تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 18 من 25 الأولىالأولى ... 8910111213141516171819202122232425 الأخيرةالأخيرة
النتائج 341 إلى 360 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #341
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (341)
    صــ 485 إلى صــ 492




    [ ص: 485 ] قوله تعالى : " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " أي : بالوفاء ، وذلك أن من حلف بالله ، فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه .

    وللمفسرين في معنى " كفيلا " ثلاثة أقوال :

    أحدها : شهيدا ، قاله سعيد بن جبير . والثاني : وكيلا ، قاله مجاهد .

    والثالث : حفيظا مراعيا لعقدكم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها " قال مجاهد : هذا فعل نساء أهل نجد ، تنقض إحداهن حبلها ، ثم تنفشه ، ثم تخلطه بالصوف فتغزله . وقال مقاتل : هي امرأة من قريش تسمى " ريطة " بنت عمرو بن كعب ، كانت إذا غزلت ، نقضته . وقال ابن السائب : اسمها " رائطة " وقال ابن الأنباري : اسمها " ريطة " بنت عمرو المرية ، ولقبها الجعراء ، وهي من أهل مكة ، وكانت معروفة عند المخاطبين ، فعرفوها بوصفها ، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك ، كانت متناهية الحمق ، تغزل الغزل من القطن أو الصوف فتحكمه ، ثم تأمر جاريتها بتقطيعه . وقال بعضهم : كانت تغزل هي وجواريها ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، فضربها الله مثلا لناقضي العهد . و " نقضت " بمعنى : تنقض ، كقوله : ونادى أصحاب الجنة [الأعراف :43] بمعنى : وينادي .

    وفي المراد بالغزل قولان :

    أحدهما : أنه الغزل المعروف ، سواء كان من قطن أو صوف أو شعر ، وهو قول الأكثرين .

    والثاني : أنه الحبل ، قاله مجاهد . وقوله : " من بعد قوة " قال قتادة : من بعد إبرام ، وقوله : " أنكاثا " أي : أنقاضا . قال ابن قتيبة : الأنكاث : ما نقض من غزل الشعر وغيره . وواحدها نكث . يقول : لا تؤكدوا على [ ص: 486 ] أنفسكم الأيمان والعهود ، ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه ، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ، ثم نقضت ذلك النسج ، فجعلته أنكاثا .

    قوله تعالى : " تتخذون أيمانكم دخلا بينكم " أي : دغلا ، ومكرا ، وخديعة ، وكل شيء دخله عيب ، فهو مدخول ، وفيه دخل .

    قوله تعالى : " أن تكون أمة " قال ابن قتيبة : لأن تكون أمة ، " هي أربى " أي : هي أغنى " من أمة " . وقال [الزجاج] : المعنى : بأن تكون أمة هي أكثر ، يقال : ربا الشيء يربو : إذا كثر . قال ابن الأنباري : قال اللغويون : " أربى " : أزيد عددا . قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك ، فنهوا عن ذلك . وقال الفراء : المعنى : لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو قلتكم وكثرتهم وقد غررتموهم بالأيمان .

    قوله تعالى : " إنما يبلوكم الله به " في هذه الآية ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها ترجع إلى الكثرة ، قاله سعيد بن جبير ، وابن السائب ، ومقاتل ، فيكون المعنى : إنما يختبركم الله بالكثرة ، فإذا كان بين قومين عهد ، فكثر أحدهما ، فلا ينبغي أن يفسخ الذي بينه وبين الأقل . فإن قيل : إذا كنى عن الكثرة ، فهلا قيل بها ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، بأن الكثرة ليس تأنيثها حقيقيا ، فحملت على معنى التذكير ، كما حملت الصيحة على معنى الصياح .

    والثاني : أنها ترجع إلى العهد ، فإنه لدلالة الأيمان عليه ، يجري مجرى المظهر ، ذكره ابن الأنباري .

    والثالث : أنها ترجع إلى الأمر بالوفاء ، ذكره بعض المفسرين .

    قوله تعالى : " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " قد فسرناه في آخر (هود :118) .

    [ ص: 487 ] قوله تعالى : " ولكن يضل من يشاء " صريح في تكذيب القدرية ، حيث أضاف الإضلال والهداية إليه ، وعلقهما بمشيئته .
    ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون

    قوله تعالى : " ولا تتخذوا أيمانكم دخلا " هذا استئناف للنهي عن أيمان الخديعة . " فتزل قدم بعد ثبوتها " قال أبو عبيدة : هذا مثل يقال لكل مبتلى بعد عافية ، أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلت به قدمه . قال مقاتل : ناقض العهد يزل في دينه كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة ، قال المفسرون : وهذا نهي للذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ونصرة الدين عن نقض العهد ، ويدل عليه قوله تعالى : " وتذوقوا السوء " يعني : العقوبة " بما صددتم عن سبيل الله " يريد أنهم إذا نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صدوا الناس عن الإسلام ، فاستحقوا العذاب .

    وقوله تعالى : " ولكم عذاب عظيم " يعني : في الآخرة . ثم أكد ذلك بقوله : " ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا " قال أبو صالح عن ابن عباس : نزلت في رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض ، يقال لأحدهما : " عيدان بن أشوع " وهو صاحب الأرض ، وللآخر : " امرؤ القيس " وهو المدعى عليه ، فهم امرؤ القيس أن يحلف ، فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . وذكر أبو بكر الخطيب أن اسم صاحب الأرض " : ربيعة بن عبدان " وقيل : " عيدان " ، [ ص: 488 ] بفتح العين وياء معجمة باثنتين . ومعنى الآية :لا تنقضوا عهودكم ، تطلبون بنقضها عرضا يسيرا من الدنيا ، إن ما عند الله من الثواب على الوفاء هو خير لكم من العاجل . " ما عندكم ينفد " أي : يفنى " وما عند الله " في الآخرة " باق " وقف بالياء ابن كثير في رواية عنه ، ولا خلاف في حذفها في الوصل . " ولنجزين الذين صبروا " قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : " وليجزين " بالياء . وقرأ ابن كثير ، وعاصم : " ولنجزين " بالنون . ولم يختلفوا في " ولنجزينهم أجرهم " أنها بالنون ، ومعنى هذه الآية : وليجزين الذين صبروا على أمره بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا ، ويتجاوز عن سيئاتهم .
    من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون

    قوله تعالى : " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " في سبب نزولها قولان : أحدهما : أن امرأ القيس المتقدم ذكره أقر بالحق الذي هم أن يحلف عليه ، فنزلت فيه : " من عمل صالحا " ، وهو إقراره بالحق ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أن ناسا من أهل التوراة ، وأهل الإنجيل ، وأهل الأوثان ، جلسوا ، فتفاضلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح .

    قوله تعالى : " فلنحيينه حياة طيبة " اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطيبة على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها في الدنيا ، رواه العوفي عن ابن عباس . ثم فيها للمفسرين تسعة أقوال : أحدها : أنها القناعة ، قاله علي عليه السلام ، وابن عباس في رواية ، والحسن في [ ص: 489 ] رواية، ووهب بن منبه . والثاني : أنها الرزق الحلال ، رواه أبو مالك عن ابن عباس . وقال الضحاك : يأكل حلالا ويلبس حلالا . والثالث : أنها السعادة ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . والرابع : أنها الطاعة ، قاله عكرمة . والخامس : أنها رزق يوم بيوم ، قاله قتادة . والسادس : أنها الرزق الطيب ، والعمل الصالح ، قاله إسماعيل بن أبي خالد . والسابع : أنها حلاوة الطاعة ، قاله أبو بكر الوراق . والثامن : العافية والكفاية . والتاسع : الرضى بالقضاء، ذكرهما الماوردي .

    والثاني : أنها في الآخرة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن زيد ، وذلك إنما يكون في الجنة .

    والثالث : أنها في القبر ، رواه أبو غسان عن شريك .
    فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين

    قوله تعالى : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن المعنى : فإذا أردت القراءة فاستعذ ، ومثله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [المائدة :6] وقوله : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب [الأحزاب :53] وقوله : إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة [المجادلة :12] .

    ومثله في الكلام : إذا أكلت ، فقل باسم الله ، هذا قول عامة العلماء واللغويين .

    [ ص: 490 ] والثاني : أنه على ظاهره ، وأن الاستعاذة بعد القراءة . روي عن أبي هريرة ، وداود .

    والثالث : أنه من المقدم والمؤخر ، فالمعنى : فإذا استعذت بالله فاقرأ ، قاله أبو حاتم السجستاني ، والأول أصح .

    فصل

    والاستعاذة عند القراءة سنة في الصلاة وغيرها .

    وفي صفتها عن أحمد روايتان :

    إحداهما : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إن الله هو السميع العليم ، رواها أبو بكر المروزي .

    والثانية : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، إن الله هو السميع العليم ، رواها حنبل . وقد بينا معنى " أعوذ " في أول الكتاب [ص:7] ، وشرحنا اشتقاق الشيطان في (البقرة :14) ، والرجيم في (آل عمران : 36) .

    قوله تعالى : " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا " في المراد بالسلطان قولان :

    أحدهما : أنه التسلط . ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ليس له عليهم سلطان بحال ، لأن الله صرف سلطانه عنهم بقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [الحجر :42] . والثاني : ليس له عليهم سلطان ، لاستعاذتهم منه . والثالث : ليس له قدرة على أن يحملهم على ذنب لا يغفر .

    والثاني : أنه الحجة . فالمعنى : ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي ، قاله مجاهد .

    [ ص: 491 ] فأما قوله " يتولونه " معناه : يطيعونه .

    وفي هاء الكناية في قوله : " والذين هم به مشركون " قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله مجاهد ، والضحاك .

    والثاني : أنها ترجع إلى الشيطان ، فالمعنى : الذين هم من أجله مشركون بالله ، وهذا كما يقال : صار فلان بك عالما ، أي : من أجلك ، هذا قول ابن قتيبة . وقال ابن الأنباري : المعنى : والذين هم بإشراكهم إبليس في العبادة ، مشركون بالله تعالى .

    قوله تعالى : " وإذا بدلنا آية مكان آية " سبب نزولها أن الله تعالى كان ينزل الآية ، فيعمل بها مدة ، ثم ينسخها ، فقال كفار قريش : والله ما محمد إلا يسخر من أصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، ويأتيهم غدا بما هو أهون عليهم منه ،فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والمعنى : إذا نسخنا آية بآية ، إما نسخ الحكم والتلاوة ، أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة " والله أعلم بما ينزل " من ناسخ ومنسوخ ، وتشديد وتخفيف ، فهو عليم بالمصلحة في ذلك " قالوا إنما أنت مفتر " أي : كاذب " بل أكثرهم لا يعلمون " فيه قولان :

    أحدهما لا يعلمون أن الله أنزله . والثاني : لا يعلمون فائدة النسخ .

    قوله تعالى : " قل نزله " يعني : القرآن " روح القدس " يعني : جبريل وقد شرحنا هذا الاسم في (البقرة :87) .

    قوله تعالى : " من ربك " أي : من كلامه " بالحق " أي : بالأمر الصحيح " ليثبت الذين آمنوا " بما فيه من البينات فيزدادوا يقينا .
    ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين إن الذين [ ص: 492 ] لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون

    قوله تعالى : " ولقد نعلم أنهم يقولون " يعني : قريشا " إنما يعلمه بشر " أي : آدمي ، وما هو من عند الله .

    وفيمن أرادوا بهذا البشر تسعة أقوال :

    أحدها : أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له " يعيش " يقرأ التوراة ، فقالوا : منه يتعلم محمد ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال عكرمة في رواية : كان هذا الغلام لبني عامر بن لؤي ، وكان روميا .

    والثاني : أنه فتى كان بمكة يسمى " بلعام " وكان نصرانيا أعجميا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه ، فلما رأى المشركون دخوله إليه وخروجه ، قالوا ذلك ، روي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث : أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه سلم ، فيملي عليه " سميع عليم " فيكتب هو " عزيز حكيم " أو نحو هذا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي ذلك كتبت فهو كذلك " ، فافتتن ، وقال : إن محمدا يكل ذلك إلي فأكتب ما شئت ، روي عن سعيد بن المسيب .

    والرابع : أنه غلام أعجمي لامرأة من قريش يقال له : " جابر " ، وكان جابر يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه ، فقال المشركون : إنما يتعلم محمد من هذا ، قاله سعيد بن جبير .

    [ ص: 493 ] والخامس : أنهم عنوا سلمان الفارسي ، قاله الضحاك ; وفيه بعد من جهة أن سلمان أسلم بالمدينة ، وهذه [الآية] مكية .

    والسادس : أنهم عنوا به رجلا حدادا كان يقال " يحنس " النصراني ، قاله ابن زيد .

    والسابع : أنهم عنوا به غلاما لعامر بن الحضرمي ، وكان يهوديا أعجميا ، واسمه " يسار " ويكنى " أبا فكيهة " ، قاله مقاتل . وقد روي عن سعيد بن جبير نحو هذا ، إلا أنه لم يقل : إنه كان يهوديا .

    والثامن : أنهم عنوا غلاما أعجميا اسمه " عايش " ، وكان مملوكا لحويطب ، وكان قد أسلم ، قاله الفراء ، والزجاج .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #342
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (342)
    صــ 493 إلى صــ 500



    والتاسع : أنهما رجلان ، قال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التمر ، يقال لأحدهما : " يسار " وللآخر " جبر " وكانا يصنعان السيوف بمكة ، ويقرآن الإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن ، فيقف يستمع ، فقال المشركون : إنما يتعلم منهما . قال ابن الأنباري : فعلى هذا القول ، يكون البشر واقعا على اثنين ، والبشر من أسماء الأجناس ، يعبر عن اثنين ، كما يعبر " أحد " عن الاثنين والجميع ، والمذكر والمؤنث .

    قوله تعالى : " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : " يلحدون " بضم الياء وكسر الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي : " يلحدون " بفتح الياء والحاء . فأما القراءة الأولى ، فقال [ ص: 494 ] ابن قتيبة : " يلحدون " أي : يميلون إليه ، ويزعمون أنه يعلمه ، وأصل الإلحاد الميل . وقال الفراء : " يلحدون " بضم الياء : يعترضون ، ومنه قوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم [الحج:25] أي : باعتراض ، و " يلحدون " بفتح الياء : يميلون . وقال الزجاج : يلحدون إليه ، أي : يميلون القول فيه أنه أعجمي .

    قال ابن قتيبة : لا يكاد عوام الناس يفرقون بين العجمي والأعجمي ، والعربي والأعرابي ، فالأعجمي : الذي لا يفصح وإن كان نازلا بالبادية ، والعجمي : منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا ، والأعرابي : هو البدوي ، والعربي : منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا .

    قوله تعالى : " وهذا لسان " يعني : القرآن ، " عربي " قال الزجاج : أي : أن صاحبه يتكلم بالعربية .

    قوله تعالى : " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله " أي : الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله ، كذبوا بها ، " وأولئك هم الكاذبون " أي : أن الكذب نعت لازم لهم ، وعادة من عاداتهم ، وهذا رد عليهم إذ قالوا : " إنما أنت مفتر " [النحل :101] . وهذه الآية من أبلغ الزجر عن الكذب ، لأنه خص به من لا يؤمن .
    من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين [ ص: 495 ] طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون

    قوله تعالى : " من كفر بالله من بعد إيمانه " قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن أنس بن خطل ، وطعمة بن أبيرق ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه المخزومي .

    فأما قوله تعالى : " إلا من أكره " فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال :

    أحدها : أنه نزل في عمار بن ياسر ، أخذه المشركون فعذبوه ، فأعطاهم ما أرادوا بلسانه ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .

    والثاني : أنه لما نزل قوله : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . . . . إلى آخر الآيتين اللتين في سورة النساء [96، 97] كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى من كان بمكة ، فخرج ناس ممن أقر بالإسلام ، فاتبعهم المشركون فأدركوهم ، حتى أعطوا الفتنة ، فنزل " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .

    والثالث : أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة ، كان قد هاجر فحلفت أمه ألا تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع ، فرجع إليها ، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون ، قاله ابن سيرين .

    والرابع : أنه نزل في جبر غلام ابن الحضرمي ، كان يهوديا فأسلم فضربه سيده [ ص: 496 ] حتى رجع إلى اليهودية ، قاله مقاتل . وأما قوله : " ولكن من شرح بالكفر صدرا " فقال مقاتل : هم النفر المسمون في أول الآية .

    فأما التفسير ، فاختلف النحاة في قوله : " من كفر " وقوله : " ولكن من شرح " فقال الكوفيون : جوابهما جميعا في قوله : " فعليهم غضب " فقال البصريون : بل قوله : " من كفر " مرفوع بالرد على " الذين لا يؤمنون " . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون خبر " من كفر " محذوفا ، لوضوح معناه ، تقديره : من كفر بالله ، فالله عليه غضبان .

    قوله تعالى : " وقلبه مطمئن بالإيمان " أي : ساكن إليه راض به . " ولكن من شرح بالكفر صدرا " قال قتادة : من أتاه بإيثار واختيار . وقال ابن قتيبة : من فتح له صدره بالقبول . وقال أبو عبيدة : المعنى : من تابعته نفسه ، وانبسط إلى ذلك ، يقال : ما ينشرح صدري بذلك ، أي : ما يطيب . وجاء قوله : " فعليهم غضب " على معنى الجميع ، لأن " من " تقع على الجميع .

    فصل

    الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها .

    وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان :

    إحداهما : أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمر به .

    والثانية : أن التخويف لا يكون إكراها حتى ينال بعذاب . وإذ ثبت جواز " التقية " فالأفضل ألا يفعل ، نص عليه أحمد ، في أسير خير بين القتل [ ص: 497 ] وشرب الخمر ، فقال : إن صبر على القتل فله الشرف ، وإن لم يصبر فله الرخصة ، فظاهر هذا ، الجواز . وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التقية في شرب الخمر فقال : إنما التقية في القول . فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك ، فأما إذا أكره على الزنا ، لم يجز له الفعل ، ولم يصح إكراهه ، نص عليه أحمد . فإن أكره على الطلاق ، لم يقع طلاقه ، نص عليه أحمد ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يقع .

    قوله تعالى : " ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا " في المشار إليه بذلك قولان :

    أحدهما : أنه الغضب والعذاب ، قاله مقاتل .

    الثاني : أنه شرح الصدر للكفر . و " استحبوا " بمعنى : أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة .

    قوله تعالى : " وأن الله " أي : وبأن الله لا يريد هدايتهم . وما بعد هذا قد سبق شرحه [البقرة :7، والنساء :155، والمائدة :67] إلى قوله : " وأولئك هم الغافلون " ففيه قولان :

    أحدهما : الغافلون عما يراد بهم ، قاله ابن عباس . والثاني : عن الآخرة ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " لا جرم " قد شرحناها في (هود :22) .

    قوله تعالى : " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا " اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

    أحدها : أنها نزلت فيمن كان يفتن بمكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني : أن قوما من المسلمين خرجوا للهجرة ، فلحقهم المشركون فأعطوهم [ ص: 498 ] الفتنة فنزل فيهم ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [العنكبوت :10] ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا ، وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى من نجا ، وقتل من قتل ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثالث : أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان الشيطان قد أزله حتى لحق بالكفار ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح ، فاستجار له عثمان بن عفان ، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وفيه بعد ، لأن المشار إليه وإن كان [قد] عاد إلى الإسلام ، فإن الهجرة انقطعت بالفتح .

    والرابع : أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو ، وعبد الله بن أسيد الثقفي ، قاله مقاتل .

    فأما قوله تعالى : " من بعد ما فتنوا " فقرأ الأكثرون : " فتنوا " بضم الفاء وكسر التاء ، على معنى : من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم . قال ابن عباس : فتنوا بمعنى : عذبوا . وقرأ عبد الله بن عامر : " فتنوا " بفتح الفاء والتاء ، على معنى : من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله ، يشير إلى من أسلم من المشركين . وقال أبو علي : من بعد ما فتنوا أنفسهم بإظهار ما أظهروا للتقية ، لأن الرخصة لم تكن نزلت بعد .

    قوله تعالى : " ثم جاهدوا " أي : قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وصبروا " على الدين والجهاد . " إن ربك من بعدها " في المكني عنها أربعة أقوال :

    أحدها : الفتنة ، وهو مذهب مقاتل . والثاني : الفعلة التي فعلوها ، قاله الزجاج . [ ص: 499 ] والثالث : المجاهدة ، والمهاجرة ، والصبر . والرابع : المهاجرة . ذكرهما واللذين قبلهما ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " يوم تأتي " قال الزجاج : هو منصوب على أحد شيئين ، إما على معنى : إن ربك لغفور يوم تأتي ، وإما على معنى : اذكر يوم تأتي . ومعنى " تجادل عن نفسها " أي : عنها . والمراد : أن كل إنسان يجادل عن نفسه . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار : يا كعب خوفنا ، فقال : إن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتى إن إبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول : " يا رب أنا خليلك إبراهيم ، لا أسألك إلا نفسي " ، وإن تصديق ذلك في كتاب الله " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " . وقد شرحنا معنى الجدال في (هود :32) .
    وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون

    قوله تعالى : " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة " في هذه القرية قولان :

    أحدهما : أنها مكة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور ، وهو الصحيح .

    والثاني : أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز ، فبعث الله عليهم الجوع حتى كانوا يأكلون ما يقعدون ، قاله الحسن . فأما ما يروى عن [ ص: 500 ] حفصة أنها قالت : هي المدينة ، فذلك على سبيل التمثيل ، لا على وجه التفسير ، وبيانه ما روى سليم بن عنز ، قال : صدرنا من الحج مع حفصة ، وعثمان محصور بالمدينة ، فرأت راكبين فسألتهما عنه ، فقالا : قتل ، فقالت : والذي نفسي بيده إنها للقرية ، تعني المدينة التي قال الله تعالى في كتابه : " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة " ، تعني حفصة : أنها كانت على قانون الاستقامة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، " فكفرت بأنعم الله " عند قتل عثمان رضي الله عنه . ومعنى " كانت آمنة " أي : ذات أمن يأمن فيها أهلها أن يغار عليهم ، " مطمئنة " أي : ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق . وقد شرحنا معنى الرغد في (البقرة :35،58) .

    وقوله : " من كل مكان " أي : يجلب إليها من كل بلد ، وذلك كله بدعوة إبراهيم عليه السلام ، " فكفرت بأنعم الله " بتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وفي واحد الأنعم قولان :

    أحدهما : أن واحدها " نعم " قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة .

    والثاني : " نعمة " قاله الزجاج . قال ابن قتيبة : ليس قول من قال : هو جمع " نعمة " بشيء ، لأن " فعلة " لا تجمع على " أفعل " ، وإنما هو جمع " نعم " ، يقال : يوم نعم ، ويوم بؤس ، ويجمع " أنعما " ، و " أبؤسا " .

    قوله تعالى : " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " وروى عبيد بن عقيل ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : " والخوف " بنصب الفاء . وأصل الذوق إنما هو بالفم ، وهذا استعارة منه ، وقد شرحنا هذا المعنى في (آل عمران :106،185) . وإنما ذكر اللباس هاهنا تجوزا ، لما يظهر عليهم من أثر الجوع والخوف ، فهو كقوله : ولباس التقوى [الأعراف :26] وذلك لما يظهر على المتقي من أثر [ ص: 501 ] التقوى . قال المفسرون : عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحترقة . فأما الخوف ، فهو خوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سراياه التي كان يبعثها حولهم . والكلام في هذه الآية خرج على القرية ، والمراد أهلها ، ولذلك قال : " بما كانوا يصنعون " يعني به : بتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإخراجهم إياه وما هموا به من قتله .
    ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون

    قوله تعالى : " ولقد جاءهم " يعني أهل مكة " رسول منهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، " فكذبوه فأخذهم العذاب " وفيه قولان :

    أحدهما : أنه الجوع ، قاله ابن عباس . والثاني : القتل ببدر ، قاله مجاهد . قال ابن السائب : " وهم ظالمون " أي : كافرون .
    فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم

    قوله تعالى : " فكلوا مما رزقكم الله " في المخاطبين بهذا قولان :

    أحدهما : أنهم المسلمون ، وهو قول الجمهور .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #343
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (343)
    صــ 501 إلى صــ 509




    والثاني : أنهم أهل مكة المشركون ، لما اشتدت مجاعتهم ، كلم رؤساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن كنت عاديت الرجال ، فما بال النساء والصبيان ؟! فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أن يحملوا الطعام إليهم ، حكاه الثعلبي ، وذكر نحوه الفراء ، وهذه الآية والتي تليها مفسرتان في (البقرة :172،173) .
    [ ص: 502 ] ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم

    قوله تعالى : " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب " قال ابن الأنباري : اللام في " لما " بمعنى من أجل ، وتلخيص الكلام : ولا تقولوا : هذه الميتة حلال ، وهذه البحيرة حرام ، من أجل كذبكم ، وإقدامكم على الوصف ، والتخرص لما لا أصل له ، فجرت اللام هاهنا مجراها في قوله : وإنه لحب الخير لشديد [العاديات :8] أي : وإنه من أجل حب الخير لبخيل ، و " ما " بمعنى المصدر ، والكذب منصوب بـ " تصف " ، والتلخيص : لا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب . وقرأ ابن أبي عبلة : " الكذب " قال ابن القاسم : هو نعت الألسنة ، وهو جمع كذوب . قال المفسرون : والمعنى : أن تحليلكم وتحريمكم ليس له معنى إلا الكذب . والإشارة بقوله : " هذا حلال وهذا حرام " إلى ما كانوا يحلون ويحرمون " لتفتروا على الله الكذب " وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إلى الله تعالى ، ويقولون هو أمرنا بهذا .

    وقوله : " متاع قليل " أي : متاعهم بهذا الذي فعلوه قليل .
    وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم

    قوله تعالى : " وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل " يعني به [ ص: 503 ] ما ذكر في (الأنعام :126) وهو قوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " وما ظلمناهم " بتحريمنا ما حرمنا عليهم ، " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بالبغي والمعاصي .

    قوله تعالى : " ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة " قد شرحناه في سورة (النساء :17) ، وشرحنا في (البقرة :160) التوبة والإصلاح ، وذكرنا معنى قوله : " من بعدها " آنفا .
    إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين

    قوله تعالى : " إن إبراهيم كان أمة " قال ابن الأنباري : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة ، وفلان علامة ، ونسابة ، ويقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه ، والعرب قد توقع الأسماء المبهمة على الجماعة ، وعلى الواحد ، كقوله : فنادته الملائكة [آل عمران :39] ، وإنما ناداه جبريل وحده .

    وللمفسرين في المراد بالأمة هاهنا ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن الأمة : الذي يعلم الخير ، قاله ابن مسعود ، والفراء ، وابن قتيبة .

    والثاني : أنه المؤمن وحده في زمانه ، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .

    والثالث : أنه الإمام الذي يقتدى به ، قاله قتادة ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وهو في معنى القول الأول . فأما القانت فقال ابن مسعود : هو المطيع . وقد شرحنا " القنوت " في (البقرة 116،238) وكذلك الحنيف [البقرة :135] .

    [ ص: 504 ] قوله تعالى : " ولم يك " قال الزجاج : أصلها : لم يكن ، وإنما حذفت النون عند سيبويه ، لكثرة استعمال هذا الحرف ، وذكر الجلة من البصريين أنها إنما احتملت الحذف ، لأنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال ، وأنها عبارة عن كل ما يمضي من الأفعال وما يستأنف ، وأنها قد أشبهت حروف اللين ، وأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة ، وأنها غنة تخرج من الأنف ، فلذلك احتملت الحذف .

    قوله تعالى : " شاكرا لأنعمه " انتصب بدلا من قوله : " أمة قانتا " وقد ذكرنا واحد الأنعم آنفا ، وشرحنا معنى " الاجتباء " في (الأنعام :87) قال مقاتل : والمراد بالصراط المستقيم هاهنا : الإسلام .

    قوله تعالى : " وآتيناه في الدنيا حسنة " فيها ستة أقوال :

    أحدها : أنها الذكر الحسن ، قاله ابن عباس . والثاني : النبوة ، قاله الحسن .

    والثالث : لسان صدق ، قاله مجاهد . والرابع : اجتماع الملل على ولايته ، فكلهم يتولونه ويرضونه ، قاله قتادة . والخامس : أنها الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل بن حيان . والسادس : الأولاد الأبرار على الكبر ، حكاه الثعلبي . وباقي الآية مفسر في (البقرة :130) .
    ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

    قوله تعالى : " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم " ملته : دينه .

    وفيما أمر باتباعه من ذلك قولان :

    أحدهما : أنه أمر باتباعه في جميع ملته ، إلا ما أمر بتركه ، وهذا هو الظاهر .

    [والثاني : اتباعه في التبرؤ من الأوثان ، والتدين بالإسلام ، قاله [ ص: 505 ] أبو جعفر الطبري] .

    وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع المفضول ، لأن رسولنا أفضل الرسل ، وإنما أمر باتباعه ، لسبقه إلى القول بالحق .
    إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون

    قوله تعالى : " إنما جعل السبت " أي : إنما فرض تعظيمه وتحريمه ، وقرأ الحسن وأبو حيوة : " إنما جعل " بفتح الجيم والعين " السبت " بنصب التاء " على الذين اختلفوا فيه " والهاء ترجع إلى السبت .

    وفي معنى اختلافهم فيه قولان :

    أحدهما : أن موسى قال لهم : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما ، فاعبدوه في يوم الجمعة ، ولا تعملوا فيه شيئا من صنيعكم ، فأبوا أن يقبلوا ذلك ، وقالوا : لا نبتغي إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق ، وهو يوم السبت ، فجعل ذلك عليهم ، وشدد عليهم فيه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل : لما أمرهم موسى بيوم الجمعة ، قالوا : نتفرغ يوم السبت ، فإن الله لم يخلق فيه شيئا ، فقال : إنما أمرت بيوم الجمعة ، فقال أحبارهم : انتهوا إلى أمر نبيكم ، فأبوا ، فذلك اختلافهم ، فلما رأى موسى حرصهم على السبت ، أمرهم به ، فاستحلوا فيه المعاصي . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : رأى موسى رجلا يحمل قصبا يوم السبت ، فضرب عنقه ، وعكفت عليه الطير أربعين صباحا . وذكر ابن قتيبة في " مختلف الحديث " : أن الله تعالى بعث موسى بالسبت ، ونسخ السبت بالمسيح .

    والثاني : أن بعضهم استحله ، وبعضهم حرمه ، قاله قتادة .
    [ ص: 506 ] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين

    قوله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك " قال ابن عباس : نزلت مع الآية التي بعدها ، وسنذكر هناك السبب . فأما السبيل ، فقال مقاتل : هو دين الإسلام .

    وفي المراد بالحكمة ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها القرآن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : الفقه ، قاله الضحاك عن ابن عباس . والثالث : النبوة ، ذكره الزجاج .

    وفي " الموعظة الحسنة " قولان :

    أحدهما : مواعظ القرآن ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : الأدب الجميل الذي يعرفونه ، قاله الضحاك عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " وجادلهم " في المشار إليه قولان :

    أحدهما : أنهم أهل مكة ، قاله أبو صالح . والثاني : أهل الكتاب ، قاله مقاتل .

    وفي قوله : " بالتي هي أحسن " ثلاثة أقوال :

    أحدها : جادلهم بالقرآن . والثاني : بـ " لا إله إلا الله " روي القولان عن ابن عباس . والثالث : جادلهم غير فظ ولا غليظ ، وألن لهم جانبك ، قاله الزجاج . وقال بعض علماء التفسير : وهذا منسوخ بآية السيف .

    قوله تعالى : " إن ربك هو أعلم " المعنى : هو أعلم بالفريقين ، فهو يأمرك فيهما بما فيه الصلاح .
    [ ص: 507 ] وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون

    قوله تعالى : " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " في سبب نزولها قولان :

    أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف على حمزة ، فرآه صريعا ، فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه منه ، فقال : " والله لأمثلن بسبعين منهم " ، فنزل جبريل ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف ، بقوله : " وإن عاقبتم . . " إلى آخرها ، فصبر رسول الله وكفر عن يمينه ، قاله أبو هريرة . وقال ابن عباس : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة قد شق بطنه ، وجدعت أذناه ، فقال : " لولا أن تحزن النساء ، أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير ، ولأقتلن مكانه سبعين رجلا منهم " فنزل قوله : " ادع إلى سبيل ربك " إلى قوله : " وما صبرك إلا بالله " . وروى الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ : " لئن ظفرت بقاتل حمزة لأمثلن به مثلة تتحدث بها العرب " ، وكانت هند وآخرون معها قد مثلوا به ، فنزلت هذه الآية .

    والثاني : أنه أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة ، ومثلوا بقتلاهم ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما من الدهر ، لنزيدن على عدتهم مرتين ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبي بن كعب . [ ص: 508 ] وروى أبو صالح عن ابن عباس أن المسلمين قالوا : لئن أمكننا الله منهم ، لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات ، فنزلت هذه الآية . يقول : إن كنتم فاعلين ، فمثلوا بالأموات ، كما مثلوا بأمواتكم . قال ابن الأنباري : وإنما سمى فعل المشركين معاقبة وهم ابتدؤوا بالمثلة ، ليزدوج اللفظان ، فيخف على اللسان ، كقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى :40] .

    فصل

    واختلف العلماء ، هل هذه [الآية] منسوخة ، أم لا ؟ على قولين :

    أحدهما : أنها نزلت قبل (براءة) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ، ولا يبدأ بالقتال ، ثم نسخ ذلك ، وأمر بالجهاد ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، فعلى هذا يكون المعنى : " ولئن صبرتم " عن القتال ، ثم نسخ هذا بقوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة :5] .

    والثاني : أنها محكمة ، وإنما نزلت فيمن ظلم ظلامة ، فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما ناله الظالم منه ، قاله مجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وابن سيرين ، والثوري ، وعلى هذا يكون المعنى : ولئن صبرتم عن المثلة ، لا عن القتال .

    قوله تعالى : " واصبر وما صبرك إلا بالله " أي : بتوفيقه ومعونته . وهذا أمر بالعزيمة .

    وفي قوله : " ولا تحزن عليهم " قولان :

    أحدهما : على كفار مكة إن لم يسلموا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : ولا تحزن على قتلى أحد ، فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

    [ ص: 509 ] قوله تعالى : " ولا تك في ضيق " قرأ الأكثرون بنصب الضاد ، وقرأ ابن كثير : " في ضيق " بكسر الضاد هاهنا وفي (النمل :70) . قال الفراء : الضيق بفتح الضاد : ما ضاق عنه صدرك ، والضيق : ما يكون في الذي يضيق ويتسع ، مثل الدار والثوب وأشباه ذلك . وقال ابن قتيبة : الضيق : تخفيف ضيق ، مثل : هين ولين ، وهو ، إذا كان على هذا التأويل : صفة ، كأنه قال : لا تك في أمر ضيق من مكرهم . قال : ويقال : مكان ضيق وضيق ، بمعنى واحد ، كما يقال : رطل ورطل ، وهذا أعجب إلي . فأما مكرهم المذكور هاهنا ، فقال أبو صالح عن ابن عباس : فعلهم وعملهم .

    قوله تعالى : " إن الله مع الذين اتقوا " ما نهاهم عنه ، وأحسنوا فيما أمرهم به ، بالعون والنصر .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #344
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (344)
    صــ 3 إلى صــ 10





    [ ص: 3 ]
    سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ

    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا


    هِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: فِيهَا مَدَنِيٌّ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَمَانِ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 73 - 75 ]، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [ الْإِسْرَاءِ: 80 ]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [ الْإِسْرَاءِ: 107 ]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ [ الْإِسْرَاءِ: 60 ]، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [ الْإِسْرَاءِ: 73 ]، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّون َكَ [ الْإِسْرَاءِ: 76 ]، وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ وَالَّتِي تَلِيهَا [ الْإِسْرَاءِ: 74، 75 ] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنَ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " سُبْحَانَ " رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ " سُبْحَانَ اللَّهِ " ، فَقَالَ: " تَنْزِيهٌ لِلَّهِ عَنْ كُلِّ سُوءٍ " ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْبَقَرَةِ: 32 ) . [ ص: 4 ]

    قَالَ الزَّجَّاجُ: وَ " أَسْرَى " بِمَعْنَى: سَيَّرَ عَبْدَهُ، يُقَالُ: أَسْرَيْتُ وَسَرَيْتُ: إِذَا سِرْتُ لَيْلًا . وَقَدْ جَاءَتِ اللُّغَتَانِ فِي الْقُرْآَنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [ الْفَجْرِ: 4 ] .

    وَفِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ هَاهُنَا قَوْلَانِ:

    أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ تُسَبِّحُ عِنْدَ الْأَمْرِ الْمُعَجِّبِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَجَّبَ الْعِبَادَ مِمَّا أَسْدَى إِلَى رَسُولِهِ مِنَ النِّعْمَةِ .

    وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَرَجَ مَخْرَجَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَهُمْ بِالْإِسْرَاءِ كَذَّبُوهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَنَزَّهَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ رَسُولًا كَذَّابًا . وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِعَبْدِهِ هَاهُنَا: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    وَفِي قَوْلِهِ: " مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " قَوْلَانِ:

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ نَفْسِ الْمَسْجِدِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَيَسْنِدُهُ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " : " بَيْنَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ " ، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: " فِي الْحِجْرِ " .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ ، [ ص: 5 ] فَعَلَى هَذَا يَعْنِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: الْحَرَمُ . وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ .

    فَأَمَّا " الْمَسْجِدِ الأَقْصَى " : فَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ لَهُ: الْأَقْصَى; لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ . وَمَعْنَى " بَارَكْنَا حَوْلَهُ " : أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى حَوْلَهُ الْأَنْهَارَ وَأَنْبَتَ الثِّمَارَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ .

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَمْ لَا ; فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَصَلَّى فِيهِ بِالْأَنْبِيَاء ِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ . وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَلَا نَزَلَ عَنِ الْبُرَاقِ حَتَّى عُرِجَ بِهِ .

    فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى " ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ ؟

    فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ إِلَى هُنَالِكَ، وَالْمِعْرَاجَ كَانَ مِنْ هُنَالِكَ .

    وَقِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ أُخْبِرَ بِصُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِي بَدْءِ الْحَدِيثِ، لَاشْتَدَّ إِنْكَارُهُمْ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَانَ لَهُمْ صِدْقُهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَلَامَاتِ الصَّادِقَةِ، أُخْبِرَ بِمِعْرَاجِهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا " ، يَعْنِي: مَا رَأَى ; أَيْ: تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّاسَ . " إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ " لِمَقَالَةِ قُرَيْشٍ، " الْبَصِيرُ " بِهَا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِـ " الْحَدَائِقِ " أَحَادِيثَ الْمِعْرَاجِ، وَكَرِهْنَا الْإِطَالَةَ هَاهُنَا .
    وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا . [ ص: 6 ]

    قوله تعالى: " وآتينا موسى الكتاب " لما ذكر في الآية الأولى إكرام محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر في هذه كرامة موسى . و " الكتاب " : التوراة .

    " وجعلناه هدى لبني إسرائيل " ; أي: دللناهم به على الهدى . " ألا تتخذوا " قرأ أبو عمرو: ( يتخذوا ) بالياء، والمعنى: هديناهم لئلا يتخذوا . وقرأ الباقون بالتاء، قال أبو علي: وهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغيبة، مثل: " الحمد لله " ، ثم [ قال ] " إياك نعبد " .

    قوله تعالى: " وكيلا " قال مجاهد: شريكا . وقال الزجاج: ربا . قال ابن الأنباري: وإنما قيل للرب: وكيل ; لكفايته وقيامه بشأن عباده ; من أجل أن الوكيل عند الناس قد علم أنه يقوم بشؤون أصحابه، وتفقد أمورهم، فكان الرب وكيلا من هذه الجهة، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل .

    قوله تعالى: " ذرية من حملنا " قال مجاهد: هو نداء يا ذرية من حملنا . قال ابن الأنباري: من قرأ: ( ألا تتخذوا ) بالتاء، فإنه يقول: بعد الذرية مضمر حذف اعتمادا على دلالة ما سبق، تلخيصه: يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا وكيلا، ويجوز أن يستغني عن الإضمار بقوله: إنه كان عبدا شكورا ; لأنه بمعنى: اشكروني كشكره . ومن قرأ: ( لا يتخذوا ) بالياء، جعل النداء متصلا بالخطاب، و " الذرية " تنتصب بالنداء، ويجوز نصبها بالاتخاذ على أنها مفعول ثان، تلخيص الكلام: أن لا يتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا . قال قتادة: الناس كلهم ذرية من أنجى الله في تلك السفينة .

    قال العلماء: ووجه الإنعام على الخلق بهذا القول، أنهم كانوا في صلب من نجا .

    قوله تعالى: " إنه كان عبدا شكورا " قال سلمان الفارسي: كان إذا أكل [ ص: 7 ] قال: " الحمد لله " ، وإذا شرب قال: " الحمد لله " . وقال غيره: كان إذا لبس ثوبا قال: " الحمد لله " ، فسماه الله عبدا شكورا .
    وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا .

    قوله تعالى: " وقضينا إلى بني إسرائيل " فيه قولان:

    أحدهما: أخبرناهم، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني: قضينا عليهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، فعلى الأول تكون " إلى " على أصلها، ويكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني تكون " إلى " بمعنى " على " ، ويكون الكتاب: الذكر الأول .

    قوله تعالى: " لتفسدن في الأرض " ، يعني: أرض مصر " مرتين " بالمعاصي ومخالفة التوراة .

    وفي من قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان:

    أحدهما: زكريا، قاله السدي عن أشياخه . [ ص: 8 ]

    والثاني: شعيا، قاله ابن إسحاق . فأما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني فهو يحيى بن زكريا . قال مقاتل: كان بين الفسادين مئتا سنة وعشر سنين . فأما السبب في قتلهم زكريا، فإنهم اتهموه بمريم، وقالوا: منه حملت، فهرب منهم، فانفتحت له شجرة، فدخل فيها وبقي من ردائه هدب، فجاءهم الشيطان فدلهم عليه، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها . وأما السبب في قتلهم شعيا، فهو أنه قام فيهم برسالة من الله ينهاهم عن المعاصي . وقيل: هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار، وأن زكريا مات حتف أنفه . وأما السبب في قتلهم يحيى بن زكريا ففيه قولان:

    أحدهما: أن ملكهم أراد نكاح امرأة لا تحل له، فنهاه عنها يحيى . ثم فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها ابنة أخيه، قاله ابن عباس . والثاني: ابنته، قاله عبد الله بن الزبير . والثالث: أنها امرأة أخيه، وكان ذلك لا يصلح عندهم، قاله الحسين بن علي عليهما السلام . والرابع: ابنة امرأته، قاله السدي عن أشياخه، وذكر أن السبب في ذلك: أن ملك بني إسرائيل هوي بنت امرأته، فسأل يحيى عن نكاحها فنهاه، فحنقت أمها على يحيى حين نهاه أن يتزوج ابنتها، وعمدت إلى ابنتها فزينتها وأرسلتها إلى الملك حين جلس على شرابه، وأمرتها أن تسقيه، وأن تعرض له، فإن أرادها على نفسها، أبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست، ففعلت ذلك، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت: ما أريد إلا هذا، فأمر، فأتي برأسه والرأس يتكلم ويقول: لا تحل لك، لا تحل لك .

    والقول الثاني: أن امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام، وكان قد أعطي حسنا وجمالا، فأرادته على نفسه فأبى، فقالت لابنتها: سلي أباك رأس يحيى، فأعطاها [ ص: 9 ] ما سألت، قاله الربيع بن أنس . قال العلماء بالسير: ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إسرائيل سبعون ألفا فسكن، وقيل: لم يسكن حتى جاء قاتله، فقال: أنا قتلته، فقتل، فسكن .

    قوله تعالى: " ولتعلن علوا كبيرا " ; أي: لتعظمن عن الطاعة ولتبغن .

    قوله تعالى: " فإذا جاء وعد أولاهما " ; أي: عقوبة أولى المرتين " بعثنا " ; أي: أرسلنا " عليكم عبادا لنا " ، وفيهم خمسة أقوال:

    أحدها: أنهم جالوت وجنوده، قاله ابن عباس وقتادة . والثاني: ( بختنصر ) ، قاله سعيد بن المسيب، واختاره الفراء والزجاج . والثالث العمالقة، وكانوا كفارا، قاله الحسن . والرابع: سنحاريب، قاله سعيد بن جبير . والخامس: قوم من أهل فارس، قاله مجاهد . وقال ابن زيد: سلط [ الله ] عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس .

    قوله تعالى: " أولي بأس شديد " ; أي: ذوي عدد وقوة في القتال .

    وفي قوله: " فجاسوا خلال الديار " ثلاثة أقوال:

    أحدها: مشوا بين منازلهم، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد: يتجسسون أخبارهم، ولم يكن قتال . وقال الزجاج: طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه . و( الجوس ) : طلب الشيء باستقصاء .

    والثاني: قتلوهم بين بيوتهم، قاله الفراء وأبو عبيدة . [ ص: 10 ]

    والثالث: عاثوا وأفسدوا، يقال: جاسوا وحاسوا، فهم يجوسون ويحوسون إذا فعلوا ذلك، قاله ابن قتيبة .

    فأما الخلال: فهي جمع خلل، وهو الانفراج بين الشيئين . وقرأ أبو رزين، والحسن، وابن جبير، وأبو المتوكل: ( خلل الديار ) بفتح الخاء واللام من غير ألف . " وكان وعدا مفعولا " ; أي: لا بد من كونه .

    قوله تعالى: " ثم رددنا لكم الكرة عليهم " ; أي: أظفرناكم بهم . والكرة معناها: الرجعة والدولة، وذلك حين قتل داود جالوت وعاد ملكهم إليهم . وحكى الفراء أن رجلا دعا على ( بختنصر ) ، فقتله الله وعاد ملكهم إليهم . وقيل: غزوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى .

    قوله تعالى: " وجعلناكم أكثر نفيرا " ; أي: أكثر عددا وأنصارا منهم . قال ابن قتيبة: النفير والنافر واحد، كما يقال: قدير وقادر، وأصله: من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته .
    إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا .

    قوله تعالى: إن أحسنتم ; أي: وقلنا لكم: إن أحسنتم فأطعتم الله " أحسنتم لأنفسكم " ; أي: عاقبة الطاعة لكم " وإن أسأتم " بالفساد والمعاصي " فلها " ، وفيه قولان:

    أحدهما: أنه بمعنى: فإليها . والثاني: فعليها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #345
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (345)
    صــ 11 إلى صــ 18






    " فإذا جاء وعد الآخرة، جواب " فإذا " محذوف، تقديره: فإذا جاء [ ص: 11 ] وعد عقوبة المرة الآخرة من إفسادكم، بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم، وهذا الفساد الثاني هو قتلهم يحيى بن زكريا، وقصدهم قتل " عيسى " فرفع، وسلط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبوهم، فذلك قوله: " ليسوءوا وجوهكم " . قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم: ( ليسوؤوا ) بالياء على الجميع والهمز بين الواوين، والإشارة إلى المبعوثين . وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: ( ليسوء وجوهكم ) على التوحيد . قال أبو علي: فيه وجهان: أحدهما: ليسوء الله عز وجل . والثاني: ليسوء البعث . وقرأ الكسائي: ( لنسوء ) بالنون، وذلك راجع إلى الله تعالى .

    وفيمن بعث عليهم في المرة الثانية قولان:

    أحدهما: بختنصر، قاله مجاهد وقتادة، وكثير من الرواة يأبى هذا القول، يقولون: كان بين تخريب ( بختنصر ) بيت المقدس وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل .

    والثاني: انطياخوس الرومي، قاله مقاتل . ومعنى " ليسوءوا وجوهكم " ; أي: ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم، وخصت المساءة بالوجوه، والمراد: أصحاب الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة .

    قوله تعالى: " وليدخلوا المسجد " ، يعني: بيت المقدس، " كما دخلوه " في المرة الأولى، " وليتبروا " ; أي: ليدمروا ويخربوا . قال الزجاج: يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب: تبر، ومعنى " ما علوا " ; أي: ليدمروا في حال علوهم عليكم .

    قوله تعالى: " عسى ربكم أن يرحمكم " هذا مما وعدوا به في التوراة . و " عسى " من الله واجبة، فرحمهم [ الله ] بعد انتقامه منهم، وعمر بلادهم، وأعاد نعمهم [ ص: 12 ] بعد سبعين سنة . " وإن عدتم " إلى معصيتنا " عدنا " إلى عقوبتكم . قال المفسرون: ثم إنهم عادوا إلى المعصية، فبعث الله عليهم ملوكا من ملوك فارس والروم . قال قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم في عذاب إلى يوم القيامة، فيعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .

    قوله تعالى: " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " فيه قولان:

    أحدهما: سجنا، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة . وقال مجاهد: يحصرون فيها . وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: محبسا . وقال الزجاج: " حصيرا " : حبسا، أخذ من قولك: حصرت الرجل: إذا حبسته، فهو محصور، وهذا حصيره ; أي: محبسه، والحصير: المنسوج، سمي حصيرا ; لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، ويقال للجنب: حصير ; لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض . وقال ابن الأنباري: حصيرا: بمعنى: حاصرة، فصرف من حاصرة إلى حصير، كما صرف ( مؤلم ) إلى أليم .

    والثاني: فراشا ومهادا، قاله الحسن . قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكون جهنم لهم مهادا بمنزلة الحصير، والحصير: البساط الصغير .
    إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما .

    قوله تعالى: " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " قال ابن الأنباري: " التي " وصف للجمع، والمعنى: يهدي إلى الخصال التي هي أقوم الخصال . قال المفسرون: وهي توحيد الله والإيمان به وبرسله والعمل بطاعته، " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم " ; أي: بأن لهم " أجرا " وهو الجنة، " وأن [ ص: 13 ] الذين لا يؤمنون بالآخرة " ; أي: ويبشرهم بالعذاب لأعدائهم، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذى من المشركين، فعجل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين .
    ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا .

    قوله تعالى: " ويدع الإنسان بالشر " وذلك أن الإنسان يدعو في حال الضجر والغضب على نفسه وأهله بما لا يحب أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير . " وكان الإنسان عجولا " يعجل بالدعاء بالشر عند الغضب والضجر عجلته بالدعاء بالخير .

    وفي المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه اسم جنس يراد به الناس، قاله الزجاج وغيره .

    والثاني: آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري .

    والثالث: أنه النضر بن الحارث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء [ الأنفال: 32 ]، قاله مقاتل . وقال سلمان الفارسي: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر إلى جسده كيف يخلق، قال فبقيت رجلاه، فقال: يا رب عجل، فذلك قوله: " وكان الإنسان عجولا " .
    وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا . [ ص: 14 ]

    قوله تعالى: " وجعلنا الليل والنهار آيتين " ; أي: علامتين يدلان على قدرة خالقهما . " فمحونا آية الليل " فيه قولان:

    أحدهما: أن آية الليل: القمر، ومحوها: ما في بعض القمر من الاسوداد . وإلى هذا المعنى ذهب علي عليه السلام، وابن عباس في آخرين .

    والثاني: آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمة لليل، فنسب المحو إلى الظلمة إذ كانت تمحو الأنوار وتبطلها، ذكره ابن الأنباري . ويروى أن الشمس والقمر كانا في النور والضوء سواء، فأرسل الله جبريل فأمر جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء .

    قوله تعالى: " وجعلنا آية النهار " يعني: الشمس، " مبصرة " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: منيرة، قاله قتادة . قال ابن الأنباري: وإنما صلح وصف الآية بالإبصار على جهة المجاز، كما يقال: لعب الدهر ببني فلان .

    والثاني: أن معنى " مبصرة " : مبصرا بها، قاله ابن قتيبة .

    والثالث: أن معنى " مبصرة " : مبصرة، فجرى ( مفعل ) مجرى ( مفعل )، والمعنى: أنها تبصر الناس ; أي: تريهم الأشياء، قاله ابن الأنباري . ومعاني الأقوال تتقارب .

    قوله تعالى: " لتبتغوا فضلا من ربكم " ; أي: لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار، " ولتعلموا عدد السنين والحساب " بمحو آية الليل، ولولا ذلك لم يعرف الليل من النهار، ولم يتبين العدد . " وكل شيء " ; أي: ما يحتاج إليه، " فصلناه تفصيلا " بيناه تبينا لا يلتبس معه بغيره . [ ص: 15 ]
    وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .

    قوله تعالى: " وكل إنسان " وقرأ ابن أبي عبلة: ( وكل ) برفع اللام . وقرأ ابن مسعود وأبي والحسن: ( ألزمناه طيره ) بياء ساكنة من غير ألف .

    وفي الطائر أربعة أقوال .

    أحدها: شقاوته وسعادته، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال مجاهد: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد .

    والثاني: عمله، قاله الفراء، وعن الحسن كالقولين .

    والثالث: أنه ما يصيبه، قاله خصيف . وقال أبو عبيدة: حظه .

    قال ابن قتيبة: والمعنى فيما أرى - والله أعلم -: أن لكل امرئ حظا من الخير والشر قد قضاه الله [ عليه ]، فهو لازم عنقه،والعرب تقول لكل ما لزم الإنسان: قد لزم عنقه، وهذا لك علي وفي عنقي حتى أخرج منه، وإنما قيل للحظ من الخير والشر: ( طائر )، لقول العرب: جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل والطيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو الذي يلزمه أعناقهم .

    وقال الأزهري: الأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم، علم المطيع من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى سعادة من علمه مطيعا، وشقاوة من علمه عاصيا، فصار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه، فذلك قوله: " ألزمناه طائره في عنقه " .

    والرابع: أنه ما يتطير من مثله من شيء عمله، وذكر العنق عبارة عن اللزوم [ ص: 16 ] له، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس، هذا قول الزجاج . وقال ابن الأنباري: الأصل في تسميتهم العمل طائرا، أنهم كانوا يتطيرون من بعض الأعمال .

    قوله تعالى: " ونخرج له " قرأ أبو جعفر: ( ويخرج ) بياء مضمومة وفتح الراء . وقرأ يعقوب وعبد الوارث بالياء مفتوحة وضم الراء . وقرأ قتادة وأبو المتوكل: ( ويخرج ) بياء مرفوعة وكسر الراء . وقرأ أبو الجوزاء والأعرج: ( وتخرج ) بتاء مفتوحة ورفع الراء . " يوم القيامة كتابا " وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والضحاك: ( كتاب ) بالرفع، " يلقاه " وقرأ ابن عامر وأبو جعفر: ( يلقاه ) بضم الياء وتشديد القاف . وأمال حمزة والكسائي القاف . قال المفسرون: هذا كتابه الذي فيه ما عمل . وكان أبو السوار العدوي إذا قرأ هذه الآية قال: نشرتان وطية، أما ما حييت يا ابن آدم، فصحيفتك منشورة، فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت، ثم إذا بعثت نشرت .

    قوله تعالى: " اقرأ كتابك " وقرأ أبو جعفر: ( اقرأ ) بتخفيف الهمزة، وفيه إضمار، تقديره: فيقال له: اقرأ كتابك . قال الحسن: يقرؤه أميا كان أو غير أمي، ولقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك .

    وفي معنى " حسيبا " ثلاثة أقوال:

    أحدها: محاسبا . والثاني: شاهدا . والثالث: كافيا، والمعنى: أن الإنسان يفوض إليه حسابه، ليعلم عدل الله بين العباد، ويرى وجوب حجة الله عليه واستحقاقه العقوبة، ويعلم أنه إن دخل الجنة فبفضل الله لا بعمله، وإن دخل النار فبذنبه . قال ابن الأنباري: وإنما قال: " حسيبا " ، والنفس مؤنثة ; لأنه يعني بالنفس: الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبهت [ ص: 17 ] بالسماء والأرض . قال تعالى: السماء منفطر به [ المزمل: 18 ]، قال الشاعر:


    [ فلا مزنة ودقت ودقها ] ولا أرض أبقل إبقالها

    من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

    قوله تعالى: " من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه " ; أي: له ثواب اهتدائه، وعليه عقاب ضلاله .

    قوله تعالى: " ولا تزر وازرة " ; أي: نفس وازرة . " وزر أخرى " قال ابن عباس: إن الوليد بن المغيرة قال: اتبعوني وأنا أحمل أوزاركم، فقال الله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " . قال أبو عبيدة: والمعنى: ولا تأثم آثمة إثم أخرى . قال الزجاج: يقال: وزر، يزر، فهو وازر، وزرا، ووزرا، ووزرة، ومعناه: أثم إثما .

    وفي تأويل هذه الآية وجهان:

    أحدهما: أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره .

    والثاني: أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم ; لأن غيره عمله كما [ ص: 18 ] قال الكفار: إنا وجدنا آباءنا على أمة [ الزخرف: 22 ] . ومعنى " حتى نبعث رسولا " ; أي: حتى نبين ما به نعذب، وما من أجله ندخل الجنة .

    فصل

    قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار . قال: وقيل: معناه: أنه لا يعذب في ما طريقه السمع إلا بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها، لم يلزمه قضاء شيء منها ; لأنها لم تلزمه إلا بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه قصة أهل قباء حين استداروا إلى الكعبة ولم يستأنفوا، ولو أسلم في دار الإسلام ولم يعلم بفرض الصلاة، فالواجب عليه القضاء ; لأنه قد رأى الناس يصلون في المساجد بأذان وإقامة، وذلك دعاء إليها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #346
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (346)
    صــ 19 إلى صــ 26






    وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا .

    قوله تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية " في سبب إرادته لذلك قولان:

    أحدهما: ما سبق لهم في قضائه من الشقاء . والثاني: عنادهم الأنبياء وتكذيبهم إياهم .

    قوله تعالى: " أمرنا مترفيها " قرأ الأكثرون: ( أمرنا ) مخففة على وزن ( فعلنا )، وفيها ثلاثة أقوال: [ ص: 19 ]

    أحدها: أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا، هذا مذهب سعيد بن جبير . قال الزجاج: ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر .

    والثاني: ( كثرنا ) يقال: أمرت الشيء وآمرته ; أي: كثرته، ومنه قولهم: مهرة مأمورة ; أي: كثيرة النتاج، يقال: أمر بنو فلان يأمرون أمرا: إذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة وابن قتيبة .

    والثالث: أن معنى " أمرنا " : أمرنا، يقال: أمرت الرجل، بمعنى: أمرته، والمعنى: سلطنا مترفيها بالإمارة، ذكره ابن الأنباري . وروى خارجة عن نافع: ( آمرنا ) ممدودة، مثل: ( آمنا )، وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي رزين، والحسن، والضحاك، ويعقوب . قال ابن قتيبة: وهي اللغة العالية المشهورة، ومعناه: كثرنا أيضا . وروى ابن مجاهد أن أبا عمرو قرأ: ( أمرنا ) مشددة الميم، وهي رواية أبان عن عاصم، وهي قراءة أبي العالية، والنخعي، والجحدري . قال ابن قتيبة: المعنى: جعلناهم أمراء . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر: ( أمرنا ) بفتح الهمزة مكسورة الميم مخففة . فأما المترفون فهم المتنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون: هم الجبارون والمسلطون والملوك، وإنما خص المترفين بالذكر ; لأنهم الرؤساء، ومن عداهم تبع لهم .

    قوله تعالى: ففسقوا فيها ; أي: تمردوا في كفرهم ; لأن الفسق في الكفر: الخروج إلى أفحشه . وقد شرحنا معنى الفسق في ( البقرة: 26، 197 ) .

    قوله تعالى: " فحق عليها القول " قال مقاتل: وجب عليها العذاب . وقد ذكرنا معنى " التدمير " في ( الأعراف: 137 ) [ ص: 20 ]

    قوله تعالى: " وكم أهلكنا من القرون " وهو جمع قرن . وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في ( الأنعام: 6 )، وشرحنا معنى " الخبير " و " البصير " في ( البقرة ) . قال مقاتل: وهذه الآية تخويف لأهل مكة .
    من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا .

    قوله تعالى: " من كان يريد العاجلة " يعني: من كان يريد بعمله الدنيا، فعبر بالنعت عن الاسم، " عجلنا له فيها ما نشاء " من عرض الدنيا، وقيل: من البسط والتقتير، " لمن نريد " فيه قولان:

    أحدهما: لمن نريد هلكته، قاله أبو إسحاق الفزاري .

    والثاني: لمن نريد أن نعجل له شيئا، وفي هذا ذم لمن أراد بعمله الدنيا، وبيان أنه لا ينال مع ما يقصده منها إلا ما قدر له، ثم يدخل النار في الآخرة . وقال ابن جرير: هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد . وقد ذكرنا معنى " جهنم " في ( البقرة: 206 ) ، ومعنى " يصلاها " في سورة ( النساء: 10 )، ومعنى " مذموما مدحورا " في ( الأعراف: 18 ) .

    قوله تعالى: " ومن أراد الآخرة " يعني: الجنة . " وسعى لها سعيها " ; أي: عمل لها العمل الذي يصلح لها، وإنما قال: " وهو مؤمن " ; لأن الإيمان شرط في صحة الأعمال، " فأولئك كان سعيهم مشكورا " ; أي: مقبولا . وشكر الله عز وجل لهم: ثوابه إياهم وثناءه عليهم .
    كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة [ ص: 21 ] أكبر درجات وأكبر تفضيلا لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا .

    قوله تعالى: " كلا نمد هؤلاء " قال الزجاج: " كلا " منصوب بـ " نمد " ، " هؤلاء " بدل من " كل " ، والمعنى: نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . قال المفسرون: كلا نعطي من الدنيا، البر والفاجر، والعطاء هاهنا: الرزق، والمحظور: الممنوع، والمعنى: أن الرزق يعم المؤمن والكافر، والآخرة للمتقين خاصة . ( انظر ) يا محمد، " كيف فضلنا بعضهم على بعض " وفيما فضلوا فيه قولان:

    أحدهما: الرزق، منهم مقل ومنهم مكثر .

    والثاني: الرزق والعمل، فمنهم موفق لعمل صالح، ومنهم ممنوع من ذلك .

    قوله تعالى: " لا تجعل مع الله إلها آخر " الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى عام لجميع المكلفين . والمخذول: الذي لا ناصر له، والخذلان: ترك العون . قال مقاتل: نزلت حين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه .
    وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا .

    قوله تعالى: " وقضى ربك " روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: أمر ربك . ونقل عنه الضحاك أنه قال: إنما هي ( ووصى ربك ) فالتصقت إحدى [ ص: 22 ] الواوين بـ( الصاد )، وكذلك قرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل، وسعيد بن جبير: ( ووصى )، وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإجماع، فلا يلتفت إليه . وقرأ أبو عمران، وعاصم الجحدري، ومعاذ القارئ: ( وقضاء ربك ) بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب . قال ابن الأنباري: هذا القضاء من باب الحتم والوجوب، لكنه من باب الأمر والفرض، وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء بإحكام وإتقان، قال الشاعر يرثي عمر:


    قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق


    أراد: قطعتها محكما لها .

    قوله تعالى: " وبالوالدين إحسانا " ; أي: وأمر بالوالدين إحسانا، وهو البر والإكرام، وقد ذكرنا هذا في ( البقرة: 83 ) .

    قوله تعالى: " إما يبلغن " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( يبلغن ) على التوحيد . وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: ( يبلغان ) [ ص: 23 ] على التثنية . قال الفراء: جعلت " يبلغن " فعلا لأحدهما، وكرت عليهما " كلاهما " . ومن قرأ: ( يبلغان )، فإنه ثنى ; لأن الوالدين قد ذكرا قبل هذا، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: " أحدهما أو كلاهما " على الاستئناف، كقوله: فعموا وصموا [ المائدة: 71 ]، ثم استأنف فقال: " كثير منهم " .

    قوله تعالى: " فلا تقل لهما أف " قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: ( أف ) بالكسر من غير تنوين . وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والمفضل: ( أف ) بالفتح من غير تنوين . وقرأ نافع وحفص عن عاصم: ( أف ) بالكسر والتنوين . وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر: ( أف ) بالرفع والتنوين وتشديد الفاء . وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وحميد بن قيس: ( أفا ) مثل ( تعسا ) . وقرأ أبو عمران الجوني وأبو السماك العدوي: ( أف ) بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء، وهي رواية الأصمعي عن أبي عمرو . وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: ( أف ) بإسكان الفاء وتخفيفها ; قال الأخفش: وهذا لأن بعض العرب يقول: ( أف لك ) على الحكاية، والرفع قبيح ; لأنه لم يجئ بعده لام . وقرأ أبو العالية وأبو حصين الأسدي: ( أفي ) بتشديد الفاء وياء . وروى ابن الأنباري أن بعضهم قرأها: ( إف ) بكسر الهمزة . وقال الزجاج: فيها سبع لغات: الكسر بلا تنوين وبتنوين، والضم بلا تنوين وبتنوين، والفتح بلا تنوين وبتنوين، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة: ( أفي ) بالياء، هكذا قال الزجاج . وقال ابن الأنباري: في ( أف ) عشرة أوجه: ( أف لك ) بفتح الفاء، و( أف ) بكسرها، و( أف )، و( أفا لك ) بالنصب والتنوين على مذهب الدعاء [ ص: 24 ] كما تقول: ( ويلا ) للكافرين، و( أف لك ) بالرفع والتنوين، وهو رفع باللام، كقوله تعالى: ويل للمطففين [ المطففون: 1 ]، و( أفه لك ) بالخفض والتنوين تشبيها بالأصوات، كقولك: ( صه، ومه )، و( أفها لك ) على مذهب الدعاء أيضا، و( أفي لك ) على الإضافة إلى النفس، و( أف لك ) بسكون الفاء تشبيها بالأدوات، مثل: ( كم، وهل، وبل )، و( إف لك ) بكسر الألف . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: وتقول: ( أف منه، وأف، وأف، وأف، وأفا، وأف، وأفي مضاف، وأفها، وأفا بالألف )، ولا تقل: ( أفي ) بالياء، فإنه خطأ .

    فأما معنى ( أف ) ففيه خمسة أقوال:

    أحدها: أنه وسخ الظفر، قاله الخليل . والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي . والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب . والرابع: أن ( الأف ): الاحتقار والاستصغار من ( الأفف ) . والأفف عند العرب: القلة، ذكره ابن الأنباري . والخامس: أن ( الأف ) ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس اللغوي . وقرأت على شيخنا أبي منصور، قال: معنى ( الأف ): النتن والتضجر، وأصلها: نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إماطة الأذى عنه، فقيلت لكل مستثقل . قال المصنف: وأما قولهم: ( تف ) فقد جعلها قوم بمعنى ( أف )، فروي عن أبي عبيد أنه قال: أصل ( الأف، والتف ): الوسخ على الأصابع إذا فتلته . وحكى ابن الأنباري فرقا، فقال: قال اللغويون: أصل ( الأف ) في اللغة: وسخ الأذن، و( التف ): وسخ الأظفار، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذر ويضجر منه . وحكى الزجاج فرقا آخر، فقال: قد [ ص: 25 ] قيل: إن ( أف ): وسخ الأظفار، و( التف ): الشيء الحقير، نحو: وسخ الأذن، أو الشظية تؤخذ من الأرض، ومعنى ( أف ): النتن، ومعنى الآية: لا تقل لهما كلاما تتبرم فيه بهما إذا كبرا وأسنا، فينبغي أن تتولى من خدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وخدمتك . " ولا تنهرهما " ; أي: لا تكلمهما ضجرا صائحا في وجوههما . وقال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يدك عليهما، يقال: نهرته أنهره نهرا، وانتهرته انتهارا، بمعنى واحد . وقال ابن فارس: نهرت الرجل وانتهرته، مثل: زجرته . قال المفسرون: وإنما نهى عن أذاهما في الكبر، وإن كان منهيا عنه على كل حالة ; لأن حالة الكبر يظهر فيها منهما ما يضجر ويؤذي، وتكثر خدمتهما .

    قوله تعالى: " وقل لهما قولا كريما " ; أي: لينا لطيفا أحسن ما تجد . وقال سعيد بن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ .

    قوله تعالى: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " ; أي: ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إياهما . وخفض الجناح قد شرحناه في [ الحجر: 88 ] . قال عطاء: جناحك: يداك، فلا ترفعهما على والديك . والجمهور يضمون الذال من " الذل " . وقرأ أبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: بكسر الذال . قال الفراء: الذل: أن تتذلل لهما، من الذل، والذل: أن تتذلل ولست بذليل في الخدمة، والذل والذلة: مصدر الذليل، والذل بالكسر: مصدر الذلول، مثل: الدابة والأرض . قال ابن الأنباري: من قرأ ( الذل ) بكسر الذال، جعله بمعنى الذل بضم الذال، والذي عليه كبراء أهل اللغة أن الذل من الرجل: الذليل، والذل من الدابة: الذلول .

    قوله تعالى: " وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا " ; أي: مثل رحمتهما إياي في [ ص: 26 ] صغري حتى ربياني . وقد ذهب قوم إلى أن هذا الدعاء المطلق نسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [ التوبة: 113 ]، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومقاتل . قال المصنف: ولا أرى هذا نسخا عند الفقهاء ; لأنه عام دخله التخصيص، وقد ذكر قريبا مما قلته ابن جرير .

    قوله تعالى: " ربكم أعلم بما في نفوسكم " ; أي: بما تضمرون من البر والعقوق، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر العقوق، غفر له ذلك، وهو قوله: " إن تكونوا صالحين " ; أي: طائعين لله، [ وقيل ]: بارين، وقيل: توابين . " فإنه كان للأوابين غفورا " في الأواب عشرة أقوال:

    أحدها: أنه المسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني: أنه التواب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وأبو عبيدة . وقال ابن قتيبة: هو التائب مرة بعد مرة . وقال الزجاج: هو التواب المقلع عن جميع ما نهاه الله عنه، يقال: قد آب يؤوب أوبا: إذا رجع .

    والثالث: أنه المسبح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والرابع: أنه المطيع لله تعالى، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والخامس: أنه الذي يذكر ذنبه في الخلاء، فيستغفر الله منه، قاله عبيد بن عمير .

    والسادس: أنه المقبل إلى الله تعالى بقلبه وعمله، قاله الحسن .

    والسابع: المصلي، قاله قتادة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #347
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (347)
    صــ 27 إلى صــ 34




    والثامن: هو الذي يصلي بين المغرب والعشاء، قاله ابن المنكدر . [ ص: 27 ]

    والتاسع: الذي يصلي صلاة الضحى، قاله عون العقيلي .

    والعاشر: أنه الذي يذنب سرا ويتوب سرا، قاله السدي .
    وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا .

    قوله تعالى: " وآت ذا القربى حقه " فيه قولان:

    أحدهما: أنه قرابة الرجل من قبل أبيه وأمه، قاله ابن عباس والحسن، فعلى هذا في حقهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد به: برهم وصلتهم . والثاني: النفقة الواجبة لهم وقت الحاجة . والثالث: الوصية لهم عند الوفاة .

    والثاني: أنهم قرابة الرسول، قاله علي بن الحسين عليهما السلام، والسدي، فعلى هذا يكون حقهم: إعطاؤهم من الخمس، ويكون الخطاب للولاة .

    قوله تعالى: " والمسكين وابن السبيل " قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يكون المراد: الصدقات الواجبة، يعني: الزكاة، ويجوز أن يكون الحق الذي يلزمه إعطاؤه عند الضرورة إليه . وقيل: حق المسكين من الصدقة، وابن السبيل من الضيافة .

    قوله تعالى: " ولا تبذر تبذيرا " في التبذير قولان:

    أحدهما: أنه إنفاق المال في غير حق، قاله ابن مسعود وابن [ ص: 28 ] عباس . وقال مجاهد: لو أنفق الرجل ماله كله في حق، ما كان مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا . قال الزجاج: التبذير: النفقة في غير طاعة الله، وكانت الجاهلية تنحر الإبل وتبذر الأموال تطلب بذلك الفخر والسمعة، فأمر الله عز وجل بالنفقة في وجهها فيما يقرب منه .

    والثاني: أنه الإسراف المتلف للمال، ذكره الماوردي . وقال أبو عبيدة: المبذر: هو المسرف المفسد العائث .

    قوله تعالى: " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إليه، ويشاكلونهم في معصية الله . " وكان الشيطان لربه كفورا " ; أي: جاحدا لنعمه، وهذا يتضمن أن المسرف كفور للنعم .

    قوله تعالى: " وإما تعرضن عنهم " في المشار إليهم أربعة أقوال:

    أحدها: أنهم الذين تقدم ذكرهم من الأقارب والمساكين وأبناء السبيل، قاله الأكثرون، فعلى هذا في علة هذا الإعراض قولان: أحدهما: الإعسار، قاله الجمهور . والثاني: خوف إنفاقهم ذلك في معصية الله، قاله ابن زيد، وعلى هذا في الرحمة قولان: أحدهما: الرزق، قاله الأكثرون . والثاني: أنه الصلاح والتوبة، هذا على قول ابن زيد .

    والثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وإما تعرضن عنهم لتكذيبهم، قاله سعيد بن جبير . فتحتمل إذا الرحمة وجهين: أحدهما: انتظار النصر عليهم . والثاني: الهداية لهم .

    والثالث: أنهم ناس من مزينة جاؤوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا أجد ما أحملكم عليه " ، فبكوا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء الخراساني . [ ص: 29 ]

    والرابع: أنها نزلت في خباب، وبلال، وعمار، ومهجع، ونحوهم من الفقراء، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد ما يعطيهم، فيعرض عنهم ويسكت، قاله مقاتل، فعلى هذا القول والذي قبله تكون الرحمة بمعنى: الرزق .

    قوله تعالى: " فقل لهم قولا ميسورا " قال أبو عبيدة: لينا هينا، وهو من اليسر . وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه العدة الحسنة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد .

    والثاني: أنه القول الجميل، مثل أن يقول: رزقنا الله وإياك، قاله ابن زيد، وهذا على ما تقدم من قوله .

    والثالث: أنه المداراة لهم باللسان على قول من قال: هم المشركون، قاله أبو سليمان الدمشقي، وعلى هذا القول تحتمل الآية النسخ .
    ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا .

    قوله تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " سبب نزولها: أن غلاما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا، قال: " ما عندنا اليوم شيء " ، قال: فتقول لك: اكسني قميصك، قال: فخلع قميصه فدفعه إليه، وجلس في البيت حاسرا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود . وروى جابر [ ص: 30 ] ابن عبد الله نحو هذا، فزاد فيه: فأذن بلال للصلاة، وانتظروه فلم يخرج، فشغل قلوب الصحابة، فدخل عليه بعضهم، فرأوه عريانا، فنزلت هذه الآية، والمعنى: لا تمسك يدك عن البذل كل الإمساك حتى كأنها مقبوضة إلى عنقك، " ولا تبسطها كل البسط " في الإعطاء والنفقة، " فتقعد ملوما " تلوم نفسك ويلومك الناس، " محسورا " قال ابن قتيبة: تحسرك العطية وتقطعك كما يحسر السفر البعير، فيبقى منقطعا به . قال الزجاج: المحسور: الذي قد بلغ الغاية في التعب والإعياء، فالمعنى: فتقعد وقد بلغت في الحمل على نفسك وحالك حتى صرت بمنزلة من قد حسر . قال القاضي أبو يعلى: وهذا الخطاب أريد به غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون، فلم ينههم الله لصحة يقينهم، وإنما نهى من خيف عليه التحسر على ما خرج من يده، فأما من وثق بوعد الله تعالى، فهو غير مراد بالآية .

    قوله تعالى: " إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " ; أي: يوسع على من يشاء ويضيق، " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " حيث أجرى أرزاقهم على ما علم فيه صلاحهم .

    قوله تعالى: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " قد فسرناه في ( الأنعام: 151 ) .

    قوله تعالى: كان خطئا كبيرا قرأ نافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( خطأ ) مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة مقصورة . وقرأ ابن كثير وعطاء: ( خطاء ) مكسورة الخاء ممدودة مهموزة . وقرأ ابن عامر: ( خطأ ) بنصب الخاء والطاء وبالهمز من غير مد . وقرأ أبو رزين كذلك، إلا [ ص: 31 ] أنه مد . وقرأ الحسن وقتادة: ( خطأ ) بفتح الخاء وسكون الطاء مهموز مقصور . وقرأ الزهري وحميد بن قيس: ( خطا ) بكسر الخاء وتنوين الطاء من غير همز ولا مد . قال الفراء: الخطء: الإثم، وقد يكون في معنى ( خطأ )، كما قالوا: ( قتب وقتب، وحذر وحذر، ونجس ونجس )، والخطء والخطاء والخطاء ممدود: لغات . وقال أبو عبيدة: خطئت وأخطأت لغتان . وقال أبو علي: قراءة ابن كثير: ( خطاء يجوز أن تكون مصدر ( خاطأ )، وإن لم يسمع ( خاطأ )، ولكن قد جاء ما يدل عليه، أنشد أبو عبيدة:

    الخطء والخطء والخطاء .

    وقال الأخفش: خطئ يخطأ بمعنى ( أذنب )، وليس بمعنى أخطأ ; لأن ( أخطأ ): فيما لم يصنعه عمدا، تقول فيما أتيته عمدا: خطئت، وفيما لم تتعمده: ( أخطأت ) . وقال ابن الأنباري: ( الخطء ): الإثم، يقال: قد خطئ يخطأ: إذا أثم، وأخطأ يخطئ: إذا فارق الصواب . وقد شرحنا هذا في ( يوسف: 91 ) عند قوله: وإن كنا لخاطئين .
    ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا .

    قوله تعالى: ولا تقربوا الزنا وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، والحسن: بالمد . قال أبو عبيدة: وقد يمد " الزنا " في كلام أهل نجد، قال الفرزدق:


    أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا


    [ ص: 32 ] وقال أيضا:


    أخضبت فعلك للزناء ولم تكن يوم اللقاء لتخضب الأبطالا


    وقال آخر:


    [ كانت فريضة ما نقول ] كما كان الزناء فريضة الرجم


    قوله تعالى: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله " قد ذكرناه في ( الأنعام: 151 ) .

    قوله تعالى: " فقد جعلنا " قال الزجاج: الأجود إدغام الدال مع الجيم، والإظهار جيد بالغ، إلا أن الجيم من وسط اللسان، والدال من طرف اللسان، والإدغام جائز ; لأن حروف وسط اللسان تقرب من حروف طرف اللسان . ووليه: الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له ولي، فالسلطان وليه .

    وللمفسرين في السلطان قولان:

    أحدهما: أنه الحجة، قاله ابن عباس . والثاني: أنه الوالي، والمعنى: فقد جعلنا لوليه سلطانا ينصره وينصفه في حقه، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: " فلا يسرف في القتل " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم: ( فلا يسرف ) بالياء . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالتاء .

    وفي المشار إليه في الآية قولان:

    [ ص: 33 ] أحدهما: أنه ولي المقتول . وفي المراد بإسرافه خمسة أقوال: أحدها: أن يقتل غير القاتل، قاله ابن عباس والحسن . والثاني: أن يقتل اثنين بواحد، قاله سعيد بن جبير . والثالث: أن يقتل أشرف من الذي قتل، قاله ابن زيد . والرابع: أن يمثل، قاله قتادة . والخامس: أن يتولى هو قتل القاتل دون السلطان، ذكره الزجاج .

    والثاني: أن الإشارة إلى القاتل الأول، والمعنى: فلا يسرف القاتل بالقتل تعديا وظلما، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: " إنه كان منصورا " ; أي: معانا عليه .

    وفي هاء الكناية أربعة أقوال:

    أحدها: أنها ترجع إلى الولي، فالمعنى: إنه كان منصورا بتمكينه من القود، قاله قتادة والجمهور .

    والثاني: أنها ترجع إلى المقتول، فالمعنى: أنه كان منصورا بقتل قاتله، قاله مجاهد .

    والثالث: أنها ترجع إلى الدم، فالمعنى: أن دم المقتول كان منصورا ; أي: مطلوبا به .

    والرابع: أنها ترجع إلى القتل، ذكر القولين الفراء .
    ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن [ ص: 34 ] تأويلا ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا .

    قوله تعالى: " ولا تقربوا مال اليتيم " قد شرحناه في ( الأنعام: 152 ) .

    قوله تعالى: " وأوفوا بالعهد " وهو عام فيما بين العبد وبين ربه، وفيما بينه وبين الناس . قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد .

    قوله تعالى: " كان مسؤولا " قال ابن قتيبة: أي: مسؤولا عنه .

    قوله تعالى: " وأوفوا الكيل إذا كلتم " ; أي: أتموه ولا تبخسوا منه .

    قوله تعالى: " وزنوا بالقسطاس " فيه خمس لغات: أحدها: ( قسطاس ) بضم القاف وسينين، وهذه قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر، وأبي بكر عن عاصم هاهنا وفي ( الشعراء: 182 ) . والثانية كذلك، إلا أن القاف مكسورة، وهذه قراءة حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم . قال الفراء: هما لغتان . والثالثة: ( قصطاص ) بصادين . والرابعة: ( قصطاس ) بصاد قبل الطاء وسين بعدها، وهاتان مرويتان عن حمزة . والخامسة: ( قسطان ) بالنون . قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد، قال: القسطاس: الميزان، رومي معرب، ويقال: قسطاس وقسطاس .

    قوله تعالى: " ذلك خير " ; أي: ذلك الوفاء خير عند الله وأقرب إليه، " وأحسن تأويلا " ; أي: عاقبة في الجزاء .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #348
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (348)
    صــ 35 إلى صــ 42






    قوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " قال الفراء: أصل " تقف " من القيافة، وهي تتبع الأثر، وفيه لغتان: قفا يقفو، وقاف يقوف، وأكثر القراء يجعلونها من ( قفوت )، فيحرك الفاء إلى الواو ويجزم القاف، كما تقول: لا تدع . وقرأ معاذ القارئ: ( لا تقف )، مثل: تقل، والعرب [ ص: 35 ] تقول: قفت أثره، وقفوت، ومثله: عاث وعثا، وقاع الجمل الناقة، وقعاها: إذا ركبها . قال الزجاج: من قرأ بإسكان الفاء وضم القاف من قاف يقوف، فكأنه مقلوب من قفا يقفو، والمعنى واحد، تقول: قفوت الشيء أقفوه قفوا: إذا تبعت أثره . وقال ابن قتيبة: " ولا تقف " ; أي: لا تتبعه الظنون والحدس، وهو من القفاء مأخوذ، كأنك تقفو الأمور ; أي: تكون في أقفائها وأواخرها تتعقبها، والقائف: الذي يعرف الآثار ويتبعها، فكأنه مقلوب عن القافي .

    وللمفسرين في المراد به أربعة أقوال:

    أحدها: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني: لا تقل: رأيت، ولم تر، ولا سمعت، ولم تسمع، رواه عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، وبه قال قتادة .

    والثالث: لا تشرك بالله شيئا، رواه عطاء أيضا عن ابن عباس .

    والرابع: لا تشهد بالزور، قاله محمد بن الحنفية .

    قوله تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك " قال الزجاج: إنما قال: " كل " ، ثم قال: " كان " ; لأن كلا في لفظ الواحد، وإنما قال: " أولئك " لغير الناس ; لأن كل جمع أشرت إليه من الناس وغيرهم من الموات، تشير إليه بلفظ " أولئك " ، قال جرير:


    ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام


    قال المفسرون: الإشارة إلى الجوارح المذكورة، يسأل العبد يوم القيامة فيما إذا [ ص: 36 ] استعملها، وفي هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحل، والاستماع إلى ما يحرم، والعزم على ما لا يجوز .
    ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا .

    قوله تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا وقرأ الضحاك وابن يعمر: ( مرحا ) بكسر الراء، قال الأخفش: والكسر أجود ; لأن ( مرحا ) اسم الفاعل . قال الزجاج: وكلاهما في الجودة سواء، غير أن المصدر أوكد في الاستعمال، تقول: جاء زيد ركضا، وجاء زيد راكضا، فـ( ركضا ) أوكد في الاستعمال ; لأنه يدل على توكيد الفعل، وتأويل الآية: لا تمش في الأرض مختالا فخورا . والمرح: الأشر والبطر . وقال ابن فارس: المرح: شدة الفرح .

    قوله تعالى: " إنك لن تخرق الأرض " فيه قولان:

    أحدهما: لن تقطعها إلى آخرها . والثاني: لن تنفذها وتنقبها . قال ابن عباس: لن تخرق الأرض بكبرك، ولن تبلغ الجبال طولا بعظمتك . قال ابن قتيبة: والمعنى: لا ينبغي للعاجز أن يبذخ ويستكبر .

    قوله تعالى: " كل ذلك كان سيئه " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( سيئة ) منونا غير مضاف، على معنى: كان خطيئة، فعلى هذا يكون قوله: " كل ذلك " إشارة إلى المنهي عنه من المذكور فقط . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( سيئه ) مضافا مذكرا، فتكون لفظة " كل " يشار بها إلى سائر ما تقدم ذكره . وكان أبو عمرو لا يرى هذه القراءة . قال الزجاج: [ ص: 37 ] وهذا غلط من أبي عمرو ; لأن في هذه الأقاصيص سيئا وحسنا، وذلك أن فيها الأمر ببر الوالدين، وإيتاء ذي القربى، والوفاء بالعهد، ونحو ذلك، فهذه القراءة أحسن من قراءة من نصب السيئة، وكذلك قال أبو عبيدة: تدبرت الآيات من قوله تعالى: " وقضى ربك " ، فوجدت فيها أمورا حسنة . وقال أبو علي: من قرأ: ( سيئة ) رأى أن الكلام انقطع عند قوله: " وأحسن تأويلا " ، وأن قوله: " ولا تقف " لا حسن فيه .

    قوله تعالى: " ذلك مما أوحى إليك ربك " يشير إلى ما تقدم من الفرائض والسنن، " من الحكمة " ; أي: من الأمور المحكمة والأدب الجامع لكل خير . وقد سبق معنى " المدحور " ( الأعراف: 18) .
    أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما .

    قوله تعالى: " أفأصفاكم ربكم بالبنين " قال مقاتل: نزلت في مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الرحمن . وقال أبو عبيدة: ومعنى " أفأصفاكم " : اختصكم . وقال المفضل: أخلصكم . وقال الزجاج: اختار لكم صفوة الشيء . وهذا توبيخ للكفار، والمعنى: اختار لكم البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فاختصكم بالأعلى وجعل لنفسه الأدون .
    ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا .

    قوله تعالى: " ولقد صرفنا " معنى التصريف هاهنا: التبيين، وذلك أنه [ ص: 38 ] إنما يصرف القول ليبين . وقال ابن قتيبة: " صرفنا " بمعنى: وجهنا، وهو من قولك: صرفت إليك كذا ; أي: عدلت به إليك، وشدد للتكثير، كما تقول: فتحت الأبواب .

    قوله تعالى: " ليذكروا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( ليذكروا ) مشدد . وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: ( ليذكروا ) مخفف، وكذلك قرؤوا في ( الفرقان: 50 ) . والتذكر: الاتعاظ والتدبر . " وما يزيدهم " تصريفنا وتذكيرنا . " إلا نفورا " قال ابن عباس: ينفرون من الحق ويتبعون الباطل .
    قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا .

    قوله تعالى: " قل لو كان معه آلهة كما يقولون " قرأ نافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: ( تقولون ) بالتاء . وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: ( يقولون ) بالياء .

    قوله تعالى: " إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " فيه قولان:

    أحدهما: لابتغوا سبيلا إلى ممانعته وإزالة ملكه، قاله الحسن وسعيد بن جبير .

    والثاني: لابتغوا سبيلا إلى رضاه ; لأنهم دونه، قاله قتادة .

    قوله تعالى: " عما يقولون " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: ( يقولون ) بالياء . وقرأ حمزة والكسائي بالتاء . [ ص: 39 ]

    قوله تعالى: " تسبح له السماوات السبع " قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: ( تسبح ) بالتاء . وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: ( يسبح ) بالياء . قال الفراء: وإنما حسنت الياء هاهنا ; لأنه عدد قليل، وإذا قل العدد من المؤنث والمذكر، كانت الياء فيه أحسن من التاء، قال عز وجل في المؤنث القليل: وقال نسوة [ يوسف: 30 ]، وقال في المذكر: فإذا انسلخ الأشهر الحرم [ التوبة: 5 ] . قال العلماء: والمراد بهذا التسبيح: الدلالة على أنه الخالق القادر .

    قوله تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " ( إن ) بمعنى ( ما ) . وهل هذا على إطلاقه أم لا ؟ فيه قولان:

    أحدهما: أنه على إطلاقه، فكل شيء يسبحه حتى الثوب والطعام وصرير الباب، قاله إبراهيم النخعي .

    والثاني: أنه عام يراد به الخاص . ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كل شيء فيه الروح، قاله الحسن، وقتادة، والضحاك . والثاني: أنه كل ذي روح، وكل نام من شجر أو نبات ; قال عكرمة: الشجرة تسبح، والأسطوانة لا تسبح . وجلس الحسن على طعام فقدموا الخوان، فقيل له: أيسبح هذا الخوان ؟ فقال: قد كان يسبح مرة . والثالث: أنه كل شيء لم يغير عن حاله، فإذا تغير انقطع تسبيحه، روى خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب، قال: إن التراب ليسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الثوب ليسبح ما دام جديدا، فإذا توسخ ترك التسبيح . [ ص: 40 ]

    فأما تسبيح الحيوان الناطق فمعلوم، وتسبيح الحيوان غير الناطق، فجائز أن يكون بصوته، وجائز أن يكون بدلالته على صانعه .

    وفي تسبيح الجمادات ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه تسبيح لا يعلمه إلا الله . والثاني: أنه خضوعه وخشوعه لله . والثالث: أنه دلالته على صانعه، فيوجب ذلك تسبيح مبصره . فإن قلنا: إنه تسبيح حقيقة، كان قوله: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " لجميع الخلق، وإن قلنا: إنه دلالته على صانعه، كان الخطاب للكفار ; لأنهم لا يستدلون ولا يعتبرون . وقد شرحنا معنى " الحليم " و " الغفور " في ( البقرة: 225 ) .
    وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا .

    قوله تعالى: " حجابا مستورا " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أن الحجاب هو الأكنة على قلوبهم، قاله قتادة . [ ص: 41 ]

    والثاني: أنه حجاب يستره فلا ترونه، وقيل: إنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن . قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل امرأة أبي لهب، فحجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه .

    والثالث: أنه منع الله عز وجل إياهم عن أذاه، حكاه الزجاج .

    وفي معنى " مستورا " قولان:

    أحدهما: أنه بمعنى ساتر، قال الزجاج: وهذا قول أهل اللغة . قال الأخفش: وقد يكون الفاعل في لفظ المفعول، كما تقول: إنك مشؤوم علينا، وميمون علينا، وإنما هو شائم ويامن ; لأنه من ( شأمهم، ويمنهم ) .

    والثاني: أن المعنى: حجابا مستورا عنكم لا ترونه، ذكره الماوردي . وقال ابن الأنباري: إذا قيل: الحجاب: هو الطبع على قلوبهم، فهو مستور عن الأبصار، فيكون " مستورا " باقيا على لفظه .

    قوله تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه " قد شرحناه في ( الأنعام: 25 ) .

    قوله تعالى: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " يعني: قلت: لا إله إلا الله، وأنت تتلو القرآن، " ولوا على أدبارهم " قال أبو عبيدة: أي: على أعقابهم، " نفورا " وهو: جمع نافر، بمنزلة قاعد وقعود، وجالس وجلوس . وقال الزجاج: تحتمل مذهبين: أحدهما: المصدر، فيكون المعنى: ولوا نافرين نفورا . والثاني: أن يكون " نفورا " جمع نافر .

    وفي المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم المشركون، وهذا مذهب ابن زيد .

    قوله تعالى: " نحن أعلم بما يستمعون به " قال المفسرون: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 42 ] عليا عليه السلام أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك، ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى التوحيد، وكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم: هو ساحر، هو مسحور، فنزلت هذه الآية: " نحن أعلم بما يستمعون به " ; أي: يستمعونه، والباء زائدة . " إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى " قال أبو عبيدة: هي مصدر من ( ناجيت ) واسم منها، فوصف القوم بها، والعرب تفعل ذلك، كقولهم: إنما هو عذاب، وأنتم غم، فجاءت في موضع ( متناجين ) . وقال الزجاج: والمعنى: وإذ هم ذوو نجوى، وكانوا يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون بينهم: هو ساحر، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول .

    قوله تعالى: " إذ يقول الظالمون " يعني: أولئك المشركون، " إن تتبعون " ; أي: ما تتبعون، " إلا رجلا مسحورا " وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه الذي سحر فذهب بعقله، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: مخدوعا مغرورا، قاله مجاهد .

    والثالث: له سحر ; أي: رئة، وكل دابة أو طائر أو بشر يأكل فهو: مسحور ومسحر ; لأن له سحرا، قال لبيد:


    فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر


    وقال امرؤ القيس:


    أرانا مرصدين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #349
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (349)
    صــ 43 إلى صــ 50





    [ ص: 43 ]

    أي: نغذى ; لأن أهل السماء لا يأكلون، فأراد أن يكون ملكا . فعلى هذا يكون المعنى: إن تتبعون إلا رجلا له سحر، خلقه الله كخلقكم، وليس بملك، وهذا قول أبي عبيدة .

    قال ابن قتيبة: والقول قول مجاهد ; [ أي: مخدوعا ] ; لأن السحر حيلة وخديعة، ومعنى قول لبيد: ( المسحر ): المعلل، وقول امرئ القيس: ( ونسحر ); أي: نعلل، وكأنا نخدع، والناس يقولون: سحرتني بكلامك ; أي: خدعتني، ويدل عليه قوله: " انظر كيف ضربوا لك الأمثال " ; لأنهم لو أرادوا رجلا ذا رئة، لم يكن في ذلك مثل ضربوه، فلما أرادوا مخدوعا - كأنه بالخديعة سحر - كان مثلا ضربوه، وكأنهم ذهبوا إلى أن قوما يعلمونه ويخدعونه . قال المفسرون: ومعنى " ضربوا لك الأمثال " : بينوا لك الأشباه، حتى شبهوك بالساحر والشاعر والمجنون، " فضلوا " عن الحق، " فلا يستطيعون سبيلا " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: لا يجدون سبيلا إلى تصحيح ما يعيبونك به .

    والثاني: لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى ; لأنا طبعنا على قلوبهم .

    والثالث: لا يأتون سبيل الحق لثقله عليهم، ومثله قولهم: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان، يعنون: أنا مبغض له، فنظري إليه يثقل، ذكرهن ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " أإذا كنا عظاما " قرأ ابن كثير: ( أيذا ) بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مد، " أينا " مثله، وكذلك في كل القرآن . وكذلك روى قالون عن نافع، إلا أن نافعا كان لا يستفهم في ( أينا )، كان يجعل الثاني [ ص: 44 ] خبرا في كل القرآن، وكذلك مذهب الكسائي، غير أنه يهمز الأولى همزتين . وقرأ عاصم وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعا . وقرأ ابن عامر: ( إذا كنا ) بغير استفهام بهمزة واحدة، ( آئنا ) بهمزتين يمد بينهما مدة .

    قوله تعالى: " ورفاتا " فيه قولان:

    أحدهما: أنه التراب، ولا واحد له، فهو بمنزلة الدقاق والحطام، قاله الفراء، وهو مذهب مجاهد .

    والثاني: أنه العظام ما لم تتحطم، والرفات: الحطام، قاله أبو عبيدة . وقال الزجاج: الرفات: التراب . والرفات: كل شيء حطم وكسر . و " خلقا جديدا " في معنى مجددا .

    قوله تعالى: " أو خلقا مما يكبر في صدوركم " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه الموت، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، والأكثرون .

    والثاني: أنه السماء والأرض والجبال، قاله مجاهد .

    والثالث: [ أنه ] ما يكبر في صدوركم من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى، قاله قتادة .

    فإن قيل: كيف قيل لهم: " كونوا حجارة أو حديدا " وهم لا يقدرون على ذلك ؟ فعنه جوابان:

    أحدهما: إن قدرتم على تغير حالاتكم، فكونوا حجارة أو أشد منها، فإنا نميتكم، وننفذ أحكامنا فيكم، ومثل هذا قولك للرجل: اصعد إلى السماء فإني لاحقك .

    والثاني: تصوروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها، فإنا سنبيدكم، قال الأحوص: [ ص: 45 ]


    إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا


    معناه: فتصور نفسك حجرا، وهؤلاء قوم اعترفوا أن الله خالقهم وجحدوا البعث، فأعلموا أن الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم .

    قوله تعالى: " فسينغضون إليك رءوسهم " قال قتادة: يحركونها تكذيبا واستهزاء . قال الفراء: يقال: أنغض رأسه: إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل . وقال ابن قتيبة: المعنى: يحركونها، كما يحرك الآيس من الشيء والمستبعد [ له ] رأسه، يقال: نغضت سنه: إذا تحركت .

    قوله تعالى: " ويقولون متى هو " يعنون: البعث، " قل عسى أن يكون قريبا " ; أي: هو قريب . ثم بين متى يكون، فقال: " يوم يدعوكم " يعني: من القبور بالنداء الذي يسمعكم، وهو النفخة الأخيرة " فتستجيبون " ; أي: تجيبون . قال مقاتل: يقوم إسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن، فيقول: أيتها العظام البالية، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الشعور المتفرقة، وأيتها العروق المتقطعة، اخرجوا إلى فصل القضاء لتجزوا بأعمالكم، فيسمعون الصوت فيسعون إليه .

    وفي معنى " بحمده " أربعة أقوال:

    أحدها: بأمره، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد .

    والثاني: يخرجون من القبور وهم يقولون: سبحانك وبحمدك، قاله سعيد بن جبير . [ ص: 46 ]

    والثالث: أن معنى " بحمده " : بمعرفته وطاعته، قاله قتادة . قال الزجاج: تستجيبون مقرين أنه خالقكم .

    والرابع: تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: " وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " في هذا الظن قولان:

    أحدهما: أنه بمعنى اليقين .

    والثاني: أنه على أصله . وأين يظنون أنهم لبثوا قليلا ؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بين النفختين، ومقداره أربعون سنة، ينقطع في ذلك العذاب عنهم، فيرون لبثهم في زمان الراحة قليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: في الدنيا، لعلمهم بطول اللبث في الآخرة، قاله الحسن . والثالث: في القبور، قاله مقاتل . فعلى هذا إنما قصر اللبث في القبور عندهم ; لأنهم خرجوا إلى ما هو أعظم عذابا من عذاب القبور . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين ; لأنهم يجيبون المنادي وهم يحمدون الله على إحسانه إليهم، ويستقلون مدة اللبث في القبور ; لأنهم كانوا غير معذبين .
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا .

    قوله تعالى: " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن " في سبب نزولها قولان:

    أحدهما: أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بالقول والفعل، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن رجلا من الكفار شتم عمر بن الخطاب، فهم به عمر رضي الله عنه، [ ص: 47 ] فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل، والمعنى: وقل لعبادي المؤمنين يقولوا الكلمة التي هي أحسن . واختلفوا فيمن تقال له هذه الكلمة على قولين:

    أحدهما: أنهم المشركون، قال الحسن: تقول له: يهديك الله، وما ذكرنا من سبب نزول الآية يؤيد هذا القول . وذهب بعضهم إلى أنهم أمروا بهذه الآية بتحسين خطاب المشركين قبل الأمر بقتالهم، ثم نسخت هذه الآية بآية السيف .

    والثاني: أنهم المسلمون، قاله ابن جرير . والمعنى: وقل لعبادي يقول بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة . وقد روى مبارك عن الحسن، قال: " التي هي أحسن " أن يقول له مثل قوله، ولكن يقول له: يرحمك الله ويغفر الله لك . قال الأخفش: وقوله: " يقولوا " مثل قوله: " يقيموا الصلاة " ، وقد شرحنا ذلك في سورة ( إبراهيم: 31 ) .

    قوله تعالى: " إن الشيطان ينزغ بينهم " ; أي: يفسد ما بينهم، والعدو المبين: الظاهر العداوة .
    ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا .

    قوله تعالى: " ربكم أعلم بكم " فيمن خوطب بهذا قولان:

    أحدهما: أنهم المؤمنون . ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: " إن يشأ يرحمكم " فينجيكم من أهل مكة، " و إن يشأ يعذبكم " فيسلطهم عليكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: إن يشأ يرحمكم بالتوبة، أو يعذبكم بالإقامة على الذنوب، قاله الحسن . [ ص: 48 ]

    والثاني: أنهم المشركون . ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: إن يشأ يرحمكم فيهديكم للإيمان، أو إن يشأ يعذبكم فيميتكم على الكفر، قاله مقاتل . والثاني: أنه لما نزل القحط بالمشركين، فقالوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون [ الدخان: 12 ]، قال الله تعالى: " ربكم أعلم بكم " من الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن، " إن يشأ يرحمكم " فيكشف القحط عنكم، " أو إن يشأ يعذبكم " فيتركه عليكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي . قال ابن الأنباري: و " أو " هاهنا دخلت لسعة الأمرين عند الله تعالى، وأنه لا يرد عنهما، فكانت ملحقة بـ( أو ) المبيحة في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، يعنون: قد وسعنا لك الأمر .

    قوله تعالى: " وما أرسلناك عليهم وكيلا " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: كفيلا تؤخذ بهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: حافظا وربا، قاله الفراء . والثالث: كفيلا بهدايتهم وقادرا على إصلاح قلوبهم، ذكره ابن الأنباري، وذهب بعض المفسرين إلى أن هذا منسوخ بآية السيف .
    وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا .

    قوله تعالى: " وربك أعلم بمن في السماوات والأرض " ; لأنه خالقهم، فهدى من شاء وأضل من شاء، وكذلك فضل بعض النبيين على بعض، وذلك عن حكمة منه وعلم، فخلق آدم بيده، ورفع إدريس، وجعل الذرية لنوح، واتخذ إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وجعل عيسى روحا، وأعطى سليمان ملكا جسيما، ورفع محمدا صلى الله عليه وسلم فوق السماوات، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ويجوز أن يكون المفضلون أصحاب الكتب ; لأنه ختم الكلام بقوله: " وآتينا داود زبورا " . وقد شرحنا معنى " الزبور " في سورة ( النساء: 163 ) . [ ص: 49 ]
    قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا .

    قوله تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه " في سبب نزولها قولان:

    أحدهما: أن نفرا من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن والنفر من العرب لا يشعرون، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، روي عن ابن مسعود .

    والثاني: أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون: هي تشفع لنا عند الله، فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين، قيل لهم: " ادعوا الذين زعمتم " ، قاله مقاتل، والمعنى: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة، " فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا " له إلى غيركم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #350
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (350)
    صــ 51 إلى صــ 58



    قوله تعالى: " أولئك الذين يدعون " في المشار إليهم بـ " أولئك " ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنهم الجن الذين أسلموا . والثاني: الملائكة، وقد سبق بيان [ ص: 50 ] القولين . والثالث: أنهم المسيح، وعزير، والملائكة، والشمس، والقمر، قاله ابن عباس . وفي معنى " يدعون " قولان:

    أحدهما: يعبدون ; أي: يدعونهم آلهة، وهذا قول الأكثرين .

    والثاني: أنه بمعنى يتضرعون إلى الله في طلب الوسيلة، وعلى هذا يكون قوله: " يدعون " راجعا إلى " أولئك " ، ويكون قوله: يبتغون تماما للكلام . وعلى القول الأول يكون " يدعون " راجعا إلى المشركين، ويكون قوله: " يبتغون " وصفا لـ " أولئك " مستأنفا . وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن: ( تدعون ) بالتاء . قال ابن الأنباري: فعلى هذا الفعل مردود إلى قوله: " فلا يملكون كشف الضر عنكم " . ومن قرأ: ( يدعون ) بالياء، قال: العرب تنصرف من الخطاب إلى الغيبة إذا أمن اللبس . ومعنى " يدعون " : يدعونهم آلهة . وقد فسرنا معنى " الوسيلة " في ( المائدة: 35 ) .

    وفي قوله: " أيهم أقرب " قولان، ذكرهما الزجاج:

    أحدهما: أن يكون " أيهم " مرفوعا بالابتداء، وخبره " أقرب " ، ويكون المعنى: يطلبون الوسيلة إلى ربهم، ينظرون أيهم أقرب إليه، فيتوسلون إلى الله به .

    والثاني: أن يكون " أيهم أقرب " بدلا من الواو في " يبتغون " ، فيكون المعنى: يبتغي أيهم هو أقرب الوسيلة إلى الله ; أي: يتقرب إليه بالعمل الصالح .
    وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا .

    قوله تعالى: " وإن من قرية إلا نحن مهلكوها " ( إن ) بمعنى ( ما )، والقرية الصالحة هلاكها بالموت، والعاصية بالعذاب، والكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب . [ ص: 51 ]
    وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا .

    قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات " سبب نزولها فيه قولان:

    أحدهما: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم لعلنا نجتبي منهم، وإن شئت نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم، قال: " لا، بل أستأني بهم " ، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني: قد ذكرناه عن الزبير في قوله: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال [ الرعد: 31 ]، ومعنى الآية: وما منعنا إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين، يعني: أن هؤلاء سألوا الآيات التي استوجب بتكذيبها الأولون العذاب، فلم يرسلها لئلا يكذب بها هؤلاء، فيهلكوا كما هلك أولئك، وسنة الله في الأمم أنهم إذا سألوا الآيات ثم كذبوا بها عذبهم .

    قوله تعالى: " وآتينا ثمود الناقة مبصرة " قال ابن قتيبة: أي: بينة، يريد: مبصرا بها . قال ابن الأنباري: ويجوز أن تكون مبصرة، ويصلح أن يكون المعنى: مبصر مشاهدوها، فنسب إليها فعل غيرها تجوزا، كما يقال: لا أرينك هاهنا، فأدخل حرف النهي على غير المنهي عنه ; إذ المعنى: لا تحضر هاهنا حتى [ ص: 52 ] إذا جئت لم أرك فيه . ومن قرأ ( مبصرة ) بفتح الميم والصاد، فمعناه: المبالغة في وصف الناقة بالتبيان، كقولهم: الولد مجبنة .

    قوله تعالى: " فظلموا بها " قال ابن عباس: فجحدوا بها . وقال الأخفش: بها كان ظلمهم .

    قوله تعالى: " وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " ; أي: نخوف العباد ليتعظوا .

    وللمفسرين في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال:

    أحدها: أنها الموت الذريع، قاله الحسن . والثاني: معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفا للمكذبين . والثالث: آيات الانتقام تخويفا من المعاصي . والرابع: تقلب أحوال الإنسان من صغر إلى شباب، ثم إلى كهولة، ثم إلى مشيب ; ليعتبر بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي، ونسب القول الأخير منها إلى إمامنا أحمد رضي الله عنه .
    وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .

    قوله تعالى: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أحاط علمه بالناس، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الربيع بن أنس . وقال مقاتل: أحاط علمه بالناس، يعني: أهل مكة، أن يفتحها لرسوله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 53 ]

    والثاني: أحاطت قدرته بالناس فهم في قبضته، قاله مجاهد .

    والثالث: حال بينك وبين الناس أن يقتلوك لتبلغ رسالته، قاله الحسن وقتادة .

    قوله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " في هذه الرؤيا قولان:

    أحدهما: أنها رؤيا عين، وهي ما رأى ليلة أسري به من العجائب والآيات . روى عكرمة عن ابن عباس، قال: هي رؤيا عين رآها ليلة أسري به، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، وقتادة، وأبو مالك، وأبو صالح، وابن جريج، وابن زيد في آخرين . فعلى هذا يكون معنى الفتنة: الاختبار، فإن قوما آمنوا بما قال وقوما كفروا . قال ابن الأنباري: المختار في هذه الرؤية أن تكون يقظة، ولا فرق بين أن يقول القائل: رأيت فلانا رؤية، ورأيته رؤيا، إلا أن الرؤية يقل استعمالها في المنام، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام، ويجوز كل واحد منهما في المعنيين .

    والثاني: أنها رؤيا منام . ثم فيها قولان: أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 54 ] كان قد أري أنه يدخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة، فعجل قبل الأجل، فرده المشركون، فقال أناس: قد رد، وكان حدثنا أنه سيدخلها، فكان رجوعهم فتنتهم،رواه العوفي عن ابن عباس . وهذا لا ينافي حديث المعراج ; لأن هذا كان بالمدينة، والمعراج كان بمكة . قال أبو سليمان الدمشقي: وإنما ذكره ابن عباس على وجه الزيادة في الإخبار لنا أن المشركين بمكة افتتنوا برؤيا عينه، والمنافقين بالمدينة افتتنوا برؤيا نومه . والثاني: أنه أري بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فقيل له: إنها الدنيا يعطونها، فسري عنه . فالفتنة هاهنا: البلاء، رواه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب، وإن كان مثل هذا لا يصح، ولكن قد ذكره عامة المفسرين .

    وروى ابن الأنباري أن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما على منابر، فشق ذلك عليه، وفيه نزل: " والشجرة الملعونة في القرآن " ، قال: ومعنى قوله: " إلا فتنة للناس " : إلا بلاء للناس . قال ابن الأنباري: فمن ذهب إلى أن الشجرة رجال رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه يصعدون على المنابر، احتج بأن الشجرة يكنى بها عن المرأة لتأنيثها، وعن الجماعة لاجتماع أغصانها . قالوا ووقعت اللعنة بهؤلاء الذين كني عنهم بالشجرة . قال المفسرون: وفي الآية تقديم وتأخير، تقديره: وما جعلنا الرؤيا والشجرة إلا فتنة للناس .

    وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنها شجرة الزقوم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال [ ص: 55 ] مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، والجمهور . وقال مقاتل: لما ذكر الله تعالى شجرة الزقوم، قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا يخوفكم بشجرة الزقوم، ألستم تعلمون أن النار تحرق الشجر ؟ ومحمد يزعم أن النار تنبت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم ؟ فقال عبد الله بن الزبعرى: إن الزقوم بلسان بربر: التمر والزبد، فقال أبو جهل: يا جارية ابغينا تمرا وزبدا، فجاءته به، فقال لمن حوله: تزقموا من هذا الذي يخوفكم به محمد، فأنزل الله تعالى: " ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " . قال ابن قتيبة: كانت فتنتهم بالرؤيا قولهم: كيف يذهب إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة ؟ وبالشجرة قولهم: كيف يكون في النار شجرة ؟

    وللعلماء في معنى " الملعونة " ثلاثة أقوال: أحدها: المذمومة، قاله ابن عباس . والثاني: الملعون آكلها، ذكره الزجاج، وقال: إن لم يكن في القرآن ذكر لعنها، ففيه لعن آكليها، قال: والعرب تقول لكل طعام مكروه وضار: ملعون ; فأما قوله: " في القرآن " فالمعنى: التي ذكرت في القرآن، وهي مذكورة في قوله: إن شجرت الزقوم طعام الأثيم [ الدخان: 43، 44 ] . والثالث: أن معنى " الملعونة " : المبعدة عن منازل أهل الفضل، ذكره ابن الأنباري . [ ص: 56 ]

    والقول الثاني: أن الشجرة الملعونة هي التي تلتوي على الشجر، يعني: الكشوثى، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: أن الشجرة كناية عن الرجال على ما ذكرنا عن سعيد بن المسيب .

    قوله تعالى: " ونخوفهم " قال ابن الأنباري: مفعول " نخوفهم " محذوف، تقديره: ونخوفهم العذاب، " فما يزيدهم " ; أي: فما يزيدهم التخويف " إلا طغيانا " ، وقد ذكرنا معنى الطغيان في ( البقرة: 15 )، وذكرنا هناك تفسير قوله: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس [ البقرة: 34 ] .
    وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا .

    قوله تعالى: ( آسجد ) قرأه الكوفيون بهمزتين، وقرأه الباقون بهمزة مطولة، وهذا استفهام إنكار يعني به: لم أكن لأفعل .

    قوله تعالى: " لمن خلقت طينا " قال الزجاج: " طينا " منصوب على وجهين:

    [ ص: 57 ] أحدهما: التمييز، المعنى: لمن خلقته من طين . والثاني: على الحال، المعنى: أنشأته في حال كونه من طين . ولفظ " قال أرأيتك " جاء هاهنا بغير حرف عطف ; لأن المعنى: قال: آسجد لمن خلقت طينا وأرأيتك ؟ وهي في معنى: أخبرني، والكاف ذكرت في المخاطبة توكيدا، والجواب محذوف، والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرمت علي، لم كرمته علي وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ؟ فحذف هذا ; لأن في الكلام دليلا عليه .

    قوله تعالى: " لئن أخرتن إلى يوم القيامة " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: ( أخرتني ) بياء في الوصل . ووقف ابن كثير بالياء . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في وصل ولا في وقف .

    قوله تعالى: " لأحتنكن ذريته " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: لأستولين عليهم، قاله ابن عباس والفراء . والثاني: لأضلنهم، قاله ابن زيد . والثالث: لأستأصلنهم، يقال: احتنك الجراد ما على الأرض: إذا أكله، واحتنك فلان ما عند فلان من العلم: إذا استقصاه، فالمعنى: لأقودنهم كيف شئت، هذا قول ابن قتيبة .

    فإن قيل: من أين علم الغيب ؟ فقد أجبنا عنه في سورة ( النساء: 119 ) .

    قوله تعالى: " إلا قليلا " قال ابن عباس: هم أولياء الله الذين عصمهم .

    قوله تعالى: " قال اذهب " هذا اللفظ يتضمن إنظاره، " فمن تبعك " ; أي: تبع أمرك منهم، يعني: ذرية آدم . والموفور: الموفر . قال ابن قتيبة: يقال: وفرت ماله عليه، ووفرته، بالتخفيف والتشديد . [ ص: 58 ]

    قوله تعالى: " واستفزز من استطعت منهم " قال ابن قتيبة: استخف، ومنه تقول: استفزني فلان .

    وفي المراد بصوته قولان: أحدهما: أنه كل داع دعا إلى معصية الله، قاله ابن عباس . والثاني: أنه الغناء والمزامير، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: " وأجلب عليهم " ; أي: صح " بخيلك ورجلك " واحثثهم عليهم بالإغراء، يقال: أجلب القوم وجلبوا: إذا صاحوا . وقال الزجاج: المعنى: اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك ; فعلى هذا تكون الباء زائدة . قال ابن قتيبة: والرجل: الرجالة، يقال: راجل ورجل، مثل: تاجر وتجر، وصاحب وصحب . قال ابن عباس: كل خيل تسير في معصية الله، وكل رجل يسير في معصية الله . وقال قتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس . وروى حفص عن عاصم: ( بخيلك ورجلك ) بكسر الجيم، وهي قراءة ابن عباس، وأبي رزين، وأبي عبد الرحمن السلمي . قال أبو زيد: يقال: رجل رجل للراجل، ويقال: جاءنا حافيا رجلا . وقرأ ابن السميفع والجحدري: ( بخيلك ورجالك ) برفع الراء وتشديد الجيم مفتوحة وبألف بعدها . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: ( ورجالك ) بكسر الراء وتخفيف الجيم مع ألف .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #351
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (351)
    صــ 59 إلى صــ 66






    قوله تعالى: " وشاركهم في الأموال " فيه أربعة أقوال:

    أحدها: أنها ما كانوا يحرمونه من أنعامهم، رواه عطية عن ابن عباس . [ ص: 59 ]

    والثاني: الأموال التي أصيبت من حرام، قاله مجاهد . والثالث: التي أنفقوها في معاصي الله، قاله الحسن . والرابع: ما كانوا يذبحون لآلهتهم، قاله الضحاك .

    فأما مشاركته إياهم في الأولاد، ففيها أربعة أقوال:

    أحدها: أنهم أولاد الزنا، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك .

    والثاني: الموؤودة من أولادهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث: أنه تسمية أولادهم عبيدا لأوثانهم، كعبد شمس، وعبد العزى، وعبد مناف، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والرابع: ما مجسوا وهودوا ونصروا، وصبغوا من أولادهم غير صبغة الإسلام، قاله الحسن وقتادة .

    قوله تعالى: " وعدهم " قد ذكرناه في قوله: يعدهم ويمنيهم . . . إلى آخر الآية [ النساء: 120 ] . وهذه الآية لفظها لفظ الأمر، ومعناها التهديد، ومثلها في الكلام أن تقول للإنسان: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك . قال الزجاج: إذا تقدم الأمر نهي عما يؤمر به، فمعناه التهديد والوعيد، تقول للرجل: لا تدخلن هذه الدار، فإذا حاول أن يدخلها قلت: ادخلها وأنت رجل، فلست تأمره بدخولها، ولكنك توعده وتهدده، ومثله: اعملوا ما شئتم [ فصلت: 40 ]، وقد نهوا أن يعملوا بالمعاصي . وقال ابن الأنباري: هذا أمر معناه التهديد، تقديره: إن فعلت هذا عاقبناك وعذبناك، فنقل إلى لفظ الأمر عن الشرط، كقوله: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف: 29 ] .

    قوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " قد شرحناه في ( الحجر: 42 ) . [ ص: 60 ]

    قوله تعالى: " وكفى بربك وكيلا " قال الزجاج: كفى به وكيلا لأوليائه يعصمهم من القبول من إبليس .
    ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .

    قوله تعالى: " ربكم الذي يزجي لكم الفلك " ; أي: يسيرها . قال الزجاج: يقال: زجيت الشيء ; أي: قدمته .

    قوله تعالى: " لتبتغوا من فضله " ; أي: في طلب التجارة .

    وفي " من " ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنها زائدة . والثاني: أنها للتبعيض . والثالث: أن المفعول محذوف، والتقدير: لتبتغوا من فضله الرزق والخير، ذكرهن ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " إنه كان بكم رحيما " هذا الخطاب خاص للمؤمنين، ثم خاطب المشركين فقال: " وإذا مسكم الضر في البحر " يعني: خوف الغرق، " ضل [ ص: 61 ] من تدعون " ; أي: يضل من يدعون من الآلهة، إلا الله تعالى . ويقال: ضل بمعنى غاب، يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غاب، والمعنى: أنكم أخلصتم الدعاء [ لله ]، ونسيتم الأنداد . وقرأ مجاهد وأبو المتوكل: ( ضل من يدعون ) بالياء . " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " عن الإيمان والإخلاص، " وكان الإنسان " يعني: الكافر " كفورا " بنعمة ربه . " أفأمنتم " إذا خرجتم من البحر " أن يخسف بكم " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( نخسف بكم، أو نرسل، أن نعيدكم، فنرسل، فنغرقكم ) بالنون في الكل . وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بالياء في الكل . ومعنى " نخسف بكم جانب البر " ; أي: نغيبكم ونذهبكم في ناحية البر، والمعنى: إن حكمي نافذ في البر نفوذه في البحر . " أو نرسل عليكم حاصبا " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أن الحاصب: حجارة من السماء، قاله قتادة .

    والثاني: أنه الريح العاصف تحصب، قاله أبو عبيدة، وأنشد للفرزدق:


    مستقبلين شمال الريح تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور


    وقال ابن قتيبة: الحاصب: الريح، سميت بذلك لأنها تحصب ; أي: ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار . وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الحاصب: الريح التي فيها الحصى . وإنما قال في الريح: " حاصبا " ، ولم يقل: ( حاصبة ) ; لأنه وصف لزم الريح، ولم يكن لها مذكر تنتقل إليه في حال، فكان بمنزلة قولهم: ( حائض ) للمرأة، حين لم يقل: رجل حائض . قال: وفيه جواب آخر: [ ص: 62 ] وهو أن نعت الريح عري من علامة التأنيث، فأشبهت بذلك أسماء المذكر، كما قالوا: السماء أمطر، والأرض أنبت .

    والثالث: أن الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: " ثم لا تجدوا لكم وكيلا " ; أي: مانعا وناصرا .

    قوله تعالى: " أم أمنتم أن يعيدكم فيه " ; أي: في البحر " تارة أخرى " ; أي: مرة أخرى، والجمع: تارات . " فيرسل عليكم قاصفا من الريح " قال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء . قال ابن قتيبة: القاصف: [ الريح التي ] تقصف الشجر ; أي: تكسره .

    قوله تعالى: " فيغرقكم " وقرأ أبو المتوكل و[ أبو ] جعفر، وشيبة، ورويس: ( فتغرقكم ) بالتاء، وسكون الغين، وتخفيف الراء . وقرأ أبو الجوزاء وأيوب: ( فيغرقكم ) بالياء،وفتح الغين، وتشديدها . وقرأ أبو رجاء مثله، إلا أنه بالتاء . " بما كفرتم " ; أي: بكفركم حيث نجوتم في المرة الأولى، " ثم تجدوا لكم علينا به تبيعا " قال ابن قتيبة: أي: من يتبع بدمائكم ; أي: يطالبنا . قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ريح العذاب أربع، اثنتان في البر، واثنتان في البحر ; فاللتان في البر: الصرصر والعقيم، واللتان في البحر: العاصف والقاصف .

    قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم " ; أي: فضلناهم . قال أبو عبيدة: و " كرمنا " أشد مبالغة من أكرمنا .

    وللمفسرين فيما فضلوا به أحد عشر قولا:

    أحدها: أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس . [ ص: 63 ] فعلى هذا يكون المراد: المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإيمان . والثاني: أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس . وقال بعض المفسرين: المراد بهذا التفضيل: أكلهم بأيديهم ونظافة ما يقتاتونه ; إذ الجن يقتاتون العظام والروث . والثالث: فضلوا بالعقل، روي عن ابن عباس . والرابع: بالنطق والتمييز، قاله الضحاك . والخامس: بتعديل القامة وامتدادها، قاله عطاء . والسادس: بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم، قاله محمد بن كعب . والسابع: فضلوا بالمطاعم واللذات في الدنيا، قاله زيد بن أسلم . والثامن: بحسن الصورة، قاله يمان . والتاسع: بتسليطهم على غيرهم من الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، قاله محمد بن جرير . والعاشر: بالأمر والنهي، ذكره الماوردي . والحادي عشر: بأن جعلت اللحى للرجال والذوائب للنساء، ذكره الثعلبي .

    فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل وفيهم الكافر المهان ؟

    فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرم بالنعم الوافرة . والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصفة على جماعتهم، كقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران: 110 ] .

    قوله تعالى: " وحملناهم في البر " على أكباد رطبة، وهي: الإبل والخيل، والبغال والحمير، وفي " البحر " على أعواد يابسة، وهي: السفن . " ورزقناهم من الطيبات " فيه قولان:

    أحدهما: الحلال . والثاني: المستطاب في الذوق .

    قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " فيه قولان:

    أحدهما: أنه على لفظه، وأنهم لم يفضلوا على سائر المخلوقات . وقد ذكرنا [ ص: 64 ] عن ابن عباس أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة، وقال غيره: بل الملائكة أفضل .

    والثاني: أن معناه: وفضلناهم على جميع من خلقنا، والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع، كقوله: يلقون السمع وأكثرهم كاذبون [ الشعراء: 223 ] . وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده " .
    يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

    قوله تعالى: " يوم ندعوا " قال الزجاج: هو منصوب على معنى: اذكر، " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " والمراد به: يوم القيامة . وقرأ الحسن البصري: ( يوم يدعو ) بالياء، ( كل ) بالنصب . وقرأ أبو عمران الجوني: ( يوم يدعى ) بياء مرفوعة، وفتح العين، وبعدها ألف، ( كل ) بالرفع .

    وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال:

    أحدها: أنه رئيسهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال: إمام هدى، أو إمام ضلالة . [ ص: 65 ]

    والثاني: عملهم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الحسن وأبو العالية .

    والثالث: نبيهم، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد في رواية .

    والرابع: كتابهم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم، قاله قتادة ومقاتل . والثاني: كتابهم الذي أنزل عليهم، قاله الضحاك وابن زيد . فعلى القول الأول يقال: يا متبعي موسى، يا متبعي عيسى، يا متبعي محمد، ويقال: يا متبعي رؤساء الضلالة . وعلى الثاني: يا من عمل كذا وكذا . وعلى الثالث: يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد . وعلى الرابع: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن . أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا .

    قوله تعالى: " فأولئك يقرءون كتابهم " معناه: يقرؤون حسناتهم ; لأنهم أخذوا كتبهم بإيمانهم .

    قوله تعالى: " ولا يظلمون فتيلا " ; أي: لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل، وقد بيناه في سورة ( النساء: 49 ) .

    قوله تعالى: " ومن كان في هذه أعمى " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: ( أعمى فهو في الآخرة أعمى ) مفتوحتي الميم . وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين . وقرأ أبو عمرو: ( في هذه أعمى ) بكسر الميم، ( فهو في الآخرة أعمى ) بفتحها .

    وفي المشار إليها بـ " هذه " قولان:

    أحدهما: أنها الدنيا، قاله مجاهد . ثم في معنى الكلام خمسة أقوال: أحدها: [ ص: 66 ] من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خلق الأشياء، فهو عما وصف له في الآخرة أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني: من كان في الدنيا أعمى بالكفر فهو في الآخرة أعمى ; لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل، قاله الحسن . والثالث: من عمي عن آيات الله في الدنيا، فهو عن الذي غيب عنه من أمور الآخرة أشد عمى . والرابع: من عمي عن نعم الله التي بينها في قوله: " ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر " إلى قوله: " تفضيلا " ، فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه، ذكرهما ابن الأنباري . والخامس: من كان فيها أعمى عن الحجة، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة، قاله أبو بكر الوراق .

    والثاني: أنها النعم . ثم في الكلام قولان: أحدهما: من كان أعمى عن النعم التي ترى وتشاهد، فهو في الآخرة التي لم تر أعمى، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني: من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النعم المذكورة في قوله: " ولقد كرمنا بني آدم " ولم يؤد شكرها، فهو فيما بينه وبين الله مما يتقرب به إليه أعمى " وأضل سبيلا " ، قاله السدي . قال أبو علي الفارسي: ومعنى قوله: " في الآخرة أعمى " ; أي: أشد عمى ; لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عماه بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إلى الخروج من عماه . وقيل: معنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إلى طريق الثواب، وهذا كله من عمى القلب .

    فإن قيل: لم قال: " فهو في الآخرة أعمى " ، ولم يقل: أشد عمى ; لأن العمى خلقة بمنزلة الحمرة والزرقة، والعرب تقول: ما أشد سواد زيد، وما أبين زرقة عمرو، وقلما يقولون: ما أسود زيدا، وما أزرق عمرا ؟



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #352
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (352)
    صــ 67 إلى صــ 74



    فالجواب: أن المراد بهذا العمى: عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه [ ص: 67 ] شيء بعد شيء، فيخالف الخلق اللازمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري .
    وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا .

    قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك " في سبب نزولها أربعة أقوال:

    أحدها: أن وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: متعنا باللات سنة، وحرم وادينا كما حرمت مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يكثرون مسألتهم، وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن خشيت أن يقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عنهم ]، وداخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس . وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا: أجلنا سنة، ثم نسلم ونكسر أصنامنا، فهم أن يؤجلهم، فنزلت هذه الآية .

    والثاني: أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نكف عنك إلا بأن تلم بآلهتنا، ولو بأطراف أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما علي لو فعلت والله يعلم إني لكاره " ، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل [ ص: 68 ] لا يجوز أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه هم أن ينظرهم سنة، وكل ذلك محال في حقه وفي حق الصحابة أنهم رووا عنه .

    والثالث: أن قريشا خلوا برسول الله ليلة إلى الصباح يكلمونه ويفخمونه، ويقولون: أنت سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة .

    والرابع: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اطرد عنك سقاط الناس ومواليهم، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبسون الصوف، حتى نجالسك ونسمع منك، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يستدعي به إسلامهم، فنزلت هذه الآيات، حكاه الزجاج، قال: ومعنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت " إن " واللام للتوكيد . قال المفسرون: وإنما قال: " ليفتنونك " ; لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن .

    قوله تعالى: " لتفتري " ; أي: لتختلق، " علينا غيره " وهو قولهم: قل: الله أمرني بذلك، " وإذا " لو فعلت ذلك " لاتخذوك خليلا " ; أي: والوك وصافوك .
    قوله تعالى: " ولولا أن ثبتناك " على الحق لعصمتنا إياك، " لقد كدت تركن إليهم " ; أي: هممت وقاربت أن تميل إلى مرادهم " شيئا قليلا " قال ابن عباس وذلك حين سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيته . وقال ابن الأنباري: الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الباطن للمشركين، وتقديره: لقد كادوا يركنونك إليهم، وينسبون إليك ما يشتهونه مما تكره، فنسب الفعل إلى غير فاعله عند أمن اللبس، كما يقول الرجل للرجل: كدت تقتل نفسك اليوم، يريد: كدت تفعل فعلا يقتلك غيرك من أجله ; فهذا من المجاز والاتساع، وشبيه [ ص: 69 ] بهذا قوله: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة: 132 ]، وقول القائل: لا أرينك في هذا الموضع .

    قوله تعالى: " إذا لأذقناك " المعنى: لو فعلت ذلك الشيء القليل " لأذقناك ضعف الحياة " ; أي: ضعف عذاب الحياة " وضعف " عذاب " الممات " ، ومثله قول الشاعر:


    [ نبئت أن النار بعدك أوقدت ] واستب بعدك يا كليب المجلس


    أي: أهل المجلس . وقال ابن عباس: ضعف عذاب الدنيا والآخرة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما، ولكنه تخويف لأمته ; لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه .

    قوله تعالى: " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض " في سبب نزولها قولان:

    أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، حسدته اليهود على مقامه بالمدينة وكرهوا قربه، فأتوه، فقالوا: يا محمد أنبي أنت ؟ قال: " نعم " ، قالوا: فوالله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء، وأن أرض الأنبياء الشام، فإن كنت نبيا فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشخص عن المدينة، فنزلت هذه الآية . [ ص: 70 ] وقال عبد الرحمن بن غنم: لما قالت له اليهود هذا، صدق ما قالوا، وغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك نزلت هذه الآية .

    والثاني: أنهم المشركون أهل مكة هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فأمره الله بالخروج، وأنزل هذه الآية إخبارا عما هموا به، قاله الحسن ومجاهد . وقال قتادة: هم أهل مكة بإخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نوظروا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره بالخروج . وقيل: ما لبثوا حتى بعث الله عليهم القتل ببدر . فعلى القول الأول المشار إليهم: اليهود، والأرض: المدينة . وعلى الثاني: هم المشركون، والأرض: مكة . وقد ذكرنا معنى ( الاستفزاز ) آنفا ( الإسراء: 64 )، وقيل: المراد به هاهنا: القتل، ليخرجوه من الأرض كلها، روي عن الحسن .

    قوله تعالى: " وإذا لا يلبثون خلفك " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم: ( خلفك ) . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: ( خلافك ) . قال الأخفش: ( خلافك ) في معنى خلفك، والمعنى: لا يلبثون بعد خروجك " إلا قليلا " ; أي: لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما هموا به، فقتل صناديد المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير . وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا يلبثون [ ص: 71 ] على خلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض . وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل: ( خلافك بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء .

    قوله تعالى: " سنة من قد أرسلنا " قال الفراء: نصب السنة على العذاب المضمر ; أي: يعذبون كسنتنا فيمن أرسلنا . وقال الأخفش: المعنى: سنها سنة . وقال الزجاج: النصب بمعنى " لا يلبثون " ، وتأويله: إنا سننا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك أنهم إذا أخرجوا نبيهم أو قتلوه، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم .
    أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .

    قوله تعالى: " أقم الصلاة " ; أي: أدها " لدلوك الشمس " ; أي: عند دلوكها . وذكر ابن الأنباري في ( اللام ) قولين: أحدهما: أنها بمعنى ( في ) . والثاني: أنها مؤكدة، كقوله ردف لكم [ النمل: 72 ] . وقال أبو عبيدة: دلوكها: من عند زوالها إلى أن تغيب . وقال الزجاج: ميلها وقت الظهيرة دلوك، وميلها للغروب دلوك . وقال الأزهري: معنى ( الدلوك ) في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وإذا أفلت: دالكة ; لأنها في الحالين زائلة . [ ص: 72 ]

    وللمفسرين في المراد بالدلوك هاهنا قولان:

    أحدهما: أنه زوالها نصف النهار . روى جابر بن عبد الله، قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اخرج يا أبا بكر فهذا حيث دلكت الشمس " ; وهذا قول ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وهو اختيار الأزهري . قال الأزهري: لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى: أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: " وقرآن الفجر " ، فهذه خمس صلوات .

    والثاني: أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وابن زيد، وعن ابن عباس كالقولين، قال الفراء: ورأيت العرب تذهب في الدلوك إلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال: لأن العرب تقول: دلك النجم: إذا غاب، قال ذو الرمة:


    مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالأفلات الدوالك
    [ ص: 73 ]

    وتقول في الشمس: دلكت براح، يريدون: غربت، والناظر قد وضع كفه على حاجبه ينظر إليها، قال الشاعر:


    والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا


    فشبهها بالمريض [ في ] الدنف ; لأنها قد همت بالغروب كما قارب الدنف الموت، وإنما ينظر إليها من تحت الكف، ليعلم كم بقي لها إلى أن تغيب، ويتوقى الشعاع بكفه . فعلى هذا المراد بهذه الصلاة: المغرب، فأما غسق الليل فظلامه .

    وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال:

    أحدها: العشاء، قاله ابن مسعود . والثاني: المغرب، قاله ابن عباس . قال القاضي أبو يعلى: فيحتمل أن يكون المراد بيان وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إلى غسق الليل . والثالث: المغرب والعشاء، قاله الحسن .

    قوله تعالى: " وقرآن الفجر " المعنى: وأقم قراءة الفجر . قال المفسرون: المراد به: صلاة الفجر . قال الزجاج: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة، حين سميت الصلاة قرآنا . [ ص: 74 ]

    قوله تعالى: " إن قرآن الفجر كان مشهودا " روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " .

    قوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به " قال ابن عباس: فصل بالقرآن . قال مجاهد، وعلقمة، والأسود: التهجد بعد النوم . قال ابن قتيبة: تهجدت: سهرت، وهجدت: نمت . وقال ابن الأنباري: التهجد هاهنا بمعنى: التيقظ والسهر، واللغويون يقولون: هو من حروف الأضداد، يقال للنائم: هاجد ومتهجد، وكذلك للساهر قال النابغة:


    ولو أنها عرضت لأشمط راهب عبد الإله صرورة متهجد


    لرنا لبهجتها وحسن حديثها ولخاله رشدا وإن لم يرشد


    يعني بالمتهجد: الساهر، وقال لبيد:


    قال هجدنا فقد طال السرى [ وقدرنا إن خنا الدهر غفل ]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #353
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (353)
    صــ 75 إلى صــ 82






    [ ص: 75 ]

    أي: نومنا . وقال الأزهري: المتهجد: القائم إلى الصلاة من النوم . وقيل له: متهجد ; لإلقائه الهجود عن نفسه، كما يقال: تحرج وتأثم .

    قوله تعالى: " نافلة لك " النافلة في اللغة: ما كان زائدا على الأصل .

    وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان:

    أحدهما: أنها زائدة فيما فرض عليه، فيكون المعنى: فريضة عليك، وكان قد فرض عليه قيام الليل، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير

    والثاني: أنها زائدة على الفرض وليست فرضا، فالمعنى: تطوعا وفضيلة . قال أبو أمامة، والحسن، ومجاهد: إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قال مجاهد: وذلك أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة، وهو لغيره كفارة . وذكر بعض أهل العلم: أن صلاة الليل كانت فرضا عليه في الابتداء، ثم رخص له في تركها، فصارت نافلة . وذكر ابن الأنباري في هذا قولين:

    أحدهما: يقارب ما قاله مجاهد، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تنفل [ ص: 76 ] لا يقدر له أن يكون بذلك ماحيا للذنوب ; لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره إذا تنفل كان راجيا ومقدرا محو السيئات عنه بالتنفل، فالنافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على الحاجة، وهي لغيره مفتقر إليها، ومأمول بها دفع المكروه . والثاني: أن النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمعنى: ومن الليل فتهجدوا به نافلة لكم، فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب أمته .

    قوله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك " : " عسى " من الله واجبة، ومعنى " يبعثك " : يقيمك " مقاما محمودا " وهو الذي يحمده لأجله جميع أهل الموقف . وفيه قولان:

    أحدهما: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والحسن، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والثاني: يجلسه على العرش يوم القيامة . روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية، وقال: يقعده على العرش، وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس، وليث عن مجاهد .

    قوله تعالى: " وقل رب أدخلني مدخل صدق " وقرأ الحسن، وعكرمة، والضحاك، وحميد بن قيس، وابن أبي عبلة بفتح الميم في ( مدخل ) [ ص: 77 ] و( مخرج ) . قال الزجاج: المدخل بضم الميم: مصدر أدخلته مدخلا، ومن قال: مدخل صدق، فهو على أدخلته، فدخل مدخل صدق، وكذلك شرح ( مخرج ) مثله .

    وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولا:

    أحدها: أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق . روى أبو ظبيان عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية . وإلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد .

    والثاني: أدخلني القبر مدخل صدق، وأخرجني منه مخرج صدق، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث: أدخلني المدينة، وأخرجني إلى مكة، يعني: لفتحها، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والرابع: أدخلني مكة مدخل صدق، وأخرجني منها مخرج صدق، فخرج منها آمنا من المشركين، ودخلها ظاهرا عليها يوم الفتح، قاله الضحاك .

    والخامس: أدخلني مدخل صدق الجنة، وأخرجني مخرج صدق من مكة إلى المدينة، رواه قتادة عن الحسن .

    والسادس: أدخلني في النبوة والرسالة، وأخرجني منها مخرج صدق، قاله مجاهد، يعني: أخرجني مما يجب علي فيها .

    والسابع: أدخلني في الإسلام وأخرجني منه، قاله أبو صالح، يعني: من أداء ما وجب علي فيه إذا جاء الموت . [ ص: 78 ]

    والثامن: أدخلني في طاعتك وأخرجني منها ; أي: سالما غير مقصر في أدائها، قاله عطاء .

    والتاسع: أدخلني الغار وأخرجني منه، قاله محمد بن المنكدر .

    والعاشر: أدخلني في الدين وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق، ذكره الزجاج .

    والحادي عشر: أدخلني مكة وأخرجني إلى حنين، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    وأما إضافة الصدق إلى المدخل والمخرج، فهو مدح لهما . وقد شرحنا هذا المعنى في سورة ( يونس: 2 ) .

    قوله تعالى: " واجعل لي من لدنك " ; أي: من عندك " سلطانا " وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه التسلط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود، قاله الحسن . والثاني: أنه الحجة البينة، قاله مجاهد . والثالث: الملك العزيز الذي يقهر به العصاة، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري: وقوله: " نصيرا " يجوز أن يكون بمعنى منصرا، ويصلح أن يكون تأويله ناصرا .

    قوله تعالى: " وقل جاء الحق وزهق الباطل " فيه أربعة أقوال:

    أحدها: أن الحق: الإسلام، والباطل: الشرك، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: أن الحق: القرآن، والباطل: الشيطان، قاله قتادة . والثالث: أن الحق: الجهاد، والباطل: الشرك، قاله ابن جريج . والرابع: الحق: عبادة الله، والباطل: عبادة الأصنام، قاله مقاتل . ومعنى " زهق " : بطل واضمحل، وكل شيء هلك وبطل فقد زهق، وزهقت نفسه: تلفت .

    وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول البيت ثلاثمائة [ ص: 79 ] وستون صنما، فجعل يطعنها ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " .

    فإن قيل: كيف قلتم: إن " زهق " بمعنى بطل، والباطل موجود معمول عليه عند أهله ؟

    فالجواب: أن المراد من بطلانه وهلكته: وضوح عيبه، فيكون هالكا عند المتدبر الناظر .
    وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا .

    قوله تعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء " : " من " هاهنا لبيان الجنس، فجميع القرآن شفاء . وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال:

    أحدها: شفاء من الضلال لما فيه من الهدى . والثاني: شفاء من السقم لما فيه من البركة . والثالث: شفاء من البيان للفرائض والأحكام .

    وفي " الرحمة " قولان: أحدهما: النعمة . والثاني: سبب الرحمة .

    قوله تعالى: " ولا يزيد الظالمين " يعني: المشركين " إلا خسارا " لأنهم يكفرون به، ولا ينتفعون بمواعظه، فيزيد خسرانهم .
    وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا . [ ص: 80 ]

    قوله تعالى: " وإذا أنعمنا على الإنسان " قال ابن عباس: الإنسان هاهنا: الكافر، والمراد به: الوليد بن المغيرة . قال المفسرون: وهذا الإنعام: سعة الرزق وكشف البلاء . " ونأى بجانبه " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم: ( ونأى ) على وزن ( نعى ) بفتح النون والهمزة . وقرأ ابن عامر: ( ناء ) مثل ( باع ) . وقرأ الكسائي، وخلف، عن سليم، عن حمزة: ( وناء ) بإمالة النون والهمزة . وروى خلاد عن سليم: ( نئي ) بفتح النون وكسر الهمزة، والمعنى: تباعد عن القيام بحقوق النعم، وقيل: تعظم وتكبر . " وإذا مسه الشر " ; أي: نزل به البلاء والفقر " كان يئوسا " ; أي: قنوطا شديد اليأس، لا يرجو فضل الله .

    قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته " فيها ثلاثة أقوال:

    أحدها: على ناحيته، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير قال الفراء: الشاكلة: الناحية، والجديلة، والطريقة، سمعت بعض العرب يقول: وعبد الملك إذ ذاك على جديلته، وابن الزبير على جديلته، يريد: على ناحيته . وقال أبو عبيدة: على ناحيته وخليقته . وقال ابن قتيبة: على خليقته وطبيعته، وهو من الشكل . يقال: لست على شكلي ولا شاكلتي . وقال الزجاج: على طريقته وعلى مذهبه .

    والثاني: على نيته، قاله الحسن ومعاوية بن قرة . وقال الليث: الشاكلة من الأمور: ما وافق فاعله .

    والثالث: على دينه، قاله ابن زيد . وتحرير المعنى: أن كل واحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعم، واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والله يجازي الفريقين . وذكر أبو صالح عن ابن عباس: أن [ ص: 81 ] هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة: 5 ]، وليس بشيء .
    ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

    قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح " في سبب نزولها قولان:

    أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بناس من اليهود، فقالوا: سلوه عن الروح ؟ فقال بعضهم: لا تسألوه فيستقبلكم بما تكرهون، فأتاه نفر منهم، فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في الروح ؟ فسكت، ونزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود .

    والثاني: أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمدا عن ثلاث، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي، سلوه عن فتية فقدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الروح ; فسألوه عنها، ففسر لهم أمر الفتية في الكهف، وفسر لهم قصة ذي القرنين، وأمسك عن قصة الروح، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس . [ ص: 82 ]

    وفي المراد بالروح هاهنا ستة أقوال:

    أحدها: أنه الروح الذي يحيا به البدن، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس . وقد اختلف الناس في ماهية الروح، ثم اختلفوا هل الروح النفس، أم هما شيئان فلا يحتاج إلى ذكر اختلافهم ; لأنه لا برهان على شيء من ذلك، وإنما هو شيء أخذوه عن الطب والفلاسفة ؟ فأما السلف فإنهم أمسكوا عن ذلك لقوله تعالى: " قل الروح من أمر ربي " ، فلما رأوا أن القوم سألوا عن الروح فلم يجابوا، ولوحي ينزل والرسول حي، علموا أن السكوت عما لم يحط بحقيقة علمه أولى .

    والثاني: أن المراد بهذا الروح: ملك من الملائكة على خلقة هائلة، روي عن علي عليه السلام، وابن عباس، ومقاتل .

    والثالث: أن الروح خلق من خلق الله عز وجل صورهم على صور بني آدم، رواه مجاهد عن ابن عباس .

    والرابع: أنه جبريل عليه السلام، قاله الحسن وقتادة .

    والخامس: أنه القرآن، روي عن الحسن أيضا .

    والسادس: أنه عيسى بن مريم، حكاه الماوردي . قال أبو سليمان الدمشقي: قد ذكر الله تعالى الروح في مواضع من القرآن، فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إلى موضع لا يليق به، وظنوه مثله، وإنما هو الروح الذي يحيى به ابن آدم . وقوله: " من أمر ربي " ; أي: من عمله الذي منع أن يعرفه أحد .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #354
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (354)
    صــ 83 إلى صــ 90





    قوله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " في المخاطبين بهذا قولان:

    أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون . [ ص: 83 ]

    والثاني: أنهم جميع الخلق، علمهم قليل بالإضافة إلى علم الله عز وجل، ذكره الماوردي .

    فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [ البقرة: 269 ] ؟

    فالجواب: أن ما أوتيه الناس من العلم، وإن كان كثيرا، فهو بالإضافة إلى علم الله قليل .
    ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا .

    قوله تعالى: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " قال الزجاج: المعنى: لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب، حتى لا يوجد له أثر، " ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " ; أي: لا تجد من يتوكل [ علينا ] في رد شيء منه، " إلا رحمة من ربك " هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين . وقال ابن الأنباري: المعنى: لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع إلى دين آبائهم، فهددهم الله عز وجل بسلب النعمة، فكان ظاهر الخطاب للرسول، ومعنى التهدد للأمة . وقال أبو سليمان: " ثم لا تجد لك به " ; أي: بما نفعله بك من إذهاب ما عندك، " وكيلا " يدفعنا عما نريده بك . وروي [ عن ] عبد الله بن مسعود أنه قال: يسرى على القرآن في ليلة واحدة، فيجيء جبريل من جوف الليل، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم، فيصبحون لا يقرؤون آية [ ص: 84 ] ولا يحسونها . ورد أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا " ، وحديث ابن مسعود مروي من طرق حسان، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالعلم ما سوى القرآن، فإن العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر .
    قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

    قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن " قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال: لو شئنا لقلنا مثل هذا، والمثل الذي طلب منهم: كلام له نظم كنظم القرآن في أعلى طبقات البلاغة . والظهير: المعين . [ ص: 85 ]
    ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .

    قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن " قد فسرناه في هذه السورة [ الإسراء: 41 ]، والمعنى: من كل مثل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار، " فأبى أكثر الناس " يعني: أهل مكة " إلا كفورا " ; أي: جحودا للحق وإنكارا .

    قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، أن رؤساء قريش كعتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، فجاءهم سريعا، وكان حريصا على رشدهم، فقالوا: يا محمد ; إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فإن كنت إنما جئت بهذا لتطلب مالا، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كان هذا الرئي الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن تقبلوا [ ص: 86 ] مني [ ما جئتكم به ]، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " . قالوا: يا محمد ; فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا، فقد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أشد عيشا منا، سل لنا ربك يسير لنا هذه الجبال التي ضيقت علينا، ويجري لنا أنهارا، ويبعث من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول أحق هو ؟ فإن فعلت صدقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بهذا بعثت، وقد أبلغتكم ما أرسلت به " . قالوا: فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك، وسله أن يجعل لك جنانا وكنوزا، وقصورا من ذهب وفضة تغنيك، قال: " ما أنا بالذي يسأل ربه هذا " ، قالوا: فأسقط السماء [ علينا ] كما زعمت بأن ربك إن شاء فعل، فقال: " ذلك إلى الله عز وجل " ، فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، وقال عبد الله بن أبي أمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إلى [ السماء ] سلما، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا لما رأى من مباعدتهم إياه، فأنزل الله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك . . . " الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    قوله تعالى: " حتى تفجر " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( حتى تفجر ) بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( حتى تفجر ) بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف . فمن ثقل أراد: كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفف فلأن [ ص: 87 ] الينبوع واحد . فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها . قال أبو عبيدة: هو يفعول، من نبع الماء ; أي: ظهر وفار .

    قوله تعالى: " أو تكون لك جنة " ; أي: بستان " فتفجر الأنهار " ; أي: تفتحها وتجريها " خلالها " ; أي: وسط تلك الجنة .

    قوله تعالى: " أو تسقط السماء " وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري: ( أو تسقط ) بفتح التاء ورفع القاف، " السماء " بالرفع .

    قوله تعالى: " كسفا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( كسفا ) بتسكين السين في جميع القرآن، إلا في ( الروم: 48 )، فإنهم حركوا السين . وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين . وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها . قال الزجاج: من قرأ ( كسفا ) بفتح السين، جعلها جمع كسفة، وهي: القطعة، ومن قرأ ( كسفا ) بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا، واشتقاقه من كسفت الشيء: إذا غطيته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة . وقال ابن الأنباري: من سكن قال: تأويله: سترا وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إذا غطاها ما يحول بين الناظرين إليها وبين أنوارها .

    قوله تعالى: " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: عيانا، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل . وقال أبو عبيدة: معناه: مقابلة ; أي: معاينة، وأنشد للأعشى:


    نصالحكم حتى تبوؤوا بمثلها كصرخة حبلى يسرتها قبيلها
    [ ص: 88 ]

    أي: قابلتها . ويروى: وجهتها، [ يعني: بدل يسرتها ] .

    والثاني: كفيلا أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء ; تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت .

    والثالث: قبيلة قبيلة، كل قبيلة على حدتها، قاله الحسن ومجاهد . فأما الزخرف فالمراد به: الذهب . وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في ( يونس: 24 )، و " ترقى " بمعنى تصعد، يقال: رقيت أرقى رقيا .

    قوله تعالى: " حتى تنزل علينا كتابا " قال ابن عباس: كتابا من رب العالمين إلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه .

    قوله تعالى: " قل سبحان ربي " قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( قل ) . وقرأ ابن كثير وابن عامر: ( قال )، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام . " هل كنت إلا بشرا رسولا " ; أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر .

    فإن قيل: لم اقتصر على حكاية ( قالوا ) من غير إيضاح الرد ؟

    فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن " ، فلم يكن في وسعهم، عجزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوتي، ومن ذلك التحدي بمثل هذا القرآن، فأما عنتكم فليس في وسعي، ولأنهم الحوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسأل ربه، فرد قولهم بكونه بشرا، فكفى ذلك في الرد .
    وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون [ ص: 89 ] مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

    قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا " قال ابن عباس: يريد: أهل مكة . قال المفسرون: ومعنى الآية: وما منعهم من الإيمان " إذ جاءهم الهدى " وهو البيان والإرشاد في القرآن، " إلا أن قالوا " ; [ أي: إلا ] قولهم في التعجب والإنكار: " أبعث الله بشرا رسولا " ؟ وفي الآية اختصار، تقديره: هلا بعث الله ملكا رسولا، فأجيبوا على ذلك بقوله تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين " ; أي: مستوطنين الأرض . ومعنى الطمأنينة: السكون، والمراد من الكلام: أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم .

    قوله تعالى: " قل كفى بالله شهيدا " قد فسرناه في ( الرعد: 43 ) . " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " قال مقاتل: حين اختص الله محمدا بالرسالة .
    ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .

    قوله تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتدي " قرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل، وحذفاها في الوقف . وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في [ ص: 90 ] الحالتين . " من يهد الله " قال ابن عباس: من يرد الله هداه " فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه " يهدونهم .

    قوله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه يمشيهم على وجوههم، وشاهده ما روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث أنس بن مالك، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال: " إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " .

    والثاني: أن المعنى: ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس .

    والثالث: نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبر بقوله: " على وجوههم " عن الإسراع، كما تقول العرب: قد مر القوم على وجوههم: إذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " عميا وبكما وصما " فيه قولان:

    أحدهما: عميا لا يرون شيئا يسرهم، وبكما لا ينطقون بحجة، وصما لا يسمعون شيئا يسرهم، قاله ابن عباس . وقال في رواية: عميا عن النظر إلى ما جعل لأوليائه، وبكما عن مخاطبة الله، وصما عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين .

    والثاني: أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول . قال مقاتل: هذا يكون حين يقال لهم: اخسئوا فيها [ المؤمنون: 108 ]، فيصيرون عميا بكما صما، لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #355
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ
    الْإِسْرَاءِ
    الحلقة (355)
    صــ 91 إلى صــ 98






    قوله تعالى: " كلما خبت " قال ابن عباس: أي: سكنت . قال المفسرون: وذلك أنها تأكلهم، فإذا لم تبق منهم شيئا وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله، [ ص: 91 ] سكنت، فيعادون خلقا جديدا، فتعود لهم . وقال ابن قتيبة: يقال: خبت النار: إذا سكن لهبها، فاللهب يسكن، والجمر يعمل، فإن سكن اللهب، ولم يطفإ الجمر، قيل: خمدت تخمد خمودا، فإن طفئت ولم يبق منها شيء، قيل: همدت تهمد همودا . ومعنى " زدناهم سعيرا " : نارا تتسعر ; أي: تتلهب . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ الإسراء: 49 ] إلى قوله: " قادر على أن يخلق مثلهم " ; أي: على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد بـ " مثلهم " إياهم، وذلك أن مثل الشيء مساو له، فجاز أن يعبر به عن نفس الشيء، يقال: مثلك لا يفعل هذا ; أي: أنت، ومثله قوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به [ البقرة: 137 ] . وقد تم الكلام عند قوله: " مثلهم " ، ثم قال: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " يعني: أجل البعث، " فأبى الظالمون إلا كفورا " ; أي: جحودا بذلك الأجل .

    قوله تعالى: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي " قال الزجاج: المعنى: لو تملكون أنتم، قال المتلمس:


    ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي نصبت لهم فوق العرانين ميسما


    المعنى: لو أراد غير أخوالي .

    وفي هذه الخزائن قولان:

    أحدهما: خزائن الأرزاق . والثاني: خزائن النعم، فيخرج في الرحمة قولان: أحدهما: الرزق . والثاني: النعمة . وتحرير الكلام: لو ملكتم ما يملكه الله عز وجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة . " وكان الإنسان " يعني: الكافر، " قتورا " ; أي: بخيلا ممسكا، يقال: قتر يقتر، وقتر يقتر: إذا قصر في الإنفاق . وقال الماوردي: لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد [ ص: 92 ] كجود الله تعالى لأمرين: أحدهما: أنها لا بد أن يمسك منه لنفقته ومنفعته . والثاني: أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزه في جوده عن الحالين .

    ثم إن الله تعالى ذكر إنكار فرعون آيات موسى، تشبيها بحال هؤلاء المشركين، فقال: " ولقد آتينا موسى تسع آيات " وفيها قولان:

    أحدهما: أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها، وهي: يده، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال: أحدها: أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس، يعني بلسانه: أنه كان فيه عقدة فحلها الله تعالى له . والثاني: البحر والجبل الذي نتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث: السنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، وقال الحسن: السنون ونقص الثمرات آية واحدة . والرابع: البحر والموت أرسل عليهم، قاله الحسن ووهب . والخامس: الحجر والبحر، قاله سعيد بن جبير . والسادس: لسانه وإلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك . والسابع: البحر والسنون، قاله محمد بن كعب . والثامن: ذكره [ محمد بن إسحاق عن ] محمد بن كعب أيضا، فذكر السبع الآيات الأولى، إلا أنه جعل مكان يده البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله: اطمس على أموالهم [ يونس: 88 ] .

    والثاني: أنها آيات الكتاب، روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسال، أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل: إنه نبي، فإنه لو سمع ذلك، صارت له أربعة أعين ; فأتياه، فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال: " لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، [ ص: 93 ] ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا بالبريء إلى السلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت " ، قال: فقبلا يده، وقالا: نشهد أنك نبي .
    ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا .

    قوله تعالى: " فاسأل بني إسرائيل " قرأ الجمهور: ( فاسأل ) على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما أمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر [ به ] عنهم، ليكون حجة [ ص: 94 ] على من لم يؤمن منهم . وقرأ ابن عباس: ( فسأل بني إسرائيل )، [ على معنى ] الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، " فقال له فرعون إني لأظنك " ; أي: لأحسبك، " يا موسى مسحورا " وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: مخدوعا، قاله ابن عباس . والثاني: مسحورا قد سحرت، قاله ابن السائب . والثالث: ساحرا، فوضع مفعولا في موضع فاعل، هذا مروي عن الفراء وأبي عبيدة . فقال موسى: " لقد علمت " قرأ الجمهور بفتح التاء . وقرأ علي عليه السلام بضمها، وقال: والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم، فبلغ ذلك ابن عباس، فاحتج بقوله تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [ النمل: 14 ] . واختار الكسائي وثعلب قراءة علي عليه السلام، وقد رويت عن ابن عباس، وأبي رزين، وسعيد بن جبير، وابن يعمر . واحتج من نصرها بأنه لما نسب موسى إلى أنه مسحور، أعلمه بصحة عقله بقوله: " لقد علمت " ، والقراءة الأولى أصح لاختيار الجمهور، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه، فلم يرد عليه إلا بالتعلل والمدافعة، فكأنه قال: لقد علمت بالدليل والحجة " ما أنزل هؤلاء " يعني: الآيات . وقد شرحنا معنى " البصائر " في ( الأعراف: 203 ) .

    قوله تعالى: " وإني لأظنك " قال أكثر المفسرين: الظن هاهنا بمعنى العلم، على خلاف ظن فرعون في موسى، وسوى بينهما بعضهم، فجعل الأول بمعنى العلم أيضا .

    وفي المثبور ستة أقوال:

    أحدها: أنه الملعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك . والثاني: المغلوب، رواه العوفي عن ابن عباس . والثالث: الناقص العقل، رواه [ ص: 95 ] ميمون بن مهران عن ابن عباس . والرابع: المهلك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة وابن قتيبة . قال الزجاج: يقال: ثبر الرجل، فهو مثبور: إذا أهلك . والخامس: الهالك، قاله مجاهد . والسادس: الممنوع من الخير، تقول العرب: ما ثبرك عن هذا ; أي: ما منعك، قاله الفراء .

    قوله تعالى: " فأراد أن يستفزهم من الأرض " يعني: فرعون أراد أن يستفز بني إسرائيل من أرض مصر . وفي معنى " يستفزهم " قولان:

    أحدهما: يستأصلهم، قاله ابن عباس .

    والثاني: يستخفهم حتى يخرجوا، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج: جائز أن يكون استفزازهم إخراجهم منها بالقتل أو بالتنحية . قال العلماء: وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون، هلك فرعون وملك موسى، وكذلك أظهر الله نبيه بعد خروجه من مكة حتى رجع إليها ظاهرا عليها .

    قوله تعالى: " وقلنا من بعده " ; أي: من بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض " وفيها ثلاثة أقوال:

    أحدها: فلسطين والأردن، قاله ابن عباس . والثاني: أرض وراء الصين، قاله مقاتل . والثالث: أرض مصر والشام .

    قوله تعالى: " فإذا جاء وعد الآخرة " يعني: القيامة، " جئنا بكم لفيفا " ; أي: جميعا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن قتيبة . وقال الفراء: لفيفا ; أي: من هاهنا ومن هاهنا . وقال الزجاج: اللفيف: الجماعات من قبائل شتى . [ ص: 96 ]
    وبالحق أنـزلناه وبالحق نـزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .

    قوله تعالى: " وبالحق أنزلناه " الهاء كناية عن القرآن، والمعنى: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدين المستقيم، فهو حق، ونزوله حق، وما تضمنه حق . وقال أبو سليمان الدمشقي: " وبالحق أنزلناه " ; أي: بالتوحيد، " وبالحق نزل " يعني: بالوعد والوعيد، والأمر والنهي .

    قوله تعالى: " وقرآنا فرقناه " قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن: ( فرقناه ) بالتشديد، وقرأ الجمهور بالتخفيف .

    فأما قراءة التخفيف ففي معناها ثلاثة أقوال:

    أحدها: بينا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، [ قاله الحسن ] .

    والثالث: أحكمناه وفصلناه، كقوله تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم [ الدخان: 4 ]، قاله الفراء . وأما المشددة فمعناها: أنه أنزل متفرقا ولم ينزل جملة واحدة . وقد بينا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها . [ ص: 97 ]

    قوله تعالى: " لتقرأه على الناس على مكث " قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وأبان عن عاصم، وابن محيصن بفتح الميم، والمعنى: على تؤدة وترسل ليتدبروا معناه .

    قوله تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا " هذا تهديد لكفار [ أهل ] مكة، والهاء كناية عن القرآن . " إن الذين أوتوا العلم " وفيهم ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد .

    والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد .

    والثالث: طلاب الدين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، قاله الواحدي .

    وفي هاء الكناية في قوله: " من قبله " قولان:

    أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن، والمعنى: من قبل نزوله .

    والثاني: ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد . فعلى الأول " إذا يتلى عليهم " : القرآن، وعلى قول ابن زيد " إذا يتلى عليهم " : ما أنزل إليهم من عند الله .

    قوله تعالى: " يخرون للأذقان " اللام هاهنا بمعنى ( على ) . قال ابن عباس: قوله: " للأذقان " ; أي: للوجوه . قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم، إنما يخر لوجهه، والذقن مجتمع اللحيين، وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يخر، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن . وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه ; فلذلك قال: [ ص: 98 ] " للأذقان " . ويجوز أن يكون المعنى: يخرون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يكتفى بالبعض من الكل، وبالنوع من الجنس .

    قوله تعالى: " ويقولون سبحان ربنا " نزهوا الله تعالى عن تكذيب المكذبين بالقرآن، وقالوا: " إن كان وعد ربنا " بإنزال القرآن وبعث محمد صلى الله عليه وسلم " لمفعولا " ، واللام دخلت للتوكيد . وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعث نبيا من العرب، ومنزل عليه كتابا، فلما عاينوا ذلك حمدوا الله تعالى على إنجاز الوعد . " ويخرون للأذقان " كرر القول ليدل على تكرار الفعل منهم . " ويزيدهم خشوعا " ; أي: يزيدهم القرآن تواضعا . وكان عبد الأعلى التيمي يقول: من أوتي من العلم ما لا يبكيه، لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه ; لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: " إن الذين أوتوا العلم . . . " إلى قوله: " يبكون " .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #356
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (356)
    صــ 99 إلى صــ 106






    قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

    قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن . . . " الآية . هذه الآية نزلت على سببين: [ نزل ] أولها إلى قوله: " الحسنى " على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهجد ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده: " يا رحمن يا رحيم " ، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا، فهو الآن [ ص: 99 ] يدعو إلهين اثنين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة، فأنزل الله هذه الآية، قاله ابن عباس .

    والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول ما أوحي إليه: باسمك اللهم، حتى نزل: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [ النمل: 30 ]، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن ؟ فنزلت هذه الآية، قاله ميمون بن مهران .

    والثالث: أن أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتقل ذكر الرحمن، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك .

    فأما قوله: " ولا تجهر بصلاتك " فنزل على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالقرآن بمكة، فيسب المشركون القرآن ومن أتى به، فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بعد ذلك حتى لم يسمع أصحابه، فأنزل الله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك " ; أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، " ولا تخافت بها " عن أصحابك فلا يسمعون ، قاله ابن عباس .

    والثاني: أن الأعرابي كان يجهر في التشهد ويرفع صوته، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة .

    والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة عند الصفا، فجهر بالقرآن في صلاة الغداة، فقال أبو جهل: لا تفتر على الله، فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فقال [ ص: 100 ] أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة ؟ رددته عن قراءته، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

    فأما التفسير، فقوله: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " المعنى: إن شئتم فقولوا: يا ألله، وإن شئتم فقولوا: يا رحمن ; فإنهما يرجعان إلى واحد . " أيا ما تدعوا " المعنى: أي أسماء الله تدعوا، قال الفراء: و " ما " قد تكون صلة، كقوله: عما قليل ليصبحن نادمين [ المؤمنون: 40 ]، وتكون في معنى: " أي " معادة لما اختلف لفظهما .

    قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك " فيه قولان:

    أحدهما: أنها الصلاة الشرعية . ثم في المراد بالكلام ستة أقوال:

    أحدها: لا تجهر بقراءتك ولا تخافت بها، فكأنه نهي عن شدة الجهر بالقراءة وشدة المخافة، قاله ابن عباس . فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان ذكرهما ابن الأنباري ; أحدهما: أن يكون المعنى: فلا تجهر بقراءة صلاتك . والثاني: أن القراءة بعض الصلاة، فنابت عنها، كما قيل لعيسى: كلمة الله ; لأنه بالكلمة كان .

    والثاني: لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة الناس، قاله ابن عباس أيضا .

    والثالث: لا تجهر بالتشهد في صلاتك، روي عن عائشة في رواية، وبه قال ابن سيرين .

    والرابع: لا تجهر بفعل صلاتك ظاهرا، ولا تخافت بها شديد الاستتار، قاله عكرمة .

    والخامس: لا تحسن علانيتها وتسئ سريرتها، قاله الحسن .

    والسادس: لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بجميعها، فاجهر في صلاة الليل وخافت في صلاة النهار على ما أمرناك به، ذكره القاضي أبو يعلى . [ ص: 101 ]

    والقول الثاني: أن المراد بالصلاة: الدعاء، وهو قول عائشة، وأبي هريرة، ومجاهد .

    قوله تعالى: " ولا تخافت بها " المخافتة: الإخفاء، يقال: صوت خفيت . " وابتغ بين ذلك سبيلا " ; أي: اسلك بين الجهر والمخافتة طريقا . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول [ الأعراف: 205 ] . وقال ابن السائب: نسخت بقوله: فاصدع بما تؤمر [ الحجر: 94 ] . وعلى التحقيق وجود النسخ هاهنا بعيد .

    قوله تعالى: " ولم يكن له شريك في الملك " وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وطلحة بن مصرف: ( في الملك ) بكسر الميم . " ولم يكن له ولي من الذل " قال مجاهد: لم يحالف أحدا ولم يبتغ نصر أحد، والمعنى: أنه لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير . " وكبره تكبيرا " ; أي: عظمه تعظيما تاما .
    [ ص: 102 ]

    سُورَةُ الْكَهْفِ

    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

    رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ ( الْكَهْفِ ) مَكِّيَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ . وَهَذَا إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ مِنْهَا آَيَةً مَدَنِيَّةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [ الْكَهْفِ: 28 ] . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ أَوَّلِهَا إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: صَعِيدًا جُرُزًا [ الْكَهْفِ: 8 ] مَدَنِيٌّ، وَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ الْكَهْفِ: 107، 108 ] الْآَيَتَانِ مَدَنِيَّةٌ، وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ . وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آَيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَمَنْ حَفِظَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . [ ص: 103 ]

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " الْحَمْدُ لِلَّهِ " قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ ( الْفَاتِحَةِ ) . وَالْمُرَادُ بِعَبْدِهِ هَاهُنَا: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالْكِتَابِ: الْقُرْآَنُ، تَمَدَّحَ بِإِنْزَالِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْعَامٌ عَلَى الرَّسُولِ خَاصَّةً، وَعَلَى النَّاسِ عَامَّةً . قَالَ الْعُلَمَاءُ بِاللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: فِي هَذِهِ الْآَيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُا: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ " قَيِّمًا " ; أَيْ: مُسْتَقِيمًا عَدْلًا . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: ( قِيَمًا ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي ( الْأَنْعَامِ: 161 ) .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا " ; أَيْ: لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْعِوَجِ فِي ( آَلِ عِمْرَانَ: 99 ) .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا " ; أَيْ: عَذَابًا شَدِيدًا، " مِنْ لَدُنْهُ " ; أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ، وَالْمَعْنَى: لِيُنْذِرَ الْكَافِرِينَ، " وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ " ; أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ " أَجْرًا حَسَنًا " وَهُوَ الْجَنَّةُ . " مَاكِثِينَ " ; [ ص: 104 ] أَيْ: مُقِيمِينَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ . " وَيُنْذِرَ " بِعَذَابِ اللَّهِ " الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " وَهُمُ الْيَهُودُ حِينَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى حِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمُشْرِكُون َ حِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، " مَا لَهُمْ بِهِ " ; أَيْ: بِذَلِكَ الْقَوْلِ " مِنْ عِلْمٍ " ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: افْتَرَى عَلَى اللَّهِ، " وَلا لآبَائِهِمْ " الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ، " كَبُرَتْ " ; أَيْ: عَظُمَتْ " كَلِمَةً " الْجُمْهُورِ عَلَى النَّصْبِ . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: ( كَلِمَةٌ ) بِالرَّفْعِ . قَالَ الْفَرَّاءُ مَنْ نَصَبَ أَضْمَرَ: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً، وَمِنْ رَفَعَ لَمْ يُضْمِرْ شَيْئًا، كَمَا تَقُولُ: عَظُمَ قَوْلُكَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ نَصَبَ فَالْمَعْنَى: كَبُرَتْ مَقَالَتُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا كَلِمَةً، وَ " كَلِمَةً " مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ . وَمَنْ رَفَعَ فَالْمَعْنَى: عَظُمَتْ كَلِمَةً هِيَ قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ " ; أَيْ: إِنَّهَا قَوْلٌ بِالْفَمِ لَا صِحَّةَ لَهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، " إِنْ يَقُولُونَ " ; أَيْ: مَا يَقُولُونَ " إِلا كَذِبًا " . ثُمَّ عَاتَبَهُ عَلَى حُزْنِهِ لِفَوْتِ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْ إِسْلَامِهِمْ، فَقَالَ: " فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ " وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَقَتَادَةُ: ( بَاخِعٌ نَفْسِكَ ) بِكَسْرِ السِّينِ عَلَى الْإِضَافَةِ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَاللُّغَوِيُّو نَ: فَلَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ، وَقَاتَلٌ نَفْسَكَ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِذِي الرُّمَّةِ:


    أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ


    أَيْ: نَحَّتْهُ [ ص: 105 ]

    فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: " فَلَعَلَّكَ " وَالْغَالِبُ عَلَيْهَا الشَّكُ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا ؟

    فَالْجَوَابُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَكٍّ، إِنَّمَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ تَقْدِيرَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ التَّقْرِيرُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ أَنْتَ قَاتِلٌ نَفْسَكَ ؟ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطُولَ أَسَاكَ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِالشِّقْوَةِ لَا تُجْدِي عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: " عَلَى آثَارِهِمْ " ; أَيْ: مِنْ بَعْدِ تَوَلِّيهِمْ عَنْكَ، " إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ " يَعْنِي: الْقُرْآَنَ، " أَسَفًا " وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهَا: حَزَنًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّانِي: جَزَعًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: غَضَبًا، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ: نَدَمًا، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَدَمًا وَتَلَهُّفًا وَأَسًى . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَسَفُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ أَوِ الْغَضَبِ، يُقَالُ: قَدْ أَسِفَ الرَّجُلُ فَهُوَ أَسِيفٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:


    أَرَى رَجُلًا مِنْهُمْ أَسَيْفًا كَأَنَّمَا يَضُمُّ إِلَى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبًا


    وَهَذِهِ الْآَيَةُ يُشِيرُ بِهَا إِلَى نَهْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثْرَةِ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ ; لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ بِالْأَسَفِ .
    إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .

    قوله تعالى: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " فيه أربعة أقوال:

    أحدها: أنهم الرجال، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: العلماء، [ ص: 106 ] رواه مجاهد عن ابن عباس . فعلى هذين القولين تكون " ما " في موضع ( من ); لأنها في موضع إبهام، قاله ابن الأنباري . والثالث: أنه ما عليها من شيء، قاله مجاهد . والرابع: النبات والشجر، قاله مقاتل . وقول مجاهد أعم، يدخل فيه النبات، والماء، والمعادن، وغير ذلك .

    فإن قيل: قد نرى بعض ما على الأرض سمجا وليس بزينة .

    فالجواب: أنا إن قلنا: إن المراد [ به ] شيء مخصوص، فالمعنى: إنا جعلنا بعض ما على الأرض زينة لها، فخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص . وإن قلنا: هم الرجال أو العلماء، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم . وإن قلنا: النبات والشجر ; فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية . وإن قلنا: إنه عام في كل ما عليها، فلكونه دالا على خالقه، فكأنه زينة الأرض من هذه الجهة .

    قوله تعالى: " لنبلوهم " ; أي: لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى . قال ابن الأنباري: من قال: إن " ما على الأرض " يعني به: النبات، قال: الهاء والميم ترجع إلى سكان الأرض المشاهدين للزينة، ومن قال: " ما على الأرض " الرجال، رد الهاء والميم على " ما " ; لأنها بتأويل الجميع، ومعنى الآية: لنبلوهم فنرى أيهم أحسن عملا، هذا أم هذا . قال الحسن: أيهم أزهد في الدنيا . وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة ( هود: 7 ) . ثم أعلم الخلق أنه يفني جميع ذلك، فقال تعالى: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا " قال الزجاج: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه . وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الصعيد: التراب ووجه الأرض . فأما الجرز فقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أرض جرز وجرز، وأسد تقول: جرز وجرز، وتميم تقول: أرض جرز وجرز بالتخفيف . وقال أبو عبيدة: الصعيد الجرز: الغليظ الذي لا ينبت شيئا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #357
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (357)
    صــ 107 إلى صــ 114





    ويقال للسنة [ ص: 107 ] المجدبة: جرز، وسنون أجراز ; لجدوبتها وقلة مطرها، وأنشد:

    قد جرفتهن السنون الأجراز .

    وقال الزجاج: الجرز: الأرض التي لا ينبت فيها شيء، كأنها تأكل النبت أكلا . وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الجرز: [ الأرض ] التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها . وقال المفسرون: وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستوية لا نبات فيها ولا ماء .
    أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .

    قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم " نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى: ويسألونك عن الروح [ الإسراء: 85 ] . وقال ابن قتيبة: ومعنى " أم حسبت " : أحسبت . فأما " الكهف " فقال المفسرون: هو المغارة في الجبل، إلا أنه واسع، فإذا صغر فهو غار . قال ابن الأنباري: قال اللغويون: الكهف بمنزلة الغار في الجبل .

    فأما الرقيم ففيه ستة أقوال:

    أحدها: أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة، ليعلم من اطلع عليهم يوما من الدهر ما قصتهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال [ ص: 108 ] وهب بن منبه، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية . وقال السدي: الرقيم: صخرة كتب فيها أسماء الفتية، وجعلت في سور المدينة . وقال مقاتل: الرقيم: كتاب كتبه رجلان صالحان، وكانا يكتمان إيمانهما من الملك الذي فر منه الفتية، كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوت من نحاس، ثم جعلاه في البناء الذي سدوا به باب الكهف، فقالا: لعل الله أن يطلع على هؤلاء الفتية أحدا، فيعلمون أمرهم إذا قرؤوا الكتاب . وقال الفراء: كتب في اللوح أسماؤهم، وأنسابهم، ودينهم، وممن كانوا . قال أبو عبيدة وابن قتيبة: الرقيم: الكتاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومنه: كتاب مرقوم ; أي: مكتوب . والثاني: أنه اسم القرية التي خرجوا منها، قاله كعب . والثالث: اسم الجبل، قاله الحسن وعطية . والرابع: أن الرقيم: الدواة، بلسان الروم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية . والخامس: اسم الكلب، قاله سعيد بن جبير . والسادس: اسم الوادي الذي فيه الكهف، قاله قتادة والضحاك .

    قوله تعالى: " كانوا من آياتنا عجبا " قال المفسرون: معنى الكلام: أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا ؟ قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم، فإن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم . وقال ابن عباس: الذي آتيتك من الكتاب والسنة والعلم أفضل من شأنهم .

    قوله تعالى: " إذ أوى الفتية " قال الزجاج: معنى أووا إليه: صاروا إليه وجعلوه مأواهم . والفتية: جمع فتى، مثل غلام وغلمة، وصبي وصبية، و( فعلة ) من أسماء الجمع، وليس ببناء يقاس عليه، لا يجوز غراب وغربة، ولا غني وغنية . وقال بعض المفسرين: الفتية: بمعنى الشبان . وقد ذكرنا عن [ ص: 109 ] القتيبي أن الفتى بمعنى: الكامل من الرجال، وبيناه في قوله تعالى: من فتياتكم المؤمنات [ النساء: 25 ] .

    قوله تعالى: " فقالوا ربنا آتنا من لدنك " ; أي: من عندك، " رحمة " ; أي: رزقا، " وهيئ لنا " ; أي: أصلح لنا، " من أمرنا رشدا " ; أي: أرشدنا إلى ما يقربنا منك . والمعنى: هيئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد . والرشد، والرشد، والرشاد: نقيض الضلال .

    تلخيص قصة أصحاب الكهف .

    اختلف العلماء في بدو أمرهم وسبب مصيرهم إلى الكهف على ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنهم هربوا ليلا من ملكهم حين دعاهم إلى عبادة الأصنام، فمروا براع له كلب، فتبعهم على دينهم، فأووا إلى الكهف يتعبدون، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة، إلى أن جاءهم يوما فأخبرهم أنهم قد ذكروا، فبكوا وتعوذوا بالله من الفتنة، فضرب الله تعالى على آذانهم، وأمر الملك فسد عليهم الكهف وهو يظنهم أيقاظا، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم قد غشيه ما غشيهم . ثم إن الرجلين مؤمنين يكتمان إيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان، وقالا: لعل الله يطلع عليهم قوما مؤمنين فيعلمون خبرهم، هذا قول ابن عباس . وقال عبيد بن عمير: فقدهم قومهم فطلبوهم، فعمى الله عليهم أمرهم، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا، في سنة كذا، في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: ليكونن لهذا شأن . [ ص: 110 ]

    والثاني: أن أحد الحواريين جاء إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حماما قريبا من المدينة، فكان يعمل فيه بالأجر، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض وخبر الآخرة، فآمنوا به وصدقوه، حتى جاء ابن الملك يوما بامرأة فدخل معها الحمام، فأنكر عليه الحواري ذلك، فسبه ودخل، فمات وماتت المرأة في الحمام، فأتى الملك، فقيل له: إن صاحب الحمام قتل ابنك، فالتمس فهرب، فقال: من كان يصحبه ؟ فسمي له الفتية، فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع وهو على مثل أمرهم، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب الله على آذانهم فناموا، وخرج الملك وأصحابه يتبعونهم، فوجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل [ الكهف ] أرعب، فقال قائل للملك: أليس قلت: إن قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال: بلى . قال: فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعا وعطشا، ففعل، هذا قول وهب بن منبه .

    والثالث: أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم، هو أسنهم: إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده، فقالوا: ما تجد ؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض، فقاموا جميعا فقالوا: ربنا رب السماوات والأرض، فأجمعوا أن يدخلوا الكهف، فدخلوا فلبثوا ما شاء الله، هذا قول مجاهد . وقال قتادة: كانوا أبناء ملوك الروم، فتفردوا بدينهم في الكهف، فضرب الله على آذانهم . [ ص: 111 ]

    فصل

    فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة: جاءت أمة مسلمة وكان ملكهم مسلما، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يبعث الروح والجسد . وقال قائل: يبعث الروح وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئا ; فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس المسوح وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف . وقال وهب بن منبه: جاء راع قد أدركه المطر إلى الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف وأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله إليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد . وقال ابن السائب: احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه، فهدم ذلك السد، فبنى به، فانفتح باب الكهف . وقال ابن إسحاق: ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها وفتحا باب الكهف، فجلسوا فرحين، فسلم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئا يكرهونه، إنما هم على هيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم في طلبهم، فصلوا، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم: انطلق فاستمع ما نذكر به، وابتغ لنا طعاما، فوضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وخرج، فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف فعجب، ثم مر مستخفيا متخوفا أن يراه أحد فيذهب به إلى الملك، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان فعجب، وخيل إليه أنها ليست بالمدينة [ ص: 112 ] التي يعرف، ورأى ناسا لا يعرفهم، فجعل يتعجب ويقول: لعلي نائم، فلما دخلها رأى قوما يحلفون باسم عيسى، فقام مسندا ظهره إلى جدار وقال في نفسه: والله ما أدري ما هذا، عشية أمس لم يكن على [ وجه ] الأرض من يذكر عيسى إلا قتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا، فقام كالحيران، وأخرج ورقا فأعطاه رجلا وقال: بعني طعاما، فنظر الرجل إلى نقشه فعجب، ثم ألقاه إلى آخر، فجعلوا يتطارحونه بينهم ويتعجبون ويتشاورون، وقالوا: إن هذا قد أصاب كنزا، ففرق منهم وظنهم قد عرفوه، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إليه، فقالوا له: من أنت يا فتى ؟ والله لقد وجدت كنزا وأنت تريد أن تخفيه، شاركنا فيه وإلا أتينا بك إلى السلطان فيقتلك، فلم يدر ما يقول، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فرق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيت، فأتوا به إلى رجلين كانا يدبران أمر المدينة، فقالا: أين الكنز الذي وجدت ؟ قال: ما وجدت كنزا، ولكن هذه ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، ولا ما أقول لكم . قال مجاهد: وكان ورق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل، فقالوا: من أنت، وما اسم أبيك ؟ فأخبرهم، فلم يجدوا من يعرفه، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر منا وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ؟ إني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز، فقال يمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتكم، قالوا: سل، قال: ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس، وإنما هذا ملك كان منذ زمان طويل وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال: والله ما يصدقني أحد بما أقوله، لقد كنا [ ص: 113 ] فتية، وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاما، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة، وكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ، فبينما هم يتخوفون ذلك إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رسل دقيانوس، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض، فسبق يمليخا إليهم وهو يبكي، فبكوا معه وسألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره وقص عليهم النبأ كله، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله تعالى، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث، ونظر الناس في المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم فعجبوا، وأرسلوا إلى ملكهم فجاء واعتنق القوم وبكى، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك، فبينا الملك قائم، رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله عز وجل أنفسهم، فأمر الملك أن يجعل لكل واحد منهم تابوتا من ذهب، فلما أمسوا رآهم في المنام، فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب وفضة، ولكن خلقنا من تراب، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز وجل منه، وحجبهم الله عز وجل حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما يؤتى كل سنة . وقيل: إنه لما جاء يمليخا ومعه الناس، قال: دعوني أدخل إلى أصحابي فأبشرهم، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، فدخل الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم . [ ص: 114 ]

    قوله تعالى: " فضربنا على آذانهم " قال الزجاج: المعنى: أنمناهم ومنعناهم السمع ; لأن النائم إذا سمع انتبه . و " عددا " منصوب على ضربين .

    أحدهما: على المصدر، المعنى: تعد عددا .

    والثاني: أن يكون نعتا للسنين، المعنى: سنين ذات عدد، والفائدة في ذكر العدد في الشيء المعدود، توكيد كثرة الشيء ; لأنه إذا قل فهم مقداره، وإذا كثر احتيج إلى أن يعد العدد الكثير . " ثم بعثناهم " من نومهم، يقال لكل من خرج من الموت إلى الحياة أو من النوم إلى الانتباه: مبعوث ; لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرف والانبعاث . وقيل: معنى " سنين عددا " : أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام، إنما هي كاملة، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: " لنعلم أي الحزبين " قال المفسرون: " أي " : لنرى . وقال بعضهم: المعنى: لتعلموا أنتم . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والنخعي: ( ليعلم ) بضم الياء على ما لم يسم فاعله " أي الحزبين " ، ويعني بالحزبين: المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف . " أحصى لما لبثوا " ; أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر . قال قتادة: لم يكن للفريقين علم بلبثهم، لا لمؤمنيهم ولا لكافريهم . قال مقاتل: لما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث . وقال القاضي أبو يعلى: معنى الكلام: بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم، لما في ذلك من العبرة


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #358
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (358)
    صــ 115 إلى صــ 122




    .
    نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا [ ص: 115 ] شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .

    قوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم " ; أي: خبر الفتية " بالحق " ; أي: بالصدق .

    قوله تعالى: " وزدناهم هدى " ; أي: ثبتناهم على الإيمان، " وربطنا على قلوبهم " ; أي: ألهمناها الصبر " إذ قاموا " بين يدي ملكهم دقيانوس، " فقالوا ربنا رب السماوات والأرض " وذلك أنه كان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، فعصم الله هؤلاء حتى عصوا ملكهم . وقال الحسن: قاموا في قومهم فدعوهم إلى التوحيد . وقيل: هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في أول القصة . فأما الشطط فهو الجور . قال الزجاج: يقال: شط الرجل وأشط: إذا جار . ثم قال الفتية: " هؤلاء قومنا " يعنون: الذين كانوا في زمن دقيانوس، " اتخذوا من دونه آلهة " ; أي: عبدوا الأصنام، " لولا " ; أي: هلا، " يأتون عليهم " ; أي: على عبادة الأصنام، " بسلطان بين " ; أي: بحجة . وإنما قال: " عليهم " والأصنام مؤنثة ; لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز، فجرت مجرى المذكرين من الناس .

    قوله تعالى: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " فزعم أن له شريكا .
    وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك [ ص: 116 ] من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .

    قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم " قال ابن عباس: هذا [ قول ] يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: وإذ اعتزلتموهم ; أي: فارقتموهم، يريد: عبدة الأصنام، " وما يعبدون إلا الله " فيه قولان:

    أحدهما: واعتزلتم ما يعبدون إلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاء الخراساني والفراء .

    والثاني: وما يعبدون غير الله، قال قتادة: هي في مصحف عبد الله: ( وما يعبدون من دون الله )، وهذا تفسيرها .

    قوله تعالى: " فأووا إلى الكهف " ; أي: اجعلوه مأواكم، " ينشر لكم ربكم من رحمته " ; أي: يبسط عليكم من رزقه، " ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( مرفقا بكسر الميم وفتح الفاء . وقرأ نافع وابن عامر: ( مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء . قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: ( مرفقا ) بفتح الميم وكسر الفاء، في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعا . قال ابن الأنباري: معنى الآية: ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب مرفقا، قال الشاعر:


    فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
    [ ص: 117 ]

    معناه: فليت لنا بدلا من ماء زمزم . قال ابن عباس: " ويهيئ لكم " : يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتكم باليسر والرفق واللطف .

    قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت " المعنى: لو رأيتها لرأيت ما وصفنا . " تزاور " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( تزاور ) بتشديد الزاي . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( تزاور ) خفيفة . وقرأ ابن عامر: ( تزور ) مثل: ( تحمر ) . وقرأ أبي بن كعب، وأبو مجلز، وأبو رجاء، والجحدري: ( تزوار ) بإسكان الزاي وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة مشددة الراء . وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع: ( تزوئر ) بهمزة قبل الراء مثل: ( تزوعر ) . وقرأ أبو الجوزاء وأبو السماك: ( تزور ) بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الراء، مثل: ( تكور ) ; أي: تميل وتعدل . قال الزجاج: أصل " تزاور " : تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي . و " تقرضهم " ; أي: تعدل عنهم وتتركهم، وقال ذو الرمة:


    إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس


    يقرضن: يتركن، وأصل القرض: القطع والتفرقة بين الأشياء، ومنه قولك: أقرضني درهما ; أي: اقطع لي من مالك درهما . قال المفسرون: كان كهفهم بإزاء بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم، ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء، فقال: " وهم في فجوة منه " قال أبو عبيدة: أي: [ في ] متسع، والجميع: فجوات وفجاء، بكسر الفاء . وقال الزجاج: إنما [ ص: 118 ] صرف الشمس عنهم آية من الآيات، ولم يرض قول من قال: كان كهفهم بإزاء بنات نعش .

    قوله تعالى: " ذلك من آيات الله " يشير إلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم، وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم، حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم . " من آيات الله " ; أي: من دلائله على قدرته ولطفه . " من يهد الله فهو المهتد " هذا بيان أنه هو الذي تولى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا .
    وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .

    قوله تعالى: " وتحسبهم أيقاظا " ; أي: لو رأيتهم لحسبتهم أيقاظا . قال الزجاج: الأيقاظ: المنتبهون، واحدهم: يقط ويقظان، والجميع: أيقاظ، والرقود: النيام . قال الفراء: واحد الأيقاظ: يقظ ويقظ . قال ابن السائب: وإنما يحسبون أيقاظا ; لأن أعينهم مفتحة وهم نيام . وقيل: لتقلبهم يمينا وشمالا . وذكر بعض أهل العلم أن وجه الحكمة في فتح أعينهم، أنه لو دام طبقها لذابت .

    قوله تعالى: " ونقلبهم " وقرأ أبو رجاء: ( وتقلبهم ) بتاء مفتوحة، وسكون القاف، وتخفيف اللام المكسورة . وقرأ أبو الجوزاء وعكرمة: ( ونقلبهم ) مثلها، إلا أنه بالنون . " ذات اليمين " ; أي: على أيمانهم وعلى شمائلهم . قال ابن عباس: كانوا يقلبون في كل عام مرتين، ستة أشهر على هذا الجنب، وستة أشهر على هذا الجنب ; لئلا تأكل الأرض لحومهم . وقال مجاهد: كانوا ثلاثمائة عام على شق واحد، ثم قلبوا تسع سنين . [ ص: 119 ]

    قوله تعالى: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في النوم، وهو في رأي العين منتبه . وفي " الوصيد " أربعة أقوال:

    أحدها: أنه الفناء فناء الكهف، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والفراء . قال الفراء: يقال: الوصيد والأصيد لغتان، مثل: الإكفاف والوكاف، وأرخت الكتاب وورخت، ووكدت الأمر وأكدت، وأهل الحجاز يقولون: الوصيد، وأهل نجد يقولون: الأصيد، وهو الحظيرة والفناء .

    والثاني: أنه الباب، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي . وقال ابن قتيبة: فيكون المعنى: وكلبهم باسط ذارعيه بالباب، قال الشاعر:


    بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر


    والثالث: أنه الصعيد، وهو التراب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد في رواية عنهما .

    والرابع: أنه عتبة الباب، قاله عطاء . قال ابن قتيبة: وهذا أعجب إلي ; لأنهم يقولون: أوصد بابك ; أي: أغلقه، ومنه قوله: إنها عليهم مؤصدة [ الهمزة: 8 ] ; أي: مطبقة مغلقة، وأصله أن تلصق الباب بالعتبة إذا أغلقته، ومما يوضح هذا أنك إذا جعلت الكلب بالفناء كان خارجا من الكهف، وإن جعلته بعتبة الباب أمكن أن يكون داخل الكهف، والكهف وإن لم يكن له باب وعتبة، فإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت، فاستعير .

    قوله تعالى: " لو اطلعت عليهم " [ وقرأ الأعمش وأبو حصين: ( لو اطلعت ) [ ص: 120 ] بضم الواو ]، " لوليت منهم فرارا " رهبة لهم، " ولملئت " قرأ عاصم، وابن عامر، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( ولملئت ) خفيفة مهموزة . وقرأ ابن كثير ونافع: ( ولملئت ) مشددة مهموزة . " رعبا " ; [ أي ]: فزعا وخوفا، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب ; لئلا يدخل إليهم أحد . وقيل: إنهم طالت شعورهم وأظفارهم جدا، فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوبا، حكاه الزجاج .
    وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .

    قوله تعالى: " وكذلك بعثناهم " ; أي: وكما فعلنا بهم ما ذكرنا، بعثناهم من تلك النومة، " ليتساءلوا " ; أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبرين بحالهم . " قال قائل منهم كم لبثتم " ; أي: كم مر علينا منذ دخلنا هذا الكهف ؟ " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " وذلك أنهم دخلوا غدوة، وبعثهم الله في آخر النهار ; فلذلك قالوا: ( يوما )، فلما رأوا الشمس قالوا: ( أو بعض يوم ) . " قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " قال ابن عباس: القائل لهذا يمليخا رئيسهم، رد علم ذلك إلى الله تعالى . وقال في رواية أخرى: إنما قاله مكسلمينا، وهو أكبرهم . قال أبو سليمان: وهذا يوجب أن تكون نفوسهم قد حدثتهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا . وقيل: إنما قالوا ذلك ; لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جدا .

    قوله تعالى: " فابعثوا أحدكم " قال ابن الأنباري: إنما قال: " أحدكم " ، [ ص: 121 ] ولم يقل: ( واحدكم ) ; لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظم، فإن العرب تقول: رأيت أحد القوم، ولا يقولون: رأيت واحد القوم، إلا إذا أرادوا المعظم، فأراد بأحدهم: بعضهم، ولم يرد شريفهم .

    قوله تعالى: " بورقكم " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: ( بورقكم ) الراء مكسورة خفيفة . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء . وعن أبي عمرو: ( بورقكم ) مدغمة يشمها شيئا من التثقيل . قال الزجاج: تصير كافا خالصة . قال الفراء: الورق لغة أهل الحجاز، وتميم يقولون: الورق، وبعض العرب يكسرون الواو فيقولون: الورق . قال ابن قتيبة: الورق: الفضة، دراهم كانت أو غير دراهم، يدلك على ذلك حديث عرفجة أنه اتخذ أنفا من ورق .

    قوله تعالى: " إلى المدينة " يعنون: التي خرجوا منها، واسمها دقسوس، ويقال: هي اليوم طرسوس .

    قوله تعالى: " فلينظر أيها " قال الزجاج: المعنى: أي أهلها . " أزكى طعاما " وللمفسرين في معناه ستة أقوال:

    أحدها: أحل ذبيحة، قاله ابن عباس وعطاء، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفارا، فكانوا يذبحون للطواغيت، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم . والثاني: أحل طعاما، قاله سعيد بن جبير . قال الضحاك: وكان أكثر أموالهم غصوبا . وقال مجاهد: قالوا لصاحبهم: لا تبتع طعاما فيه ظلم ولا غصب . والثالث: أكثر، قاله عكرمة . والرابع: خير ; أي: أجود، قاله قتادة . [ ص: 122 ]

    والخامس: أطيب، قاله ابن السائب ومقاتل . والسادس: أرخص، قاله يمان بن رياب . قال ابن قتيبة: وأصل الزكاة: النماء والزيادة .

    قوله تعالى: " فليأتكم برزق منه " ; أي: بما تأكلونه . " وليتلطف " ; أي: ليدقق النظر فيه وليحتل ; لئلا يطلع عليه . " ولا يشعرن بكم " ; أي: ولا يخبرن أحد بمكانكم . " إنهم إن يظهروا " ; أي: يطلعوا ويشرفوا عليكم، " يرجموكم " وفيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: يقتلوكم، قاله ابن عباس . وقال الزجاج: يقتلوكم بالرجم . والثاني: يرجموكم بأيديهم استنكارا لكم، قاله الحسن . والثالث: بألسنتهم شتما لكم، قاله مجاهد وابن جريج .

    قوله تعالى: " أو يعيدوكم في ملتهم " ; أي: يردوكم في دينهم، " ولن تفلحوا إذا أبدا " ; أي: إن رجعتم في دينهم لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة .
    وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا .

    قوله تعالى: " وكذلك أعثرنا عليهم " ; أي: وكما أنمناهم وبعثناهم، أطلعنا وأظهرنا عليهم . قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن من عثر بشيء وهو غافل، نظر إليه حتى يعرفه، فاستعير العثار مكان التبين والظهور، ومنه قول الناس: ما عثرت على فلان بسوء قط ; أي: ما ظهرت على ذلك منه




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #359
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (359)
    صــ 123 إلى صــ 130





    قوله تعالى: " ليعلموا " في المشار إليهم بهذا العلم قولان: [ ص: 123 ]

    أحدهما: أنهم أهل بلدهم حين اختصموا في البعث، فبعث الله أهل الكهف ليعلموا " أن وعد الله " بالبعث والجزاء " حق " وأن القيامة لا شك فيها، هذا قول الأكثرين .

    والثاني: أنهم أهل الكهف، بعثناهم ليروا بعد علمهم أن وعد الله حق، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: " إذ يتنازعون " يعني: أهل ذلك الزمان . قال ابن الأنباري: المعنى: إذ كانوا يتنازعون، ويجوز أن يكون المعنى: إذ تنازعوا .

    وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال:

    أحدها: أنهم تنازعوا في البنيان والمسجد، فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدا ; لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنيانا ; لأنهم من أهل سنتنا، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم تنازعوا في البعث، فقال المسلمون: تبعث الأجساد والأرواح، وقال بعضهم: تبعث الأرواح دون الأجساد، فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل الكهف، قاله عكرمة . والثالث: أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية، قاله مقاتل . والرابع: أنهم تنازعوا في قدر مكثهم . والخامس: تنازعوا في عددهم، ذكرهما الثعلبي .

    قوله تعالى: " ابنوا عليهم بنيانا " ; أي: استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان . وفي القائلين لهذا قولان:

    أحدهما: أنهم مشركو ذلك الزمان، وقد ذكرناه عن ابن عباس .

    والثاني: أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: " قال الذين غلبوا على أمرهم " قال ابن قتيبة: يعني: المطاعين [ ص: 124 ] والرؤساء، قال المفسرون: وهم الملك وأصحابه المؤمنون، اتخذوا عليهم مسجدا . قال سعيد بن جبير: بنى عليهم الملك بيعة .
    سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا .

    قوله تعالى: " سيقولون ثلاثة " قال الزجاج: " ثلاثة " مرفوع بخبر الابتداء، المعنى: سيقول الذين تنازعوا في أمرهم: [ هم ] ثلاثة . وفي هؤلاء القائلين قولان:

    أحدهما: أنهم نصارى نجران، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أهل الكهف، فقالت الملكية: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني: أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: " رجما بالغيب " ; أي: ظنا غير يقين، قال زهير:


    وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم


    فأما دخول الواو في قوله: " وثامنهم كلبهم " ، ولم تدخل فيما قبل هذا، ففيه أربعة أقوال: [ ص: 125 ]

    أحدها: أن دخولها وخروجها واحد، قاله الزجاج .

    والثاني: أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين، فأعلم بذكرها هاهنا أنها مرادة فيما قبل، وإنما حذفت تخفيفا، ذكره أبو نصر في " شرح اللمع " .

    والثالث: أن دخولها يدل على انقطاع القصة وأن الكلام قد تم، ذكره الزجاج أيضا، وهو قول مقاتل بن سليمان، فإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها واستئناف ما بعدها، قال الثعلبي: فهذه واو الحكم والتحقيق، كأن الله تعالى حكى اختلافهم، فتم الكلام عند قوله: " ويقولون سبعة " ، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم . وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى: هم سبعة، فحقق الله قول المسلمين .

    والرابع: أن العرب تعطف بالواو على السبعة، فيقولون: ستة، سبعة، وثمانية ; لأن العقد عندهم سبعة، كقوله: التائبون العابدون . . . إلى أن قال في الصفة الثامنة: والناهون عن المنكر [ التوبة: 112 ]، وقوله في صفة الجنة: وفتحت أبوابها ، وفي صفة النار: فتحت أبوابها [ الزمر: 71 - 73 ] ; لأن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة ثمانية، ذكر هذا المعنى أبو إسحاق الثعلبي .

    وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين:

    أحدهما: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن عباس .

    والثاني: ثمانية، قاله ابن جريج وابن إسحاق . وقال ابن الأنباري: وقيل: معنى قوله: " وثامنهم كلبهم " : صاحب كلبهم، كما يقال: السخاء حاتم، والشعر زهير ; أي: السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير . وأما أسماؤهم ; فقال هشيم: [ ص: 126 ] مكسلمينا، ويمليخا، وطرينوس، وسدينوس، وسرينوس، ونواسس، ويرانوس، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أطل به .

    واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه كان لراع مروا به، فتبعهم الراعي والكلب، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه كان لهم يتصيدون عليه، قاله عبيد بن عمير .

    والثالث: أنهم مروا بكلب فتبعهم فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك به مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني ؟ لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم، قاله كعب الأحبار .

    وفي اسم كلبهم أربعة أقوال:

    أحدها: قطمير، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: اسمه الرقيم، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير . والثالث: قطمور، قاله عبد الله بن كثير . والرابع: حمران، قاله شعيب الجبائي . وفي صفته ثلاثة أقوال:

    أحدها: أحمر، حكاه الثوري . والثاني: أصفر، حكاه ابن إسحاق . والثالث: أحمر الرأس، أسود الظهر، أبيض البطن، أبلق الذنب، ذكره ابن السائب .

    قوله تعالى: " ربي أعلم بعدتهم " حرك الياء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .

    قوله تعالى: " ما يعلمهم إلا قليل " ; أي: ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس . قال عطاء: يعني بالقليل: أهل الكتاب . قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، هم سبعة، إن الله عدهم حتى انتهى إلى السبعة .

    قوله تعالى: " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " قال ابن عباس وقتادة: [ ص: 127 ] لا تمار أحدا، حسبك ما قصصت عليك من أمرهم . وقال ابن زيد: لا تمار في عدتهم إلا مراء ظاهرا أن تقول لهم: ليس كما تقولون، ليس كما تعلمون . وقيل: " إلا مراء ظاهرا " بحجة واضحة، حكاه الماوردي . والمراء في اللغة: الجدال، يقال: مارى يماري مماراة ومراء ; أي: جادل . قال ابن الأنباري: معنى الآية: لا تجادل إلا جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر ; إذ الله تعالى ألقى إليك ما لا يشوبه باطل . وتفسير المراء في اللغة: استخراج غضب المجادل، من قولهم: مريت الشاة: إذا استخرجت لبنها .

    قوله تعالى: " ولا تستفت فيهم " ; أي: في أصحاب الكهف، " منهم " قال ابن عباس: يعني: من أهل الكتاب . قال الفراء: أتاه فريقان من النصارى: نسطوري ويعقوبي، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عددهم، فنهي عن ذلك .

    قوله تعالى: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " سبب نزولها: أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن الروح، وعن أصحاب الكهف، فقال: " غدا أخبركم بذلك " ، ولم يقل: إن شاء الله ; فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوما لتركه الاستثناء، فشق ذلك عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس . ومعنى الكلام: ولا تقولن لشيء: إني فاعل ذلك غدا، إلا أن تقول: إن شاء الله، فحذف القول .

    قوله تعالى: " واذكر ربك إذا نسيت " قال ابن الأنباري: معناه: واذكر ربك بعد تقضي النسيان، كما تقول: اذكر لعبد الله - إذا صلى - حاجتك ; أي: بعد انقضاء الصلاة .

    وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال: [ ص: 128 ]

    أحدها: أن المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت، فقل: إن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير والجمهور .

    والثاني: أن معنى " إذا نسيت " : إذا غضبت، قاله عكرمة . قال ابن الأنباري: وليس ببعيد ; لأن الغضب ينتج النسيان .

    والثالث: إذا نسيت الشيء فاذكر الله ليذكرك إياه، حكاه الماوردي .

    فصل

    وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله في قصة موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا [ الكهف: 70 ]، ولم يصبر، فسلم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه . ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وأنت حر إن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك ; وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع شيء من ذلك . وأما اليمين بالله تعالى، فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفر، كالظهار والنذر ; لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إيقاع، وإذا علق به المشيئة علمنا وجودها، لوجود لفظ الإيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان ; لأنها ليست بموجبات للحكم، وإنما تتعلق بأفعال مستقبلة .

    وقد اختلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء . [ ص: 129 ]

    والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس، قاله الحسن وطاووس، وعن أحمد نحوه .

    والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية . وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول: إن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه الله في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال، إلا أن يكون الاستثناء موصولا بيمينه، ومن قال: له ثنياه ولو بعد سنة، أراد سقوط الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفارة .

    قوله تعالى: " وقل عسى أن يهديني ربي " قرأ نافع وأبو عمرو : ( يهديني ربي ) بياء في الوصل [ دون ] الوقف . وقرأ ابن كثير بياء في الحالين . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الحالين .

    وفي معنى الكلام قولان:

    أحدهما: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من علم غيوب المرسلين ما هو أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف، هذا قول الزجاج .

    والثاني: أن قريشا لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال: " غدا أخبركم " ، كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له: " وقل عسى أن يهديني ربي " ; أي: عسى أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم، ويعجل لي من جهته الرشاد، هذا قول ابن الأنباري . [ ص: 130 ]
    ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا .

    قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( ثلاثمائة سنين ) منونا . وقرأ حمزة والكسائي: ( ثلاثمائة سنين ) مضافا غير منون . قال أبو علي: العدد المضاف إلى الآحاد قد جاء مضافا إلى الجميع، قال الشاعر:


    وما زودوني غير سحق عمامة وخمسمئ منها قسي وزائف


    وفي هذا الكلام قولان:

    أحدهما: أنه حكاية عما قال الناس في حقهم، وليس بمقدار لبثهم، قاله ابن عباس، واستدل عليه فقال: لو كانوا لبثوا ذلك، لما قال: " الله أعلم بما لبثوا " ، وكذلك قال قتادة، وهذا قول أهل الكتاب .

    والثاني: أنه مقدار ما لبثوا، قاله عبيد بن عمير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، والمعنى: لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #360
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    الحلقة (360)
    صــ 131 إلى صــ 138





    قوله تعالى: " سنين " قال الفراء، وأبو عبيدة، والكسائي، والزجاج: التقدير: سنين ثلاثمائة . وقال ابن قتيبة: المعنى: أنها لم تكن شهورا ولا أياما، وإنما كانت سنين . وقال أبو علي الفارسي: " سنين " بدل من قوله: " ثلاث مائة " . قال الضحاك: نزلت: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة " فقالوا: أياما، أو شهورا، أو سنين ؟ فنزلت: " سنين " ; فلذلك قال: " سنين " ، ولم يقل: سنة . [ ص: 131 ]

    قوله تعالى: " وازدادوا تسعا " يعني: تسع سنين، فاستغنى عن ذكر السنين بما تقدم من ذكرها، ثم أعلم أنه أعلم بقدر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها، فقال: " قل الله أعلم بما لبثوا " . قال ابن السائب: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها، فنزل قوله تعالى: " قل الله أعلم بما لبثوا " . وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إن للفتية منذ دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله تعالى عليهم ذلك، وقال: " قل الله أعلم بما لبثوا " بعد أن قبض أرواحهم إلى يومكم هذا، لا يعلم ذلك غير الله . وقيل: إنما زاد التسع ; لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: " أبصر به وأسمع " فيه قولان:

    أحدهما: أنه على مذهب التعجب، فالمعنى: ما أسمع الله به وأبصر ; أي: هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم، هذا قول الزجاج، وذكر أنه إجماع العلماء .

    والثاني: أنه في معنى الأمر، فالمعنى: أبصر بدين الله وأسمع ; أي: أبصر بهدى الله وأسمع، فترجع الهاء إما على الهدى، وإما على الله عز وجل، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى: " ما لهم من دونه " ; أي: ليس لأهل السماوات والأرض من دون الله من ناصر، " ولا يشرك في حكمه أحدا " ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه، فيكون شريكا لله عز وجل في حكمه . وقرأ ابن عامر: ( ولا تشرك ) جزما بالتاء، والمعنى: لا تشرك أيها الإنسان . [ ص: 132 ]
    واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .

    قوله تعالى: " واتل ما أوحي إليك " في هذه التلاوة قولان:

    أحدهما: أنها بمعنى القراءة . والثاني: بمعنى الاتباع . فيكون المعنى على الأول: اقرإ القرآن، وعلى الثاني: اتبعه واعمل به . وقد شرحنا في ( الأنعام: 115 ) معنى لا مبدل لكلماته .

    قوله تعالى: " ولن تجد من دونه ملتحدا " قال مجاهد والفراء: ملجأ . وقال الزجاج: معدلا عن أمره ونهيه . وقال غيرهم: موضعا تميل إليه في الالتجاء .

    قوله تعالى: " واصبر نفسك " سبب نزولها أن المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا: يا رسول الله ; لو أنك جلست في صدر المجلس ونحيت هؤلاء عنا - يعنون: سلمان، وأبا ذر، وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف - جلسنا إليك وأخذنا عنك، فنزلت هذه الآية إلى قوله: " إنا أعتدنا للظالمين نارا " ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، قال: " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات " ، هذا قول سلمان الفارسي . ومعنى قوله: [ ص: 133 ] " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم " ; أي: احبسها معهم على أداء الصلوات " بالغداة والعشي " . وقد فسرنا هذه الآية في ( الأنعام: 52 ) إلى قوله تعالى: ولا تعد عيناك عنهم ; أي: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف، وكان عليه السلام حريصا على إيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريدا لزينة الدنيا قط، فأمر أن يجعل إقباله على فقراء المؤمنين .

    قوله تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " سبب نزولها أن أمية بن خلف الجمحي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طرد الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس . وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو عيينة وأشباهه . ومعنى " أغفلنا قلبه " : جعلناه غافلا . وقرأ أبو مجلز: ( من أغفلنا ) بفتح اللام ورفع باء القلب . " عن ذكرنا " : عن التوحيد والقرآن والإسلام، " واتبع هواه " في الشرك . " وكان أمره فرطا " فيه أربعة أقوال:

    أحدها: أنه أفرط في قوله ; لأنه قال: إنا رؤوس مضر، وإن نسلم يسلم الناس بعدنا، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: ضياعا، قاله مجاهد . وقال أبو عبيدة: سرفا وتضييعا . والثالث: ندما، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة . والرابع: كان أمره التفريط، والتفريط: تقديم العجز، قاله الزجاج .
    وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . [ ص: 134 ]

    قوله تعالى: " وقل الحق من ربكم " قال الزجاج: المعنى: وقل الذي أتيتكم به: الحق من ربكم .

    قوله تعالى: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: فمن شاء الله فليؤمن، روي عن ابن عباس .

    والثاني: أنه وعيد وإنذار وليس بأمر، قاله الزجاج .

    والثالث: أن معناه: لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم، قاله الماوردي . وقال بعضهم: هذا إظهار للغنى لا إطلاق في الكفر .

    قوله تعالى: " إنا أعتدنا " ; أي: هيأنا وأعددنا، وقد شرحناه في قوله: وأعتدت لهن متكأ [ يوسف: 31 ] . فأما الظالمون، فقال المفسرون: هم الكافرون . وأما السرادق، فقال الزجاج: السرادق: كل ما أحاط بشيء، نحو: الشقة في المضرب، أو الحائط المشتمل على الشيء . وقال ابن قتيبة: السرادق: الحجرة التي تكون حول الفسطاط . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السرادق فارسي معرب، وأصله بالفارسية: سرادار، وهو الدهليز، قال الفرزدق:


    تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا


    وفي المراد بهذا السرادق قولان:

    أحدهما: أنه سرادق من نار، قاله ابن عباس . روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لسرادق النار أربعة جدر كثف، كل جدار منها مسيرة أربعين سنة " . وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس، قال: [ ص: 135 ] السرادق: لسان من النار، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم .

    والثاني: أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في ( المرسلات: 30 )، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: وإن يستغيثوا ; أي: مما هم فيه من العذاب وشدة العطش، " يغاثوا بماء كالمهل " وفيه سبعة أقوال:

    أحدها: أنه ماء غليظ كدردي الزيت، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني: أنه كل شيء أذيب حتى انماع، قاله ابن مسعود . وقال أبو عبيدة والزجاج: كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك، فهول مهل .

    والثالث: قيح ودم أسود كعكر الزيت، قاله مجاهد .

    والرابع: أنه الفضة والرصاص يذابان، روي عن مجاهد أيضا .

    والخامس: أنه الذي انتهى حره، قاله سعيد بن جبير .

    والسادس: [ أنه ] الصديد، ذكره ابن الأنباري . قال مغيث بن سمي: هذا الماء هو ما يسيل من عرق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم، وما يجري منهم من دم وقيح، يسيل ذلك إلى واد في جهنم فتطبخه جهنم، فيكون أول ما يغاث به أهل النار .

    والسابع: أنه الرماد الذي ينفض عن الخبزة إذا خرجت من التنور، حكاه ابن الأنباري . [ ص: 136 ]

    قوله تعالى: " يشوي الوجوه " قال المفسرون: إذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه، ثم ذمه فقال: " بئس الشراب وساءت النار مرتفقا وفيه خمسة أقوال:

    أحدها: منزلا، قاله ابن عباس . والثاني: مجتمعا، قاله مجاهد . والثالث: متكأ، قاله أبو عبيدة، وأنشد لأبي ذؤيب:


    إني أرقت فبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح


    وذبحه: انفجاره . قال الزجاج: " مرتفقا " منصوب على التمييز، ومعنى مرتفقا: متكأ على المرفق . والرابع: ساءت مجلسا، قاله ابن قتيبة . والخامس: ساءت مطلبا للرفق ; لأن من طلب رفقا من جهتها عدمه، ذكره ابن الأنباري . ومعاني هذه الأقوال تتقارب، وأصل المرفق في اللغة: ما يرتفق به .
    إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا .

    قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال الزجاج: خبر " إن " هاهنا على ثلاثة أوجه: [ ص: 137 ]

    أحدها: أن يكون على إضمار " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " منهم، ولم يحتج إلى ذكر ( منهم ) ; لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه محبط عمل غير المؤمنين .

    والثاني: أن يكون خبر " إن " : " أولئك لهم جنات عدن " ، فيكون قوله: " إنا لا نضيع " قد فصل به بين الاسم وخبره ; لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول ; لأن من أحسن عملا بمنزلة الذين آمنوا .

    والثالث: أن يكون الخبر " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " بمعنى: إنا لا نضيع أجرهم .

    قال المفسرون: ومعنى " لا نضيع أجر من أحسن عملا " ; أي: لا نترك أعماله تذهب ضياعا، بل نجازيه عليها بالثواب .

    فأما الأساور، فقال الفراء: في الواحد منها ثلاث لغات: إسوار وسوار وسوار، فمن قال: إسوار، جمعه: أساور، ومن قال: سوار أو سوار، جمعه: أسورة، وقد يجوز أن يكون واحد أساورة وأساور: سوارا . وقال الزجاج: الأساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، يقال: سوار اليد، بالكسر، وقد حكي: سوار . قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور في اليد والتيجان على الرؤوس، جعل الله ذلك لأهل الجنة . قال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد منهم بثلاثة من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت .

    فأما " السندس " و " الإستبرق " ، فقال ابن قتيبة: السندس: رقيق الديباج، والإستبرق ثخينه . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السندس: رقيق الديباج، لم يختلف أهل اللغة في أنه معرب، قال الراجز:


    وليلة من الليالي حندس لون حواشيها كلون السندس
    [ ص: 138 ]

    والاستبرق: غليظ الديباج، فارسي معرب، وأصله: إستفره . وقال ابن دريد: استروه، ونقل من العجمية إلى العربية، فلو حقر ( إستبرق ) أو كسر، لكان في التحقير ( أبيرق )، وفي التكسير ( أبارق ) بحذف السين والتاء جميعا .

    قوله تعالى: " متكئين فيها " الاتكاء: التحامل على الشيء . قال أبو عبيدة: والأرائك: الفرش في الحجال، ولا تكون الأريكة إلا بحجلة وسرير . وقال ابن قتيبة: الأرائك: السرر في الحجال، واحدها: أريكة . وقال ثعلب: لا تكون الأريكة إلا سريرا في قبة عليه شواره ومتاعه . قال ابن قتيبة: ( الشوار ) مفتوح الشين، وهو متاع البيت . وقال الزجاج: الأرائك: الفرش في الحجال . قال: وقيل: إنها الفرش، وقيل: الأسرة، وهي على الحقيقة: الفرش كانت في حجال لهم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •