعملون إلا على ربي لو تشعرون بذلك ما عبتموهم في صنائعهم ، وما أنا بطارد المؤمنين أي : ما أنا بالذي لا أقبل إيمانهم لزعمكم أنهم الأرذلون .

    وفي قوله : لتكونن من المرجومين ثلاثة أقوال .

    أحدها : من المشتومين ، قاله الضحاك . والثاني : من المضروبين بالحجارة ، قاله قتادة . والثالث : من المقتولين بالرجم ، قاله مقاتل .
    قال رب إن قومي كذبون . فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون . ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو العزيز الرحيم

    قوله تعالى: فافتح بيني وبينهم أي : اقض بيني وبينهم قضاء ، يعني : بالعذاب ونجني ومن معي من ذلك العذاب . والفلك قد تقدم بيانه [البقرة : 164] . والمشحون : المملوء ، يقال : شحنت الإناء : إذا ملأته ; وكانت [ ص: 135 ] سفينة نوح قد ملئت من الناس والطير والحيوان كله ، ثم أغرقنا بعد بعد نجاة نوح ومن معه الباقين .
    كذبت عاد المرسلين . إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين . فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين . وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم

    قوله تعالى: أتبنون بكل ريع وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : " بكل ريع " بفتح الراء . قال الفراء : هما لغتان . ثم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنه المكان المرتفع ; روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : بكل شرف . قال الزجاج : هو في اللغة : الموضع المرتفع من الأرض .

    والثاني : أنه الطريق ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .

    والثالث : الفج بين الجبلين ، قاله مجاهد . والآية : العلامة .

    وفيما أراد بهذا البناء ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنه أراد : تبنون ما لا تسكنون ، رواه عطاء عن ابن عباس ; والمعنى أنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثا .

    والثاني : بروج الحمام ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد .

    [ ص: 136 ] والثالث : أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم ، وهو معنى قول الضحاك .

    قوله تعالى: وتتخذون مصانع فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : قصور مشيدة ، قاله مجاهد . والثاني : مصانع الماء تحت الأرض ، قاله قتادة . والثالث : بروج الحمام ، قاله السدي .

    وفي قوله : لعلكم تخلدون قولان :

    أحدهما : كأنكم تخلدون ، قاله ابن عباس ، وأبو مالك .

    والثاني : كيما تخلدوا ، قاله الفراء ، وابن قتيبة . وقرأ عكرمة ، والنخعي ، وقتادة ، وابن يعمر : " تخلدون " برفع التاء [وتسكين الخاء وفتح اللام مخففة . وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو حصين] : " تخلدون " بفتح الخاء وتشديد اللام .

    قوله تعالى: وإذا بطشتم بطشتم جبارين المعنى : إذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب الجبارين ، وإذا عاقبتم قتلتم ; وإنما أنكر عليهم ذلك ، لأنه صدر عن ظلم ، إذ لو ضربوا بالسيف أو بالسوط في حق ما ليموا .
    وفي قوله : عذاب يوم عظيم قولان .
    أحدهما : ما عذبوا به في الدنيا . والثاني : عذاب جهنم .
    [ ص: 137 ] قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين . فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم . كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون . إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين

    قوله تعالى: إن هذا إلا خلق الأولين قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي : " خلق " بفتح الخاء وتسكين اللام ; قال ابن قتيبة : أرادوا اختلافهم وكذبهم ، يقال : خلقت الحديث واختلقته ، أي : افتعلته ، قال الفراء : والعرب تقول للخرافات : أحاديث الخلق . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، [وخلف ، ونافع] : " خلق الأولين] بضم الخاء واللام . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، وعاصم الجحدري : " خلق " برفع الخاء وتسكين اللام ; والمعنى : عادتهم وشأنهم قال قتادة : قالوا [له] : هكذا كان الناس يعيشون ما عاشوا ، ثم يموتون ، ولا بعث لهم ولا حساب .

    قوله تعالى: وما نحن بمعذبين أي : على ما نفعله في الدنيا .
    أتتركون في ما ها هنا آمنين في جنات وعيون . وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين . الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون

    [ ص: 138 ] قوله تعالى: أتتركون في ما ها هنا أي : فيما أعطاكم الله في الدنيا آمنين من الموت والعذاب .

    قوله تعالى: طلعها هضيم الطلع : الثمر . وفي الهضيم سبعة أقوال .

    أحدها : أنه الذي قد أينع وبلغ ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثاني : أنه الذي يتهشم تهشما ، قاله مجاهد . والثالث : أنه الذي ليس له نوى ، قاله الحسن . والرابع : أنه المذنب من الرطب ، قاله سعيد بن جبير . والخامس : اللين ، قاله قتادة ، والفراء . والسادس : أنه الحمل الكثير الذي يركب بعضه بعضا ، قاله الضحاك . والسابع : أنه الطلع قبل أن ينشق عنه [القشر] وينفتح ، يريد أنه منضم مكتنز ، ومنه قيل : رجل أهضم الكشحين ، إذا كان منضمهما ، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : " فرهين " . وقرأ الباقون : " فارهين " بألف . قال ابن قتيبة : " فرهين " : أشرين بطرين ، ويقال : الهاء فيه مبدلة من حاء ، أي : فرحين ، و " الفرح " قد يكون السرور ، وقد يكون الأشر ، ومنه قوله : إن الله لا يحب الفرحين [القصص : 76] أي : الأشرين ، ومن قرأ : " فارهين " فهي لغة أخرى ، يقال : فره وفاره ، كما يقال : فرح وفارح ، ويقال : فارهين أي : حاذقين ; قال عكرمة : حاذقين بنحتها .

    [ ص: 139 ] قوله تعالى: ولا تطيعوا أمر المسرفين قال ابن عباس : يعني : المشركين . وقال مقاتل : هم التسعة الذين عقروا الناقة .
    قالوا إنما أنت من المسحرين . ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم . ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين . فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم . كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون . إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين

    قوله تعالى: إنما أنت من المسحرين قال الزجاج : أي : ممن له سحر ، والسحر : الرئة ، والمعنى : أنت بشر مثلنا . وجائز أن يكون من المفعلين من السحر ; والمعنى : ممن قد سحر مرة بعد مرة .

    قوله تعالى: لها شرب أي : حظ من الماء . قال ابن عباس : لها شرب معروف لا تحضروه معها ، ولكم شرب لا تحضر معكم ، فكانت إذا كان يومهم حضروا الماء فاقتسموه ، وإذا كان يومها شربت الماء كله . وقال قتادة : كانت إذا كان يوم شربها ، شربت ماءهم أول النهار ، وسقتهم اللبن آخر النهار . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي عبلة : " لها شرب " بضم الشين .

    [ ص: 140 ] قوله تعالى: فأصبحوا نادمين قال ابن عباس : ندموا حين رأوا العذاب على عقرها ، وعذابهم كان بالصيحة .
    أتأتون الذكران من العالمين . وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين . قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين . ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم

    قوله تعالى: أتأتون الذكران وهو جمع ذكر من العالمين أي : من بني آدم ، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم [قال الزجاج : وقرأ ابن مسعود : " ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم " ] يعني به الفروج . وقال مجاهد : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال .

    قوله تعالى: بل أنتم قوم عادون أي : ظالمون معتدون . قالوا لئن لم تنته يا لوط أي : لئن لم تسكت عن نهينا لتكونن من المخرجين من بلدنا . قال إني لعملكم يعني : إتيان الرجال من القالين قال ابن قتيبة : أي : من المبغضين ، يقال : قليت الرجل : إذا أبغضته .

    قوله تعالى: رب نجني وأهلي مما يعملون أي : من عقوبة عملهم ، فنجيناه وأهله وقد ذكرناهم في (هود : 80) ، (إلا عجوزا) يعني : امرأته في الغابرين أي : الباقين في العذاب . ثم دمرنا الآخرين أهلكناهم بالخسف والحصب ، وهو قوله : وأمطرنا عليهم مطرا يعني الحجارة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #419
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    الحلقة (419)
    صــ 141 إلى صــ 150





    [ ص: 141 ] كذب أصحاب الأيكة المرسلين . إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين . فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين

    قوله تعالى: كذب أصحاب الأيكة قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : " أصحاب ليكة " هاهنا ، وفي (ص : 13) بغير همز والتاء مفتوحة ; وقرأ الباقون : " الأيكة " بالهمز فيهما والألف . وقد سبق هذا الحرف [الحجر : 78] . إذ قال لهم شعيب إن قيل : لم لم يقل : أخوهم ، كما قال في (الأعراف : 85)؟ فالجواب : أن شعيبا لم يكن من نسل أصحاب الأيكة ، فلذلك لم يقل : أخوهم ، وإنما أرسل إليهم بعد أن أرسل إلى مدين ، وهو من نسل مدين ، فلذلك قال هناك : أخوهم ، هذا قول مقاتل بن سليمان . وقد ذكرنا في سورة (هود : 94) عن محمد بن كعب القرظي ، أن أهل مدين عذبوا بعذاب الظلة ، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل ، فقد تساووا في العذاب ، وإن كان أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة ، وهو مذهب ابن جرير الطبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفا ، والله أعلم .
    [ ص: 142 ] أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين . وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين

    قوله تعالى: ولا تكونوا من المخسرين أي : من الناقصين للكيل ، يقال : أخسرت الكيل والوزن : إذا نقصته . وقد ذكرنا القسطاس في (بني إسرائيل : 35) .

    قوله تعالى: واتقوا الذي خلقكم والجبلة أي : وخلق الجبلة .

    وقيل : المعنى : واذكروا ما نزل بالجبلة الأولين . وقرأ الحسن ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : " والجبلة " برفع الجيم والباء جميعا مشددة اللام . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك ، وعاصم الجحدري : بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام . قال ابن قتيبة : الجبلة : الخلق ، يقال : جبل فلان على كذا ، أي : خلق ، قال الشاعر :
    والموت أعظم حادث مما يمر على الجبلة

    قالوا إنما أنت من المسحرين . وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين . قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه [ ص: 143 ] فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم

    قوله تعالى: فأسقط علينا كسفا قال ابن قتيبة : أي: قطعة من السماء ، و " كسف " جمع " كسفة " ، [كما] يقال : قطع وقطعة .

    قوله تعالى: ربي أعلم بما تعملون أي : من نقصان الكيل والميزان ; والمعنى : إنه يجازيكم إن شاء ، وليس عذابكم بيدي ، فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة قال المفسرون : بعث الله عليهم حرا شديدا ، فأخذ بأنفاسهم ، فخرجوا من البيوت هربا إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابة أظلتهم من الشمس ، فوجدوا لها بردا ، ونادى بعضهم بعضا ، حتى إذا اجتمعوا تحتها ، أرسل الله عليهم نارا ، فكان ذلك من أعظم العذاب . والظلة : السحابة التي أظلتهم .
    وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين . أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين . فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين

    قوله تعالى: وإنه يعني القرآن لتنزيل رب العالمين . نزل به [ ص: 144 ] الروح الأمين قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : " نزل به " خفيفا " الروح الأمين " بالرفع . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " نزل " مشددة الزاي " الروح الأمين " بالنصب . والمراد بالروح الأمين جبريل ، وهو أمين على وحي الله تعالى إلى أنبيائه ، على قلبك قال الزجاج : معناه : نزل عليك فوعاه قلبك ، فثبت ، فلا تنساه أبدا .

    قوله تعالى: لتكون من المنذرين أي : ممن أنذر بآيات الله المكذبين ، بلسان عربي مبين قال ابن عباس : بلسان قريش ليفهموا ما فيه .

    قوله تعالى: وإنه لفي زبر الأولين وقرأ الأعمش : " زبر " بتسكين الباء . وفي هاء الكناية قولان .

    أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن ; والمعنى : وإن ذكر القرآن وخبره ، هذا قول الأكثرين .

    والثاني : أنها تعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل . والزبر : الكتب .

    قوله تعالى: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : " أو لم يكن لهم " بالياء " آية " بالنصب . وقرأ ابن عامر ، وابن أبي عبلة : " تكن " بالتاء " آية " بالرفع . وقرأ أبو عمران الجوني ، وقتادة : " تكن " بالتاء " آية " بالنصب قال الزجاج: إذا قلت " يكن " بالياء ، فالاختيار نصب " آية " ويكون " أن " اسم كان ، ويكون " آية " خبر كان ، المعنى : أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن النبي صلى الله عليه وسلم حق ، وأن نبوته حق؟! " آية " أي : علامة موضحة ، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل [ ص: 145 ] وجدوا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . ومن قرأ " أو لم تكن " بالتاء " آية " جعل " آية " هي الاسم ، و " أن يعلمه " خبر " تكن " .

    ويجوز أيضا " أو لم تكن " بالتاء " آية " بالنصب ، كقوله : ثم لم تكن فتنتهم [الأنعام : 23] وقرأ الشعبي ، والضحاك ، وعاصم الجحدري : " أن تعلمه " بالتاء .

    قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن هذا لزمانه ، وإنا لنجد في التوراة صفته ، فكان ذلك آية لهم على صدقه .

    قوله تعالى: على بعض الأعجمين قال الزجاج : هو جمع أعجم ، والأنثى عجماء ، والأعجم : الذي لا يفصح ، وكذلك الأعجمي ; فأما العجمي : فالذي من جنس العجم ، أفصح أو لم يفصح .

    قوله تعالى: ما كانوا به مؤمنين أي : لو قرأه عليهم أعجمي لقالوا : نفقه هذا ، فلم يؤمنوا .
    كذلك سلكناه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون [ ص: 146 ] فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون . أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون . ذكرى وما كنا ظالمين

    قوله تعالى: كذلك سلكناه قد شرحناه في (الحجر : 12) . والمجرمون هاهنا : المشركون .

    قوله تعالى: لا يؤمنون به قال الفراء : المعنى : كي لا يؤمنوا . فأما العذاب الأليم ، فهو عند الموت . فيقولوا عند نزول العذاب هل نحن منظرون أي : مؤخرون لنؤمن ونصدق . قال مقاتل : فلما أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب ، قالوا : فمتى هو؟ تكذيبا به ، فقال الله تعالى : أفبعذابنا يستعجلون .

    قوله تعالى: أفرأيت إن متعناهم سنين قال عكرمة : عمر الدنيا .

    قوله تعالى: ثم جاءهم ما كانوا يوعدون أي : من العذاب . وما أهلكنا من قرية بالعذاب في الدنيا إلا لها منذرون يعني : رسلا تنذرهم العذاب . ذكرى أي : موعظة وتذكيرا .
    وما تنزلت به الشياطين . وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون

    قوله تعالى: وما تنزلت به الشياطين سبب نزولها أن قريشا قالت : إنما [ ص: 147 ] تجيء بالقرآن الشياطين فتلقيه على [لسان] محمد ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
    قوله تعالى: وما ينبغي لهم أي : أن ينزلوا بالقرآن وما يستطيعون أن يأتوا به من السماء ، لأنهم قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب . إنهم عن السمع أي : عن الاستماع للوحي من السماء لمعزولون فكيف ينزلون به؟! وقال عطاء : عن سماع القرآن لمحجوبون ، لأنهم يرجمون بالنجوم .
    فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين . وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم . الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين . إنه هو السميع العليم

    قوله تعالى: فلا تدع مع الله إلها آخر قال ابن عباس : يحذر به غيره ، يقول : أنت أكرم الخلق علي ، ولو اتخذت من دوني إلها لعذبتك .

    قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله وأنذر عشيرتك الأقربين فقال : " يا معشر قريش : اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت ما أغني عنك من الله شيئا " .

    [ ص: 148 ] وفي بعض الألفاظ : " سلوني من مالي ما شئتم " . وفي لفظ : " غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها " . ومعنى قوله " عشيرتك الأقربين : رهطك الأدنين . فإن عصوك يعني : العشيرة فقل إني بريء مما تعملون من الكفر . وتوكل على العزيز الرحيم أي : ثق به وفوض أمرك إليه ، فهو عزيز في نقمته ، رحيم لم يعجل بالعقوبة . وقرأ نافع ، وابن عامر : " فتوكل " بالفاء ، وكذلك [هو] في مصاحف أهل المدينة والشام الذي يراك حين تقوم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : حين تقوم إلى الصلاة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل ، والثاني : حين تقوم من مقامك ، قاله أبو الجوزاء . والثالث : حين تخلو ، قاله الحسن .

    قوله تعالى: وتقلبك أي : ونرى تقلبك في الساجدين وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : وتقلبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثاني : وتقلبك في الركوع والسجود والقيام مع المصلين في الجماعة ; والمعنى : يراك وحدك ويراك في الجماعة ، وهذا قول الأكثرين منهم قتادة .

    [ ص: 149 ] والثالث : وتصرفك في ذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين ، قاله الحسن .
    هل أنبئكم على من تنزل الشياطين . تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون

    قوله تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين هذا رد عليهم حين قالوا : إنما يأتيه بالقرآن الشياطين . فأما الأفاك فهو الكذاب ، والأثيم : الفاجر ; قال قتادة : وهم الكهنة .

    قوله تعالى: يلقون السمع أي : يلقون ما سمعوه من السماء إلى الكهنة .

    وفي قوله : وأكثرهم كاذبون قولان .

    أحدهما : أنهم الشياطين . والثاني : الكهنة .
    والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون . إلا الذين آمنوا وعملوا [ ص: 150 ] الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

    قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون وقرأ نافع : " يتبعهم " بسكون التاء ; والوجهان حسنان ، يقال : تبعت واتبعت ، مثل حقرت واحتقرت .

    وروى العوفي عن ابن عباس ، قال : كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تهاجيا ، فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه ، فقال الله : والشعراء يتبعهم الغاوون . وفي رواية أخرى عن ابن عباس ، قال : هم شعراء المشركين . قال مقاتل : منهم عبد الله بن الزبعرى ، وأبو سفيان بن حرب ، وهبيرة ابن أبي وهب المخزومي في آخرين ، قالوا : نحن نقول مثل قول محمد ، وقالوا الشعر ، فاجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم ويروون عنهم .

    وفي الغاوين ثلاثة أقوال .

    أحدها : الشياطين ، قاله مجاهد ، وقتادة . والثاني : السفهاء ، قاله الضحاك . والثالث : المشركون ، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون هذا مثل بمن يهيم في الأودية ; والمعنى أنهم يأخذون في كل فن من لغو وكذب وغير ذلك ; فيمدحون بباطل ويذمون بباطل ، ويقولون : فعلنا ، ولم يفعلوا .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #420
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السادس

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    الحلقة (420)
    صــ 151 إلى صــ 160






    [ ص: 151 ] قوله تعالى: إلا الذين آمنوا قال ابن عباس : لما نزل ذم الشعراء ، جاء كعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت ، فقالوا : يا رسول الله ، أنزل الله هذا وهو يعلم أنا شعراء ، فنزلت هذه الآية . قال المفسرون : وهذا الاستثناء لشعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذموا من هجاء ، وذكروا الله كثيرا أي : لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ولم يجعلوا الشعر همهم . وقال ابن زيد : وذكروا الله في شعرهم . وقيل : المراد بالذكر : الشعر في طاعة الله عز وجل .

    قوله تعالى: وانتصروا أي : من المشركين من بعد ما ظلموا لأن المشركين بدؤوا بالهجاء . ثم أوعد شعراء المشركين ، فقال : وسيعلم الذين ظلموا أي : أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي منقلب [ ص: 152 ] ينقلبون قال الزجاج : " أي " منصوبة بقوله : ينقلبون لا بقوله : " سيعلم " لأن " أيا " وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها . ومعنى الكلام : إنهم ينقلبون إلى نار يخلدون فيها .

    وقرأ ابن مسعود ، ومجاهد عن ابن عباس ، وأبو المتوكل ، وأبو رجاء : " أي متقلب يتقلبون " بتاءين مفتوحتين وبقافين على كل واحدة منهما نقطتان وتشديد اللام فيهما . وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وأبو مجلز ، وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : " أي منفلت ينفلتون " بالفاء فيهما وبنونين ساكنين وبتاءين . وكان شريح يقول : سيعلم الظالمون حظ من نقصوا ، إن الظالم ينتظر العقاب ، وإن المظلوم ينتظر النصر .
    [ ص: 153 ] سُورَةُ النَّمْلِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ . هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ . وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ . فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : طس فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ ، قَالَ : هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ . [ ص: 154 ] وَالثَّانِي : اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    وَالثَّالِثُ : الطَّاءُ مِنَ اللَّطِيفِ ، وَالسِّينِ مِنَ السَّمِيعِ ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكِتَابٍ مُبِينٍ وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ ، وَأَبُو عِمْرَانَ ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : " وَكِتَابٌ مُبِينٌ " بِالرَّفْعِ فِيهِمَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُشْرَى أَيْ : بُشْرَى بِمَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ لِلْمُصَدِّقِين َ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ أَيْ : حَبَّبْنَا إِلَيْهِمْ قَبِيحَ فِعْلِهِمْ . وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ التَّزْيِينِ وَالْعَمَهِ فِي (الْبَقَرَةِ : 15 ، 212) . وَسُوءُ الْعَذَابِ : شَدِيدُهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمُ الأَخْسَرُونَ لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَصَارُوا إِلَى النَّارِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَيْ : يُلْقَى عَلَيْكَ فَتَتَلَقَّاهُ أَنْتَ ، أَيْ : تَأْخُذُهُ . إِذْ قَالَ مُوسَى الْمَعْنَى : اذْكُرْ إِذْ قَالَ مُوسَى .

    قَالَ تَعَالَى : بِشِهَابٍ قَبَسٍ قَرَأَ عَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَيَعْقُوبُ إِلَّا زَيْدًا : " بِشِهَابٍ " بِالتَّنْوِينِ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الْإِضَافَةِ غَيْر َمُنَوَّنٍ . قَالَ الزَّجَّاجُ : مَنْ نَوَّنَ الشِّهَابَ ، وَجَعَلَ الْقَبَسَ مِنْ صِفَةِ الشِّهَابِ ، وَكُلُّ أَبْيَضٍ ذِي نُورٍ ، فَهُوَ شِهَابٌ . فَأَمَّا مَنْ أَضَافَ ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ : هَذَا مِمَّا يُضَافُ إِلَى نَفْسِهِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَسْمَاءُ ، كَقَوْلِهِ : وَلَدَارُ الآخِرَةِ [يُوسُفَ : 109] . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الشِّهَابُ : النَّارُ ، وَالْقَبَسُ : النَّارُ تَقْبِسُ ، يُقَالُ : قَبَسَتِ النَّارُ قَبَسًا ، وَاسْمُ مَا قَبَسْتَ : قَبَسٌ .

    [ ص: 155 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: تَصْطَلُونَ أَيْ : تَسْتَدْفِئُونَ ، وَكَانَ الزَّمَان شِتَاءً .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهَا أَيْ : جَاءَ مُوسَى النَّارَ ، وَإِنَّمَا كَانَ نُورًا فَاعْتَقَدَهُ نَارًا ، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَعْنَى : قَدَّسَ مَنْ فِي النَّارِ ، وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ; وَالْمَعْنَى : قَدَّسَ مَنْ نَادَاهُ مِنَ النَّارِ ، لَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحِلُّ فِي شَيْءٍ .

    وَالثَّانِي : أَنَّ " مِنْ " زَائِدَةٌ ; وَالْمَعْنَى : بُورِكَتِ النَّارُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَعْنَى : بُورِكَ عَلَى مَنْ فِي النَّارِ ، أَوْ فِيمَنْ فِي النَّارِ ; قَالَ الْفَرَّاءُ : وَالْعَرَبُ تَقُولُ : بَارَكَهُ اللَّهُ ، وَبَارَكَ عَلَيْهِ ، وَبَارَكَ فِيهِ ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَالتَّقْدِيرُ : بُورِكَ مَنْ فِي طَلَبِ النَّارِ ، وَهُوَ مُوسَى ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ . وَهَذِهِ تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى بِالْبَرَكَةِ ، كَمَا حَيَّا إِبْرَاهِيمَ بِالْبَرَكَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ ، فَقَالُوا : رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هُودٍ : 73] .

    فَخَرَجَ فِي قَوْلِهِ : بُورِكَ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا : قَدَّسَ . وَالثَّانِي : مِنَ الْبَرَكَةِ .

    وَفِي قَوْلِهِ : وَمَنْ حَوْلَهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا : الْمَلَائِكَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ . وَالثَّانِي : مُوسَى وَالْمَلَائِكَة ُ ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ . وَالثَّالِثُ : مُوسَى ; فَالْمَعْنَى : بُورِكَ فِيمَنْ يَطْلُبُهَا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا .
    يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم . وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد [ ص: 156 ] سوء فإني غفور رحيم . وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين

    قوله تعالى: إنه أنا الله الهاء عماد في قول أهل اللغة ; وعلى قول السدي : هي كناية عن المنادي ، لأن موسى قال : من هذا الذي يناديني؟ فقيل : إنه أنا الله

    قوله تعالى: وألق عصاك في الآية محذوف ، تقديره : فألقاها فصارت حية ، فلما رآها تهتز كأنها جان قال الفراء : الجان : الحية التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة .

    قوله تعالى: ولم يعقب فيه قولان .

    أحدهما : لم يلتفت ، قاله قتادة . والثاني : لم يرجع ، قاله ابن قتيبة ، والزجاج قال ابن قتيبة : وأهل النظر يرون أنه مأخوذ من العقب .

    قوله تعالى: إني لا يخاف لدي المرسلون : أي : لا يخافون عندي . وقيل : المراد : في الموضع الذي يوحي إليهم فيه ، فكأنه نبهه على أن من أمنه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حية .

    وفي قوله : إلا من ظلم ثلاثة أقوال .

    أحدها : أنه استثناء صحيح ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل ; والمعنى : إلا من ظلم منهم فإنه يخاف . قال ابن قتيبة : علم الله تعالى أن موسى مستشعر [ ص: 157 ] خيفة من ذنبه في الرجل الذي وكزه ، فقال : إلا من ظلم ثم بدل حسنا أي : توبة وندما ، فإنه يخاف ، وإني غفور رحيم .

    والثاني : أنه استثناء منقطع ; والمعنى : لكن من ظلم فإنه يخاف ، قاله ابن السائب ، والزجاج . وقال الفراء : " من " مستثناة من الذين تركوا في الكلام ، كأنه قال : لا يخاف لدي المرسلون ، إنما الخوف على غيرهم ، إلا من ظلم ، فتكون " من " مستثناة . وقال ابن جرير : في الآية محذوف ، تقديره : إلا من ظلم ، فمن ظلم ثم بدل حسنا .

    والثالث : أن " إلا " بمعنى الواو ، فهو كقوله : لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم [البقرة : 150] ، حكاه الفراء عن بعض النحويين ، ولم يرضه .

    وقرأ أبي بن كعب ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وعاصم الجحدري ، وابن يعمر : " ألا من ظلم " بفتح الهمزة وتخفيف اللام .

    وللمفسرين في المراد بالظلم هاهنا قولان .

    أحدهما : المعاصي . والثاني : الشرك . ومعنى " حسنا " :توبة وندما .

    وقرأ ابن مسعود ، والضحاك ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وابن السميفع ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : " حسنا " بفتح الحاء والسين . بعد سوء أي : بعد إساءة . وقيل : الإشارة بهذا إلى أن موسى وإن كان [قد] ظلم نفسه بقتل القبطي ، فإن الله يغفر له ، لأنه ندم على ذلك وتاب .

    [ ص: 158 ] قوله تعالى: وأدخل يدك في جيبك الجيب حيث جيب من القميص ، أي : قطع . قال ابن جرير : إنما أمر بإدخاله يده في جيبه ، لأنه كان عليه حينئذ مدرعة من صوف ليس لها كم . والسوء : البرص .

    قوله تعالى: في تسع آيات قاله الزجاج : " في " من صلة قوله : وألق عصاك وأدخل يدك ، فالتأويل : أظهر هاتين الآيتين في تسع آيات . و " في " بمعنى " من " ، فتأويله : من تسع آيات ; تقول : خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان ، أي : منها فحلان . وقد شرحنا الآيات في (بني إسرائيل : 101) .

    قوله تعالى: إلى فرعون وقومه أي : مرسلا إلى فرعون وقومه ، فحذف ذلك لأنه معروف . فلما جاءتهم آياتنا مبصرة أي : بينة واضحة ، وهو كقوله : وآتينا ثمود الناقة مبصرة [الإسراء : 59] وقد شرحناه .

    قوله تعالى: قالوا هذا أي : هذا الذي نراه عيانا سحر مبين . وجحدوا بها أي : أنكروها واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله ، ظلما أي : شركا وعلوا أي : تكبرا . قال الزجاج : المعنى : وجحدوا بها ظلما وعلوا ، أي : ترفعا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله .
    [ ص: 159 ] ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين . وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون . حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين

    قوله تعالى: ولقد آتينا داود وسليمان علما قال المفسرون : علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال وقالا الحمد لله الذي فضلنا بالنبوة والكتاب وإلانة الحديد وتسخير الشياطين والجن والإنس على كثير من عباده المؤمنين قال مقاتل : كان داود أشد تعبدا من سليمان ، وكان سليمان أعظم ملكا منه وأفطن .

    قوله تعالى: وورث سليمان داود أي : ورث نبوته وعلمه وملكه ، وكان لداود تسعة عشر ذكرا ، فخص سليمان بذلك ، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيها سواء .

    قوله تعالى: وقال يعني سليمان لبني إسرائيل يا أيها الناس علمنا منطق الطير قرأ أبي بن كعب : " علمنا " بفتح العين واللام . قال الفراء : " منطق الطير " : كلام الطير كالمنطق إذا فهم ، قال الشاعر :

    [ ص: 160 ]
    عجبت لها أنى يكون غناؤها فصيحا ولم تفغر ( تفتح ) بمنطقها فما


    ومعنى الآية : فهمنا ما تقول الطير . قال قتادة : والنمل من الطير . وأوتينا من كل شيء قال الزجاج : أي : من كل شيء يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس .

    وقال مقاتل : أعطينا الملك والنبوة والكتاب والرياح ومنطق الطير ، وسخرت لنا الجن والشياطين .

    وروى جعفر بن محمد عن أبيه ، قال : أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، وملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع ، وأعطي علم كل شيء ومنطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة ، فذلك قوله : علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء

    قوله تعالى: إن هذا يعني : الذي أعطينا لهو الفضل المبين أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا . وحشر لسليمان جنوده أي : جمع له كل صنف من جنده على حدة ، وهذا كان في مسير له ، فهم يوزعون قال مجاهد : يحبس أولهم على آخرهم . قال ابن قتيبة : وأصل الوزع : الكف والمنع . يقال : وزعت الرجل ، أي : كففته ، ووازع الجيش : الذي يكفهم عن التفرق ، ويرد من شذ منهم .

    قوله تعالى: حتى إذا أتوا أي : أشرفوا على واد النمل وفي موضعه قولان .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •