تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 19 من 25 الأولىالأولى ... 910111213141516171819202122232425 الأخيرةالأخيرة
النتائج 361 إلى 380 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #361
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (361)
    صــ 139 إلى صــ 146



    واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا .

    قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا رجلين " روى عطاء عن ابن عباس، قال: هما ابنا ملك كان في بني إسرائيل توفي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجنان والقصور، وكان الآخر زاهدا في الدنيا، فكان إذا عمل أخوه شيئا من زينة [ ص: 139 ] الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته، حتى نفد ماله، فضربهما الله عز وجل مثلا للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة . وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلم لما احتاج تعرض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثت عن أبيك، فقال: أنفقته في سبيل الله، فقال الكافر: لكني ابتعت به جنانا وغنما وبقرا، والله لا أعطيتك شيئا أبدا حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلم فأدخله جنانه يطوف به فيها، ويرغبه في دينه . وقال مقاتل: اسم المؤمن: يمليخا، واسم الكافر: قرطس، وقيل: قطرس، وقيل: هذا المثل [ ضرب ] لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه .

    قوله تعالى: " وحففناهما بنخل " الحف: الإحاطة بالشيء، ومنه قوله: حافين من حول العرش [ الزمر: 75 ]، والمعنى: جعلنا النخل مطيفا بها . وقوله: " وجعلنا بينهما زرعا " إعلام أن عمارتهما كاملة .

    قوله تعالى: " كلتا الجنتين آتت أكلها " قال الفراء: لم يقل: آتتا ; لأن " كلتا " ثنتان لا تفرد واحدتهما، وأصله: ( كل )، كما تقول للثلاثة: ( كل )، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب ( كل )، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في ( كلتا )، وكذلك فافعل بـ( كلا، وكلتا، وكل )، إذا أضفتهن إلى معرفة وجاء الفعل بعدهن، فوحد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى: وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ مريم: 96 ]، ومن الجمع: وكل أتوه داخرين [ النمل: 87 ]، والعرب قد تفعل أيضا في ( أي ) فيؤنثون ويذكرون، قال الله تعالى: وما تدري نفس بأي أرض تموت [ لقمان: 34 ]، ويجوز في الكلام: ( بأيت أرض )، وكذلك: [ ص: 140 ] في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار: 8 ]، ويجوز في الكلام ( في أيت )، قال الشاعر:


    بأي بلاء أم بأية نعمة تقدم قبلي مسلم والمهلب


    قال ابن الأنباري: " كلتا " وإن كان واقعا في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقة بمعرفة المخاطب به، ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: ( كلتا الجنتين آتتا أكلها )، ويقول آخرون: ( كلتا الجنتين آتى أكله ) ; لأن " كلتا " تفيد معنى ( كل )، قال الشاعر:


    وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي فلا الموت أهواه ولا العيش أروح


    يعني: وكلهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون، فوحدوا للفظ ( كل ) وجمعوا لتأويلها . وقال الزجاج: لم يقل: ( آتتا ) ; لأن لفظ " كلتا " لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها . " ولم تظلم " ; أي: لم تنقص، " منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا " فأعلمنا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب . وقال الفراء: إنما قال: " فجرنا " بالتشديد، وهو نهر واحد ; لأن النهر يمتد، فكان التفجر فيه كله . قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: ( وفجرنا ) بالتخفيف . وقرأ أبو مجلز وأبو المتوكل: ( خللهما ) . وقرأ أبو العالية وأبو عمران: ( نهرا ) بسكون الهاء .

    قوله تعالى: " وكان له " يعني: للأخ الكافر، " ثمر " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( وكان له ثمر )، ( وأحيط بثمره ) بضمتين . وقرأ عاصم: ( وكان لهم ثمر )، ( وأحيط بثمره ) بفتح الثاء والميم فيهما . [ ص: 141 ] وقرأ أبو عمرو: ( ثمر ) و( بثمره ) بضمة واحدة وسكون الميم . قال الفراء: ( الثمر ) بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال . وقال ابن الأنباري: ( الثمر ) بالفتح: الجمع الأول، و( الثمر ) بالضم: جمع الثمر، يقال: ثمر وثمر، كما يقال: أسد وأسد، ويصلح أن يكون الثمر جمع الثمار، كما يقال: حمار وحمر، وكتاب وكتب، فمن ضم قال: الثمر أعم ; لأنها تحتمل الثمار المأكولة والأموال المجموعة . قال أبو علي الفارسي: وقراءة أبي عمرو: ( ثمر ) يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب وكتب، فتخفف، فيقال: كتب، ويجوز أن يكون ( ثمر ) جمع ثمرة، كبدنة وبدن، وخشبة وخشب، ويجوز أن يكون ( ثمر ) واحدا، كعنق وطنب .

    وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه الذهب والفضة، قاله مجاهد .

    والثالث: أنه جمع ثمرة، قال الزجاج: يقال: ثمرة، وثمار، وثمر .

    فإن قيل: ما الفائدة في ذكر الثمر بعد ذكر الجنتين، وقد علم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر ؟ فعنه ثلاثة أجوبة:

    أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكا له، وإنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس .

    والثاني: أن ذكر الثمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري .

    والثالث: إنا قد ذكرنا أن المراد بالثمر: الأموال من الأنواع، وذكرنا [ ص: 142 ] أنها الذهب والفضة، وذلك يخالف الثمر المأكول، قال أبو علي الفارسي: من قال: هو الذهب والورق، فإنما قيل لذلك: ( ثمر ) على التفاؤل ; لأن الثمر نماء في ذي الثمر، وكونه هاهنا بالجنى أشبه من الذهب والفضة . ويقوي ذلك: " وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " ، والإنفاق من الورق لا من الشجر .

    قوله تعالى: " فقال " يعني: الكافر، " لصاحبه " المؤمن، " وهو يحاوره " ; أي: يراجعه الكلام ويجاوبه .

    وفيما تحاورا فيه قولان:

    أحدهما: أنه الإيمان والكفر .

    والثاني: طلب الدنيا وطلب الآخرة . فأما ( النفر ) فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط، [ ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها . وقال ابن فارس اللغوي ]: النفر: عدة رجال من ثلاثة إلى العشرة .

    وفيمن أراد بنفره ثلاثة أقوال:

    أحدها: عبيدة، قاله ابن عباس . والثاني: ولده، قاله مقاتل . والثالث: عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان .

    قوله تعالى: " ودخل جنته " يعني: الكافر، " وهو ظالم لنفسه " بالكفر، وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه، " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " أنكر فناء الدنيا وفناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله: " وما أظن الساعة قائمة " ، وهذا شك [ منه ] في البعث، ثم قال: " ولئن رددت إلى ربي " ; أي: كما تزعم أنت . قال [ ابن عباس ]: يقول: إن كان البعث حقا، " لأجدن خيرا منها " قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( خيرا منها )، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة . وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: ( خيرا منهما ) بزيادة [ ص: 143 ] ميم على التثنية، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام . قال أبو علي: الإفراد أولى ; لأنه أقرب إلى الجنة المفردة في قوله: " ودخل جنته " ، والتثنية لا تمتنع لتقدم ذكر الجنتين .

    قوله تعالى: " منقلبا " ; أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه .
    قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .

    قوله تعالى: " قال له صاحبه " يعني: المؤمن، " وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب " يعني: خلق أباك آدم، " ثم من نطفة " يعني: ما أنشئ هو منه، فلما شك في البعث كان كافرا .

    قوله تعالى: " لكنا هو الله ربي " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وقالون عن نافع: ( لكن هو الله ربي ) بإسقاط الألف في الوصل، وإثباتها في الوقف . وقرأ نافع في رواية المسيبي بإثبات الألف وصلا ووقفا . وأثبت الألف ابن عامر في الحالين . وقرأ أبو رجاء: ( لكن ) بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين . وقرأ ابن يعمر: ( لكن ) بتشديد النون من غير ألف في الحالين . وقرأ الحسن: ( لكن أنا هو الله ربي ) [ ص: 144 ] بإسكان نون ( لكن ) وإثبات ( أنا ) . قال الفراء: فيها ثلاث لغات: لكنا، ولكن، ولكنه بالهاء، أنشدني أبو ثروان:


    وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي


    وقال أبو عبيدة: مجازه: لكن أنا هو الله ربي، ثم حذفت الألف الأولى، وأدغمت إحدى النونين في الأخرى فشددت . قال الزجاج: وهذه الألف تحذف في الوصل وتثبت في الوقف، فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، فهو على لغة من يقول: أنا قمت، فأثبت الألف، قال الشاعر:


    أنا سيف العشيرة فاعرفوني [ حميدا قد تذريت السناما ]


    وهذه القراءة جيدة ; لأن الهمزة قد حذفت من ( أنا )، فصار إثبات الألف عوضا من الهمزة .

    قوله تعالى: " ولولا إذ دخلت جنتك " ; أي: وهلا، ومعنى الكلام: التوبيخ . قال الفراء: " ما شاء الله " في موضع رفع، إن شئت رفعته بإضمار هو، يريد: [ هو ] ما شاء الله، وإن شئت أضمرت فيه: ما شاء الله كان، وجاز طرح جواب الجزاء، كما جاز في قوله: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض [ الأنعام: 35 ]، ليس له جواب ; لأنه معروف . قال الزجاج: وقوله: " لا قوة إلا بالله " الاختيار النصب بغير تنوين على النفي، كقوله: لا ريب فيها [ الكهف: 21 ]، ويجوز " لا قوة إلا بالله " على الرفع بالابتداء، والخبر " بالله " ، المعنى: لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى، ولا يكون له إلا ما شاء الله . [ ص: 145 ]

    قوله تعالى: " إن ترن " قرأ ابن كثير: ( إن ترني أنا ) و( يؤتيني خيرا ) بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء فيهما وصلا ووقفا . " أنا أقل " وقرأ ابن أبي عبلة: ( أنا أقل ) برفع اللام . قال الفراء: ( أنا ) هاهنا عماد إن نصبت ( أقل )، واسم إذا رفعت ( أقل )، والقراءة بهما جائز .

    قوله تعالى: " فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك " ; أي: في الآخرة، " ويرسل عليها حسبانا " وفيه أربعة أقوال:

    أحدها: أنه العذاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة والضحاك . وقال أبو صالح عن ابن عباس: نارا من السماء .

    والثاني: قضاء من الله يقضيه، قاله ابن زيد .

    والثالث: مرامي من السماء، وأحدها: حسبانة، قاله أبو عبيدة وابن قتيبة . قال النضر بن شميل: الحسبان: سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تنزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، فعلى هذا القول يكون المعنى: ويرسل عليها مرامي من عذابه، إما حجارة أو بردا، أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب .

    والرابع: أن الحسبان: الحساب، كقوله الشمس والقمر بحسبان [ الرحمن: 5 ] ; أي: بحساب، فيكون المعنى: ويرسل عليها عذاب حساب ما كسبت يداه، هذا قول الزجاج .

    قوله تعالى: " فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا " قال ابن قتيبة: الصعيد: الأملس المستوى، والزلق: الذي تزل عنه الأقدام، والغور: الغائر، [ ص: 146 ] فجعل المصدر صفة، يقال: ماء غور، ومياه غور، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث، كما يقال: رجل نوم، ورجل صوم، ورجل فطر، ورجال نوم، [ ونساء نوم ]، ونساء صوم . ويقال للنساء إذا نحن: نوح، والمعنى: يذهب ماؤها غائرا في الأرض ; أي: ذاهبا فيها . " فلن تستطيع له طلبا " فلا يبقى له أثر تطلبه به، ولا تناله الأيدي ولا الأرشية . وقال ابن الأنباري: " غورا " : إذا غور، فسقط المضاف وخلفه المضاف إليه، والمراد بالطلب هاهنا: الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه . وقرأ أبو الجوزاء وأبو المتوكل: ( غؤورا ) برفع الغين والواو [ الأولى ] جميعا وواو بعدها .
    وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .

    قوله تعالى: " وأحيط بثمره " ; أي: أحاط الله العذاب بثمره، وقد سبق معنى الثمر . " فأصبح يقلب كفيه " ; أي: يضرب يدا على يد، وهذا فعل النادم . " على ما أنفق فيها " ; أي: في جنته، و " في " هاهنا بمعنى ( على ) . " وهي خاوية " ; أي: خالية ساقطة، " على عروشها " والعروش: السقوف، والمعنى: أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدمت فصارت في قرارها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف . " ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما أنعم به عليه، وحقق ما أنذره [ به ] أخوه في الدنيا، ندم على شركه حين لا تنفعه الندامة . وقيل: إنما يقول هذا في القيامة . " ولم تكن له فئة " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم: ( ولم تكن ) بالتاء .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #362
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (362)
    صــ 147 إلى صــ 154





    وقرأ حمزة، [ ص: 147 ] والكسائي، وخلف: ( ولم يكن ) بالياء . والفئة: الجماعة، " ينصرونه " ; أي: يمنعونه من عذاب الله .

    قوله تعالى: " هنالك الولاية " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم: ( الولاية ) بفتح الواو، و( لله الحق ) خفضا . وقرأ حمزة: ( الولاية ) بكسر الواو، و( لله الحق ) بكسر القاف أيضا . وقرأ أبو عمرو بفتح الواو ورفع ( الحق )، ووافقه الكسائي في رفع القاف، لكنه كسر ( الولاية ) . قال الزجاج: معنى الولاية في [ مثل ] تلك الحال: تبيين نصرة ولي الله . وقال غيره: هذا الكلام عائد إلى ما قبل قصة الرجلين، فأما من فتح واو ( الولاية ) فإنه أراد: الموالاة والنصرة، ومن كسر أراد: السلطان والملك، على ما شرحنا في آخر ( الأنفال: 72 ) . فعلى قراءة الفتح في معنى الكلام قولان:

    أحدهما: أنهم يتولون الله تعالى في القيامة، ويؤمنون به، ويتبرؤون مما كانوا يعبدون، قاله ابن قتيبة .

    والثاني: هنالك يتولى الله أمر الخلائق، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين . وعلى قراءة الكسر يكون المعنى: هنالك السلطان لله . قال أبو علي: من كسر قاف ( الحق ) جعله من وصف الله عز وجل، ومن رفعه جعله صفة للولاية .

    فإن قيل: لم نعتت الولاية وهي مؤنثة بالحق وهو مصدر ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري:

    أحدهما: أن تأنيثها ليس حقيقيا، فحملت على معنى النصر، والتقدير: هنالك النصر لله الحق، كما حملت الصيحة على معنى الصياح في قوله: وأخذ الذين ظلموا الصيحة [ هود: 67 ] .

    والثاني: أن الحق مصدر يستوي في لفظه المذكر والمؤنث، والاثنان [ ص: 148 ] والجمع، فيقال: قولك حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حق، ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى بإضمار ( هو ) .

    قوله تعالى: " هو خير ثوابا " ; أي: هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابه، وهذا على تقدير أنه لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل .

    قوله تعالى: " وخير عقبا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: ( عقبا ) مضمومة القاف . وقرأ عاصم وحمزة: ( عقبا ) ساكنة القاف . قال أبو علي: ما كان [ على ] ( فعل ) جاز تخفيفه، كالعنق والطنب . قال أبو عبيدة: العقب، والعقب، والعقبى، والعاقبة، بمعنى، وهي الآخرة، والمعنى: عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره .
    واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا .

    قوله تعالى: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا " ; أي: في سرعة نفادها وذهابها، وقيل: في تصرف أحوالها، إذ مع كل فرحة ترحة، وهذا مفسر في سورة ( يونس: 24 ) إلى قوله: فأصبح هشيما . قال الفراء: الهشيم: كل شيء كان رطبا فيبس . وقال الزجاج: الهشيم: النبات الجاف . وقال ابن قتيبة: الهشيم من النبت: المتفتت، وأصله من هشمت الشيء: إذا كسرته، ومنه سمي الرجل هاشما . و " تذروه الرياح " تنسفه . وقرأ أبي، وابن عباس، وابن أبي عبلة: ( تذريه ) برفع التاء وكسر الراء بعدها ياء ساكنة وهاء مكسورة . وقرأ ابن مسعود كذلك، إلا أنه فتح التاء . والمقتدر: مفتعل، من قدرت . قال المفسرون: " وكان الله على كل شيء " من الإنشاء والإفناء، " مقتدرا " . [ ص: 149 ]
    المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .

    قوله تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " هذا رد على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به في الدنيا، [ لا ] مما ينفع في الآخرة .

    قوله تعالى: " والباقيات الصالحات " فيها خمسة أقوال:

    أحدها: أنها " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " ; روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، وعن العدو أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فقولوها فإنهن الباقيات الصالحات " ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك . وسئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الباقيات الصالحات، فقال هذه الكلمات، وزاد فيها: ( ولا حول ولا قوة إلا بالله ) . وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القرظي مثله سواء .

    والثاني: أنها " لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا قوة إلا بالله " ، رواه علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والثالث: أنها الصلوات الخمس، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم . [ ص: 150 ]

    والرابع: الكلام الطيب، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والخامس: هي جميع أعمال الحسنات، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وابن زيد .

    قوله تعالى: " خير عند ربك ثوابا " ; أي: أفضل جزاء، " وخير أملا " ; أي: خير مما تؤملون ; لأن آمالكم كواذب، وهذا أمل لا يكذب .
    ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا .

    قوله تعالى: " ويوم نسير الجبال " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( ويوم تسير ) بالتاء ( الجبال ) رفعا . وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( نسير ) بالنون ( الجبال ) نصبا . وقرأ ابن محيصن: ( ويوم تسير ) بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء ( الجبال ) بالرفع . قال الزجاج: " ويوم " منصوب على معنى اذكر، ويجوز أن يكون منصوبا على: والباقيات الصالحات [ ص: 151 ] خير يوم تسير الجبال .

    قال ابن عباس: تسير الجبال عن وجه الأرض، كما يسير السحاب في الدنيا، ثم تكسر فتكون في الأرض كما خرجت منها .

    قوله تعالى: " وترى الأرض بارزة " وقرأ عمرو بن العاص، وابن السميفع، وأبو العالية: ( وترى الأرض بارزة ) برفع التاء والضاد . وقرأ أبو رجاء العطاردي كذلك، إلا أنه فتح ضاد ( الأرض ) .

    وفي معنى " بارزة " قولان: أحدهما: [ ظاهرة ] فليس عليها شيء من جبل، أو شجر، أو بناء، قاله الأكثرون . والثاني: بارزا أهلها من بطنها، قاله الفراء .

    قوله تعالى: " وحشرناهم " يعني: المؤمنين والكافرين، " فلم نغادر " قال ابن قتيبة: أي: فلم نخلف، يقال: غادرت كذا: إذا خلفته، ومنه سمي الغدير ; لأنه ماء تخلفه السيول . وروى أبان: ( فلم تغادر ) بالتاء .

    قوله تعالى: " وعرضوا على ربك صفا " إن قيل: هذا أمر مستقبل، فكيف عبر [ عنه ] بالماضي ؟ فالجواب: أن ما قد علم الله وقوعه يجري مجرى المعاين، كقوله: ونادى أصحاب الجنة [ الأعراف: 43 ] .

    وفي معنى قوله: " صفا " أربعة أقوال:

    أحدها: أنه بمعنى جميعا، كقوله: ثم ائتوا صفا [ طه: 64 ]، قاله مقاتل .

    والثاني: أن المعنى: وعرضوا على ربك مصفوفين، هذا مذهب البصريين .

    والثالث: أن المعنى: وعرضوا على ربك صفوفا، فناب الواحد عن الجميع، كقوله: ثم نخرجكم طفلا [ الحج: 5 ] .

    والرابع: أنه لم يغب عن الله منهم أحد، فكانوا كالصف الذي تسهل الإحاطة بجملته، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري . وقد قيل: إن كل أمة وزمرة صف . [ ص: 152 ]

    قوله تعالى: " لقد جئتمونا " فيه إضمار ( فيقال لهم ) .

    وفي المخاطبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم الكل . والثاني: الكفار، فيكون اللفظ عاما والمعنى خاصا . وقوله: " كما خلقناكم أول مرة " مفسر في ( الأنعام: 94 ) . وقوله: " بل زعمتم " خطاب الكفار خاصة، والمعنى: زعمتم في الدنيا " ألن نجعل لكم موعدا " للبعث والجزاء .

    قوله تعالى: " ووضع الكتاب " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه الكتاب الذي سطر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم، قاله ابن عباس . والثاني: أنه الحساب، قاله ابن السائب . والثالث: كتاب الأعمال، قاله مقاتل . وقال ابن جرير: وضع كتاب أعمال العباد في أيديهم، فعلى هذا الكتاب اسم جنس .

    قوله تعالى: " فترى المجرمين " قال مجاهد: [ هم ] الكافرون . وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذكر في القرآن، فالمراد به: الكافر .

    قوله تعالى: " مشفقين " ; أي: خائفين " مما فيه " من الأعمال السيئة، " ويقولون يا ويلتنا " هذا قول كل واقع في هلكة . وقد شرحنا هذا المعنى في قوله: يا حسرتنا [ الأنعام: 31 ] .

    قوله تعالى: " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها، وقد روى عكرمة عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة . وقد يتوهم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها، وليس كذلك ; إذ ليس الضحك والتبسم مجردهما من الذنوب، وإنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال، والضحك فعل كبير، وقد روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم والاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة: القهقهة [ ص: 153 ] بذلك ; فعلى هذا يكون ذنبا من الذنوب لمقصود فاعله، لا لنفسه . ومعنى " أحصاها " : عدها وأثبتها، والمعنى: وجدت محصاة . " ووجدوا ما عملوا حاضرا " ; أي: مكتوبا مثبتا في الكتاب . وقيل: رأوا جزاءه حاضرا . وقال أبو سليمان: الصحيح عند المحققين أن صغائر المؤمنين الذين وعدوا العفو عنها إذا اجتنبوا الكبائر، إنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها .

    قوله تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " قال أبو سليمان: لا تنقص حسنات المؤمن ولا يزاد في سيئات الكافر . وقيل: إن كان للكافر فعل خير، كعتق رقبة وصدقة، خفف عنه به من عذابه، وإن ظلمه مسلم أخذ الله من المسلم فصار الحق لله .

    ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما أورثه الكبر، فقال: " وإذ قلنا " ; أي: اذكر ذلك .

    وفي قوله: " كان من الجن " قولان:

    أحدهما: أنه من الجن حقيقة لهذا النص، واحتج قائلوا هذا بأن له ذرية - وليس للملائكة ذرية - وأنه كفر، والملائكة رسل الله، فهم معصومون من الكفر .

    والثاني: أنه كان من الملائكة، وإنما قيل: " من الجن " ; لأنه كان من قبيل من الملائكة، يقال لهم: الجن، قاله ابن عباس، وقد شرحنا هذا في ( البقرة: 34 ) .

    قوله تعالى: " ففسق عن أمر ربه " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: خرج عن طاعة ربه، تقول العرب: فسقت الرطبة من قشرها: إذا خرجت منه، قاله الفراء وابن قتيبة . [ ص: 154 ]

    والثاني: أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب فسقه عن أمر ربه . قال الزجاج: وهذا مذهب الخليل وسيبويه، وهو الحق عندنا .

    والثالث: ففسق عن رد أمر ربه، حكاه الزجاج عن قطرب .

    قوله تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " ; [ أي ]: توالونهم بالاستجابة لهم . قال الحسن وقتادة: ذريته: أولاده، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم . قال مجاهد: ذريته: الشياطين، ومن ذريته زلنبور صاحب راية إبليس بكل سوق وثبر، وهو صاحب المصائب، والأعور صاحب الرياء، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس فلا يوجد لها أصل، وداسم صاحب الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله، فهو يأكل معه إذا أكل . قال بعض أهل العلم: إذا كانت خطيئة الإنسان في كبر فلا ترجه، وإن كانت في شهوة فارجه، فإن معصية إبليس كانت بالكبر، ومعصية آدم بالشهوة .

    قوله تعالى: " بئس للظالمين بدلا " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: بئس الاتخاذ للظالمين بدلا . والثاني: بئس الشيطان . والثالث: بئس الشيطان والذرية، ذكرهن ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض " وقرأ أبو جعفر وشيبة: ( ما أشهدناهم ) بالنون والألف .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #363
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (363)
    صــ 155 إلى صــ 162



    وفي المشار إليهم أربعة أقوال:

    أحدها: إبليس وذريته . والثاني: الملائكة . والثالث: جميع الكفار . والرابع: جميع الخلق، والمعنى: إني لم أشاورهم في خلقهن، وفي هذا بيان للغناء عن الأعوان وإظهار كمال القدرة . [ ص: 155 ]

    قوله تعالى: " ولا خلق أنفسهم " ; أي: ما أشهدت بعضهم خلق بعض، ولا استعنت ببعضهم على إيجاد بعض .

    قوله تعالى: " وما كنت متخذ المضلين " [ يعني: الشياطين ]، " عضدا " ; أي: أنصارا وأعوانا . والعضد يستعمل كثيرا في معنى العون ; لأنه قوام [ اليد ] . قال الزجاج: والاعتضاد: التقوي وطلب المعونة، يقال: اعتضدت بفلان ; أي: استعنت به .

    وفي ما نفى اتخاذهم عضدا فيه قولان:

    أحدهما: أنه الولايات، والمعنى: ما كنت لأولي المضلين، قاله مجاهد .

    والثاني: أنه خلق السماوات والأرض، قاله مقاتل . وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر: ( وما كنت ) بفتح التاء .
    ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا .

    قوله تعالى: " ويوم يقول " وقرأ حمزة: ( نقول ) بالنون، يعني: يوم القيامة، " نادوا شركائي " أضاف الشركاء إليه على زعمهم، والمراد: نادوهم لدفع العذاب عنكم أو الشفاعة لكم، " الذين زعمتم " ; أي: زعمتموهم شركاء، " فدعوهم فلم يستجيبوا لهم " ; أي: لم يجيبوهم، " وجعلنا بينهم " في المشار إليهم قولان:

    أحدهما: أنهم المشركون والشركاء . والثاني: أهل الهدى وأهل الضلالة .

    وفي معنى " موبقا " ستة أقوال:

    أحدها: مهلكا، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك . وقال ابن قتيبة: [ ص: 156 ] مهلكا بينهم وبين آلهتهم في جهنم، ومنه يقال: أوبقته ذنوبه ; [ أي: أهلكته ] . قال الزجاج: المعنى: جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم ; أي: يهلكهم، فالموبق: المهلك، يقال: وبق، ييبق، ويابق، وبقا، ووبق، يبق، وبوقا، فهو وابق . وقال الفراء: جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا ; أي: مهلكا لهم في الآخرة، فالبين على هذا القول بمعنى التواصل، كقوله تعالى: لقد تقطع بينكم [ الأنعام: 94 ] على قراءة من ضم النون .

    والثاني: أن الموبق: واد عميق يفرق به بين أهل الضلالة وأهل الهدى، قاله عبد الله بن عمرو .

    والثالث: أنه واد في جهنم، قاله أنس بن مالك ومجاهد .

    والرابع: أن معنى الموبق: العدواة، قاله الحسن .

    والخامس: أنه المحبس، قاله الربيع بن أنس .

    والسادس: أنه الموعد، قاله أبو عبيدة .

    قال ابن الأنباري: إن قيل: لم قال: " موبقا " ، ولم يقل: ( موبقا ) بضم الميم ; إذ كان معناه: عذابا موبقا ؟

    فالجواب: أنه اسم موضوع لمحبس في النار، والأسماء لا تؤخذ بالقياس، فيعلم أن ( موبقا ) مفعل، من أوبقه الله: إذا أهلكه، فتنفتح الميم كما تنفتح في ( موعد، ومولد، ومحتد )، إذا سميت الشخوص بهن .

    قوله تعالى: " ورأى المجرمون النار " ; أي: عاينوها وهي تتغيظ حنقا عليهم، والمراد بالمجرمين: الكفار . " فظنوا " ; أي: أيقنوا " أنهم مواقعوها " ; أي: [ ص: 157 ] داخلوها، ومعنى المواقعة: ملابسة الشيء بشدة . " ولم يجدوا عنها مصرفا " ; أي: معدلا، والمصرف: الموضع الذي يصرف إليه، وذلك أنها أحاطت بهم من كل جانب، فلم يقدروا على الهرب .
    ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا .

    قوله تعالى: " ولقد صرفنا في هذا القرآن " قد فسرناه في ( بني إسرائيل: 41 ) .

    قوله تعالى: " وكان الإنسان أكثر شيء جدلا " فيمن نزلت قولان:

    أحدهما: أنه النضر بن الحارث، وكان جداله في القرآن، قاله ابن عباس .

    والثاني: أبي بن خلف، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم قد رم، فقال: أيقدر الله على إعادة هذا ؟ قاله ابن السائب . قال الزجاج: كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل، والإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا .

    قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا " قال المفسرون: يعني: أهل مكة، " إذ جاءهم الهدى " وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام، " إلا أن تأتيهم سنة الأولين " وهو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا .

    وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:

    أحدها: ما منعهم من الإيمان إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين، قاله الزجاج .

    والثاني: وما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا إلا لأن تأتيهم سنة الأولين ; أي: منعهم رشدهم لكي يقع العذاب بهم، ذكره ابن الأنباري . [ ص: 158 ]

    والثالث: ما منعهم إلا أني قد قدرت عليهم العذاب . وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، قاله الواحدي .

    قوله تعالى: " أو يأتيهم العذاب " ذكر ابن الأنباري في " أو " هاهنا ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنها بمعنى الواو .

    والثاني: أنها لوقوع أحد الشيئين ; إذ لا فائدة في بيانه .

    والثالث: أنها دخلت للتبعيض ; أي: أن بعضهم يقع به هذا، وهذه الأقوال الثلاثة قد أسلفنا بيانها في قوله عز وجل: أو كصيب من السماء [ البقرة: 19 ] .

    قوله تعالى: " قبلا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( قبلا ) بكسر القاف وفتح الباء . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( قبلا ) بضم القاف والباء . وقد بينا علة القراءتين في ( الأنعام: 111) . وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود: ( قبلا ) بفتح القاف من غير ياء، قال ابن قتيبة: أراد: استئنافا .

    فإن قيل: إذا كان المراد بسنة الأولين: العذاب، فما فائدة التكرار بقوله: " أو يأتيهم العذاب " ؟

    فالجواب: أن سنة الأولين أفادت عذابا مبهما يمكن أن يتراخى وقته وتختلف أنواعه، وإتيان العذاب قبلا أفاد القتل يوم بدر . قال مقاتل: " سنة الأولين " : عذاب الأمم السالفة، " أو يأتيهم العذاب قبلا " ; أي: عيانا قتلا بالسيف يوم بدر .
    وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي [ ص: 159 ] وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا .

    قوله تعالى: " ويجادل الذين كفروا بالباطل " قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم، وجدالهم بالباطل أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم ; " ليدحضوا به الحق " ; أي: ليبطلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل: جدالهم: قولهم: أإذا كنا عظاما ورفاتا [ الإسراء: 49 ]، أإذا ضللنا في الأرض [ السجدة: 10 ]، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذكر البعث والجزاء . قال أبو عبيدة: ومعنى " ليدحضوا " : ليزيلوا ويذهبوا، يقال: مكان دحض ; أي: مزل لا يثبت فيه قدم ولا حافر .

    قوله تعالى: " واتخذوا آياتي " يعني: القرآن . " وما أنذروا " ; أي: خوفوا به من النار والقيامة، " هزوا " ; أي: مهزوءا به .

    قوله تعالى: " ومن أظلم " قد شرحنا هذه الكلمة في ( البقرة: 114 ) . و " ذكر " بمعنى: وعظ . وآيات ربه: القرآن، وإعراضه عنها: تهاونه بها . " ونسي ما قدمت يداه " ; أي: ما سلف من ذنوبه، وقد شرحنا ما بعد هذا في ( الأنعام: 21 ) إلى قوله: وإن تدعهم إلى الهدى وهو الإيمان والقرآن، " فلن يهتدوا " هذا إخبار عن علمه فيهم .

    قوله تعالى: " وربك الغفور ذو الرحمة " إذ لم يعاجلهم بالعقوبة . " بل لهم [ ص: 160 ] موعد " للبعث والجزاء، " لن يجدوا من دونه موئلا " قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى ; لأن المنجى ملجأ، والعرب تقول: إنه ليوائل إلى موضعه ; أي: يذهب إلى موضعه، قال الشاعر:


    لا واءلت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم


    يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى:


    وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل


    أي: ما ينجو . وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجأ، يقال: وآل فلان إلى كذا: إذا لجأ .

    فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته ؟

    فعنه جوابان: أحدهما: [ أن ] الرحمة هاهنا بمعنى النعمة، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر . فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب . والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا فإنهم ينالون منها العافية والرزق .

    قوله تعالى: " وتلك القرى " يريد: التي قصصنا عليك ذكرها، والمراد: أهلها ; ولذلك قال: " أهلكناهم " والمراد: قوم هود وصالح، ولوط وشعيب . قال الفراء: قوله: " لما ظلموا " معناه: بعدما ظلموا . [ ص: 161 ]

    قوله تعالى: " وجعلنا لمهلكهم " قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام . قال الزجاج: وفيه وجهان:

    أحدهما: أن يكون مصدرا، فيكون المعنى: وجعلنا لإهلاكهم .

    والثاني: أن يكون وقتا، فالمعنى: لوقت هلاكهم .

    وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك . وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت إهلاكهم .
    وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .

    قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه . . . " الآية، سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر، ما روى ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ; قال موسى: يا رب فكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . فانطلق [ ص: 162 ] معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه، فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق . فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد، قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: "أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة . . . " إلى قوله: "عجبا،" قال: فكان للحوت سربا، ولموسى ولفتاه عجبا، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، "فارتدا على آثارهما قصصا" . قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام ! من أنت ؟ قال: أنا موسى . قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا . قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى، إني على علم من علم الله لا تعلمه علمنيه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ; فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول عمدت




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #364
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (364)
    صــ 163 إلى صــ 170


    [ ص: 163 ] إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها . . . إلى قوله: عسرا ؟ ! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت الأولى من موسى نسيانا، وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل ; إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية إلى قوله: يريد أن ينقض، فقال الخضر بيده [ هكذا ]، فأقامه . فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا . قال: هذا فراق بيني وبينك . . . الآية " . هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين " ، وقد ذكرنا إسناده في كتاب " الحدائق " ، فآثرنا الاختصار هاهنا .

    فأما التفسير فقوله تعالى: " وإذ قال موسى " المعنى: واذكر ذلك . وفي موسى قولان:

    أحدهما: أنه موسى بن عمران، قاله الأكثرون . ويدل عليه ما روي في " الصحيحين " من حديث سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر، قال: [ ص: 164 ] كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب . . . . فذكر الحديث الذي قدمناه آنفا .

    والثاني: أنه موسى بن ميشا، قاله ابن إسحاق، وليس بشيء ; للحديث الصحيح الذي ذكرناه . فأما فتاه فهو يوشع بن نون من غير خلاف، وإنما سمي فتاه ; لأنه كان يلازمه ويأخذ عنه العلم ويخدمه .

    ومعنى " لا أبرح " : لا أزال . وليس المراد به: لا أزول ; لأنه إذا لم يزل لم يقطع أرضا، فهو مثل قولك: ما برحت أناظر عبد الله ; أي: ما زلت، قال الشاعر:


    إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع


    أي: أثقلتك، والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ; أي: ملتقاهما، وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء الخضر فيه . قال قتادة: بحر فارس، وبحر الروم، فبحر الروم نحو المغرب، وبحر فارس نحو المشرق .

    وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان:

    أحدهما: إفريقية، قاله أبي بن كعب . والثاني: طنجة، قاله محمد بن كعب القرظي .

    قوله تعالى: " أو أمضي حقبا " وقرأ أبو رزين، والحسن، وأبو مجلز، وقتادة، والجحدري، وابن يعمر: ( حقبا ) بإسكان القاف . قال ابن قتيبة: الحقب: الدهر، والحقب: السنون، واحدتها حقبة، ويقال: حقب وحقب، كما يقال: قفل وقفل، وهزؤ وهزؤ، وكفؤ وكفؤ، وأكل [ ص: 165 ] وأكل، وسحت وسحت، ورعب ورعب، ونكر ونكر، وأذن وأذن، وسحق وسحق، وبعد وبعد، وشغل وشغل، وثلث وثلث، وعذر وعذر، ونذر ونذر، وعمر وعمر .

    وللمفسرين في المراد بالحقب هاهنا ثمانية أقوال:

    أحدها: أنه الدهر، قاله ابن عباس . والثاني: ثمانون سنة، قاله عبد الله بن عمرو وأبو هريرة . والثالث: سبعون ألف سنة، قاله الحسن . والرابع: سبعون سنة، قاله مجاهد . والخامس: سبعة عشر ألف سنة، قاله مقاتل بن حيان . والسادس: أنه ثمانون ألف سنة، كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا . والسابع: أنه سنة بلغة قيس، ذكرهما الفراء . والثامن: الحقب عند العرب وقت غير محدود، قاله أبو عبيدة . ومعنى الكلام: لا أزال أسير، ولو احتجت أن أسير حقبا .

    قوله تعالى: " فلما بلغا " يعني: موسى وفتاه، " مجمع بينهما " يعني: البحرين، " نسيا حوتهما " وكانا قد تزودا حوتا مالحا في زبيل، فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت بلل البحر . وقيل: توضأ يوشع من عين الحياة فانتضخ على الحوت الماء فعاش، فتحرك في المكتل، فانسرب في البحر، وقد كان قيل لموسى: تزود حوتا مالحا، فإذا فقدته وجدت الرجل . وكان موسى حين ذهب الحوت في البحر قد مضى لحاجة، فعزم فتاه أن يخبره بما جرى فنسي . وإنما قيل: " نسيا حوتهما " توسعا في الكلام ; لأنهما جميعا تزوداه، كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم . قال الفراء: ومثله قوله: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن: 22 ]، وإنما يخرج ذلك من الملح لا من العذب . وقيل: نسي يوشع [ ص: 166 ] أن يحمل الحوت، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء ; فلذلك أضيف النسيان إليهما .

    قوله تعالى: " فاتخذ سبيله في البحر سربا " ; أي: مسلكا ومذهبا . قال ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة . وقال قتادة: جعل لا يسلك طريقا إلا صار الماء جامدا . وقد ذكرنا في حديث أبي بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت .

    قوله تعالى: " فلما جاوزا " ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت، أصابهما ما يصيب المسافر من النصب، فدعا موسى بالطعام، فقال: " آتنا غداءنا " ، وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة . والنصب: الإعياء . وهذا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من الأذى والتعب، ولا يكون ذلك شكوى . " قال " يوشع لموسى: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة " ; أي: حين نزلنا هناك، " فإني نسيت الحوت " فيه قولان:

    أحدهما: نسيت أن أخبرك خبر الحوت . والثاني: نسيت حمل الحوت .

    قوله تعالى: " وما أنسانيه " قرأ الكسائي: ( أنسانيه ) بإمالة السين [ مع كسر الهاء ] . وقرأ ابن كثير: ( أنسانيهي ) بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء . وروى حفص عن عاصم: ( أنسانيه إلا ) بضم الهاء [ في الوصل ] .

    قوله تعالى: " واتخذ سبيله في البحر عجبا " الهاء في السبيل ترجع إلى الحوت . وفي المتخذ قولان:

    أحدهما: أنه الحوت، ثم في المخبر عنه قولان:

    أحدهما: أنه الله عز وجل، ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: فاتخذ سبيله في البحر يرى عجبا ويحدث عجبا . والثاني: أنه لما قال الله تعالى: [ ص: 167 ] " واتخذ سبيله في البحر " ، قال: اعجبوا لذلك عجبا، وتنبهوا لهذه الآية . والثالث: أن إخبار الله تعالى انقطع عند قوله: " في البحر " ، فقال موسى: عجبا، لما شوهد من الحوت . ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري .

    والثاني: [ أن ] المخبر عن الحوت يوشع، وصف لموسى ما فعل الحوت .

    والقول الثاني: أن المتخذ موسى، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا، فدخل في المكان الذي مر فيه الحوت فرأى الخضر . وروى عطية عن ابن عباس، قال: رجع موسى إلى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، حتى انتهى به إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر .

    قوله تعالى: " قال " يعني: موسى، " ذلك ما كنا نبغ " ; أي: ذلك الذي نطلب من العلامة الدالة على مطلوبنا . قرأ ابن كثير: ( نبغي ) بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع، وأبو عمرو ، والكسائي بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء في الحالين .

    قوله تعالى: " فارتدا على آثارهما " قال الزجاج: أي: رجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر . والقصص: اتباع الأثر .

    قوله تعالى: " فوجدا عبدا من عبادنا " يعني: الخضر .

    وفي اسمه أربعة أقوال:

    أحدها: اليسع، قاله وهب ومقاتل . والثاني: الخضر بن عاميا . والثالث: أرميا بن حلفيا، ذكرهما ابن المنادي . والرابع: بليا بن ملكان، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

    فأما تسميته بالخضر ففيه قولان: [ ص: 168 ]

    أحدهما: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرت، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والفروة: الأرض اليابسة .

    والثاني: أنه كان إذا جلس اخضر ما حوله، قاله عكرمة . وقال مجاهد: كان إذا صلى اخضر ما حوله . وهل كان الخضر نبيا أم لا ؟ فيه قولان ذكرهما أبو بكر بن الأنباري، وقال: كثير من الناس يذهب إلى أنه كان نبيا، وبعضهم يقول: كان عبدا صالحا . واختلف العلماء هل هو باق إلى يومنا هذا على قولين، حكاهما الماوردي، وكان الحسن يذهب إلى أنه مات، وكذلك كان ابن المنادي من أصحابنا يقول، ويقبح قول من يرى بقاءه ويقول: لا يثبت حديث في بقائه . وروى أبو بكر النقاش أن محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء ؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " .

    قوله تعالى: " آتيناه رحمة من عندنا " في هذه الرحمة ثلاثة أقوال: [ ص: 169 ]

    أحدها: أنها النبوة، قاله مقاتل . والثاني: الرقة والحنو على من يستحقه، ذكره ابن الأنباري . والثالث: النعمة، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى: " وعلمناه من لدنا " ; أي: من عندنا، " علما " قال ابن عباس: أعطاه علما من علم الغيب .

    قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا .

    قوله تعالى: " أن تعلمني " قرأ ابن كثير: ( تعلمني مما ) بإثبات الياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر وعاصم بحذف الياء في الحالين .

    قوله تعالى: " مما علمت رشدا " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( رشدا ) بضم الراء [ وإسكان الشين ] خفيفة . وقرأ أبو عمرو: ( رشدا ) بفتح الراء والشين . وعن ابن عامر بضمهما . والرشد والرشد لغتان، كالنخل والنخل، والعجم والعجم، والعرب والعرب، والمعنى: أن تعلمني علما ذا رشد . وهذه القصة قد حرضت على الرحلة في طلب العلم، واتباع المفضول للفاضل طلبا للفضل، وحثت على الأدب والتواضع للمصحوب .

    قوله تعالى: " إنك لن تستطيع معي صبرا " قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي ; لأني علمت من غيب علم ربي .

    وفي هذا الصبر وجهان:

    أحدهما: على الإنكار . والثاني: عن السؤال . [ ص: 170 ]

    قوله تعالى: " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " الخبر: علمك بالشيء، والمعنى: كيف تصبر على أمر ظاهره منكر، وأنت لا تعلم باطنه ؟

    قوله تعالى: " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " قال ابن الأنباري: نفي العصيان منسوق على الصبر، والمعنى: ستجدني صابرا ولا أعصي إن شاء الله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #365
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (365)
    صــ 171 إلى صــ 178




    قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا
    فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا .

    قوله تعالى: " فلا تسألني " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( فلا تسألني ) ساكنة اللام . وقرأ نافع: ( فلا تسألني ) مفتوحة اللام مشددة النون . وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني: ( فلا تسألن عن [ ص: 171 ] شيء ) بتحريك اللام من غير ياء والنون مكسورة، والمعنى: لا تسألني عن شيء مما أفعله، " حتى أحدث لك منه ذكرا " ; أي: حتى أكون أنا الذي أبينه لك ; لأن علمه قد غاب عنك .

    قوله تعالى: " خرقها " ; أي: شقها . قال المفسرون: قلع منها لوحا، وقيل: لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، وأنكر عليه ما فعل بقوله: " أخرقتها لتغرق أهلها " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( لتغرق ) بالتاء ( أهلها ) بالنصب . وقرأ حمزة والكسائي: ( ليغرق ) بالياء ( أهلها ) برفع اللام . " لقد جئت شيئا إمرا " وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: منكرا، قاله مجاهد . وقال الزجاج: عظيما من المنكر . والثاني: عجبا، قاله قتادة وابن قتيبة . والثالث: داهية، قاله أبو عبيدة .

    قوله تعالى: " لا تؤاخذني بما نسيت " في هذا النسيان ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه على حقيقته وأنه نسي، روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الأولى كانت نسيانا من موسى " .

    والثاني: أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أبي بن كعب وابن عباس .

    والثالث: أنه بمعنى الترك، فالمعنى: لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " ولا ترهقني " قال الفراء: لا تعجلني . وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: لا تغشني . قال أبو زيد: يقال: أرهقته عسرا: إذا كلفته ذلك . قال الزجاج: والمعنى: عاملني باليسر لا بالعسر . [ ص: 172 ]

    قوله تعالى: " فانطلقا " يعني: موسى والخضر . قال الماوردي: يحتمل أن يوشع تأخر عنهما ; لأن الإخبار عن اثنين، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر ; لأنه تبع لموسى، فاقتصر على حكم المتبوع .

    قوله تعالى: " حتى إذا لقيا غلاما " اختلفوا في هذا الغلام، هل كان بالغا أم لا ؟ على قولين:

    أحدهما: أنه لم يكن بالغا، قاله ابن عباس، ومجاهد، والأكثرون .

    والثاني: أنه كان شابا قد قبض على لحيته، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا، واحتج بأن غير البالغ لم يجر عليه قلم، فلم يستحق القتل . وقد يسمى الرجل غلاما، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:


    [ شفاها من الداء العضال الذي بها ] غلام إذا هز القناة سقاها


    وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه اقتلع رأسه، وقد ذكرناه في حديث أبي . والثاني: كسر عنقه، قاله ابن عباس . والثالث: أضجعه وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير .

    قوله تعالى: ( أقتلت نفسا زاكية ) قرأ الكوفيون وابن عامر: ( زكية ) بغير ألف والياء مشددة . وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد . قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة القاسية والقسية .

    وللمفسرين فيها ستة أقوال:

    أحدها: أنها التائبة، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكية: التائبة، [ وبه ] قال الضحاك . [ ص: 173 ]

    والثاني: أنها المسلمة، روي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا، قاله سعيد بن جبير .

    والرابع: أنها الزكية النامية، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري: القويمة في تركيبها .

    والخامس: أن الزكية: المطهرة، قاله أبو عبيدة .

    والسادس: أن الزكية: البريئة التي لم يظهر ما يوجب قتلها، قاله الزجاج .

    وقد فرق بعضهم بين الزاكية والزكية، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية: التي أذنبت ثم تابت . وروي عن أبي عبيدة أنه قال: الزاكية في البدن، والزكية في الدين .

    قوله تعالى: " بغير نفس " ; أي: بغير قتل نفس، " لقد جئت شيئا نكرا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( نكرا ) خفيفة في كل القرآن، إلا قوله: إلى شيء نكر [ القمر: 6 ]، وخفف ابن كثير أيضا ( إلى شيء نكر ) . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ( نكرا ) و( إلى شيء نكر ) مثقل . والمخفف إنما هو من المثقل، كالعنق والعنق، والنكر والنكر . قال الزجاج: والمعنى: لقد أتيت شيئا نكرا . ويجوز أن يكون معناه: جئت بشيء نكر، فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب نكرا . و " نكرا " أقل منكرا من قوله: " إمرا " ; لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة .

    قوله تعالى: " قال ألم أقل لك " .

    إن قيل: لم ذكر لك " هاهنا واختزله من الموضع الذي قبله ؟

    فالجواب: أن إثباته للتوكيد واختزاله لوضوح المعنى، وكلاهما معروف [ ص: 174 ] عند الفصحاء . تقول العرب: قد قلت لك: اتق الله، وقد قلت لك: يا فلان اتق الله، وأنشد ثعلب:


    قد كنت حذرتك آل المصطلق وقلت يا هذا أطعني وانطلق


    فقوله: يا هذا، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه . وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول: وقره في الأول، فلم يواجهه بكاف الخطاب، فلما خالف في الثاني واجهه بها .

    قوله تعالى: " إن سألتك عن شيء " ; أي: سؤال توبيخ وإنكار، " بعدها " ; أي: بعد هذه المسألة، " فلا تصاحبني " وقرأ كذلك معاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، والأعرج، إلا أنهم شددوا النون . قال الزجاج: ومعناه: إن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك . وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة، ويعقوب: ( فلا تصحبني ) بفتح التاء من غير ألف . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والأعمش كذلك، إلا أنهم شددوا النون . وقرأ أبو رجاء، وأبو عثمان النهدي، والنخعي، والجحدري: ( تصحبني ) بضم التاء وكسر الحاء وسكون الصاد والباء . قال الزجاج: فيهما وجهان:

    أحدهما: لا تتابعني في شيء ألتمسه منك، يقال: قد أصحب المهر: إذا انقاد .

    والثاني: لا تصحبني علما من علمك .

    " قد بلغت من لدني " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( من لدني ) مثقل . وقرأ نافع: ( من لدني ) بضم الدال مع تخفيف النون . وروى أبو بكر عن عاصم: ( من لدني ) بفتح اللام مع تسكين الدال . وفي رواية أخرى عن عاصم ( لدني ) بضم اللام وتسكين الدال . قال الزجاج: [ ص: 175 ] وأجودها تشديد النون ; لأن أصل ( لدن ) الإسكان، فإذا أضفتها إلى نفسك زدت نونا، ليسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، فتسكن النون ثم تضيف إلى نفسك فتقول: من لدني، كما تقول: عن زيد وعني . فأما إسكان دال ( لدني ) فإنهم أسكنوها، كما تقول في عضد: عضد، فيحذفون الضم . قال ابن عباس: يريد: إنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، يعني: أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا .

    قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية " فيها ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنها أنطاكية، قاله ابن عباس . والثاني: الأبلة، قاله ابن سيرين . والثالث: باجروان، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: " استطعما أهلها " ; أي: سألاهم الضيافة، " فأبوا أن يضيفوهما " روى المفضل عن عاصم: ( يضيفوهما ) بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية . وقرأ أبو الجوزاء كذلك، إلا أنه فتح الياء [ الأولى ] . وقرأ الباقون: ( يضيفوهما ) بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها . قال أبو عبيدة: ومعنى " يضيفوهما " : ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضفت أنا، وأضافني الذي ينزلني . وقال الزجاج: يقال: ضفت الرجل: إذا نزلت عليه، وأضفته: إذا أنزلته وقريته . وقال ابن قتيبة: [ يقال ]: ضيفت الرجل: إذا أنزلته منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضفته: نزلت عليه . وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " كانوا أهل قرية لئاما " .

    قوله تعالى: " فوجدا فيها جدارا " ; أي: حائطا . قال ابن فارس: وجمعه [ ص: 176 ] جدر، والجدر: أصل الحائط . ومنه حديث الزبير: " ثم دع الماء يرجع إلى الجدر " ، والجيدر: القصير .

    قول تعالى: " يريد أن ينقض " وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء: ( ينقاض ) بألف ممدودة وضاد معجمة . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: ( ينقاص ) بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكله بلا تشديد . قال الزجاج: فمعنى ينقض: يسقط بسرعة، وينقاص غير معجمة: ينشق طولا، يقال: انقاصت سنه: إذا انشقت . قال ابن مقسم: انقاصت سنه، وانقاضت - بالصاد والضاد -على معنى واحد .

    فإن قيل: كيف نسبت الإرادة إلى ما لا يعقل ؟

    فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيها بمن يعقل، ويريد: لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالإرادة ; إذ كانت الصورتان واحدة، وقد أضافت العرب الأفعال إلى ما لا يعقل تجوزا، قال الله عز وجل: ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف: 154 ]، والغضب لا يسكت، وإنما يسكت صاحبه، وقال: فإذا عزم الأمر [ محمد: 21 ]، وأنشدوا من ذلك:


    إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان


    وقال آخر: [ ص: 177 ]


    يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل


    وقال آخر:


    ضحكوا والدهر عنهم ساكت ثم أبكاهم دما لما نطق


    وقال آخر:


    يشكو إلي جملي طول السرى [ صبرا جميلا فكلانا مبتلى ]


    وهذا كثير في أشعارهم .

    قوله تعالى: " فأقامه " ; أي: سواه ; لأنه وجده مائلا .

    وفي كيفية ما فعل قولان: أحدهما: أنه دفعه بيده فقام . والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس .

    قوله تعالى: " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( لتخذت ) بكسر الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها . وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( لاتخذت ) وكلهم أدغموا، إلا حفصا عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير . قال الزجاج: يقال: تخذ يتخذ في معنى: اتخذ يتخذ . وإنما قال له هذا ; لأنهم لم يضيفوهما .

    قوله تعالى: " قال " يعني: الخضر، " هذا " يعني: الإنكار علي، " فراق بيني وبينك " ; أي: هو المفرق بيننا . قال الزجاج: المعنى: هذا فراق بيننا ; [ ص: 178 ] أي: فراق اتصالنا، وكرر ( بين ) توكيدا، ومثله في الكلام: أخزى الله الكاذب مني ومنك . وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: ( هذا فراق ) بالتنوين ( بيني وبينك ) بنصب النون . قال ابن عباس: كان قول موسى في السفينة والغلام لربه، وكان قوله في الجدار لنفسه، لطلب شيء من الدنيا .
    أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا .

    قوله تعالى: " فكانت لمساكين " في المراد بمسكنتهم قولان:

    أحدهما: أنهم كانوا ضعفاء في أكسابهم . والثاني: في أبدانهم . وقال كعب: كانت لعشرة إخوة، خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر .

    قوله تعالى: " فأردت أن أعيبها " ; أي: أجعلها ذات عيب، يعني: بخرقها، " وكان وراءهم " فيه قولان:

    أحدهما: أمامهم، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود: ( وكان أمامهم ملك ) .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #366
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (366)
    صــ 179 إلى صــ 186





    والثاني: خلفهم، قال الزجاج: وهو أجود الوجهين، فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم كان عليه، ولم يعلموا بخبره، فأعلم الله تعالى الخضر خبره . [ ص: 179 ]

    قوله تعالى: " يأخذ كل سفينة غصبا " ; أي: كل سفينة صالحة . وفي قراءة أبي [ بن كعب ]: ( كل سفينة صحيحة ) . قال الخضر: إنما خرقتها ; لأن الملك إذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلها فانتفعوا بها .

    قوله تعالى: " وأما الغلام " روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: ( وأما الغلام فكان كافرا ) . وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " . قال الربيع بن أنس: كان الغلام على الطريق لا يمر به أحد إلا قتله أو غصبه، فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه . وقال ابن السائب: كان الغلام لصا، فإذا جاء من يطلبه حلف أبواه أنه لم يفعل .

    قوله تعالى: " فخشينا " في القائل لهذا قولان:

    أحدهما: الله عز وجل . ثم في معنى الخشية المضافة إليه قولان: أحدهما: أنها بمعنى العلم . قال الفراء: معناه: فعلمنا . وقال ابن عقيل: المعنى: فعلنا فعل الخاشي . والثاني: الكراهة، قاله الأخفش والزجاج .

    والثاني: أنه الخضر، فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهم، قاله ابن الأنباري . وقد استدل بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله: " فأردنا أن يبدلهما ربهما " . قال الزجاج: المعنى: فأراد الله ; لأن لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى . ومعنى " يرهقهما " : يحملهما على الرهق، وهو الجهل . قال أبو عبيدة: " يرهقهما " : يغشيهما . قال سعيد بن جبير: خشينا [ ص: 180 ] أن يحملهما حبه على أن يدخلا في دينه . وقال الزجاج: فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فرضي امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره، خير له من قضائه فيما يحب .

    قوله تعالى: " فأردنا أن يبدلهما ربهما " قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم: ( أن يبدلهما ) بالتخفيف . وقرأ نافع وأبو عمرو بالتشديد .

    قوله تعالى: " خيرا منه زكاة " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: دينا، قاله ابن عباس . والثاني: عملا، قاله مقاتل . والثالث: صلاحا، قاله الفراء .

    قوله تعالى: " وأقرب رحما " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( رحما ) ساكنة الحاء . وقرأ ابن عامر: ( رحما ) مثقلة . وعن أبي عمرو كالقراءتين . وقرأ ابن عباس، وابن جبير، وأبو رجاء: ( رحما ) بفتح الراء وكسر الحاء .

    وفي معنى الكلام قولان:

    أحدهما: أوصل للرحم وأبر للوالدين، قاله ابن عباس وقتادة . وقال الزجاج: أقرب عطفا وأمس بالقرابة . ومعنى الرحم والرحم في اللغة: العطف والرحمة، قال الشاعر:


    وكيف بظلم جارية ومنها اللين والرحم


    والثاني: أقرب أن يرحما به، قاله الفراء . وفيما بدلا به قولان: [ ص: 181 ]

    أحدهما: جارية، قاله الأكثرون . وروى عطاء عن ابن عباس، قال: أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيا .

    والثاني: غلام مسلم، قاله ابن جريج .

    قوله تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة " يعني: القرية المذكورة في قوله: " أتيا أهل قرية " ، قال مقاتل: واسمهما: أصرم وصريم .

    قوله تعالى: " وكان تحته كنز لهما " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه كان ذهبا وفضة، رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن، وعكرمة، وقتادة: كان مالا .

    والثاني: أنه كان لوحا من ذهب، فيه مكتوب: عجبا لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبا لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، أنا الله الذي لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي ; وفي الشق الآخر: أنا الله لا إلا إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، رواه عطاء عن ابن عباس . قال ابن الأنباري: فسمي كنزا من جهة الذهب، وجعل اسمه هو المغلب .

    والثالث: كنز علم، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال مجاهد: صحف فيها علم، وبه قال سعيد بن جبير والسدي . قال ابن الأنباري: فيكون المعنى على هذا القول: كان تحته مثل الكنز ; لأنه يتعجل من نفعه أفضل مما [ ص: 182 ] ينال من الأموال . قال الزجاج: والمعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد، فمعناه: المال المدفون المدخر، فإذا لم يكن المال، قيل: عنده كنز علم، وله كنز فهم، والكنز هاهنا بالمال أشبه، وجائز أن يكون الكنز كان مالا، مكتوب فيه علم، على ما روي، فهو مال وعلم عظيم .

    قوله تعالى: " وكان أبوهما صالحا " قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاحا . وقال جعفر بن محمد عليه السلام: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء . وقال مقاتل: كان أبوهما ذا أمانة .

    قوله تعالى: " فأراد ربك " قال ابن الأنباري: لما كان قوله: ( فأردت ) ( وأردنا ) كل واحد منهما يصلح أن يكون خبرا عن الله عز وجل وعن الخضر، أتبعهما بما يحصر الإرادة عليه ويزيلها عن غيره، ويكشف البغية من اللفظتين الأوليين . وإنما قال: " فأردت، فأردنا، فأراد ربك " ; لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتفاقه مع تساوي المعاني ; لأنه أعذب على الألسن، وأحسن موقعا في الأسماع، فيقول الرجل: قال لي فلان كذا، وأنبأني بما كان، وخبرني بما نال . فأما " الأشد " فقد سبق ذكره في مواضع [ الأنعام: 152، ويوسف: 22، والإسراء: 34 ]، ولو أن الخضر لم يقم الحائط لنقض، وأخذ ذلك الكنز قبل بلوغهما .

    قوله تعالى: " رحمة من ربك " ; أي: رحمهما الله بذلك . " وما فعلته عن أمري " قال قتادة: كان عبدا مأمورا .

    فأما قوله: " تسطع " فإن استطاع واسطاع بمعنى واحد . [ ص: 183 ]
    ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا .

    قوله تعالى: " ويسألونك عن ذي القرنين " قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى: ويسألونك عن الروح [ الإسراء: 85 ] .

    واختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال:

    أحدها: عبد الله، قاله علي عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه عبد الله ابن الضحاك . والثاني: الإسكندر، قاله وهب . والثالث: عياش، قاله محمد بن علي بن الحسين . والرابع: الصعب بن جابر بن القلمس، ذكره ابن أبي خيثمة .

    وفي علة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال:

    أحدها: أنه دعا قومه إلى الله تعالى، فضربوه على قرنه فهلك، فغبر زمانا ثم بعثه الله، فدعاهم إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك، فذانك قرناه، قاله علي عليه السلام . والثاني: أنه سمي بذي القرنين ; لأنه سار إلى مغرب الشمس وإلى مطلعها، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس . والرابع: لأنه رأى في المنام كأنه امتد من السماء إلى الأرض وأخذ بقرني الشمس، فقص ذلك على قومه، فسمي بذي القرنين . الخامس: لأنه [ ص: 184 ] ملك الروم وفارس . والسادس: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبه . والسابع: لأنه كانت له غديرتان من شعر، قاله الحسن . قال ابن الأنباري: والعرب تسمي الضفيرتين من الشعر: غديرتين، وجميرتين، وقرنين ; قال: ومن قال: سمي بذلك لأنه ملك فارس والروم، قال: لأنهما عاليان على جانبين من الأرض، يقال لهما: قرنان . والثامن: لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت ذوي شرف . والتاسع: لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس وهو حي . والعاشر: لأنه سلك الظلمة والنور، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو إسحاق الثعلبي .

    واختلفوا هل كان نبيا أم لا ؟ على قولين:

    أحدهما: أنه كان نبيا، قاله عبد الله بن عمرو والضحاك بن مزاحم .

    والثاني: أنه كان عبدا صالحا، ولم يكن نبيا ولا ملكا، قاله علي عليه السلام . وقال وهب: كان ملكا ولم يوح إليه .

    وفي زمان كونه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه من القرون الأول من ولد يافث بن نوح، قاله علي عليه السلام .

    والثاني: أنه كان بعد ثمود، قاله الحسن . ويقال: كان عمره ألفا وستمائة سنة .

    والثالث: [ أنه ] كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، قاله وهب .

    قوله تعالى: " سأتلو عليكم منه ذكرا " ; أي: خبرا يتضمن ذكره . " إنا مكنا له في الأرض " ; أي: سهلنا عليه السير فيها . قال علي عليه السلام: إنه أطاع الله فسخر له السحاب فحمله عليه، ومد له في الأسباب، وبسط له النور، فكان [ ص: 185 ] الليل والنهار عليه سواء . وقال مجاهد: ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران ; فالمؤمنان: سليمان بن دواد وذو القرنين، والكافران: النمرود وبختنصر .

    قوله تعالى: " وآتيناه من كل شيء سببا " قال ابن عباس: علما يتسبب به إلى ما يريد . وقيل: هو العلم بالطرق والمسالك .

    قوله تعالى: " فأتبع سببا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( فأتبع سببا )، ( ثم أتبع سببا )، ( ثم أتبع سببا ) مشددات التاء . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( فأتبع سببا ) ، ( ثم أتبع سببا )، ( ثم أتبع سببا ) مقطوعات . قال ابن الأنباري: من قرأ: ( فأتبع سببا ) فمعناه: قفا الأثر . ومن قرأ: ( فأتبع ) فمعناه: لحق، يقال: اتبعني فلان ; أي: تبعني، كما يقال: ألحقني فلان، بمعنى: لحقني . وقال أبو علي: ( أتبع ) تقديره: أتبع سببا سببا، فأتبع ما هو عليه سببا، والسبب: الطريق، والمعنى: تبع طريقا يؤديه إلى مغرب الشمس . وكان إذا ظهر على قوم أخذ منهم جيشا، فسار بهم إلى غيرهم .

    قوله تعالى: " وجدها تغرب في عين حمئة " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم: ( حمئة )، وهي [ قراءة ابن عباس . وقرأ ] ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: ( حامية )، وهي قراءة عمرو، وعلي، وابن مسعود، والزبير، ومعاوية، وأبي عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، وأبي جعفر، وشيبة، وابن محيصن، والأعمش، كلهم لم يهمز . قال الزجاج: فمن قرأ: ( حمئة ) أراد: في عين ذات حمأة، يقال: حمأت البئر: إذا أخرجت حمأتها، وأحمأتها: إذا ألقيت فيها الحمأة . [ وحمئت ] فهي حمئة: إذا صارت فيها الحمأة . ومن قرأ: ( حامية ) بغير همز، أراد: حارة . وقد تكون حارة ذات حمأة . وروى قتادة عن الحسن، قال: [ ص: 186 ] وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القدور، " ووجد عندها قوما " لباسهم جلود السباع، وليس لهم طعام إلا ما أحرقت الشمس من الدواب إذا غربت نحوها، وما لفظت العين من الحيتان إذا وقعت فيها الشمس . وقال ابن السائب: وجد عندها قوما مؤمنين وكافرين، يعني: عند العين . وربما توهم متوهم أن هذه الشمس على عظم قدرها تغوص بذاتها في عين ماء، وليس كذلك، فإنها أكبر من الدنيا مرارا، فكيف تسعها عين [ ماء ؟ وقيل: إن الشمس بقدر الدنيا مائة وخمسين مرة، وقيل: بقدر الدنيا مائة وعشرين مرة، والقمر بقدر الدنيا ثمانين مرة ] . وإنما وجدها تغرب في العين كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طرفه أن الشمس تغيب في الماء، وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان، فوجد عينا حمئة ليس بعدها أحد .

    قوله تعالى: " قلنا يا ذا القرنين " فمن قال: إنه نبي، قال: هذا القول وحي، ومن قال: ليس بنبي، قال: هذا إلهام .

    قوله تعالى: " إما أن تعذب " قال المفسرون: إما أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه، وإما أن تأسرهم فتبصرهم الرشد . " قال أما من ظلم " ; أي: أشرك، " فسوف نعذبه " بالقتل إذا لم يرجع عن الشرك . وقال الحسن: كان يطبخهم في القدور، " ثم يرد إلى ربه " بعد العذاب، " فيعذبه عذابا نكرا " بالنار .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #367
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (367)
    صــ 187 إلى صــ 194




    قوله تعالى: " فله جزاء الحسنى " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: ( جزاء الحسنى ) برفع مضاف . قال الفراء: " الحسنى " : الجنة، وأضيف الجزاء إليها، وهي الجزاء، كقوله: وإنه لحق اليقين [ الحاقة: 51 ]، و دين القيمة [ البينة: 5 ]، ولدار الآخرة [ النحل: 30 ] . قال أبو علي الفارسي: المعنى: فله جزاء الخلال الحسنى ; لأن الإيمان والعمل الصالح خلال . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ويعقوب: ( جزاء ) [ ص: 187 ] بالنصب والتنوين . قال الزجاج: وهو مصدر منصوب على الحال، المعنى: فله الحسنى مجزيا بها جزاء . وقال ابن الأنباري: وقد يكون الجزاء غير الحسنى، إذا تأول الجزاء بأنه الثواب، والحسنى: الحسنة المكتسبة في الدنيا، فيكون المعنى: فله ثواب ما قدم من الحسنات .

    قوله تعالى: " وسنقول له من أمرنا يسرا " ; أي: نقول له قولا جميلا .
    ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا .

    قوله تعالى: " ثم أتبع سببا " ; أي: طريقا آخر يوصله إلى المشرق . قال قتادة: مضى يفتح المدائن، ويجمع الكنوز، ويقتل الرجال، إلا من آمن، حتى أتى مطلع الشمس، فأصاب قوما في أسراب عراة، ليس لهم طعام إلا ما أحرقت الشمس إذا طلعت، فإذا توسطت السماء خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم مما أحرقته الشمس . وبلغنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان، فيقال: إنهم الزنج . قال الحسن: كانوا إذا غربت الشمس خرجوا يتراعون كما يتراعى الوحش . وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن: ( مطلع الشمس ) بفتح اللام . قال ابن الأنباري: ولا خلاف بين أهل العربية في أن المطلع والمطلع كلاهما يعنى بهما المكان الذي تطلع منه الشمس . ويقولون: ما كان على فعل يفعل ، فالمصدر واسم الموضع يأتيان على المفعل، كقولهم: المدخل للدخول، والموضع الذي يدخل منه، إلا أحد عشر حرفا جاءت مكسورة، إذا أريد بها المواضع، وهي: المطلع، والمسكن، والمنسك، والمشرق، والمغرب، والمسجد، والمنبت، والمجزر، والمفرق، والمسقط، [ ص: 188 ] والمهبل الموضع الذي تضع فيه الناقة ; وخمسة من هؤلاء الأحد عشر حرفا سمع فيهن الكسر والفتح: المطلع والمطلع، والمنسك والمنسك، والمجزر والمجزر، والمسكن والمسكن، والمنبت والمنبت ; فقرأ الحسن على الأصل من احتمال المفعل الوجهين الموصوفين [ بفتح العين وكسرها ]، وقراءة العامة على اختيار العرب وما كثر على ألسنتها، وخصت الموضع بالكسر وآثرت المصدر بالفتح . قال أبو عمرو: ( المطلع ) بالكسر: الموضع الذي تطلع فيه، و( المطلع ) بالفتح: الطلوع . قال ابن الأنباري: هذا هو الأصل، ثم إن العرب تتسع فتجعل الاسم نائبا عن المصدر، فيقرؤون: ( حتى مطلع الفجر ) [ القدر: 5 ] بالكسر، وهم يعنون: الطلوع ; ويقرأ من قرأ: ( مطلع الشمس ) بالفتح على أنه موضع بمنزلة المدخل الذي هو اسم للموضع الذي يدخل منه .

    قوله تعالى: " كذلك " فيه أربعة أقوال:

    أحدها: كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها .

    والثاني: أتبع سببا كما أتبع سببا .

    والثالث: كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم، كذلك وجد هؤلاء عند مطلعها وحكم فيهم .

    والرابع: أن المعنى: كذلك أمرهم كما قصصنا عليك، ثم استأنف فقال: " وقد أحطنا بما لديه " ; أي: بما عنده ومعه من الجيوش والعدد . وحكى أبو سليمان الدمشقي: " بما لديه " ; أي: بما عند مطلع الشمس . وقد سبق معنى الخبر [ الكهف: 68 ] .

    ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن [ ص: 189 ] يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا .

    قوله تعالى: " ثم أتبع سببا " ; أي: طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب، " حتى إذا بلغ بين السدين " قال وهب بن منبه: هما جبلان منيفان في السماء، من ورائهما البحر ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي بلاد أرمينية . وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال: الجبلان من قبل أرمينية وأذربيجان . واختلف القراء في " السدين " فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم بفتح السين . وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي بضمها .

    وهل المعنى واحد أم لا ؟ فيه قولان:

    أحدها: أنه واحد . قال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسد ما وراءه، فهو سد وسد، نحو: الضعف والضعف، والفقر والفقر . قال الكسائي وثعلب: السد والسد لغتان بمعنى واحد، وهذا مذهب الزجاج .

    والثاني: أنهما يختلفان .

    وفي الفرق بينهما قولان:

    أحدهما: أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم، وما هو من فعل [ ص: 190 ] الآدميين فهو مفتوح، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو عبيدة . قال الفراء: وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين .

    والثاني: أن ( السد ) بفتح السين: الحاجز بين الشيئين، و( السد ) بضمها: الغشاوة في العين، قاله أبو عمرو بن العلاء .

    قوله تعالى: " وجد من دونهما " يعني: أمام السدين، " قوما لا يكادون يفقهون قولا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( يفقهون قولا ) بفتح الياء ; أي: لا يكادون يفهمونه . قال ابن الأنباري: قال اللغويون: معناه: أنهم يفهمون بعد إبطاء، وهو كقوله: وما كادوا يفعلون [ البقرة: 71 ] . قال المفسرون: وإنما كانوا كذلك ; لأنهم لا يعرفون غير لغتهم . وقرأ حمزة والكسائي: ( يفقهون ) بضم الياء، أراد: يفهمون غيرهم . وقيل: كلم ذا القرنين عنهم مترجمون ترجموا .

    قوله تعالى: " إن يأجوج ومأجوج " هما اسمان أعجميان، وقد همزهما عاصم . قال الليث: الهمز لغة رديئة . قال ابن عباس: يأجوج رجل ومأجوج رجل، وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام، فيأجوج ومأجوج عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء، وهم شبر وشبران وثلاثة أشبار . وقال علي عليه السلام: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول، ولهم من الشعر ما يواريهم من الحر والبرد . وقال الضحاك: هم جيل من الترك . وقال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد، فبقيت خارجه . وروى شقيق عن حذيفة، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: " يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة [ ألف ] أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه كل قد [ ص: 191 ] حمل السلاح . قلت: يا رسول الله ; صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز . قلت: يا رسول الله ; وما الأرز ؟ قال: شجر بالشام، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش، ولا جمل ولا خنزير، إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية " .

    قوله تعالى: " مفسدون في الأرض " في هذا الفساد أربعة أقوال:

    أحدها: أنهم كانوا يفعلون فعل قوم لوط، قاله وهب بن منبه .

    والثاني: أنهم كانوا يأكلون الناس، قاله سعيد بن عبد العزيز .

    والثالث: يخرجون إلى الأرض الذين شكوا منهم أيام الربيع، فلا يدعون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه إلى أرضهم، قاله ابن السائب .

    والرابع: كانوا يقتلون الناس، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: " فهل نجعل لك خرجا " قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو ، وابن عامر، وعاصم: ( خرجا ) بغير ألف . وقرأ حمزة والكسائي: ( خراجا ) بألف . وهل بينهما فرق ؟ فيه قولان:

    أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة والليث .

    والثاني: أن الخرج ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه، قاله أبو عمرو بن العلاء . قال المفسرون: المعنى: هل نخرج إليك من أموالنا شيئا كالجعل لك ؟ [ ص: 192 ]

    قوله تعالى: " ما مكني " وقرأ ابن كثير: ( مكنني ) بنونين، وكذلك هي في مصاحف مكة . قال الزجاج: من قرأ: ( مكني ) بالتشديد، أدغم النون في النون لاجتماع النونين . ومن قرأ: ( مكنني ) أظهر النونين ; لأنهما من كلمتين، الأولى من الفعل، والثانية تدخل مع الاسم المضمر .

    وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان:

    أحدهما: أنه العلم بالله وطلب ثوابه .

    والثاني: ما ملك من الدنيا . والمعنى: الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي .

    قوله تعالى: " فأعينوني بقوة " فيها قولان:

    أحدهما: أنها الرجال، قاله مجاهد ومقاتل .

    والثاني: الآلة، قاله ابن السائب . فأما الردم فهو الحاجز ; قال الزجاج: والردم في اللغة أكبر من السد ; لأن الردم: ما جعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مردم: إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة .

    قوله تعالى: " آتوني زبر الحديد " قرأ الجمهور: ( ردما آتوني ) ; أي: أعطوني . وروى أبو بكر عن عاصم: ( ردم ايتوني ) بكسر التنوين ; أي: جيئوني بها . قال ابن عباس: احملوها إلي . وقال مقاتل: أعطوني . وقال الفراء: المعنى: إيتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف . فأما الزبر فهي القطع، واحدتها: زبرة، والمعنى: فأتوه بها فبناه، " حتى إذا ساوى " روى أبان: ( إذا سوى ) بتشديد الواو من غير ألف . قال الفراء: ساوى وسوى سواء . واختلف القراء في " الصدفين " فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( الصدفين ) بضم الصاد والدال، وهي لغة حمير . وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم: ( الصدفين ) بضم الصاد وتسكين الدال . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، [ ص: 193 ] وحفص عن عاصم، وخلف بفتح الصاد والدال جمعيا، وهي لغة تميم، واختارها ثعلب . وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر: ( الصدفين ) بفتح الصاد ورفع الدال . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والزهري، والجحدري برفع الصاد وفتح الدال . قال ابن الأنباري: ويقال: صدف، على مثال: نغر، وكل هذه لغات في الكلمة . قال أبو عبيدة: الصدفان: جنبا الجبل . قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل: صدفان، إذا تحاذيا لتصادفهما ; أي: لتلاقيهما . قال المفسرون: حشا ما بين الجبلين بالحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم، ووضع عليها المنافيخ، ثم " قال انفخوا " فنفخوا، " حتى إذا جعله " يعني: الحديد، وقيل: الهاء ترجع إلى ما بين الصدفين، " نارا " ; أي: كالنار ; لأن الحديد إذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار . " قال آتوني " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: ( آتوني ) ممدودة، والمعنى: أعطوني . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: ( إيتوني ) مقصورة، والمعنى: جيئوني به أفرغه عليه .

    وفي القطر أربعة أقوال:

    أحدها: أنه النحاس، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، والزجاج . والثاني: أنه الحديد الذائب، قاله أبو عبيدة . والثالث: الصفر المذاب، قاله مقاتل . والرابع: الرصاص، حكاه ابن الأنباري . قال المفسرون: أذاب القطر ثم صبه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، حتى صار جبلا صلدا من حديد وقطر . قال قتادة: فهو كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء .

    قوله تعالى: " فما اسطاعوا " أصله: فما استطاعوا، فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد، أحبوا التخفيف فحذفوا . قال ابن الأنباري: إنما تقول العرب: اسطاع، تخفيفا، كما قالوا: سوف يقوم، وسيقوم، فأسقطوا الفاء . [ ص: 194 ]

    قوله تعالى: " أن يظهروه " ; أي: يعلوه، يقال: ظهر فلان فوق البيت: إذا علاه، والمعنى: ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وإملاسه . " وما استطاعوا له نقبا " من أسفله ; لشدته وصلابته . وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا، فيعودون إليه، فيرونه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله عز وجل أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله، ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس " ، وذكر باقي الحديث، وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب " الحدائق " فكرهت التطويل هاهنا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #368
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (368)
    صــ 195 إلى صــ 202





    قوله تعالى: " قال هذا رحمة من ربي " لما فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا . وفيما أشار إليه قولان: [ ص: 195 ]

    أحدهما: أنه الردم، قاله مقاتل، قال: فالمعنى: هذا نعمة من ربي على المسلمين ; لئلا يخرجوا إليهم .

    والثاني: أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: " فإذا جاء وعد ربي " فيه قولان:

    أحدهما: القيامة . والثاني: وعده لخروج يأجوج ومأجوج .

    قوله تعالى: " جعله دكا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( دكا ) منونا غير مهموز ولا ممدود . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( دكاء ) ممدودة مهموزة بلا تنوين . وقد شرحنا معنى الكلمة في ( الأعراف: 143 ) .

    قوله تعالى: " وكان وعد ربي حقا " ; أي: بالثواب والعقاب .
    وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا .

    قوله تعالى: " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " في المشار إليهم ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنهم يأجوج ومأجوج . ثم في المراد بـ " يومئذ " قولان: أحدهما: أنه يوم انقضى أمر السد، تركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين لكثرتهم، وقيل: ماجوا متعجبين من السد . والثاني: أنه يوم يخرجون من السد، تركوا يموج بعضهم في بعض .

    والثاني: أنهم الكفار .

    والثالث: أنهم جميع الخلائق ; الجن والإنس يموجون حيارى . فعلى هذين القولين، المراد باليوم المذكور: يوم القيامة . [ ص: 196 ]

    قوله تعالى: " ونفخ في الصور " هذه نفخة البعث . وقد شرحنا معنى " الصور " في ( الأنعام: 73 ) .

    قوله تعالى: " وعرضنا جهنم " ; أي: أظهرناها لهم حتى شاهدوها .

    قوله تعالى: " الذين كانت أعينهم " ، يعني: أعين قلوبهم " في غطاء " ; أي: في غفلة " عن ذكري " ; أي: عن توحيدي والإيمان بي وبكتابي، " وكانوا لا يستطيعون سمعا " هذا لعداوتهم وعنادهم، وكراهتهم ما ينذرون به، كما تقول لمن يكره قولك: ما تقدر أن تسمع كلامي .
    أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا .

    قوله تعالى: " أفحسب الذين كفروا " ; أي: أفظن المشركون " أن يتخذوا عبادي " في هؤلاء العباد ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس . والثاني: الأصنام، قاله مقاتل . والثالث: الملائكة، والمسيح، وعزير، وسائر المعبودات من دونه، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى: " من دوني " فتح هذه الياء نافع وأبو عمرو . وجواب الاستفهام في هذه الآية محذوف، وفي تقديره قولان:

    أحدهما: أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء، كلا بل هم أعداء لهم يتبرؤون منهم .

    والثاني: أن يتخذوهم أولياء ولا أغضب ولا أعاقبهم . وروى أبان عن عاصم، وزيد عن يعقوب: ( أفحسب ) بتسكين السين وضم الباء، وهي قراءة علي عليه السلام، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن يعمر، وابن محيصن، ومعناها: أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء ؟ [ ص: 197 ]

    فأما ( النزل ) ففيه قولان:

    أحدهما: أنه ما يهيأ للضيف والعسكر، قاله ابن قتيبة .

    والثاني: أنه المنزل، قاله الزجاج .
    قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا .

    قوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " فيهم قولان:

    أحدهما: أنهم القسيسون والرهبان، قاله علي عليه السلام والضحاك .

    والثاني: اليهود والنصارى، قاله سعد بن أبي وقاص .

    قوله تعالى: " أعمالا " منصوب على التمييز ; لأنه لما قال: " بالأخسرين " كان ذلك مبهما لا يدل على ما خسروه، فبين ذلك في أي نوع وقع .

    قوله تعالى: " الذين ضل سعيهم " ; أي: بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم، فرؤساؤهم يعلمون الصحيح ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم، وأتباعهم مقلدون بغير دليل . " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم " جحدوا دلائل توحيده وكفروا بالبعث والجزاء، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء، " فحبطت أعمالهم " ; أي: بطل اجتهادهم ; لأنه خلا عن الإيمان، " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وقرأ ابن مسعود والجحدري: ( فلا يقيم ) بالياء . [ ص: 198 ]

    وفي معناه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه إنما يثقل الميزان بالطاعة، وإنما توزن الحسنات والسيئات، والكافر لا طاعة له .

    والثاني: أن المعنى: لا نقيم لهم قدرا . قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية: يقال: ما لفلان عندنا وزن ; أي: قدر ; لخسته . فالمعنى: أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة . وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب، فلا يزن جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " .

    والثالث: أنه قال: " فلا نقيم لهم " ; لأن الوزن عليهم لا لهم، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " ذلك جزاؤهم " ; أي: الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخسة قدرهم، ثم ابتدأ فقال: " جزاؤهم جهنم " ، وقيل: المعنى: ذلك التصغير لهم وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال .

    قوله تعالى: " بما كفروا " ; أي: بكفرهم واتخاذهم " آياتي " التي أنزلتها " ورسلي هزوا " ; أي: مهزوءا به . [ ص: 199 ]

    إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا .

    قوله تعالى: " كانت لهم جنات الفردوس " قال ابن الأنباري: كانت لهم في علم الله قبل أن يخلقوا . وروى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " جنان الفردوس أربع، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيها، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " . وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس " . قال أبو أمامة: الفردوس: سرة الجنة . قال مجاهد: الفردوس: البستان بالرومية . وقال كعب والضحاك: جنات الفردوس: جنات الأعناب . قال الكلبي والفراء: الفردوس: البستان الذي فيه الكرم . وقال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتف، [ ص: 200 ] والأغلب عليه العنب . وقال ثعلب: كل بستان يحوط عليه فهو فردوس، قال عبد الله بن رواحة:

    في جنات الفردوس ليس يخافون خروجا عنها ولا تحويلا

    وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: قال الزجاج: الفردوس أصله رومي أعرب، وهو البستان، كذلك جاء في التفسير، وقد قيل: الفردوس تعرفه العرب، وتسمي الموضع الذي فيه كرم: فردوسا . وقال أهل اللغة: الفردوس مذكر، وإنما أنث في قوله تعالى: يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ المؤمنون: 11 ] ; لأنه عنى به الجنة . وقال الزجاج: وقيل: الفردوس: الأودية التي تنبت ضروبا من النبت، وقيل: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، قال: والفردوس أيضا بالسريانية كذا لفظه: فردوس، قال: ولم نجده في أشعار العرب إلا في شعر حسان، وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين ; لأنه عند أهل كل لغة كذلك، وبيت حسان:


    فإن ثواب الله كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد


    وقال ابن الكلبي بإسناده: الفردوس: البستان بلغة الروم . وقال الفراء: وهو عربي أيضا، والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوسا . وقال السدي: الفردوس أصله بالنبطية ( فرداسا ) . وقال عبد الله بن الحارث: الفردوس: الأعناب . وقد شرحنا معنى قوله: " نزلا " آنفا .

    قوله تعالى: " لا يبغون عنها حولا " قال الزجاج: لا يريدون عنها تحولا، [ ص: 201 ] يقال: قد حال من مكانه حولا، كما قالوا في المصادر: صغر صغرا، وعظم عظما، وعادني حبها عودا، قال: وقد قيل أيضا: إن الحول: الحيلة، فيكون المعنى: لا يحتالون منزلا غيرها .

    فإن قيل: قد علم أن الجنة كثيرة الخير، فما وجه مدحها بأنهم يبغون عنها حولا ؟

    فالجواب: أن الإنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه، فيحب أن ينتقل إلى دار أخرى، وقد يمل، والجنة على خلاف ذلك .
    قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .

    قوله تعالى: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي " سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء: 85 ]، قالت اليهود: كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء ؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس . ومعنى الآية: لو كان ماء البحر مدادا يكتب به . قال مجاهد: [ والمعنى ]: لو كان البحر مدادا للقلم، والقلم يكتب . قال ابن الأنباري: سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء . وقرأ الحسن والأعمش: ( مددا لكلمات ربي ) بغير ألف .

    قوله تعالى: " قبل أن تنفد كلمات ربي " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم: ( تنفد) بالتاء . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( ينفد ) بالياء . قال أبو علي: التأنيث أحسن ; لأن المسند إليه الفعل مؤنث، والتذكير حسن ; لأن التأنيث ليس بحقيقي، وإنما لم تنفد كلمات الله ; لأن كلامه صفة من صفات [ ص: 202 ] ذاته، ولا يتطرق على صفاته النفاد . " ولو جئنا بمثله " ; أي: بمثل البحر " مددا " ; أي: زيادة، والمدد: كل شيء زاد في شيء .

    فإن قيل: لم قال في أول الآية: " مدادا " ، وفي آخرها: " مددا " ، وكلاهما بمعنى واحد، واشتقاقهما غير مختلف ؟

    فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: لما كان الثاني آخر آية، وأواخر الآيات هاهنا أتت على الفعل والفعل، كقوله: " نزلا " ، " هزوا " ، " حولا " ، كان قوله: " مددا " أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد، واتفاق المقاطع عند أواخر الآي، وانقضاء الأبيات، وتمام السجع والنثر، أخف على الألسن وأحلى موقعا في الأسماع، فاختلفت اللفظتان لهذه [ العلة ] . وقد قرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، وابن محيصن: ( ولو جئنا بمثله مدادا )، فحملوها على الأولى ولم ينظروا إلى المقاطع . وقراءة الأولين أبين حجة وأوضح منهاجا .
    قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .

    قوله تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم " قال ابن عباس: علم الله تعالى رسوله التواضع ; لئلا يزهى على خلقه، فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره، إلا أنه أكرم بالوحي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #369
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    الحلقة (369)
    صــ 203 إلى صــ 210



    قوله تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه " سبب نزولها أن جندب بن زهير الغامدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل [ لله تعالى ]، فإذا اطلع عليه [ ص: 203 ] سرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، ولا يقبل ما روئي فيه " ، فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن عباس . وقال طاووس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحب الجهاد [ في سبيل الله ]، وأحب أن يرى مكاني، فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيذكر ذلك مني وأحمد عليه، فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية .

    وفي قوله: " فمن كان يرجو " قولان: أحدهما: يخاف، قاله ابن قتيبة . والثاني: يأمل، وهو اختيار الزجاج . وقال ابن الأنباري: المعنى: فمن كان يرجو لقاء ثواب ربه . قال المفسرون: وذلك يوم البعث والجزاء . " فليعمل عملا صالحا " لا يرائي به، " ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " قال سعيد بن جبير: لا يرائي . قال معاوية بن أبي سفيان: هذه آخر آية نزلت من القرآن .
    [ ص: 204 ]

    سُورَةُ مَرْيَمَ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ سَجْدَتِهَا فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ . وَقَالَ هِبَةُ اللَّهِ الْمُفَسِّرُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آَيَتَيْنِ مِنْهَا، قَوْلُهُ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَالَّتِي تَلِيهَا [ مَرْيَمَ: 59، 60 ] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " كهيعص " قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ( كَهَيَعص ذِكْرُ ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ، وَتَبْيِينِ الدَّالِ الَّتِي فِي هِجَاءِ ( صَادٍ ) . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: ( كَهَيَعص ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَيُدْغِمُ الدَّالَ فِي الذَّالِ . وَكَانَ نَافِعٌ يَلْفِظُ بِالْهَاءِ وَالْيَاءِ بَيْنَ الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَلَا يُدْغِمُ الدَّالَ الَّتِي فِي هِجَاءِ ( صَادٍ ) فِي الذَّالِ مِنْ ( ذِكْرِ ) . وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْكِسَائِيُّ لَا يُبَيِّنُ الدَّالَ، وَعَاصِمٌ [ ص: 205 ] يُبَيِّنُهَا . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَيُدْغِمَانِ . وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: ( كَهُيَعص ) بِرَفْعِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ ( الْبَقَرَةِ ) مَا يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ هَذَا الْجِنْسِ . وَقَدْ خَصَّ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْمَذْكُورَةَ هَاهُنَا بِأَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ . ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْكَافِ مِنْ أَيِّ اسْمٍ هُوَ، عَلَى أَرْبَعَةِ . أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ الْكَبِيرِ . وَالثَّانِي: مِنَ الْكَرِيمِ . وَالثَّالِثُ: مِنَ الْكَافِي، رَوَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَلِكِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ . فَأَمَّا الْهَاءُ فَكُلُّهُمْ قَالُوا: هِيَ مِنِ اسْمِهِ الْهَادِي، إِلَّا الْقُرَظِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: مِنِ اسْمِهِ اللَّهُ . وَأَمَّا الْيَاءُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنْ حَكِيمٍ . وَالثَّانِي: مِنْ رَحِيمٍ . وَالثَّالِثُ: مِنْ أَمِينٍ، رَوَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَأَمَّا الْعَيْنُ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنْ عَلِيمٍ . وَالثَّانِي: مِنْ عَالِمٍ . وَالثَّالِثُ: مِنْ عَزِيزٍ، رَوَاهَا أَيْضًا سَعِيدُ [ بْنُ جُبَيْرٍ ] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا مِنْ عَدْلٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ . وَأَمَّا الصَّادُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنْ صَادِقٍ . وَالثَّانِي: مِنْ صَدُوقٍ، رَوَاهُمَا سَعِيدُ [ بْنُ جُبَيْرٍ ] أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: مِنَ الصَّمَدِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ .

    وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ " كهيعص " قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: [ يَا ] كهيعص اغْفِرْ لِي . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْقَسَمُ بِهَذَا وَالدُّعَاءُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ يَدُلُّ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ فَدَعَا بِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا كَافِي، [ ص: 206 ] يَا هَادِي، يَا عَالِمُ، يَا صَادِقُ، وَإِذَا أَقْسَمَ بِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالْكَافِي الْهَادِي الْعَالِمُ الصَّادِقُ، وَأُسْكِنَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ ; لِأَنَّهَا حُرُوفُ تَهَجٍّ، النِّيَّةُ فِيهَا الْوَقْفُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ .

    وَالرَّابِعُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالُوا: هَايَا، وَلَمْ يَقُولُوا فِي الْكَافِ: كَا، وَفِي الْعَيْنِ: عَا، وَفِي الصَّادِ: صَا، لِتَتَّفِقَ الْمَبَانِي كَمَا اتَّفَقَتِ الْعِلَلُ ؟

    فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ، فَقَالَ: حُرُوفُ الْمُعْجَمِ التِّسْعَةُ وَالْعِشْرُونَ تَجْرِي مَجْرَى الرِّسَالَةِ وَالْخُطْبَةِ، فَيَسْتَقْبِحُو نَ فِيهَا اتِّفَاقَ الْأَلْفَاظِ وَاسْتِوَاءَ الْأَوْزَانِ، كَمَا يَسْتَقْبِحُونَ ذَلِكَ فِي خُطَبِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ ، فَيُغَيِّرُونَ بَعْضَ الْكَلِمِ لِيَخْتَلِفَ الْوَزْنُ وَتَتَغَيَّرَ الْمَبَانِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْذَبَ عَلَى الْأَلْسُنِ وَأَحْلَى فِي الْأَسْمَاعِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ " قَالَ الزَّجَّاجُ: الذِّكْرُ مَرْفُوعٌ بِالْمُضْمَرِ، الْمَعْنَى: هَذَا الَّذِي نَتْلُو عَلَيْكَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، الْمَعْنَى: ذِكْرُ رَبِّكَ عَبْدَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَ " زَكَرِيَّا " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " إِذْ نَادَى رَبَّهُ " النِّدَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الدُّعَاءِ .

    وَفِي عِلَّةِ إِخْفَائِهِ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهَا: لِيَبْعُدَ عَنِ الرِّيَاءِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ .

    وَالثَّانِي: لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يَسْأَلُ الْوَلَدَ عَلَى الْكِبَرِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَالثَّالِثُ: لِئَلَّا يُعَادِيَهُ بَنُو عَمِّهِ وَيَظُنُّوا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَلُوا مَكَانَهُ بَعْدَهُ، ذَكَرَهُ [ ص: 207 ] أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إِسْرَارُ الدُّعَاءِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ " .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي " وَقَرَأَ مُعَاذُ الْقَارِئُ وَالضَّحَّاكُ: ( وَهُنَ ) بِضَمِّ الْهَاءِ ; أَيْ: ضَعُفَ . قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: وَهَنَ الْعَظْمُ، وَوَهِنَ، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْمُسْتَقْبَ لُ عَلَى الْحَالَيْنِ كِلَيْهِمَا: يَهِنُ . وَأَرَادَ أَنَّ قُوَّةَ عِظَامِهِ قَدْ ذَهَبَتْ لِكِبَرِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَظْمَ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّرْكِيبِ . وَقَالَ قَتَادَةُ: شَكَا ذَهَابَ أَضْرَاسِهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا " يَعْنِي: انْتَشَرَ الشَّيْبُ فِيهِ كَمَا يَنْتَشِرُ شُعَاعُ النَّارِ فِي الْحَطَبِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَات ِ . " وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ " ; أَيْ: بِدُعَائِي إِيَّاكَ، " رَبِّ شَقِيًّا " ; أَيْ: لَمْ أَكُنْ أَتْعَبُ بِالدُّعَاءِ ثُمَّ أَخِيبُ ; لِأَنَّكَ قَدْ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ، يُقَالُ: شَقِيَ فُلَانٌ بِكَذَا: إِذَا تَعِبَ بِسَبَبِهِ وَلَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ " يَعْنِي: الَّذِينَ يَلُونَهُ فِي النَّسَبِ، وَهُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعُصْبَةِ، " مِنْ وَرَائِي " ; أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَوْتِي .

    وَفِي مَا خَافَهُمْ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَرِثُوهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . [ ص: 208 ]

    فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ فَقَالَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِنَبِيٍّ أَنْ يُنَفِّسَ عَلَى قَرَابَاتِهِ بِالْحُقُوقِ الْمَفْرُوضَةِ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ ؟

    فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَبِيًّا، وَالنَّبِيُّ لَا يُورَثُ، خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ فَيَأْخُذُوا مَا لَا يَجُوزُ لَهُمْ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ طَبْعُ الْبَشَرِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَتَوَلَّى مَالَهُ وَلَدُهُ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

    قُلْتُ: وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَلَّى مَالَهُ وَإِنْ َلَمْ يَكُنْ مِيرَاثًا، فَأَحَبَّ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَلَدُهُ .

    وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَافَ تَضْيِيعَهُمْ لِلدِّينِ وَنَبْذَهُمْ إِيَّاهُ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .

    وَقَرَأَ عُثْمَانُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ أَبِي شُرَيْحٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ: ( خَفَّتْ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ عَلَى مَعْنَى ( قَلَّتْ ) ; فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِنَّمَا خَافَ عَلَى عِلْمِهِ وَنُبُوَّتِهِ أَلَّا يُورَثَا فَيَمُوتُ الْعِلْمُ . وَأَسْكَنَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ يَاءَ ( الْمَوَالِيَ ) .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " مِنْ وَرَائِي " أَسْكَنَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْيَاءَ، وَفَتَحَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ قُنْبُلٍ . وَرَوَى عَنْهُ شِبْلٌ: ( وَرَايَ )، مِثْلُ: ( عَصَايَ ) .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ " ; أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ، " وَلِيًّا " ; أَيْ: وَلَدًا صَالِحًا يَتَوَلَّانِي .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ " قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ: ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ ) بِرَفْعِهِمَا . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ : ( يَرِثْنِي وَيَرِثْ ) بِالْجَزْمِ فِيهِمَا . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ [ ص: 209 ] فَهُوَ عَلَى الصِّفَةِ لِلْوَلِيِّ، فَالْمَعْنَى: هَبْ لِي وَلِيًّا وَارِثًا، وَمَنْ جَزَمَ فَعَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ وَهَبْتَهُ لِي وَرِثَنِي .

    وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا المِيرَاثِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهَا: يَرِثُنِي مَالِي، وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو صَالِحٍ .

    وَالثَّانِي: يَرْثِي الْعِلْمَ، وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ الْمُلْكَ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ دُونَ الْمُلْكِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا .

    وَالثَّالِثُ: يَرِثُنِي نُبُوَّتِي وَعِلْمِي، وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ أَيْضًا، قَالَهُ الْحَسَنُ .

    وَالرَّابِعُ: يَرِثُنِي النُّبُوَّةَ، وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ الْأَخْلَاقَ، قَالَهُ عَطَاءٌ . قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ زَكَرِيَّا مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ آَلَ يَعْقُوبَ كَانُوا أَخْوَالَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِيَعْقُوبَ أَبِي يُوسُفَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ هَذَا وَعِمْرَانَ - أَبُو مَرْيَمَ - أَخَوَيْنِ .

    وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِيرَاثَ الْمَالِ لِوُجُوهٍ:

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ " . [ ص: 210 ]

    وَالثَّانِي: [ أَنَّهُ ] لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَسَّفَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَى مَصِيرِ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِذَا وَصَلَ إِلَى وَارِثِهِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ شَرْعًا .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ . وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا " قَالَ اللُّغَوِيُّونَ : أَيْ: مَرْضِيًّا، فَصُرِفَ عَنْ مَفْعُولٍ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا قَالُوا: مَقْتُولٌ وَقَتِيلٌ .
    يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا .

    قوله تعالى: " يا زكريا إنا نبشرك " في الكلام إضمار، تقديره: فاستجاب الله له، فقال: " يا زكريا إنا نبشرك " . وقرأ حمزة: ( نبشرك ) بالتخفيف . وقد شرحنا هذا في ( آل عمران: 39 ) .

    قوله تعالى: " لم نجعل له من قبل سميا " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: لم يسم يحيى قبله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، وابن زيد، والأكثرون .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #370
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    الحلقة (370)
    صــ 211 إلى صــ 218





    فإن اعترض معترض فقال: ما وجه المدحة باسم لم يسم به أحد قبله، [ ص: 211 ] ونرى كثيرا من الأسماء لم يسبق إليها ؟ فالجواب: أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولى تسميته، ولم يكل ذلك إلى أبويه، فسماه باسم لم يسبق إليه .

    والثاني: لم تلد العواقر مثله ولدا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . فعلى هذا يكون المعنى: لم نجعل له نظيرا .

    والثالث: لم نجعل له من قبل مثلا وشبها، قاله مجاهد . فعلى هذا يكون عدم الشبه من حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية . وما بعد هذا مفسر في ( آل عمران: 39 ) إلى قوله: " وكانت امرأتي عاقرا " .

    وفي معنى " كانت " قولان:

    أحدهما: أنه توكيد للكلام، فالمعنى: وهي عاقر، كقوله: كنتم خير أمة [ آل عمران: 110 ] ; أي: أنتم .

    والثاني: أنها كانت منذ كانت عاقرا، لم يحدث ذلك بها، ذكرهما ابن الأنباري، واختار الأول .

    قوله تعالى: " وقد بلغت من الكبر عتيا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: ( عتيا )، و( بكيا ) [ مريم: 58 ]، و( صليا ) [ مريم: 70 ] بضم أوائلها . وقرأ حمزة والكسائي بكسر أوائلها، وافقهما حفص عن عاصم، إلا في قوله: ( بكيا ) فإنه ضم أوله . وقرأ ابن عباس ومجاهد: ( عسيا ) بالسين . قال مجاهد: ( عتيا ): هو قحول العظم . وقال ابن قتيبة ; أي: يبسا، يقال: عتا وعسا بمعنى واحد . قال الزجاج: كل شيء انتهى فقد عتا يعتو عتيا، وعتوا وعسوا وعسيا .

    قوله تعالى: " قال كذلك " ; أي: الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكبر، " قال ربك هو علي هين " ; أي: خلق يحيى علي سهل . [ ص: 212 ] وقرأ معاذ القارئ وعاصم الجحدري: ( هين ) بإسكان الياء . " وقد خلقتك من قبل " ; أي: أوجدتك . قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( خلقتك ) . وقرأ حمزة والكسائي: ( خلقناك ) بالنون والألف . " ولم تك شيئا " المعنى: فخلق الولد كخلقك . وما بعد هذا مفسر في ( آل عمران: 39 ) إلى قوله: " ثلاث ليال سويا " . قال الزجاج: " سويا " منصوب على الحال، والمعنى: تمنع عن الكلام وأنت سوي . قال ابن قتيبة ; أي: سليما غير أخرس .

    قوله تعالى: " فخرج على قومه " وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها امرأته، " من المحراب " ; أي: من مصلاه، وقد ذكرناه في ( آل عمران: 39 ) .

    قوله تعالى: " فأوحى إليهم " فيه قولان:

    أحدهما: أنه كتب إليهم في كتاب، قاله ابن عباس .

    والثاني: أومأ برأسه ويديه، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: " أن سبحوا " ; أي: صلوا، " بكرة وعشيا " قد شرحناه في ( آل عمران: 39 )، والمعنى: أنه كان يخرج إلى قومه فيأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا، فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة إشارة .
    يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

    قوله تعالى: " يا يحيى " قال الزجاج: المعنى: فوهبنا له يحيى، وقلنا له: يا يحيى، " خذ الكتاب " يعني: التوراة، وكان مأمورا بالتمسك بها . وقال ابن الأنباري: [ ص: 213 ] المعنى: اقبل كتب الله كلها إيمانا بها واستعمالا لأحكامها . وقد شرحنا في ( البقرة: 63 ) معنى قوله: " بقوة " .

    قوله تعالى: " وآتيناه الحكم " فيه أربعة أقوال:

    أحدها: أنه الفهم، قاله مجاهد . والثاني: اللب، قاله الحسن وعكرمة . والثالث: العلم، قاله ابن السائب . والرابع: حفظ التوراة وعلمها، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقد زدنا هذا شرحا في سورة ( يوسف: 23 ) . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: من قرأ القرآن [ من ] قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي الحكم صبيا .

    فأما قوله: " صبيا " ففي سنه يوم أوتي الحكم قولان:

    أحدهما: أنه سبع سنين، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: ثلاث سنين، قاله قتادة ومقاتل .

    قوله تعالى: " وحنانا من لدنا " قال الزجاج: أي: وآتيناه حنانا . وقال ابن الأنباري: المعنى: وجعلناه حنانا لأهل زمانه .

    وفي الحنان ستة أقوال:

    أحدها: أنه الرحمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والفراء، وأبو عبيدة، وأنشد:


    تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا


    [ ص: 214 ] قال: وعامة ما يستعمل في المنطق على لفظ الاثنين، قال طرفة:


    أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض


    قال ابن قتيبة: ومنه يقال: تحنن علي، وأصله من حنين الناقة على ولدها . وقال ابن الأنباري: لم يختلف اللغويون أن الحنان: الرحمة، والمعنى: فعلنا ذلك رحمة لأبويه وتزكية له . والثاني: أنه التعطف من ربه عليه، قاله مجاهد . والثالث: أنه اللين، قاله سعيد بن جبير . والرابع: البركة، وروي عن ابن جبير أيضا . والخامس: المحبة، قاله عكرمة وابن زيد . والسادس: التعظيم، قاله عطاء بن أبي رباح .

    وفي قوله: " وزكاة " أربعة أقوال:

    أحدها: أنها العمل الصالح، قاله الضحاك وقتادة .

    والثاني: أن معنى الزكاة: الصدقة، فالتقدير: إن الله تعالى جعله صدقة تصدق بها على أبويه، قاله ابن السائب .

    والثالث: أن الزكاة: التطهير، قاله الزجاج .

    والرابع: أن الزكاة: الزيادة، فالمعنى: وآتيناه زيادة في الخير على ما وصف وذكر، قاله ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " وكان تقيا " قال ابن عباس: جعلته يتقيني لا يعدل بي غيري .

    قوله تعالى: " وبرا بوالديه " ; أي: وجعلناه برا بوالديه، والبر بمعنى [ ص: 215 ] البار، والمعنى: لطيفا بهما محسنا إليهما . والعصي بمعنى العاصي . وقد شرحنا معنى الجبار في ( هود: 59 ) .

    قوله تعالى: " وسلام عليه " فيه قولان:

    أحدهما: أنه السلام المعروف من الله تعالى . قال عطاء: سلام عليه مني في هذه الأيام، وهذا اختيار أبي سليمان .

    والثاني: أنه بمعنى السلامة، قاله ابن السائب .

    فإن قيل: كيف خص التسليم عليه بالأيام، وقد يجوز أن يولد ليلا ويموت ليلا ؟

    فالجواب: أن المراد باليوم: الحين والوقت، على ما بينا في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة: 3 ] .

    قال ابن عباس: وسلام عليه حين ولد . وقال الحسن البصري: التقى يحيى وعيسى، فقال يحيى لعيسى: أنت خير مني، فقال عيسى ليحيى: بل أنت خير مني، سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي . وقال سعيد بن جبير مثله، إلا أنه قال: أثنى الله عليك وأنا أثنيت على نفسي . وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخص الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة .
    واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى [ ص: 216 ] يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .

    قوله تعالى: " واذكر في الكتاب " يعني: القرآن، " مريم إذ انتبذت " قال أبو عبيدة: تنحت واعتزلت، " مكانا شرقيا " مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربي .

    قوله تعالى: " فاتخذت من دونهم " يعني: أهلها، " حجابا " ; أي: سترا وحاجزا، وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنها ضربت سترا، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن الشمس أظلتها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، [ وروي ] هذا المعنى عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: أنها اتخذت حجابا من الجدران، قاله السدي عن أشياخه .

    وفي سبب انفرادها عنهم قولان:

    أحدهما: [ أنها ] انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس .

    والثاني: لتفلي رأسها، قاله عطاء .

    قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا " وهو جبريل في قول الجمهور . وقال ابن الأنباري: صاحب روحنا وهو جبريل . والروح بمعنى: الروح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم، وإبطال طريق المصدر، ويجوز أن يراد بالروح هاهنا: الوحي، وجبريل صاحب الوحي .

    وفي وقت مجيئه إليها ثلاثة أقوال:

    [ ص: 217 ] أحدها: وهي تغتسل . والثاني: بعد فراغها ولبسها الثياب . والثالث: بعد دخولها بيتها . وقد قيل: المراد بالروح هاهنا: [ الروح ] الذي خلق منه عيسى، حكاه الزجاج والماوردي، وهو مضمون كلام أبي بن كعب فيما سنذكره عند قوله: ( فحملته ) . قال ابن الأنباري: وفيه بعد ; لقوله: " فتمثل لها بشرا سويا " ، والمعنى: تصور لها في صورة البشر التام الخلقة . وقال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه، جعد قطط حين طر شاربه . وقرأ أبو نهيك: ( فأرسلنا إليها روحنا ) بفتح الراء من الروح .

    قوله تعالى: " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " المعنى: إن كنت تتقي الله فستنتهي بتعوذي منك، هذا هو القول عند المحققين . وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي، وكان فاجرا، فظنته إياه، ذكره ابن الأنباري والماوردي . وفي قراءة علي عليه السلام، وابن مسعود، وأبي رجاء: ( إلا أن تكون تقيا ) .

    قوله تعالى: " قال إنما أنا رسول ربك " ; أي: فلا تخافي، " ليهب لك " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( لأهب لك ) بالهمز . وقرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: ( ليهب لك ) بغير همز . قال الزجاج: من قرأ: ( ليهب ) فالمعنى: أرسلني ليهب، ومن قرأ: ( لأهب ) فالمعنى: أرسلت إليك لأهب لك . وقال ابن الأنباري: المعنى: أرسلني يقول لك: أرسلت رسولي إليك لأهب لك .

    قوله تعالى: " غلاما زكيا " ; أي: طاهرا من الذنوب . والبغي: الفاجرة الزانية . قال ابن الأنباري: وإنما لم يقل: ( بغية ); لأنه وصف يغلب على النساء، فقلما تقول العرب: رجل بغي، فيجري مجرى حائض وعاقر . وقال غيره: [ ص: 218 ] إنما لم يقل: ( بغية ) ; لأنه مصروف عن وجهه، فهو ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) . ومعنى الآية: ليس لي زوج ولست بزانية، وإنما يكون الولد من هاتين الجهتين . " قال كذلك قال ربك " قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى: أنه يسير على أن أهب لك غلاما من غير أب . " ولنجعله آية للناس " ; أي: دلالة على قدرتنا كونه من غير أب . قال ابن الأنباري: إنما دخلت الواو في قوله: " ولنجعله " ; لأنها عاطفة لما بعدها على كلام مضمر محذوف، تقديره: قال ربك: خلقه علي هين، لننفعك به ولنجعله عبرة .

    قوله تعالى: " ورحمة منا " ; أي: لمن تبعه وآمن به، " وكان أمرا مقضيا " ; أي: وكان خلقه أمرا محكوما به، مفروغا عنه، سابقا في علم الله تعالى كونه .
    فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا .

    قوله تعالى: " فحملته " يعني: عيسى .

    وفي كيفية حملها له قولان:

    أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب درعها، فاستمر بها حملها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . قال السدي: نفخ في جيب درعها وكان مشقوقا من قدامها، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #371
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    الحلقة (371)
    صــ 219 إلى صــ 226



    والثاني: الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل من فيها، قاله أبي بن كعب . [ ص: 219 ]

    وفي مقدار حملها سبعة أقوال:

    أحدها: أنها حين حملت وضعت، قاله ابن عباس، والمعنى: أنه ما طال حملها، وليس المراد أنها وضعته في الحال ; لأن الله تعالى يقول: " فحملته فانتبذت به " ، وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتا يحتمل الانتباذ به .

    والثاني: أنها حملته تسع ساعات ووضعت من يومها، قاله الحسن .

    والثالث: تسعة أشهر، قاله سعيد بن جبير وابن السائب .

    والرابع: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل بن سليمان .

    والخامس: ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه الزجاج .

    والسادس: في ستة أشهر، حكاه الماوردي .

    والسابع: في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: " فانتبذت به " يعني: بالحمل، " مكانا قصيا " ; أي: بعيدا . وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: ( قاصيا ) . قال ابن إسحاق: مشت ستة أميال . قال الفراء: القصي والقاصي بمعنى واحد . وقال غير الفراء: القصي والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد . وإنما بعدت فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج .

    قوله تعالى: " فأجاءها المخاض " وقرأ عكرمة، وإبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري: ( المخاض ) بكسر الميم . قال الفراء: المعنى: فجاء بها المخاض، فلما ألقيت الباء، جعلت في الفعل ألفا، ومثله: آتنا غداءنا [ الكهف: 63 ] ; أي: [ ص: 220 ] بغدائنا، ومثله: آتوني زبر الحديد [ الكهف: 96 ] ; أي: بزبر الحديد . قال أبو عبيدة: أفعلها من جاءت هي، وأجاءها غيرها . وقال ابن قتيبة: المعنى: جاء بها وألجأها، وهو من حيث يقال: جاءت بي الحاجة إليك، وأجاءتني الحاجة إليك . والمخاض: الحمل . وقال غيره: المخاض: وجع الولادة . " إلى جذع النخلة " وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف . " قالت يا ليتني مت قبل هذا " اليوم أو هذا الأمر . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: ( مت ) بكسر الميم .

    وفي سبب قولها هذا قولان:

    أحدهما: أنها قالته حياء من الناس . والثاني: لئلا يأثموا بقذفها .

    قوله تعالى: " وكنت نسيا منسيا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر النون . وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: ( نسيا ) بفتح النون . قال الفراء: وأصحاب عبد الله يقرؤون: ( نسيا ) بفتح النون، وسائر العرب بكسرها، وهما لغتان، مثل: الجسر والجسر، والوتر والوتر، والفتح أحب إلي . قال أبو علي الفارسي: الكسر على اللغتين . وقال ابن الأنباري: من كسر النون قال: النسي: اسم لما ينسى، بمنزلة البغض اسم لما يبغض، والسب اسم لما يسب، والنسي بفتح النون: اسم لما ينسى أيضا، على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال: الرجل دنف ودنف، فالمكسور هو الوصف الصحيح، والمفتوح مصدر سد مسد الوصف، ويمكن أن يكون النسي والنسي اسمين لمعنى، كما يقال: الرطل والرطل .

    وللمفسرين في قوله تعالى: " نسيا منسيا " خمسة أقوال: [ ص: 221 ]

    أحدها: يا ليتني لم أكن شيئا، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطاء وابن زيد .

    والثاني: " وكنت نسيا منسيا " ; أي: دم حيضة ملقاة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة . قال الفراء: النسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها . وقال ابن الأنباري: هي خرق الحيض تلقيها المرأة، فلا تطلبها ولا تذكرها .

    والثالث: [ أنه من ] السقط، قاله أبو العالية والربيع .

    والرابع: أن المعنى: يا ليتني لا يدرى من أنا، قاله قتادة .

    والخامس: أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم، فيهون عليهم فلا يرجعون إليه، قاله ابن السائب . وقال أبو عبيدة: النسي والمنسي: ما ينسى من إداوة وعصا، يعني: أنه ينسى في المنزل، فلا يرجع إليه لاحتقار صاحبه إياه . وقال الكسائي: معنى الآية: ليتني كنت ما إذا ذكر لم يطلب .

    قوله تعالى: " فناداها من تحتها " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: ( من تحتها ) بفتح الميم والتاء . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: ( من تحتها ) بكسر الميم والتاء . فمن قرأ بكسر الميم ففيه وجهان: أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة . وقيل: كانت على نشز، فناداها الملك أسفل منها . والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها . قال ابن عباس: كل ما رفعت إليه طرفك فهو فوقك، وكل ما خفضت إليه طرفك فهو تحتك . ومن قرأ بفتح الميم ففيه الوجهان المذكوران . وكان الفراء يقول: ما خاطبها إلا الملك على القراءتين جميعا .

    قوله تعالى: " قد جعل ربك تحتك سريا " فيه قولان:

    [ ص: 222 ] أحدهما: أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين واللغويون، قال أبو صالح وابن جريج: هو الجدول بالسريانية .

    والثاني: أنه عيسى، كان سريا من الرجال، قاله الحسن، وعكرمة، [ وابن زيد ] . قال ابن الأنباري: وقد رجع الحسن عن هذا القول إلى القول الأول، ولو كان وصفا لعيسى، كان غلاما سريا أو سويا من الغلمان، وقلما تقول العرب: رأيت عندك نبيلا، حتى يقولوا: رجلا نبيلا .

    فإن قيل: كيف ناسب تسليتها أن قيل: لا تحزني، فهذا نهر يجري ؟

    فالجواب من وجهين: أحدهما: أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدم الطعام والشراب، والماء الذي تتطهر به، فقيل: لا تحزني قد أجرينا لك نهرا، وأطلعنا لك رطبا، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أنها حزنت لما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهرا، فجاءها من الأردن، وأخرج لها الرطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله تعالى في إيجاد عيسى، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: " وهزي إليك " الهز: التحريك .

    والباء في قوله تعالى: " بجذع النخلة " فيها قولان:

    أحدهما: أنها زائدة مؤكدة، كقوله تعالى: فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج: 15 ]، قال الفراء: معناه: فليمدد سببا . والعرب تقول: هزه وهز به، وخذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلق زيدا وتعلق به . وقال أبو عبيدة: هي مؤكدة، كقول الشاعر:


    نضرب بالسيف ونرجو بالفرج


    [ ص: 223 ] والثاني: أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهز، فهي مفيدة للإلصاق، قاله ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " تساقط " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والسكائي، وأبو بكر عن عاصم: ( تساقط ) بالتاء مشددة السين . وقرأ حمزة وعبد الوارث: ( تساقط ) بالتاء مفتوحة مخففة السين . وقرأ حفص عن عاصم: ( تساقط ) بضم التاء وكسر القاف مخففة السين . وقرأ يعقوب وأبو زيد عن المفضل: ( يساقط ) بالياء مفتوحة وتشديد السين وفتح القاف، فهذه القراءات المشاهير . وقرأ أبي بن كعب وأبو حيوة: ( تسقط ) بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف . وقرأ عبد الله بن عمرو، وعائشة، والحسن: ( يساقط ) بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف . وقرأ الضحاك وعمرو بن دينار: ( يسقط ) برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف . وقرأ عاصم الجحدري وأبو عمران الجوني مثله، إلا أنه بالتاء . وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر مثله، إلا أنه بالنون . وقرأ أبو رزين العقيلي وابن أبي عبلة: ( يسقط ) بالياء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف . وقرأ أبو السماك العدوي وابن حزام: ( تتساقط ) بتاءين مفتوحين وبألف . وقال الزجاج: من قرأ: ( يساقط )، فالمعنى: يتساقط، فأدغمت التاء في السين . ومن قرأ: ( تساقط ) فكذلك أيضا، وأنث لأن لفظ النخلة يؤنث . ومن قرأ: ( تساقط ) بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من ( تتساقط ) اجتماع التاءين . ومن قرأ: ( يساقط ) ذهب إلى معنى: يساقط الجذع عليك . ومن قرأ: ( نساقط ) بالنون، فالمعنى: نحن نساقط عليك، فنجعله لك آية . والنحويون يقولون: [ ص: 224 ] إن " رطبا " منصوب على التمييز إذا قلت: يساقط أو يتساقط، المعنى: يتساقط الجزع رطبا . وإذا قلت: تساقط بالتاء، فالمعنى: تتساقط النخلة رطبا .

    قوله تعالى: " جنيا " قال الفراء: الجني: المجتنى . وقال ابن الأنباري: هو الطري، والأصل: مجنو، صرف من مفعول إلى فعيل، كما يقال: قديد وطبيخ . وقال غيره: هو الطري بغباره . ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليها، سقط الرطب رطبا . وكان السلف يستحبون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام .

    قوله تعالى: " فكلي " ; أي: من الرطب، " واشربي " من النهر، " وقري عينا " بولادة عيسى عليه السلام . قال الزجاج: يقال: قررت به عينا أقر، بفتح القاف في المستقبل، وقررت في المكان أقر، بكسر القاف، " وعينا " منصوب على التمييز . وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال: معنى " وقري عينا " : ولتبرد دمعتك ; لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة . واشتقاق " قري " من القرور، وهو الماء البارد . وقال لنا أحمد بن يحيى: تفسير " قري عينا " : بلغت غاية أملك حتى تقر عينك من الاستشراف إلى غيره، واحتج بقول عمرو بن كلثوم:


    بيوم كريهة ضربا وطعنا أقر به مواليك العيونا


    أي: ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم، فقرت عينهم من تطلع إلى غيره .

    قوله تعالى: " فإما ترين " وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: ( ترئن ) بهمزة مكسورة من غير ياء ; أي: إن رأيت من البشر أحدا فقولي، وفيه إضمار تقديره: فسألك عن أمر ولدك . " فقولي إني نذرت للرحمن صوما " فيه قولان: [ ص: 225 ]

    أحدهما: صمتا، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والضحاك، وكذلك قرأ أبي بن كعب، وأنس بن مالك، وأبو رزين العقيلي: ( صمتا ) مكان قوله: " صوما " . وقرأ ابن عباس: ( صياما ) .

    والثاني: صوما عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة . وقال ابن زيد: كان المجتهد من بني إسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إلا من ذكر الله عز وجل . قال السدي: فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت . قال ابن مسعود: أمرت بالصمت ; لأنها لم تكن لها حجة عند الناس، فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها مما يبرئ بها ساحتها . وقيل: كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس . قال ابن الأنباري: الصوم في لغة العرب على أربعة معان، يقال: صوم لترك الطعام والشراب، وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذرق النعام .

    واختلف العلماء في مقدار سن مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنها ولدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبه .

    والثاني: بنت اثنتي عشرة سنة، قاله زيد بن أسلم .

    والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل .
    فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني [ ص: 226 ] مباركا أين ما كنت ?وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .

    قوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله " قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أتتهم به بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها . وقال في رواية الضحاك: انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتهم حملت عيسى فتلقتهم به، فذلك قوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله " .

    فإن قيل: " أتت به " يغني عن " تحمله " ، فلا فائدة للتكرير .

    فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهم السامع " فأتت به " أن يكون ساعيا على قدميه، فيكون سعيه آية كنطقه، فقطع ذلك التوهم، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مثل قول العرب: نظرت إلى فلان بعيني، فنفوا بذلك نظر العطف والرحمة، وأثبتوا [ أنه ] نظر عين . وقال ابن السائب: لما دخلت على قومها بكوا، وكانوا قوما صالحين، و " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: شيئا عظيما، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة . قال الفراء: الفري: العظيم، والعرب تقول: تركته يفري الفري: إذا عمل فأجاد العمل، ففضل الناس قيل هذا فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فما رأيت عبقريا يفري فري عمر " .

    والثاني: عجبا فائقا، قاله أبو عبيدة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #372
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    الحلقة (372)
    صــ 227 إلى صــ 234



    والثالث: شيئا مصنوعا، ومنه يقال: فريت الكذب وافتريته، قاله اليزيدي . [ ص: 227 ]

    قوله تعالى: " يا أخت هارون " في المراد بهارون هذا خمسة أقوال:

    أحدها: أنه أخ لها من أمها، وكان من أمثل فتى في بني إسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال الضحاك: كان من أبيها وأمها .

    والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس . وقال السدي: كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنسبت إليه لأنها من ولده .

    والثالث: أنه رجل صالح كان في بني إسرائيل، فشبهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: " يا أخت هارون " ، وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى ؟ فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " .

    والرابع: أن قوم هارون كان فيهم فساق وزناة، فنسبوها إليهم، قاله سعيد بن جبير .

    والخامس: أنه رجل من فساق بني إسرائيل شبهوها به، قاله وهب بن منبه . [ ص: 228 ]

    فعلى هذا يخرج في معنى ( الأخت ) قولان:

    أحدهما: أنها الأخت حقيقة . والثاني: المشابهة لا المناسبة، كقوله تعالى: وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها [ الزخرف: 48 ] .

    قوله تعالى: " ما كان أبوك " يعنون: عمران، " امرأ سوء " ; أي: زانيا، " وما كانت أمك " حنة، " بغيا " ; أي: زانية، فمن أين لك هذا الولد ؟

    قوله تعالى: " فأشارت " ; أي: أومأت، " إليه " ; أي: إلى عيسى فتكلم . وقيل: المعنى: أشارت إليه أن كلموه، وكان عيسى قد كلمها حين أتت قومها، وقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلموه تعجبوا من ذلك، و " قالوا كيف نكلم من كان " وفيها أربعة أقوال:

    أحدها: أنها زائدة، فالمعنى: كيف نكلم صبيا في المهد ؟

    والثاني: أنها في معنى وقع وحدث .

    والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلمه ؟ حكاها الزجاج، واختار الأخير منها . قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي ; أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء .

    والرابع: أن " كان " بمعنى صار، قاله قطرب .

    وفي المراد بالمهد قولان: أحدهما: حجرها، قاله نوف، وقتادة، والكلبي . والثاني: سرير الصبي المعروف، حكاه الكلبي أيضا .

    قال السدي: فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، فقال: إني عبد الله . قال المفسرون: إنما قدم ذكر العبودية ليبطل قول من ادعى فيه الربوبية . [ ص: 229 ]

    وفي قوله: " آتاني الكتاب " أسكن هذه الياء حمزة . وفي معنى الآية قولان:

    أحدهما: أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أمه، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقيل: علم التوراة والإنجيل وهو في بطن أمه .

    والثاني: قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة .

    وفي " الكتاب " قولان: أحدهما: أنه التوراة . والثاني: الإنجيل .

    قوله تعالى: " وجعلني نبيا " هذا وما بعده إخبار عما قضى الله له، وحكم له به ومنحه إياه مما سيظهر ويكون . وقيل: المعنى: يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا إذا بلغت، فحل الماضي محل المستقبل، كقوله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى [ المائدة: 116 ] .

    وفي وقت تكليمه لهم قولان:

    أحدهما: أنه كلمهم بعد أربعين يوما . والثاني: في يومه . وهو مبني على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم .

    قوله تعالى: " وجعلني مباركا أين ما كنت " روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، قال: " نفاعا حيثما توجهت " . وقال مجاهد: معلما للخير .

    وفي المراد بـ " الزكاة " قولان:

    أحدهما: زكاة الأموال، قاله ابن السائب . والثاني: الطهارة، قاله الزجاج . [ ص: 230 ]

    قوله تعالى: " وبرا بوالدتي " قال ابن عباس: لما قال هذا، ولم يقل: ( بوالدي ) علموا أنه ولد من غير بشر .

    قوله تعالى: " ولم يجعلني جبارا " ; أي: متعظما، " شقيا " عاصيا لربه، " والسلام علي يوم ولدت " قال المفسرون: السلامة علي من الله يوم ولدت حتى لم يضرني شيطان . وقد سبق تفسير الآية [ مريم: 15 ] .

    فإن قيل: لم ذكر هاهنا " السلام " بألف ولام، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام ؟ فعنه جوابان:

    أحدهما: أنه لما جرى ذكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يرد ثانية بألف ولام، هذا قول الزجاج .

    وقد اعترض على هذا القول، فقيل: كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى، على الأول وهو قول الله عز وجل ؟

    وقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: عيسى إنما يتعلم من ربه، فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى، فبنى عليه وألصقه بنفسه، ويجوز أن يكون الله عز وجل عرف السلام الثاني ; لأنه أتى بعد سلام قد ذكره، وأجراه عليه غير قاصد به إتباع اللفظ المحكي ; لأن المتكلم له أن يغير بعض الكلام الذي يحكيه، فيقول: قال عبد الله: أنا رجل منصف، يريد: قال لي عبد الله: أنت رجل منصف .

    والجواب الثاني: أن سلاما والسلام لغتان بمعنى واحد، ذكره ابن الأنباري .
    [ ص: 231 ] ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم .

    قوله تعالى: " ذلك عيسى ابن مريم " قال الزجاج: أي: ذلك الذي قال: إني عبد الله، هو ابن مريم، لا ما تقول النصارى: إنه ابن الله وإنه إله .

    قوله تعالى: " قول الحق " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، ونافع، وحمزة، والكسائي: ( قول الحق ) برفع اللام . وقرأ عاصم، وابن عامر، ويعقوب بنصب اللام . قال الزجاج: من رفع " قول الحق " فالمعنى: هو قول الحق، يعني: هذا الكلام، ومن نصب فالمعنى: أقول قول الحق . وذكر ابن الأنباري في الآية وجهين:

    أحدهما: أنه لما وصف بالكلمة جاز أن ينعت بالقول .

    والثاني: أن في الكلام إضمارا، تقديره: ذلك نبأ عيسى، ذلك النبأ قول الحق .

    قوله تعالى: " الذي فيه يمترون " ; أي: يشكون . قال قتادة: أمترت اليهود فيه والنصارى، فزعم اليهود أنه ساحر، وزعم النصارى أنه ابن الله وثالث ثلاثة . قرأ أبو مجلز، ومعاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو رجاء: ( تمترون ) بالتاء .

    قوله تعالى: " ما كان لله أن يتخذ من ولد " قال الزجاج: المعنى: أن يتخذ ولدا . و " من " مؤكدة تدل على نفي الواحد والجماعة ; لأن للقائل أن يقول: ما اتخذت فرسا، يريد: اتخذت أكثر من ذلك، وله أن يقول: [ ص: 232 ] ما اتخذت فرسين ولا أكثر، يريد: اتخذت فرسا واحدا، فإذا قال: ما اتخذت من فرس، فقد دل على نفي الواحد والجميع .

    قوله تعالى: " كن فيكون " وقرأ أبو عمران الجوني وابن أبي عبلة: ( فيكون ) بالنصب، وقد ذكرنا وجهه في ( البقرة: 117 ) .

    قوله تعالى: " وإن الله ربي وربكم " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( وأن الله ) بنصب الألف . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( وإن الله ) بكسر الألف . وهذا من قول عيسى، فمن فتح عطفه على قوله: " وأوصاني بالصلاة والزكاة " وبأن الله ربي، ومن كسر ففيه وجهان:

    أحدهما: أن يكون معطوفا على قوله: " إني عبد الله " .

    والثاني: أن يكون مستأنفا .
    فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون .

    قوله تعالى: " فاختلف الأحزاب من بينهم " قال المفسرون: " من " زائدة، والمعنى: اختلفوا بينهم . وقال ابن الأنباري: لما تمسك المؤمنون بالحق، كان اختلاف الأحزاب بين المؤمنين مقصورا عليهم .

    وفي " الأحزاب " قولان:

    أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، فكانت اليهود تقول: إنه لغير رشدة، والنصارى تدعي فيه ما لا يليق به .

    [ ص: 233 ] والثاني: أنهم فرق النصارى، قال بعضهم: هو الله، وقال بعضهم: ابن الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة .

    قوله تعالى: " فويل للذين كفروا " بقولهم في المسيح، " من مشهد يوم عظيم " ; أي: من حضورهم ذلك اليوم للجزاء .

    قوله تعالى: " أسمع بهم وأبصر " فيه قولان:

    أحدهما: أن لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، فالمعنى: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، سمعوا وأبصروا حين لم ينفعهم ذلك ; لأنهم شاهدوا من أمر الله ما لا يحتاجون معه إلى نظر وفكر، فعلموا الهدى وأطاعوا، هذا قول الأكثرين .

    والثاني: أسمع بحديثهم اليوم وأبصر كيف يصنع بهم " يوم يأتوننا " ، قاله أبو العالية .

    قوله تعالى: " لكن الظالمون " يعني: المشركين والكفار، " اليوم " يعني: في الدنيا " في ضلال مبين " .

    قوله تعالى: " وأنذرهم " ; أي: خوف كفار مكة، " يوم الحسرة " يعني: يوم القيامة، يتحسر المسيء إذ لم يحسن، والمقصر إذ لم يزدد من الخير .

    وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قيل: يا أهل الجنة ; فيشرئبون وينظرون، وقيل: يا أهل النار ; فيشرئبون وينظرون، فيجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيقال لهم: هل تعرفون هذا ؟ [ ص: 234 ] فيقولون: هذا الموت، فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون " .

    قال المفسرون: فهذه هي الحسرة إذا ذبح الموت، فلو مات أحد فرحا مات أهل الجنة، ولو مات أحد حزنا مات أهل النار .

    ومن موجبات الحسرة ما روى عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى يوم القيامة بناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها، واستنشقوا ريحها، ونظروا إلى قصورها، نودوا: أن اصرفوهم عنها، لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها، فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا، قال: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني، وأجللتم الناس ولم تجلوني، تركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب " .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #373
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    الحلقة (373)
    صــ 235 إلى صــ 242





    ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود، قال: ليس من نفس يوم القيامة إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار، ثم يقال - يعني: لهؤلاء -: لو عملتم، ولأهل الجنة: لولا أن من الله عليكم . [ ص: 235 ]

    ومن موجبات الحسرة قطع الرجاء عند إطباق النار على أهلها .

    قوله تعالى: " إذ قضي الأمر " قال ابن الأنباري: " قضي " في اللغة بمعنى: أتقن وأحكم، وإنما سمي الحاكم قاضيا لإتقانه وإحكامه ما ينفذ . وفي الآية اختصار، والمعنى: إذ قضي الأمر الذي فيه هلاكهم .

    وللمفسرين في الأمر قولان:

    أحدهما: أنه ذبح الموت، قاله ابن جريج والسدي . والثاني: أن المعنى: قضي العذاب لهم، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: " وهم في غفلة " ; أي: هم في الدنيا في غفلة عما يصنع بهم ذلك اليوم، " وهم لا يؤمنون " بما يكون في الآخرة .

    قوله تعالى: " إنا نحن نرث الأرض " ; أي: نميت سكانها فنرثها، " ومن عليها وإلينا يرجعون " بعد الموت .

    فإن قيل: ما الفائدة في " نحن " وقد كفت عنها " إنا " ؟

    فالجواب: أنه لما جاز في قول المعظم: ( إنا نفعل )، أن يوهم أن أتباعه فعلوا، أبانت " نحن " بأن الفعل مضاف إليه حقيقة .

    فإن قيل: فلم قال: " ومن عليها " ، وهو يرث الآدميين وغيرهم ؟

    فالجواب: أن " من " تختص أهل التمييز، وغير المميزين يدخلون في معنى الأرض ويجرون مجراها، ذكر الجوابين عن السؤالين ابن الأنباري .
    واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ ص: 236 ] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا .

    قوله تعالى: " واذكر في الكتاب إبراهيم " ; أي: اذكر لقومك قصته . وقد سبق معنى الصديق في [ النساء: 69 ] .

    قوله تعالى: " ولا يغني عنك شيئا " ; أي: لا يدفع عنك ضرا .

    قوله تعالى: " إني قد جاءني من العلم " بالله والمعرفة " ما لم يأتك " .

    قوله تعالى: " لا تعبد الشيطان " ; أي: لا تطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي . وقد شرحنا معنى " كان " آنفا . و " عصيا " ; أي: عاصيا، فهو ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) .

    قوله تعالى: " إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن " قال مقاتل: في الآخرة . وقال غيره: في الدنيا . " فتكون للشيطان وليا " ; أي: قرينا في عذاب الله، فجرت المقارنة مجرى الموالاة . وقيل: إنما طمع إبراهيم في إيمان أبيه ; لأنه [ ص: 237 ] حين خرج من النار قال له: نعم الإله إلهك يا إبراهيم، فحينئذ أقبل يعظه، فأجابه أبوه: " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم " ; أي: أتارك عبادتها أنت ؟ " لئن لم تنته " عن عيبها وشتمها، " لأرجمنك " وفيه قولان:

    أحدهما: بالشتم والقول، قاله ابن عباس ومجاهد .

    والثاني: بالحجارة حتى تتباعد عني، قاله الحسن .

    قوله تعالى: " واهجرني مليا " فيه قولان:

    أحدهما: اهجرني طويلا، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والفراء، والأكثرون . قال ابن قتيبة: اهجرني حينا طويلا، ومنه يقال: تمليت حبيبك .

    والثاني: اجتنبني سالما قبل أن تصيبك عقوبتي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة والضحاك، فعلى هذا يكون من قولهم: فلان ملي بكذا وكذا: إذا كان مضطلعا به، فالمعنى: اهجرني وعرضك وافر، وأنت سليم من أذاي، قاله ابن جرير .

    قوله تعالى: " قال سلام عليك " ; أي: سلمت من أن أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره، " سأستغفر لك ربي " فيه قولان:

    أحدهما: أن المعنى: سأسأل الله لك توبة تنال بها مغفرته .

    والثاني: أنه وعده الاستغفار، وهو لا يعلم أن ذلك محظور في حق المصرين على الكفر، ذكرهما ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " إنه كان بي حفيا " فيه ثلاثة أقوال: [ ص: 238 ]

    أحدها: لطيفا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد والزجاج .

    والثاني: رحيما، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث: بارا عودني منه الإجابة إذا دعوته، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: " وأعتزلكم " ; أي: وأتنحى عنكم، وأعتزل " ما تدعون من دون الله " يعني: الأصنام .

    وفي معنى " تدعون " قولان:

    أحدهما: تعبدون .

    والثاني: أن المعنى: وما تدعونه ربا، " وأدعو ربي " ; أي: وأعبده، " عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا " ; أي: أرجو أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام ; لأنها لا تنفعهم ولا تجيب دعاءهم . " فلما اعتزلهم " قال المفسرون: هاجر عنهم إلى أرض الشام، فوهب الله له إسحاق ويعقوب، فآنس الله وحشته عن فراق قومه بأولاد كرام . قال أبو سليمان: وإنما وهب له إسحاق ويعقوب بعد إسماعيل .

    قوله تعالى: " وكلا " ; أي: وكلا من هذين . وقال مقاتل: " وكلا " يعني: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، " جعلناه نبيا " .

    قوله تعالى: " ووهبنا لهم من رحمتنا " قال المفسرون: المال والولد، والعلم والعمل، " وجعلنا لهم لسان صدق عليا " قال ابن قتيبة: أي: ذكرا حسنا في الناس مرتفعا، فجميع أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته ويثنون عليهم، فوضع اللسان مكان القول ; لأن القول يكون باللسان . [ ص: 239 ]
    واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .

    قوله تعالى: " إنه كان مخلصا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والمفضل عن عاصم: ( مخلصا ) بكسر اللام . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بفتح اللام . قال الزجاج: ( المخلص ) بكسر اللام: الذي وحد الله وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غير دنسه، و( المخلص ) بفتح اللام: الذي أخلصه الله وجعله مختارا خالصا من الدنس .

    قوله تعالى: " وكان رسولا " قال ابن الأنباري: إنما أعاد " كان " لتفخيم شأن النبي المذكور .

    قوله تعالى: " وناديناه من جانب الطور " ; أي: من ناحية الطور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير . قال ابن الأنباري: [ إنما ] خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم، ومن كلامهم: عن يمين القبلة وشمالها، يعنون: مما يلي يمين المستقبل لها وشماله، فنقلوا الوصف إلى ذلك اتساعا عند انكشاف المعنى ; لأن الوادي لا يد له فيكون له يمين . وقال المفسرون: جاء النداء عن يمين موسى ; فلهذا قال: " الأيمن " ، ولم يرد به يمين الجبل .

    قوله تعالى: " وقربناه نجيا " قال ابن الأنباري: معناه: مناجيا، فعبر [ ص: 240 ] ( فعيل ) عن ( مفاعل )، كما قالوا: فلان خليطي وعشيري، يعنون: مخالطي ومعاشري . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: " وقربناه " ، قال: حتى سمع صريف القلم حين كتب له في الألواح .

    قوله تعالى: " ووهبنا له من رحمتنا " ; أي: من نعمتنا عليه إذ أجبنا دعاءه حين سأل أن نجعل معه أخاه وزيرا له .
    واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا .

    قوله تعالى: " إنه كان صادق الوعد " هذا عام فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس . وقال مجاهد: لم يعد ربه بوعد قط إلا وفى له به .

    فإن قيل: كيف خص بصدق الوعد إسماعيل، وليس في الأنبياء من ليس كذلك ؟

    فالجواب: أن إسماعيل عانى [ في الوفاء ] بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فأثنى عليه بذلك . وذكر المفسرون: أنه كان بينه وبين رجل ميعاد، فأقام ينتظره مدة فيها لهم ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه أقام حولا، قاله ابن عباس . والثاني: اثنين وعشرين يوما، قاله الرقاشي . والثالث: ثلاثة أيام، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: " وكان رسولا " إلى قومه، وهم جرهم . " وكان يأمر أهله " قال مقاتل: يعني: قومه . وقال الزجاج: أهله: جميع أمته . فأما الصلاة والزكاة فهما العبادتان المعروفتان . [ ص: 241 ]

    قوله تعالى: " ورفعناه مكانا عليا " فيه أربعة أقوال:

    أحدها: أنه في السماء الرابعة، روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج: أنه رأى إدريس في السماء الرابعة، وبهذا قال أبو سعيد الخدري، ومجاهد، وأبو العالية .

    والثاني: أنه في السماء السادسة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك .

    والثالث: أنه في الجنة، قاله زيد بن أسلم، وهذا يرجع إلى الأول ; لأنه قد روي أن الجنة في السماء الرابعة .

    والرابع: أنه في السماء السابعة، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

    وفي سبب صعوده إلى السماء ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه كان يصعد له من العمل مثل ما يصعد لجميع بني آدم، فأحبه ملك الموت، فاستأذن الله في خلته، فأذن له، فهبط إليه في صورة آدمي، [ ص: 242 ] وكان يصحبه، فلما عرفه قال: إني أسألك حاجة، قال: ما هي ؟ قال: تذيقني الموت، فلعلي أعلم ما شدته، فأكون له أشد استعدادا، فأوحى الله إليه أن اقبض روحه ساعة ثم أرسله، ففعل، ثم قال: كيف رأيت ؟ قال: كان أشد مما بلغني عنه، وإني أحب أن تريني النار . قال: فحمله فأراه إياها، قال: إني أحب أن تريني الجنة، فأراه إياها، فلما دخلها طاف فيها، قال له ملك الموت: اخرج، فقال: والله لا أخرج حتى يكون الله تعالى يخرجني، فبعث الله ملكا فحكم بينهما، فقال: ما تقول يا ملك الموت ؟ فقص عليه ما جرى، فقال: ما تقول يا إدريس ؟ قال: إن الله تعالى قال: كل نفس ذائقة الموت [ آل عمران: 185 ] وقد ذقته، وقال: وإن منكم إلا واردها [ مريم: 71 ] وقد وردتها، وقال لأهل الجنة: وما هم منها بمخرجين [ الحجر: 48 ] ; فوالله لا أخرج حتى يكون الله يخرجني، فسمع هاتفا من فوقه يقول: بإذني دخل وبأمري فعل، فخل سبيله، هذا معنى ما رواه زيد بن أسلم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

    فإن سأل سائل فقال: من أين لإدريس هذه الآيات وهي في كتابنا ؟ فقد ذكر ابن الأنباري عن بعض العلماء، قال: كان الله تعالى قد أعلم إدريس بما ذكر في القرآن من وجوب الورود، وامتناع الخروج من الجنة، وغير ذلك، فقال ما قاله بعلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #374
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    الحلقة (374)
    صــ 243 إلى صــ 250





    والثاني: أن ملكا من الملائكة استأذن ربه أن يهبط إلى إدريس، فأذن له، فلما عرفه إدريس قال: هل بينك وبين ملك الموت قرابة ؟ قال: ذاك أخي من الملائكة . قال: هل تستطيع أن تنفعني عند ملك الموت ؟ قال: سأكلمه فيك [ ص: 243 ] فيرفق بك، اركب ببن جناحي، فركب إدريس فصعد به إلى السماء، فلقي ملك الموت، فقال: إن لي إليك حاجة . قال: أعلم ما حاجتك، تكلمني في إدريس، وقد محي اسمه من الصحيفة، ولم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين ؟ فمات إدريس بين جناحي الملك، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال أبو صالح عن ابن عباس: فقبض ملك الموت روح إدريس في السماء السادسة .

    والثالث: أن إدريس مشى يوما في الشمس فأصابه وهجها، فقال: اللهم خفف ثقلها عمن يحملها، يعني به: الملك الموكل بالشمس، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف، فسأل الله عز وجل عن ذلك، فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته . فقال: يا رب اجمع بيني وبينه واجعل بيننا خلة، فأذن له، [ فأتاه ]، فكان مما قال له إدريس: اشفع لي إلى ملك الموت ليؤخر أجلي، فقال: إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، ولكن أكلمه فيك، فما كان مستطيعا أن يفعل بأحد من بني آدم فعل بك، ثم حمله الملك على جناحه فرفعه إلى السماء، فوضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال: إن لي إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله، قال: ليس ذاك إلي، ولكن إن أحببت أعلمته متى يموت، فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا، ولا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، فقال: إني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلا ميتا، فوالله ما بقي من أجله شيء، فرجع الملك فرآه ميتا . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وكعب في آخرين، فهذا القول والذي قبله يدلان على أنه ميت، والقول الأول يدل على أنه حي . [ ص: 244 ]
    أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا .

    قوله تعالى: " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين " يعني: الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة، " من ذرية آدم " يعني: إدريس، " وممن حملنا مع نوح " يعني: إبراهيم ; لأنه من ولد سام بن نوح، " ومن ذرية إبراهيم " يريد: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، " وإسرائيل " يعني: ومن ذرية إسرائيل، وهم موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى .

    قوله تعالى: " وممن هدينا " ; أي: هؤلاء كانوا ممن أرشدنا، " واجتبينا " ; أي: واصطفينا .

    قوله تعالى : " خروا سجدا " قال الزجاج : " سجدا " حال مقدرة ، المعنى : خروا مقدرين السجود ; لأن الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا ، [ ص: 245 ] فـ " سجدا " منصوب على الحال ، وهو جمع ساجد ، " وبكيا " معطوف عليه ، وهو جمع باك ، فقد بين الله تعالى أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا من خشية الله .

    قوله تعالى : " فخلف من بعدهم خلف " قد شرحناه في ( الأعراف : 169 ) . وفي المراد بهذا الخلف ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم اليهود ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : اليهود والنصارى ، قاله السدي . والثالث : أنهم من هذه الأمة ، يأتون عند ذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يتبارون بالزنا ، ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زناة ، قاله مجاهد وقتادة .

    قوله تعالى : " أضاعوا الصلاة " وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين العقيلي ، والحسن البصري : ( الصلوات ) على الجمع .

    وفي المراد بإضاعتهم إياها قولان :

    أحدهما : أنهم أخروها عن وقتها ، قاله ابن مسعود ، والنخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والقاسم بن مخيمرة .

    والثاني : تركوها ، قاله القرظي ، واختاره الزجاج .

    قوله تعالى : " واتبعوا الشهوات " قال أبو سليمان الدمشقي : وذلك مثل استماع الغناء ، وشرب الخمر ، والزنا ، واللهو ، وما شاكل ذلك مما يقطع عن أداء فرائض الله عز وجل .

    قوله تعالى : " فسوف يلقون غيا " ليس معنى هذا اللقاء مجرد الرؤية ، وإنما المراد به الاجتماع والملابسة مع الرؤية . [ ص: 246 ]

    وفي المراد بهذا الغي ستة أقوال :

    أحدها : أنه واد في جهنم ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال كعب . والثاني : أنه نهر في جهنم ، قاله ابن مسعود . والثالث : أنه الخسران ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والرابع : أنه العذاب ، قاله مجاهد . والخامس : أنه الشر ، قاله ابن زيد وابن السائب . والسادس : أن المعنى : فسوف يلقون مجازاة الغي ، كقوله : يلق أثاما [ الفرقان : 68 ] ; أي : مجازاة الآثام ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " إلا من تاب وآمن " فيه قولان :

    أحدهما : تاب من الشرك، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .

    والثاني : تاب من التقصير في الصلاة ، وآمن من اليهود والنصارى .

    قوله تعالى : " جنات عدن " وقرأ أبو رزين العقيلي ، والضحاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : ( جنات ) برفع التاء . وقرأ الحسن البصري ، والشعبي ، وابن السميفع : ( جنة عدن ) على التوحيد مع رفع التاء . وقرأ أبو مجلز وأبو المتوكل الناجي : ( جنة عدن ) على التوحيد مع نصب التاء . وقوله : " التي وعد الرحمن عباده بالغيب " ; أي : وعدهم بها ولم يروها ، فهي غائبة عنهم .

    قوله تعالى : " إنه كان وعده مأتيا " فيه قولان :

    أحدهما : آتيا ، قال ابن قتيبة : وهو ( مفعول ) في معنى ( فاعل ) ، وهو قليل أن يأتي الفاعل على لفظ المفعول به . وقال الفراء : إنما لم يقل : آتيا ; لأن [ ص: 247 ] كل ما أتاك فأنت تأتيه ، ألا ترى أنك تقول : أتيت على خمسين سنة ، وأتت علي خمسون [ سنة ] .

    والثاني : مبلوغا إليه ، قاله ابن الأنباري . وقال ابن جريج : " وعده " هاهنا : موعوده ، وهو الجنة ، و " مأتيا " : يأتيه أولياؤه .

    قوله تعالى : " لا يسمعون فيها لغوا " فيه قولان :

    أحدهما : أنه التخالف عند شرب الخمر ، قاله مقاتل .

    والثاني : ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري : اللغو في العربية : الفاسد المطرح .

    قوله تعالى : " إلا سلاما " قال أبو عبيدة : السلام ليس من اللغو ، والعرب تستثني الشيء بعد الشيء وليس منه ، وذلك أنها تضمر فيه ، فالمعنى : إلا أنهم يسمعون فيها سلاما . وقال ابن الأنباري : استثنى السلام من غير جنسه ، وفي ذلك توكيد للمعنى المقصود ; لأنهم إذا لم يسمعوا من اللغو إلا السلام ، فليس يسمعون لغوا البتة ، وكذلك قوله : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ الشعراء : 77 ] ، إذا لم يخرج من عداوتهم لي غير رب العالمين ، فكلهم عدو .

    وفي معنى هذا السلام قولان :

    أحدهما : أنه تسليم الملائكة عليهم ، قاله مقاتل .

    والثاني : أنهم لا يسمعون إلا ما يسلمهم ، ولا يسمعون ما يؤثمهم ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " قال المفسرون : ليس في الجنة بكرة ولا عشية ، ولكنهم يؤتون برزقهم - على مقدار ما كانوا يعرفون - في الغداة والعشي . قال الحسن : كانت العرب لا تعرف شيئا من العيش أفضل من الغداء والعشاء ، فذكر الله لهم ذلك . وقال قتادة : كانت العرب إذا أصاب أحدهم [ ص: 248 ] الغداء والعشاء أعجب به ، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا على قدر ذلك الوقت ، وليس ثم ليل ولا نهار ، وإنما هو ضوء ونور . وروى الوليد بن مسلم ، قال : سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى : " بكرة وعشيا " ، فقال : ليس في الجنة ليل ولا نهار ، هم في نور أبدا ، ولهم مقدار الليل والنهار ، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب .

    قوله تعالى : " تلك الجنة " الإشارة إلى قوله : " فأولئك يدخلون الجنة " .

    قوله تعالى : " نورث " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة ، وابن أبي عبلة بفتح الواو وتشديد الراء . قال المفسرون : ومعنى " نورث " : نعطي المساكن التي كانت لأهل النار - لو آمنوا - للمؤمنين . ويجوز أن يكون معنى " نورث " : نعطي ، فيكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف . وقد شرحنا هذا في ( الأعراف : 43 ) .

    قوله تعالى : " وما نتنزل إلا بأمر ربك " وقرأ ابن السميفع وابن يعمر : ( وما يتنزل ) بياء مفتوحة .

    وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا " ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . [ ص: 249 ]

    والثاني : أن الملك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه ، فقال : لعلي أبطأت . قال : " قد فعلت " . قال : وما لي لا أفعل وأنتم لا تتسوكون ، ولا تقصون أظفاركم ، ولا تنقون براجمكم ، فنزلت الآية ، قاله مجاهد . قال ابن الأنباري : البراجم عند العرب : الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع ، تبدو إذا جمعت ، وتغمض إذا بسطت . والرواجب : ما بين البراجم ، بين كل برجمتين راجبة .

    والثالث : أن جبريل احتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله [ قومه ] عن قصة أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح ، فلم يدر ما يجيبهم ، ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ، فأبطأ عليه ، فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة ، فلما نزل جبريل ، قال له : " أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك " ، فقال جبريل : إني كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والضحاك .

    وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان :

    أحدهما : لامتناع أصحابه من كمال النظافة ، كما ذكرنا في حديث مجاهد .

    والثاني : لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف ، فقال : " غدا أخبركم " ، ولم يقل : إن شاء الله ، وقد سبق هذا في سورة ( الكهف : 24 ) .

    وفي مقدار احتباسه عنه خمسة أقوال :

    أحدها : خمسة عشر يوما ، وقد ذكرناه في ( الكهف ) عن ابن عباس . والثاني : أربعون يوما ، قاله عكرمة ومقاتل . والثالث : اثنتا عشرة ليلة ، قاله مجاهد . والرابع : ثلاثة أيام ، حكاه مقاتل . والخامس : خمسة وعشرون يوما ، [ ص: 250 ] حكاه الثعلبي . وقيل : إن سورة ( الضحى ) نزلت في هذا السبب . والمفسرون على أن قوله : " وما نتنزل إلا بأمر ربك " قول جبريل . وحكى الماوردي أنه قول أهل الجنة إذا دخلوها ، فالمعنى : ما ننزل هذه الجنان إلا بأمر الله . وقيل : ما ننزل موضعا من الجنة إلا بأمر الله .

    وفي قوله : " ما بين أيدينا وما خلفنا " قولان :

    أحدهما : ما بين أيدينا : الآخرة ، وما خلفنا : الدنيا ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل .

    والثاني : ما بين أيدينا : ما مضى من الدنيا ، وما خلفنا : من الآخرة ، فهو عكس الأول ، قاله مجاهد . وقال الأخفش : ما بين أيدينا : قبل أن نخلق ، وما خلفنا : بعد الفناء .

    وفي قوله تعالى : " وما بين ذلك " ثلاثة أقوال :

    أحدها : ما بين الدنيا والآخرة ، قاله سعيد بن جبير .

    والثاني : ما بين النفختين ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، وأبو العالية .

    والثالث : حين كوننا ، قاله الأخفش . قال ابن الأنباري : وإنما وحد ذلك ، والإشارة إلى شيئين : أحدهما : " ما بين أيدينا " ، والثاني : " ما خلفنا " ; لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع .

    قوله تعالى : " وما كان ربك نسيا " النسي بمعنى الناسي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #375
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    الحلقة (375)
    صــ 251 إلى صــ 258





    وفي معنى الكلام قولان :

    أحدهما : ما كان تاركا لك منذ أبطأ الوحي عنك ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : ما نسيك عند انقطاع الوحي عنك . [ ص: 251 ]

    والثاني : أنه عالم بما كان ويكون ، لا ينسى شيئا ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " فاعبده " ; أي : وحده ; لأن عبادته بالشرك ليست عبادة ، " واصطبر لعبادته " ; أي : اصبر على توحيده ، وقيل : على أمره ونهيه .

    قوله تعالى : " هل تعلم له سميا " روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يدغم ( هل تعلم ) ، ووجهه أن سيبويه يجيز إدغام اللام في التاء ، والثاء ، والدال ، والزاي ، والسين ، والصاد ، والطاء ; لأن آخر مخرج من اللام قريب من مخارجهن . قال أبو عبيدة : إذا كان بعد ( هل ) تاء ففيه لغتان ، بعضهم يبين لام ( هل ) وبعضهم يدغمها .

    وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال :

    أحدها : مثلا وشبها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة .

    والثاني : هل تعلم أحدا يسمى ( الله ) غيره ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثالث : هل تعلم أحدا يستحق أن يقال له : خالق وقادر ، إلا هو ، قاله الزجاج .
    ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .

    قوله تعالى : " ويقول الإنسان " سبب نزولها أن أبي بن خلف أخذ عظما [ ص: 252 ] باليا ، فجعل يفته بيده ويذريه في الريح ، ويقول : زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وروى عطاء عن ابن عباس : أنه الوليد بن المغيرة .

    قوله تعالى : " لسوف أخرج حيا " إن قيل : ظاهره ظاهر سؤال ، فأين جوابه ؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري :

    أحدها : أن ظاهر الكلام استفهام ، ومعناه معنى جحد وإنكار ، تلخيصه : لست مبعوثا بعد الموت .

    والثاني : أنه لما استفهم بهذا الكلام عن البعث ، أجابه الله عز وجل بقوله : " أولا يذكر الإنسان " ، فهو مشتمل على معنى : نعم ، وأنت مبعوث .

    والثالث : أن جواب سؤال هذا الكافر في ( يس : 78 ) عند قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ، ولا ينكر بعد الجواب ; لأن القرآن كله بمنزلة الرسالة الواحدة ، والسورتان مكيتان .

    قوله تعالى : " أولا يذكر الإنسان " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بفتح الذال مشددة الكاف . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر : ( يذكر ) ساكنة الذال خفيفة . وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل الناجي : ( أولا يتذكر الإنسان ) بياء وتاء . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن : ( يذكر ) بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف ، والمعنى : أولا يتذكر هذا الجاحد أول خلقه ، فيستدل بالابتداء على الإعادة . " فوربك لنحشرنهم " يعني : المكذبين بالبعث ، " والشياطين " ; أي : مع الشياطين ، وذلك أن كل كافر يحشر مع شيطانه في سلسلة ، " ثم لنحضرنهم [ ص: 253 ] حول جهنم " . قال مقاتل : أي : في جهنم ، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخله ، تقول : جلس القوم حول البيت : إذا جلسوا داخله مطيفين به . وقيل : يجثون حولها قبل أن يدخلوها .

    فأما قوله : " جثيا " فقال الزجاج : هو جمع جاث ، مثل : قاعد وقعود ، وهو منصوب على الحال ، والأصل ضم الجيم ، وجاء كسرها إتباعا لكسرة الثاء .

    وللمفسرين في معناه خمسة أقوال :

    أحدها : قعودا ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثاني : جماعات جماعات ، روي عن ابن عباس أيضا . فعلى هذا هو جمع جثوة ، وهي المجموع من التراب والحجارة . والثالث : جثيا على الركب ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والزجاج . والرابع : قياما ، قاله أبو مالك . والخامس : قياما على ركبهم ، قاله السدي ، وذلك لضيق المكان بهم .

    قوله تعالى : " لننزعن من كل شيعة " ; أي : لنأخذن من كل فرقة ، وأمة ، وأهل دين ، " أيهم أشد على الرحمن عتيا " ; أي : أعظمهم له معصية ، والمعنى : أنه يبدأ بتعذيب الأعتى فالأعتى ، وبالأكابر جرما ، والرؤوس القادة في الشر . قال الزجاج : وفي رفع " أيهم " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه على الاستئناف ، ولم تعمل " لننزعن " شيئا ، هذا قول يونس .

    والثاني : أنه على معنى الذي يقال لهم : أيهم أشد على الرحمن عتيا ؟ قاله الخليل ، واختاره الزجاج . وقال : التأويل : لننزعن الذي من أجل عتوه ، يقال : أي هؤلاء أشد عتيا ؟ وأنشد [ ص: 254 ]


    ولقد أبيت عن الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم


    المعنى : أبيت بمنزلة الذي يقال له : لا هو حرج ولا محروم .

    والثالث : أن " أيهم " مبنية على الضم ; لأنها خالفت أخواتها ، فالمعنى : أيهم هو أفضل . وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول : اضرب أيهم أفضل ، ولا يحسن : اضرب من أفضل ، حتى تقول : من هو أفضل ، ولا يحسن : كل ما أطيب ، حتى تقول : ما هو أطيب ، ولا خذ ما أفضل ، حتى تقول : الذي هو أفضل ; فلما خالفت ( ما ) ، و( من ) ، و( الذي ) بنيت على الضم ، قاله سيبويه .

    قوله تعالى : " هم أولى بها صليا " يعني : أن الأولى بها صليا الذين هم أشد عتيا ، فيبتدأ بهم قبل أتباعهم . و " صليا " منصوب على التفسير ، يقال : صلي النار يصلاها : إذا دخلها وقاسى حرها .

    قوله تعالى : " وإن منكم إلا واردها " في الكلام إضمار ، تقديره : وما منكم أحد إلا وهو واردها .

    وفيمن عني بهذا الخطاب قولان :

    أحدهما : أنه عام في حق المؤمن والكافر ، هذا قول الأكثرين . وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية للكفار ، وأكثر الروايات عنه كالقول الأول . قال ابن الأنباري : ووجه هذا أنه لما قال : " لنحضرنهم " ، وقال : " أيهم أشد [ ص: 255 ] على الرحمن عتيا " ، كان التقدير : وإن منهم ، فأبدلت الكاف من الهاء ، كما فعل في قوله : إن هذا كان لكم جزاء [ الإنسان : 22 ] ، المعنى : كان لهم ; لأنه مردود على قوله : وسقاهم ربهم [ الإنسان : 21 ] ، وقال الشاعر :


    شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا علي طلابك ابنة مخرم


    أراد : طلابها . وفي هذا الورود خمسة أقوال :

    أحدها : أنه الدخول . روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الورود : الدخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار - أو قال : لجهنم - ضجيجا من بردهم " . وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية ، فقال له : أما أنا وأنت فسندخلها ، فانظر أيخرجنا الله عز وجل منها أم لا ؟ فاحتج بقوله تعالى : فأوردهم النار [ هود : 98 ] ، وبقوله تعالى : أنتم لها واردون [ الأنبياء : 98 ] . وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول : أنبئت أني وارد ، ولم أنبأ أني صادر . وحكى الحسن البصري : أن رجلا قال لأخيه : يا أخي هل أتاك أنك وارد النار ؟ قال : نعم . قال : فهل أتاك أنك خارج منها . قال : لا . قال : ففيم الضحك ؟ وقال خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يعدنا ربنا أن نرد النار ؟ فيقال لهم : بلى ، ولكن مررتم بها وهي خامدة .

    وممن ذهب إلى أنه الدخول : الحسن في رواية ، وأبو مالك . [ ص: 256 ] وقد اعترض على أرباب هذا القول بأشياء ، فقال الزجاج : العرب تقول : وردت بلد كذا ، ووردت ماء كذا : إذا أشرفوا عليه، وإن لم يدخلوا ، ومنه قوله تعالى: ولما ورد ماء مدين [ القصص : 33 ] ، والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى: أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها [ الأنبياء : 101 ، 102 ] ، وقال زهير :


    فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم


    أي : لما بلغن الماء قمن عليه .

    قلت : وقد أجاب بعضهم عن هذه الحجج ، فقال : أما الآية الأولى ، فإن موسى لما أقام حتى استقى الماء وسقى الغنم ، كان بلبثه ومباشرته كأنه دخل ، وأما الآية الأخرى فإنها تضمنت الأخبار عن أهل الجنة حين كونهم فيها ، وحينئذ لا يسمعون حسيسها . وقد روينا آنفا عن خالد بن معدان أنهم يمرون بها ولا يعلمون .

    والثاني : أن الورود : الممر عليها ، قاله عبد الله بن مسعود وقتادة . وقال ابن مسعود : يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم ، فأولهم كلمح البرق ، ثم كالريح ، ثم كحضر الفرس ، [ ثم كالراكب في رحله ] ، ثم كشد الرحل ، ثم كمشيه .

    والثالث : أن ورودها : حضورها ، قاله عبيد بن عمير .

    والرابع : أن ورود المسلمين : المرور على الجسر ، وورود المشركين : دخولها ، قاله ابن زيد . [ ص: 257 ]

    والخامس : أن ورود المؤمن إليها : ما يصيبه من الحمى في الدنيا ، روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال : الحمى حظ كل مؤمن من النار ، ثم قرأ : " وإن منكم إلا واردها " ; فعلى هذا من حم من المسلمين فقد وردها .

    قوله تعالى : " كان على ربك " يعني : الورود ، " حتما " والحتم : إيجاب القضاء والقطع بالأمر . والمقضي : الذي قضاه الله تعالى ، والمعنى : أنه حتم ذلك وقضاه على الخلق .

    قوله تعالى : " ثم ننجي الذين اتقوا " وقرأ ابن عباس ، وأبو مجلز ، وابن يعمر ، وابن أبي ليلى ، وعاصم الجحدري : ( ثم ) بفتح الثاء . وقرأ الكسائي ويعقوب : ( ننجي ) مخففة . وقرأت عائشة ، وأبو بحرية ، [ وأبو الجوزاء الربعي : ( ثم ينجي ) بياء مرفوعة قبل النون خفيفة الجيم مكسورة . وقرأ أبي بن كعب ] ، وأبو مجلز ، وابن السميفع ، وأبو رجاء : ( ننحي ) بحاء غير معجمة مشددة . وهذه الآية يحتج بها القائلون بدخول جميع الخلق ; لأن النجاة : تخليص الواقع في الشيء ، ويؤكده قوله تعالى: " ونذر الظالمين فيها " ، ولم يقل : وندخلهم ، وإنما يقال : نذر ونترك لمن قد حصل في مكانه . ومن قال : إن الورود للكفار خاصة ، قال : معنى هذا الكلام : نخرج المتقين من جملة من يدخل النار . والمراد بالمتقين : الذين اتقوا الشرك ، وبالظالمين : الكفار . وقد سبق معنى قوله تعالى : جثيا [ مريم : 68 ] .
    وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا .

    قوله تعالى : " وإذا تتلى عليهم " يعني : المشركين ، " آياتنا " يعني : القرآن . [ ص: 258 ] " قال الذين كفروا " يعني : مشركي قريش ، " للذين آمنوا " ; أي : لفقراء المؤمنين ، " أي الفريقين خير مقاما " قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، وحفص عن عاصم : [ مقاما ] بفتح الميم . وقرأ ابن كثير بضم الميم . قال أبو علي الفارسي : المقام : اسم المثوى ، إن فتحت الميم أو ضمت .

    قوله تعالى : " وأحسن نديا " والندي والنادي : مجلس القوم ومجتمعهم . وقال الفراء : الندي والنادي لغتان . ومعنى الكلام : أنحن خير أم أنتم ؟ فافتخروا عليهم بالمساكن والمجالس ، فأجابهم الله تعالى فقال : " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " ، وقد بينا معنى القرن في ( الأنعام : 6 ) ، وشرحنا الأثاث في ( النحل : 80 ) .

    فأما قوله تعالى: " ورئيا " فقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ( ورئيا ) بهمزة بين الراء والياء في وزن : ( رعيا ) . قال الزجاج : ومعناها : منظرا ، من ( رأيت ) .

    وقرأ نافع وابن عامر : ( ريا ) بياء مشددة من غير همز . قال الزجاج : لها تفسيران : أحدهما : أنها بمعنى الأولى . والثاني : أنها من الري ، فالمعنى : منظرهم مرتو من النعمة ، كأن النعيم بين فيهم .

    وقرأ ابن عباس ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي سريج عن الكسائي : ( زيا ) بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز . قال الزجاج : ومعناها : حسن هيئتهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #376
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    الحلقة (376)
    صــ 259 إلى صــ 266





    قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا . [ ص: 259 ]

    قوله تعالى : " قل من كان في الضلالة " ; أي : في الكفر والعمى عن التوحيد ، " فليمدد له الرحمن " قال الزجاج : وهذا لفظ أمر ومعناه الخبر ، والمعنى : أن الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها . قال ابن الأنباري : خاطب الله العرب بلسانها ، وهي تقصد التوكيد للخبر بذكر الأمر ، يقول أحدهم : إن زارنا عبد الله فلنكرمه ، يقصد التوكيد ، وينبه على أني ألزم نفسي إكرامه . ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء على معنى : قل يا محمد : من كان في الضلالة ، فاللهم مد له في النعم مدا . قال المفسرون : ومعنى مد الله تعالى له : إمهاله في الغي . " حتى إذا رأوا " يعني : الذين مدهم في الضلالة ، وإنما أخبر عن الجماعة ; لأن لفظ " من " يصلح للجماعة . ثم ذكر ما يوعدون فقال : " إما العذاب " يعني : القتل والأسر ، " وإما الساعة " يعني : القيامة وما وعدوا فيها من الخلود في النار ، " فسيعلمون من هو شر مكانا " في الآخرة ، أهم أم المؤمنون ؟ لأن مكان هؤلاء الجنة ومكان هؤلاء النار ، ويعلمون بالنصر والقتل من " أضعف جندا " جندهم أم جند رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا رد عليهم في قولهم : " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " .

    قوله تعالى : " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " فيه خمسة أقوال :

    أحدها : ويزيد الله الذين اهتدوا بالتوحيد إيمانا . والثاني : يزيدهم بصيرة في دينهم . والثالث : يزيدهم بزيادة الوحي إيمانا ، فكلما نزلت سورة زاد إيمانهم . والرابع : يزيدهم إيمانا بالناسخ والمنسوخ . والخامس : يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ . قال الزجاج : المعنى : أن الله تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقينا ، كما جعل جزاء الكافر أن يمده في ضلالته .

    قوله تعالى : " والباقيات الصالحات " قد ذكرناها في سورة ( الكهف : 46 ) . [ ص: 260 ]

    قوله تعالى : " وخير مردا " المرد هاهنا مصدر مثل الرد ، والمعنى : وخير ردا للثواب على عامليها ، فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت .
    أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .

    قوله تعالى : " أفرأيت الذي كفر بآياتنا " في سبب نزولها قولان :

    أحدهما : ما روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث مسروق عن خباب [ بن الأرت ] ، قال : كنت رجلا قينا ; [ أي : حدادا ] ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال : [ لا ] والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث . قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك ، فنزلت فيه هذه الآية إلى قوله تعالى : " فردا " .

    والثاني : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، وهذا مروي عن الحسن ، والمفسرون على الأول .

    قوله تعالى : " لأوتين مالا وولدا " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر بفتح الواو . وقرأ حمزة والكسائي بضم الواو . وقال الفراء : وهما لغتان ، كالعدم والعدم ، وليس يجمع ، وقيس تجعل الولد جمعا ، والولد بفتح الواو واحدا .

    وأين زعم هذا الكافر أن يؤتى المال والولد ، فيه قولان : أحدهما : أنه أراد في الجنة على زعمكم . والثاني : في الدنيا . قال ابن الأنباري : وتقدير الآية : أرأيته مصيبا ؟ [ ص: 261 ]

    قوله تعالى : " أطلع الغيب " قال ابن عباس في رواية : أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا ؟ وقال في رواية أخرى : أنظر في اللوح المحفوظ ؟

    قوله تعالى : " أم اتخذ عند الرحمن عهدا " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أم قال : لا إله إلا الله ، فأرحمه بها ؟ قاله ابن عباس . والثاني : أم قدم عملا صالحا فهو يرجوه ؟ قاله قتادة . والثالث : أم عهد إليه أنه يدخله الجنة ؟ قاله ابن السائب .

    قوله تعالى : " كلا " ; أي : ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتى المال والولد . ويجوز أن يكون معنى " كلا " : أي : إنه لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الله عهدا . " سنكتب ما يقول " ; أي : سنأمر الحفظة بإثبات قوله عليه لنجازيه به ، " ونمد له من العذاب مدا " ; أي : نجعل بعض العذاب على إثر بعض . وقرأ أبو العالية الرياحي ، وأبو رجاء العطاردي : ( سيكتب ) ، ( ويرثه ) بياء مفتوحة .

    قوله تعالى : " ونرثه ما يقول " فيه قولان :

    أحدهما : نرثه ما يقول إنه له في الجنة ، فنجعله لغيره من المسلمين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفراء .

    والثاني : نرث ما عنده من المال والولد ، بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال قتادة . قال الزجاج : المعنى : سنسلبه المال والولد ونجعله لغيره .

    قوله تعالى : " ويأتينا فردا " ; أي : بلا مال ولا ولد .
    واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ألم تر أنا أرسلنا [ ص: 262 ] الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .

    قوله تعالى : " واتخذوا من دون الله آلهة " يعني : المشركين عابدي الأصنام ، " ليكونوا لهم عزا " قال الفراء : ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة .

    قوله تعالى : " كلا " ; أي : ليس الأمر كما قدروا ، " سيكفرون " يعني : الأصنام بجحد عبادة المشركين ، كقوله تعالى : ما كانوا إيانا يعبدون [ القصص : 63 ] ; لأنها كانت جمادا لا تعقل العبادة ، " ويكونون " يعني : الأصنام ، " عليهم " يعني : المشركين ، " ضدا " ; أي : أعوانا عليهم في القيامة ، يكذبونهم ويلعنونهم .

    قوله تعالى : " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين " قال الزجاج : في معنى هذا الإرسال وجهان .

    أحدهما : خلينا بين الشياطين وبين الكافرين ، فلم نعصمهم من القبول منهم .

    والثاني ، وهو المختار : سلطناهم عليهم ، وقيضناهم لهم بكفرهم . " تؤزهم أزا " ; أي : تزعجهم إزعاجا حتى يركبوا المعاصي . وقال الفراء : تزعجهم إلى المعاصي ، وتغريهم بها . قال ابن فارس : يقال : أزه على كذا : إذا أغراه به ، وأزت القدر : غلت .

    قوله تعالى : " فلا تعجل عليهم " ; أي : لا تعجل بطلب عذابهم . وزعم بعضهم أن هذا منسوخ بآية السيف ، وليس بصحيح . " إنما نعد لهم عدا " في هذا المعدود ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه أنفاسهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال طاووس ومقاتل . [ ص: 263 ]

    والثاني : الأيام ، والليالي ، والشهور ، والسنون ، والساعات ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث : أنها أعمالهم ، قاله قطرب .
    يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا .

    قوله تعالى : " يوم نحشر المتقين " قال بعضهم : هذا متعلق بقوله : " ويكونون عليهم ضدا ، يوم نحشر المتقين " . وقال بعضهم : تقديره : اذكر لهم يوم نحشر المتقين ، وهم الذين اتقوا الله بطاعته واجتناب معصيته . وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني : ( يوم يحشر ) بياء مفتوحة ورفع الشين ، ( ويسوق ) بياء مفتوحة ورفع السين . وقرأ أبي بن كعب ، والحسن البصري ، ومعاذ القارئ ، وأبو المتوكل الناجي : ( يوم يحشر ) بياء مرفوعة وفتح الشين ، ( المتقون ) رفعا ، ( ويساق ) بألف وياء مرفوعة ، ( المجرمون ) بالواو على الرفع . والوفد : جمع وافد ، مثل : ركب وراكب ، وصحب وصاحب . قال ابن عباس ، وعكرمة ، والفراء : الوفد : الركبان . قال ابن الأنباري : الركبان عند العرب : ركاب الإبل .

    وفي زمان هذا الحشر قولان :

    أحدهما : أنه من قبورهم إلى الرحمن ، قاله علي بن أبي طالب .

    والثاني : أنه بعد الحساب ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " ونسوق المجرمين " يعني : الكافرين ، " إلى جهنم وردا " قال [ ص: 264 ] ابن عباس ، وأبو هريرة ، والحسن : عطاشا . قال أبو عبيدة : الورد : مصدر الورود . وقال ابن قتيبة : الورد : جماعة يردون الماء ، يعني : أنهم عطاش ; لأنه لا يرد الماء إلا العطشان . وقال ابن الأنباري : معنى قوله : " وردا " : واردين .

    قوله تعالى : " لا يملكون الشفاعة " ; أي : لا يشفعون ولا يشفع لهم .

    قوله تعالى : " إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " قال الزجاج : جائز أن يكون " من " في موضع رفع على البدل من الواو والنون ، فيكون المعنى : لا يملك الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ، وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناء ليس من الأول ، فالمعنى : لا يملك الشفاعة المجرمون ، ثم قال : " إلا " على معنى ( لكن ) ، " من اتخذ عند الرحمن عهدا " فإنه يملك الشفاعة . والعهد هاهنا : توحيد الله والإيمان به . وقال ابن الأنباري : تفسير العهد في اللغة : تقدمة أمر يعلم ويحفظ ، من قولك : عهدت فلانا في المكان ; أي : عرفته وشهدته .
    وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .

    قوله تعالى : " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " يعني : اليهود والنصارى ، ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله ، " لقد جئتم شيئا إدا " ; أي : شيئا عظيما من الكفر . قال أبو عبيدة : الإد والنكر : الأمر المتناهي العظم .

    قوله تعالى : " تكاد السماوات يتفطرن " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، [ ص: 265 ] وابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : ( تكاد ) بالتاء . وقرأ نافع والكسائي : ( يكاد ) بالياء . وقرآ جميعا : ( يتفطرن ) بالياء والتاء مشددة الطاء ، وافقهما ابن كثير ، وحفص عن عاصم في ( يتفطرن ) . وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : ( ينفطرن ) بالنون . وقرأ حمزة وابن عامر في ( مريم ) مثل أبي عمرو ، وفي ( عسق : 5 ) مثل ابن كثير . ومعنى ( يتفطرن منه ) : يقاربن الانشقاق من قولكم . قال ابن قتيبة : وقوله تعالى : " هدا " ; أي : سقوطا .

    قوله تعالى : " أن دعوا " قال الفراء : من أن دعوا ، ولأن دعوا . وقال أبو عبيدة : معناه : أن جعلوا ، وليس هو من دعاء الصوت ، وأنشد :


    ألا رب من تدعو نصيحا وإن تغب تجده بغيب غير منتصح الصدر


    قوله تعالى : " وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا " ; أي : ما يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد ; لأن الولد يقتضي مجانسة ، وكل متخذ ولدا يتخذه من جنسه ، والله تعالى منزه عن أن يجانس شيئا أو يجانسه ، فمحال في حقه اتخاذ الولد . " إن كل " ; أي : ما كل ، " من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن " يوم القيامة ، " عبدا " ذليلا خاضعا . والمعنى : أن عيسى وعزيرا والملائكة عبيد له . قال القاضي أبو يعلى : وفي هذا دلالة على أن الوالد إذا اشترى ولده ، لم يبق ملكه عليه ، وإنما يعتق بنفس الشراء ; لأن الله تعالى نفى البنوة لأجل العبودية ، فدل على أنه لا يجتمع بنوة ورق .

    قوله تعالى : " لقد أحصاهم " ; أي : علم عددهم ، " وعدهم عدا " فلا يخفى [ ص: 266 ] عليه مبلغ جميعهم من كثرتهم ، " وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " بلا مال ولا نصير يمنعه .

    فإن قيل : لأية علة وحد في " الرحمن " و " آتيه " ، وجمع في العائد في " أحصاهم ، وعدهم " .

    فالجواب : أن لكل لفظ توحيدا وتأويل جمع ، فالتوحيد محمول على اللفظ ، والجمع مصروف إلى التأويل .
    إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #377
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ طَه
    الحلقة (377)
    صــ 267 إلى صــ 274





    قوله تعالى : " سيجعل لهم الرحمن ودا " قال ابن عباس : نزلت في علي عليه السلام ، وقال : معناه : يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين . قال قتادة : يجعل لهم ودا في قلوب المؤمنين . ومن هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا أحب الله عبدا قال : يا جبريل ; إني أحب فلانا فأحبوه ، فينادي جبريل في السماوات : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيلقى حبه على أهل الأرض فيحب " ، وذكر في البغض مثل ذلك . وقال هرم بن حيان : ما أقبل عبد بقلبه إلى [ ص: 267 ] الله عز وجل ، إلا أقبل الله عز وجل بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم .

    قوله تعالى : " فإنما يسرناه بلسانك " يعني : القرآن . قال ابن قتيبة : أي : سهلناه وأنزلناه بلغتك . واللد جمع ألد ، وهو الخصم الجدل .

    قوله تعالى : " وكم أهلكنا قبلهم " هذا تخويف لكفار مكة ، " هل تحس منهم من أحد " قال الزجاج : أي : هل ترى ، يقال : هل أحسست صاحبك ; أي : هل رأيته ؟ والركز : الصوت الخفي ، وقال ابن قتيبة : الصوت الذي لا يفهم ، وقال أبو صالح : حركة ، [ والله تعالى أعلم ] .
    [ ص: 268 ]

    سُورَةُ طَه

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    طه مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْـزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ ، وَفِي سَبَبِ نُزُولِ ( طَه ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيَهِ ، يَقُومُ عَلَى رِجْلٍ ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، قَالَهُ [ عَلِيٌّ ] عَلَيْهِ السَّلَامُ .

    وَالثَّانِي : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ صَلَّى هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَّا لِيَشْقَى ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ . [ ص: 269 ]

    وَالثَّالِثُ : أَنَّ أَبَا جَهْلٍ ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ ، وَالْمُطْعَمَ بْنَ عَدِيٍّ ، قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّكَ لَتَشْقَى بِتَرْكِ دِينِنَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَفِي " طه " قِرَاءَاتٌ . قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ : ( طَه ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ : ( طَه ) بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ، وَهُوَ إِلَى الْفَتْحِ أَقْرَبُ ، كَذَلِكَ قَالَ خَلَفٌ عَنِ الْمُسَيِّبِيِّ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ ، وَرَوَى عَنْهُ عَبَّاسٌ مِثْلَ حَمْزَةَ . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ . وَقَرَأَ الْحَسَنُ : ( طَهْ ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ . وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَمُوَرِّقٌ : ( طِهْ ) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَنَّ مَعْنَاهَا : يَا رَجُلُ ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ بِأَيِّ لُغَةٍ هِيَ ، عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : أَحُدُهَا : بِالنَّبَطِيَّة ِ ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ ، وَالضَّحَّاكُ . وَالثَّانِي : بِلِسَانِ عَكٍّ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : بِالسُّرْيَانِي َّةِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ فِي رِوَايَةٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ ، وَقَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ : بِالْحَبَشِيَّة ِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ فِي رِوَايَةٍ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَلُغَةُ قُرَيْشٍ وَافَقَتْ هَذِهِ اللُّغَةَ فِي الْمَعْنَى .

    وَالثَّانِي : أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ . ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّاءَ مِنَ اللَّطِيفِ ، وَالْهَاءَ مِنَ الْهَادِي ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّاءَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ ( طَاهِرٍ ) وَ( طَيِّبٍ ) ، [ ص: 270 ] وَالْهَاءَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ ( هَادِي ) ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مِنْ غَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحُدُهَا : أَنَّ الطَّاءَ مِنْ طَابَةَ ، وَهِيَ مَدِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْهَاءُ مِنْ مَكَّةَ ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّاءَ طَرَبُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَالْهَاءَ هَوَانُ أَهْلِ النَّارِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الطَّاءَ فِي حِسَابِ الْجُمَلِ تِسْعَةٌ وَالْهَاءَ خَمْسَةٌ ، فَتَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ . فَالْمَعْنَى : يَا أَيُّهَا الْبَدْرُ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ، حَكَى الْقَوْلَيْنِ الثَّعْلَبِيُّ .

    وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَى كَوْنِهِ اسْمًا فِي فَاتِحَةِ ( مَرْيَمَ ) . وَقَالَ الْقُرَظِيُّ : أَقْسَمَ اللَّهُ بِطَوْلِهِ وَهِدَايَتِهِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ .

    وَالرَّابِعُ : أَنَّ مَعْنَاهُ : طَإِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ ، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " لِتَشْقَى " : لِتَتْعَبَ وَتَبْلُغَ مِنَ الْجُهْدِ مَا قَدْ بَلَغَتَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ وَبَالَغَ ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ لِطُولِ الْقِيَامِ ، فَأُمِرَ بِالتَّخْفِيفِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " إِلا تَذْكِرَةً " قَالَ الْأَخْفَشُ : هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ : " لِتَشْقَى " ، مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً ; أَيْ : عِظَةً .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " تَنْزِيلا " قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى : أَنْزَلْنَاهُ تَنْزِيلًا ، و " الْعُلا " جَمْعُ الْعُلْيَا ، تَقُولُ : سَمَاءٌ عُلْيَا وَسَمَاوَاتٌ عُلَى ، مِثْلَ : الْكُبْرَى وَالْكُبَرِ ، فَأَمَّا " الثَّرَى " فَهُوَ التُّرَابُ النَّدِيُّ ، وَالْمُفَسِّرُو نَ يَقُولُونَ : أَرَادَ : الثَّرَى الَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ " ; أَيْ : تَرْفَعْ صَوْتَكَ ، " فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ " وَالْمَعْنَى : لَا تُجْهِدْ نَفْسَكَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ السِّرَّ . [ ص: 271 ]

    وَفِي الْمُرَادِ بِـ " السِّرَّ وَأَخْفَى " خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَنَّ السِّرَّ : مَا أَسَرَّهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ ، وَأَخْفَى : مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَسَيَكُونُ ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ .

    وَالثَّانِي : أَنَّ السِّرَّ : مَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسَكَ ، وَأَخْفَى : مَا لَمْ تَلْفِظْ بِهِ ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

    وَالثَّالِثُ : أَنَّ السِّرَّ : الْعَمَلُ الَّذِي يُسِرُّهُ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّاسِ ، وَأَخْفَى مِنْهُ : الْوَسْوَسَةُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    وَالرَّابِعُ : أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ : يَعْلَمُ إِسْرَارَ عِبَادِهِ ، وَقَدْ أَخْفَى سِرَّهُ عَنْهُمْ فَلَا يُعْلَمُ ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ .

    وَالْخَامِسُ : يَعْلَمُ مَا أَسَرَّهُ الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَمَا أَخَفَاهُ فِي نَفْسِهِ ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى " قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي ( الْأَعْرَافِ : 180 ) .
    وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى .

    قوله تعالى : " وهل أتاك حديث موسى " هذا استفهام تقرير ، ومعناه : قد أتاك . قال ابن الأنباري : وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي " هل " [ ص: 272 ] معبرة عن ( قد ) ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أفصح العرب : " اللهم هل بلغت " ، يريد : قد بلغت .

    قال وهب بن منبه : استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الرجوع إلى والدته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، فولد له في الطريق في ليلة شاتية ، فقدح فلم يور الزناد ، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق ، وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في كتاب " الحدائق " ، فكرهنا إطالة التفسير بالقصص ; لأن غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه . قال المفسرون : رأى نورا ، ولكن أخبر بما كان في ظن موسى . " فقال لأهله " يعني : امرأته ، " امكثوا " ; أي : أقيموا مكانكم . وقرأ حمزة : ( لأهله امكثوا ) بضم الهاء هاهنا وفي ( القصص : 29 ) . " إني آنست نارا " قال الفراء : إني وجدت ، يقال : هل آنست أحدا ; أي : وجدت ؟ وقال ابن قتيبة : " آنست " بمعنى : أبصرت . فأما القبس ، فقال الزجاج : هو ما أخذته من النار في رأس عود ، أو في رأس فتيلة .

    قوله تعالى : " أو أجد على النار هدى " قال الفراء : أراد : هاديا ، فذكره بلفظ المصدر . قال ابن الأنباري : يجوز أن تكون " على " هاهنا بمعنى ( عند ) ، [ ص: 273 ] وبمعنى ( مع ) ، وبمعنى الباء . وذكر أهل التفسير أنه كان قد ضل الطريق ، فعلم أن النار لا تخلو من موقد . وحكى الزجاج : أنه ضل عن الماء ، فرجا أن يجد من يهديه الطريق أو يدله على الماء .

    قوله تعالى : " فلما أتاها " يعني : النار ، " نودي يا موسى إني أنا ربك " إنما كرر الكناية ; لتوكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة ، وإزالة الشبهة ، ومثله : إني أنا النذير المبين [ الحجر : 89 ] . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : ( أني ) بفتح الألف والياء . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( إني ) بكسر الألف ، إلا أن نافعا فتح الياء . قال الزجاج : من قرأ : ( أني أنا ) بالفتح ، فالمعنى : نودي [ بأني أنا ربك ، ومن قرأ بالكسر ، فالمعنى : نودي ] يا موسى ، فقال الله : إني أنا ربك .

    قوله تعالى : " فاخلع نعليك " في سبب أمره بخلعهما قولان :

    أحدهما : أنهما كانا من جلد حمار ميت ، رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعكرمة .

    والثاني : أنهما كانا من جلد بقرة ذكيت ، ولكنه أمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة ، فتناله بركتها ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة .

    قوله تعالى : " إنك بالواد المقدس " فيه قولان قد ذكرناهما في ( المائدة : 21 ) عند قوله : الأرض المقدسة . [ ص: 274 ]

    قوله تعالى : " طوى " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : ( طوى وأنا ) غير مجراة . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( طوى ) مجراة ، وكلهم ضم الطاء . وقرأ الحسن وأبو حيوة : ( طوى ) بكسر الطاء مع التنوين . وقرأ علي بن نصر عن أبي عمرو : ( طوى ) بكسر الطاء من غير تنوين . قال الزجاج في " طوى " أربعة أوجه : ( طوى ) بضم أوله من غير تنوين وبتنوين ; فمن نونه فهو اسم للوادي ، وهو مذكر ، سمي بمذكر على فعل ، نحو : حطم وصرد ، ومن لم ينونه ترك صرفه من جهتين :

    إحداهما : أن يكون معدولا عن طاو ، فيصير مثل ( عمر ) المعدول عن عامر ، فلا ينصرف كما لا ينصرف ( عمر ) .

    والجهة الثانية : أن يكون اسما للبقعة ، كقوله : في البقعة المباركة [ القصص : 30 ] ، وإذا كسر ونون فهو مثل معى ، والمعنى : المقدس مرة بعد مرة ، كما قال عدي بن زيد :


    أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد


    أي : اللوم المكرر علي ، ومن لم ينون جعله اسما للبقعة .

    [ وللمفسرين في معنى " طوى " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه اسم الوادي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #378
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ طَه
    الحلقة (378)
    صــ 275 إلى صــ 282




    والثاني : أن معنى " طوى " : طإ الوادي ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وعن مجاهد كالقولين . [ ص: 275 ]

    والثالث : أنه قدس مرتين ، قاله الحسن وقتادة ] .

    قوله تعالى : " وأنا اخترتك " ; أي : اصطفيتك . وقرأ حمزة والمفضل : ( وأنا ) بالنون المشددة ( اخترناك ) بألف . " فاستمع لما يوحى " ; أي : للذي يوحى . قال ابن الأنباري : الاستماع هاهنا محمول على الإنصات ، المعنى : فأنصت لوحيي ، والوحي هاهنا قوله : " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " ; أي : وحدني ، " وأقم الصلاة لذكري " فيه قولان :

    أحدهما : أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة ، سواء كنت في وقتها أو لم تكن ، هذا قول الأكثرين . وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، لا كفارة لها غير ذلك ، وقرأ : " أقم الصلاة لذكري " .

    والثاني : أقم الصلاة لتذكرني فيها ، قاله مجاهد . وقيل : إن الكلام مردود على قوله : " فاستمع " ، فيكون المعنى : فاستمع لما يوحى واستمع لذكري . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن السميفع : ( وأقم الصلاة للذكرى ) بلامين وتشديد الذال .

    قوله تعالى : " أكاد أخفيها " أكثر القراء على ضم الألف .

    ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال :

    أحدها : أكاد أخفيها من نفسي ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد في آخرين . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومحمد بن علي : ( أكاد أخفيها من نفسي ) . [ ص: 276 ] قال الفراء : المعنى : فكيف أظهركم عليها ؟ قال المبرد : وهذا على عادة العرب ، فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي ; أي : لم أطلع عليه أحدا .

    والثاني : أن الكلام تم عند قوله : " أكاد " ، وبعده مضمر تقديره : أكاد آتي بها ، والابتداء : أخفيها ، قال ضابئ البرجمي :


    هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله


    أراد : كدت أفعل .

    والثالث : أن معنى " أكاد " : أريد ، قال الشاعر :


    كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى


    معناه : أرادت وأردت ، ذكرهما ابن الأنباري .

    فإن قيل : فما فائدة هذا الإخفاء الشديد ؟

    فالجواب : أنه للتحذير والتخويف ، ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوه كان أشد حذرا . وقرأ سعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، وأبو رجاء العطاردي ، وحميد بن قيس : ( أخفيها ) بفتح الألف . قال الزجاج : ومعناه : أكاد أظهرها ، قال امرؤ القيس :


    فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
    [ ص: 277 ]

    أي : إن تدفنوا الداء لا نظهره . قال : وهذه القراءة أبين في المعنى ; لأن معنى ( أكاد أظهرها ) : قد أخفيتها وكدت أظهرها . " لتجزى كل نفس بما تسعى " ; أي : بما تعمل . و " لتجزى " متعلق بقوله : " إن الساعة آتية " لتجزى ، ويجوز أن يكون على " أقم الصلاة لذكري " لتجزى .

    قوله تعالى : " فلا يصدنك عنها " ; أي : عن الإيمان بها ، " من لا يؤمن بها " ; أي : من لا يؤمن بكونها ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لجميع أمته ، " واتبع هواه " ; أي : مراده ، وخالف أمر الله عز وجل ، " فتردى " ; أي : فتهلك ; قال الزجاج : يقال : ردي يردى : إذا هلك .
    وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى .

    قوله تعالى : " وما تلك بيمينك " قال الزجاج : " تلك " اسم مبهم يجري مجرى ( التي ) ، والمعنى : ما التي بيمينك .

    قوله تعالى : " أتوكأ عليها " التوكؤ : التحامل على الشيء ، " وأهش بها " قال الفراء : أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي . قال الزجاج : واشتقاقه من أني أحيل الشيء إلى الهشاشة والإمكان . والمآرب : الحاجات ، واحدها : مأربة ، ومأربة . وروى قتيبة وورش : ( مآرب ) بإمالة الهمزة . [ ص: 278 ]

    فإن قيل : ما الفائدة في سؤال الله تعالى له : " وما تلك بيمينك " وهو يعلم ؟ فعنه جوابان :

    أحدهما : أن لفظه لفظ الاستفهام ، ومجراه مجرى السؤال ، ليجيب المخاطب بالإقرار به ، فتثبت عليه الحجة باعترافه ، فلا يمكنه الجحد ، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء : ما هذا ؟ فيقول : ماء ، فتضع عليه شيئا من الصبغ ، فإن قال : لم يزل هكذا ، قلت له : ألست قد اعترفت بأنه ماء ؟ فتثبت عليه الحجة ، هذا قول الزجاج . فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرر موسى أنها عصا ، لما أراد أن يريه من قدرته في انقلابها حية ، فوقع المعجز بها بعد التثبت في أمرها .

    والثاني : أنه لما اطلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإجلال حين التكليم ، أراد أن يؤانسه ويخفف عنه ثقل ما كان فيه من الخوف ، فأجرى هذا الكلام للاستئناس ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

    فإن قيل : قد كان يكفي في الجواب أن يقول : " هي عصاي " ، فما الفائدة في قوله : " أتوكأ عليها " إلى آخر الكلام ، وإنما يشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أنه أجاب بقوله : " هي عصاي " ، فقيل له : ما تصنع بها ؟ فذكر باقي الكلام جوابا عن سؤال ثان ، قاله ابن عباس ووهب .

    والثاني : أنه إنما أظهر فوائدها وبين حاجته إليها ; خوفا [ من ] أن يأمره بإلقائها كالنعلين ، قاله سعيد بن جبير .

    والثالث : أنه بين منافعها ; لئلا يكون عابثا بحملها ، قاله الماوردي .

    فإن قيل : فلم اقتصر على ذكر بعض منافعها ولم يطل الشرح ؟ فعنه [ ثلاثة ] أجوبة : [ ص: 279 ]

    أحدها : أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها .

    والثاني : استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد .

    والثالث : أنه اقتصر على اللازم دون العارض .

    وقيل : كانت تضيء له بالليل ، وتدفع عنه الهوام ، وتثمر له إذا اشتهى الثمار ، وفي جنسها قولان :

    أحدهما : أنها كانت من آس الجنة ، قاله ابن عباس . والثاني : [ أنها ] كانت من عوسج .

    فإن قيل : المآرب جمع ، فكيف قال : " أخرى " ، ولم يقل : ( أخر ) ؟

    فالجواب : أن المآرب في معنى جماعة ، فكأنه قال : جماعة من الحاجات أخرى ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " قال ألقها يا موسى " قال المفسرون : ألقاها ظنا منه أنه قد أمر برفضها ، فسمع حسا فالتفت ، فإذا هي كأعظم ثعبان ، تمر بالصخرة العظيمة فتبتلعها ، فهرب منها .

    وفي وجه الفائدة في إظهار هذه الآية ليلة المخاطبة قولان :

    أحدهما : لئلا يخاف منها إذا ألقاها بين يدي فرعون .

    والثاني : ليريه أن الذي أبعثك إليه دون ما أريتك ، فكما ذللت لك الأعظم وهو الحية ، أذلل لك الأدنى . [ ص: 280 ]

    ثم إن الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حية ، فوضع يده عليها فعادت عصا ، فذلك قوله : " سنعيدها سيرتها الأولى " ، قال الفراء : طريقتها ، يقول : نردها عصا كما كانت . قال الزجاج : و " سيرتها " منصوبة على إسقاط الخافض وإفضاء الفعل إليها ، المعنى : سنعيدها إلى سيرتها .

    فإن قيل : إنما كانت العصا واحدة ، وكان إلقاؤها مرة ، فما وجه اختلاف الأخبار عنها ، فإنه يقول في ( الأعراف : 107 ) : فإذا هي ثعبان مبين ، وهاهنا : " حية " ، وفي مكان آخر : كأنها جان [ النمل : 10 ] ، والجان ليست بالعظيمة ، والثعبان أعظم الحيات ؟

    فالجواب : أن صفتها بالجان عبارة عن ابتداء حالها ، وبالثعبان إخبار عن انتهاء حالها ، والحية اسم يقع على الصغير والكبير ، والذكر والأنثى . وقال الزجاج : خلقها خلق الثعبان العظيم ، واهتزازها ، وحركتها ، وخفتها ، كاهتزاز الجان وخفته .

    قوله تعالى : " واضمم يدك إلى جناحك " قال الفراء : الجناح : من أسفل العضد إلى الإبط .

    وقال أبو عبيدة : الجناح : ناحية الجنب ، وأنشد :


    أضمه للصدر والجناح


    قوله تعالى : " تخرج بيضاء من غير سوء " ; أي : من غير برص ، " آية أخرى " ; أي : دلالة على صدقك سوى العصا . قال الزجاج : ونصب " آية " على معنى : آتيناك آية ، أو نؤتيك [ آية ] .

    قوله تعالى : " لنريك من آياتنا الكبرى " . [ ص: 281 ]

    إن قيل : لم لم يقل : الكبر ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أنه كقوله : " مآرب أخرى " وقد شرحناه ، هذا قول الفراء .

    والثاني : أن فيه إضمارا تقديره : لنريك من آياتنا الآية الكبرى . وقال أبو عبيدة : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لنريك الكبرى من آياتنا .

    والثالث : إنما كان ذلك لوفاق رأس الآي ، حكى القولين الثعلبي .
    اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا .

    قوله تعالى : " إنه طغى " ; أي : جاوز الحد في العصيان .

    قوله تعالى : " اشرح لي صدري " قال المفسرون : ضاق موسى صدرا بما كلف من مقاومة فرعون وجنوده ، فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق حتى لا يخاف فرعون وجنوده ، ومعنى قوله : " ويسر لي أمري " : سهل علي ما بعثتني له . " واحلل عقدة من لساني " قال ابن قتيبة : كانت فيه رتة . قال المفسرون : كان فرعون قد وضع موسى في حجره وهو صغير ، فجر لحية فرعون بيده ، فهم بقتله ، فقالت له آسية : إنه لا يعقل ، وسأريك بيان ذلك ، قدم إليه جمرتين ولؤلؤتين ، فإن اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل ، فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه ، فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة ، فسأل حلها ليفهموا كلامه . [ ص: 282 ]

    وأما الوزير ، فقال ابن قتيبة : أصل الوزارة من الوزر وهو الحمل ، كان الوزير قد حمل عن السلطان الثقل . وقال الزجاج : اشتقاقه من الوزر والوزر : الجبل الذي يعتصم به لينجى من الهلكة ، وكذلك وزير الخليفة ، معناه : الذي يعتمد عليه في أموره ويلتجئ إلى رأيه . ونصب " هارون " من جهتين : إحداهما : أن تكون " اجعل " تتعدى إلى مفعولين ، فيكون المعنى : اجعل هارون أخي وزيري ، فينتصب " وزيرا " على أنه مفعول ثان . ويجوز أن يكون " هارون " بدلا من قوله : " وزيرا " ، فيكون المعنى : اجعل لي وزيرا من أهلي ، [ ثم ] أبدل هارون من وزير ، والأول أجود . قال الماوردي : وإنما سأل الله تعالى أن يجعل له وزيرا ; لأنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى يكون شريكا في النبوة ، ولولا ذلك لجاز أن يستوزر من غير مسألة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح ياء ( أخي ) .

    قوله تعالى : " اشدد به أزري " قال الفراء : هذا دعاء من موسى ، والمعنى : اشدد به يا رب أزري ، وأشركه يا رب في أمري . وقرأ ابن عامر : ( أشدد ) بالألف مقطوعة مفتوحة ، و( أشركه ) بضم الألف ، وكذلك يبتدئ بالألفين . قال أبو علي : هذه القراءة على الجواب والمجازاة ، والوجه الدعاء دون الإخبار ; لأن ما قبله دعاء ، ولأن الإشراك في النبوة لا يكون إلا من الله عز وجل . قال ابن قتيبة : والأزر : الظهر ، يقال : آزرت فلانا على الأمر ; أي : قويته عليه وكنت له فيه ظهرا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #379
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ طَه
    الحلقة (379)
    صــ 283 إلى صــ 290




    قوله تعالى : " وأشركه في أمري " ; أي : في النبوة معي ، " كي نسبحك " ; أي : نصلي لك ، " ونذكرك " بألسنتنا حامدين لك على ما أوليتنا من نعمك ، " إنك كنت بنا بصيرا " ; أي : عالما ; إذ خصصتنا بهذه النعم . [ ص: 283 ]
    قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري .

    قوله تعالى : " قال قد أوتيت سؤلك " قال ابن قتيبة ; أي : طلبتك ، وهو ( فعل ) من ( سألت ) ; أي : أعطيت ما سألت .

    قوله تعالى : " ولقد مننا عليك " ; أي : أنعمنا عليك ، " مرة أخرى " قبل هذه المرة . ثم بين متى كانت بقوله : " إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى " ; أي : ألهمناها ما يلهم مما كان سببا لنجاتك ، ثم فسر ذلك بقوله : " أن اقذفيه في التابوت " وقذف الشيء : الرمي به .

    فإن قيل : ما فائدة قوله : " ما يوحى " وقد علم ذلك ؟ فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين :

    أحدهما : أن المعنى : أوحينا إليها الشيء الذي يجوز أن يوحى إليها ; إذ ليس كل الأمور يصلح وحيه إليها ; لأنها ليست بنبي ، وذلك أنها ألهمت .

    والثاني : أن " ما يوحى " أفاد توكيدا ، كقوله : فغشاها ما غشى [ النجم : 54 ] [ ص: 284 ]

    قوله تعالى : " فليلقه اليم " قال ابن الأنباري : ظاهر هذا الأمر ، ومعناه معنى الخبر ، تأويله : يلقيه [ اليم ] ، ويجوز أن يكون البحر مأمورا بآلة ركبها الله تعالى فيه ، فسمع وعقل ، كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار . فأما الساحل : فهو شط البحر . " يأخذه عدو لي وعدو له " يعني : فرعون . قال المفسرون : اتخذت أمه تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا ، ووضعت فيه موسى وأحكمت بالقار شقوق التابوت ، ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية ، إذا بالتابوت ، فأمر الغلمان والجواري بأخذه ، فلما فتحوه رأوا صبيا من أصبح الناس وجها ، فلما رآه فرعون أحبه حبا شديدا ، فذلك قوله : " وألقيت عليك محبة مني " ، [ قال أبو عبيدة : ومعنى " ألقيت عليك " ; أي : جعلت لك محبة مني ] . قال ابن عباس : أحبه وحببه إلى خلقه ، فلا يلقاه أحد إلا أحبه من مؤمن وكافر . وقال قتادة : كانت في عينيه ملاحة ، فما رآه أحد إلا حبه .

    قوله تعالى : " ولتصنع على عيني " وقرأ أبو جعفر : ( ولتصنع ) بسكون اللام والعين والإدغام . قال قتادة : لتغذى على محبتي وإرادتي . قال أبو عبيدة : على ما أريد وأحب . قال ابن الأنباري : هو من قول العرب : غذي فلان على عيني ; أي : على المحبة مني . وقال غيره : لتربى وتغذى بمرأى مني ، يقال : صنع الرجل جاريته : إذا رباها ، وصنع فرسه : إذا داوم على علفه ومراعاته ، والمعنى : ولتصنع على عيني ، قدرنا مشي أختك وقولها : " هل أدلكم على من يكفله " ; لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله عز وجل . فأما أخته ، فقال مقاتل : اسمها مريم . قال الفراء : وإنما اقتصر على ذكر المشي ، [ ص: 285 ] ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون ، فدلتهم على الظئر ; لأن العرب تجتزئ بحذف كثير من الكلام وبقليله ، إذا كان المعنى معروفا ، ومثله قوله : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون [ يوسف : 45 ] ، ولم يقل : فأرسل حتى دخل على يوسف .

    قال المفسرون : سبب مشي أخته أن أمه قالت لها : قصيه ، فاتبعت موسى على أثر الماء ، فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة ، فقالت لهم أخته : " هل أدلكم على من يكفله " ; أي : يرضعه ويضمه إليه ، فقيل لها : ومن هي ؟ فقالت : أمي ، قالوا : وهل لها لبن ؟ قالت : لبن أخي هارون ، وكان هارون أسن من موسى بثلاث سنين فأرسلوها ، فجاءت بالأم فقبل ثديها ، فذلك قوله : " فرجعناك إلى أمك " ; أي : رددناك إليها ، " كي تقر عينها " بك وبرؤيتك . " وقتلت نفسا " يعني : القبطي الذي وكزه فقضى عليه ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، " فنجيناك من الغم " وكان مغموما مخافة أن يقتل به ، فنجاه الله بأن هرب إلى مدين ، " وفتناك فتونا " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : اختبرناك اختبارا ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني : أخلصناك إخلاصا ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .

    والثالث : ابتليناك ابتلاء ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة . وقال الفراء : ابتليناك بغم القتيل ابتلاء . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : الفتون : وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها ، أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر ، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل [ ص: 286 ] الدرة ، ثم قتله القبطي ، ثم خروجه إلى مدين خائفا ، وكان ابن عباس يقص هذه القصص على سعيد بن جبير ، ويقول له عند كل ثلاثة : وهذا من الفتون يابن جبير . فعلى هذا يكون " فتناك " : خلصناك من تلك المحن ، كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث . والفتون مصدر .

    قوله تعالى : " فلبثت سنين " تقدير الكلام : فخرجت إلى أهل مدين . ومدين : بلد شعيب ، وكان على ثماني مراحل من مصر ، فهرب إليه موسى . وقيل : مدين : اسم رجل ، وقد سبق هذا [ الأعراف : 86 ] .

    وفي قدر لبثه هناك قولان :

    أحدهما : عشر سنين ، قاله ابن عباس ومقاتل .

    والثاني : ثماني وعشرون سنة ، عشر منهن مهر امرأته ، وثماني عشرة أقام حتى ولد له ، قاله وهب .

    قوله تعالى : " ثم جئت على قدر " ; أي : جئت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك ، وكان ذلك على رأس أربعين سنة ، وهو الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء ، هذا قول الأكثرين . وقال الفراء : " على قدر " ; أي : على ما أراد الله به من تكليمه .

    قوله تعالى : " واصطنعتك لنفسي " ; أي : اصطفيتك واختصصتك ، والاصطناع : اتخاذ الصنيعة ، وهو الخير تسديه إلى إنسان . وقال ابن عباس : اصطفيتك لرسالتي ووحيي ، " اذهب أنت وأخوك بآياتي " وفيها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها العصا واليد ، وقد يذكر الاثنان بلفظ الجمع .

    والثاني : العصا ، واليد ، وحل العقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها ، ذكرهما ابن الأنباري . [ ص: 287 ]

    والثالث : الآيات التسع . والأول أصح .

    قوله تعالى : " ولا تنيا " قال ابن قتيبة : لا تضعفا ولا تفترا ، يقال : وني يني في الأمر ، وفيه لغة أخرى : وني يونى .

    وفي المراد بالذكر هاهنا قولان :

    أحدهما : أنه الرسالة إلى فرعون . والثاني : أنه القيام بالفرائض والتسبيح والتهليل .
    اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى .

    قوله تعالى : " اذهبا إلى فرعون " فائدة تكرار الأمر بالذهاب التوكيد . وقد فسرنا قوله : إنه طغى [ طه : 24 ] .

    قوله تعالى : " فقولا له قولا لينا " وقرأ أبو عمران الجوني وعاصم الجحدري : ( لينا ) بإسكان الياء ; أي : لطيفا رفيقا .

    وللمفسرين فيه خمسة أقوال :

    أحدها : قولا له : قل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رواه خالد بن معدان عن معاذ ، والضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : أنه قوله : هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ النازعات : 18 ، 19 ] ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل . [ ص: 288 ]

    والثالث : كنياه ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال السدي . فأما اسمه فقد ذكرناه في ( البقرة : 49 ) ، وفي كنيته أربعة أقوال : أحدها : أبو مرة ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني : أبو مصعب ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . والثالث : أبو العباس . والرابع : أبو الوليد ، حكاهما الثعلبي .

    والقول الرابع : قولا له : إن لك ربا وإن لك معادا ، وإن بين يديك جنة ونارا ، قاله الحسن .

    والخامس : أن القول اللين : أن موسى أتاه فقال له : تؤمن بما جئت به وتعبد رب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم ، وتكون ملكا لا ينزع منك حتى تموت ، فإذا مت دخلت الجنة ، فأعجبه ذلك ; فلما جاء هامان أخبره بما قال موسى ، فقال : قد كنت أرى أن لك رأيا ، أنت رب أردت أن تكون مربوبا ؟ فقلبه عن رأيه ، قاله السدي . وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ هذه الآية ، فقال : إلهي هذا رفقك بمن يقول : أنا إله ، فكيف رفقك بمن يقول : أنت إله .

    قوله تعالى : " لعله يتذكر أو يخشى " قال الزجاج : " لعل " في اللغة : ترج وطمع ، تقول : لعلي أصير إلى خير ، فخاطب الله عز وجل العباد بما يعقلون . والمعنى عند سيبويه : اذهبا على رجائكما وطمعكما . والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون ، وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى ، إلا أن الحجة إنما تجب عليه بالآية والبرهان ، وإنما تبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب ، ولا تدري أيقبل منها أم لا ، وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم ، ومعنى " لعل " متصور في أنفسهم ، وعلى تصور ذلك تقوم الحجة . قال ابن الأنباري : ومذهب الفراء في هذا : كي يتذكر . وروى خالد بن معدان عن معاذ ، قال : والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى [ ص: 289 ] يتذكر أو يخشى لهذه الآية ، وإنه تذكر وخشي لما أدركه الغرق . وقال كعب : والذي يحلف به كعب ، إنه لمكتوب في التوراة : فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن . قال المفسرون : كان هارون يومئذ غائبا بمصر ، فأوحى الله تعالى إلى هارون أن يتلقى موسى ، فتلقاه على مرحلة ، فقال له موسى : إن الله تعالى أمرني أن آتي فرعون ، فسألته أن يجعلك معي ; فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا : ربنا إننا نخاف . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده ، وأخبر الله عنه بالتثنية لما ضم إليه هارون ، فإن العرب قد توقع التثنية على الواحد ، فتقول : يا زيد قوما ، يا حرسي اضربا عنقه .

    قوله تعالى : " أن يفرط علينا " وقرأ عبد الله بن عمرو ، وابن السميفع ، وابن يعمر ، وأبو العالية : ( أن يفرط ) برفع الياء وكسر الراء . وقرأ عكرمة وإبراهيم النخعي : ( أن يفرط ) بفتح الياء والراء . وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن محيصن : ( أن يفرط ) برفع الياء وفتح الراء . قال الزجاج : المعنى : أن يبادر بعقوبتنا ، يقال : قد فرط منه أمر ; أي : قد بدر ، وقد أفرط في الشيء : إذا اشتط فيه ، وفرط في الشيء : إذا قصر ، ومعناه كله : التقدم في الشيء ; لأن الفرط في اللغة : المتقدم ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " أنا فرطكم على الحوض " [ ص: 290 ]

    قوله تعالى : " أو أن يطغى " فيه قولان :

    أحدهما : يستعصي ، قاله مقاتل . والثاني : يجاوز الحد في الإساءة إلينا . قال ابن زيد : نخاف أن يعجل علينا قبل أن نبلغه كلامك وأمرك .

    قوله تعالى : " إنني معكما " ; أي : بالنصرة والعون ، " أسمع " أقوالكم ، " وأرى " أفعالكم . قال الكلبي : أسمع جوابه لكما ، وأرى ما يفعل بكما .

    قوله تعالى : " فأرسل معنا بني إسرائيل " ; أي : خل عنهم ، " ولا تعذبهم " وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة ، " قد جئناك بآية من ربك " قال ابن عباس : هي العصا . قال مقاتل : أظهر اليد في مقام والعصا في مقام .

    قوله تعالى : " والسلام على من اتبع الهدى " قال مقاتل : على من آمن بالله . قال الزجاج : وليس يعني به التحية ، وإنما معناه : أن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله وسخطه ، والدليل على أنه ليس بسلام ، أنه ليس بابتداء لقاء وخطاب .

    قوله تعالى : " على من كذب " ; أي : بما جئنا به وأعرض عنه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #380
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ طَه
    الحلقة (380)
    صــ 291 إلى صــ 298



    قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى [ ص: 291 ]

    قوله تعالى : " قال فمن ربكما " في الكلام محذوف معناه معلوم ، وتقديره : فأتياه فأديا الرسالة . قال الزجاج : وإنما لم يقل : فأتياه ; لأن في الكلام دليلا على ذلك ; لأن قوله : " فمن ربكما " يدل على أنهما أتياه وقالا له .

    قوله تعالى : " أعطى كل شيء خلقه " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أعطى كل شيء صورته ، فخلق كل جنس من الحيوان على غير صورة جنسه ، فصورة ابن آدم لا كصورة البهائم ، وصورة البعير لا كصورة الفرس ، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير .

    والثاني : أعطى كل ذكر زوجه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال السدي ، فيكون المعنى : أعطى كل حيوان ما يشاكله .

    والثالث : أعطى كل شيء ما يصلحه ، قاله قتادة .

    وفي قوله : " ثم هدى " ثلاثة أقوال :

    أحدها : هدى كيف يأتي الذكر الأنثى ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير .

    والثاني : هدى للمنكح والمطعم والمسكن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث : هدى كل شيء إلى معيشته ، قاله مجاهد . وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، والأعمش ، وابن السميفع ، ونصير عن الكسائي : ( أعطى كل شيء خلقه ) بفتح اللام .

    فإن قيل : ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا ؟

    فالجواب : أنه قد ثبت وجود خلق وهداية ، فلا بد من خالق وهاد .

    قوله تعالى : " قال فما بال القرون الأولى " اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال : [ ص: 292 ]

    أحدها : أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها ، ولم يكن له بذلك علم ; إذ التوراة إنما نزلت عليه بعد هلاكفرعون ، فقال : " علمها عند ربي " ، هذا مذهب مقاتل . وقال غيره : أراد : إني رسول ، وأخبار الأمم علم غيب ، فلا علم لي بالغيب .

    والثاني : أن مراده من السؤال عنها : لم عبدت الأصنام ، ولم لم يعبد الله إن كان الحق ما وصفت ؟

    والثالث : أن مراده : ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تجازى ؟ فقال : علمها عند الله ; أي : علم أعمالها . وقيل : الهاء في " علمها " كناية عن القيامة ; لأنه سأله عن بعث الأمم ، فأجابه بذلك .

    وقوله : " في كتاب " أراد : اللوح المحفوظ .

    قوله تعالى : " لا يضل ربي ولا ينسى " وقرأ عبد الله بن عمرو ، وعاصم الجحدري ، وقتادة ، وابن محيصن : ( لا يضل ) بضم الياء وكسر الضاد ; أي : لا يضيعه . وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع : ( لا يضل ) بضم الياء وفتح الضاد . وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال ، والمعنى : لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم . وقيل : أراد : لم يجعل ذلك في كتاب ; لأنه يضل وينسى .

    قوله تعالى : " الذي جعل لكم الأرض مهدا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( مهادا ) . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : ( مهدا ) بغير ألف . والمهاد : الفراش ، والمهد : الفرش . " وسلك لكم " ; أي : أدخل لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها ، " وأنزل من السماء ماء " يعني : المطر . [ ص: 293 ] وهذا آخر الإخبار عن موسى . ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله : " فأخرجنا به " يعني : بالماء ، " أزواجا من نبات شتى " ; أي : أصنافا مختلفة في الألوان والطعوم ، كل صنف منها زوج . و " شتى " لا واحد له من لفظه . " كلوا " ; أي : مما أخرجنا لكم من الثمار ، " وارعوا أنعامكم " يقال : رعى الماشية يرعاها : إذا سرحها في المرعى ، ومعنى هذا الأمر : التذكير بالنعم . " إن في ذلك لآيات " ; أي : لعبرا في اختلاف الألوان والطعوم ، " لأولي النهى " قال الفراء : لذوي العقول ، يقال للرجل : إنه لذو نهية : إذا كان ذا عقل . قال الزجاج : واحد النهى : نهية ، يقال : فلان ذو نهية ; أي : ذو عقل ينتهي به عن المقابح ، ويدخل به في المحاسن ; قال : وقال بعض أهل اللغة : ذو النهية : الذي ينتهى إلى رأيه وعقله ، وهذا حسن أيضا .

    قوله تعالى : " منها خلقناكم " يعني : الأرض المذكورة في قوله : " جعل لكم الأرض مهدا " . والإشارة بقوله : " خلقناكم " إلى آدم والبشر كلهم منه . " وفيها نعيدكم " بعد الموت ، " ومنها نخرجكم تارة " ; أي : مرة أخرى بعد البعث ، يعني : كما أخرجناكم منها أولا عند خلق آدم من الأرض .

    ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان [ ص: 294 ] لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى .

    قوله تعالى : " ولقد أريناه " يعني : فرعون ، " آياتنا كلها " يعني : التسع الآيات ، ولم ير كل آية لله لأنها لا تحصى ، " فكذب " ; أي : نسب الآيات إلى الكذب وقال : هذا سحر ، " وأبى " أن يؤمن ، " قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا " يعني : مصر ، " بسحرك " ; أي : تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها ، " فلنأتينك بسحر مثله " ; أي : فلنقابلن ما جئت به من السحر بمثله ، " فاجعل بيننا وبينك موعدا " ; أي : اضرب بيننا وبينك أجلا وميقاتا ، " لا نخلفه " ; أي : لا نجاوزه ، " نحن ولا أنت مكانا " وقيل : المعنى : اجعل بيننا وبينك موعدا مكانا نتواعد لحضورنا ذلك المكان ، ولا يقع منا خلاف في حضوره . " سوى " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي بكسر السين . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وخلف ، ويعقوب : ( سوى ) بضمها . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو المتوكل ، وابن أبي عبلة : ( مكانا سواء ) بالمد والهمز والنصب والتنوين وفتح السين . وقرأ ابن مسعود مثله ، إلا أنه كسر السين . قال أبو عبيدة : هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين ، والمعنى : مكانا تستوي مسافته على الفريقين ، فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر . " قال موعدكم يوم الزينة " قرأ الجمهور برفع الميم . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، [ وقتادة ] ، وابن أبي عبلة ، وهبيرة عن حفص بنصب الميم . وفي هذا اليوم أربعة أقوال :

    أحدها : يوم عيد لهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، والسدي عن أشياخه ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد . [ ص: 295 ]

    والثاني : يوم عاشوراء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثالث : يوم النيروز ، ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والرابع : يوم سوق لهم ، قاله سعيد بن جبير .

    وأما رفع اليوم ، فقال البصريون : التقدير : وقت موعدكم يوم الزينة ، فناب الموعد عن الوقت ، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إذا ظهر . فأما نصبه ، فقال الزجاج : المعنى : موعدكم يقع يوم الزينة . " وأن يحشر الناس " موضع " أن " رفع ، المعنى : موعدكم حشر الناس ، " ضحى " ; أي : إذا رأيتم الناس قد حشروا ضحى . ويجوز أن تكون " أن " في موضع خفض عطفا على الزينة ، المعنى : موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحى . وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : ( وأن تحشر ) بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب ( الناس ) . وعن ابن مسعود والنخعي : ( وأن يحشر ) بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب ( الناس ) .

    قال المفسرون : أراد بالناس : أهل مصر ، وبالضحى : ضحى اليوم ، وإنما علقه بالضحى ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس ، فيكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة .

    " فتولى فرعون " فيه قولان :

    أحدهما : أن المعنى : تولى عن الحق الذي أمر به .

    والثاني : أنه انصرف إلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى . " فجمع كيده " ; أي : مكره وحيلته ، " ثم أتى " ; أي : حضر الموعد . " قال لهم موسى " ; أي : للسحرة . وقد ذكرنا عددهم في ( الأعراف : 114 ) . [ ص: 296 ]

    قوله تعالى : " ويلكم " قال الزجاج : هو منصوب على ( ألزمكم الله ويلا ) ، ويجوز أن يكون على النداء ، كقوله تعالى : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا [ يس : 52 ] .

    قوله تعالى : " لا تفتروا على الله كذبا " قال ابن عباس : لا تشركوا معه أحدا .

    قوله تعالى : " فيسحتكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : ( فيسحتكم ) بفتح الياء من ( سحت ) . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( فيسحتكم ) بضم الياء من ( أسحت ) . قال الفراء : ويسحت أكثر ، وهو الاستئصال ، والعرب تقول : سحته الله ، وأسحته ، قال الفرزدق :


    وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف


    هكذا أنشد البيت الفراء والزجاج . ورواه أبو عبيدة : ( إلا مسحت أو مجلف ) بالرفع . [ ص: 297 ]

    قوله تعالى : " فتنازعوا أمرهم بينهم " يعني : السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى وتشاوروا ، " وأسروا النجوى " ; أي : أخفوا كلامهم من فرعون وقومه . وقيل : من موسى وهارون . وقيل : " أسروا " هاهنا بمعنى : أظهروا .

    وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم قالوا : إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه ، وإن يكن من السماء كما زعمتم فله أمره ، قاله قتادة .

    والثاني : أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا : ما هذا بقول ساحر ، ولكن هذا كلام الرب الأعلى ، فعرفوا الحق ، ثم نظروا إلى فرعون وسلطانه ، وإلى موسى وعصاه ، فنكسوا على رؤوسهم وقالوا : إن هذان لساحران ، قاله الضحاك ومقاتل .

    والثالث : أنهم قالوا : " إن هذان لساحران . . . " الآيات ، قاله السدي .

    واختلف القراء في قوله تعالى : " إن هذان لساحران " ، فقرأ أبو عمرو بن العلاء : ( إن هذين ) على إعمال ( إن ) ، وقال : إني لأستحيي من الله أن أقرأ ( إن هذان ) . وقرأ ابن كثير : ( إن ) خفيفة ( هذان ) بتشديد النون . وقرأ عاصم في رواية حفص : ( إن ) خفيفة ( هذان ) خفيفة أيضا . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( إن ) بالتشديد ( هاذان ) بألف ونون خفيفة . فأما قراءة أبي عمرو فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روي عن عثمان وعائشة ، أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى : والمقيمين الصلاة في سورة [ النساء : 162 ] . وأما قراءة عاصم فمعناها : ما هذان إلا ساحران ، [ ص: 298 ] كقوله تعالى : وإن نظنك لمن الكاذبين [ الشعراء : 186 ] ; أي : ما نظنك إلا من الكاذبين ، وأنشدوا في ذلك :


    ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليه عقوبة المتعمد


    أي : ما قتلت إلا مسلما . قال الزجاج : ويشهد لهذه القراءة ما روي عن أبي بن كعب ، أنه قرأ : ( ما هذان إلا ساحران ) ، وروي عنه : ( إن هذان إلا ساحران ) ، ورويت عن الخليل : ( إن هذان ) بالتخفيف ، والإجماع على أنه لم يكن أحد أعلم بالنحو من الخليل . فأما قراءة الأكثرين بتشديد ( إن ) وإثبات الألف في قوله : ( هذان ) ، فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : هي لغة بلحارث بن كعب . وقال ابن الأنباري : هي لغة لبني الحارث بن كعب وافقتها لغة قريش . قال الزجاج : وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب ، وهو رأس من رؤوس الرواة : أنها لغة لكنانة ، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد ، يقولون : أتاني الزيدان ، ورأيت الزيدان ، ومررت بالزيدان ، وأنشدوا :


    فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى مساغا لناباه الشجاع لصمما

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •