تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 17 من 25 الأولىالأولى ... 78910111213141516171819202122232425 الأخيرةالأخيرة
النتائج 321 إلى 340 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #321
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الرَّعْدِ
    الحلقة (321)
    صــ 325 إلى صــ 332





    والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار

    قوله تعالى : " والذين صبروا " أي : على ما أمروا به " ابتغاء وجه ربهم " أي : طلبا لرضاه " وأقاموا الصلاة " أتموها " وأنفقوا مما رزقناهم " من الأموال في طاعة الله . قال ابن عباس : يريد بالصلاة : الصلوات الخمس ، وبالإنفاق : الزكاة .

    قوله تعالى : " ويدرءون " أي : يدفعون " بالحسنة السيئة " . وفي المراد بهما خمسة أقوال :

    أحدها : يدفعون بالعمل الصالح الشر من العمل ، قاله ابن عباس . والثاني : يدفعون بالمعروف المنكر ، قاله سعيد بن جبير . والثالث : بالعفو الظلم ، قاله [ ص: 325 ] جويبر . والرابع : بالحلم السفه ، كأنهم إذا سفه عليهم حلموا ، قاله ابن قتيبة .

    والخامس : بالتوبة الذنب ، قاله ابن كيسان .

    قوله تعالى : " أولئك لهم عقبى الدار " قال ابن عباس : يريد : عقباهم الجنة ، أي : تصير الجنة آخر أمرهم .

    قوله تعالى : " ومن صلح " وقرأ ابن أبي عبلة : " صلح " بضم اللام . ومعنى " صلح " : آمن ، وذلك أن الله تعالى ألحق المؤمن أهله المؤمنين إكراما له ، لتقر عينه بهم . " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " قال ابن عباس : بالتحية من الله والتحفة والهدايا .

    قوله تعالى : " سلام عليكم " قال الزجاج : أضمر القول هاهنا ، لأن في الكلام دليلا عليه . وفي هذا السلام قولان :

    أحدهما : أنه التحية المعروفة ، يدخل الملك فيسلم وينصرف ، قال ابن الأنباري : وفي قول المسلم : سلام عليكم ، قولان : أحدهما : أن السلام : الله عز وجل ، والمعنى : الله عليكم ، أي : على حفظكم . والثاني : أن المعنى : السلامة عليكم ، فالسلام جمع سلامة .

    والثاني : أن معناه : إنما سلمكم الله تعالى من أهوال القيامة وشرها بصبركم في الدنيا .

    وفيما صبروا عليه خمسة أقوال :

    أحدها : أنه أمر الله ، قاله سعيد بن جبير . والثاني : فضول الدنيا ، قاله الحسن . والثالث : الدين . والرابع : الفقر ، رويا عن أبي عمران الجوني . والخامس : أنه فقد المحبوب ، قاله ابن زيد .
    [ ص: 326 ] والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار

    قوله تعالى : " والذين ينقضون عهد الله " قد سبق تفسيره في سورة (البقرة :27) . وقال مقاتل : نزلت في كفار أهل الكتاب .

    قوله تعالى : " أولئك لهم اللعنة " أي : عليهم .
    الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع

    قوله تعالى : " الله يبسط الرزق لمن يشاء " أي : يوسع على من يشاء " ويقدر " أي : يضيق . " وفرحوا بالحياة الدنيا " قال ابن عباس : يريد مشركي مكة ، فرحوا بما نالوا من الدنيا فطغوا وكذبوا الرسل .

    قوله تعالى : " وما الحياة الدنيا في الآخرة " أي : بالقياس إليها " إلا متاع " أي : كالشيء الذي يتمتع به ، ثم يفنى .
    ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب

    قوله تعالى : " ويقول الذين كفروا " نزلت في مشركي مكة حين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل آيات الأنبياء . " قل إن الله يضل من يشاء " أي : يرده عن الهدى كما ردكم بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها . " ويهدي [ ص: 327 ] إليه من أناب " أي : رجع إلى الحق ، وإنما يرجع إلى الحق من شاء الله رجوعه ، فكأنه قال : ويهدي من يشاء .
    الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب

    قوله تعالى : " الذين آمنوا " هذا بدل من قوله : " أناب " ، والمعنى : يهدي الذين آمنوا ، " وتطمئن قلوبهم بذكر الله " في هذا الذكر قولان :

    أحدهما : أنه القرآن . والثاني : ذكر الله على الإطلاق .

    وفي معنى هذه الطمأنينة قولان :

    أحدهما : أنها الحب له والأنس به . والثاني : السكون إليه من غير شك ، بخلاف الذين إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم .

    قوله تعالى : " ألا بذكر الله " قال الزجاج : " ألا " حرف تنبيه وابتداء ، والمعنى : تطمئن القلوب التي هي قلوب المؤمنين ، لأن الكافر غير مطمئن القلب .

    قوله تعالى : " طوبى لهم " فيه ثمانية أقوال :

    أحدها : أنه اسم شجرة في الجنة . روى أبو سعيد الخدري " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما طوبى ، قال : شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " ، وقال أبو هريرة : طوبى : شجرة في الجنة ، يقول الله عز وجل لها: تفتقي لعبدي عما شاء ، فتتفتق له عن [ ص: 328 ] الخيل بسروجها ولجمها ، وعن الإبل بأزمتها ، وعما شاء من الكسوة . وقال شهر بن حوشب : طوبى : شجرة في الجنة ، كل شجر الجنة منها أغصانها ، من وراء سور الجنة ، وهذا مذهب عطية ، وشمر بن عطية ، ومغيث بن سمي وأبي صالح .

    والثاني : أنه اسم الجنة بالحبشية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . قال المصنف : وقرأت على شيخنا أبي منصور عن سعيد بن مسجوح قال : طوبى : اسم الجنة بالهندية ، وممن ذهب إلى أنه اسم الجنة عكرمة ، وعن مجاهد كالقولين .

    والثالث : أن معنى طوبى لهم : فرح وقرة عين لهم ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والرابع : أن معناه : نعمى لهم ، قاله عكرمة في رواية ، وفي رواية أخرى عنه : نعم ما لهم .

    والخامس : غبطة لهم ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك .

    والسادس : أن معناه : خير لهم ، قاله النخعي في رواية ، وفي أخرى عنه قال : الخير والكرامة اللذان أعطاهم الله . وروى معمر عن قتادة قال : يقول الرجل للرجل : طوبى لك ، أي : أصبت خيرا ، وهي كلمة عربية .

    والسابع : حسنى لهم ، رواه سعيد عن قتادة عن الحسن .

    والثامن : أن المعنى : العيش الطيب لهم . و " طوبى " عند النحويين : فعلى من الطيب ، هذا قول الزجاج . وقال ابن الأنباري : تأويلها : الحال [ ص: 329 ] المستطابة ، والخلة المستلذة ، وأصلها : " طيبى " فصارت الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها كما صارت في " موقن " والأصل فيه " ميقن " لأنه مأخوذ من اليقين ، فغلبت الضمة فيه الياء فجعلتها واوا .

    قوله تعالى : " وحسن مآب " المآب : المرجع والمنقلب .
    كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب

    قوله تعالى : " كذلك أرسلناك " أي : كما أرسلنا الأنبياء قبلك .

    قوله تعالى : " وهم يكفرون بالرحمن " في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لكفار قريش : اسجدوا للرحمن ، قالوا : وما الرحمن ؟ فنزلت هذه الآية ، وقيل لهم : إن الرحمن الذي أنكرتم هو ربي ، هذا قول الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : أنهم لما أرادوا كتاب الصلح يوم الحديبية ، كتب علي عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل .

    والثالث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما في الحجر يدعو ، وأبو جهل يستمع إليه وهو يقول : يا رحمن ، فولى مدبرا إلى المشركين فقال : إن محمدا كان ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين ! فنزلت هذه الآية ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

    قوله تعالى : " وإليه متاب " قال أبو عبيدة : هو مصدر تبت إليه .
    [ ص: 330 ] ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب

    قوله تعالى : " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لو وسعت لنا أودية مكة بالقرآن ، وسيرت جبالها فاحترثناها ، وأحييت من مات منا ، فنزلت هذه الآية ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال الزبير بن العوام : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا فنزرع ، أو يحيي لنا موتانا فنكلمهم ، أو يصير هذه الصخرة ذهبا فتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فقد كان للأنبياء آيات ، فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون [الإسراء :59] . ومعنى قوله : " أو قطعت به الأرض " أي : شققت فجعلت أنهارا ، " أو كلم به الموتى " أي : أحيوا حتى كلموا .

    واختلفوا في جواب " لو " على قولين

    أحدهما : أنه محذوف . وفي تقدير الكلام قولان : أحدهما : أن تقديره : لكان هذا القرآن ، ذكره الفراء ، وابن قتيبة . قال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم . والثاني : أن تقديره : لو كان هذا كله لما آمنوا .

    [ ص: 331 ] ودليله قوله تعالى : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة . . . إلى آخر الآية [الأنعام :111] ، قاله الزجاج .

    والثاني : أن جواب " لو " مقدم ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن ، ولو أنزلنا عليهم ما سالوا ، ذكره الفراء أيضا .

    قوله تعالى : " بل لله الأمر جميعا " أي : لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا ، وإذا لم يشأ ، لم ينفع ما اقترحوا من الآيات . ثم أكد ذلك بقوله : " أفلم ييأس الذين آمنوا " وفيه أربعة أقوال :

    أحدها : أفلم يتبين ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وروى عنه عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك ، ويقول : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة ، وأبي مالك ، ومقاتل .

    والثاني : أفلم يعلم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . وقال ابن قتيبة : ويقال : هي لغة للنخع " ييأس " بمعنى " يعلم " قال الشاعر :


    أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم


    وإنما وقع اليأس في مكان العلم ، لأن في علمك الشيء وتيقنك به يأسك من غيره .

    [ ص: 332 ] والثالث : أن المعنى : قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا واحدا ، ولو شاء الله لهدى الناس جميعا ، قاله أبو العالية .

    والرابع : أفلم ييأس الذين آمنوا أن يؤمن هؤلاء المشركون ، قاله الكسائي . وقال الزجاج : المعنى عندي : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم لا يؤمنون ، لأنه لو شاء لهدى الناس جميعا .

    قوله تعالى : " ولا يزال الذين كفروا " فيهم قولان :

    أحدهما : أنهم جميع الكفار ، قاله ابن السائب . والثاني : كفار مكة ، قاله مقاتل .

    فأما القارعة ، فقال الزجاج : هي في اللغة : النازلة الشديدة تنـزل بأمر عظيم .

    وفي المراد بها هاهنا قولان :

    أحدهما : أنها عذاب من السماء ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : السرايا والطلائع التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله عكرمة .

    وفي قوله : " أو تحل قريبا من دارهم " قولان :

    أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : أو تحل أنت يا محمد ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة .

    والثاني : أنها القارعة ، قاله الحسن .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #322
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الرَّعْدِ
    الحلقة (322)
    صــ 333 إلى صــ 340





    وفي قوله : حتى يأتي وعد الله قولان :

    أحدهما : فتح مكة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : القيامة ، قاله الحسن .
    أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر [ ص: 333 ] من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد .

    قوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت يعني : نفسه عز وجل . ومعنى القيام هاهنا : التولي لأمور خلقه ، والتدبير لأرزاقهم وآجالهم ، وإحصاء أعمالهم للجزاء ، والمعنى : أفمن هو مجازي كل نفس بما كسبت ، يثيبها إذا أحسنت ، ويأخذها بما جنت ، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام ؟ قال الفراء : فترك جوابه ، لأن المعنى معلوم ، وقد بينه بعد هذا بقوله : " وجعلوا لله شركاء " كأنه قيل : كشركائهم .

    قوله تعالى : " قل سموهم " أي : بما يستحقونه من الصفات وإضافة الأفعال إليهم إن كانوا شركاء لله كما يسمى الله بالخالق ، والرازق ، والمحيي ، والمميت ، ولو سموهم بشيء من هذا لكذبوا .

    قوله تعالى : " أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض " هذا استفهام منقطع مما قبله ، والمعنى : فإن سموهم بصفات الله ، فقل لهم : أتنبئونه ، أي : أتخبرونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلم لنفسه شريكا ، ولو كان لعلمه .

    قوله تعالى : " أم بظاهر من القول " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدهما : أم بظن من القول ، قاله مجاهد . والثاني : بباطل ، قاله قتادة . والثالث : بكلام لا أصل له ولا حقيقة .

    قوله تعالى : " بل زين للذين كفروا مكرهم " قال ابن عباس : زين لهم الشيطان الكفر .

    قوله تعالى : " وصدوا عن السبيل " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " وصدوا " بفتح الصاد ، ومثله في (حم المؤمن) [غافر :37] . وقرأ [ ص: 334 ] عاصم ، وحمزة ، والكسائي : " وصدوا " بالضم فيهما . فمن فتح ، أراد صدوا المسلمين ، إما عن الإيمان ، أو عن البيت الحرام . ومن ضم ، أراد : صدهم الله عن سبيل الهدى .
    لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق

    قوله تعالى : " لهم عذاب في الحياة الدنيا " وهو القتل ، والأسر ، والسقم ، فهو لهم في الدنيا عذاب ، وللمؤمنين كفارة ، " ولعذاب الآخرة أشق " أي : أشد " وما لهم من الله من واق " أي : مانع يقيهم عذابه .
    مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار

    قوله تعالى : " مثل الجنة " أي : صفتها أن الأنهار تجري من تحتها ، هذا قول الجمهور ، وقال ثعلب : خبر المثل مضمر قبله ، والمعنى : فيما نصف لكم مثل الجنة ، وفيما نقصه عليكم خبر الجنة " أكلها دائم " قال الحسن : يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا " وظلها " لأنه لا يزول ولا تنسخه الشمس .

    قوله تعالى : " تلك عقبى الذين اتقوا " أي : عاقبة أمرهم المصير إليها .
    والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب

    قوله تعالى : " والذين آتيناهم الكتاب " فيه ثلاثة أقوال :

    [ ص: 335 ] أحدها : أنهم مسلمو اليهود ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل : هم عبد الله بن سلام وأصحابه .

    والثاني : أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة .

    والثالث : مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنصارى ، ذكره الماوردي . والذي أنزل إليه : القرآن ، فرح به المسلمون وصدقوه ، وفرح به مؤمنو أهل الكتاب ، لأنه صدق ما عندهم . وقيل : إن عبد الله بن سلام ومن آمن معه من أهل الكتاب ، ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة . فلما نزل ذكره فرحوا ، وكفر المشركون به ، فنزلت هذه الآية .

    فأما الأحزاب ، فهم الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعاداة ، وفيهم أربعة أقوال :

    أحدها : أنهم اليهود والنصارى ، قاله قتادة . والثاني : أنهم اليهود والنصارى والمجوس ، قاله ابن زيد . والثالث : بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة بن عبد العزى ، قاله مقاتل . والرابع : كفار قريش ، ذكره الماوردي .

    وفي بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه ذكر الرحمن والبعث ومحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .

    والثاني : أنهم عرفوا بعثة الرسول في كتبهم وأنكروا نبوته .

    والثالث : أنهم عرفوا صدقه ، وأنكروا تصديقه ، ذكرهما الماوردي .
    وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق

    قوله تعالى : " وكذلك أنزلناه " أي : وكما أنزلنا الكتب على الأنبياء [ ص: 336 ] بلغاتهم ، أنزلنا عليك القرآن " حكما عربيا " قال ابن عباس : يريد ما فيه من الفرائض . وقال أبو عبيدة : دينا عربيا .

    قوله تعالى : " ولئن اتبعت أهواءهم " فيه قولان

    أحدهما : في صلاتك إلى بيت المقدس " بعد ما جاءك من العلم " أن قبلتك الكعبة ، قاله ابن السائب .

    والثاني : في قبول ما دعوك إليه من ملة آبائك ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " ما لك من الله من ولي " أي : ما لك من عذاب الله من قريب ينفعك " ولا واق " يقيك .
    ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب

    قوله تعالى : " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك . . . " الآية ، سبب نزولها أن اليهود عيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة التزويج ، وقالوا : لو كان نبيا كما يزعم ، شغلته النبوة عن تزويج النساء ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . ومعنى الآية : أن الرسل قبلك كانوا بشرا لهم أزواج ، يعني النساء ، وذرية ، يعني الأولاد . " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله: " أي : بأمره ، وهذا جواب للذين اقترحوا عليه الآيات .

    قوله تعالى : " لكل أجل كتاب " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : لكل أجل من آجال الخلق كتاب عند الله ، قاله الحسن .

    والثاني : أنه من المقدم والمؤخر ، والمعنى : لكل كتاب ينزل من السماء أجل ، قاله الضحاك والفراء .

    [ ص: 337 ] والثالث : لكل أجل قدره الله عز وجل ، ولكل أمر قضاه ، كتاب أثبت فيه ، ولا تكون آية ولا غيرها إلا بأجل قد قضاه الله في كتاب ، هذا معنى قول ابن جرير .
    يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

    قوله تعالى : " يمحو الله ما يشاء ويثبت " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : " ويثبت " ساكنة الثاء خفيفة الباء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : " ويثبت " مشددة الباء مفتوحة الثاء . قال أبو علي : المعنى : ويثبته ، فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني .

    واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال :

    أحدها : أنه عام في الرزق ، والأجل ، والسعادة ، والشقاوة ، وهذا مذهب عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل ، والضحاك ، وابن جريج .

    والثاني : أنه الناسخ والمنسوخ ، فيمحو المنسوخ ، ويثبت الناسخ ، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، والقرظي ، وابن زيد . وقال ابن قتيبة : " يمحو الله ما يشاء " أي : ينسخ من القرآن ما يشاء " ويثبت " أي : يدعه ثابتا لا ينسخه ، وهو المحكم .

    والثالث : أنه يمحو ما يشاء ، ويثبت ، إلا الشقاوة والسعادة ، والحياة والموت ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، ودليل هذا القول ما روى مسلم في " صحيحه " من حديث حذيفة بن أسيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة ، يقول الملك الموكل : أذكر أم أنثى ؟ فيقضي [ ص: 338 ] الله تعالى ، ويكتب الملك ، فيقول : أشقى أم سعيد ؟ فيقضي الله ، ويكتب الملك ، فيقول : عمله وأجله ؟ فيقضي الله ، ويكتب الملك ،ثم تطوى الصحيفة ، فلا يزاد فيها ولا ينقص منها " .

    والرابع : يمحو ما يشاء ويثبت ، إلا الشقاوة والسعادة لا يغيران ، قاله مجاهد .

    والخامس : يمحو من جاء أجله ، ويثبت من لم يجئ أجله ، قاله الحسن .

    والسادس : يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها ، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها ، روي عن سعيد بن جبير .

    والسابع : يمحو ما يشاء بالتوبة ، ويثبت مكانها حسنات ، قاله عكرمة .

    والثامن : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب ، قاله الضحاك ، وأبو صالح . وقال ابن السائب : القول كله يكتب ، حتى إذا كان في يوم الخميس ، طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب ، مثل قولك : أكلت ، شربت ، دخلت ، خرجت ، ونحوه ، وهو صادق ، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب .

    قوله تعالى : " وعنده أم الكتاب " قال الزجاج : أصل الكتاب . قال المفسرون : [ ص: 339 ] وهو اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما يكون ويحدث . وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت " . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هما كتابان ، كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب لا يغير منه شيء .
    وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب

    قوله تعالى : " وإما نرينك بعض الذي نعدهم " أي : من العذاب وأنت حي " أو نتوفينك " قبل أن نريك ذلك ، فليس عليك إلا أن تبلغ ، " وعلينا الحساب " قال مقاتل : يعني الجزاء . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله : " فإنما عليك البلاغ " نسخ بآية السيف وفرض الجهاد ، وبه قال قتادة .
    وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب

    قوله تعالى : " وإما نرينك بعض الذي نعدهم " أي : من العذاب وأنت حي " أو نتوفينك " قبل أن نريك ذلك ، فليس عليك إلا أن تبلغ ، " وعلينا الحساب " قال مقاتل : يعني الجزاء . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله : " فإنما عليك البلاغ " نسخ بآية السيف وفرض الجهاد ، وبه قال قتادة .
    وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب

    قوله تعالى : " وإما نرينك بعض الذي نعدهم " أي : من العذاب وأنت حي " أو نتوفينك " قبل أن نريك ذلك ، فليس عليك إلا أن تبلغ ، " وعلينا الحساب " قال مقاتل : يعني الجزاء . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله : " فإنما عليك البلاغ " نسخ بآية السيف وفرض الجهاد ، وبه قال قتادة .
    أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب

    قوله تعالى : " أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " فيه خمسة أقوال :

    [ ص: 340 ] أحدها : أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والضحاك . قال مقاتل : " أولم يروا " يعني : كفار مكة ، " أنا نأتي الأرض " يعني : أرض مكة " ننقصها من أطرافها " يعني : ما حولها .

    والثاني : أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .

    والثالث : أنه نقص أهلها وبركتها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقال الشعبي نقص الأنفس والثمرات .

    والرابع : أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والخامس : أنه موت أهلها ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وقتادة .

    قوله تعالى : " والله يحكم لا معقب لحكمه " قال ابن قتيبة : لا يتعقبه أحد بتغيير ولا نقص . وقد شرحنا معنى سرعة الحساب في سورة (البقرة :202) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #323
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ

    الحلقة (323)
    صــ 341 إلى صــ 348






    وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار

    قوله تعالى : " وقد مكر الذين من قبلهم " يعني : كفار الأمم الخالية ، [ ص: 341 ] مكروا بأنبيائهم يقصدون قتلهم ، كما مكرت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه . " فلله المكر جميعا " يعني : أن مكر الماكرين مخلوق له ، ولا يضر إلا بإرادته ; وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسكين له . " يعلم ما تكسب كل نفس " من خير وشر ، ولا يقع ضرر إلا بإذنه . " وسيعلم الكافر " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : " وسيعلم الكافر " قال ابن عباس : يعني : أبا جهل . وقال الزجاج : الكافر هاهنا : اسم جنس . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : " الكفار " على الجمع .

    قوله تعالى : " لمن عقبى الدار " أي : لمن الجنة آخر الأمر .
    ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب

    قوله تعالى : " ويقول الذين كفروا " فيهم قولان :

    أحدهما : أنهم اليهود والنصارى . والثاني : كفار قريش . " قل كفى بالله شهيدا " أي : شاهدا " بيني وبينكم " بما أظهر من الآيات ، وأبان من الدلالات على نبوتي .

    قوله تعالى : " ومن عنده علم الكتاب " فيه سبعة أقوال :

    أحدها : أنهم علماء اليهود والنصارى ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : أنه عبد الله بن سلام ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن زيد ، وابن السائب ، ومقاتل .

    والثالث : أنهم قوم من أهل الكتاب ، كانوا يشهدون بالحق ، منهم عبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وتميم الداري ، قاله قتادة .

    [ ص: 342 ] والرابع : أنه جبريل عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير .

    والخامس : أنه علي بن أبي طالب ، قاله ابن الحنفية .

    والسادس : أنه بنيامين ، قاله شمر .

    والسابع : أنه الله تعالى ، روي عن الحسن ، ومجاهد ، واختاره الزجاج واحتج له بقراءة من قرأ : " ومن عنده علم الكتاب " وهي قراءة ابن السميفع ، وابن أبي عبلة ، ومجاهد ، وأبي حيوة . ورواية ابن أبي سريج عن الكسائي : " ومن " بكسر الميم " عنده " بكسر الدال " علم " بضم الميم وكسر اللام وفتح الميم . " الكتاب " بالرفع . وقرأ الحسن " ومن " بكسر الميم " عنده " بكسر الدال " علم " بكسر العين وضم الميم " الكتاب " مضاف ، كأنه قال : أنزل من علم الله عز وجل .
    سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ

    [ عَلَيْهِ السَّلَامُ ]


    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ بَيْنَهُمْ ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا : سِوَى آيَتَيْنِ مِنْهَا ، وَهُمَا قَوْلُهُ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَالَّتِي بَعْدَهَا [إِبْرَاهِيمَ: 28،29] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " آلر " قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ [يُونُسَ :1] . وَقَوْلُهُ : " كِتَابٌ " قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى : هَذَا كِتَابٌ ، وَالْكِتَابُ : الْقُرْآنُ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَنَّ الظُّلُمَاتِ : الْكُفْرُ ، وَالنُّورَ : الْإِيمَانُ ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي : أَنَّ الظُّلُمَاتِ : الضَّلَالَةُ ، وَالنُّورَ : الْهُدَى ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .

    [ ص: 344 ] وَالثَّالِثُ : أَنَّ الظُّلُمَاتِ : الشَّكُّ ، وَالنُّورَ : الْيَقِينُ ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

    وَفِي قَوْلِهِ : " بِإِذْنِ رَبِّهِمْ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : بِأَمْرِ رَبِّهِمْ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي : بِتَوْفِيقِ رَبِّهِمْ ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْإِذْنُ نَفْسُهُ ، فَالْمَعْنَى : بِمَا أَذِنَ لَكَ مِنْ تَعْلِيمِهِمْ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ ، قَالَ : ثُمَّ بَيَّنَ مَا النُّورُ ؟، فَقَالَ : " إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْعَرَبِ : جَلَسْتُ إِلَى زَيْدٍ ، إِلَى الْعَاقِلِ الْفَاضِلِ ، وَإِنَّمَا تُعَادُ " إِلَى " بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ لِلْأَمْرِ ، قَالَ الشَّاعِرُ :


    إِذَا خَدِرَتْ رِجْلِي تَذَكَّرْتُ مَنْ لَهَا فَنَادَيْتُ لُبْنَى بِاسْمِهَا وَدَعَوْتُ

    دَعَوْتُ الَّتِي لَوْ أَنَّ نَفْسِي تُطِيعُنِي
    لَأَلْقَيْتُهَا مِنْ حُبِّهَا وَقَضَيْتُ


    فَأَعَادَ " دَعَوْتُ " لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ " قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ : " الْحَمِيدِ اللَّهِ " عَلَى الْبَدَلِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَأَبَانُ ، وَالْمُفَضَّلُ : " الْحَمِيدِ اللَّهُ " رَفْعًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَلْفَاظِ الْآيَةِ .
    الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء [ ص: 345 ] ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

    قوله تعالى : " الذين يستحبون الحياة الدنيا " أي : يؤثرونها " على الآخرة " قال ابن عباس : يأخذون ما تعجل لهم منها تهاونا بأمر الآخرة .

    قوله تعالى : " ويصدون عن سبيل " أي : يمنعون الناس من الدخول في دينه " ويبغونها عوجا " قد شرحناه في (آل عمران :99) .

    قوله تعالى : " أولئك في ضلال " أي : في ذهاب عن الحق " بعيد " من الصواب .

    قوله تعالى : " إلا بلسان قومه " أي : بلغتهم . قال ابن الأنباري : ومعنى اللغة عند العرب : الكلام المنطوق به ، وهو مأخوذ من قولهم : لغا الطائر يلغو : إذا صوت في الغلس . وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل ، والجحدري : " إلا بلسن قومه " برفع اللام والسين من غير ألف . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران : " بلسن قومه " بكسر اللام وسكون السين من غير ألف .

    قوله تعالى : " ليبين لهم " أي : الذي أرسل به فيفهمونه عنه . وهذا نزل ، لأن قريشا قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية ، وهذا عربي ؟

    قوله تعالى : " أن أخرج قومك " قال الزجاج : " أن " مفسرة ، والمعنى : قلنا له : أخرج قومك . وقد سبق بيان الظلمات والنور [البقرة :257] .

    [ ص: 346 ] وفي قوله : " وذكرهم بأيام الله " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها نعم الله ، رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وابن قتيبة .

    والثاني : أنها وقائع الله في الأمم قبلهم ، قاله ابن زيد ، وابن السائب ، ومقاتل .

    والثالث : أنها أيام نعم الله عليهم وأيام نقمه ممن كفر من قوم نوح وعاد وثمود ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " إن في ذلك " يعني : التذكير " لآيات لكل صبار " على طاعة الله وعن معصيته " شكور " لأنعمه . والصبار : الكثير الصبر ، والشكور : الكثير الشكر ، وإنما خصه بالآيات لانتفاعه بها . وما بعد هذا مشروح في سورة (البقرة : 49) .
    وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض [ ص: 347 ] يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلونوقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد

    قوله تعالى : " وإذ تأذن ربكم " مذكور في (الأعراف :167) .

    وفي قوله : " لئن شكرتم لأزيدنكم " ثلاثة أقوال :

    أحدها : لئن شكرتم نعمي لأزيدنكم من طاعتي ، قاله الحسن .

    والثاني : لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي ، قاله الربيع .

    والثالث : لئن وحدتموني لأزيدنكم خيرا في الدنيا ، قاله مقاتل .

    وفي قوله : " ولئن كفرتم " قولان :

    أحدهما : أنه كفر بالتوحيد . والثاني : كفران النعم .

    قوله تعالى : " فإن الله لغني حميد " أي : غني عن خلقه ، محمود في أفعاله ، لأنه إما متفضل بفعله ، أو عادل .

    [ ص: 348 ] قوله تعالى : " لا يعلمهم إلا الله " قال ابن الأنباري : أي : لا يحصي عددهم إلا هو ، على أن الله تعالى أهلك أمما من العرب وغيرها ، فانقطعت أخبارهم ، وعفت آثارهم ، فليس يعلمهم أحد إلا الله .

    قوله تعالى : " فردوا أيديهم في أفواههم " فيه سبعة أقوال :

    أحدها : أنهم عضوا أصابعهم غيظا ، قاله ابن مسعود ، وابن زيد . وقال ابن قتيبة : " في " هاهنا بمعنى : " إلى " ، ومعنى الكلام : عضوا عليها حنقا وغيظا ، كما قال الشاعر :


    يردون في فيه عشر الحسود


    يعني : أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه العشر ، ونحوه قول الهذلي :


    قد أفنى أنامله أزمه فأضحى يعض علي الوظيفا


    يقول : قد أكل أصابعه حتى أفناها بالعض ، فأضحى يعض علي وظيف الذراع .

    والثاني : أنهم كانوا إذا جاءهم الرسول فقال : إني رسول ، قالوا له : اسكت ، وأشاروا بأصابعهم إلى أفواه أنفسهم ، ردا عليه وتكذيبا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #324
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
    الحلقة (324)
    صــ 349 إلى صــ 356


    [ ص: 349 ] والثالث : أنهم لما سمعوا كتاب الله ، عجوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والرابع : أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل . ردا لقولهم ، قاله الحسن .

    والخامس : أنهم كذبوهم بأفواههم ، وردوا عليهم قولهم ، قاله مجاهد ، وقتادة .

    والسادس : أنه مثل ، ومعناه : أنهم كفوا عما أمروا بقبوله من الحق ، ولم يؤمنوا به . يقال : رد فلان يده إلى فمه ، أي : أمسك فلم يجب ، قاله أبو عبيدة .

    والسابع : ردوا ما لو قبلوه لكان نعما وأيادي من الله ، فتكون الأيدي بمعنى : الأيادي ، و " في " بمعنى : الباء ، والمعنى : ردوا الأيادي بأفواههم ، ذكره الفراء ، وقال : قد وجدنا من العرب من يجعل " في " موضع الباء ، فيقول : أدخلك الله بالجنة ، يريد : في الجنة ، وأنشدني بعضهم :


    وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب


    فقال : أرغب فيها ، يعني : بنتا له ، يريد : أرغب بها ، وسنبس : قبيلة .

    قوله تعالى : " وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به " أي : على زعمكم أنكم أرسلتم ، لا أنهم أقروا بإرسالهم . وباقي الآية قد سبق تفسيره [هود :62] . " قالت رسلهم أفي الله شك " هذا استفهام إنكار ، والمعنى : لا شك في الله ، أي : في [ ص: 350 ] توحيده " يدعوكم " بالرسل والكتب " ليغفر لكم من ذنوبكم " قال أبو عبيدة : " من " زائدة ، كقوله : فما منكم من أحد عنه حاجزين [الحاقة :47] ، قال أبو ذؤيب :


    جزيتك ضعف الحب لما شكوته وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي


    أي : أحد . وقوله : " ويؤخركم إلى أجل مسمى " وهو الموت ، والمعنى : لا يعاجلكم بالعذاب . " قالوا " للرسل " إن أنتم " أي : ما أنتم " إلا بشر مثلنا " أي : ليس لكم علينا فضل ، والسلطان : الحجة ، قالت الرسل : " إن نحن إلا بشر مثلكم " فاعترفوا لهم بذلك ، " ولكن الله يمن على من يشاء " يعنون : بالنبوة والرسالة ، " وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله " أي : ليس ذلك من قبل أنفسنا .

    قوله تعالى : " وقد هدانا سبلنا " فيه قولان :

    أحدهما : بين لنا رشدنا . والثاني : عرفنا طريق التوكل . وإنما قص هذا وأمثاله على نبينا صلى الله عليه وسلم ليقتدي بمن قبله في الصبر ، وليعلم ما جرى لهم .

    قوله تعالى : " لنهلكن الظالمين " يعني : الكافرين بالرسل . وقوله تعالى : " من بعدهم " أي : بعد هلاكهم ، " ذلك " الإسكان " لمن خاف مقامي " قال ابن عباس : خاف مقامه بين يدي . قال الفراء : العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها ، وإلى ما أوقعت عليه ، فتقول : قد ندمت على ضربي إياك ، وندمت على ضربك ، فهذا من ذاك ، ومثله وتجعلون رزقكم [الواقعة :82] أي : رزقي إياكم .

    [ ص: 351 ] قوله تعالى : " وخاف وعيد " أثبت ياء " وعيدي " في الحالين يعقوب ، وتابعه ورش في الوصل .
    واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ .

    قوله تعالى : " واستفتحوا " يعني : استنصروا . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وحميد ، وابن محيصن : " واستفتحوا " بكسر التاء على الأمر .

    وفي المشار إليهم قولان :

    أحدهما : أنهم الرسل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

    والثاني : أنهم الكفار ، واستفتاحهم : سؤالهم العذاب ، كقولهم : ربنا عجل لنا قطنا [ص :16] وقولهم : إن كان هذا هو الحق من عندك . . . الآية [الأنفال :32] ، هذا قول ابن زيد .

    قوله تعالى : " وخاب كل جبار عنيد " قال ابن السائب : خسر عند الدعاء ، وقال مقاتل : خسر عند نزول العذاب ، وقال أبو سليمان الدمشقي : يئس من الإجابة . وقد شرحنا معنى الجبار والعنيد في (هود :59) .

    قوله تعالى : " من ورائه جهنم " فيه قولان :

    أحدهما : أنه بمعنى القدام ، قال ابن عباس : يريد ، أمامه جهنم . وقال أبو عبيدة : " من ورائه " أي : قدامه وأمامه ، يقال : الموت من ورائك ، وأنشد :

    [ ص: 352 ]
    أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا


    والثاني : أنها بمعنى : " بعد " قال ابن الأنباري : " من ورائه " أي : من بعد يأسه ، فدل " خاب " على اليأس ، فكنى عنه ، وحملت " وراء " على معنى : " بعد " كما قال النابغة :


    حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب


    أراد : ليس بعد الله مذهب . قال الزجاج : والوراء يكون بمعنى الخلف والقدام ، لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك ، قال الشاعر :


    أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع


    قال : وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة ، وسئل ثعلب : لم قيل : الوراء للأمام ؟ فقال : الوراء : اسم لما توارى عن عينك ، سواء أكان أمامك أو خلفك . وقال الفراء : إنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر ، تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد . ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك : هو وراءك ، ولا للرجل : وراءك : هو بين يديك .

    قوله تعالى : " ويسقى من ماء صديد " قال عكرمة ، ومجاهد ، واللغويون : الصديد : القيح والدم ، قاله قتادة ، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه . [ ص: 353 ] وقال القرظي : هو غسالة أهل النار ، وذلك ما يسيل من فروج الزناة . وقال ابن قتيبة : المعنى : يسقى الصديد مكان الماء ، قال : ويجوز أن يكون على التشبيه ، أي : ما يسقى ماء كأنه صديد .

    قوله تعالى : " يتجرعه " والتجرع : تناول المشروب جرعة جرعة ، لا في مرة واحدة ، وذلك لشدة كراهته له ، وإنما يكره على شربه .

    قوله تعالى : " ولا يكاد يسيغه " قال الزجاج : لا يقدر على ابتلاعه ، تقول : ساغ لي الشيء ، وأسغته . وروى أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقرب إليه فيكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره " .

    قوله تعالى : " ويأتيه الموت " أي : هم الموت وكربه وألمه " من كل مكان " وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : من كل شعرة في جسده ، رواه عطاء عن ابن عباس . وقال سفيان الثوري : من كل عرق . وقال ابن جريج : تتعلق نفسه عند حنجرته ، فلا تخرج من فيه فتموت ، ولا ترجع إلى مكانها فتجد راحة .

    [ ص: 354 ] والثاني : من كل جهة ، من فوقه وتحته ، وعن يمينه وشماله ، وخلفه وقدامه ، قاله ابن عباس أيضا .

    والثالث : أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار ، سماها موتا ، قاله الأخفش .

    قوله تعالى : " وما هو بميت " أي : موتا تنقطع معه الحياة . " ومن ورائه " أي : من بعد هذا العذاب . قال ابن السائب : من بعد الصديد " عذاب غليظ " . وقال إبراهيم التيمي : بعد الخلود في النار . والغليظ : الشديد .
    مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد

    قوله تعالى : " مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد " قال الفراء : أضاف المثل إليهم ، وإنما المثل للأعمال ، فالمعنى : مثل أعمال الذين كفروا . ومثله : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة [الزمر :60] ، أي : ترى وجوههم . وجعل العصوف تابعا لليوم في إعرابه ، وإنما العصوف للريح ، وذلك جائز على جهتين :

    إحداهما أن العصوف ، وإن كان للريح ، فإن اليوم يوصف به ، لأن الريح فيه تكون ، فجاز أن تقول : يوم عاصف ، كما تقول : يوم بارد ، ويوم حار .

    والوجه الآخر : أن تريد : في يوم عاصف الريح ، فتحذف الريح ، لأنها قد ذكرت في أول الكلام ، كما قال الشاعر :


    ويضحك عرفان الدروع جلودنا إذا كان يوم مظلم الشمس كاسف


    [ ص: 355 ] يريد : كاسف الشمس . وروي عن سيبويه أنه قال : في هذه الآية إضمار ، والمعنى : ومما نقص عليك مثل الذين كفروا ، ثم ابتدأ فقال : " أعمالهم كرماد " . وقرأ النخعي ، وابن يعمر ، والجحدري : " في يوم عاصف " بغير تنوين اليوم .

    قال المفسرون : ومعنى الآية : أن كل ما يتقرب به المشركون يحبط ولا ينتفعون به ، كالرماد الذي سفته الريح فلا يقدر على شيء منه ، فهم لا يقدرون مما كسبوا في الدنيا على شيء في الآخرة ، أي : لا يجدون ثوابه ، " ذلك هو الضلال البعيد " من النجاة .
    ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز

    قوله تعالى : " ألم تر " فيه قولان :

    أحدهما : أن معناه : ألم تخبر ، قاله ابن السائب . والثاني : ألم تعلم ، قاله مقاتل ، وأبو عبيدة .

    قوله تعالى : " خلق السماوات والأرض بالحق " قال المفسرون : أي : لم يخلقهن عبثا ، وإنما خلقهن لأمر عظيم . " إن يشأ يذهبكم " قال ابن عباس : يريد : يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوما غيركم خيرا منكم وأطوع ، وهذا خطاب لأهل مكة .

    قوله تعالى : " وما ذلك على الله بعزيز " أي : بممتنع متعذر .
    وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص

    [ ص: 356 ] قوله تعالى : " وبرزوا لله جميعا " لفظه لفظ الماضي ، ومعناه المستقبل ، والمعنى : خرجوا من قبورهم يوم البعث ، واجتمع التابع والمتبوع ، " فقال الضعفاء " وهم الأتباع " للذين استكبروا " وهم المتبوعون : " إنا كنا لكم تبعا " قال الزجاج : هو جمع تابع ، يقال : تابع ، وتبع ، مثل : غائب ، وغيب ، والمعنى : تبعناكم فيما دعوتمونا إليه .

    قوله تعالى : " فهل أنتم مغنون عنا " أي : دافعون عنا " من عذاب الله من شيء " قال القادة : " لو هدانا الله " أي : لو أرشدنا في الدنيا لأرشدناكم ، يريدون : أن الله أضلنا فدعوناكم إلى الضلال ، " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا " قال ابن زيد : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا نبكي ونضرع ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم ، فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم ، قالوا : تعالوا نصبر ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، فصبروا صبرا لم ير مثله قط ، فلم ينفعهم ذلك ، فعندها قالوا : " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " . وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال : جزعوا مائة سنة ، وصبروا مائة سنة . وقال مقاتل : جزعوا خمس مائة عام ، وصبروا خمس مائة عام . وقد شرحنا معنى المحيص في سورة (النساء :121)



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #325
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
    الحلقة (325)
    صــ 357 إلى صــ 364





    وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم وأدخل [ ص: 357 ] الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام قوله تعالى : " وقال الشيطان " قال المفسرون : يعني به إبليس ، " لما قضي الأمر " أي : فرغ منه ، فدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فحينئذ يجتمع أهل النار باللوم على إبليس ، فيقوم فيما بينهم خطيبا ويقول : " إن الله وعدكم وعد الحق " أي : وعدكم كون هذا اليوم فصدقكم " ووعدتكم " أنه لا يكون " فأخلفتكم " الوعد " وما كان لي عليكم من سلطان " أي : ما أظهرت لكم حجة على ما ادعيت . وقال بعضهم : ما كنت أملككم فأكرهكم " إلا أن دعوتكم " وهذا من الاستثناء المنقطع ، والمعنى : لكن دعوتكم " فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم " حيث أجبتموني من غير برهان ، " ما أنا بمصرخكم " أي : بمغيثكم " وما أنتم بمصرخي " أي : بمغيثي . قرأ حمزة " بمصرخي " فحرك الياء إلى الكسر ، وحركها الباقون إلى الفتح . قال قطرب : هي لغة في بني يربوع ، يعني : قراءة حمزة . قال اللغويون : يقال : استصرخني فلان فأصرخته ، أي : استغاثني فأغثته . " إني كفرت " اليوم بإشراككم إياي في الدنيا مع الله في الطاعة ، " إن الظالمين " يعني : المشركين .

    قوله تعالى : " بإذن ربهم " أي : بأمر ربهم . وقوله : " تحيتهم فيها سلام " قد ذكرناه في (يونس :10) .
    ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون

    قوله تعالى : " ألم تر كيف ضرب الله مثلا " قال المفسرون : ألم تر بعين [ ص: 358 ] قلبك فتعلم بإعلامي إياك كيف ضرب الله مثلا ، أي : بين شبها ، " كلمة طيبة " قال ابن عباس : هي شهادة أن لا إله إلا الله . " كشجرة طيبة " أي : طيبة الثمرة ، فترك ذكر الثمرة اكتفاء بدلالة الكلام عليه .

    وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها النخلة ، وهو في " الصحيحين " من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك في آخرين .

    والثاني : أنها شجرة في الجنة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .

    والثالث : أنها المؤمن ، وأصله الثابت أنه يعمل في الأرض ويبلغ عمله السماء . وقوله : " تؤتي أكلها كل حين " فالمؤمن يذكر الله كل ساعة من النهار ، رواه عطية عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " أصلها ثابت " أي : في الأرض ، " وفرعها " أعلاها عال " في السماء " أي : نحو السماء ، وأكلها : ثمرها ، وفي الحين ها هنا ستة أقوال :

    [ ص: 359 ] أحدها : أنه ثمانية أشهر ، قال علي عليه السلام .

    والثاني : ستة أشهر ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وقتادة .

    والثالث : أنه بكرة وعشية ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .

    والرابع : أنه السنة ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال مجاهد ، وابن زيد .

    والخامس : أنه شهران ، قاله سعيد بن المسيب .

    والسادس : أنه غدوة وعشية وكل ساعة ، قاله ابن جرير .

    فمن قال : ثمانية أشهر ، أشار إلى مدة حملها باطنا وظاهرا ، ومن قال : ستة أشهر ، فهي مدة حملها إلى حين صرامها ، ومن قال : بكرة وعشية ، أشار إلى الاجتناء منها ، ومن قال : سنة ، أشار إلى أنها لا تحمل في السنة إلا مرة ، ومن قال : شهران ، فهو مدة صلاحها . قال ابن المسيب : لا يكون في النخلة أكلها إلا شهرين . ومن قال : كل ساعة ، أشار إلى أن ثمرتها تؤكل دائما . قال قتادة : تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف . قال ابن جرير : الطلع في الشتاء من أكلها ، والبلح والبسر والرطب والتمر في الصيف .

    فأما الحكمة في تمثيل الإيمان بالنخلة ، فمن أوجه :

    أحدها : أنها شديدة الثبوت ، فشبه ثبات الإيمان في قلب المؤمن بثباتها .

    والثاني : أنها شديدة الارتفاع ، فشبه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها .

    والثالث : أن ثمرتها تأتي في كل حين ، فشبه ما يكسب المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين على اختلاف صنوفها ، فالمؤمن كلما قال : لا إله إلا الله ، صعدت إلى السماء ، ثم جاءه خيرها ومنفعتها .

    [ ص: 360 ] والرابع : أنها أشبه الشجر بالإنسان ، فإن كل شجرة يقطع رأسها تتشعب غصونها من جوانبها ، إلا هي ، إذا قطع رأسها يبست ، ولأنها لاتحمل حتى تلقح ، ولأنها فضلة تربة آدم عليه السلام فيما يروى .
    ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار

    قوله تعالى : " ومثل كلمة خبيثة " قال ابن عباس : هي الشرك .

    وقوله: " كشجرة خبيثة " فيها خمسة أقوال :

    أحدها : أنها الحنظلة ، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال أنس ، ومجاهد .

    والثاني : أنها الكافر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وروى العوفي عنه أنه قال : الكافر لا يقبل عمله ، ولا يصعد إلى الله تعالى ، فليس له أصل في الأرض ثابت ، ولا فرع في السماء .

    والثالث : أنها الكشوثى ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والرابع : أنه مثل ، وليست بشجرة مخلوقة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .

    [ ص: 361 ] والخامس : أنها الثوم ، روي عن ابن عباس أيضا .

    قوله تعالى : " اجتثت " قال ابن قتيبة : استؤصلت وقطعت . قال الزجاج : ومعنى اجتثثت الشيء في اللغة : أخذت جثته بكمالها .

    وفي قوله : " ما لها من قرار " قولان :

    أحدهما : ما لها من أصل ، لم تضرب في الأرض عرقا .

    والثاني : ما لها من ثبات .

    ومعنى تشبيه الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح ، ولا قول طيب ، ولا لقوله أصل ثابت .
    يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء

    قوله تعالى : " يثبت الله الذين آمنوا " أي : يثبتهم على الحق بالقول الثابت ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله .

    قوله تعالى : " في الحياة الدنيا وفي الآخرة " فيه قولان :

    أحدهما : أن الحياة الدنيا : زمان الحياة على وجه الأرض ، والآخرة : زمان المساءلة في القبر ، وإلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب ، وفيه أحاديث تعضده .

    والثاني : أن الحياة الدنيا : زمن السؤال في القبر ، والآخرة : السؤال في القيامة ، وإلى هذا المعنى ذهب طاووس ، وقتادة . قال المفسرون : هذه الآية وردت في فتنة القبر ، وسؤال الملكين ، وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة الحق عند السؤال ، وتثبيته إياه على الحق . " ويضل الله الظالمين " يعني : المشركين ، يضلهم عن هذه الكلمة ، " ويفعل الله ما يشاء " من هداية المؤمن وإضلال الكافر .
    [ ص: 362 ] ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار

    قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا " في المشار إليهم سبعة أقوال :

    أحدها : أنهم الأفجران من قريش : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، روي عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب .

    والثاني : أنهم منافقو قريش ، رواه أبو الطفيل عن علي .

    والثالث : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، ورؤساء أهل بدر الذين ساقوا أهل بدر إلى بدر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والرابع : أهل مكة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .

    والخامس : المشركون من أهل بدر ، قاله مجاهد ، وابن زيد .

    والسادس : أنهم الذين قتلوا ببدر من كفار قريش ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو مالك .

    والسابع : أنها عامة في جميع المشركين ، قاله الحسن . قال المفسرون : وتبديلهم نعمة الله كفرا ، أن الله أنعم عليهم برسوله ، وأسكنهم حرمه ، فكفروا بالله وبرسوله ، ودعوا قومهم إلى الكفر به ، فذلك قوله : " وأحلوا قومهم دار البوار " أي : الهلاك . ثم فسر الدار بقوله : " جهنم يصلونها " أي : يقاسون حرها " وبئس القرار " أي : بئس المقر هي .
    وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار

    [ ص: 363 ] قوله تعالى : " وجعلوا لله أندادا " قد بيناه في سورة (البقرة :22) ، واللام في " ليضلوا " لام العاقبة ، وقد سبق شرحها (يونس :88) ، ومن قرأ " ليضلوا " بضم الياء ، أراد : ليضلوا الناس عن دين الله .

    قوله تعالى : " قل تمتعوا " أي : في حياتكم الدنيا ، وهذا وعيد لهم . قال ابن عباس : لو كان الكافر مريضا لا ينام ، جائعا لا يأكل ولا يشرب ، لكان هذا نعيما يتمتع به بالقياس إلى ما يصير إليه من العذاب ، ولو كان المؤمن في أنعم عيش ، لكان بؤسا عندما يصير إليه من نعيم الآخرة .
    قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم

    قوله تعالى : " قل لعبادي الذين آمنوا " أسكن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ياء " عبادي " .

    قوله تعالى : " يقيموا الصلاة " قال ابن الأنباري : معناه : قل لعبادي : [ ص: 364 ] أقيموا الصلاة وأنفقوا ، يقيموا وينفقوا ، فحذف الأمران ، وترك الجوابان ، قال الشاعر :


    فأي امرئ أنت أي امرئ إذا قيل في الحرب من يقدم


    أراد : إذا قيل : من يقدم تقدم . ويجوز أن يكون المعنى : قل لعبادي أقيموا الصلاة ، وأنفقوا ، فصرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر . ويجوز أن يكون المعنى : قل لهم ليقيموا الصلاة ، ولينفقوا ، فحذف لام الأمر ، لدلالة " قل " عليها . قال ابن قتيبة : والخلال مصدر خاللت فلانا خلالا ومخالة ، والاسم الخلة ، وهي الصداقة .

    قوله تعالى : " وسخر لكم الأنهار " أي : ذللها ، تجري حيث تريدون ، وتركبون فيها حيث تشاؤون . " وسخر لكم الشمس والقمر " لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما " دائبين " في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره ، لا يفتران . ومعنى الدؤوب : مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه . " وسخر لكم الليل " لتسكنوا فيه ، راحة لأبدانكم ، " والنهار " لتنتفعوا بمعاشكم ، " وآتاكم من كل ما سألتموه " وفيه خمسة أقوال :

    أحدها : أن المعنى : من كل الذي سألتموه ، قاله الحسن ، وعكرمة .

    والثاني : من كل ما سألتموه ، لو سألتموه ، قاله الفراء .

    والثالث : وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا ، فأضمر الشيء ، كقوله : وأوتيت من كل شيء [النمل :23] أي : من كل شيء في زمانها شيئا ، قاله الأخفش .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #326
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
    الحلقة (326)
    صــ 365 إلى صــ 372




    والرابع : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه ، لأنكم لم تسألوا شمسا ولا قمرا [ ص: 365 ] ولا كثيرا من النعم التي ابتدأكم بها ، فاكتفي بالأول من الثاني ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر [النحل :81] ، قاله ابن الأنباري .

    الخامس : على قراءة ابن مسعود ، وأبي رزين ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، وأبان عن عاصم ، وأبي حاتم عن يعقوب : " من كل ما " بالتنوين من غير إضافة ، فالمعنى : آتاكم من كل ما لم تسألوه ، قاله قتادة ، والضحاك .

    قوله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله " أي : إنعامه " لا تحصوها " لا تطيقوا الإتيان على جميعها بالعد لكثرتها . " إن الإنسان " قال ابن عباس : يريد أبا جهل . وقال الزجاج : الإنسان اسم للجنس يقصد به الكافر خاصة .

    قوله تعالى : " لظلوم كفار " الظلوم هاهنا : الشاكر غير من أنعم عليه ، والكفار : الجحود لنعم الله تعالى .

    قوله تعالى : " اجعل هذا البلد آمنا " قد سبق تفسيره في سورة (البقرة :126) .

    قوله تعالى : " واجنبني وبني " أي : جنبني وإياهم ، والمعنى : ثبتني على اجتناب عبادتها . " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس " يعني : الأصنام ، وهي لا توصف بالإضلال ولا بالفعل ، ولكنهم لما ضلوا بسببها ، كانت كأنها أضلتهم . " فمن تبعني " أي : على ديني التوحيد " فإنه مني " أي : فهو على ملتي ، " ومن عصاني فإنك غفور رحيم " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : ومن عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم ، قاله السدي .

    والثاني : ومن عصاني فيما دون الشرك ، قاله مقاتل بن حيان .

    والثالث : ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إلى التوحيد ، قاله مقاتل بن سليمان . وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يعلمه الله تعالى أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه .
    [ ص: 366 ] ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون

    قوله تعالى : " ربنا إني أسكنت من ذريتي " في " من " قولان :

    أحدهما : أنها للتبعيض ، قاله الأخفش ، والفراء .

    والثاني : أنها للتوكيد . والمعنى : أسكنت ذريتي ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى : بواد غير ذي زرع يعني : مكة ، ولم يكن فيها حرث ولا ماء عند " بيتك المحرم " إنما سمي محرما ، لأنه يحرم استحلال محرماته والاستخفاف بحقه .

    فإن قيل : ما وجه قوله : " عند بيتك المحرم " ولم يكن هناك بيت حينئذ ، إنما بناه إبراهيم بعد ذلك بمدة ؟

    فالجواب من ثلاثة وجوه :

    أحدها : أن الله تعالى حرم موضع البيت منذ خلق السموات والأرض ، قاله ابن السائب .

    والثاني : عند بيتك الذي كان قبل أن يرفع أيام الطوفان .

    والثالث : عند بيتك الذي قد جرى في سابق علمك أنه يحدث هاهنا ذكرهما ابن جرير . وكان أبو سليمان الدمشقي يقول : ظاهر الكلام يدل على أن هذا الدعاء إنما كان بعد أن بني البيت وصارت مكة بلدا . والمفسرون على خلاف ما قال . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إبراهيم خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكة وبها ناس يقال لهم : العماليق ، خارجا من [ ص: 367 ] مكة ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم ; فأنزلهما في مكان من الحجر ، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا ، ثم قال : " ربنا إني أسكنت من ذريتي . . . " الآية . وفتح أهل الحجاز وأبو عمرو ياء " إني أسكنت " .

    قوله تعالى : " ربنا ليقيموا الصلاة " في متعلق هذه اللام قولان :

    أحدهما : أنها تتعلق بقوله : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " فالمعنى : جنبهم الأصنام ليقيموا الصلاة ، هذا قول مقاتل .

    والثاني : أنها تتعلق بقوله : " أسكنت " فالمعنى : أسكنتهم عند بيتك ليقيموا الصلاة ، لأن البيت قبلة الصلوات ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " فاجعل أفئدة من الناس " أي : قلوب جماعة من الناس . قال ابن الأنباري : وإنما عبر عن القلوب بالأفئدة ، لقرب القلب من الفؤاد ومجاورته ، قال امرؤ القيس :


    رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أنتصر


    وقال آخر :
    كأن فؤادي كلما مر راكب جناح غراب رام نهضا إلى وكر


    وقال آخر :


    وإن فؤادا قادني لصبابة إليك على طول الهوى لصبور


    يعنون : بالفؤاد : القلب .

    قوله تعالى : " تهوي إليهم " قال ابن عباس : تحن إليهم ، وقال قتادة : [ ص: 368 ] تنزع إليهم . وقال الفراء : تريدهم ، كما تقول : رأيت فلانا يهوي نحوك ، أي : يريدك . وقرأ بعضهم : " تهوى إليهم " بمعنى : تهواهم ، كقوله : ردف لكم [النمل :72] . أي : ردفكم . و " إلى " توكيد للكلام . وقال ابن الأنباري : " تهوي إليهم " : تنحط إليهم وتنحدر .

    وفي معنى هذا الميل قولان :

    أحدهما : أنه الميل إلى الحج ، قاله الأكثرون .

    والثاني : أنه حب سكنى مكة ، رواه عطية عن ابن عباس . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لو كان إبراهيم قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، لحجه اليهود والنصارى ، ولكنه قال : من الناس .
    ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء

    قوله تعالى : " ربنا إنك تعلم ما نخفي " قال أبو صالح عن ابن عباس : ما نخفي من الوجد بمفارقة إسماعيل ، وما نعلن من الحب له . قال المفسرون : إنما قال هذا لما نزل إسماعيل الحرم ، وأراد فراقه .
    الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء

    قوله تعالى : " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر " أي : بعد الكبر " إسماعيل وإسحاق " قال ابن عباس : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة .

    [ ص: 369 ] قوله تعالى : " ربنا وتقبل دعائي " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وهبيرة ، عن حفص عن عاصم : " وتقبل دعائي " بياء في الوصل . وقال البزي عن ابن كثير : يصل ويقف بياء . وقال قنبل عن ابن كثير : يشم الياء في الوصل ، ولا يثبتها ، ويقف عليها بالألف . الباقون " دعاء " بغير ياء في الحالين . قال أبو علي : الوقف والوصل بياء هو القياس ، والإشمام جائز ، لدلالة الكسرة على الياء .
    ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب

    قوله تعالى : " ربنا اغفر لي ولوالدي " قال ابن الأنباري : استغفر لأبويه وهما حيان ، طمعا في أن يهديا إلى الإسلام . وقيل : أراد بوالديه : آدم وحواء . وقرأ ابن مسعود ، وأبي ، والنخعي ، والزهري : " ولولدي " يعني : إسماعيل وإسحاق، يدل عليه ذكرهما قبل ذلك . وقرأ مجاهد : " ولوالدي " علي التوحيد . وقرأ عاصم الجحدري : " ولولدي " بضم الواو . وقرأ يحيى بن يعمر ، والجوني : " ولولدي " بفتح الواو وكسر الدال على التوحيد . " يوم يقوم الحساب " أي : يظهر الجزاء على الأعمال . وقيل : معناه : يوم يقوم الناس للحساب ، فاكتفي بذكر الحساب من ذكر الناس إذ كان المعنى مفهوما .
    ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء

    قوله تعالى : " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " قال ابن عباس : هذا وعيد للظالم ، وتعزية للمظلوم .

    [ ص: 370 ] قوله تعالى : " إنما يؤخرهم " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو رزين ، وقتادة ، " نؤخرهم " بالنون ، أي : يؤخر جزاءهم " ليوم تشخص فيه الأبصار " أي : تشخص أبصار الخلائق لظهور الأحوال فلا تغتمض .

    قوله تعالى : " مهطعين " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن الإهطاع : النظر من غير أن يطرف الناظر ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضحاك ، وأبو الضحى .

    والثاني : أنه الإسراع ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وأبو عبيدة . وقال ابن قتيبة : يقال : أهطع البعير في سيره ، واستهطع : إذا أسرع .

    وفي ما أسرعوا إليه قولان : أحدهما : إلى الداعي ، قاله قتادة . والثاني : إلى النار ، قاله مقاتل .

    والثالث : أن المهطع : الذي لا يرفع رأسه ، قاله ابن زيد .

    وفي قوله : " مقنعي رءوسهم " قولان :

    أحدهما : رافعي رؤوسهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، وأنشد أبو عبيدة :


    أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنما أبصر شيئا أطمعا


    وقال ابن قتيبة : المقنع رأسه : الذي رفعه وأقبل بطرفه على ما بين يديه . وقال الزجاج : رافعي رؤوسهم ، ملتصقة بأعناقهم . و " مهطعين مقنعي رءوسهم " نصب على الحال ، المعنى : ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين .

    [ ص: 371 ] والثاني : ناكسي رؤوسهم ، حكاه الماوردي عن المؤرج .

    قوله تعالى : " لا يرتد إليهم طرفهم " أي : لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر ، فهي شاخصة . قال ابن قتيبة : والمعنى : أن نظرهم إلى شيء واحد . وقال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء ، لا ينظر أحد إلى أحد .

    قوله تعالى : " وأفئدتهم هواء " الأفئدة : مساكن القلوب .

    وفي معنى الكلام أربعة أقوال :

    أحدها : أن القلوب خرجت من مواضعها فصارت في الحناجر ، رواه عطاء عن ابن عباس . وقال قتادة : خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم ، فأفئدتهم هواء ليس فيها شيء .

    والثاني : وأفئدتهم ليس فيها شيء من الخير ، فهي كالخربة ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : وأفئدتهم منخرقة لا تعي شيئا ، قاله مرة بن شراحبيل . وقال الزجاج : متخرقة لا تعي شيئا من الخوف .

    والرابع : وأفئدتهم جوف لا عقول لها ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لحسان :


    ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء


    فعلى هذا يكون المعنى : أن قلوبهم خلت عن العقول ، لما رأوا من الهول . والعرب تسمي كل أجوف خاو : هواء . قال ابن قتيبة : ويقال أفئدتهم منخوبة من الخوف والجبن .
    [ ص: 372 ] وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال

    قوله تعالى : " وأنذر الناس " أي : خوفهم " يوم يأتيهم العذاب " يعني به : يوم القيامة ; وإنما خصه بذكر العذاب ، وإن كان فيه ثواب ، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعصاة . قال ابن عباس : يريد بالناس هاهنا : أهل مكة .

    قوله تعالى : " فيقول الذين ظلموا " أي : أشركوا " ربنا أخرنا إلى أجل قريب " أي : أمهلنا مدة يسيرة . وقال مقاتل : سألوا الرجوع إلى الدنيا ، لأن الخروج من الدنيا قريب . " نجب دعوتك " يعني : التوحيد ، فيقال لهم : " أولم تكونوا أقسمتم من قبل " أي : حلفتم في الدنيا أنكم لا تبعثون ولا تنتقلون من الدنيا إلى الآخرة .
    وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال

    قوله تعالى : " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم " أي : نزلتم في أماكنهم وقراهم ، كالحجر ومدين ، والقرى التي عذب أهلها . ومعنى " ظلموا أنفسهم " أي : ضروها بالكفر والمعصية . " وتبين لكم " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو المتوكل الناجي " وتبين " بضم التاء . " كيف فعلنا بهم " يعني : كيف عذبناهم ، يقول : فكان ينبغي لكم أن تنـزجروا عن المخالفة اعتبارا بمساكنهم بعدما علمتم فعلنا بهم ، " وضربنا لكم الأمثال " قال ابن عباس : يريد الأمثال التي في القرآن .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #327
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الْحِجْرِ

    الحلقة (327)
    صــ 373 إلى صــ 380






    [ ص: 373 ] وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام

    قوله تعالى : " وقد مكروا مكرهم " في المشار إليهم أربعة أقوال :

    أحدها : أنه نمرود الذي حاج إبراهيم في ربه ، قال : لا أنتهي حتى أنظر إلى السماء ، فأمر بفرخي نسر فربيا حتى سمنا واستعلجا ، ثم أمر بتابوت فنحت ، ثم جعل في وسطه خشبة ، وجعل على رأس الخشبة لحما شديد الحمرة ، ثم جوعهما وربط أرجلهما بأوتار إلى قوائم التابوت . ودخل هو وصاحب له في التابوت وأغلق بابه ، ثم أرسلهما ، فجعلا يريدان اللحم ، فصعدا في السماء ما شاء الله ، ثم قال لصاحبه : افتح وانظر ماذا ترى ؟ ففتح ، فقال : أرى الأرض كأنها الدخان ، فقال له : أغلق ، ثم صعد ما شاء الله ، ثم قال : افتح فانظر ، ففتح ، فقال : ما أرى إلا السماء ، وما نزداد منها إلا بعدا ، قال : فصوب خشبتك ، فصوبها ، فانقضت النسور تريد اللحم ، فسمعت الجبال هدتها ، فكادت تزول عن مراتبها . هذا قول علي بن أبي طالب . وفي رواية عنه : كانت النسور أربعة . وروى السدي عن أشياخه : أنه مازال يصعد إلى أن رأى الأرض يحيط بها بحر ، فكأنها فلكة في ماء ، ثم صعد حتى وقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته ، ففزع ، فصوب اللحم ، فانقضت النسور ، فلما نزل أخذ في بناء الصرح . ثم صعد منه مع النسور ، فلما لم يقدر على السماء ، اتخذه حصنا ، فأتى الله بنيانه من القواعد . وقال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب ، فرمى بسهم فعاد إليه ملطخا بالدم ، فقال : كفيت إله السماء ، وذلك من دم سمكة في بحر معلق في الهواء ، فلما هاله الارتفاع ، [ ص: 374 ] قال لصاحبه : صوب الخشبة ، فصوبها ، فانحطت النسور ، فظنت الجبال أنه أمر نزل من السماء فزالت عن مواضعها . وقال غيره : لما رأت الجبال ذلك ، ظنت أنه قيام الساعة ، فكادت تزول ، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير ، وأبو مالك .

    والقول الثاني : أنه بختنصر ، وأن هذه القصة له جرت ، وأن النسور لما ارتفعت تطلب اللحم إلى حيث شاء الله ، نودي : يا أيها الطاغية ، أين تريد ؟ ففرق ، ثم سمع الصوت فوقه ، فنزل ، فلما رأت الجبال ذلك ، ظنت أنه قيام الساعة فكادت تزول ، وهذا قول مجاهد .

    والثالث : أن المشار إليهم الأمم المتقدمة . قال ابن عباس ، وعكرمة : مكرهم : شركهم .

    والرابع : أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم حين هموا بقتله وإخراجه .

    وفي قوله : " وعند الله مكرهم " قولان :

    أحدهما : أنه محفوظ عنده حتى يجازيهم به ، قاله الحسن ، وقتادة . والثاني : وعند الله جزاء مكرهم .

    قوله تعالى : " وإن كان مكرهم " وقرأ أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية : " وإن كاد مكرهم " بالدال . " لتزول منه الجبال " . وقرأ الأكثرون " لتزول " بكسر اللام الأولى من " لتزول " وفتح الثانية . أراد : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي : هو أضعف وأوهن ، كذلك فسرها الحسن البصري . وقرأ الكسائي " لتزول " بفتح اللام الأولى وضم الثانية ، أراد : قد كادت الجبال تزول من مكرهم ، كذلك فسرها ابن الأنباري .

    وفي المراد بالجبال قولان :

    أحدهما : أنها الجبال المعروفة ، قاله الجمهور .

    والثاني : أنها ضربت مثلا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وثبوت دينه كثبوت الجبال [ ص: 375 ] الراسية ، والمعنى : لو بلغ كيدهم إلى إزالة الجبال ، لما زال أمر الإسلام ، قاله الزجاج . قال أبو علي : ويدل على صحة هذا قوله : " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " أي : فقد وعدك الظهور عليهم . قال ابن عباس : يريد بوعده : النصر والفتح وإظهار الدين . " إن الله عزيز " أي : منيع " ذو انتقام " من الكافرين ، وهو أن يجازيهم بالعقوبة على كفرهم .
    يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار

    قوله تعالى : " يوم تبدل الأرض غير الأرض " وروى أبان " يوم نبدل " بالنون وكسر الدال " الأرض " بالنصب ، " والسموات " بخفض التاء ، ولا خلاف في نصب " غير " .

    وفي معنى تبديل الأرض قولان :

    أحدهما : أنها تلك الأرض ، وإنما يزاد فيها وينقص منها ، وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها ، وتمد مد الأديم ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس . وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " يوم تبدل الأرض غير الأرض " قال : يبسطها ويمدها مد الأديم " .

    [ ص: 376 ] والثاني : أنها تبدل بغيرها . ثم فيه أربعة أقوال : أحدها : أنها تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يعمل عليها خطيئة ، رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ، وعطاء عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد . والثاني : أنها تبدل نارا ، قاله أبي بن كعب . والثالث : أنها تبدل بأرض من فضة ، قاله أنس بن مالك . والرابع : تبدل بخبزة بيضاء ، فيأكل المؤمن من تحت قدميه ، قاله أبو هريرة ، وسعيد بن جبير ، والقرظي . وقال غيرهم : يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغ من حسابهم .

    فأما تبديل السموات ، ففيه ستة أقوال :

    أحدها : أنها تجعل من ذهب ، قاله علي عليه السلام . والثاني : أنها تصير جنانا ، قاله أبي بن كعب . والثالث : أن تبديلها : تكوير شمسها وتناثر نجومها ، قاله ابن عباس . والرابع : أن تبديلها : اختلاف أحوالها ، فمرة كالمهل ، ومرة تكون كالدهان ، قاله ابن الأنباري . والخامس : أن تبديلها أن تطوى كطي السجل للكتاب . والسادس : أن تنشق فلا تظل ، ذكرهما الماوردي .

    قوله تعالى : " وبرزوا لله الواحد القهار " أي : خرجوا من القبور .
    وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب

    قوله تعالى : " وترى المجرمين " يعني : الكفار " مقرنين " يقال : قرنت الشيء إلى الشيء : إذا وصلته به .

    [ ص: 377 ] وفي معنى " مقرنين " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم يقرنون مع الشياطين ، قاله ابن عباس . والثاني : أن أيديهم وأرجلهم قرنت إلى رقابهم ، قاله ابن زيد . والثالث : يقرن بعضهم إلى بعض ، قاله ابن قتيبة .

    وفي الأصفاد ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها الأغلال ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج ، وابن الأنباري . والثاني : القيود والأغلال ، قاله قتادة . والثالث : القيود ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    فأما السرابيل ، فقال أبو عبيدة : هي القمص ، واحدها سربال . وقال الزجاج : السربال : كل ما لبس . وفي القطران ثلاث لغات : فتح القاف وكسر الطاء ، وفتح القاف مع تسكين الطاء ، وكسر القاف مع تسكين الطاء .

    وفي معناه قولان :

    أحدهما : أنه النحاس المذاب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني : أنه قطران الإبل ، قاله الحسن ، وهو شيء يتحلب من شجر تهنأ به الإبل . قال الزجاج : وإنما جعل لهم القطران ، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ، ولو أراد الله تعالى المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ، ولكنه حذرهم ما يعرفون حقيقته . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن أبي عبلة ، وأبو حاتم عن يعقوب : " من قطر " بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين " آن " بقطع الهمزة وفتحها ومدها . والقطر : النحاس ، وآن قد انتهى حره .

    [ ص: 378 ] قوله تعالى : " وتغشى وجوههم النار " أي : تعلوها . واللام في " ليجزي " متعلقة بقوله : " وبرزوا " .
    هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب

    قوله تعالى : " هذا بلاغ للناس " في المشار إليه قولان :

    أحدهما : أنه القرآن . والثاني : الإنذار . والبلاغ : الكفاية . قال مقاتل : والمراد بالناس : أهل مكة .

    قوله تعالى : " ولينذروا به " أي : أنزل لينذروا به ، وليعلموا بما فيه من الحجج " أنما هو إله واحد ، وليذكر " أي : وليتعظ " أولو الألباب " .
    سُورَةُ الْحِجْرِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ " قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ [يُونُسَ :1] .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَقُرْآنٍ مُبِينٍ " فِيهِ قَوْلَانِ :

    أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقُرْآنَ : هُوَ الْكِتَابُ ، جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الْاسْمَيْنِ .

    وَالثَّانِي : أَنَّ الْكِتَابَ : هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ ، وَالْقُرْآنَ : كِتَابُنَا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ يُوسُفَ مَعْنَى الْمُبِينِ .
    ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين

    قوله تعالى : " ربما " وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي " ربما " مشددة . وقرأ نافع ، وعاصم ، وعبد الوارث " ربما " بالتخفيف . قال الفراء : أسد وتميم يقولون : " ربما " بالتشديد ، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون : " ربما " بالتخفيف . وتيم الرباب يقولون : " ربما " بفتح الراء . وقيل : إنما قرئت بالتخفيف ، لما فيها من التضعيف ، والحروف [ ص: 380 ] المضاعفة قد تحذف ، نحو " إن " و " لكن " فإنهم قد خففوها . قال الزجاج : يقولون : رب رجل جاءني ، ورب رجل جاءني ، وأنشد :


    أزهير إن يشب القذال فإنني رب هيضل مرس لففت بهيضل


    هذا البيت لأبي كبير الهذلي ، وفي ديوانه :

    رب هيضل لجب لففت بهيضل

    والهيضل : جمع هيضلة ، وهي الجماعة يغزى بهم ، يقول : لففتهم بأعدائهم في القتال . و " رب " كلمة موضوعة للتقليل ، كما أن " كم " للتكثير ، وإنما زيدت " ما " مع " رب " ليليها الفعل ، تقول : رب رجل جاءني ، وربما جاءني زيد . وقال الأخفش : أدخل مع " رب " ما ، ليتكلم بالفعل بعدها ، وإن شئت جعلت " ما " بمنزلة " شيء " ، فكأنك قلت : رب شيء ، أي : رب ود يوده الذين كفروا . وقال أبو سليمان الدمشقي : " ما " هاهنا بمعنى " حين " فالمعنى : رب حين يودون فيه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #328
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الْحِجْرِ
    الحلقة (328)
    صــ 381 إلى صــ 388





    واختلف المفسرون متى يقع هذا من الكفار ، على قولين :

    أحدهما : أنه في الآخرة . ومتى يكون ذلك ؟ فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين ؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم ، وقد صرتم معنا في النار ؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ; فسمع الله ما قالوا ، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا ، فلما رأى ذلك الكفار ، قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما أخرجوا ، رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 381 ] وذهب إليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وإبراهيم . والثاني : أنه ما يزال الله يرحم ويشفع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، فذلك حين يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، رواه مجاهد عن ابن عباس . والثالث : أن الكفار إذا عاينوا القيامة ، ودوا لو كانوا مسلمين ، ذكره الزجاج . والرابع : أنه كلما رأى أهل الكفر حالا من أحوال القيامة يعذب فيها الكافر ويسلم من مكروهها المؤمن ، ودوا ذلك ، ذكره ابن الأنباري .

    والقول الثاني : أنه في الدنيا ، إذا عاينوا وتبين لهم الضلال من الهدى وعلموا مصيرهم ، ودوا ذلك ، قاله الضحاك .

    فإن قيل : إذا قلتم : إن " رب " للتقليل ، وهذه الآية خارجة مخرج الوعيد ، فإنما يناسب الوعيد تكثير ما يتواعد به ، فعنه ثلاثة أجوبة ذكرهما ابن الأنباري :

    أحدهن : أن " ربما " تقع على التقليل والتكثير ، كما يقع الناهل على العطشان والريان ، والجون على الأسود والأبيض .

    والثاني : أن أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثر عليهم ، فإذا عادت إليهم عقولهم ، ودوا ذلك .

    [ ص: 382 ] والثالث : أن هذا الذي خوفوا به ، لو كان مما يود في حال واحدة من أحوال العذاب ، أو كان الإنسان يخاف الندم إذا حصل فيه ولا يتيقنه ، لوجب عليه اجتنابه .

    فإن قيل : كيف جاء بعد " ربما " مستقبل ، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي ، تقول : ربما لقيت عبد الله ؟

    فالجواب : أن ما وعد الله حق ، فمستقبله بمنزلة الماضي ، يدل عليه قوله : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم [المائدة :116] وقوله : ونادى أصحاب الجنة [الأعراف :44] ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت [سبإ :51] ، على أن الكسائي والفراء حكيا عن العرب أنهم يقولون : ربما يندم فلان ، قال الشاعر :


    ربما تجزع النفوس من الأمـ ـر له فرجة كحل العقال

    ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون

    قوله تعالى : " ذرهم يأكلوا " أي : دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا ، " ويلههم الأمل " أي : ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظهم من الإيمان والطاعة " فسوف يعلمون " إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا ، وهذا وعيد وتهديد ، وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف .
    وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون

    قوله تعالى : " وما أهلكنا من قرية " أي : ما عذبنا من أهل قرية " إلا [ ص: 383 ] ولها كتاب معلوم " أي : أجل مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر عنه . " ما تسبق من أمة أجلها " " من " صلة ، والمعنى : ما تتقدم وقتها الذي قدر لها بلوغه ، ولا تستأخر عنه . قال الفراء : إنما قال : " أجلها " لأن الأمة لفظها مؤنث ، وإنما قال : " يستأخرون " إخراجا له على معنى الرجال .
    وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين

    قوله تعالى : " وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر " قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي أمية ، والنضر بن الحارث ، ونوفل بن خويلد ، والوليد بن المغيرة . قال ابن عباس : والذكر : القرآن . وإنما قالوا هذا استهزاء ، لو أيقنوا أنه نزل عليه الذكر ، ما قالوا : " إنك لمجنون " . قال أبو علي الفارسي : وجواب هذه الآية في سورة أخرى في قوله : ما أنت بنعمة ربك بمجنون [القلم :2] .

    قوله تعالى : " لو ما تأتينا " قال الفراء : " لوما " و " لولا " لغتان معناهما : هلا ، وكذلك قال أبو عبيدة : هما بمعنى واحد ، وأنشد لابن مقبل :


    لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري


    قال المفسرون : إنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه ، وأن الله أرسله ، فأجابهم الله تعالى بقوله : " ما ننـزل الملائكة إلا بالحق " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر " ما تنـزل " بالتاء المفتوحة " الملائكة " بالرفع . وروى أبو بكر [ ص: 384 ] عن عاصم " ما تنـزل " بضم التاء على ما لم يسم فاعله . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف " ما ننـزل " بالنون والزاي المشددة " الملائكة " نصبا .

    وفي المراد بالحق أربعة أقوال :

    أحدها : أنه العذاب إن لم يؤمنوا ، قاله الحسن . والثاني : الرسالة ، قاله مجاهد . والثالث : قبض الأرواح عند الموت ، قاله ابن السائب . والرابع : أنه القرآن ، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى : " وما كانوا " يعني : المشركين " إذا منظرين " أي : عند نزول الملائكة إذا نزلت .
    إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون

    قوله تعالى : " إنا نحن نزلنا الذكر " من عادة الملوك إذا فعلوا شيئا ، قال أحدهم : نحن فعلنا ، يريد نفسه وأتباعه ، ثم صار هذا عادة للملك في خطابه ، وإن انفرد بفعل الشيء ، فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها . والذكر : القرآن ، في قول جميع المفسرين .

    وفي هاء " له " قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الذكر ، قاله الأكثرون . قال قتادة : أنزله الله ثم حفظه ، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ، ولا ينقص منه حقا .

    والثاني : أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : " وإنا له لحافظون " من الشياطين والأعداء ، لقولهم : " إنك لمجنون " ، هذا قول ابن السائب، ومقاتل .
    ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين

    قوله تعالى : " ولقد أرسلنا من قبلك " يعني : رسلا فحذف المفعول ، [ ص: 385 ] لدلالة الإرسال عليه . والشيع : الفرق ، وحكي عن الفراء أنه قال : الشيعة : الأمة المتابعة بعضها بعضا فيما يجتمعون عليه من أمر .
    وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون

    قوله تعالى : " وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون " هذا تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : إن كل نبي قبلك كان مبتلى بقومه كما ابتليت .
    كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين

    قوله تعالى : " كذلك نسلكه " في المشار إليه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الشرك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد .

    والثاني : أنه الاستهزاء ، قاله قتادة .

    والثالث : التكذيب ، قاله ابن جريج ، والفراء .

    ومعنى الآية : كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين ، ندخل في قلوب هؤلاء التكذيب فلا يؤمنوا . ثم أخبر عن هؤلاء المشركين ، فقال : " لا يؤمنون به " . وفي المشار إليه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الرسول . والثاني : القرآن . والثالث : العذاب .

    قوله تعالى : " وقد خلت سنة الأولين " فيه قولان :

    أحدهما : مضت سنة الله في إهلاك المكذبين .

    والثاني : مضت سنتهم بتكذيب الأنبياء .
    ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون

    [ ص: 386 ] قوله تعالى : " ولو فتحنا عليهم بابا من السماء " يعني : كفار مكة " فظلوا فيه يعرجون " أي : يصعدون ، يقال : ظل يفعل كذا : إذا فعله بالنهار .

    وفي المشار إليهم بهذا الصعود قولان :

    أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، فالمعنى : لو كشف عن أبصار هؤلاء فرأوا بابا مفتوحا في السماء والملائكة تصعد فيه ، لما آمنوا به .

    والثاني : أنهم المشركون ، قاله الحسن ، وقتادة ، فيكون المعنى : لو وصلناهم إلى صعود السماء ، لم يستشعروا إلا الكفر ، لعنادهم .

    قوله تعالى : " لقالوا إنما سكرت أبصارنا " قرأ الأكثرون بتشديد الكاف . وقرأ ابن كثير ، وعبد الوارث بتخفيفها . قال الفراء : ومعنى القراءتين متقارب ، والمعنى : حبست ، من قولهم : سكرت الريح : إذا سكنت وركدت . وقال أبو عمرو بن العلاء : معنى " سكرت " بالتخفيف ، مأخوذ من سكر الشراب ، يعني : أن الأبصار حارت ، ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل ، قال ابن الأنباري : إذا كان هذا كان معنى التخفيف ، فسكرت ، بالتشديد ، يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد مرة . وقال أبو عبيد : " سكرت " بالتشديد ، من السكور التي تمنع الماء الجرية ، فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري . وقال الزجاج : " سكرت " بالتشديد ، فسروها : أغشيت ، و " سكرت " بالتخفيف : تحيرت وسكنت عن أن تنظر ، والعرب تقول : سكرت الريح تسكر : إذا سكنت . وروى العوفي عن ابن عباس : " إنما سكرت أبصارنا " قال : أخذ بأبصارنا وشبه علينا ، وإنما سحرنا . وقال مجاهد : " سكرت " سدت بالسحر ، فيتماثل لأبصارنا غير ما ترى .
    [ ص: 387 ] ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين

    قوله تعالى : " ولقد جعلنا في السماء بروجا " في البروج ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها بروج الشمس والقمر ، أي : منازلها ، قاله ابن عباس وأبو عبيدة في آخرين . قال ابن قتيبة : وأسماؤها : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت .

    والثاني : أنها قصور ، روي عن ابن عباس أيضا . وقال عطية : هي قصور في السماء فيها الحرس . وقال ابن قتيبة : أصل البروج : الحصون .

    والثالث : أنها الكواكب ، قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل . قال أبو صالح : هي النجوم العظام . قال قتادة : سميت بروجا ، لظهورها .

    قوله تعالى : " وزيناها " أي : حسناها بالكواكب .

    وفي المراد بالناظرين قولان : أحدهما : أنهم المبصرون . والثاني : المعتبرون .

    قوله تعالى : " وحفظناها من كل شيطان رجيم " أي : حفطناها أن يصل إليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئا إلا استراقا ، ثم يتبعه الشهاب . والرجيم مشروح في (آل عمران :36) .

    واختلف العلماء : هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم ، أم لا ؟ على قولين :

    أحدهما : أنها لم ترم حتى بعث صلى الله عليه وسلم ، وهذا المعنى : مذكور في رواية [ ص: 388 ] سعيد بن جبير عن ابن عباس . وقد أخرج في " الصحيحين " من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب " ، وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك . قال الزجاج : ويدل على أنها إنما كانت بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعراء العرب الذين يمثلون بالبرق والأشياء المسرعة لم يوجد في أشعارها ذكر الكواكب المنقضة ، فلما حدثت بعد مولد نبينا صلى الله عليه وسلم استعملت الشعراء ذكرها ، فقال ذو الرمة :


    كذا كوكب في إثر عفرية مسوم في سواد الليل منقضب


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #329
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الْحِجْرِ
    الحلقة (329)
    صــ 389 إلى صــ 396




    والثاني : أنه قد كان ذلك قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، فروى مسلم في " صحيحه " [ ص: 389 ] من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه ، إذ رمي بنجم ، فاستنار ، فقال : " ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية " ؟ قالوا : كنا نقول : يموت عظيم ، أو يولد عظيم ، قال : " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا إذا قضى أمرا ، سبح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء ، ثم يستخبر أهل السماء السابعة حملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ثم يستخبر أهل كل سماء أهل سماء ، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن ويرمون ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون " . وروي عن ابن عباس أن الشياطين كانت لا تحجب عن السموات ، فلما ولد عيسى ، منعت من ثلاث سماوات ، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منعوا من السموات كلها . وقال الزهري : قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله ، ولكنها غلظت حين بعث صلى الله عليه وسلم ، وهذا مذهب ابن قتيبة ، قال : وعلى هذا وجدنا الشعر القديم ، قال بشر بن أبي خازم ، وهو جاهلي :


    والعير يرهقها الغبار وجحشها ينقض خلفهما انقضاض الكوكب


    وقال أوس بن حجر ، وهو جاهلي :

    [ ص: 390 ]
    فانقض كالدريء يتبعه نقع يثور تخاله طنبا


    قوله تعالى : " إلا من استرق السمع " أي : اختطف ما سمعه من كلام الملائكة . قال ابن فارس : استرق السمع : إذا سمع مستخفيا . " فأتبعه " أي : لحقه " شهاب مبين " قال ابن قتيبة : كوكب مضيء . وقيل : " مبين " بمعنى : ظاهر يراه أهل الأرض . وإنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض ، فأما وحي الله عز وجل ، فقد صانه عنهم .

    واختلفوا ، هل يقتل الشهاب ، أم لا ؟ على قولين :

    أحدهما : أنه يحرق ويخبل ولا يقتل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .

    والثاني : أنه يقتل ، قاله الحسن . فعلى هذا القول ، هل يقتل الشيطان قبل أن يخبر بما سمع ، فيه قولان :

    أحدهما : أنه يقتل قبل ذلك ، فعلى هذا ، لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء . قال ابن عباس : ولذلك انقطعت الكهانة .

    والثاني : أنه يقتل بعد إلقائه ما سمع إلى غيره من الجن ، ولذلك يعودون إلى الاستراق ، ولو لم يصل ، لقطعوا الاستراق .
    والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين

    قوله تعالى : " والأرض مددناها " أي : بسطناها على وجه الماء " وألقينا فيها رواسي " وهي الجبال الثوابت " وأنبتنا فيها " في المشار إليه قولان :

    أحدهما : أنها الأرض ، قاله الأكثرون . والثاني : الجبال ، قاله الفراء .

    [ ص: 391 ] وفي قوله : " من كل شيء موزون " قولان :

    أحدهما : أن الموزون : المعلوم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضحاك . وقال مجاهد ، وعكرمة في آخرين : الموزون : المقدور . فعلى هذا يكون المعنى : معلوم القدر كأنه قد وزن ، لأن أهل الدنيا لما كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه ، أخبر الله تعالى عن هذا أنه معلوم القدر عنده بأنه موزون . وقال الزجاج : المعنى : أنه جرى على وزن من قدر الله تعالى ، لا يجاوز ما قدره الله تعالى عليه ، ولا يستطيع خلق زيادة فيه ولا نقصانا .

    والثاني : أنه عنى به الشيء الذي يوزن كالذهب ، والفضة ، والرصاص ، والحديد ، والكحل ، ونحو ذلك ، وهذا المعنى مروي عن الحسن ، وعكرمة ، وابن زيد ، وابن السائب ، واختاره الفراء .

    قوله تعالى : " وجعلنا لكم فيها معايش " في المشار إليهما قولان :

    أحدهما : أنها الأرض .

    والثاني : أنها الأشياء التي أنبتت . والمعايش جمع معيشة . والمعنى : جعلنا لكم فيها أرزاقا تعيشون بها .

    وفي قوله تعالى : " ومن لستم له برازقين " أربعة أقوال :

    أحدها : أنه الدواب والأنعام ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والثاني : الوحوش ، رواه منصور عن مجاهد . وقال ابن قتيبة : الوحش ، والطير ، والسباع ، وأشباه ذلك مما لا يرزقه ابن آدم .

    والثالث : العبيد والإماء ، قاله الفراء .

    والرابع : العبيد ، والأنعام ، والدواب ، قاله الزجاج . قال الفراء : و " من " [ ص: 392 ] في موضع نصب ، فالمعنى : جعلنا لكم فيها المعايش ، والعبيد ، والإماء . ويقال : إنها في موضع خفض ، فالمعنى : جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين . وقال الزجاج : المعنى : جعلنا لكم الدواب ، والعبيد ، وكفيتم مؤونة أرزاقها .

    فإن قيل : كيف قلتم : إن " من " هاهنا للوحوش والدواب ، وإنما تكون لمن يعقل ؟

    فالجواب : أنه لما وصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصف به الناس ، فيقال : للآدمي معاش ، ولا يقال : للفرس معاش ، جرت مجرى الناس ، كما قال : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم [النمل :18] ، وقال : رأيتهم لي ساجدين [يوسف :4] ، وقال : كل في فلك يسبحون [الأنبياء :33] ، وإن قلنا : أريد به العبيد ، والوحوش ، فإنه إذا اجتمع الناس وغيرهم غلب الناس على غيرهم ، لفضيلة العقل والتمييز .
    وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم

    قوله تعالى : " وإن من شيء " أي : وما من شيء " إلا عندنا خزائنه " وهذا الكلام عام في كل شيء . وذهب قوم من المفسرين إلى أن المراد به المطر خاصة ، فالمعنى عندهم : وما من شيء من المطر إلا عندنا خزائنه . أي : في حكمنا وتدبيرنا ، " وما ننزله " كل عام " إلا بقدر معلوم " لا يزيد ولا ينقص ، فما من عام أكثر مطرا من عام ، غير أن الله تعالى يصرفه إلى من يشاء ، ويمنعه من يشاء .
    وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون

    [ ص: 393 ] قوله تعالى : " وأرسلنا الرياح لواقح " وقرأ حمزة ، وخلف : " الريح " . وكان أبو عبيدة يذهب إلى أن " لواقح " بمعنى ملاقح ، فسقطت الميم منه ، قال الشاعر :


    ليبك يزيد بائس لضراعة وأشعث ممن طوحته الطوائح


    أراد : المطاوح فحذف الميم ، فمعنى الآية عنده : وأرسلنا الرياح ملقحة ، فيكون ها هنا فاعل بمعنى مفعل ، كما أتى فاعل بمعنى مفعول ، كقوله : ماء دافق [الطارق :6] أي : مدفوق ، و " عيشة راضية " [الحاقة :21 والقارعة :7] أي : مرضية ، وكقولهم : ليل نائم ، أي : منوم فيه ، ويقولون : أبقل النبت ، فهو باقل ، أي : مبقل . قال ابن قتيبة : يريد أبو عبيدة أنها تلقح الشجر ، وتلقح السحاب كأنها تنتجه . ولست أدري ما اضطره إلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمي الرياح لواقح ، والريح لاقحا ، قال الطرماح ، وذكر بردا مده على أصحابه في الشمس يستظلون به :


    قلق لأفنان الريا ح للاقح منها وحائل


    فاللاقح : الجنوب ، والحائل : الشمال ، ويسمون الشمال أيضا : عقيما ، والعقيم : التي لا تحمل ، كما سموا الجنوب لاقحا ، قال كثير :

    ومر بسفساف التراب عقيمها

    يعني : الشمال . وإنما جعلوا الريح لاقحا ، أي : حاملا ، لأنها تحمل السحاب [ ص: 394 ] وتقلبه وتصرفه ، ثم تحله فينـزل ، فهي على هذا حامل ، ويدل على هذا قوله : حتى إذا أقلت سحابا [الأعراف :57 ] أي : حملت . قال ابن الأنباري : شبه ما تحمله الريح من الماء وغيره ، بالولد التي تشتمل عليه الناقة ، وكذلك يقولون : حرب لاقح ، لما تشتمل عليه من الشر ، فعلى قول أبي عبيدة ، يكون معنى " لواقح " : أنها ملقحة لغيرها ، وعلى قول ابن قتيبة : أنها لاقحة نفسها ، وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول . قال عبد الله بن مسعود : يبعث الله الرياح لتلقح السحاب ، فتحمل الماء ، فتمجه ثم تمريه ، فيدر كما تدر اللقحة . وقال الضحاك : يبعث الله الرياح على السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء . قال النخعي : تلقح السحاب ولا تلقح الشجر . وقال الحسن في آخرين : تلقح السحاب والشجر ، يعنون أنها تلقح السحاب حتى يمطر والشجر حتى يثمر .

    قوله تعالى : " فأنزلنا من السماء " يعني السحاب " ماء " يعني المطر " فأسقيناكموه " أي : جعلناه سقيا لكم . قال الفراء : العرب مجتمعون على أن يقولوا : سقيت الرجل ، فأنا أسقيه : إذا سقيته لشفته ، فإذا أجروا للرجل نهرا [قالوا : أسقيته وسقيته ، وكذلك السقيا من الغيث ، قالوا فيها : سقيت وأسقيت] . وقال أبو عبيدة : كل ما كان من السماء ، ففيه لغتان : أسقاه الله ، وسقاه الله ، قال لبيد :

    [ ص: 395 ]
    سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال


    فجاء باللغتين . وتقول : سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغيره ، وليس فيه إلا لغة واحدة بغير ألف ، إذا كان في الشفة ; وإذا جعلت له شربا ، فهو : أسقيته ، وأسقيت أرضه ، وإبله ، ولا يكون غير هذا ، وكذلك إذا استسقيت له ، كقول ذي الرمة :


    وقفت على رسم لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه


    وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه


    فإذا وهبت له إهابا ليجعله سقاء ، فقد أسقيته إياه .

    قوله تعالى : وما أنتم له " يعني : الماء المنزل " بخازنين " وفيه قولان :

    أحدهما : بحافظين ، أي : ليست خزائنه بأيديكم ، قاله مقاتل .

    والثاني : بمانعين ، قاله سفيان الثوري .

    قوله تعالى : " ونحن الوارثون " يعني : أنه الباقي بعد فناء الخلق .
    ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم

    قوله تعالى : " ولقد علمنا المستقدمين منكم " يقال : استقدم الرجل ، بمعنى : تقدم ، واستأخر ، بمعنى : تأخر .

    وفي سبب نزولها قولان :

    [ ص: 396 ] أحدهما : أن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أول صف لئلا يراها ، ويتأخر بعضهم حتى يكون في آخر صف ، فإذا ركع نظر من تحت إبطه ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

    والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حرض على الصف الأول ، فازدحموا عليه ، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المدينة : لنبيعن دورنا ، ولنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المتقدم ، فنزلت هذه الآية ; ومعناها : إنما تجزون على النيات ، فاطمأنوا وسكنوا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    وللمفسرين في معنى المستقدمين والمستأخرين ثمانية أقوال :

    أحدها : التقدم في الصف الأول ، والتأخر عنه ، وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها ، فعلى الأول : هو التقدم للتقوى ، والتأخر للخيانة بالنظر ، وعلى الثاني : هو التقدم لطلب الفضيلة ، والتأخر للعذر .

    والثاني : أن المستقدمين : من مات ، والمستأخرين : من هو حي لم يمت ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وخصيف عن مجاهد ، وبه قال عطاء ، والضحاك ، والقرظي .

    والثالث : أن المستقدمين : من خرج من الخلق وكان . والمستأخرين : الذين في أصلاب الرجال ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #330
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الْحِجْرِ
    الحلقة (330)
    صــ 397 إلى صــ 404




    [ ص: 397 ] والرابع : أن المستقدمين : من مضى من الأمم ، والمستأخرين : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والخامس : أن المستقدمين : المتقدمون في الخير ، والمستأخرين : المثبطون عنه ، قاله الحسن ، وقتادة .

    والسادس : أن المستقدمين : في صفوف القتال ، والمستأخرين عنها ، قاله الضحاك .

    والسابع : أن المستقدمين : من قتل في الجهاد ، والمستأخرين : من لم يقتل ، قاله القرظي .

    والثامن : أن المستقدمين : أول الخلق ، والمستأخرين : آخر الخلق ، قاله الشعبي .
    ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين

    قوله تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان " يعني آدم " من صلصال " وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الطين اليابس الذي لم تصبه نار ، فإذا نقرته صل ، فسمعت له صلصلة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة .

    والثاني : أنه الطين المنتن ، قاله مجاهد ، والكسائي ، وأبو عبيد . ويقال : صل اللحم : إذا تغيرت رائحته .

    والثالث : أنه طين خلط برمل ، فصار له صوت عند نقره ، قاله الفراء .

    فأما الحمأ ، فقال أبو عبيدة : هو جمع حمأة ، وهو الطين المتغير . وقال ابن الأنباري : لا خلاف أن الحمأ : الطين الأسود المتغير الريح . وروى السدي عن أشياخه قال : بل التراب حتى صار طينا ، ثم ترك حتى أنتن وتغير .

    [ ص: 398 ] وفي المسنون أربعة أقوال :

    أحدها : المنتن أيضا ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة في آخرين . قال ابن قتيبة : المسنون : المتغير الرائحة .

    والثاني : أنه الطين الرطب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث : أنه المصبوب ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وأبو عبيد .

    والرابع : أنه المحكوك ، ذكره ابن الأنباري ، قال : فمن قال : المسنون : المنتن ، قال : هو من قولهم : قد تسنى الشيء : إذا أنتن ، ومنه قوله تعالى : لم يتسنه [البقرة :259] ، وإنما قيل له : مسنون ، لتقادم السنين عليه . ومن قال : الطين الرطب ، قال : سمي مسنونا ، لأنه يسيل وينبسط ، فيكون كالماء المسنون المصبوب . ومن قال : المصبوب ، احتج بقول العرب : قد سننت علي الماء : إذا صببته . ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال ، من قوله : رأيت سنة وجهه ، أي : صورة وجهه ، قال الشاعر :


    تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب


    ومن قال : المحكوك ، احتج بقول العرب : سننت الحجر على الحجر : إذا حككته عليه . وسمي المسن مسنا ، لأن الحديد يحك عليه . قال : وإنما كررت " من " لأن الأولى متعلقة بـ " خلقنا " والثانية متعلقة بالصلصال ، تقديره : ولقد خلقنا الإنسان من الصلصال الذي هو من حمإ مسنون .

    قوله تعالى : " والجان " فيه ثلاثة أقوال :

    [ ص: 399 ] أحدها : أنه مسيخ الجن ، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإنس ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثاني : أنه أبو الجن ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وروى عنه الضحاك أنه قال : الجان أبو الجن ، وليسوا بشياطين ، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس ، والجن يموتون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر .

    والثالث : أنه إبليس ، قاله الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، ومقاتل .

    فإن قيل : أليس أبو الجن هو إبليس ؟ فعنه جوابان :

    أحدهما : أنه هو ، فيكون هذا القول هو الذي قبله .

    والثاني : أن الجان أبو الجن ، وإبليس أبو الشياطين ، فبينهما إذا فرق على ما ذكرناه عن ابن عباس . قال العلماء : وإنما سمي جانا ، لتواريه عن العيون .

    قوله تعالى : " من قبل " يعني : قبل خلق آدم " من نار السموم " ، [ ص: 400 ] وقال ابن مسعود : من نار الريح الحارة ، وهي جزء من سبعين جزءا من نار جهنم . والسموم في اللغة : الريح الحارة وفيها نار ، قال ابن السائب : وهي نار لا دخان لها .
    فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم

    قوله تعالى : " فإذا سويته " أي : عدلت صورته ، وأتممت خلقته " ونفخت فيه من روحي " هذه الروح هي التي يحيا بها الإنسان ، ولا تعلم ماهيتها، وإنما أضافها إليه ، تشريفا لآدم ، وهذه إضافة ملك . وإنما سمي إجراء الروح فيه نفخا ، لأنها جرت في بدنه على مثل جري الريح فيه .

    قوله تعالى : " فقعوا " أمر من الوقوع . وقوله : " كلهم أجمعون " قال فيه سيبويه والخليل : هو توكيد بعد توكيد . وقال المبرد: " أجمعون " يدل على اجتماعهم في السجود ، فالمعنى : سجدوا كلهم في حالة واحدة . قال ابن الأنباري : [ ص: 401 ] وهذا ، لأن " كلا " تدل على اجتماع القوم في الفعل ، ولا تدل على اجتماعهم في الزمان . قال الزجاج : وقول سيبويه أجود ، لأن " أجمعين " معرفة ، ولا تكون حالا

    قوله تعالى : " وإن عليك اللعنة " قال المفسرون : معناه : يلعنك أهل السماء والأرض إلى يوم الحساب . قال ابن الأنباري : وإنما قال : " إلى يوم الدين " لأنه يوم له أول وليس له آخر ، فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى ، والمعنى : عليك اللعنة أبدا .

    قوله تعالى : " إلى يوم الوقت المعلوم " يعني : المعلوم بموت الخلائق فيه ، فأراد أن يذيقه ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنم .

    قوله تعالى : " لأزينن لهم في الأرض " مفعول التزيين محذوف ، والمعنى : لأزينن لهم الباطل حتى يقعوا فيه . " ولأغوينهم " أي : ولأضلنهم . والمخلصون : الذين أخلصوا دينهم لله عن كل شائبة تناقض الإخلاص . وما أخللنا به من الكلمات هاهنا فقد سبق تفسيرها في (الأعراف :16) وغيرها .

    قوله تعالى : " قال هذا صراط علي مستقيم " اختلوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه يعني بقوله هذا : الإخلاص ، فالمعنى : إن الإخلاص طريق إلي مستقيم ، و " علي " بمعنى " إلي " .

    والثاني : هذا طريق علي جوازه ، لأني بالمرصاد ، فأجازيهم بأعمالهم ; وهو خارج مخرج الوعيد ، كما تقول للرجل تخاصمه : طريقك علي ، فهو كقوله : إن ربك لبالمرصاد [الفجر :14] .

    والثالث : هذا صراط علي استقامته ، أي : أنا ضامن لاستقامته بالبيان [ ص: 402 ] والبرهان . وقرأ قتادة ، ويعقوب : " هذا صراط علي " بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها ، أي : رفيع .
    إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم

    قوله تعالى : " إن عبادي " فيهم أربعة أقوال :

    أحدها : أنهم المؤمنون . والثاني : المعصومون ، رويا عن قتادة . والثالث : المخلصون ، قاله مقاتل . والرابع : المطيعون ، قاله ابن جرير . فعلى هذه الأقوال ، تكون الآية من العام الذي أريد به الخاص .

    وفي المراد بالسلطان قولان :

    أحدهما : أنه الحجة ، قاله ابن جرير ، فيكون المعنى : ليس لك حجة في إغوائهم .

    والثاني : أنه القهر والغلبة ; إنما له أن يغر ويزين ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية ، فقال : ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عفوي عنه .

    قوله تعالى : " وإن جهنم لموعدهم أجمعين " يعني : الذين اتبعوه .

    قوله تعالى : " لها سبعة أبواب " وهي دركاتها بعضها فوق بعض ، قال علي عليه السلام : أبواب جهنم ليست كأبوابكم هذه ، ولكنها هكذا وهكذا وهكذا بعضها فوق بعض ، ووصف الراوي عنه بيده وفتح أصابعه . قال ابن جرير : لها سبعة أبواب ، أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم [ ص: 403 ] الجحيم ، ثم الهاوية . وقال الضحاك : هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض ، فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون ، والثاني فيه النصارى ، والثالث فيه اليهود ، والرابع فيه الصائبون ، والخامس فيه المجوس ، والسادس فيه مشركو العرب ، والسابع فيه المنافقون . قال ابن الأنباري : لما اتصل العذاب بالباب ، وكان الباب من سببه ، سمي باسمه للمجاورة ، كتسميتهم الحدث غائطا .

    قوله تعالى : " لكل باب منهم " أي : من أتباع إبليس " جزء مقسوم " والجزء : بعض الشيء .
    إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين

    قوله تعالى : " إن المتقين في جنات وعيون " قد شرحنا في (سورة البقرة 2و25) معنى التقوى والجنات . فأما العيون ، فهي عيون الماء ، والخمر ، والسلسبيل ، والتسنيم ، وغير ذلك مما ذكر أنه من شراب الجنة .

    قوله تعالى : " ادخلوها بسلام " المعنى : يقال لهم : ادخلوها بسلام ، وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : بسلامة من النار . والثاني : بسلامة من كل آفة . والثالث : بتحية من الله .

    وفي قوله " آمنين " أربعة أقوال :

    أحدها : آمنين من عذاب الله . والثاني : من الخروج . والثالث : من الموت . والرابع : من الخوف والمرض .

    قوله تعالى : " ونزعنا ما في صدورهم من غل " قد ذكرنا تفسيرها في سورة [ ص: 404 ] (الأعراف :43) فإن المفسرين ذكروا ما هناك هاهنا من تفسير وسبب نزول .

    قوله تعالى : " إخوانا " منصوب على الحال ، والمعنى : أنهم متوادون .

    فإن قيل : كيف نصب " إخوانا " على الحال ، فأوجب ذلك أن التآخي وقع مع نزع الغل ، وقد كان التآخي بينهم في الدنيا ؟

    فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : ما مضى من التآخي قد كان تشوبه ضغائن وشحناء ، وهذا التآخي بينهم الموجود عند نزع الغل هو تآخي المصافاة والإخلاص ، ويجوز أن ينتصب على المدح ، المعنى : اذكر إخوانا . فأما السرر ، فجمع سرير ، قال ابن عباس : على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، السرير مثل ما بين عدن إلى أيلة ، " متقابلين " لا يرى بعضهم قفا بعض حيثما التفت رأى وجها يحبه يقابله .

    قوله تعالى : " لا يمسهم فيها نصب " أي : لا يصيبهم في الجنة إعياء وتعب .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #331
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الْحِجْرِ
    الحلقة (331)
    صــ 405 إلى صــ 412



    نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم

    قوله تعالى : " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم " سبب نزولها ما روى ابن المبارك بإسناد له عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : طلع علينا رسول الله من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، ونحن نضحك ، فقال : " ألا أراكم تضحكون " ثم أدبر ، حتى إذا كان عند الحجر ، رجع إلينا القهقرى ، فقال : " إني لما [ ص: 405 ] خرجت ، جاء جبريل عليه السلام ، فقال : يا محمد ، يقول الله تعالى : لم تقنط عبادي ؟ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم " . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو بتحريك ياء " عبادي " وياء " أني أنا " ، وأسكنها الباقون .

    قوله تعالى : " ونبئهم عن ضيف إبراهيم " قد شرحنا القصة في (هود :69) وبينا هنالك معنى الضيف والسبب في خوفه منهم ، وذكرنا معنى الوجل في (الأنفال :2) .

    قوله تعالى : " بغلام عليم " أي : إنه يبلغ ويعلم .
    قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين

    [ ص: 406 ] قوله تعالى : " قال أبشرتموني " أي : بالولد " على أن مسني الكبر " أي : على حالة الكبر والهرم " فبم تبشرون " قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : " تبشرون " بفتح النون . وقرأ نافع بكسر النون ، ووافقه ابن كثير في كسرها ، لكنه شددها ، وهذا استفهام تعجب ، كأنه عجب من الولد على كبره . " قالوا بشرناك بالحق " أي : بما قضى الله أنه كائن " فلا تكن من القانطين " يعني الآيسين . " قال ومن يقنط " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : " ومن يقنط " بفتح النون في جميع القرآن . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي : " يقنط " بكسر النون . وكلهم قرؤوا من بعد ما قنطوا [الشورى :28] بفتح النون . وروى خارجة عن أبي عمرو " ومن يقنط " بضم النون . قال الزجاج : يقال : قنط يقنط ، وقنط يقنط ، والقنوط بمعنى اليأس ، ولم يكن إبراهيم قانطا ، ولكنه استبعد وجود الولد . " قال فما خطبكم " أي : ما أمركم ؟ " قالوا إنا أرسلنا " أي : بالعذاب . وقوله : " إلا آل لوط " استثناء ليس من الأول . فأما آل لوط ، فهم أتباعه المؤمنون .

    قوله تعالى : " إنا لمنجوهم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " لمنجوهم " مشددة الجيم . وقرأ حمزة ، والكسائي " لمنجوهم " خفيفة .

    قوله تعالى : " إلا امرأته " المعنى : إنا لمنجوهم إلا امرأته " قدرنا " وروى أبو بكر عن عاصم " قدرنا " بالتخفيف ، والمعنى واحد ، يقال : قدرت وقدرت ، والمعنى : قضينا " إنها لمن الغابرين " يعني : الباقين في العذاب .

    قوله تعالى : " إنكم قوم منكرون " يعني : لا أعرفكم ، " قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون " يعنون : العذاب ، كانوا يشكون في نزوله . " وأتيناك بالحق " أي : بالأمر الذي لا شك فيه من عذاب قومك .

    [ ص: 407 ] قوله تعالى : " واتبع أدبارهم " أي : سر خلفهم " وامضوا حيث تؤمرون " أي : حيث يأمركم جبريل .

    وفي المكان الذي أمروا بالمضي إليه قولان :

    أحدهما : أنه الشام ، قاله ابن عباس . والثاني : قرية من قرى قوم لوط ، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى : " وقضينا إليه ذلك الأمر " أي : أوحينا إليه ذلك الأمر ، أي : الأمر بهلاك قومه . قال الزجاج : فسر : ما الأمر بباقي الآية ، والمعنى : وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين . فأما الدابر ، فقد سبق تفسيره [الأنعام :45] ، والمعنى : إن آخر من يبقى منكم يهلك وقت الصبح .
    وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين

    قوله تعالى : " وجاء أهل المدينة " وهم قوم لوط ، واسمها سدوم ، " يستبشرون " بأضياف لوط ، طمعا في ركوب الفاحشة ، فقال لهم لوط : " إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون " أي : بقصدكم إياهم بالسوء ، يقال : فضحه يفضحه : إذا أبان من أمره ما يلزمه به العار . وقد أثبت يعقوب ياء " تفضحون " ، " ولا تخزون " في الوصل والوقف .

    قوله تعالى : " أولم ننهك عن العالمين " أي : عن ضيافة العالمين .

    قوله تعالى : " بناتي إن كنتم " حرك ياء " بناتي " نافع ، وأبو جعفر .
    [ ص: 408 ] لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين

    قوله تعالى : " لعمرك " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن معناه : وحياتك يا محمد ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

    والثاني : لعيشك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الأخفش ، وهو يرجع إلى معنى الأول .

    والثالث : أن معناه : وحقك على أمتك ، تقول العرب : لعمر الله لا أقوم ، يعنون : وحق الله ، ذكره ابن الأنباري . قال : وفي العمر ثلاث لغات : عمر وعمر وعمر وهو عند العرب : البقاء . وحكى الزجاج أن الخليل وسيبويه وجميع أهل اللغة قالوا : العمر والعمر في معنى واحد ، فإذا استعمل في القسم ، فتح لا غير ، وإنما آثروا الفتح في القسم ، لأن الفتح أخف عليهم ، وهم يؤكدون القسم بـ " لعمري " و " لعمرك " ، فلما كثر استعمالهم إياه ، لزموا الأخف عليهم ، قال : وقال النحويون : ارتفع " لعمرك " بالابتداء ، والخبر محذوف ، والمعنى : لعمرك قسمي ، ولعمرك ما أقسم به ، وحذف الخبر ، لأن في الكلام دليلا عليه . المعنى : أقسم " إنهم لفي سكرتهم يعمهون " .

    وفي المراد بهذه السكرة قولان :

    أحدهما : أنها بمعنى الضلالة ، قاله قتادة .

    والثاني : بمعنى الغفلة ، قاله الأعمش . وقد شرحنا معنى العمه في سورة [ ص: 409 ] (البقرة :15) . وفي المشار إليهم بهذا قولان : أحدهما أنهم قوم لوط ، قاله الأكثرون . والثاني : قوم نبينا صلى الله عليه وسلم ، قاله عطاء .

    قوله تعالى : " فأخذتهم الصيحة " يعني : صيحة العذاب ، وهي صيحة جبريل عليه السلام . " مشرقين " قال الزجاج : يقال : أشرقنا ، فنحن مشرقون : إذا صادفوا شروق الشمس ، وهو طلوعها ، كما يقال : أصبحنا : إذا صادفوا الصبح ، يقال : شرقت الشمس : إذا طلعت ، وأشرقت : إذا أضاءت وصفت ، هذا أكثر اللغة . وقد قيل : شرقت وأشرقت في معنى واحد ، إلا أن " مشرقين " في معنى مصادفين لطلوع الشمس .

    قوله تعالى : " فجعلنا عاليها سافلها " قد فسرنا الآية في سورة (هود :82) .

    وفي المتوسمين أربعة أقوال :

    أحدها : أنهم المتفرسون ، روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " قال : المتفرسين ، وبهذا قال مجاهد ، وابن قتيبة . قال ابن قتيبة : يقال : توسمت في فلان الخير ، أي : تبينته . وقال الزجاج : المتوسمون ، في اللغة : النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء ، يقال : [ ص: 410 ] توسمت في فلان كذا ، أي : عرفت وسم ذلك فيه . وقال غيره : المتوسم : الناظر في السمة الدالة على الشيء . والثاني : المعتبرون ، قاله قتادة . والثالث : الناظرون ، قاله الضحاك . والرابع : المتفكرون ، قاله ابن زيد ، والفراء .

    قوله تعالى : " وإنها " يعني : قرية قوم لوط " لبسبيل مقيم " فيه قولان :

    أحدهما : لبطريق واضح ، رواه نهشل عن الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والزجاج . وقال ابن زيد : لبطريق متبين .

    والثاني : لبهلاك . رواه أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس ، والمعنى : إنها بحال هلاكها لم تعمر حتى الآن ، فالاعتبار بها ممكن ، وهي على طريق قريش إذا سافروا إلى الشام .
    وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين

    قوله تعالى : " وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين " قال الزجاج : معنى " إن " واللام : التوكيد ، والأيك : الشجر الملتف ، فالفصل بين واحده وجمعه الهاء ، فالمعنى : أصحاب الشجرة . قال المفسرون : هم قوم شعيب ، كان مكانهم ذا شجر ، فكذبوا شعيبا فأهلكوا بالحر كما بينا في سورة (هود :87) .

    قوله تعالى : " وإنهما " في المكنى عنهما قولان : أحدهما : أنهما الأيكة ومدينة قوم لوط ، قاله الأكثرون . والثاني : لوط وشعيب ، ذكره ابن الأنباري .

    وفي قوله : " لبإمام مبين " قولان :

    أحدهما : لبطريق ظاهر ، قاله ابن عباس . قال ابن قتيبة : وقيل للطريق : إمام ، لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده .

    [ ص: 411 ] والثاني : لفي كتاب مستبين ، قاله السدي . قال ابن الأنباري : " وإنهما " يعني : لوطا وشعيبا بطريق من الحق يؤتم به .
    ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين

    قوله تعالى : " ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين " يعني بهم ثمود . قال ابن عباس : كانت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام .

    وفي الحجر قولان : أحدهما : أنه اسم الوادي الذي كانوا به ، قاله قتادة ، والزجاج . والثاني : اسم مدينتهم ، قاله الزهري ، ومقاتل .

    قال المفسرون : والمراد بالمرسلين : صالح وحده ، لأن من كذب نبيا فقد كذب الكل .

    والمراد بالآيات : الناقة ، قال ابن عباس : كان فيها آيات : خروجها من الصخرة ، ودنو نتاجها عند خروجها ، وعظم خلقها فلم تشبهها ناقة ، وكثرة لبنها حتى كان يكفيهم جميعا ، " فكانوا عنها معرضين " لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #332
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الْحِجْرِ
    الحلقة (332)
    صــ 413 إلى صــ 420



    وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم

    قوله تعالى : " وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا " قد شرحناه في (الأعراف :74) .

    وفي قوله : " آمنين " ثلاثة أقوال :

    [ ص: 412 ] أحدها : آمنين أن تقع عليهم . والثاني : آمنين من خرابها . والثالث : من عذاب الله عز وجل .

    وفي قوله تعالى : " ما كانوا يكسبون " قولان : أحدهما : ما كانوا يعملون من نحت الجبال . والثاني : ما كانوا يكسبون من الأموال والأنعام .

    قوله تعالى : " إلا بالحق " أي : للحق ولإظهار الحق ، وهو ثواب المصدق وعقاب المكذب . " وإن الساعة لآتية " أي : وإن القيامة لتأتي ، فيجازى المشركون بأعمالهم ، " فاصفح الصفح الجميل " عنهم ، وهو الإعراض الخالي من جزع وفحش . قال المفسرون : وهذا منسوخ بآية السيف .

    فأما " الخلاق " فهو خالق كل شيء . و " العليم " قد سبق شرحه [البقرة :29] .
    ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين

    قوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " سبب نزولها أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد ، فيها أنواع من البز والطيب والجواهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال : أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل ، ويدل على صحة هذا قوله : " لا تمدن عينيك . . . " الآية ، قاله الحسين بن الفضل .

    [ ص: 413 ] وفي المراد بالسبع المثاني أربعة أقوال :

    أحدها : أنها فاتحة الكتاب ، قاله عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود في رواية ، وابن عباس في رواية الأكثرين عنه ، وأبو هريرة ، والحسن ، وسعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد في رواية ، وعطاء ، وقتادة في آخرين . فعلى هذا ، إنما سميت بالسبع ، لأنها سبع آيات .

    وفي تسميتها بالمثاني سبعة أقوال : أحدها : لأن الله استثناها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يعطها أمة قبلهم ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني : لأنها تثنى في كل ركعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال ابن الأنباري : والمعنى : آتيناك السبع الآيات التي تثنى في كل ركعة ، وإنما دخلت " من " للتوكيد ، كقوله : ولهم فيها من كل الثمرات [محمد :15] . وقال ابن قتيبة : سمي " الحمد " مثاني ، لأنها تثنى في كل صلاة . والثالث : لأنها ما أثني به على الله تعالى ، لأن فيها حمد الله وتوحيده وذكر مملكته ، ذكره الزجاج . والرابع : لأن فيها " الرحمن الرحيم " مرتين ، ذكره أبو سليمان الدمشقي عن بعض اللغويين ، وهذا على قول من يرى التسمية منها . والخامس : لأنها مقسومة بين الله تعالى وبين عبده ، ويدل عليه حديث أبي هريرة " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي " . والسادس : [ ص: 414 ] لأنها نزلت مرتين ، ذكره الحسين بن الفضل . والسابع : لأن كلماتها مثناة ، مثل : الرحمن الرحيم ، إياك إياك ، الصراط صراط ، عليهم عليهم ، غير غير ، ذكره بعض المفسرين . ومن أعظم فضائلها أن الله تعالى جعلها في حيز ، والقرآن كله في حيز ، وامتن عليه بها كما امتن عليه بالقرآن كله .

    والقول الثاني : أنها السبع الطول ، قاله ابن مسعود في رواية ، وابن عباس في رواية ، وسعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد في رواية ، والضحاك . فالسبع الطول هي : (البقرة) ، و (آل عمران) ، و (النساء) ، و (المائدة) ، و (الأنعام) ، و (الأعراف) ، وفي السابعة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها (يونس) قاله سعيد بن جبير . والثاني : (براءة) قاله أبو مالك . والثالث : (الأنفال) و (براءة) جميعا ، رواه سفيان عن مسعر عن بعض أهل العلم . قال ابن قتيبة : وكانوا يرون (الأنفال) و (براءة) سورة واحدة ، ولذلك لم يفصلوا بينهما ، قال شيخنا أبو منصور اللغوي : هي الطول ، ولا تقلها بالكسر ، فعلى هذا ، في تسميتها بالمثاني قولان : أحدهما لأن الحدود والفرائض والأمثال ثنيت فيها ، قاله ابن عباس . والثاني : لأنها تجاوز المائة الأولى إلى المائة الثانية ، ذكره الماوردي .

    والقول الثالث : أن السبع المثاني سبع معان أنزلت في القرآن : أمر ، ونهي ، وبشارة ، وإنذار ، وضرب الأمثال ، وتعداد النعم ، وأخبار الأمم ، قاله زياد بن أبي مريم .

    والقول الرابع : أن المثاني : القرآن كله ، قاله طاووس ، والضحاك ، وأبو مالك ، فعلى هذا ، في تسمية القرآن بالمثاني أربعة أقوال :

    [ ص: 415 ] أحدها : لأن بعض الآيات يتلو بعضا ، فتثنى الآخرة على الأولى ، ولها مقاطع تفصل الآية بعد الآية حتى تنقضي السورة ، قاله أبو عبيدة .

    والثاني : أنه سمي بالمثاني لما يتردد فيه من الثناء على الله عز وجل .

    والثالث : لما يتردد فيه من ذكر الجنة ، والنار ، والثواب ، والعقاب .

    والرابع : لأن الأقاصيص ، والأخبار ، والمواعظ ، والآداب ، ثنيت فيه ، ذكرهن ابن الأنباري . وقال ابن قتيبة : قد يكون المثاني سور القرآن كله ، قصارها وطوالها ، وإنما سمي مثاني ، لأن الأنباء والقصص تثنى فيه ، فعلى هذا القول ، المراد بالسبع : سبعة أسباع القرآن ، ويكون في الكلام إضمار ، تقديره : وهي القرآن العظيم .

    فأما قوله : " من المثاني " ففي " من " قولان :

    أحدهما : أنها للتبعيض ، فيكون المعنى : آتيناك سبعا من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى ، وآتيناك القرآن .

    والثاني : أنها للصفة ، فيكون السبع هي المثاني ، ومنه قوله : فاجتنبوا الرجس من الأوثان [الحج :30] لا أن بعضها رجس ، ذكر الوجهين الزجاج ، وقد ذكرنا عن ابن الأنباري قريبا من هذا المعنى .

    قوله تعالى : " والقرآن العظيم " يعني : العظيم القدر ، لأنه كلام الله تعالى ، ووحيه .

    وفي المراد به هاهنا قولان :

    أحدهما : أنه جميع القرآن . قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك .

    والثاني : أنه الفاتحة ، أيضا ، قاله أبو هريرة ، وقد روينا فيه حديثا في أول [ ص: 416 ] تفسير (الفاتحة) . قال ابن الأنباري : فعلى القول الأول ، يكون قد نسق الكل على البعض ، كما يقول العربي : رأيت جدار الدار والدار ، وإنما يصلح هذا ، لأن الزيادة التي في الثاني من كثرة العدد أشبه بها ما يغاير الأول ، فجوز ذلك عطفه عليه . وعلى القول الثاني ، نسق الشيء على نفسه لما زيد عليه معنى المدح والثناء ، كما قالوا : روي ذلك عن عمر ، وابن الخطاب . يريدون بابن الخطاب : الفاضل العالم الرفيع المنزلة ، فلما دخلته زيادة ، أشبه ما يغاير الأول ; فعطف عليه .

    ولما ذكر الله تعالى منته عليه بالقرآن ; نهاه عن النظر إلى الدنيا ليستغني بما آتاه من القرآن عن الدنيا ، فقال : " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " أي : أصنافا من اليهود والمشركين ، والمعنى : أنه نهاه عن الرغبة في الدنيا .

    وفي قوله : " ولا تحزن عليهم " قولان :

    أحدهما : لا تحزن عليهم إن لم يؤمنوا . والثاني : لا تحزن بما أنعمت عليهم في الدنيا .

    قوله تعالى : " واخفض جناحك للمؤمنين " أي : ألن جانبك لهم . وخفض الجناح : عبارة عن السكون وترك التصعب والإباء . قال ابن عباس : ارفق بهم ولا تغلظ عليهم .

    قوله تعالى : " وقل إني أنا النذير المبين " حرك ياء " إني " ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع . وذكر بعض المفسرين أن معناها منسوخ بآية السيف .
    كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون

    قوله تعالى : " كما أنزلنا على المقتسمين " في هذه الكاف قولان :

    [ ص: 417 ] أحدهما : أنها متعلقة بقوله : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " . ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : أن المعنى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني ، كما أنزلنا الكتب على المقتسمين ، قاله مقاتل . والثاني : أن المعنى : ولقد شرفناك وكرمناك بالسبع المثاني ، كما شرفناك وأكرمناك بالذي أنزلناه على المقتسمين من العذاب ، والكاف بمعنى " مثل " ، و " ما " بمعنى " الذي " ذكره ابن الأنباري .

    والثاني : أنها متعلقة بقوله : " إني أنا النذير " والمعنى : إني أنا النذير ، أنذرتكم مثل الذي أنزل على المقتسمين من العذاب ، وهذا معنى قول الفراء . فخرج في معنى " أنزلنا " قولان : أحدهما : أنزلنا الكتب ، على قول مقاتل . والثاني : العذاب ، على قول الفراء .

    وفي " المقتسمين " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم اليهود والنصارى ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد . فعلى هذا ، في تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم آمنوا ببعض القرآن ، وكفروا ببعضه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني : أنهم اقتسموا القرآن ، فقال بعضهم : هذه السورة لي ، وقال آخر : هذه السورة لي ، استهزاء به ، قاله عكرمة . والثالث : أنهم اقتسموا كتبهم ، فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها ، وآمن آخرون بما كفر به غيرهم ، قاله مجاهد .

    والثاني : أنهم مشركو قريش ، قاله قتادة ، وابن السائب . فعلى هذا ، في تسميتهم بالمقتسمين قولان : أحدهما : أن أقوالهم تقسمت في القرآن ، فقال بعضهم : إنه سحر ، وزعم بعضهم أنه كهانة ، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين ، منهم الأسود بن عبد يغوث ، والوليد بن المغيرة ، وعدي بن قيس السهمي ، والعاص [ ص: 418 ] بن وائل ، قاله قتادة . والثاني : أنهم اقتسموا على عقاب مكة ، قال ابن السائب : هم رهط من أهل مكة اقتسموا على عقاب مكة حين حضر الموسم ، قال لهم الوليد ابن المغيرة : انطلقوا فتفرقوا على عقاب مكة حيث يمر بكم أهل الموسم ، فإذا سألوكم عنه ، يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليقل بعضكم : كاهن ، وبعضكم : ساحر ، وبعضكم : شاعر ، وبعضكم : غاو ، فإذا انتهوا إلي صدقتكم ، ومنهم حنظلة بن أبي سفيان ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل ، والعاص بن هشام ، وأبو قيس بن الوليد ، وقيس بن الفاكه ، وزهير بن أبي أمية ، وهلال بن عبد الأسود ، والسائب بن صيفي ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الحجاج ، وأمية بن خلف ، وأوس بن المغيرة .

    والثالث : أنهم قوم صالح الذين تقاسموا بالله : لنبيتنه وأهله [النمل :49] ، فكفاه الله شرهم ، قاله عبد الرحمن بن زيد . فعلى هذا ، هو من القسم ، لا من القسمة .

    قوله تعالى : " الذين جعلوا القرآن عضين " في المراد بالقرآن قولان :

    أحدهما : أنه كتابنا ، وهو الأظهر ، وعليه الجمهور . والثاني : أن المراد به : كتب المتقدمين قبلنا .

    وفي " عضين " قولان :

    أحدهما : أنه مأخوذ من الأعضاء . قال الكسائي ، وأبو عبيدة : اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاء . ثم في ما فعلوا فيه قولان .

    أحدهما : أنهم عضوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه ، والمعضي : المفرق . والتعضية : تجزئة الذبيحة أعضاء . قال علي عليه السلام : لا تعضية في ميراث ، أراد : تفريق ما يوجب تفريقه ضررا على الورثة كالسيف ونحوه . وقال رؤبة :

    [ ص: 419 ] وليس دين الله بالمعضى

    وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني : أنهم عضوا القول فيه ، أي : فرقوا ، فقالوا : شعر ، وقالوا : سحر ، وقالوا : كهانة ، وقالوا : أساطير الأولين ، وهذا المعنى في رواية ابن جريج عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، وابن زيد .

    والثاني : أنه مأخوذ من العضه . والعضه ، بلسان قريش : السحر ، ويقولون للساحرة : عاضهة . وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة ، فيكون المعنى : جعلوه سحرا ، وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، والفراء .

    قوله تعالى : " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " هذا سؤال توبيخ ، يسألون عما عملوا في ما أمروا به من التوحيد والإيمان ، فيقال لهم : لم عصيتم وتركتم الإيمان ؟ فتظهر فضيحتهم عند تعذر الجواب . قال أبو العالية : يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين : عما كانوا يعبدون ، وعما أجابوا المرسلين .

    فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [الرحمن :39] ؟ فعنه جوابان :

    [ ص: 420 ] أحدهما : أنه لا يسألهم : هل عملتم كذا ؟ لأنه أعلم ، وإنما يقول : لم عملتم كذا ؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني : أنهم يسألون في بعض مواطن القيامة ، ولا يسألون في بعضها ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
    فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين

    قوله تعالى : " فاصدع بما تؤمر " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : فامض لما تؤمر ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أظهر أمرك ، رواه ليث عن مجاهد . قال ابن قتيبة : " فاصدع بما تؤمر " أي : أظهر ذلك . وأصله : الفرق والفتح ، يريد : اصدع الباطل بحقك . وقال الزجاج : اظهر بما تؤمر به ، أخذ ذلك من الصديع ، وهو الصبح ، قال الشاعر :


    كأن بياض غرته صديع


    وقال الفراء : إنما لم يقل : بما تؤمر به ، لأنه أراد : فاصدع بالأمر . وذكر ابن الأنباري أن " به " مضمرة ، كما تقول : مررت بالذي مررت .

    والثالث : أن المراد به : الجهر بالقرآن في الصلاة ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . قال موسى بن عبيدة : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية ، فخرج هو وأصحابه .

    وفي قوله : " وأعرض عن المشركين " ثلاثة أقوال :

    أحدها : اكفف عن حربهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #333
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (333)
    صــ 421 إلى صــ 428



    [ ص: 421 ] والثاني : لا تبال بهم ، ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار أمرك .

    والثالث : أعرض عن الاهتمام باستهزائهم . وأكثر المفسرين على أن هذا القدر من الآية منسوخ بآية السيف .
    إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين

    قوله تعالى : " إنا كفيناك المستهزئين " المعنى : فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئين ، وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن . وفي عددهم قولان :

    أحدهما : أنهم كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة ، وأبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، قاله ابن عباس . واسم أبي زمعة : الأسود بن المطلب . وكذلك ذكرهم سعيد بن جبير ، إلا أنه قال مكان الحارث بن قيس : الحارث بن غيطلة ، قال الزهري : غيطلة أمه ، وقيس أبوه ، فهو واحد . وإنما ذكرت ذلك ، لئلا يظن أنه غيره . وقد ذكرت في كتاب " التلقيح " من ينسب إلى أمه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وسميت آباءهم ليعرفوا إلى أي الأبوين نسبوا . وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث بن قيس : عدي بن قيس .

    والثاني : أنهم كانوا سبعة ، قاله الشعبي ، وابن أبي بزة ، وعدهم ابن أبي بزة ، فقال : العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، والحارث بن عدي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، وأصرم وبعكك ابنا عبد الحارث بن السباق . [ ص: 422 ] وكذلك عدهم مقاتل ، إلا أنه قال مكان الحارث بن عدي : الحارث بن قيس السهمي ، وقال : أصرم وبعكك ابنا الحجاج بن السباق .

    ذكر ما أهلكهم الله به وكفى رسوله صلى الله عليه وسلم أمرهم

    قال المفسرون : أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمستهزئون يطوفون بالبيت ، فمر الوليد بن المغيرة ، فقال جبريل : يا محمد ، كيف تجد هذا ؟ فقال : " بئس عبد الله " ، قال : قد كفيت ، وأومأ إلى ساق الوليد ، فمر الوليد برجل يريش نبلا له ، فتعلقت شظية من نبل بإزاره ، فمنعه الكبر أن يطامن لينزعها ، وجعلت تضرب ساقه ، فمرض ومات . وقيل : تعلق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه ، فمات . ومر العاص بن وائل ، فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد ؟ فقال : " بئس عبد الله " فأشار إلى أخمص رجله ، وقال : قد كفيت ، فدخلت شوكة في أخمصه ، فانتفخت رجله ومات . ومر الأسود بن المطلب ، فقال : كيف تجد هذا ؟ قال : " عبد سوء " فأشار بيده إلى عينيه ، فعمي وهلك . وقيل : جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشوك ، فاستغاث بغلامه ، فقال : لا أرى أحدا يصنع بك هذا غير نفسك ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمد . ومر الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل : كيف تجد هذا ؟ فقال : " بئس عبد الله " ، فقال : قد كفيت ، وأشار إلى بطنه ، فسقى بطنه ، فمات . وقيل : أصاب عينه شوك ، فسالت حدقتاه . وقيل : خرج عن أهله فأصابه السموم ، فاسود حتى عاد حبشيا ، فلما أتى أهله لم يعرفوه ، فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات . [ ص: 423 ] ومر به الحارث بن قيس ، فقال : كيف تجد هذا ؟ قال : " عبد سوء " فأومأ إلى رأسه ، وقال : قد كفيت ، فانتفخ رأسه فمات ، وقيل : أصابه العطش ، فلم يزل يشرب الماء حتى انقد بطنه . وأما أصرم وبعكك ، فقال مقاتل : أخذت أحدهما الدبيلة والآخر ذات الجنب ، فماتا جميعا . قال عكرمة : هلك المستهزئون قبل بدر . وقال ابن السائب : أهلكوا جميعا في يوم وليلة .

    قوله تعالى : " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " فيه قولان :

    أحدهما : أنه التكذيب . والثاني : الاستهزاء .

    قوله تعالى : " فسبح بحمد ربك " فيه قولان :

    أحدهما : قل : سبحان الله وبحمده ، قاله الضحاك . والثاني : فصل بأمر ربك ، قاله مقاتل .

    وفي قوله : " وكن من الساجدين " قولان :

    أحدهما : من المصلين . والثاني : من المتواضعين ، رويا عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " حتى يأتيك اليقين " فيه قولان :

    أحدهما : أنه الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور . وسمي يقينا ، لأنه موقن به . وقال الزجاج : معنى الآية : اعبد ربك أبدا ، ولو قيل : اعبد ربك ، بغير توقيت ، لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعا ، فلما قال : " حتى يأتيك اليقين " أمر بالإقامة على العبادة ما دام حيا .

    [ ص: 424 ] والثاني : أنه الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك ، حكاه الماوردي .
    سُورَةُ النَّحْلِ

    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا


    رَوَى مُجَاهِدٌ ، وَعَطِيَّةُ ، وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَعَطَاءٌ : أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ [كُلُّهَا] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ : إِنَّهُ نَزَلَ مِنْهَا بَعْدَ قَتْلِ حَمْزَةَ : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النَّحْلِ :126] ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ : هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : " وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا " إِلَى قَوْلِهِ : " يَعْمَلُونَ " [النَّحْلِ :95،97] . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ : " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ . . . . " إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ [النَّحْلِ :126- 128] . وَقَالَ قَتَادَةُ : هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ : " وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا . . . . " الْآيَتَيْنِ [النَّحْلِ :95،96] ، وَمِنْ قَوْلِهِ : " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ . . . " إِلَى آخِرِهَا [النَّحْلِ :126] . وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ : هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ : " وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا . . . " الْآيَةُ [النَّحْلِ :41] ، وَقَوْلُهُ : " ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا . . . . " الْآيَةُ [النَّحْلِ :110] وَقَوْلُهُ : " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ . . . . " إِلَى آخِرِهَا [النَّحْلِ :126] . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : مَكِّيَّةٌ إِلَّا سَبْعَ آيَاتٍ ، قَوْلُهُ : " ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا . . . " الْآيَةُ [النَّحْلِ :110] ، وَقَوْلُهُ : " مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مَنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ . . . . " الْآيَةُ [النَّحْلِ :106] ، وَقَوْلُهُ : " وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ . . . " الْآيَةُ [النَّحْلِ :41] ، وَقَوْلُهُ : " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً . . . . " الْآيَةُ [النَّحْلِ :112] ، وَقَوْلُهُ : [ ص: 426 ] " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ " إِلَى آخِرِهَا [النَّحْلِ :126] . قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ : أُنْزِلَ مِنْ أَوَّلِ النَّحْلِ أَرْبَعُونَ آيَةً بِمَكَّةَ وَبَقِيَّتُهَا بِالْمَدِينَةِ . وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : كَانَ يُقَالُ لِلنَّحْلِ : سُورَةُ النِّعَمِ ; يُرِيدُ لِكَثْرَةِ تَعْدَادِ النِّعَمِ فِيهَا .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مِنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " أَتَى أَمْرُ اللَّهِ " قَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ بِالْإِمَالَةِ .

    سَبَبُ نُزُولِهَا : أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [الْقَمَرِ :1] ، فَقَالَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ ، فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى نَنْظُرَ ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ شَيْءٌ ; قَالُوا : مَا نَرَى شَيْئًا ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ :1] فَأَشْفَقُوا ، وَانْتَظَرُوا قُرْبَ السَّاعَةِ ، فَلَمَّا امْتَدَّتِ الْأَيَّامُ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شَيْئًا مِمَّا تُخَوِّفُنَا بِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : " أَتَى أَمْرُ اللَّهِ " فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَفَعَ النَّاسُ رُؤُوسَهُمْ ، فَنَزَلَ : " فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ " فَاطْمَأَنُّوا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

    [ ص: 427 ] وَفِي قَوْلِهِ : " أَتَى " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَتَى بِمَعْنَى : يَأْتِي ، كَمَا يُقَالُ أَتَاكَ الْخَيْرُ فَأَبْشِرْ، أَيْ : سَيَأْتِيكَ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَشَاهِدُهُ : وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ :44] ، وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [الْمَائِدَةِ :116] وَنَحْوُ ذَلِكَ .

    وَالثَّانِي : أَتَى بِمَعْنَى : قَرُبَ ، قَالَ الزَّجَّاجُ : أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ فِي قُرْبِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ أَتَى .

    وَالثَّالِثُ : أَنْ " أَتَى " لِلْمَاضِي ، وَالْمَعْنَى : أَتَى بَعْضُ عَذَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ : الْجَدْبُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ ، وَالْجُوعُ . " فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ " فَيَنْزِلَ بِكُمْ مُسْتَقْبَلًا كَمَا نَزَلَ مَاضِيًا ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

    وَفِي الْمُرَادِ : بِـ " أَمْرِ اللَّهِ " خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَنَّهَا السَّاعَةُ ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّانِي : خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، يَعْنِي : أَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ .

    وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، فَلَا تَسْتَعْجِلُوا قِيَامَ السَّاعَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْأَحْكَامُ وَالْفَرَائِضُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ . وَالرَّابِعُ : عَذَابُ اللَّهِ ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . وَالْخَامِسُ: وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ " أَيْ : لَا تَطْلُبُوهُ قَبْلَ حِينِهِ ، " سُبْحَانَهُ " أَيْ : تَنْزِيهٌ لَهُ وَبَرَاءَةٌ مِنَ السُّوءِ عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " يُنَـزِّلُ الْمَلائِكَةَ " قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو : " يُنْـزِلُ " [ ص: 428 ] بِإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَعَاصِمٌ ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ : " يُنَـزِّلُ " بِالتَّشْدِيدِ ، وَرَوَى الْكِسَائِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ : " تُنَـزَّلُ " بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الزَّايِ مُشَدَّدَةً . " الْمَلَائِكَةُ " رَفْعٌ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يُرِيدُ بِالْمَلَائِكَة ِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : الْوَحْيُ ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي : أَنَّهُ النُّبُوَّةُ ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَعْنَى : تَنْـزِلُ الْمَلَائِكَةُ بِأَمْرِهِ ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى : أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ كُلَّهُ رُوحٌ . قَالَ [الزَّجَّاجُ] : الرُّوحُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ حَيَاةُ النُّفُوسِ بِالْإِرْشَادِ .

    وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ الرَّحْمَةُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ .

    وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ أَرْوَاحُ الْخَلْقِ : لَا يَنْـزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ رُوحٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ الْقُرْآنُ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . فَعَلَى هَذَا سَمَّاهُ رُوحًا ، لِأَنَّ الدِّينَ يَحْيَا بِهِ ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ تُحْيِي الْبَدَنَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ : " بِالرُّوحِ " بِمَعْنَى : مَعَ ، فَالتَّقْدِيرُ : مَعَ الرُّوحِ ، " مِنْ أَمْرِهِ " أَيْ : بِأَمْرِهِ ، " عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ " يَعْنِي : الْأَنْبِيَاءَ ، " أَنْ أَنْذِرُوا " قَالَ الزَّجَّاجُ : وَالْمَعْنَى : أَنْذِرُوا أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي " أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا " أَيْ : مُرُوهُمْ بِتَوْحِيدِي ، وَقَالَ غَيْرُهُ : أَنْذِرُوا بِأَنَّهُ لَا إِلْهَ إِلَّا أَنَا ، أَيْ : مُرُوهُمْ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ تَخْوِيفِهِمْ إِنْ لَمْ يُقِرُّوا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #334
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (334)
    صــ 429 إلى صــ 436






    خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين

    قوله تعالى : " خلق الإنسان من نطفة " قال المفسرون : أخذ أبي بن خلف [ ص: 429 ] عظما رميما ، فجعل يفته ويقول : يا محمد كيف يبعث الله هذا بعد ما رم ؟ فنزلت فيه هذه الآية . والخصيم : المخاصم ، والمبين : الظاهر الخصومة .

    والمعنى : أنه مخلوق من نطفة ، وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث ، أفلا يستدل بأوله على آخره ، وأن من قدر على إيجاده أولا يقدر على إعادته ثانية ؟! وفيه تنبيه على إنعام الله عليه حين نقله من حال ضعف النطفة إلى القوة التي أمكنه معها الخصام .
    والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم

    قوله تعالى : " والأنعام خلقها لكم " الأنعام : الإبل ، والبقر ، والغنم ،

    قوله تعالى : " لكم فيها دفء " فيه قولان :

    أحدهما : أنه ما استدفئ به من أوبارها تتخذ ثيابا ، وأخبية ، وغير ذلك . روى العوفي عن ابن عباس أنه قال : يعني بالدفء : اللباس ، وإلى هذا المعنى ذهب الأكثرون .

    والثاني : أنه نسلها . روى عكرمة عن ابن عباس : " فيها دفء " قال الدفء : [ ص: 430 ] نسل كل دابة ، وذكر ابن السائب قال : يقال : الدفء أولادها ، ومن لا يحمل من الصغار ، وحكى ابن فارس اللغوي عن الأموي ، قال : الدفء عند العرب : نتاج الإبل وألبانها .

    قوله تعالى : " ومنافع " أي : سوى الدفء من الجلود ، والألبان ، والنسل ، والركوب ، والعمل عليها ، إلى غير ذلك ، " ومنها تأكلون " يعني : من لحوم الأنعام

    قوله تعالى : " ولكم فيها جمال " أي : زينة ، " حين تريحون " أي : [حين] تردونها إلى مراحها ، وهو المكان الذي تأوي إليه ، فترجع عظام الضروع والأسنمة ، فيقال : هذا مال فلان ، " وحين تسرحون " ترسلونها بالغداة إلى مراعيها .

    فإن قيل : لم قدم الرواح وهو مؤخر ؟

    فالجواب : أنها في حال الرواح تكون أجمل ; لأنها قد رعت ، وامتلأت ضروعها ، وامتدت أسنمتها .

    قوله تعالى : " وتحمل أثقالكم " الإشارة بهذا إلى ما يطيق الحمل منها ، والأثقال : جمع ثقل ، وهو متاع المسافر .

    وفي قوله تعالى : " إلى بلد " قولان :

    أحدهما : أنه عام في كل بلد يقصده المسافر ، وهو قول الأكثرين .

    والثاني : أن المراد به : مكة ، قاله عكرمة ، والأول أصح ، والمعنى : أنها تحملكم إلى كل بلد لو تكلفتم أنتم بلوغه لم تبلغوه إلا بشق الأنفس .

    وفي معنى " شق الأنفس " قولان :

    أحدهما : أنه المشقة ، قاله الأكثرون . قال ابن قتيبة : يقال : نحن بشق من [ ص: 431 ] العيش ، أي : بجهد ; وفي حديث أم زرع : " وجدني في أهل غنيمة بشق " .

    والثاني : أن الشق : النصف ، فكان الجهد ينقص من قوة الرجل ونفسه كأنه قد ذهب نصفه ، ذكره الفراء .

    قوله تعالى : " إن ربكم لرءوف رحيم " أي : حين من عليكم بالنعم التي فيها هذه المرافق .
    والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون

    قوله تعالى : " والخيل " أي : وخلق الخيل " والبغال والحمير لتركبوها وزينة " قال الزجاج : المعنى : وخلقها زينة .

    فصل

    ويجوز أكل لحم الخيل ، وإنما لم يذكر في الآية ، لأنه ليس هو المقصود ، وإنما معظم المقصود بها : الركوب والزينة ، وبهذا قال الشافعي . وقال أبو حنيفة ، ومالك : لا تؤكل لحوم الخيل .

    قوله تعالى : " ويخلق ما لا تعلمون " ذكر قوم من المفسرين : أن المراد به [ ص: 432 ] عجائب المخلوقات في السموات والأرض التي لم يطلع عليها ، مثل ما يروى : أن لله ملكا من صفته كذا ، وتحت العرش نهر من صفته كذا . وقال قوم : هو ما أعد الله لأهل الجنة فيها ، ولأهل النار . وقال أبو سليمان الدمشقي : في الناس من كره تفسير هذا الحرف . وقال الشعبي : هذا الحرف من أسرار القرآن .
    وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون

    قوله تعالى : " وعلى الله قصد السبيل " القصد : استقامة الطريق ، يقال : طريق قصد وقاصد : إذا قصد بك ما تريد . قال الزجاج : المعنى : وعلى الله تبيين الطريق المستقيم ، والدعاء إليه بالحجج والبرهان .

    قوله تعالى : " ومنها جائر " قال أبو عبيدة : السبيل لفظه لفظ الواحد ، وهو في موضع الجميع ، فكأنه قال : ومن السبل سبيل جائر . قال ابن الأنباري : لما ذكر السبيل ، دل على السبل ، فلذلك قال : " ومنها جائر " كما دل الحدثان على الحوادث في قول العبدي :


    ولا يبقى على الحدثان حي فهل يبقى عليهن السلام


    أراد : فهل يبقى على الحوادث ، والسلام : الصخور ، قال : ويجوز أن يكون إنما قال : " ومنها " لأن السبيل تؤنث وتذكر ، فالمعنى : من السبيل جائر . وقال ابن قتيبة : المعنى : ومن الطرق جائر لا يهتدون فيه ، والجائر : العادل عن [ ص: 433 ] القصد ، قال ابن عباس : ومنها جائر الأهواء المختلفة . وقال ابن المبارك : الأهواء والبدع .

    قوله تعالى : " هو الذي أنزل من السماء ماء " يعني : المطر " لكم منه شراب " وهو ما تشربونه ، " ومنه شجر " ذكر ابن الأنباري في معناه قولين :

    أحدهما : ومنه سقي شجر ، وشرب شجر ، فخلف المضاف إليه المضاف ، كقوله : وأشربوا في قلوبهم العجل [البقرة :93] .

    والثاني : أن المعنى : ومن جهة الماء شجر ، ومن سقيه شجر ، ومن ناحيته شجر ، فحذف الأول ، وخلفه الثاني ، قال زهير :


    [لمن الديار بقنة الحجر] . . . . أقوين من حجج ومن شهر


    أي : من ممر حجج . قال ابن قتيبة : والمراد بهذه الشجر : المرعى . وقال الزجاج : كل ما نبت على الأرض فهو شجر، قال الشاعر يصف الخيل :


    يعلفها اللحم إذا عز الشجر والخيل في إطعامها اللحم ضرر


    يعني : أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض . و " تسيمون " بمعنى : ترعون ، يقال : سامت الإبل فهي سائمة : إذا رعت ، وإنما أخذ ذلك من السومة ، وهي : العلامة ، وتأويلها : أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات .

    قوله تعالى : " ينبت لكم به الزرع " وروى أبو بكر عن عاصم : " ننبت " بالنون . قال ابن عباس : يريد الحبوب ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : " والنجوم مسخرات بأمره " قال الأخفش : المعنى : وجعل النجوم مسخرات ، [ ص: 434 ] فجاز إضمار فعل غير الأول ، لأن هذا المضمر في المعنى مثل المظهر ، وقد تفعل العرب أشد من هذا ، قال الراجز :


    تسمع في أجوافهن صردا وفي اليدين جسأة وبددا


    المعنى : وترى في اليدين . والجسأة : اليبس . والبدد : السعة . وقال غيره : قوله تعالى : " مسخرات " حال مؤكدة ، لأن تسخيرها قد عرف بقوله تعالى : " وسخر " . وقرأ ابن عامر : والشمس والقمر والنجوم مسخرات ، رفعا كله ، وروى حفص عن عاصم : بالنصب كالجمهور ، إلا قوله تعالى : " والنجوم مسخرات " فإنه رفعها .
    وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون

    قوله تعالى : " وما ذرأ لكم " أي : وسخر ما ذرأ لكم . وذرأ بمعنى : خلق . و " سخر البحر " أي : ذلـله للركوب والغوص فيه " لتأكلوا منه لحما طريا " يعني : السمك " وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " يعني : الدر ، واللؤلؤ ، والمرجان ، [ ص: 435 ] وفي هذا دلالة على أن حالفا لو حلف : لا يلبس حليا ، فلبس لؤلؤا ، أنه يحنث ، وقال أبو حنيفة: لا يحنث .

    قوله تعالى : " وترى الفلك " يعني : السفن . وفي معنى " مواخر " قولان :

    أحدهما : جواري ، قاله ابن عباس . قال اللغويون : يقال : مخرت السفينة مخرا : إذا شقت الماء في جريانها .

    والثاني : المواقر ، يعني المملوءة ، قاله الحسن .

    وفي قوله تعالى : " ولتبتغوا من فضله " قولان :

    أحدهما : بالركوب فيه للتجارة ابتغاء الربح من فضل الله .

    والثاني : بما تستخرجون من حليته ، وتصيدون من حيتانه . قال ابن الأنباري : وفي دخول الواو في قوله تعالى : " ولتبتغوا من فضله " وجهان :

    أحدهما : أنها معطوفة على لام محذوفة ، تقديره : وترى الفلك مواخر فيه لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا .

    والثاني : أنها دخلت لفعل مضمر ، تقديره : وفعل ذلك لكي تبتغوا .

    قوله تعالى : " وألقى في الأرض رواسي " أي : نصب فيها جبالا ثوابت " أن تميد " أي : لئلا تميد ، وقال الزجاج : كراهة أن تميد ، يقال : ماد الرجل يميد ميدا : إذا أدير به ، وقال ابن قتيبة : الميد : الحركة والميل ، يقال : فلان يميد في مشيته ، أي : يتكفأ .

    قوله تعالى : " وأنهارا " قال الزجاج : المعنى : وجعل فيها سبلا ، لأن معنى " ألقى " : " جعل " فأما السبل ، فهي الطرق . " ولعلكم تهتدون " أي : لكي تهتدوا إلى مقاصدكم .

    [ ص: 436 ] قوله تعالى : " وعلامات " فيها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها معالم الطرق بالنهار ، وبالنجم هم يهتدون بالليل ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : أنها النجوم أيضا ، منها ما يكون علامة لا يهتدى به ، ومنها ما يهتدى به ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والنخعي .

    والثالث : الجبال ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .

    وفي المراد بالنجم أربعة أقوال :

    أحدها : أنه الثريا ، والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدي ، قاله السدي .

    والثاني : أنه الجدي ، والفرقدان ، قاله ابن السائب .

    والثالث : أنه الجدي وحده ، لأنه أثبت النجوم كلها في مركزه ، ذكره الماوردي .

    والرابع : أنه اسم جنس ، والمراد جميع النجوم ، قاله الزجاج . وقرأ الحسن ، والضحاك ، وأبو المتوكل ، ويحيى بن وثاب : " وبالنجم " بضم النون وإسكان الجيم ، وقرأ الجحدري : " وبالنجم " بضم النون والجيم ، وقرأ مجاهد : " وبالنجوم " بواو على الجمع .

    وفي المراد بهذا الاهتداء قولان :

    أحدهما : الاهتداء إلى القبلة . والثاني : إلى الطريق في السفر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #335
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (335)
    صــ 437 إلى صــ 444





    أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون

    [ ص: 437 ] قوله تعالى : " أفمن يخلق كمن لا يخلق " يعني : الأوثان ، وإنما عبر عنها بـ " من " لأنهم نحلوها العقل والتمييز ، " أفلا تذكرون " يعني : المشركين ، يقول : أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون ؟ قال الفراء : وإنما جاز أن يقول : " كمن لا يخلق " ، لأنه ذكر مع الخالق ، كقوله : فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين [النور :45] ، والعرب تقول : اشتبه علي الراكب وجمله ، فما أدري من ذا من ذا ، لأنهم لما جمعوا بين الإنسان وغيره ، صلحت " من " فيهما جميعا .

    قوله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " قد فسرناه في (إبراهيم :34) .

    قوله تعالى : " إن الله لغفور " أي : لما كان منكم من تقصيركم في شكر نعمه " رحيم " بكم إذ لم يقطعها عنكم بتقصيركم .

    قوله تعالى : " والله يعلم ما تسرون وما تعلنون " روى عبد الوارث ، إلا القزاز " يسرون " و " يعلنون " بالياء .
    والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون

    قوله تعالى : " والذين تدعون من دون الله " قرأ عاصم : يدعون بالياء .

    قوله تعالى : " أموات غير أحياء " يعني : الأصنام . قال الفراء : ومعنى الأموات هاهنا : أنها لا روح فيها . قال الأخفش : وقوله : " غير أحياء " توكيد .

    قوله تعالى : " وما يشعرون أيان يبعثون " " أيان " بمعنى : " متى " .

    وفي المشار إليهم قولان :

    أحدهما : أنها الأصنام ، عبر عنها كما يعبر عن الآدميين . قال ابن عباس : [ ص: 438 ] وذلك أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها ، فيتبرؤون من عبادتهم ، ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار .

    والثاني : أنهم الكفار ، لا يعلمون متى بعثهم ، قاله مقاتل .
    إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين

    قوله تعالى : " إلهكم إله واحد " قد ذكرناه في سورة (البقرة :163) .

    قوله تعالى : " فالذين لا يؤمنون بالآخرة " أي : بالبعث والجزاء " قلوبهم منكرة " أي : جاحدة لا تعرف التوحيد " وهم مستكبرون " أي : ممتنعون من قبول الحق .

    قوله تعالى : " لا جرم " قد فسرناه في (هود :22) ، ومعنى الآية : أنه يجازيهم بسرهم وعلنهم ، لأنه يعلمه . والمستكبرون : المتكبرون عن التوحيد والإيمان . وقال مقاتل : " ما يسرون " حين بعثوا في كل طريق من يصد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يعلنون " حين أظهروا العداوة لرسول الله .

    [ ص: 439 ] قوله تعالى : " وإذا قيل لهم " يعني : المستكبرين " ماذا أنزل ربكم " على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال الزجاج : " ماذا " بمعنى " ما الذي " . و " أساطير الأولين " مرفوعة على الجواب . كأنهم قالوا : الذي أنزل : أساطير الأولين ، أي : الذي تذكرون أنتم أنه منزل : أساطير الأولين . وقد شرحنا معنى الأساطير في (الأنعام :25) . قال مقاتل : الذين بعثهم الوليد بن المغيرة في طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان ، ويقول بعضهم : إن محمدا ساحر ، ويقول بعضهم : شاعر ، وقد شرحنا هذا المعنى في (الحجر:90) في ذكر المقتسمين .

    قوله تعالى : " ليحملوا أوزارهم " هذه لام العاقبة ، وقد شرحناها في غير موضع ، والأوزار : الآثام ، وإنما قال : كاملة ، لأنه لم يكفر منها شيء بما يصيبهم من نكبة ، أو بلية ، كما يكفر عن المؤمن ، " ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " أي : أنهم أضلوهم بغير دليل ، وإنما حملوا من أوزار الأتباع ، لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضلالة ، وقد ذكر ابن الأنباري في " من " وجهين :

    أحدهما : أنها للتبعيض ، فهم يحملون ما شركوهم فيه ، فأما ما ركبه أولئك باختيارهم من غير تزيين هؤلاء ، فلا يحملونه ، فيصح معنى التبعيض .

    والثاني : أن " من " مؤكدة ، والمعنى : وأوزار الذين يضلونهم . " ألا ساء ما يزرون " أي : بئس ما حملوا على ظهورهم .

    قوله تعالى : " قد مكر الذين من قبلهم " قال المفسرون : يعني به : النمرود بن كنعان ، وذلك أنه بنى صرحا طويلا . واختلفوا في طوله ، فقال ابن عباس : [ ص: 440 ] خمسة آلاف ذراع ، وقال مقاتل : كان طوله فرسخين ، قالوا : ورام أن يصعد إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه . ومعنى " المكر " هاهنا : التدبير الفاسد .

    وفي الهاء والميم من " قبلهم " قولان :

    أحدهما : أنها للمقتسمين على عقاب مكة ، قاله ابن السائب .

    والثاني : لكفار مكة ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " فأتى الله بنيانهم من القواعد " أي : من الأساس . قال المفسرون : أرسل الله ريحا فألقت رأس الصرح في البحر ، وخر عليهم الباقي .

    قال السدي : لما سقط الصرح ، تبلبلت ألسن الناس من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سميت " بابل " ، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، وهذا قول مردود ، لأن التبلبل يوجب الاختلاط والتكلم بشيء غير مستقيم ، فأما أن يوجب إحداث لغة مضبوطة الحواشي ، فباطل ، وإنما اللغات تعليم من الله تعالى .

    فإن قيل : إذا كان الماكر واحدا ، فكيف قال : " الذين " ولم يقل : " الذي " ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أنه كان الماكر ملكا له أتباع ، فأدخلوا معه في الوصف .

    والثاني : أن العرب توقع الجمع على الواحد ، فيقول قائلهم : خرجت إلى البصرة على البغال ، وإنما خرج على بغل واحد .

    والثالث : أن " الذين " غير موقع على واحد معين ، لكنه يراد به : قد مكر الجبارون الذين من قبلهم ، فكان عاقبة مكرهم رجوع البلاء عليهم ، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري . قال : وذكر بعض العلماء : أنه إنما قال : " من فوقهم " ، [ ص: 441 ] لينبه على أنهم كانوا تحته ، إذ لو لم يقل ذلك ، لاحتمل أنهم لم يكونوا تحته ، لأن العرب تقول : سقط علينا البيت ، وخر علينا الحانوت ، وتداعت علينا الدار ، وليسوا تحت ذلك .

    قوله تعالى : " وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " أي : من حيث ظنوا أنهم آمنون فيه . قال السدي : أخذوا من مأمنهم . وروى عطية عن ابن عباس قال : خر عليهم عذاب من السماء . وعامة المفسرين على ما حكيناه من أنه بنيان سقط . وقال ابن قتيبة : هذا مثل ، والمعنى : أهلكهم الله ، كما هلك من هدم مسكنه من أسفله ، فخر عليه .

    قوله تعالى : " ثم يوم القيامة يخزيهم " أي : يذلهم بالعذاب . " ويقول أين شركائي " قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : " شركائي الذين " بهمزة وفتح الياء ، وقال البزي عن ابن كثير : " شركاي " مثل " هداي " ، والمعنى : أين شركائي على زعمكم ؟ هلا دفعوا عنكم ! . " الذين كنتم تشاقون فيهم " أي : تخالفون المسلمين فتعبدونهم وهم يعبدون الله ، وقرأ نافع : " تشاقون " بكسر النون ، أراد : تشاقونني ، فحذف النون الثانية ، وأبقى الكسرة تدل عليها ، والمعنى : كنتم تنازعونني فيهم ، وتخالفون أمري لأجلهم .

    قوله تعالى : " قال الذين أوتوا العلم " فيهم ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس . والثاني : الحفظة من الملائكة ، قاله مقاتل . والثالث : أنهم المؤمنون .

    فأما " الخزي " فقد شرحناه في مواضع [آل عمران :192] و " السوء " هاهنا : العذاب .
    الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون [ ص: 442 ] فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين

    قوله تعالى : " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " قال عكرمة : هؤلاء قوم كانوا بمكة أقروا بالإسلام ولم يهاجروا ، فأخرجهم المشركون كرها إلى بدر ، فقتل بعضهم . وقد شرحنا هذا في سورة (النساء :97) .

    قوله تعالى : " فألقوا السلم " قال ابن قتيبة : انقادوا واستسلموا ، والسلم : الاستسلام . قال المفسرون : وهذا عند الموت يتبرؤون من الشرك ، وهو قولهم : " ماكنا نعمل من سوء " وهو الشرك ، فترد عليهم الملائكة فتقول : " بلى " . وقيل : هذا رد خزنة جهنم عليهم " بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون " من الشرك والتكذيب . ثم يقال لهم : ادخلوا أبواب جهنم ، وقد سبق تفسير ألفاظ الآية [النساء :97] و[الحجر :44] .
    وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون

    قوله تعالى : " وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم " روى أبو صالح عن ابن عباس أن مشركي قريش بعثوا ستة عشر رجلا إلى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس ، ففرقوهم على كل عقبة أربعة رجال ، ليصدوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم : من أتاكم من الناس يسألكم عن محمد فليقل بعضكم : شاعر ، وبعضكم : كاهن ، وبعضكم : مجنون ، وألا تروه ولا يراكم خير لكم ، فإذا [ ص: 443 ] انتهوا إلينا صدقناكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث إلى كل أربعة منهم أربعة من المسلمين ، فيهم عبد الله بن مسعود ، فأمروا أن يكذبوهم ، فكان الناس إذا مروا على المشركين ، فقالوا ما قالوا ، رد عليهم المسلمون ، وقالوا كذبوا ، بل يدعو إلى الحق ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويدعو إلى الخير ، فيقولون : وما هذا الخير الذي يدعو إليه ؟ فيقولون : " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " .

    قوله تعالى : " قالوا خيرا " أي : أنزل خيرا ، ثم فسر ذلك الخير فقال : " للذين أحسنوا في هذه الدنيا " قالوا : لا إله إلا الله ، وأحسنوا العمل " حسنة " أي : كرامة من الله تعالى في الآخرة ، وهي الجنة ، وقيل : " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " في الدنيا وهي ما رزقهم من خيرها وطاعته فيها ، " ولدار الآخرة " يعني : الجنة " خير " من الدنيا .

    وفي قوله تعالى : " ولنعم دار المتقين " قولان :

    أحدهما : أنها الجنة ، قاله الجمهور . قال ابن الأنباري : في الكلام محذوف ، تقديره : ولنعم دار المتقين الآخرة ، غير أنه لما ذكرت أولا ، عرف معناها آخرا ، ويجوز أن يكون المعنى : ولنعم دار المتقين جنات عدن .

    والثاني : أنها الدنيا . قال الحسن : ولنعم دار المتقين الدنيا ، لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة .

    قوله تعالى : " جنات عدن " قد شرحناه في (براءة :72) .

    قوله تعالى : " الذين تتوفاهم الملائكة " وقرأ حمزة " يتوفاهم " بياء مع الإمالة . وفي معنى " طيبين " خمسة أقوال :

    أحدها : مؤمنين . والثاني : طاهرين من الشرك . والثالث: زاكية أفعالهم [ ص: 444 ] وأقوالهم . والرابع : طيبة وفاتهم ، سهل خروج أرواحهم . والخامسة : طيبة أنفسهم بالموت ، ثقة بالثواب .

    قوله تعالى : " يقولون " يعني الملائكة " سلام عليكم " .

    وفي أي وقت يكون هذا [السلام] فيه قولان :

    أحدهما : عند الموت . قال البراء بن عازب : يسلم عليه ملك الموت إذا دخل عليه . وقال القرظي : ويقول له : الله عز وجل يقرأ عليك السلام ، ويبشره بالجنة .

    والثاني : عند دخول الجنة . قال مقاتل : هذا قول خزنة الجنة لهم في الآخرة ، يقولون : سلام عليكم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #336
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (336)
    صــ 445 إلى صــ 452





    هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون

    قوله تعالى : " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة " وقرأ حمزة ، والكسائي : " يأتيهم " بالياء ، وهذا تهديد للمشركين ، وقد شرحناه في (البقرة :210) وآخر (الأنعام :158) .

    وفي قوله تعالى : " أو يأتي أمر ربك " قولان :

    أحدهما : أمر الله فيهم ، قاله ابن عباس . والثاني : العذاب في الدنيا ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " كذلك فعل الذين من قبلهم " يريد : كفار الأمم الماضية ، كذبوا كما كذب هؤلاء . " وما ظلمهم الله " بإهلاكهم " ولكن كانوا أنفسهم [ ص: 445 ] يظلمون " ، بالشرك " فأصابهم سيئات ما عملوا " أي : جزاؤها ، قال ابن عباس : جزاء ما عملوا من الشرك ، " وحاق بهم " قد بيناه في (الأنعام :10) ، والمعنى : أحاط بهم " ما كانوا به يستهزئون " من العذاب .
    وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين

    قوله تعالى : " وقال الذين أشركوا " يعني : كفار مكة " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء " يعني : الأصنام ، أي : لو شاء ما أشركنا ولا حرمنا من دونه من شيء من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، والحرث ، وذلك أنه لما نزل وما تشاءون إلا أن يشاء الله [الدهر :30] قالوا هذا ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل الاعتقاد ، وقيل : معنى كلامهم : لو لم يأمرنا بهذا ويرده منا ، لم نأته .

    قوله تعالى : " كذلك فعل الذين من قبلهم " أي : من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله ، " فهل على الرسل إلا البلاغ المبين " يعني : ليس عليهم إلا التبليغ ، فأما الهداية فهي إلى الله تعالى ، وبين ذلك بقوله : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا " أي : كما بعثناك في هؤلاء " أن اعبدوا الله " أي : وحدوه " واجتنبوا الطاغوت " وهو الشيطان " فمنهم من هدى الله " أي : أرشده [ ص: 446 ] " ومنهم من حقت عليه الضلالة " أي : وجبت في سابق علم الله ، فأعلم الله عز وجل أنه إنما بعث الرسل بالأمر بالعبادة ، وهو من وراء الإضلال والهداية ، " فسيروا في الأرض " أي : معتبرين بآثار الأمم المكذبة ، ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي ، فقال : " إن تحرص على هداهم " أي : [إن] تطلب هداهم بجهدك " فإن الله لا يهدي من يضل " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر : " لا يهدى " برفع الياء وفتح الدال ، والمعنى : من أضله فلا هادي له ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : " يهدي " بفتح الياء وكسر الدال ، ولم يختلفوا في " يضل " أنها بضم الياء وكسر الضاد ، وهذه القراءة تحتمل معنيين ، ذكرهما ابن الأنباري :

    أحدهما : لا يهدي من طبعه ضالا ، وخلقه شقيا .

    والثاني : لا يهدي ، أي : لا يهتدي من أضله ، أي : من أضله الله لا يهتدي ، فيكون معنى يهدي : يهتدي ، تقول العرب : قد هدي فلان الطريق ، يريدون : اهتدى .
    وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون

    قوله تعالى : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين ، فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما تكلم به : والذي [ ص: 447 ] أرجوه بعد الموت ، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت ؟! فأقسم بالله " لا يبعث الله من يموت " ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية . و " جهد أيمانهم " مفسر في (المائدة :53) . وقوله : " بلى " رد عليهم ، قال الفراء : والمعنى : " بلى " ليبعثنهم " وعدا عليه حقا " .

    قوله تعالى : " ليبين لهم الذي يختلفون فيه " قال الزجاج : يجوز أن يكون متعلقا بالبعث ، فيكون المعنى : بلى يبعثهم فيبين لهم ، ويجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا " ليبين لهم .

    وللمفسرين في قوله " ليبين لهم " قولان :

    أحدهما : أنهم جميع الناس ، قاله قتادة .

    والثاني : أنهم المشركون ، يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه .

    قوله تعالى : " أنهم كانوا كاذبين " أي : فيما أقسموا عليه من نفي البعث . ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله : " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة : " فيكون " رفعا ، وكذلك في كل القرآن . وقرأ ابن عامر ، والكسائي " فيكون " نصبا . قال مكي بن إبراهيم : من رفع ، قطعه عما قبله ، والمعنى : فهو يكون ، ومن نصب ، عطفه على " يقول " ، وهذا مثل قوله : وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وقد فسرناه في (البقرة :117) .

    فإن قيل : كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئا ؟

    فالجواب : أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق ، لأنه بمنزلة ما قد عوين وشوهد .

    قوله تعالى : " والذين هاجروا في الله " اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

    [ ص: 448 ] أحدها : أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلال ، وعمار ، وصهيب ، وخباب بن الأرت ، وعايش وجبر موليان لقريش ، أخذهم أهل مكة فجعلوا يعذبونهم ، ليردوهم عن الإسلام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو ، قاله داود بن أبي هند .

    والثالث : أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة . ومعنى " هاجروا في الله " ، أي : في طلب رضاه وثوابه " من بعد ما ظلموا " بما نال المشركون منهم ، " لنبوئنهم في الدنيا حسنة " وفيها خمسة أقوال :أحدها : لننزلنهم المدينة ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، وقتادة ، فيكون المعنى : لنبوئنهم دارا حسنة وبلدة حسنة . والثاني : لنرزقنهم في الدنيا الرزق الحسن ، قاله مجاهد . والثالث : النصر على العدو ، قاله الضحاك . والرابع : أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن ، وصار لأولادهم من الشرف ، ذكره الماوردي ، وقد روي معناه عن مجاهد ، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال : " لنبوئنهم في الدنيا حسنة " قال : لسان صادق . والخامس : أن المعنى : لنحسنن إليهم في الدنيا ، قال بعض أهل المعاني : فتكون على هذه الأقوال " لنبوئنهم " ، على سبيل الاستعارة ، إلا على القول الأول .

    قوله تعالى : " ولأجر الآخرة أكبر " قال ابن عباس : يعني : الجنة ، " لو كانوا يعلمون " يعني : أهل مكة .

    ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كان إذا أعطى الرجل من [ ص: 449 ] المهاجرين عطاءه ، قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أفضل ، ثم يتلو هذه الآية .

    ثم إن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال : " الذين صبروا " أي : على دينهم ، لم يتركوه لأذى نالهم ، وهم في ذلك واثقون بربهم .
    وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون

    قوله تعالى : " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا " قال المفسرون : لما أنكر مشركو قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ; فهلا بعث إلينا ملكا ! فنزلت هذه الآية ، والمعنى : أن الرسل كانوا مثلك آدميين ، إلا أنهم يوحى إليهم . وقرأ حفص عن عاصم : " نوحي " بالنون وكسر الحاء . " فاسألوا " يا معشر المشركين " أهل الذكر " وفيهم أربعة أقوال :

    أحدها : أنهم أهل التوراة والإنجيل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أهل التوراة ، قاله مجاهد . والثالث : أهل القرآن ، قاله ابن زيد . والرابع : العلماء بأخبار من سلف ، ذكره الماوردي .

    وفي قوله تعالى : " إن كنتم لا تعلمون " قولان :

    أحدهما : لا تعلمون أن الله تعالى بعث رسولا من البشر .

    والثاني : لا تعلمون أن محمدا رسول الله ، فعلى القول الأول ، جائز أن [ ص: 450 ] يسأل من آمن برسول الله ومن كفر ، لأن أهل الكتاب والعلم بالسير متفقون على أن الأنبياء كلهم ، من البشر ، وعلى الثاني إنما يسأل من آمن من أهل الكتاب ، وقد روي عن مجاهد " فاسألوا أهل الذكر " قال : عبد الله بن سلام ، وعن قتادة ، قال : سلمان الفارسي .

    قوله تعالى : " بالبينات والزبر " في هذه " الباء " قولان :

    أحدهما : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا أرسلناهم بالبينات . والزبر : الكتب . وقد شرحنا هذا في (آل عمران :184) .

    قوله تعالى : " وأنزلنا إليك الذكر " وهو القرآن بإجماع المفسرين " لتبين للناس ما نزل إليهم " [فيه] من حلال وحرام ، ووعد ووعيد " ولعلهم يتفكرون " في ذلك فيعتبرون .
    أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم

    قوله تعالى : " أفأمن الذين مكروا السيئات " قال المفسرون : أراد مشركي مكة . ومكرهم السيئات : شركهم وتكذيبهم ، وسمي ذلك مكرا ، لأن المكر في اللغة : السعي بالفساد ، وهذا استفهام إنكار ، ومعناه : ينبغي أن لا يأمنوا العقوبة ، وكان مجاهد يقول : عنى بهذا الكلام نمرود بن كنعان .

    قوله تعالى : " أو يأخذهم في تقلبهم " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : في أسفارهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .

    [ ص: 451 ] والثاني : في منامهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث : في ليلهم ونهارهم ، قاله الضحاك ، وابن جريج ، ومقاتل .

    والرابع : أنه جميع ما يتقلبون فيه ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " أو يأخذهم على تخوف " فيه قولان :

    أحدهما : على تنقص ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك . قال ابن قتيبة : التخوف : التنقص ، ومثله التخون . يقال : تخوفته الدهور وتخونته : إذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه . وقال الهيثم بن عدي : التخوف : التنقص ، بلغة أزد شنوءة .

    ثم في هذا التنقص ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تنقص من أعمالهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أخذ واحد بعد واحد ، روي عن ابن عباس أيضا . والثالث : تنقص أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم ، قاله الزجاج .

    والثاني : أنه التخوف نفسه ، ثم فيه قولان : أحدهما : يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز ، قاله قتادة . والثاني : أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى ، قاله الضحاك . وقال الزجاج : يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها ، فعلى هذا ، خوفهم قبل هلاكهم ، فلم يتوبوا ، فاستحقوا العذاب .

    قوله تعالى : " فإن ربكم لرءوف رحيم " إذ لم يعجل بالعقوبة ، وأمهل للتوبة .
    أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون

    [ ص: 452 ] قوله تعالى : " أولم يروا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " أولم يروا " بالياء ، وقرأ حمزة ، والكسائي : " تروا " بالتاء ، واختلف عن عاصم .

    قوله تعالى : " إلى ما خلق الله من شيء " أراد من شيء له ظل ، من جبل ، أو شجر ، أو جسم قائم " يتفيأ " قرأ الجماعة بالياء ، وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتاء " ظلاله " وهو جمع ظل ، وإنما جمع وهو مضاف إلى واحد ، لأنه واحد يراد به الكثرة ، كقوله تعالى : "لتستووا على ظهوره " [الزخرف :13] . قال ابن قتيبة : ومعنى يتفيأ ظلاله : يدور ويرجع من جانب إلى جانب ، والفيء : الرجوع ، ومنه قيل للظل بالعشي : فيء ، لأنه فاء عن المغرب إلى المشرق . قال المفسرون : إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة ، كان الظل قدامك ، فإذا ارتفعت كان عن يمينك ، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك ، وإذا دنت للغروب كان على يسارك ، وإنما وحد اليمين ، والمراد به : الجمع ، إيجازا في اللفظ ، كقوله تعالى : ويولون الدبر [القمر :45] ، ودلت " الشمائل " على أن المراد به الجميع ، وقال الفراء : إنما وحد اليمين ، وجمع الشمائل ، ولم يقل الشمال ، لأن كل ذلك جائز في اللغة ، وأنشد :


    الواردون وتيم في ذرى سبإ قد عض أعناقهم جلد الجواميس


    ولم يقل : جلود ، ومثله :


    كلوا في نصف بطنكم تعيشوا فإن زمانكم زمن خميص


    وإنما جاز التوحيد ، لأن أكثر الكلام يواجه به الواحد .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #337
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (337)
    صــ 453 إلى صــ 460





    [ ص: 453 ] وقال غيره : اليمين راجعة إلى لفظ ما ، وهو واحد ، والشمائل راجعة إلى المعنى .

    قوله تعالى : " سجدا لله " قال ابن قتيبة : مستسلمة ، منقادة ، وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى : وظلالهم بالغدو والآصال [الرعد :15] .

    وفي قوله تعالى : " وهم داخرون " قولان :

    أحدهما: والكفار صاغرون .

    والثاني : وهذه الأشياء داخرة مجبولة على الطاعة . قال الأخفش : إنما ذكر من ليس من الإنس ، لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا الإنس في الفعل .

    قوله تعالى : " ولله يسجد ما في السماوات . . . . " الآية . الساجدون على ضربين :

    أحدهما : من يعقل ، فسجوده عبادة .

    والثاني : من لا يعقل ، فسجوده بيان أثر الصنعة فيه ، والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق ، هذا قول جماعة من العلماء ، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر :


    بجيش تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيه سجدا للحوافر


    [ ص: 454 ] قال ابن قتيبة : حجراته ، أي : جوانبه ، يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت . فأما الشمس والقمر والنجوم ، فألحقها جماعة بمن يعقل ، فقال أبو العالية : سجودها حقيقة ، ما منها غارب إلا خر ساجدا بين يدي الله عز وجل ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، ويشهد لقول أبي العالية ، حديث أبي ذر قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين وجبت الشمس ، فقال : " يا أبا ذر ! تدري أين ذهبت الشمس " قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل ، فتستأذن في الرجوع ، فيؤذن لها ، فكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت ، فترجع إلى مطلعها فذلك مستقرها ، ثم قرأ : والشمس تجري لمستقر لها [يس :38] " . أخرجه البخاري ومسلم . وأما النبات والشجر ، فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء :

    أحدها : أن يكون سجودا لا نعلمه ، وهذا إذا قلنا : إن الله يودعه فهما . والثاني : أنه تفيؤ ظلاله . والثالث : بيان الصنعة فيه . والرابع : الانقياد لما سخر له .

    قوله تعالى : " والملائكة " إنما أخرج الملائكة من الدواب ، لخروجهم بالأجنحة عن صفة الدبيب .

    وفي قوله : " وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون " قولان :

    أحدهما : أنه من صفة الملائكة خاصة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .

    والثاني : أنه عام في جميع المذكورات ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    [ ص: 455 ] وفي قوله : " من فوقهم " قولان ذكرهما ابن الأنباري .

    أحدهما : أنه ثناء على الله تعالى ، وتعظيم لشأنه ، وتلخيصه : يخافون ربهم عاليا رفيعا عظيما .

    والثاني : أنه حال ، وتلخيصه : يخافون ربهم معظمين له عالمين بعظيم سلطانه .
    وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون

    قوله تعالى : " وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين " سبب نزولها : أن رجلا من المسلمين دعا الله في صلاته ، ودعا الرحمن ، فقال رجل من المشركين : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا ، فما بال هذا يدعو ربين اثنين ؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . قال الزجاج : ذكر الاثنين توكيد ، كما قال تعالى : " إنما هو إله واحد "

    قوله تعالى : " وله الدين واصبا " في المراد بالدين أربعة أقوال :

    أحدها : أنه الإخلاص ، قاله مجاهد . والثاني : العبادة ، قاله سعيد بن جبير .

    والثالث : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقامة الحدود، والفرائض ، قاله عكرمة . والرابع : الطاعة ، قاله ابن قتيبة .

    وفي معنى " واصبا " أربعة أقوال :

    أحدها : دائما ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، والثوري ، واللغويون . قال أبو الأسود الدؤلي :

    [ ص: 456 ]
    لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا


    قال ابن قتيبة : معنى الكلام : أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلكة ، غير الله عز وجل ، فإن الطاعة تدوم له .

    والثاني : واجبا ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثالث : خالصا ، قاله الربيع بن أنس .

    والرابع : وله الدين موصبا ، أي : متعبا ، لأن الحق ثقيل ، وهو كما تقول العرب : هم ناصب ، أي : منصب ، قال النابغة :


    كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب


    ذكره ابن الأنباري . قال الزجاج : ويجوز أن يكون المعنى : له الدين ، والطاعة ، رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه ، أو لم يسهل ، فله الدين وإن كان فيه الوصب ، والوصب : شدة التعب .
    وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون

    قوله تعالى : " وما بكم من نعمة " قال الزجاج : المعنى : ما حل بكم من نعمة ، من صحة في جسم ، أو سعة في رزق ، أو متاع من مال وولد " فمن الله " وقرأ ابن أبي عبلة : " فمن الله " بتشديد النون .

    [ ص: 457 ] قوله تعالى : " ثم إذا مسكم الضر " قال ابن عباس : يريد الأسقام ، والأمراض ، والحاجة .

    قوله تعالى : " فإليه تجأرون " قال الزجاج : " تجأرون " : ترفعون أصواتكم إليه بالاستغاثة . يقال : جأر يجأر جؤارا ، والأصوات مبنية على " فعال " و " فعيل " ، فأما " فعال " فنحو " الصراخ " و " الخوار " ، وأما " الفعيل " فنحو " العويل " و " الزئير " ، والفعال أكثر .

    قوله تعالى : " إذا فريق منكم " قال ابن عباس : يريد أهل النفاق . قال ابن السائب : يعني الكفار .

    قوله تعالى : " ليكفروا بما آتيناهم " قال الزجاج : المعنى : ليكفروا بأنا أنعمنا عليهم ، فجعلوا نعمنا سببا إلى الكفر ، وهو كقوله تعالى : ربنا إنك آتيت فرعون إلى قوله : ليضلوا عن سبيلك [يونس :88] ، ويجوز أن يكون " ليكفروا " ، أي : ليجحدوا نعمة الله في ذلك .

    قوله تعالى : " فتمتعوا " تهدد ، " فسوف تعلمون " عاقبة أمركم .
    ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون

    قوله تعالى : " ويجعلون لما لا يعلمون " يعني : الأوثان .

    وفي الذين لا يعلمون قولان :

    [ ص: 458 ] أحدهما : أنهم الجاعلون ، وهم المشركون ، والمعنى : لما لا يعلمون لها ضرا ولا نفعا ; فمفعول العلم محذوف ، وتقديره : ما قلنا ، هذا قول مجاهد ، وقتادة .

    والثاني : أنها الأصنام التي لا تعلم شيئا ، وليس لها حس ولا معرفة ، وإنما قال : يعلمون ، لأنهم لما نحلوها الفهم ، أجراها مجرى من يعقل على زعمهم ، قاله جماعة من أهل المعاني . قال المفسرون : وهؤلاء مشركوالعرب جعلوا لأوثانهم جزءا من أموالهم ، كالبحيرة ، والسائبة وغير ذلك مما شرحناه في (الأنعام :139) .

    قوله تعالى : " تالله لتسألن " رجع عن الإخبار عنهم إلى الخطاب لهم ، وهذا سؤال توبيخ .

    قوله تعالى : " ويجعلون لله البنات " قال المفسرون : يعني : خزاعة وكنانة ، زعموا أن الملائكة بنات الله " سبحانه " أي : تنـزه عما زعموا . " ولهم ما يشتهون " يعني : البنين . قال أبو سليمان : المعنى : ويتمنون لأنفسهم الذكور .

    قوله تعالى : " وإذا بشر أحدهم بالأنثى " أي : أخبر أنه قد ولد له بنت " ظل وجهه مسودا " قال الزجاج : أي : متغيرا تغير مغتم ، يقال لكل من لقي مكروها : قد اسود وجهه غما وحزنا .

    قوله تعالى : " وهو كظيم " أي : يكظم شدة وجده ، فلا يظهره ، وقد شرحناه في سورة (يوسف :84) .

    قوله تعالى : " يتوارى من القوم " قال المفسرون : وهذا صنيع مشركي العرب ، كان أحدهم إذا ضرب امرأته المخاض ، توارى إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكرا ، سر به ، وإن كانت أنثى ، لم يظهر أياما يدبر كيف يصنع في أمرها ، وهو قوله تعالى : " أيمسكه على هون " فالهاء ترجع إلى ما في قوله : " ما بشر به " ، والهون في كلام العرب : الهوان . وقرأ ابن مسعود ، وابن [ ص: 459 ] أبي عبلة ، والجحدري : " على هوان " ، والدس : إخفاء الشيء في الشيء ، وكانوا يدفنون البنت وهي حية " ألا ساء ما يحكمون " إذ جعلوا لله البنات اللاتي محلهن منهم هذا ، ونسبوه إلى الولد ، وجعلوا لأنفسهم البنين .
    للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم

    قوله تعالى : " للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء " أي : صفة السوء من احتياجهم إلى الولد ، وكراهتهم للإناث ، خوف الفقر والعار ، " ولله المثل الأعلى " أي : الصفة العليا من تنـزهه وبراءته عن الولد .
    ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون

    قوله تعالى : " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم " أي : بشركهم ومعاصيهم ، كلما وجد شيء منهم أوخذوا به " ما ترك على ظهرها " يعني : الأرض ، وهذه كناية عن غير مذكور ، غير أنه مفهوم ، لأن الدواب إنما هي على الأرض .

    وفي قوله " من دابة " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه عنى جميع ما يدب على وجه الأرض ، قاله ابن مسعود . قال قتادة : وقد فعل ذلك في زمن نوح عليه السلام ، وقال السدي : المعنى لأقحط المطر فلم تبق دابة إلا هلكت ، وإلى نحوه ذهب مقاتل .

    والثاني : أنه أراد من الناس خاصة ، قاله ابن جريج .

    والثالث : من الإنس والجن ، قاله ابن السائب ، وهو اختيار الزجاج .

    [ ص: 460 ] قوله تعالى : " ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " وهو منتهى آجالهم ، وباقي الآية قد تقدم [الأعراف :34] .
    ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون

    قوله تعالى : " ويجعلون لله ما يكرهون " المعنى : ويحكمون له بما يكرهونه لأنفسهم ، وهو البنات ، " وتصف ألسنتهم الكذب " أي : تقول الكذب ، وقرأ أبو العالية ، والنخعي ، وابن أبي عبلة : " الكذب " بضم الكاف والذال . ثم فسر ذلك الكذب بقوله : " أن لهم الحسنى " وفيها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها البنون ، قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل .

    والثاني : أنها الجزاء الحسن من الله تعالى ، قاله الزجاج .

    والثالث : [أنها] الجنة ، وذلك أنه لما وعد الله المؤمنين الجنة ، قال المشركون : إن كان ما تقولونه حقا ، لندخلنها قبلكم ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " لا جرم " قد شرحناها فيما مضى [هود :22] . وقال الزجاج : " لا " رد لقولهم ، والمعنى : ليس ذلك كما وصفوا " جرم " أن لهم النار ، المعنى : جرم فعلهم ، أي : كسب فعلهم هذا " أن لهم النار وأنهم مفرطون " وفيه أربعة أوجه ، قرأ الأكثرون : " مفرطون " بسكون الفاء وتخفيف الراء وفتحها ، وفي معناها قولان :

    أحدهما : متركون ، قاله ابن عباس . وقال الفراء : منسيون في النار .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #338
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (338)
    صــ 461 إلى صــ 468





    والثاني : معجلون ، قاله ابن عباس أيضا . وقال ابن قتيبة : معجلون إلى النار . قال الزجاج : معنى " الفرط " في اللغة : المتقدم ، فمعنى " مفرطون " : [ ص: 461 ] مقدمون إلى النار ، ومن فسرها " متركون " فهو كذلك [أيضا] ، أي : قد جعلوا مقدمين إلى العذاب أبدا ، متروكين فيه . وقرأ نافع ، ومحبوب ، عن أبي عمرو ، وقتيبة عن الكسائي " مفرطون " بسكون الفاء وكسر الراء وتخفيفها ، قال الزجاج : ومعناها : أنهم أفرطوا في معصية الله . وقرأ أبو جعفر وابن أبي عبلة " مفرطون " بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها . قال الزجاج : ومعناها : أنهم فرطوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة ، وتصديق هذه القراءة يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله [الزمر :56] . وروى الوليد بن مسلم عن ابن عامر " مفرطون " بفتح الفاء والراء وتشديدها ، قال الزجاج : وتفسيرها كتفسير القراءة الأولى ، فالمفرط و المفرط بمعنى واحد .
    تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

    قوله تعالى : " تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك " قال المفسرون : هذه [ ص: 462 ] تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم " فزين لهم الشيطان أعمالهم " الخبيثة حتى عصوا وكذبوا ، " فهو وليهم اليوم " فيه قولان :

    أحدهما : أنه يوم القيامة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل ، كأنهما أرادا : فهو وليهم يوم تكون لهم النار .

    والثاني : أنه الدنيا ، فالمعنى فهو مواليهم في الدنيا " ولهم عذاب أليم " في الآخرة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " إلا لتبين لهم " يعني : الكفار " الذي اختلفوا فيه " أي : ما خالفوا فيه المؤمنين من التوحيد والبعث والجزاء ، فالمعنى : أنزلناه بيانا لما وقع فيه الاختلاف .
    والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون

    قوله تعالى : " والله أنزل من السماء ماء " يعني : المطر " فأحيا به الأرض بعد موتها " أي : بعد يبسها " إن في ذلك لآية لقوم يسمعون " أي : يعتبرون .

    قوله تعالى : " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم " قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : " نسقيكم " بضم النون ، ومثله في (المؤمنون :21) . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : " نسقيكم " بفتح النون فيهما . وقرأ أبو جعفر : " تسقيكم " بتاء مفتوحة ، وكذلك في (المؤمنون :21) ، [ ص: 463 ] وقد سبق بيان الأنعام . وذكرنا معنى " العبرة " في (آل عمران :13) ، والفرق بين " سقى " و " أسقى " في (الحجر :22) .

    فأما قوله : " مما في بطونه " فقال الفراء : النعم والأنعام شيء واحد ، وهما جمعان ، فرجع التذكير إلى معنى " النعم " إذ كان يؤدي عن الأنعام ، أنشدني بعضهم :

    وطاب ألبان اللقاح وبرد

    فرجع إلى اللبن ، لأن اللبن والألبان في معنى ; قال : وقال الكسائي : أراد : نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا ، وهو صواب ، أنشدني بعضهم :

    مثل الفراخ نتفت حواصله

    وقال المبرد : هذا فاش في القرآن ، كقوله للشمس : هذا ربي [الأنعام :78] يعني : هذا الشيء الطالع ، وكذلك وإني مرسلة إليهم بهدية ثم قال : فلما جاء سليمان [النمل :35،36] ولم يقل : " جاءت " لأن المعنى : جاء الشيء الذي ذكرنا ، وقال أبو عبيدة : الهاء في " بطونه " للبعض ، والمعنى : نسقيكم مما في بطون البعض الذي له لبن ، لأنه ليس لكل الأنعام لبن ، وقال ابن قتيبة : ذهب بقوله : " مما في بطونه " إلى النعم ، والنعم تذكر وتؤنث ، والفرث : ما في الكرش ، والمعنى : أن اللبن كان طعاما ، فخلص من ذلك الطعام دم ، وبقي منه فرث في الكرش ، وخلص من ذلك الدم " لبنا خالصا سائغا للشاربين " أي : سهلا في الشرب لا يشجى به شاربه ، ولا يغص . وقال بعضهم : سائغا ، أي : لا تعافه النفس وإن كان قد خرج من بين فرث ودم ، وروى [ ص: 464 ] أبو صالح عن ابن عباس قال : إذا استقر العلف في الكرش ، طحنه ، فصار أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، وأوسطه لبنا ، والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث في الكرش .

    قوله تعالى : " ومن ثمرات النخيل والأعناب " تقدير الكلام : ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا . والعرب تضمر " ما " كقوله : وإذا رأيت ثم [الإنسان :20] أي : ما ثم . والكناية في " منه " عائدة على " ما " المضمرة . وقال الأخفش : إنما لم يقل : منهما ، لأنه أضمر الشيء ، كأنه قال : ومنها شيء تتخذون منه سكرا .

    وفي المراد بالسكر ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الخمر ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وإبراهيم ابن أبي ليلى ، والزجاج ، وابن قتيبة . وروى عمرو بن سفيان عن ابن عباس : قال السكر : ما حرم من ثمرتها ، وقال هؤلاء المفسرون : وهذه الآية نزلت إذ كانت الخمرة مباحة ، ثم نسخ [ذلك] بقوله : فاجتنبوه [المائدة :90] وممن ذكر أنها منسوخة ، سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي .

    والثاني : أن السكر : الخل ، بلغة الحبشة ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال الضحاك : هو الخل ، بلغة اليمن .

    والثالث : أن " السكر " الطعم ، يقال : هذا له سكر ، أي : طعم ، وأنشدوا :

    جعلت عيب الأكرمين سكرا

    [ ص: 465 ] قاله أبو عبيدة . فعلى هذين القولين ، الآية محكمة . فأما الرزق الحسن ، فهو ما أحل منهما ، كالتمر ، والعنب ، والزبيب ، والخل ، ونحو ذلك .
    وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون

    قوله تعالى : " وأوحى ربك إلى النحل " في هذا الوحي قولان :

    أحدهما : أنه إلهام ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضحاك ، ومقاتل .

    والثاني : أنه أمر ، رواه العوفي عن ابن عباس . وروى ابن مجاهد عن أبيه قال : أرسل إليها . والنحل : زنابير العسل ، واحدتها نحلة . و " يعرشون " يجعلونه عريشا . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم " يعرشون " بضم الراء ، وهما لغتان ، يقال : " يعرش " و " يعرش " مثل " يعكف " و " يعكف " ثم فيه قولان :

    أحدهما : ما يعرشون من الكروم ، قاله ابن زيد .

    والثاني : أنها سقوف البيوت ، قاله الفراء . وقال ابن قتيبة : كل شيء عرش ، من كرم ، أو نبات ، أو سقف ، فهو عرش ، ومعروش . وقيل : المراد بـ " مما يعرشون " : مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي فيها العسل ، ولولا التسخير ، ما كانت تأوي إليها .

    قوله تعالى : " ثم كلي من كل الثمرات " قال ابن قتيبة : أي : من الثمرات ، [ ص: 466 ] و " كل " هاهنا ليست على العموم ، ومثله قوله : تدمر كل شيء [الأحقاف :25] . قال الزجاج : فهي تأكل الحامض ، والمر ، وما لا يوصف طعمه ، فيحيل الله عز وجل من ذلك عسلا .

    قوله تعالى : " فاسلكي سبل ربك " السبل : الطرق ، وهي التي يطلب فيها الرعي . و " الذلل " جمع ذلول . وفي الموصوف بها قولان :

    أحدهما : أنها السبل ، فالمعنى : اسلكي السبل مذللة لك ، فلا يتوعر عليها مكان سلكته ، وهذا قول مجاهد ، واختيار الزجاج .

    والثاني : أنها النحل ، فالمعنى : إنك مذللة بالتسخير لبني آدم ، وهذا قول قتادة ، واختيار ابن قتيبة .

    قوله تعالى : " يخرج من بطونها شراب " يعني : العسل " مختلف ألوانه " قال ابن عباس : منه أحمر ، وأبيض ، وأصفر . قال الزجاج : [يخرج] من بطونها ، إلا أنها تلقيه من أفواهها ، وإنما قال : من بطونها ، لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن ، فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم .

    قوله تعالى : " فيه شفاء للناس " في هاء الكناية ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها ترجع إلى العسل ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود . واختلفوا ، هل الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره ، أم لا ؟ على قولين : أحدهما : أنه عام في كل مرض . قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء . وقال قتادة : فيه شفاء للناس من الأدواء . وقد روى أبو سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال : " اسقه عسلا " فسقاه ، ثم أتى فقال : قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، قال : " اسقه ، [ ص: 467 ] عسلا " ، فذكر الحديث . . . إلى أن قال : فشفي ، إما في الثالثة ، وإما في الرابعة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله ، وكذب بطن أخيك " أخرجه البخاري ومسلم . ويعني بقوله " صدق الله " : هذه الآية . والثاني : فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه ، قاله السدي . والصحيح أن ذلك خرج مخرج الغالب . قال ابن الأنباري : الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء ، ويدخل في الأدوية ، فإذا لم يوافق آحاد المرضى ، فقد وافق الأكثرين ، وهذا كقول العرب : الماء حياة كل شيء ، وقد نرى من يقتله الماء ، وإنما الكلام على الأغلب .

    والثاني : أن الهاء ترجع إلى الاعتبار . والشفاء : بمعنى الهدى ، قاله الضحاك .

    والثالث : أنها ترجع إلى القرآن ، قاله مجاهد .
    والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير

    قوله تعالى : " والله خلقكم " أي : أوجدكم ولم تكونوا شيئا " ثم يتوفاكم " عند انقضاء آجالكم ، " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " وهو أردؤه ، وأدونه ، وهي حالة الهرم . وفي مقداره من السنين ثلاثة أقوال :

    أحدها : خمس وسبعون سنة ، قاله علي عليه السلام . والثاني : تسعون سنة ، قاله قتادة . والثالث : ثمانون سنة ، قاله قطرب .

    قوله تعالى : " لكي لا يعلم بعد علم شيئا " قال الفراء : لكي لا يعقل من بعد عقله الأول شيئا . وقال ابن قتيبة : أي : حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئا ، لشدة هرمه . وقال الزجاج : المعنى : أن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفا ، [ ص: 468 ] فيصير بعد أن كان عالما جاهلا ، ليريكم من قدرته ، كما قدر على إماتته وإحيائه ، أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : ليس هذا في المسلمين ، المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله ، وعقلا ، ومعرفة . وقال عكرمة : من قرأ القرآن ، لم يرد إلى أرذل العمر .
    والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون

    قوله تعالى : " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " يعني : فضل السادة على المماليك " فما الذين فضلوا " يعني : السادة " برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم " فعبرت " ما " عن " من " لأنه موضع إبهام ، تقول : ما في الدار ؟ فيقول المخاطب : رجلان أو ثلاثة ، ومعنى الآية : أن المولى لا يرد على ما ملكت يمينه من ماله حتى يكون المولى والمملوك في المال سواء ، وهو مثل ضربه الله تعالى للمشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء له ، والأصنام ملكا له ، يقول : إذا لم يكن عبيدكم معكم في الملك سواء ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء ، وترضون لي ما تأنفون لأنفسكم منه ؟! وروى العوفي عن ابن عباس ، قال : لم يكونوا أشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني .

    وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : نزلت في نصارى نجران حين قالوا : عيسى ابن الله تعالى .

    قوله تعالى : " أفبنعمة الله يجحدون " قرأ أبو بكر عن عاصم : " تجحدون " بالتاء . وفي هذه النعمة قولان :

    أحدهما : حجته وهدايته . والثاني : فضله ورزقه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #339
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (339)
    صــ 469 إلى صــ 476





    [ ص: 469 ] والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون

    قوله تعالى : " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا " يعني النساء .

    وفي معنى " من أنفسكم " قولان :

    أحدهما : أنه خلق آدم ، ثم خلق زوجته منه ، قاله قتادة .

    والثاني : " من أنفسكم " ، أي : من جنسكم من بني آدم ، قاله ابن زيد .

    وفي الحفدة خمسة أقوال :

    أحدها : أنهم الأصهار ، أختان الرجل على بناته ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ، ومجاهد في رواية ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، وأنشدوا من ذلك :


    ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير

    ولكنها نفس علي أبية
    عيوف لأصهار اللئام قذور


    والثاني : أنهم الخدم ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في رواية الحسن ، وطاووس ، وعكرمة في رواية الضحاك ، وهذا القول يحتمل وجهين : أحدهما : أنه يراد بالخدم : الأولاد ، فيكون المعنى : أن الأولاد يخدمون . قال ابن قتيبة : الحفدة : الخدم والأعوان ، فالمعنى : هم بنون ، وهم خدم . وأصل [ ص: 470 ] الحفد : مداركة الخطو والإسراع في المشي ، وإنما يفعل الخدم هذا ، فقيل لهم : حفدة . ومنه يقال في دعاء الوتر : " وإليك نسعى ونحفد " . والثاني : أن يراد بالخدم : المماليك ، فيكون معنى الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، وجعل لكم حفدة من غير الأزواج ، ذكره ابن الأنباري .

    والثالث : أنهم بنو امرأة الرجل من غيره ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .

    والرابع : [أنهم] ولد الولد ، رواه مجاهد عن ابن عباس .

    والخامس : أنهم كبار الأولاد ، والبنون : صغارهم ، قاله ابن السائب ، ومقاتل . قال مقاتل : وكانوا في الجاهلية تخدمهم أولادهم . قال الزجاج : وحقيقة هذا الكلام أن الله تعالى جعل من الأزواج بنين ، ومن يعاون على ما يحتاج إليه بسرعة وطاعة .

    قوله تعالى : " ورزقكم من الطيبات " قال ابن عباس : يريد : من أنواع الثمار والحبوب والحيوان .

    قوله تعالى : " أفبالباطل يؤمنون " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الأصنام ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أنه الشريك والصاحبة والولد ، فالمعنى : يصدقون أن لله ذلك ؟! قاله عطاء .

    والثالث : أنه الشيطان ، أمرهم بتحريم البحيرة والسائبة ، فصدقوا .

    وفي المراد بـ " نعمة الله " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها التوحيد ، قاله ابن عباس . والثاني : القرآن ، والرسول . والثالث : الحلال الذي أحله الله لهم .

    [ ص: 471 ] قوله تعالى : " ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا " وفي المشار إليه قولان :

    أحدهما : أنها الأصنام ، قاله قتادة . والثاني : الملائكة ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " من السماوات " يعني : المطر ، و " من الأرض " النبات ، والثمر .

    قوله تعالى : " شيئا " قال الأخفش : جعل " شيئا " بدلا من الرزق ، والمعنى : لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا ، " ولا يستطيعون " أي : لا يقدرون على شيء . قال الفراء : وإنما قال في أول الكلام : " يملك " وفي آخره : " يستطيعون " ، لأن " ما " في مذهب : جمع لآلهتهم ، فوحد " يملك " على لفظ " ما " وتوحيدها ، وجمع في " يستطيعون " على المعنى ، كقوله : ومنهم من يستمعون إليك [يونس :42] .

    قوله تعالى : " فلا تضربوا لله الأمثال " أي : لا تشبهوه بخلقه ، لأنه لا يشبه شيئا ، ولا يشبهه شيء ، فالمعنى : لا تجعلوا له شريكا .

    وفي قوله : " إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون " أربعة أقوال :

    أحدها : يعلم ضرب المثل ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، قاله ابن السائب .

    والثاني : يعلم أنه ليس له شريك ، وأنتم لا تعلمون أنه ليس له شريك ، قاله مقاتل .

    والثالث : يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال ، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه .

    والرابع : يعلم ما كان ويكون ، وأنتم لا تعلمون قدر عظمته حين أشركتم به ، ونسبتموه إلى العجز عن بعث خلقه .
    [ ص: 472 ] ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم

    قوله تعالى : " ضرب الله مثلا " أي : بين شبها فيه بيان المقصود ، وفيه قولان :

    أحدهما : أنه مثل للمؤمن والكافر . فالذي " لا يقدر على شيء " هو الكافر ، لأنه لا خير عنده ، وصاحب الرزق هو المؤمن ، لما عنده من الخير ، هذا قول ابن عباس ، وقتادة .

    والثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان ، لأنه مالك كل شيء ، وهي لا تملك شيئا ، هذا قول مجاهد ، والسدي . وذكر في التفسير أن هذا المثل ضرب بقوم كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيهم قولان :

    أحدهما : أن المملوك : أبو الجوار ، وصاحب الرزق الحسن : سيده هشام بن عمرو ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال مقاتل : المملوك : أبو الحواجر .

    والثاني : أن المملوك : أبو جهل بن هشام ، وصاحب الرزق الحسن : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، قاله ابن جريج . فأما قوله : " هل يستوون " ولم يقل : يستويان ، لأن المراد : الجنس . وقال ابن الأنباري : لفظ " من " لفظ توحيد ، ومعناها معنى الجمع ، ولم يقع المثل بعبد معين ، ومالك معين ، لكن عني [ ص: 473 ] بهما جماعة عبيد ، وقوم مالكون ، فلما فارق من تأويل الجمع ، جمع عائدها لذلك .

    وقوله تعالى : " الحمد لله " أي : هو المستحق للحمد ، لأنه المنعم ، ولا نعمة للأصنام ، " بل أكثرهم " يعني المشركين :لا يعلمون " أن الحمد لله . قال العلماء : وصف أكثرهم بذلك ، والمراد : جميعهم .

    قوله تعالى : " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم " قد فسرنا " البكم " في (البقرة :18) . ومعنى " لا يقدر على شيء " أي : من الكلام ، لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه . " وهو كل على مولاه " قال ابن قتيبة : أي : ثقل على وليه وقرابته . وفيمن أريد بهذا المثل أربعة أقوال :

    أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، فالكافر هو الأبكم ، والذي يأمر بالعدل [هو] المؤمن ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : أنها نزلت في عثمان بن عفان ، هو الذي يأمر بالعدل ، وفي مولى له كان يكره الإسلام وينهى عثمان عن النفقة في سبيل الله ، وهو الأبكم ، رواه إبراهيم بن يعلى بن منية عن ابن عباس .

    والثالث : أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه ، وللوثن . فالوثن : هو الأبكم ، والله تعالى : هو الآمر بالعدل ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، وابن السائب ، ومقاتل .

    والرابع : أن المراد بالأبكم : أبي بن خلف ، وبالذي يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعون ، قاله عطاء . فيخرج على هذه الأقوال في معنى " مولاه " قولان :

    أحدهما : أنه مولى حقيقة ، إذا قلنا : إنه رجل من الناس .

    والثاني : أنه بمعنى الولي ، إذا قلنا : إنه الصنم ، فالمعنى : وهو ثقل على [ ص: 474 ] وليه الذي يخدمه ويزينه .

    ويخرج في معنى " أينما يوجهه " قولان : إن قلنا : إنه رجل ، فالمعنى : أينما يرسله ، والتوجيه : الإرسال في وجه من الطريق . وإن قلنا : إنه الصنم ، ففي معنى الكلام قولان : أحدهما : أينما يدعوه ، لا يجيبه ، قاله مقاتل . والثاني : أينما توجه تأميله إياه ورجاه له ، لا يأته ذلك بخير ، فحذف التأميل ، وخلفه الصنم ، كقوله : ما وعدتنا على رسلك [آل عمران :194] أي : على ألسنة رسلك . وقرأ البزي عن ابن محيصن " أينما توجهه " بالتاء على الخطاب . فأما قوله : " لا يأت بخير " فإن قلنا : هو رجل ، فإنما كان كذلك ، لأنه لا يفهم ما يقال له ، ولا يفهم عنه ، إما لكفره وجحوده ، أو لبكم به . وإن قلنا : إنه الصنم ، فلكونه جمادا . " هل يستوي هو " أي : هذا الأبكم " ومن يأمر بالعدل " أي : ومن هو قادر على التكلم ، ناطق الحق .
    ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير

    قوله تعالى : " ولله غيب السماوات والأرض " قد ذكرناه في آخر (هود :123) وسبب نزول هذه الآية أن كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى الساعة ؟ فنزلت هذه ، قاله مقاتل . وقال ابن السائب : المراد بالغيب هاهنا : قيام الساعة .

    قوله تعالى : " وما أمر الساعة " يعني : القيامة " إلا كلمح البصر " واللمح : النظر بسرعة ، والمعنى : إن القيامة في سرعة قيامها وبعث الخلائق ، كلمح العين ، لأن الله تعالى يقول : كن فيكون [البقرة :117] . " أو هو أقرب " قال مقاتل : بل هو أسرع . وقال الزجاج : ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر ، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء .
    [ ص: 475 ] والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون

    قوله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم " قرأ حمزة " إمهاتكم " بكسر الألف والميم ، وقرأ الكسائي بكسر الألف وفتح الميم ، والباقون بضم الألف وفتح الميم ، وكذلك في (النور :61) و(الزمر :6) و(النجم :32) ولا خلاف بينهم في الابتداء بضم الهمزة .

    قوله تعالى : " وجعل لكم السمع " لفظه لفظ الواحد ، والمراد به الجميع ، وقد بينا علة ذلك في أول (البقرة :7) . والأفئدة : جمع فؤاد . قال الزجاج : مثل : غراب وأغربة ، ولم يجمع " فؤاد " على أكثر العدد ، لم يقل فيه :: " فئدان " مثل غراب وغربان . وقال أبو عبيدة : وإنما جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم ، غير أن العرب تقدم وتؤخر ، وأنشد "


    ضخم تعلق أشناق الديات به إذا المؤون أمرت فوقه حملا


    [الشنق : ما بين الفريضتين] . والمؤون أعظم من الشنق ، فبدأ بالأقل قبل الأعظم .

    قال المفسرون : ومقصود الآية : أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهالا بالأشياء ، وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إلى العلم .
    ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون

    قوله تعالى : " مسخرات في جو السماء " قال الزجاج : هو الهواء البعيد من الأرض .

    [ ص: 476 ] قوله تعالى : " ما يمسكهن إلا الله " فيه قولان :

    أحدهما : ما يمسكهن عند قبض أجنحتهن وبسطها أن يقعن على الأرض إلا الله ، قاله الأكثرون .

    والثاني : ما يمسكهن أن يرسلن الحجارة على شرار هذه الأمة ، كما فعل بغيرهم ، إلا الله ، قاله ابن السائب .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #340
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الحلقة (340)
    صــ 477 إلى صــ 484



    والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون

    قوله تعالى : " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا " أي : موضعا تسكنون فيه ، وهي المساكن المتخذة من الحجر والمدر تستر العورات والحرم ، وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن بناء البيت وتسقيفه ، " وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا " وهي القباب والخيم المتخذة من الأدم " تستخفونها " أي : يخف عليكم حملها " يوم ظعنكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو " ظعنكم " بفتح العين . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي [ ص: 477 ] بتسكين العين ، وهما لغتان ، كالشعر والشعر ، والنهر والنهر ، والمعنى : إذا سافرتم ، " ويوم إقامتكم " أي : لا تثقل عليكم في الحالين . " ومن أصوافها " يعني : الضأن " وأوبارها " يعني : الإبل " وأشعارها " يعني : المعز " أثاثا " قال الفراء : الأثاث : المتاع ، لا واحد له ، كما أن المتاع لا واحد له . والعرب تقول : جمع المتاع أمتعة ، ولو جمعت الأثاث ، لقلت : ثلاثة أإثة وأثث ، مثل : أعثة وعثث لا غير . وقال ابن قتيبة : الأثاث : متاع البيت من الفرش والأكسية . قال أبو زيد : واحد الأثاث : أثاثة . وقال الزجاج : يقال : قد أث يأث أثا : إذا صار ذا أثاث . وروي عن الخليل أنه قال : أصله الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض ، ومنه : شعر أثيث .

    فأما قوله : " ومتاعا " فقيل : إنما جمع بينه وبين الأثاث ، لاختلاف اللفظين .

    وفي قوله : " إلى حين " قولان :

    أحدهما : أنه الموت ، والمعنى : ينتفعون به إلى حين الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .

    والثاني : أنه إلى حين البلى ، فالمعنى : إلى أن يبلى ذلك الشيء ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " والله جعل لكم مما خلق ظلالا " أي : ما يقيكم حر الشمس ، وفيه خمسة أقوال :

    أحدها : أنه ظلال الغمام ، قاله ابن عباس . والثاني : ظلال البيوت ، [قاله ابن السائب . والثالث : ظلال الشجر ، قاله قتادة ، والزجاج . والرابع : ظلال الشجر والجبال] ، وقاله ابن قتيبة . والخامس : أنه كل شيء له ظل من حائط ، وسقف ، وشجر وجبل ، وغير ذلك ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    [ ص: 478 ] قوله تعالى : " وجعل لكم من الجبال أكنانا " أي : ما يكنكم من الحر والبرد ، وهي الغيران والأسراب . وواحد الأكنان " كن " وكل شيء وقى شيئا وستره فهو " كن " . " وجعل لكم سرابيل " وهي القمص " تقيكم الحر " ولم يقل : البرد ، لأن ما وقى من الحر ، وقى من البرد ، وأنشد :


    وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني


    وقال الزجاج : إنما خص الحر ، لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناة له من البرد ، وهذا مذهب عطاء الخراساني .

    قوله تعالى : " وسرابيل تقيكم بأسكم " يريد الدروع التي يتقون بها شدة الطعن والضرب في الحرب .

    قوله تعالى : " كذلك يتم نعمته عليكم " أي : مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء ، يتم نعمته عليكم في الدنيا " لعلكم تسلمون " والخطاب لأهل مكة ، وكان أكثرهم حينئذ كفارا ، ولو قيل : إنه خطاب للمسلمين ، فالمعنى : لعلكم تدومون على الإسلام ، وتقومون بحقه . وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وأبو رجاء : " لعلكم تسلمون " بفتح التاء واللام ، على معنى : لعلكم إذا لبستم الدروع تسلمون من الجراح في الحرب .

    قوله تعالى : " فإن تولوا " أعرضوا عن الإيمان " فإنما عليك البلاغ المبين " وهذه عند المفسرين منسوخة بآية السيف .

    قوله تعالى : " يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها " وفي هذه النعمة قولان :

    أحدهما : أنها [المساكن] نعم الله عز وجل عليهم في الدنيا . وفي إنكارها ثلاثة [ ص: 479 ] أقوال : أحدها : أنهم يقولون : هذه ورثناها [عن آبائنا] . روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : نعم الله : المساكن ، والأنعام ، وسرابيل الثياب ، والحديد ، يعرفه كفار قريش ، ثم ينكرونه بأن يقولوا : هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم ، وهذا عن مجاهد . والثاني : أنهم يقولون : لولا فلان ، لكان كذا ، فهذا إنكارهم ، قاله عون بن عبد الله . والثالث : يعرفون أن النعم من الله ، ولكن يقولون : هذه بشفاعة آلهتنا ، قاله ابن السائب ، والفراء ، وابن قتيبة .

    والثاني : أن المراد بالنعمة هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه نبي ثم يكذبونه ، وهذا مروي عن مجاهد ، والسدي ، والزجاج .

    قوله تعالى : " وأكثرهم الكافرون " قال الحسن : وجميعهم كفار ، فذكر الأكثر ، والمراد به الجميع .
    ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون

    قوله تعالى : " ويوم نبعث من كل أمة شهيدا " يعني : يوم القيامة ، وشاهد كل أمة نبيها يشهد عليها بتصديقها وتكذيبها ، " ثم لا يؤذن للذين كفروا " في الاعتذار " ولا هم يستعتبون " أي : لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى ما أمر الله به ، لأن الآخرة ليست بدار تكليف .

    [ ص: 480 ] قوله تعالى : " وإذا رأى الذين ظلموا " أي : أشركوا " العذاب " يعني : النار فلا يخفف عنهم " العذاب " ولا هم ينظرون " لا يؤخرون ، ولا يمهلون . " وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم " يعني : الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة ، وذلك أن الله يبعث كل معبود من دونه ، فيقول المشركون : " ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا " أي : نعبد من دونك .

    فإن قيل : فهذا معلوم عند الله تعالى ، فما فائدة قولهم : " هؤلاء شركاؤنا " ؟ فعنه جوابان :

    أحدهما : أنهم لما كتموا الشرك في قولهم : والله ما كنا مشركين ، عاقبهم الله تعالى بإصمات ألسنتهم ، وإنطاق جوارحهم ، فقالوا عند معاينة آلهتهم : " ربنا هؤلاء شركاؤنا " أي : قد أقررنا بعد الجحد ، وصدقنا بعد الكذب ، التماسا للرحمة ، وفرارا من الغضب ، وكأن هذا القول منهم على وجه الاعتراف بالذنب ، لا على وجه إعلام من لا يعلم .

    والثاني : أنهم لما عاينوا عظم غضب الله تعالى قالوا : هؤلاء شركاؤنا ، تقدير أن يعود عليهم من هذا القول روح ، وأن تلزم الأصنام إجرامهم ، أو بعض ذنوبهم إذ كانوا يدعون لها العقل والتمييز ، فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم .

    قوله تعالى : " فألقوا إليهم القول " أي : أجابوهم وقالوا لهم " إنكم لكاذبون " قال الفراء : ردت عليهم آلهتهم قولهم . وقال أبو عبيدة : " فألقوا " ، أي : قالوا لهم . يقال : ألقيت إلى فلان كذا ، أي : قلت له . قال العلماء : كذبوهم في عبادتهم إياهم ، وذلك أن الأصنام كانت جمادا لا تعرف عابديها ، فظهرت فضيحتهم يومئذ إذ عبدوا من لم يعلم بعبادتهم ، وذلك كقوله : سيكفرون بعبادتهم [مريم :83] .

    [ ص: 481 ] قوله تعالى : " وألقوا إلى الله يومئذ السلم " المعنى : أنهم استسلموا له . وفي المشار إليهم قولان :

    أحدهما : أنهم المشركون ، قاله الأكثرون . ثم في معنى استسلامهم قولان : أحدهما : أنهم استسلموا [له] بالإقرار بتوحيده وربوبيته . والثاني : أنهم استسلموا لعذابه .

    والثاني : أنهم المشركون والأصنام كلهم . قال الكلبي : والمعنى : أنهم استسلموا لله منقادين لحكمه .

    قوله تعالى : " وضل عنهم ما كانوا يفترون " فيه قولان :

    أحدهما : بطل قولهم أنها تشفع لهم . والثاني : ذهب عنهم ما زين لهم الشيطان أن لله شريكا وولدا .
    الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين

    قوله تعالى : " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " قال ابن عباس : منعوا الناس من طاعة الله والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى : " زدناهم عذابا فوق العذاب " إنما نكر العذاب [الأول] ، لأنه نوع خاص لقوم بأعيانهم ، وعرف العذاب الثاني ، لأنه العذاب الذي يعذب به أكثر أهل النار ، فكان في شهرته بمنزلة النار في قول القائل : نعوذ بالله من النار ، وقد قيل : إنما زيدوا هذا العذاب على ما يستحقونه من عذابهم ، بصدهم عن سبيل الله .

    [ ص: 482 ] وفي صفة هذا العذاب الذي زيدوا أربعة أقوال :

    أحدها : أنها عقارب كأمثال النخل الطوال ، رواه مسروق عن ابن مسعود .

    والثاني : أنها حيات كأمثال الفيلة ، وعقارب كأمثال البغال ، رواه زر عن ابن مسعود .

    والثالث : أنها خمسة أنهار من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذبون بها ، ثلاثة على مقدار الليل ، واثنان على مقدار النهار ، قاله ابن عباس .

    والرابع : أنه الزمهرير ، ذكره ابن الأنباري .

    قال الزجاج : يخرجون من حر النار إلى الزمهرير ، فيتبادرون من شدة برده إلى النار .

    قوله تعالى : " وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " وفي المشار إليهم قولان :

    أحدهما : أنهم قومه ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أمته ، قاله مقاتل . وتم الكلام هاهنا . ثم قال : " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا " قال الزجاج : التبيان : اسم في معنى البيان .

    فأما قوله تعالى : " لكل شيء " فقال العلماء بالمعاني : لكل شيء من أمور الدين ، إما بالنص عليه ، أو بالإحالة على ما يوجب العلم ، مثل بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين .
    إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم [ ص: 483 ] ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون

    قوله تعالى : " إن الله يأمر بالعدل " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : أنه شهادة أن لا إله إلا الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني : أنه الحق ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث : أنه استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى ، قاله سفيان بن عيينة .

    والرابع : أنه القضاء بالحق ، ذكره الماوردي . قال أبو سليمان : العدل في كلام العرب : الإنصاف ، وأعظم الإنصاف : الاعتراف للمنعم بنعمته .

    وفي المراد بالإحسان خمسة أقوال :

    أحدها : أنه أداء الفرائض ، رواه أبي طلحة عن ابن عباس . والثاني : العفو ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث : الإخلاص ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع : أن تعبد الله كأنك تراه ، رواه عطاء عن ابن عباس . والخامس : أن تكون السريرة أحسن من العلانية ، قاله سفيان بن عيينة .

    فأما قوله تعالى : " وإيتاء ذي القربى " فالمراد به : صلة الأرحام . وفي الفحشاء قولان :

    أحدهما : أنها الزنا ، قاله ابن عباس . والثاني : المعاصي ، قاله مقاتل .

    [ ص: 484 ] وفي " المنكر " أربعة أقوال :

    أحدها : أنه الشرك ، قاله مقاتل . والثاني : أنه ما لا يعرف في شريعة ولا سنة . والثالث : أنه ما وعد الله عليه النار ، ذكرهما ابن السائب . والرابع : أن تكون علانية الإنسان أحسن من سريرته ، قاله سفيان بن عيينة .

    فأما " البغي " فقال ابن عباس : هو الظلم ، وقد سبق شرحه في مواضع [البقرة :173، والأعراف :33 ، ويونس :23،90] .

    قوله تعالى : " يعظكم " قال ابن عباس : يؤدبكم ، وقد ذكرنا معنى الوعظ في (سورة النساء :58) . و " تذكرون " بمعنى : " تتعظون " قال ابن مسعود : هذه الآية أجمع آية في القرآن لخير أو لشر . وقال الحسن : والله ما ترك العدل والإحسان شيئا من طاعة [الله] إلا جمعاه ، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي شيئا من معصية الله إلا جمعوه .

    قوله تعالى : " وأوفوا بعهد الله " اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

    أحدهما : أنها نزلت في حلف أهل الجاهلية ، قاله مجاهد ، وقتادة .

    والثاني : أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال المفسرون : العهد الذي يجب الوفاء به ، هو الذي يحسن فعله ، فإذا عاهد العبد عليه ، وجب الوفاء به ، والوعد من العهد " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " أي : بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين ، بخلاف لغو اليمين ، ووكدت الشيء توكيدا ، لغة أهل الحجاز . فأما أهل نجد ، فيقولون : أكدته تأكيدا . وقال الزجاج : يقال : وكدت الأمر ، وأكدت لغتان جيدتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل منها .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •