تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 16 من 25 الأولىالأولى ... 678910111213141516171819202122232425 الأخيرةالأخيرة
النتائج 301 إلى 320 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #301
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (301)
    صــ 185 إلى صــ 191



    قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين
    قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون

    قوله تعالى : " قال قائل منهم " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن منبه ، [ ص: 185 ] والسدي ، ومقاتل . والثاني : أنه شمعون ، قاله مجاهد . والثالث : روبيل ، قاله قتادة ، وابن إسحاق . فأما غيابة الجب ، فقال أبو عبيدة : كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة ، والجب : الركية التي لم تطو . وقال الزجاج : الغيابة : كل ما غاب عنك ، أو غيب شيئا عنك ، قال المنخل :


    فإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل


    والجب : البئر التي لم تطو ; سميت جبا من أجل أنها قطعت قطعا ، ولم يحدث فيها غير القطع من طي وما أشبهه . وقال ابن عباس : " في غيابة الجب " أي : في ظلماته . وقال الحسن : في قعره . وقرأ نافع : " غيابات الجب " فجعل كل منه غيابة . وروى خارجة عن نافع : " غيابات " بتشديد الياء . وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد : " غيبة الجب " بغير ألف مع إسكان الياء . وأين كان هذا الجب ، فيه قولان :

    أحدهما : بأرض الأردن ، قاله وهب . وقال مقاتل : هو بأرض الأردن على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب . والثاني : ببيت المقدس ، قاله قتادة .

    قوله تعالى : " يلتقطه بعض السيارة " قال ابن عباس : يأخذه بعض من يسير . " إن كنتم فاعلين " أي : إن أضمرتم له ما تريدون . وأكثر القراء قرؤوا " يلتقطه " بالياء . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وابن أبي عبلة بالتاء . قال الزجاج : وجميع النحويين يجيزون ذلك ، لأن بعض السيارة سيارة ، فكأنه قال : تلتقطه سيارة بعض السيارة . وقال ابن الأنباري : من قرأ بالتاء فقد أنث فعل بعض ، وبعض مذكر ، وإنما فعل ذلك حملا على المعنى ، إذ التأويل : تلتقطه السيارة ، قال الشاعر :


    رأت مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال


    [ ص: 186 ] أراد : رأت السنين ، وقال الآخر :


    طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي وطوين عرضي


    أراد : الليالي أسرعت ، وقال جرير :


    لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع


    أراد : تواضعت المدينة ، وقال الآخر :


    وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم


    أراد : كما شرقت القناة .

    قال المفسرون : فلما عزم القوم على كيد يوسف ، قالوا لأبيه : " ما لك لا تأمنا " قرأ الجماعة " تأمنا " بفتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم ; قال مكي : لأن الأصل " تأمننا " ثم أدغمت النون الأولى ، وبقي الإشمام يدل على ضمة النون الأولى . والإشمام : هو ضم شفتيك من غير صوت يسمع ، فهو بعد الإدغام وقبل فتحه النون الثانية . وابن كيسان يسمي الإشمام الإشارة ، ويسمي الروم إشماما ; والروم : صوت ضعيف يسمع خفيا . وقرأ أبو جعفر " تأمنا " بفتح النون من غير إشمام إلى إعراب المدغم . وقرأ الحسن " مالك لا تأمنا " بضم الميم . وقرأ ابن مقسم " تأمننا " بنونين [ ص: 187 ] على الأصل ، والمعنى : مالك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا ، فإنه قد كبر ولا يعلم شيئا من أمر المعاش " وإنا له لناصحون " فيما أشرنا به عليك ; " أرسله معنا غدا " إلى الصحراء . وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وذلك أنهم قالوا له : أرسله معنا ، فقال : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، فقالوا : مالك لا تأمنا .

    قوله تعالى : " نرتع ونلعب " قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو " نرتع ونلعب " بالنون فيهما ، والعين ساكنة ; وافقهم زيد عن يعقوب في " نرتع " فحسب .

    وفي معنى " نرتع " ثلاثة أقوال :

    أحدها : نله ، قاله الضحاك . والثاني : نسع ، قاله قتادة . والثالث : نأكل ; يقال : رتعت الإبل : إذا رعت ، وأرتعتها : إذا تركتها ترعى . قال الشاعر :


    وحبيب لي إذا لاقيته وإذا يخلو له لحمي رتع


    أي : أكله ، هذا قول ابن الأنباري ، وابن قتيبة . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : " يرتع ويلعب " بالياء فيهما وجزم العين والباء ، يعنون " يوسف " . وقرأ نافع : " نرتع " بكسر العين من " نرتع " من غير بلوغ إلى الياء . قال ابن قتيبة : ومعناها نتحارس ، ويرعى بعضنا بعضا ، أي : يحفظ ; ومنه يقال : رعاك الله ، أي : حفظك . وقد رويت عن ابن كثير أيضا " نرتعي " بإثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف . وقرأ أنس ، وأبو رجاء " نرتع " بنون مرفوعة وكسر التاء وسكون العين ، و " نلعب " بالنون . قال أبو عبيدة : أي : نرتع إبلنا .

    فأما قوله : " ونلعب " فقال ابن عباس : نلهو .

    [ ص: 188 ] فإن قيل : كيف لم ينكر عليهم يعقوب ذكر اللعب ؟

    فالجواب من وجهين : أحدهما : أنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء ، قاله أبو عمرو ابن العلاء . والثاني : أنهم عنوا مباح اللعب ، قاله الماوردي .

    قوله تعالى : " إني ليحزنني أن تذهبوا به " أي : يحزنني ذهابكم به ، لأنه يفارقني فلا أراه . " وأخاف أن يأكله الذئب " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : " الذئب " بالهمز في الثلاثة المواضع . وقرأ الكسائي ، وأبو جعفر ، وشيبة بغير همز . قال أبو علي : " الذئب " مهموز في الأصل . يقال : تذاءبت الريح : إذا جاءت من كل جهة كما يأتي الذئب .

    وفي علة تخصيص الذئب بالذكر ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أن أرضهم كانت كثيرة الذئاب ، قاله مقاتل . والثالث : أنه خافهم عليه فكنى بذكر الذئب ، قاله الماوردي .

    قوله تعالى : " وأنتم عنه غافلون " فيه قولان :

    أحدهما : غافلون في اللعب . والثاني : مشتغلون برعيتكم .

    قوله تعالى : " لئن أكله الذئب ونحن عصبة " أي : جماعة نرى الذئب قد قصده ولا نرد عنه " إنا إذا لخاسرون " أي : عاجزون . قال ابن الأنباري : ومن قرأ " عصبة " بالنصب ، فتقديره : ونحن نجتمع عصبة .
    فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون

    قوله تعالى : " فلما ذهبوا به " في الكلام اختصار وإضمار ، تقديره : فأرسله معهم فلما ذهبوا . " وأجمعوا " أي : عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب .

    [ ص: 189 ] الإشارة إلى قصة ذهابهم

    قال المفسرون : قالوا ليوسف : أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد ؟ قال : بلى ، قالوا : فسل أباك أن يرسلك معنا ، قال : أفعل ، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب ، فقالوا : يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا ، فقال : ما تقول يا بني ؟ قال : نعم يا أبت قد أرى من إخوتي اللين واللطف ، فأنا أحب أن تأذن لي ، فأرسله معهم ، فلما أصحروا ، أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة ، وأغلظوا له القول ، وجعل يلجأ إلى هذا ، فيضربه وإلى هذا ، فيؤذيه ، فلما فطن لما قد عزموا عليه ، جعل ينادي : يا أبتاه ، يا يعقوب ، لو رأيت يوسف وما ينزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك ، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك ، وضيعوا وصيتك ; وجعل يبكي بكاء شديدا . قال الضحاك عن ابن عباس : فأخذه روبيل فجلد به الأرض ، ثم جثم على صدره وأراد قتله ، فقال له يوسف : مهلا يا أخي لا تقتلني ، قال : يا ابن راحيل صاحب الأحلام ، قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ، ولوى عنقه ليكسرها ، فنادى يوسف : يا يهوذا : اتق الله في ، وخل بيني وبين من يريد قتلي ، فأدركته له رحمة ، فقال : يهوذا : يا إخوتاه ، ألا أدلكم على أمر هو خير لكم وأرفق به ؟ قالوا : وما ذاك ؟ قال : تلقونه في هذا الجب فيلتقطه بعض السيارة ، قالوا : نفعل ; فانطلقوا به إلى الجب ، فخلعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه لم نزعتم قميصي ؟ ردوه علي أستر به عورتي ويكون كفنا لي في مماتي ; فأخرج الله له حجرا في البئر مرتفعا من الماء ، فاستقرت عليه قدماه . وقال السدي : جعلوا يدلونه في البئر ، فيتعلق بشفير البئر ; فربطوا يديه ونزعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ، [ ص: 190 ] ردوا علي قميصي أتوارى به ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فدلوه في البئر ، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت ، فكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها ; فلما ألقوه في الجب جعل يبكي ، فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فمنعهم يهوذا ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام . وقال كعب : جمعوا يديه إلى عنقه ونزعوا قميصه ، فبعث الله إليه ملكا ، فحل عنه وأخرج له حجرا من الماء ، فقعد عليه ; وكان يعقوب قد أدرج قميص إبراهيم الذي كساه الله إياه يوم ألقي في النار في قصبة ، وجعلها في عنق يوسف ، فألبسه إياه الملك حينئذ ، وأضاء له الجب . وقال الحسن : ألقي في الجب فعذب ماؤه ، فكان يغنيه عن الطعام والشراب ; ودخل عليه جبريل ، فأنس به ، فلما أمسى ، نهض جبريل ليذهب ، فقال له يوسف : إنك إذا خرجت عني استوحشت ، فقال : إذا رهبت شيئا فقل : يا صريخ المستصرخين ، ويا غوث المستغيثين ، ويا مفرج كرب المكروبين ، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري . فلما قالها حفته الملائكة ، فاستأنس في الجب ومكث فيه ثلاثة أيام ، وكان إخوته يرعون حول الجب . وقال محمد بن مسلم الطائفي : لما ألقي يوسف في الجب ، قال : يا شاهدا غير غائب ، ويا قريبا غير بعيد ، ويا غالبا غير مغلوب ، اجعل لي فرجا مما أنا فيه ; قال : فما بات فيه .

    وفي مقدار سنه حين ألقي في الجب أربعة أقوال :

    أحدها : اثنتا عشرة سنة ، قاله الحسن . والثاني : ست سنين ، قاله الضحاك . والثالث : سبع عشرة ، قاله ابن السائب ، وروي عن الحسن أيضا . والرابع : ثماني عشرة .

    قوله تعالى : " وأوحينا إليه " فيه قولان :

    [ ص: 191 ] أحدهما : أنه إلهام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنه وحي حقيقة .

    قال المفسرون : أوحي إليه لتخبرن إخوتك بأمرهم ، أي : بما صنعوا بك وأنت عال عليهم .

    وفي قوله : " وهم لا يشعرون " قولان :

    أحدهما : لا يشعرون أنك يوسف وقت إخبارك لهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .

    والثاني : لا يشعرون بالوحي ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد . فعلى الأول يكون الكلام من صلة " لتنبئنهم " ; وعلى الثاني من صلة " وأوحينا إليه " . قال حميد : قلت للحسن : أيحسد المؤمن المؤمن ؟ قال : لا أبا لك ، ما نساك بني يعقوب ؟


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #302
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (302)
    صــ 192 إلى صــ 198






    وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين

    قوله تعالى : " وجاءوا أباهم عشاء يبكون " وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، وابن السميفع ، والأعمش : " عشاء " بضم العين .

    قال المفسرون : جاؤوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار بالكذب ، فلما سمع صوتهم فزع ، وقال : مالكم يا بني ، هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا ، قال : فما أصابكم ؟ وأين يوسف ؟ " قالوا : يا أبانا إنا ذهبنا نستبق " وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : ننتضل ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة ، قال : والمعنى ، يسابق بعضنا [ ص: 192 ] بعضا في الرمي . والثاني : نشتد ، قاله السدي . والثالث : نتصيد ، قاله مقاتل . فيكون المعنى على الأول : نستبق في الرمي لننظر أينا أسبق سهما ، وعلى الثاني : نستبق على الأقدام ; وعلى الثالث : للصيد .

    قوله تعالى : " وتركنا يوسف عند متاعنا " أي : ثيابنا . " وما أنت بمؤمن لنا " أي : بمصدق .

    وفي قوله : " ولو كنا صادقين " قولان :

    أحدهما : أن المعنى : وإن كنا قد صدقنا ، قاله ابن إسحاق . والثاني : لو كنا عندك من أهل الصدق لاتهمتنا في يوسف لمحبتك إياه ، وظننت أنا قد كذبناك ، قاله الزجاج .
    وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون

    قوله تعالى : " وجاءوا على قميصه بدم كذب " قال اللغويون : معناه : بدم مكذوب فيه ، والعرب تجعل المصدر في كثير من الكلام مفعولا ، فيقولون للكذب مكذوب ، وللعقل معقول ، وللجلد مجلود ، قال الشاعر :


    حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحما ولا لفؤاده معقولا


    أراد : عقلا . وقال الآخر :


    قد والذي سمك السماء بقدرة بلغ العزاء وأدرك المجلود


    يريد : أدرك الجلد . ويقولون : ليس لفلان عقد رأي ، ولا معقود رأي ، ويقولون : هذا ماء سكب ، يريدون : مسكوبا ، وهذا شراب صب ، يريدون : مصبوبا ، [ ص: 193 ] وماء غور ، يعنون : غائرا ، ورجل صوم ، يريدون : صائما ، وامرأة نوح ، يريدون : نائحة ; وهذا الكلام مجموع قول الفراء ، والأخفش ، والزجاج ، وابن قتيبة في آخرين .

    قال ابن عباس : أخذوا جديا فذبحوه ، ثم غمسوا قميص يوسف في دمه ، وأتوه به وليس فيه خرق ، فقال : كذبتم ، لو كان أكله الذئب لخرق القميص . وقال قتادة : كان دم ظبية . وقرأ ابن أبي عبلة : " بدم كذبا " بالنصب . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية : " بدم كدب " بالدال غير معجمة ، أي : بدم طري .

    قوله تعالى : " بل سولت " أي : زينت " لكم أنفسكم أمرا " غير ما تصفون " فصبر جميل " قال الخليل : المعنى : فشأني صبر جميل ، والذي أعتقده صبر جميل . وقال الفراء : الصبر مرفوع ، لأنه عزى نفسه وقال : ما هو إلا الصبر ، ولو أمرهم بالصبر ، لكان نصبا . وقال قطرب : المعنى : فصبري صبر جميل . وقرأ ابن مسعود ، وأبي ، وأبو المتوكل : " فصبرا جميلا " بالنصب . قال الزجاج : والصبر الجميل ، لا جزع فيه ، ولا شكوى إلى الناس .

    قوله تعالى : " والله المستعان على ما تصفون " فيه قولان :

    أحدهما : على ما تصفون من الكذب . والثاني : على احتمال ما تصفون .
    وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون

    قوله تعالى : " وجاءت سيارة " أي : قوم يسيرون " فأرسلوا واردهم " قال الأخفش : أنث السيارة وذكر الوارد ، لأن السيارة في المعنى للرجال . وقال الزجاج : الوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم .

    [ ص: 194 ] وفي اسم هذا الوارد قولان :

    أحدهما : مالك بن ذعر بن يؤيب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : مجلث بن رعويل ، قاله وهب بن منبه .

    قوله تعالى : " فأدلى دلوه " أي : أرسلها . قال الزجاج : يقال أدليت الدلو : إذا أرسلتها لتملأها ، ودلوتها : إذا أخرجتها . " قال يا بشراي " قرأه ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " يا بشراي " بفتح الياء وإثبات الألف . وروى ورش عن نافع " بشراي " و " محياي " [الأنعام :162] و مثواي [يوسف :23] بسكون الياء . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي " يا بشرى " بألف بغير ياء . وعاصم بفتح الراء ، وحمزة ، والكسائي يميلانها . قال الزجاج : من قرأ يا " بشراي " فهذا النداء تنبيه للمخاطبين ، لأن البشرى لا تجيب ولا تعقل ; فالمعنى : أبشروا ، ويا أيتها البشرى هذا من أوانك ، وكذلك إذا قلت : يا عجباه ، فكأنك قلت : اعجبوا ، ويا أيها العجب هذا من حينك ; وقد شرحنا هذا المعنى [هود: 69 و74] .

    فأما قراءة من قرأ " يا بشرى " فيجوز أن يكون المعنى : يا من حضر ، هذه بشرى . ويجوز أن يكون المعنى : يا بشرى هذا أوانك على ما سبق بيانه من تنبيه الحاضرين . وذكر السدي أنه نادى بذاك أحدهم وكان اسمه بشرى . وقال ابن الأنباري : يجوز فيه هذه الأقوال ، ويجوز أن يكون اسم امرأة . وقرأ أبو رجاء ، وابن أبي عبلة : " يا بشري " بتشديد الياء وفتحها من غير ألف . قال ابن عباس : لما أدلى دلوه ; تعلق يوسف بالحبل فنظر إليه فإذا غلام أحسن ما يكون من الغلمان ، فقال لأصحابه : البشرى ، فقالوا : ما وراءك ؟ قال : هذا غلام في البئر ، فأقبلوا يسألونه الشركة فيه ، واستخرجوه من الجب ، [ ص: 195 ] فقال بعضهم لبعض : اكتموه عن أصحابكم لئلا يسألوكم الشركة فيه ، فإن قالوا : ما هذا ؟ فقولوا : استبضعناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر ; فجاء إخوة يوسف فطلبوه فلم يجدوه في البئر ، فنظروا ، فإذا هم بالقوم ومعهم يوسف ، فقالوا لهم : هذا غلام أبق منا ، فقال مالك بن ذعر : فأنا أشتريه منكم ، فباعوه بعشرين درهما وحلة ونعلين ، وأسره مالك بن ذعر من أصحابه ، وقال : استبضعناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر .

    قوله تعالى : " وأسروه بضاعة " قال الزجاج : " بضاعة " منصوب على الحال كأنه قال : وأسروه جاعليه بضاعة . وقال ابن قتيبة : أسروا في أنفسهم أنه بضاعة وتجارة . في الفاعلين لذاك قولان :

    أحدهما : أنهم واردو الجب : أسروا ابتياعه عن باقي أصحابهم ، وتواصوا أنه بضاعة استبضعهم إياها أهل الماء ، وقد ذكرنا هذا المعنى عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .

    والثاني : أنهم إخوته ، أسروا أمره ، وباعوه ، وقالوا : هو بضاعة لنا ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا .

    قوله تعالى : " والله عليم بما يعملون " يعم الباعة والمشترين .
    وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين

    [ ص: 196 ] قوله تعالى : " وشروه " هذا حرف من حروف الأضداد ، تقول شريت الشيء ، بمعنى بعته ; وشريته ، بمعنى اشتريته . فإن كان بمعنى باعوه ، ففيهم قولان :

    أحدهما : أنهم إخوته ، وهو قول الأكثرين .

    والثاني : أنهم السيارة ، ولم يبعه إخوته ، قاله الحسن ، وقتادة . وإن كان بمعنى اشتروه ، فإنهم السيارة .

    قوله تعالى : " بثمن بخس " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الحرام ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة في آخرين .

    والثاني : أنه القليل ، قاله عكرمة ، والشعبي ، قال ابن قتيبة : البخس : الخسيس الذي بخس به البائع .

    والثالث : الناقص ، وكانت الدراهم عشرين درهما في العدد ، وهي تنقص عن عشرين في الميزان ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " دراهم معدودة " قال الفراء : إنما قيل : " معدودة " ليستدل بها على القلة . وقال ابن قتيبة : أي : يسيرة ، سهل عددها لقلتها ، فلو كانت كثيرة لثقل عددها . وقال ابن عباس : كانوا في ذلك الزمان لا يزنون أقل من أربعين درهما ، وقيل : إنما لم يزنوها لزهدهم فيه .

    وفي عدد تلك الدراهم خمسة أقوال :

    أحدها : عشرون درهما ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ، وعكرمة في رواية ، ونوف الشامي ، ووهب بن منبه ، والشعبي ، وعطية ، والسدي ، ومقاتل في آخرين .

    والثاني : عشرون درهما وحلة ، ونعلان ، روي عن ابن عباس أيضا .

    [ ص: 197 ] والثالث : اثنان وعشرون درهما ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .

    والرابع : أربعون درهما ، قاله عكرمة في رواية ، وابن إسحاق .

    والخامس : ثلاثون درهما ، ونعلان ، وحلة ، وكانوا قالوا له بالعبرانية : إما أن تقر لنا بالعبودية ، وإما أن نأخذك منهم فنقتلك ، قال : بل أقر لكم بالعبودية ، ذكره إسحاق بن بشر عن بعض أشياخه .

    قال المفسرون : اقتسموا ثمنه ، فاشتروا به نعالا وخفافا .

    وكان بعض الصالحين يقول : والله ما يوسف - وإن باعه أعداؤه - بأعجب منك في بيعك نفسك بشهوة ساعة من معاصيك .

    قوله تعالى : " وكانوا فيه من الزاهدين " الزهد : قلة الرغبة في الشيء .

    وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم إخوته ، قاله ابن عباس ; فعلى هذا ، في هاء " فيه " قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، لأنهم لم يعلموا مكانه من الله تعالى ، قاله الضحاك ، وابن جريج . والثاني : أنها ترجع إلى الثمن . وفي علة زهدهم قولان : أحدهما : رداءته . والثاني : أنهم قصدوا بعد يوسف ، لا الثمن .

    والثاني : أنهم السيارة الذين اشتروه .

    وفي علة زهدهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم ارتابوا لقلة ثمنه . والثاني : أن إخوته وصفوه عندهم بالخيانة والإباق . والثالث : لأنهم علموا أنه حر .
    وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

    [ ص: 198 ] قوله تعالى : " وقال الذي اشتراه من مصر " قال وهب : لما ذهبت به السيارة إلى مصر ، وقفوه في سوقها يعرضونه للبيع ، فتزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا ، ووزنه ورقا ، ووزنه حريرا ، فاشتراه بذلك الثمن رجل يقال : له قطفير ، وكان أمين فرعون وخازنه ، وكان مؤمنا . وقال ابن عباس : إنما اشتراه قطفير من مالك بن ذعر بعشرين دينارا ، وزوجي نعل ، وثوبين أبيضين ، فلما رجع إلى منزله قال لامرأته : أكرمي مثواه . وقال قوم : اسمه أطفير

    وفي اسم المرأة قولان : أحدهما : راعيل بنت رعاييل ، قاله ابن إسحاق . والثاني . أزليخا بنت تمليخا ، قاله مقاتل . قال ابن قتيبة : " أكرمي مثواه " يعني أكرمي منزله ومقامه عندك ، من قولك : ثويت بالمكان : إذا أقمت به . وقال الزجاج : أحسني إليه في طول مقامه عندنا . قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف ، فقال لامرأته : " أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا " ، وابنة شعيب حين قالت : يا أبت استأجره [القصص :26] ، وأبو بكر حين استخلف عمر .

    وفي قوله : " عسى أن ينفعنا " قولان :

    أحدهما : يكفينا إذا بلغ أمورنا . والثاني : بالربح في ثمنه .

    قوله تعالى : " أو نتخذه ولدا " قال ابن عباس : نتبناه . وقال غيره : لم يكن لهما ولد ، وكان العزيز لا يأتي النساء .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #303
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (303)
    صــ 199 إلى صــ 205





    قوله تعالى : " وكذلك مكنا ليوسف " أي : وكما أنجيناه من إخوته وأخرجناه من ظلمة الجب ، مكنا له في الأرض ، أي : ملكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها . " ولنعلمه " قال ابن الأنباري : إنما دخلت الواو في " ولنعلمه " لفعل مضمر هو المجتلب للام ، والمعنى : مكنا ليوسف في الأرض ، واختصصناه [ ص: 199 ] بذلك لكي نعلمه من تأويل الأحاديث . وقد سبق تفسير " تأويل الأحاديث " [يوسف :6] .

    " والله غالب على أمره " في هاء الكناية قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الله ، فالمعنى : أنه غالب على ما أراد من قضائه ، وهذا معنى قول ابن عباس .

    والثاني : أنها ترجع إلى يوسف ، فالمعنى : غالب على أمر يوسف حتى يبلغه ما أراده له ، وهذا معنى قول مقاتل . وقال بعضهم : والله غالب على أمره حيث أمر يعقوب يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته ، فعلموا بها ، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوه ، فكادوه ، ثم أراد إخوة يوسف قتله ، فلم يقدر لهم ، ثم أرادوا أن يلتقطه بعض السيارة فيندرس أمره ، فعلا أمره ، ثم باعوه ليكون مملوكا ، فغلب أمره حتى ملك ، وأرادوا أن يعطفوا أباهم ، فأباهم ، ثم أرادوا أن يغروا يعقوب بالبكاء والدم الذي ألقوه على القميص ، فلم يخف عليه ، ثم أرادوا أن يكونوا من بعده قوما صالحين ، فنسوا ذنبهم إلى أن أقروا به بعد سنين فقالوا : إنا كنا خاطئين [يوسف :97] ، ثم أرادوا أن يمحوا محبته من قلب أبيه ، فازدادت ، ثم أرادت أزليخا أن تلقي عليه التهمة بقولها : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا [يوسف :25] ، فغلب أمره ، حتى شهد شاهد من أهلها ، وأراد يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي ، فنسي الساقي حتى لبث في السجن بضع سنين .
    ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين

    قوله تعالى : " ولما بلغ أشده " قد ذكرنا معنى الأشد في (الأنعام :152) ، [ ص: 200 ] واختلف العلماء في المراد به هاهنا على ثمانية أقوال :

    أحدها : أنه ثلاث وثلاثون سنة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة . والثاني : ثماني عشرة سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة . والثالث : أربعون سنة ، قاله الحسن . والرابع : بلوغ الحلم ، قاله الشعبي ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، وابنه . والخامس : عشرون سنة ، قاله الضحاك . والسادس : أنه من نحو سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين ، قاله الزجاج . والسابع : أنه بلوغ ثمان وثلاثين سنة ، حكاه ابن قتيبة . والثامن : ثلاثون سنة ، ذكره بعض المفسرين .

    قوله تعالى : " آتيناه حكما " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : أنه الفقه والعقل ، قاله مجاهد . والثاني : النبوة ، قاله ابن السائب . والثالث : أنه جعل حكيما ، قاله الزجاج ، قال : وليس كل عالم حكيما ، إنما الحكيم : العالم المستعمل علمه ، الممتنع به من استعمال ما يجهل فيه . والرابع : أنه الإصابة في القول ، ذكره الثعلبي . قال اللغويون : الحكم عند العرب ما يصرف عن الجهل والخطإ ، ويمنع منهما ، ويرد النفس عما يشينها ويعود عليها بالضرر ، ومنه حكمة الدابة . وأصل أحكمت في اللغة : منعت ، وسمي الحاكم حاكما ، لأنه يمنع من الظلم والزيغ .

    [ ص: 201 ] وفي المراد بالعلم هاهنا قولان : أحدهما : الفقه . والثاني : علم الرؤيا

    قوله تعالى : " وكذلك نجزي المحسنين " أي : ومثل ما وصفنا من تعلم يوسف وحراسته ، نثيب من أحسن عمله ، واجتنب المعاصي ، فننجيه من الهلكة ، ونستنقذه من الضلالة فنجعله من أهل العلم والحكمة كما فعلنا بيوسف .

    وفي المراد بالمحسنين هاهنا ثلاثة أقوال :

    أحدها : الصابرون على النوائب . والثاني : المهتدون ، رويا عن ابن عباس . والثالث : المؤمنون . قال محمد بن جرير : هذا ، وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن ، فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : كما فعلت بيوسف بعد ما لقي من البلاء فمكنته في الأرض وآتيته العلم ، كذلك أفعل بك وأنجيك من مشركي قومك .
    وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون

    قوله تعالى : " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه " أي : طلبت منه المواقعة ، وقد سبق اسمها . قال الزجاج : المعنى : راودته عما أرادته مما يريد النساء من الرجال . " وقالت هيت لك " قرأ ابن كثير : " هيت لك " بفتح الهاء وتسكين الياء وضم التاء . وقرأ نافع ، وابن عامر : " هيت لك " بكسر الهاء وتسكين الياء وفتح التاء . وهي مروية عن علي بن أبي طالب . وروى الحلواني عن هشام عن ابن عامر مثله ، إلا أنه همزه . قال أبو علي الفارسي : هو خطأ . وروي عن ابن عامر : " هئت لك " بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء ، وهي قراءة ابن عباس ، وأبي الدرداء ، وقتادة . قال الزجاج : هو من الهيئة ، كأنها قالت : تهيأت لك . وعن ابن محيصن ، وطلحة بن مصرف مثل قراءة ابن عباس ; [ ص: 202 ] إلا أنها بغير همز . وعن ابن محيصن بفتح الهاء وكسر التاء . وهي قراءة أبي رزين ، وحميد . وعن الوليد بن عتبة بكسر الهاء والتاء مع الهمز ، وهي قراءة أبي العالية . وقرأ ابن خثيم مثله ، إلا أنه لم يهمز . وعن الوليد بن مسلم عن نافع بكسر الهاء وفتح التاء مع الهمز . وقرأ ابن مسعود ، وابن السميفع ، وابن يعمر ، والجحدري : " هيئت لك " برفع الهاء والتاء وبياء مشددة مكسورة بعدها همزة ساكنة . وقرأ أبي بن كعب : " ها أنا لك " . وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء بغير همز . قال الزجاج : وهو أجود اللغات ، وأكثرها في كلام العرب ، ومعناها : هلم لك ، أي : أقبل على ما أدعوك إليه ، وقال الشاعر :


    أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا أن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا


    أي : فأقبل وتعال . وقال ابن قتيبة : يقال هيت فلان لفلان : إذا دعاه وصاح به ، قال الشاعر :


    قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا


    أي : صار ذا سكوت . واختلف العلماء في قوله : " هيت لك " بأي لغة هي ، على أربعة أقوال :

    أحدها : أنها عربية ، قاله مجاهد . وقال ابن الأنباري : وقد قيل : إنها من كلام [ ص: 203 ] قريش ، إلا أنها مما درس وقل في أفواههم آخرا ، فأتى الله به ، لأن أصله من كلامهم ، وهذه الكلمة لا مصدر لها ، ولا تصرف ، ولا تثنية ، ولا جمع ، ولا تأنيث ، يقال للاثنين : هيت لكما ، وللجميع : هيت لكم ، وللنسوة : هيت لكن .

    والثاني : أنها بالسريانية ، قاله الحسن .

    والثالث : بالحورانية ، قاله عكرمة ، والكسائي . وقال الفراء : يقال : إنها لغة لأهل حوران ، سقطت إلى أهل مكة فتكلموا بها .

    والرابع : أنها بالقبطية ، قاله السدي .

    قوله تعالى : " قال معاذ الله " قال الزجاج : هو مصدر ، والمعنى : أعوذ بالله أن أفعل هذا ، يقال عذت عياذا ومعاذا ومعاذة . " إنه ربي " أي : إن العزيز صاحبي " أحسن مثواي " ، قال : ويجوز أن يكون " إنه ربي " يعني الله عز وجل " أحسن مثواي " أي : تولاني في طول مقامي .

    قوله تعالى : " إنه لا يفلح الظالمون " أي : إن فعلت هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني فأنا ظالم . وقيل : الظالمون هاهنا : الزناة .
    ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين

    قوله تعالى : " ولقد همت به " الهم بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع . فأما هم أزليخا ، فقال المفسرون : دعته إلى نفسها واستلقت له . واختلفوا في همه بها على خمسة أقوال :

    أحدها : أنه كان من جنس همها ، فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وهو قول [ ص: 204 ] عامة المفسرين المتقدمين ، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير ، وابن الأنباري . وقال ابن قتيبة : لا يجوز في اللغة : هممت بفلان ، وهم بي ، وأنت تريد : اختلاف الهمين . واحتج من نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر ، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه . قالوا : ورجوعه عما هم به من ذلك خوفا من الله تعالى يمحو عنه سيئ الهم ، ويوجب له علو المنازل ، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إلى غار ، فانطبقت عليهم صخرة ، فقالوا : ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله . فقال أحدهم : اللهم إنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلا بمائة دينار ، فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة أرعدت وقالت : إن هذا لعمل ما عملته قط ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ، فزال ثلث الحجر . والحديث معروف ، وقد ذكرته في " الحدائق " فعلى هذا نقول : إنما همت ، فترقت همتها إلى العزيمة ، فصارت مصرة على الزنا . فأما هو ، فعارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب ، وحديث النفس ، من غير عزم ، فلم يلزمه هذا الهم ذنبا ، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد ، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل " وقال صلى الله عليه وسلم " هلك المصرون " ، وليس [ ص: 205 ] الإصرار إلا عزم القلب ، فقد فرق بين حديث النفس وعزم القلب ، وسئل سفيان الثوري : أيؤاخذ العبد بالهمة ؟ فقال : إذا كانت عزما ، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها عليه سيئة " . واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة ، وإنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله : " قال معاذ الله إنه ربي " وقوله " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " وكل ذلك إخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية .

    فإن قيل : فقد سوى القرآن بين الهمتين ، فلم فرقتم ؟

    فالجواب : أن الاستواء وقع في بداية الهمة ، ثم ترقت همتها إلى العزيمة ، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه ، ولم تتعد همته مقامها ، بل نزلت عن رتبتها ، وانحل معقودها ، بدليل هربه منها ، وقوله : " معاذ الله " ، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم . ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل ، فإنه لو كان هذا ، دل على العزم ، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا .

    والقول الثاني : أنها همت به أن يفترشها ، وهم بها ، أي : تمناها أن تكون له زوجة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #304
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (304)
    صــ 206 إلى صــ 212



    والقول الثالث : أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره : ولقد همت به ، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فلما رأى البرهان ، لم يقع منه الهم ، فقدم جواب " لولا " عليها ، كما يقال : قد كنت من الهالكين ، لولا أن فلانا خلصك ، لكنت من الهالكين ، ومنه قول الشاعر :

    [ ص: 206 ]
    فلا يدعني قومي صريحا لحرة لئن كنت مقتولا وتسلم عامر


    أراد : لئن كنت مقتولا وتسلم عامر ، فلا يدعني قومي فقدم الجواب . وإلى هذا القول ذهب قطرب ، وأنكره قوم ، منهم ابن الأنباري ، وقالوا : تقديم جواب " لولا " عليها شاذ مستكره ، لا يوجد في فصيح كلام العرب . فأما البيت المستشهد به ، فمن اضطرار الشعراء ، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره ، فيضع الكلمة في غير موضعها ، ويقدم ما حكمه التأخير ، ويؤخر ما حكمه التقديم ، ويعدل عن الاختيار إلى المستقبح للضرورة ، قال الشاعر :


    جزى ربه عني عدي بن حاتم بتركي وخذلاني جزاء موفرا


    تقديره : جزى عني عدي بن حاتم ربه ، فاضطر إلى تقديم الرب ، وقال الآخر :


    لما جفا إخوانه مصعبا أدى بذاك البيع صاعا بصاع


    أراد : لما جفا مصعبا إخوانه ، وأنشد الفراء :


    طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعدما تتقطعت بي دونك الأسباب


    فزاد تاء على " تقطعت " لا أصل لها ليصلح وزن شعره ، وأنشد ثعلب :


    إن شكلي وإن شكلك شتى فالزمي الخفض وانعمي تبيضضي


    فزاد ضادا لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت ، وقال الفرزدق :


    هما تفلا في في من فمويهما على النابح العاوي أشد لجاميا


    فزاد واوا بعد الميم ليصلح شعره . ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل بالفصاحة ، لأنها من ضرورات الشعراء .

    والقول الرابع : أنه هم أن يضربها ويدفعها عن نفسه ، فكان البرهان الذي [ ص: 207 ] رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه إن ضربها كان ضربه إياها حجة عليه ، لأنها تقول : راودني فمنعته فضربني ، ذكره ابن الأنباري .

    والقول الخامس : أنه هم بالفرار منها ، حكاه الثعلبي ، وهو قول مرذول ، أفتراه أراد الفرار منها ، فلما رأى البرهان ، أقام عندها ؟ قال بعض العلماء : كان هم يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء ، وإنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه ، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم . وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة . قال الحسن : إن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم ، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته . يعني الحسن : أن الحجة للأنبياء ألزم ، فإذا قبل التوبة منهم ، كان إلى قبولها منكم أسرع . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من أحد يلقى الله تعالى إلا وقد هم بخطيئة أو عملها ، إلا يحيى بن زكريا ، فإنه لم يهم ولم يعملها " .

    قوله تعالى : " لولا أن رأى برهان ربه " جواب " لولا " محذوف . قال الزجاج : المعنى : لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به . قال ابن الأنباري : لزنا ، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه .

    وفي البرهان ستة أقوال :

    أحدها : أنه مثل له يعقوب . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : نودي يا يوسف ، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم [ ص: 208 ] يستطع ؟ فلم يعط على النداء شيئا ، فنودي الثانية ، فلم يعط على النداء شيئا ، فتمثل له يعقوب فضرب صدره ، فقام ، فخرجت شهوته من أنامله . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضا على أنامله ، فأدبر هاربا ، وقال : وحقك يا أبت لا أعود أبدا . وقال : أبو صالح عن ابن عباس : رأى مثال يعقوب في الحائط عاضا على شفتيه . وقال الحسن : مثل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضا على إبهامه أو بعض أصابعه . وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن سيرين ، والضحاك في آخرين . وقال عكرمة : كل ولد يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا ، إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا ، فنقص بتلك الشهوة ولدا .

    والثاني : أنه جبريل عليه السلام . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : مثل له يعقوب فلم يزدجر ، فنودي : أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه ؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره ، فوثب .

    والثالث : أنها قامت إلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال لها يوسف : أي شيء تصنعين ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه السوأة ، فقال : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ، ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ؟ فهو البرهان الذي رأى ، قاله علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين ، والضحاك .

    والرابع : أن الله بعث إليه ملكا ، فكتب في وجه المرأة بالدم : " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " قاله الضحاك عن ابن عباس . وروي عن محمد بن كعب القرظي : أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها ، وفي رواية أخرى عنه ، [ ص: 209 ] أنه رآها مكتوبة في الحائط . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم ، وفيها مكتوب ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء :32] ، فقام هاربا ، وقامت ، فلما ذهب عنها الرعب عادت وعاد ، فلما قعد إذا بكف قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [البقرة :281] ، فقام هاربا ، فلما عاد ، قال الله تعالى لجبرئيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل عاضا على كفه أو أصبعه وهو يقول : يا يوسف ، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء ؟! وقال وهب بن منبه : ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [الرعد :33] ، فانصرفا ، فلما عادا عادت وعليها مكتوب وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين [الانفطار :11،12] ، فانصرفا ، فلما عادا عادت وعليها مكتوب " ولا تقربوا الزنا . . . " الآية ، فعاد ، فعادت الرابعة وعليها مكتوب " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " ، فولى يوسف هاربا .

    الخامس : أنه سيده العزيز دنا من الباب ، رواه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم . وقال ابن إسحاق : يقال : إن البرهان خيال سيده ، رآه عند الباب فهرب .

    والسادس : أن البرهان أنه علم ما أحل الله مما حرم الله ، فرأى تحريم الزنا ، روي عن محمد بن كعب القرظي . قال ابن قتيبة : رأى حجة الله عليه ، وهي البرهان ، وهذا هو القول الصحيح ، وما تقدمه فليس بشيء ، وإنما هي أحاديث من أعمال القصاص ، وقد أشرت إلى فسادها في كتاب " المغني في التفسير " .

    [ ص: 210 ] وكيف يظن بنبي لله كريم أنه يخوف ويرعب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مصر ؟! هذا غاية القبح .

    قوله تعالى : " كذلك " أي : كذلك أريناه البرهان " لنصرف عنه السوء " وهو خيانة صاحبه " والفحشاء " ركوب الفاحشة " إنه من عبادنا المخلصين " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بكسر اللام ، والمعنى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح اللام ، أرادوا من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش . وبعض المفسرين يقول : السوء : الزنى ، والفحشاء : المعاصي .
    واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين

    قوله تعالى : " واستبقا الباب " يعني يوسف والمرأة ، تبادرا إلى الباب يجتهد [ ص: 211 ] كل واحد منهما أن يسبق صاحبه ، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج ، وأرادت هي إن سبقت إمساك الباب لئلا يخرج ، فأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه ، فجذبته إليها ، فقدت قميصه من دبر ، أي : قطعته من خلفه ، لأنه كان هو الهارب وهي الطالبة له . قال المفسرون : قطعت قميصه نصفين ، فلما خرجا ، ألفيا سيدها ، أي : صادفا زوجها عند الباب ، فحضرها في ذلك الوقت كيد ، فقالت سابقة بالقول مبرئة لنفسها من الأمر " ما جزاء من أراد بأهلك سوءا " قال ابن عباس : تريد الزنى " إلا أن يسجن " أي : ما جزاؤه إلا السجن " أو عذاب أليم " تعني الضرب بالسياط ، فغضب يوسف حينئذ وقال : " هي راودتني " وقال وهب بن منبه : قال له العزيز حينئذ : أخنتني يا يوسف في أهلي ، وغدرت بي ، وغررتني بما كنت أرى من صلاحك ؟ فقال حينئذ : " هي راودتني عن نفسي " .

    قوله تعالى : " وشهد شاهد من أهلها " وذلك أنه لما تعارض قولاهما ، احتاجا إلى شاهد يعلم به قول الصادق .

    وفي ذلك الشاهد ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه كان صبيا في المهد ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وشهر بن حوشب عن أبي هريرة ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، وهلال بن يساف في آخرين .

    والثاني : أنه كان من خاصة الملك ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس . وقال أبو صالح عن ابن عباس : كان ابن عم لها ، وكان رجلا حكيما ، فقال : قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب ، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة وهو كاذب ، وإن كان من خلفه فهو صادق وأنت كاذبة . وقال بعضهم : كان ابن خالة المرأة .

    [ ص: 212 ] والثالث : أنه شق القميص ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وفيه ضعف ، لقوله : " من أهلها " .

    فإن قيل : كيف وقعت شهادة الشاهد هاهنا معلقة بشرط ، والشارط غير عالم بما يشرطه ؟

    فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :

    أحدهما : أن الشاهد شاهد بأمر قد علمه ، فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا ، فعلم ، غير أنه أوقع في شهادته شرطا ليلزم المخاطبين قبول شهادته من جهة العقل والتمييز ، فكأنه قال : هو الصادق عندي ، فإن تدبرتم ما أشترطه لكم ، عقلتم قولي . ومثل هذا قول الحكماء : إن كان القدر حقا ، فالحرص باطل ، وإن كان الموت يقينا ، فالطمأنينة إلى الدنيا حمق .

    والجواب الثاني : أن الشاهد لم يقطع بالقول ، ولم يعلم حقيقة ما جرى ، وإنما قال ما قال على جهة إظهار ما يسنح له من الرأي ، فكان معنى قوله : " وشهد شاهد " : أعلم وبين . فقال : الذي عندي من الرأي أن نقيس القميص ليوقف على الخائن . فهذان الجوابان يدلان على أن المتكلم رجل . فإن قلنا : إنه صبي في المهد ، كان دخول الشرط مصححا لبراءة يوسف ، لأن كلام مثله أعجوبة ومعجزة لا يبقى معها شك .
    فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم

    قوله تعالى : " فلما رأى قميصه " في هذا الرائي والقائل : " إنه من كيدكن " قولان :

    أحدهما : أنه الزوج . والثاني : الشاهد .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #305
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (305)
    صــ 213 إلى صــ 219




    وفي هاء الكناية في قوله : " إنه من كيدكن " ثلاثة أقوال :

    [ ص: 213 ] أحدها : أنها ترجع إلى تمزيق القميص ، قاله مقاتل .

    والثاني : إلى قولها : " ما جزاء من أراد بأهلك سوءا " ، فالمعنى : قولك هذا من كيدكن ، قاله الزجاج .

    والثالث : إلى السوء الذي دعته إليه، ذكره الماوردي . قال ابن عباس : " إن كيدكن " أي : عملكن " عظيم " تخلطن البريء والسقيم .
    يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين

    قوله تعالى : " يوسف أعرض عن هذا " المعنى : يا يوسف أعرض .

    وفي القائل له هذا قولان :

    أحدهما : أنه ابن عمها وهو الشاهد ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أنه الزوج ، ذكره جماعة من المفسرين . قال ابن عباس : أعرض عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد ، واكتمه عليها . وروى الحلبي عن عبد الوارث : " يوسف أعرض عن هذا " بفتح الراء على الخبر .

    قوله تعالى : " واستغفري لذنبك " فيه قولان :

    أحدهما : استعفي زوجك لئلا يعاقبك ، قاله ابن عباس .

    والثاني : توبي من ذنبك فإنك قد أثمت .

    وفي القائل لهذا قولان : أحدهما ابن عمها . والثاني : الزوج .

    قوله تعالى : " إنك كنت من الخاطئين " يعني : من المذنبين . قال المفسرون : ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدث بذلك النساء ، وهو قوله : " وقال نسوة في المدينة " وفي عددهن قولان :

    [ ص: 214 ] أحدهما : أنهن كن أربعا : امرأة ساقي الملك ، وامرأة صاحب ديوانه ، وامرأة خبازه ، وامرأة صاحب سجنه ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أنهن خمس : امرأة الخباز ، وامرأة الساقي ، وامرأة السجان ، وامرأة صاحب الدواة ، وامرأة الآذن ، قاله مقاتل .

    فأما العزيز ، فهو بلغتهم الملك ، والفتى بمعنى العبد . قال الزجاج : كانوا يسمون المملوك فتى . وإنما تكلم النسوة في حقها ، طعنا فيها وتحقيقا لبراءة يوسف .

    قوله تعالى : " قد شغفها حبا " أي : بلغ حبه شغاف قلبها .

    وفي الشغاف أربعة أقوال :

    أحدها : أنه جلدة بين القلب والفؤاد ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثاني أنه غلاف القلب ، قاله أبو عبيدة . قال ابن قتيبة : ولم يرد الغلاف ، إنما أراد القلب ، يقال : شغفت فلانا : إذا أصبت شغافه ، كما يقال : كبدته : إذا أصبت كبده ، وبطنته إذا أصبت بطنه .

    والثالث : أنه حبة القلب وسويداؤه .

    والرابع : أنه داء يكون في الجوف في الشراسيف ، وأنشدوا :


    وقد حال هم دون ذلك داخل دخول الشغاف تبتغيه الأصابع


    ذكر القولين الزجاج . وقال الأصمعي : الشغاف عند العرب : داء يكون تحت الشراسيف في الجانب الأيمن من البطن ، والشراسيف : مقاط رؤوس الأضلاع ، [ ص: 215 ] واحدها : شرسوف .

    وقرأ عبد الله بن عمرو ، وعلي بن الحسين ، والحسن البصري ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة " قد شعفها " بالعين . قال الفراء : كأنه ذهب بها كل مذهب ، والشعف : رؤوس الجبال .

    قوله تعالى : " إنا لنراها في ضلال مبين " أي : عن طريق الرشد ، لحبها إياه . والمبين : الظاهر .
    فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين

    قوله تعالى : " فلما سمعت " يعني : امرأة العزيز ، " بمكرهن " وفيه قولان :

    أحدهما : أنه قولهن وعيبهن لها ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وابن قتيبة . قال الزجاج : وإنما سمي هذا القول مكرا ، لأنها كانت أطلعتهن على أمرها ، واستكتمتهن ، فمكرن وأفشين سرها .

    والثاني : أنه مكر حقيقة ، وإنما قلن ذلك مكرا بها لتريهن يوسف ، قاله ابن إسحاق .

    قوله تعالى : " وأعتدت " قال الزجاج : أفعلت من العتاد ، وكل ما اتخذته عدة لشيء فهو عتاد ، والعتاد : الشيء الثابت اللازم . وقال ابن قتيبة : أعتدت بمعنى أعدت . فأما المتكأ ، ففيه ثلاثة أقوال :

    [ ص: 216 ] أحدها : أنه المجلس ; فالمعنى : هيأت لهن مجلسا ، قاله الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : أنه الوسائد اللائي يتكئن عليها ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال الزجاج : المتكأ : ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث .

    والثالث : أنه الطعام ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة . قال ابن قتيبة : يقال : اتكأنا عند فلان : إذا طعمنا ، قال جميل بن معمر :


    فظللنا في نعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله


    والأصل في هذا أن من دعوته ليطعم ، أعددت له التكأة للمقام والطمأنينة ، فسمي الطعام متكأ على الاستعارة . قال الأزهري : إنما قيل للطعام : متكأ ، لأن القوم إذا قعدوا على الطعام اتكؤوا ، ونهيت هذه الأمة عن ذلك . وقرأ مجاهد " متكا " بإسكان التاء خفيفة ، وفيه أربعة أقوال :

    أحدها : أنه الأترج ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ويحيى بن يعمر في آخرين ، ومنه قول الشاعر :


    نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المتك بيننا مستعارا


    يريد : الأترج .

    والثاني : أنه الطعام أيضا ، قاله عكرمة . الثالث : أنه كل شيء يحز بالسكاكين ، قاله الضحاك . والرابع : أنه الزماورد ، روي عن الضحاك أيضا . وقد [ ص: 217 ] روي عن جماعة أنهم فسروا المتكأ بما فسروا به المتك ، فروي عن ابن جريج أنه قال : المتكأ الأترج ، وكل ما يحز بالسكاكين . وعن الضحاك قال : المتكأ : كل ما يحز بالسكاكين . وفرق آخرون بين القراءتين ، فقال مجاهد : من قرأ " متكأ " بالتثقيل ، فهو الطعام ، ومن قرأ بالتخفيف ، فهو الأترج . قال ابن قتيبة : من قرأ " متكا " فإنه يريد الأترج ، ويقال : الزماورد . وأيا ما كان ، فإني لا أحسبه سمي متكا إلا بالقطع ، كأنه مأخوذ من البتك ، فأبدلت الميم منه باء ، كما يقال : سمد رأسه وسبده : إذا استأصله ، وشر لازم ، ولازب ، والميم تبدل من الباء كثيرا ، لقرب مخرجيهما .

    قوله تعالى : " وآتت كل واحدة منهن سكينا " إنما فعلت ذلك ، لأن الطعام الذي قدمت لهن يحتاج إلى السكاكين . وقيل : كان مقصودها افتضاحهن بتقطيع أيديهن كما فضحنها . قال وهب بن منبه : ناولت كل واحدة منهن أترجة وسكينا ، وقالت لهن : لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن ، ثم قالت ليوسف : اخرج عليهن . قال الزجاج : إن شئت ضممت التاء من قوله : " وقالت " ، وإن شئت كسرت ، والكسر الأصل لسكون التاء والخاء ، ومن ضم التاء ، فلثقل الضمة بعد الكسرة . ولم يمكنه أن لا يخرج لأنه بمنزلة العبد لها . وذكر بعض أهل العلم أنها إنما قالت : " اخرج " وأضمرت في نفسها " عليهن " ، فأخبر الحق عما في النفس كأن اللسان قد نطق به ، ومثله إنما نطعمكم لوجه الله . . . الآية [الإنسان :9] ، لم يقولوا ذلك ، إنما أضمروه ، ويدل على صحة هذا أنها لو قالت له وهو شاب مستحسن : اخرج على نسوة من طبعهن الفتنة ، ما فعل .

    وفي قوله : " أكبرنه " قولان :

    [ ص: 218 ] أحدهما : أعظمنه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، وابن زيد .

    والثاني : حضن ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وروى علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال : حضن من الفرح ، قال : وفي ذلك يقول الشاعر :


    نأتي النساء لدى أطهارهن ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا


    وقد روى هذا المعنى ليث عن مجاهد ، واختاره ابن الأنباري ، ورده بعض اللغويين ، فروي عن أبي عبيدة أنه قال : ليس في كلام العرب " أكبرن " بمعنى " حضن " ، ولكن عسى أن يكن من شدة ما أعظمنه حضن ، وكذلك روي عن الزجاج أنه أنكره .

    قوله تعالى : " وقطعن أيديهن " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : حززن أيديهن ، وكن يحسبن أنهن يقطعن طعاما ، قاله ابن عباس ، وابن زيد .

    والثاني : قطعن أيديهن حتى ألقينها ، قاله مجاهد ، وقتادة .

    والثالث : كلمن الأكف وأبن الأنامل ، قاله وهب بن منبه .

    قوله تعالى : " وقلن حاش لله " قرأ أبو عمرو " حاشا " بألف في الوصل في الموضعين ، واتفقوا على حذف الألف في الوقف ، وأبو عمرو جاء به على التمام والأصل ، والباقون حذفوا . وهذه الكلمة تستعمل في موضعين : أحدهما : الاستثناء ، والثاني : التبرئة من الشر . والأصل " حاشا " وهي مشتقة من قولك : كنت في حشا فلان ، أي : في ناحيته . والحشا : الناحية ، وأنشدوا :

    بأي الحشا أمسى الخليط المباين

    [ ص: 219 ] أي : بأي النواحي ، والمعنى : صار يوسف في حشا من أن يكون بشرا ، لفرط جماله . وقيل : صار في حشا مما قرفته به امرأة العزيز . وقال ابن عباس ، ومجاهد : " حاش لله " بمعنى : معاذ الله . قال الفراء : و " بشرا " منصوب ، لأن الباء قد استعملت فيه ، فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء ، فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه ، فنصبوا على ذلك ، وكذلك قوله : ما هن أمهاتهم [المجادلة :2] ، وأما أهل نجد فيتكلمون بالباء وبغير الباء ، فإذا أسقطوها ، رفعوا ، وهو أقوى الوجهين في العربية . قال الزجاج : قوله : الرفع أقوى الوجهين ، غلط ، لأن كتاب الله أقوى اللغات ، ولم يقرأ بالرفع أحد ، وزعم الخليل ، وسيبويه ، وجميع النحويين القدماء أن " بشرا " منصوب ، لأنه خبر " ما " و " ما " بمنزلة " ليس " . قلت : وقد قرأ أبو المتوكل ، وأبو نهيك ، وعكرمة ، ومعاذ القارئ في آخرين : " ما هذا بشر " بالرفع . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وأبو السوار : " ما هذا بشرى " بكسر الباء والشين مقصورا منونا . قال الفراء : أي : ما هذا بمشترى . وقرأ ابن مسعود : " بشراء " بالمد والهمز مخفوضا منونا .

    قوله تعالى : " إن هذا إلا ملك " قرأ أبي ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وأبو حيوة ، والجحدري : " ملك " بكسر اللام .

    قوله تعالى : " فذلكن الذي لمتنني فيه " قال المفسرون : لما ذهبت عقولهن فقطعن أيديهن ، قالت لهن ذلك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #306
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (306)
    صــ 220 إلى صــ 226




    فإن قيل : " كيف أشارت إليه وهو حاضر بقولها : " فذلكن " ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :

    أحدهما : أنها أشارت بـ " ذلكن " إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس .

    والثاني : أن في الكلام إضمار " هذا " تقديره : فهذا ذلكن . ومعنى [ ص: 220 ] " لمتنني فيه " أي : في حبه . ثم أقرت عندهن ، فقالت : " ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " أي : امتنع .

    قوله تعالى : " وليكونا من الصاغرين " قال الزجاج : القراءة الجيدة تخفيف " وليكونن " والوقوف عليها بالألف ، لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف ، تقول : اضربن زيدا ، وإذا وقفت قلت : اضربا . وقد قرئت " وليكونن " بتشديد النون ، وأكرهها ، لخلاف المصحف ، لأن الشديدة لا يبدل منها شيء . والصاغرون : المذلون .
    قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم

    قوله تعالى : " قال رب السجن أحب إلي " قال وهب بن منبه : لما قالت : " فذلكن الذي لمتنني فيه " قلن : لا لوم عليك ، قالت : فاطلبن إلى يوسف أن يسعفني بحاجتي ، فقلن : يا يوسف افعل ، فقالت : لئن لم يفعل لأخلدنه السجن ، فعند ذلك قال : " رب السجن أحب إلي " . وقرأ يعقوب : " السجن " بفتح السين هاهنا فحسب . قال الزجاج : من كسر سين " السجن " فعلى اسم المكان ، فيكون المعنى : نزول السجن أحب إلي من ركوب المعصية ، ومن فتح ، فعلى المصدر ، المعنى : أن أسجن أحب إلي . " وإلا تصرف عني كيدهن " أي : إلا تعصمني " أصب إليهن " أي : أمل إليهن . يقال : صبا إلى اللهو يصبو صبوا وصبوا وصباء : إذا مال . وقال ابن الأنباري : ومعنى هذا الكلام : اللهم اصرف عني كيدهن ، ولذلك قال : " فاستجاب له ربه " .

    قال : فإن قيل : إنما كادته امرأة العزيز وحدها ، فكيف قال : " كيدهن " ؟

    [ ص: 221 ] فعنه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أن العرب توقع الجمع على الواحد ، فيقول قائلهم : خرجت إلى البصرة في السفن ، وهو لم يخرج إلا في سفينة واحدة .

    والثاني : أن المكني عنه امرأة العزيز والنسوة اللاتي عاضدنها على أمرها .

    والثالث : أنه عنى امرأة العزيز وغيرها من نساء العالمين اللاتي لهن مثل كيدها .
    ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين

    قوله تعالى : " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات " في المراد بالآيات ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها شق القميص ، وقضاء ابن عمها عليها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أنها قد القميص ، وشهادة الشاهد ، وقطع الأيدي ، وإعظام النساء إياه ، رواه مجاهد عن ابن عباس .

    والثالث : جماله وعفته ، ذكره الماوردي . قال وهب بن منبه : فأشار النسوة عليها بسجنه رجاء أن يستهوينه حين يخلو لهن في السجن ، وقلن : متى سجنتيه قطع ذلك عنك قالة الناس التي قد شاعت ، ورأوا أنك تبغضينه ، ويذله السجن لك ، فلما انصرفن عادت إلى مراودته فلم يزدد إلا بعدا عنها ، فلما يئست ، قالت لسيدها : إن هذا العبد قد فضحني ، وقد أبغضت رؤيته ، فائذن لي في سجنه ، فأذن لها ، فسجنته وأضرت به ، وقال السدي : قالت : إما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر بعذري ، وإما أن تحبسه كما حبستني ، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف . قال الزجاج : كان العزيز أمر بالإعراض فقط ، ثم تغير رأيه عن ذلك . قال ابن الأنباري : وفي معنى الآية قولان :

    أحدهما : " ثم بدا لهم " أي : ظهر لهم بالقول والرأي والفكر سجنه .

    [ ص: 222 ] والثاني : ثم بدا لهم في يوسف بداء ، فقالوا : والله لنسجننه ، فاللام جواب يمين مضمرة . فأما الحين ، فهو يقع على قصير الزمان وطويله .

    وفي المراد به هاهنا للمفسرين خمسة أقوال :

    أحدها : خمس سنين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : سنة ، روي عن ابن عباس أيضا . والثالث : سبع سنين ، قاله عكرمة . والرابع : إلى انقطاع القالة ، قاله عطاء . والخامس : أنه زمان غير محدود ، ذكره الماوردي ، وهذا هو الصحيح ، لأنهم لم يعزموا على حبسه مدة معلومة ، وإنما ذكر المفسرون قدر ما لبث .
    ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين

    قوله تعالى : " ودخل معه السجن فتيان " قال الزجاج : فيه دليل على أنه حبس ، وإن لم يذكر ذلك . و " فتيان " جائز أن يكونا حدثين أو شيخين ، لأنهم يسمون المملوك فتى . قال ابن الأنباري : إنما قال : " فتيان " لأنهما كانا مملوكين ، والعرب تسمي المملوك فتى ، شابا كان أو شيخا . قال المفسرون : عمر ملك مصر فملوه ، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه ، فبلغه ذلك فحبسهما ، فكان يوسف قال لأهل السجن : إني أعبر الأحلام ، فقال أحد الفتيين : هلم فلنجرب هذا العبد العبراني .

    واختلفوا هل كانت رؤياهما صادقة ، أم لا ؟ على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها كانت كذبا ، وإنما سألاه تجريبا ، قاله ابن مسعود ، والسدي . [ ص: 223 ] والثاني : أنها كانت صدقا ، قاله مجاهد ، وابن إسحاق . والثالث : أن الذي صلب منهما كان كاذبا ، وكان الآخر صادقا ، قاله أبو مجلز .

    قوله تعالى : " قال أحدهما " يعني الساقي " إني أراني " أي : في النوم " أعصر خمرا " أي : عنبا . وفي تسمية العنب خمرا ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه سماه باسم ما يؤول إليه ، لأن المعنى لا يلتبس ، كما يقال : فلان يطبخ الآجر ويعمل الدبس ، وإنما يطبخ اللبن ويصنع التمر ، وهذا قول أكثر المفسرين . قال ابن الأنباري : وإنما كان كذلك ، لأن العرب توقع بالفرع ما هو واقع بالأصل ، كقولهم : فلان يطبخ آجرا .

    والثاني : أن الخمر في لغة أهل عمان اسم للعنب ، قاله الضحاك ، والزجاج . قال ابن القاسم : وقد نطقت قريش بهذه اللغة وعرفتها .

    والثالث : أن المعنى : أعصر عنب خمر ، وأصل خمر ، وسبب خمر ، فحذف المضاف ، وخلفه المضاف إليه ، كقوله : واسأل القرية [يوسف :82] . قال أبو صالح عن ابن عباس : رأى يوسف ذات يوم الخباز والساقي مهمومين ، فقال : ما شأنكما ، قالا رأينا رؤيا ، قال : قصاها علي ، قال الساقي : إني رأيت كأني دخلت كرما فجنيت ثلاثة عناقيد عنب ، فعصرتهن في الكأس ، ثم أتيت به الملك فشربه ، وقال الخباز : رأيت أني خرجت من مطبخ الملك أحمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز ، فوقع طير على أعلاهن فأكل منها ، " نبئنا بتأويله " أي : أخبرنا بتفسيره . وفي قوله : " إنا نراك من المحسنين " خمسة أقوال :

    أحدها : أنه كان يعود المرضى ويداويهم ويعزي الحزين ، رواه مجاهد عن ابن عباس .

    والثاني : إنا نراك محسنا إن أنبأتنا بتأويله ، قاله ابن إسحاق .

    [ ص: 224 ] والثالث : إنا نراك من العالمين قد أحسنت العلم ، قاله الفراء . قال ابن الأنباري : فعلى هذا يكون مفعول الإحسان محذوفا ، كما حذف في قوله : وفيه يعصرون [يوسف :49] يعني العنب والسمسم . وإنما علموا أنه عالم ، لنشره العلم بينهم .

    والرابع : إنا نراك ممن يحسن التأويل ، ذكره الزجاج .

    والخامس : إنا نراك محسنا إلى نفسك بلزومك طاعة الله ، ذكره ابن الأنباري .
    قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار

    قوله تعالى : " قال لا يأتيكما طعام ترزقانه " في معنى الكلام قولان :

    أحدهما : لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة إلا أخبرتكما به قبل أن يصل إليكما ، لأنه كان يخبر بما غاب كعيسى عليه السلام ، وهو قول الحسن .

    والثاني : لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة ، هذا قول السدي . قال ابن عباس : فقالا له : وكيف تعلم ذلك ، ولست بساحر ، ولا عراف ، ولا صاحب نجوم ; فقال : " ذلكما مما علمني ربي " .

    فإن قيل : هذا كله ليس بجواب سؤالهما ، فأين جواب سؤالهما ؟ فعنه أربعة أجوبة :

    أحدها : أنه لما علم أن أحدهما مقتول ، دعاهما إلى نصيبهما من الآخرة ، قاله قتادة .

    [ ص: 225 ] والثاني : أنه عدل عن الجواب لما فيه من المكروه لأحدهما ، قاله ابن جريج .

    والثالث : أنه ابتدأ بدعائهما إلى الإيمان قبل جواب السؤال ، قاله الزجاج .

    والرابع : أنه ظنهما كاذبين في رؤياهما ، فعدل عن جوابهما ليعرضا عن مطالبته بالجواب ، فلما ألحا أجابهما ، ذكره ابن الأنباري . فأما الملة فهي الدين . وتكرير قوله : " هم " للتوكيد .

    قوله تعالى : " ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء " قال ابن عباس : يريد : أن الله عصمنا من الشرك " ذلك من فضل الله علينا " أي : اتباعنا الإيمان بتوفيق الله . " وعلى الناس " يعني المؤمنين بأن دلهم على دينه . وقال ابن عباس : " ذلك من فضل الله علينا " أن جعلنا أنبياء " وعلى الناس " أن بعثنا إليهم ، " ولكن أكثر الناس " من أهل مصر " لا يشكرون " نعم الله فيوحدونه .

    قوله تعالى : " أأرباب متفرقون " يعني : الأصنام من صغير وكبير " خير " أي : أعظم صفة في المدح " أم الله الواحد القهار " يعني أنه أحق بالإلهية من الأصنام ؟ . فأما الواحد ، فقال الخطابي : هو الفرد الذي لم يزل وحده ، وقيل : هو المنقطع القرين المعدوم الشريك ، والنظير وليس كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة ، فإن كل شيء سواه يدعى واحدا من جهة ، غير واحد من جهات ، والواحد لا يثنى من لفظه ، لا يقال : واحدان . والقهار : الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة . وقهر الخلق كلهم بالموت . وقال غيره : القهار الذي قهر كل شيء فذلـله ، فاستسلم وذل له .
    ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا [ ص: 226 ] إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان

    قوله تعالى : " ما تعبدون من دونه " إنما جمع في الخطاب لهما ، لأنه أراد جميع من شاركهما في شركهما . وقوله : " من دونه " أي : من دون الله " إلا أسماء " يعني : الأرباب والآلهة ولا يصح معاني تلك الأسماء للأصنام ، فكأنها أسماء فارغة ، فكأنهم يعبدون الأسماء ، لأنها لا تصح معانيها . " ما أنزل الله بها من سلطان " أي : من حجة بعبادتها . " إن الحكم إلا لله " أي : ما القضاء والأمر والنهي إلا له . " ذلك الدين القيم " أي : المستقيم ، يشير إلى التوحيد .

    " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فيه قولان :

    أحدهما : لا يعلمون أنه لا يجوز عبادة غيره . والثاني : لا يعلمون ماللمطيعين من الثواب وللعاصين من العقاب .

    قوله تعالى : " أما أحدكما فيسقي ربه خمرا " الرب هاهنا : السيد . قال ابن السائب لما قص الساقي رؤياه على يوسف ، قال له : ما أحسن ما رأيت ! أما الأغصان الثلاثة ، فثلاثة أيام ، يبعث إليك الملك عند انقضائها ، فيردك إلى عملك ، فتعود كأحسن ما كنت فيه ، وقال للخباز : بئس ما رأيت ، السلال الثلاث ، ثلاثة أيام ، ثم يبعث إليك الملك عند انقضائهن ، فيقتلك ويصلبك ويأكل الطير من رأسك ، فقالا : ما رأينا شيئا ، فقال : " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " أي : فرغ منه ، وسيقع بكما ، صدقتما أو كذبتما .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #307
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (307)
    صــ 227 إلى صــ 233





    فإن قيل : لم حتم على وقوع التأويل ، وربما صدق تأويل الرؤيا وكذب ؟ فعنه جوابان :

    [ ص: 227 ] أحدهما : أنه حتم ذلك لوحي أتاه من الله ، وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله ، فلما قال : " قضي الأمر " ، دل على أنه بوحي .

    والثاني : أنه لم يحتم ، بدليل قوله : " وقال للذي ظن أنه ناج منهما " ، قال أصحاب هذا الجواب : معنى " قضي الأمر " : قطع الجواب الذي التمستماه من جهتي ، ولم يعن أن الأمر واقع بكما . وقال أصحاب الجواب الأول : الظن هاهنا بمعنى العلم .
    وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين

    قوله تعالى : " وقال للذي ظن أنه ناج منهما " يعني الساقي .

    وفي هذا الظن قولان :

    أحدهما : أنه بمعنى العلم ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه الظن الذي يخالف اليقين ، قاله قتادة .

    قوله تعالى : " اذكرني عند ربك " أي : عند صاحبك ، وهو الملك ، وقل له : إن في السجن غلاما حبس ظلما . واسم الملك الوليد بن الريان .

    قوله تعالى : " فأنساه الشيطان ذكر ربه " فيه قولان :

    أحدهما : فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف لربه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن إسحاق .

    والثاني : فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربه ، وأمره بذكر الملك ابتغاء الفرج من عنده ، قاله مجاهد ، ومقاتل ، والزجاج ، وهذا نسيان عمد ، لا نسيان سهو ، وعكسه القول الذي قبله .

    [ ص: 228 ] قوله تعالى : " فلبث في السجن بضع سنين " أي : غير ما كان قد لبث قبل ذلك ، عقوبة له على تعلقه بمخلوق .

    وفي البضع تسعة أقوال :

    أحدها : ما بين السبع والتسع ، روى ابن عباس أن أبا بكر لما ناحب قريشا عند نزول الم غلبت الروم [الروم 1،2] قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا احتطت ، فإن البضع ما بين السبع إلى التسع " . والثاني : اثنتا عشرة سنة ، قاله الضحاك عن ابن عباس . والثالث : سبع سنين ، قاله عكرمة . والرابع : أنه ما بين الخمس إلى السبع ، قاله الحسن . والخامس : أنه ما بين الأربع إلى التسع ، قاله مجاهد . والسادس : ما بين الثلاث إلى التسع ، قاله الأصمعي ، والزجاج . والسابع : أن يكون البضع بين الثلاث والتسع والعشر ، قاله قتادة . والثامن : أنه ما دون العشرة ، قاله الفراء ، وقال الأخفش : البضع : من واحد إلى عشرة . والتاسع : أنه ما لم يبلغ العقد ولا نصفه ، قاله أبو عبيدة . قال ابن قتيبة : يعني ما بين الواحد إلى الأربعة . وروى الأثرم عن أبي عبيدة : البضع : ما بين ثلاث وخمس .

    وفي جملة ما لبث في السجن ثلاثة أقوال :

    أحدها : اثنتا عشرة سنة ، قاله ابن عباس . والثاني : أربع عشرة ، قاله الضحاك . والثالث : سبع سنين ، قاله قتادة . قال مالك بن دينار : لما قال يوسف [ ص: 229 ] للساقي " اذكرني عند ربك " ، قيل له : يا يوسف ، أتخذت من دوني وكيلا ؟ لأطيلن حبسك ، فبكى ، وقال : يارب ، أنسى قلبي كثرة البلوى ، فقلت كلمة ، فويل لإخوتي .
    وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون

    قوله تعالى : " وقال الملك " يعني ملك مصر الأكبر " إني أرى " يعني في المنام ، ولم يقل : رأيت ، وهذا جائز في اللغة أن يقول القائل : أرى ، بمعنى رأيت . قال وهب بن منبه : لما انقضت المدة التي وقتها الله تعالى ليوسف في حبسه ، دخل عليه جبريل إلى السجن ، فبشره بالخروج وملك مصر ولقاء أبيه ، فلما أمسى الملك من ليلتئذ ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر ، في آثارهن سبع عجاف ، فأقبلت العجاف على السمان ، فأخذن بأذنابهن فأكلنهن إلى القرنين ، ولم يزد في العجاف شيء ، ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن ، ولم يزدد في اليابسات شيء ، فدعا أشراف قومه فقصها عليهم ، فقالوا : " أضغاث أحلام " . قال الزجاج : والعجاف : التي قد بلغت في الهزال الغاية . والملأ : الذين يرجع إليهم في الأمور ويقتدى برأيهم ، واللام في قوله : " للرؤيا " دخلت على المفعول للتبيين ، المعنى : إن كنتم تعبرون . ثم بين باللام فقال : " للرؤيا " . ومعنى عبرت الرؤيا وعبرتها : أخبرت بآخر ما يؤول إليه أمرها ، واشتقاقه من عبر النهر ، وهو شاطئ النهر ، فتأويل عبرت النهر : بلغت إلى عبره ، أي : إلى شطه ، وهو آخر عرضه .

    [ ص: 230 ] وذكر ابن الأنباري في اللام قولين :

    أحدهما : أنها للتوكيد . والثاني : أنها أفادت معنى " إلى " والمعنى : إن كنتم توجهون العبارة إلى الرؤيا .
    قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين

    قوله تعالى : " قالوا أضغاث أحلام " قال أبو عبيدة : واحدها ضغث مكسورة ، وهي ما لا تأويل له من الرؤيا تراه جماعات ، تجمع من الرؤيا كما يجمع الحشيش ، فيقال : ضغث ، أي : ملء كف منه . وقال الكسائي : الأضغاث : الرؤيا المختلطة . وقال ابن قتيبة : " أضغاث أحلام " أي : أخلاط مثل أضغاث النبات يجمعها الرجل ، فيكون فيها ضروب مختلفة . وقال الزجاج : الضغث في اللغة : الحزمة والباقة من الشيء ، كالبقل وما أشبهه ، فقالوا له : رؤياك أخلاط أضغاث ، أي : حزم أخلاط ، ليست برؤيا بينة ، " وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " أي : ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل . وقال غيره : وما نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين . والأحلام : جمع حلم ، وهو ما يراه الإنسان في نومه مما يصح ومما يبطل .
    وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون

    [ ص: 231 ] قوله تعالى : " وقال الذي نجا منهما " يعني الذي تخلص من القتل من الفتيين ، وهو الساقي ، و " ادكر " أي : تذكر شأن يوسف وما وصاه به ، قال الزجاج : وأصل ادكر : اذتكر ، ولكن التاء أبدلت منها الدال ، وأدغمت الذال في الدال . وقرأ الحسن : " واذكر " بالذال المشددة . وقوله : " بعد أمة " أي : بعد حين ، وهو الزمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن ، وقد سبق بيانه . وقرأ ابن عباس ، والحسن " بعد أمة " أراد : بعد نسيان .

    فإن قيل : هذا يدل على أن الناسي في قوله : " فأنساه الشيطان ذكر ربه " هو الساقي ، ولا شك أن من قال : إن الناسي يوسف يقول : لم ينس الساقي .

    فالجواب أن من قال : إن يوسف نسي ، يقول : معنى قوله : " وادكر " ذكر ، كما تقول العرب : احتلب بمعنى حلب ، واغتدى بمعنى غدا ، فلا يدل إذا على نسيان سبقه . وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : إنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إلى تأويل رؤياه ، خوفا من أن يكون ذكره ليوسف سببا لذكره الذنب الذي من أجله حبس ، ذكر هذا الجواب ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " أنا أنبئكم بتأويله " أي : من جهة يوسف " فأرسلون " أثبت الياء فيها وفي ولا تقربون [يوسف :60] أن تفندون [يوسف :94] يعقوب في الحالين ، فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع ، تعظيما ، وقيل : خاطبه وخاطب أتباعه . وفي الكلام اختصار ، المعنى : فأرسلوه فأتى يوسف فقال : يا يوسف يا أيها الصديق . والصديق : الكثير الصدق ، كما يقال : فسيق ، وسكير ، وقد سبق بيانه [النساء :69] .

    [ ص: 232 ] قوله تعالى : " لعلي أرجع إلى الناس " يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه . وفي قوله : " لعلهم يعلمون " قولان :

    أحدهما : يعلمون تأويل رؤيا الملك . والثاني : يعلمون بمكانك فيكون سبب خلاصك .

    وذكر ابن الأنباري : في تكرير " لعلي " قولين : أحدهما : أن " لعل " الأولى متعلقة بالإفتاء . والثانية مبنية على الرجوع . وكلتاهما بمعنى " كي " .

    والثاني : أن الأولى بمعنى " عسى " ، والثانية بمعنى " كي " فأعيدت لاختلاف المعنيين ، وهذا هو الجواب عن قوله : لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون [يوسف :63] . قال المفسرون : كان سيده العزيز قد مات . واشتغلت عنه امرأته . وقال بعضهم : لم يكن العزيز قد مات ، فقال يوسف للساقي : قل للملك : هذه سبع سنين مخصبات ، ومن بعدهن سبع سنين شداد ، إلا أن يحتال لهن ، فانطلق الرسول إلى الملك فأخبره . فقال له الملك : ارجع إليه فقل : له كيف يصنع ؟ فقال : " تزرعون سبع سنين دأبا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم " دأبا " ساكنة الهمزة ، إلا أن أبا عمرو كان إذا أدرج القراءة لم يهمزها . وروى حفص عن عاصم " دأبا " بفتح الهمزة . قال أبو علي : الأكثر في " دأب " الإسكان ، ولعل الفتح لغة ، ومعنى " دأبا " أي : زراعة متوالية على عادتكم ، والمعنى : تزرعون دائبين . فناب " دأب " عن " دائبين " . وقال الزجاج : المعنى : تدأبون دأبا ، ودل على تدأبون " تزرعون " والدأب : الملازمة للشيء والعادة .

    فإن قيل : كيف حكم بعلم الغيب ، فقال : " تزرعون " ولم يقل : إن شاء الله ؟ فعنه أربعة أجوبة :

    [ ص: 233 ] أحدها : أنه كان بوحي من الله عز وجل . والثاني : أنه بنى على علم ما علمه الله من التأويل الحق ، فلم يشك . والثالث : أنه أضمر " إن شاء الله " كما أضمر إخوته في قولهم : ونمير أهلنا ونحفظ أخانا [يوسف :65] فأضمروا الاستثناء في نياتهم لأنهم على غير ثقة مما وعدوا ، ذكره ابن الأنباري . والرابع : أنه كالآمر لهم ، فكأنه قال : ازرعوا .

    قوله تعالى : " فذروه في سنبله " فإنه أبقى له ، وأبعد من الفساد ، والشداد : المجدبات التي تشتد على الناس . " يأكلن " أي : يذهبن ما قدمتم لهن في السنين المخصبات ، فوصف السنين بالأكل ، وإنما يؤكل فيها ، كما يقال : ليل نائم .

    قوله تعالى : " إلا قليلا مما تحصنون " أي : تحرزون وتدخرون .
    ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون

    قوله تعالى : " ثم يأتي من بعد ذلك عام " إن قيل : لم أشار إلى السنين وهي مؤنثة بـ " ذلك " ؟

    فعنه جوابان ذكرهما ابن القاسم :

    أحدهما : أن السبع مؤنثة ، ولا علامة للتأنيث في لفظها ، فأشبهت المذكر ، كقوله : السماء منفطر به [المزمل :18] فذكر منفطرا لما لم يكن في السماء علم التأنيث ، قال الشاعر :


    فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها


    فذكر " أبقل " لما وصفنا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #308
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (308)
    صــ 234 إلى صــ 240




    [ ص: 234 ] والثاني : أن " ذلك " إشارة إلى الجدب ، وهذا قول مقاتل ، والأول قول الكلبي . قال قتادة : زاده الله علم عام لم يسألوه عنه .

    قوله تعالى : " فيه يغاث الناس " فيه قولان :

    أحدهما : يصيبهم الغيث ، قاله ابن عباس . والثاني : يغاثون بالخصب ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " وفيه يعصرون " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : " يعصرون " بالياء . وقرأ حمزة ، والكسائي بالتاء ، فوجها الخطاب إلى المستفتين .

    وفي قوله : " يعصرون " خمسة أقوال :

    أحدها : يعصرون العنب والزيت والثمرات ، رواه العوفي عن ابن عباس . وبه قال قتادة ، والجمهور .

    والثاني : يعصرون بمعنى يحتلبون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وروى ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال : تفسير " يعصرون " يحتلبون الألبان لسعة خيرهم واتساع خصبهم ، واحتج بقول الشاعر :


    فما عصمة الأعراب إن لم يكن لهم طعام ولا در من المال يعصر


    أي : يحلب .

    والثالث : ينجون ، وهو من العصر ، والعصر : النجاء ، والعصرة : المنجاة . ويقال : فلان في عصرة : إذا كان في حصن لا يقدر عليه ، قال الشاعر :

    [ ص: 235 ]
    صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود


    أي : غياثا للمغلوب المقهور ، وقال عدي :


    لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري


    والرابع : يصيبون ما يحبون ، روي عن أبي عبيدة أيضا أنه قال : المعتصر : الذي يصيب الشيء ويأخذه ، ومنه هذه الآية . ومنه قول ابن أحمر :


    فإنما العيش بريانه وأنت من أفنانه معتصر


    والخامس : يعطون ويفضلون لسعة عيشهم ، رواه ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة . وقرأ سعيد بن جبير : " يعصرون " بضم الياء وفتح الصاد . وقال الزجاج : أراد يمطرون من قوله : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا [النبإ :14] .
    وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين

    [ ص: 236 ] قوله تعالى : " وقال الملك ائتوني به " قال المفسرون : لما رجع الساقي إلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه ، وقع في نفسه صحة ما قال ، فقال : ائتوني بالذي عبر رؤياي ، فجاءه الرسول ، فقال : أجب الملك ، فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قرف به ، فقال : " ارجع إلى ربك " يعني الملك " فاسأله ما بال النسوة " وقرأ ابن أبي عبلة : " النسوة " بضم النون ، والمعنى : فاسأل الملك أن يتعرف ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي ، وإنما أشفق أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره أو متهم بفاحشة ، وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده . وظاهر قوله : " إن ربي بكيدهن عليم " أنه يعني الله تعالى ، وحكى ابن جرير الطبري أنه أراد به سيده العزيز ، والمعنى : أنه يعلم براءتي . وقد روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه استحسن حزم يوسف وصبره عن التسرع إلى الخروج ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الكريم بن الكريم بن الكريم [ابن الكريم] يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ، ثم جاءني الداعي لأجبت " .

    وفي ذكره للنسوة دون امرأة العزيز أربعة أقوال :

    أحدها : أنه خلطها بالنسوة ، لحسن عشرة فيه وأدب ، قاله الزجاج . والثاني : لأنها زوجة ملك ، فصانها . والثالث : لأن النسوة شاهدات عليها له . والرابع : لأن في ذكره لها نوع تهمة ، ذكر الأقوال الثلاثة الماوردي . قال المفسرون : فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف ، فدعا الملك النسوة وفيهن [ ص: 237 ] امرأة العزيز ، فقال : " ما خطبكن " أي : ما شأنكن وقصتكن " إذ راودتن يوسف " .

    فإن قيل : إنما راودته واحدة ، فلم جمعهن ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أنه جمعهن في السؤال ليعلم عين المراودة . والثاني : أن أزليخا راودته على نفسه ، وراوده باقي النسوة على القبول منها . والثالث : أنه جمعهن في الخطاب ، والمعنى لواحدة منهن ، لأنه قد يوقع على النوع وصف الجنس إذا أمن من اللبس ، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء : " إنكن أكثر أهل النار " ، فجمعهن في الخطاب والمعنى لبعضهن ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " قلن حاش لله " قال الزجاج : قرأ الحسن بتسكين الشين ، ولا اختلاف بين النحويين أن الإسكان غير جائز ، لأن الجمع بين ساكنين لا يجوز ، ولا هو من كلام العرب . فأعلم النسوة الملك براءة يوسف من السوء ، فقالت امرأة العزيز : " الآن حصحص الحق " أي : برز وتبين ، واشتقاقه في اللغة من الحصة ، أي : بانت حصة الحق وجهته من حصة جهة الباطل . وقال ابن القاسم : [ ص: 238 ] " حصحص " بمعنى وضح وانكشف ، تقول العرب : حصحص البعير في بروكه : إذا تمكن ، وأثر في الأرض ، وفرق الحصى .

    وللمفسرين في ابتداء أزليخا بالإقرار قولان :

    أحدهما : أنها لما رأت النسوة قد برأنه ، قالت : لم يبق إلا أن يقبلن على بالتقرير ، فأقرت ، قاله الفراء .

    والثاني : أنها أظهرت التوبة وحققت صدق يوسف ، قاله الماوردي .
    ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين

    قوله تعالى : " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " قال مقاتل : " ذلك " بمعنى هذا . وقال ابن الأنباري : قال اللغويون هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه ، لقرب الخبر من أصحابه ، فصار كالمشاهد الذي يشار إليه بهذا ، ولما كان متقضيا ، أمكن أن يشار إليه بذلك ، لأن المتقضي كالغائب .

    واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه يوسف ، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكي عن شخص شيئا ثم تصله بالحكاية عن آخر ، ونظير هذا قوله : يريد أن يخرجكم من أرضكم [الأعراف :110] هذا قول الملإ " فماذا تأمرون " قول فرعون ومثله وجعلوا أعزة أهلها أذلة [النمل :34] هذا قول بلقيس " وكذلك يفعلون " قول الله تعالى . ومثله من بعثنا من مرقدنا [يس :52] هذا قول الكفار ، فقالت الملائكة : " هذا ما وعد الرحمن " وإنما يجوز مثل هذا في الكلام ، لظهور الدلالة على المعنى .

    [ ص: 239 ] واختلفوا ، أين قال يوسف هذا ؟ على قولين :

    أحدهما أنه لما رجع الساقي إلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة للملك ، قال حينئذ : " ذلك ليعلم " رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جريج .

    والثاني : أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك ، رواه عطاء عن ابن عباس :

    قوله تعالى : " ذلك ليعلم " أي : ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك ليعلم .

    واختلفوا في المشار إليه بقوله : " ليعلم " وقوله " لم أخنه " على أربعة أقوال :

    أحدها : أنه العزيز ، والمعنى : ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته " بالغيب " أي : إذا غاب عني ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور .

    والثاني : أن المشار إليه بقوله : " ليعلم " الملك ، والمشار إليه بقوله : " لم أخنه " العزيز ، والمعنى : ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث : أن المشار إليه بالشيئين ، الملك ، فالمعنى : ليعلم الملك أني لم أخنه ، يعني الملك أيضا ، بالغيب .

    وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان :

    أحدهما : لكون العزيز وزيره ، فالمعنى : لم أخنه في امرأة وزيره ، قاله ابن الأنباري .

    والثاني : لم أخنه في بنت أخته ، وكانت أزليخا بنت أخت الملك ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    [ ص: 240 ] والرابع : أن المشار إليه بقوله : " ليعلم " الله ، فالمعنى ليعلم الله أني لم أخنه ، روي عن مجاهد ، قال ابن الأنباري : نسب العلم إلى الله في الظاهر ، وهو في المعنى للمخلوقين ، كقوله : حتى نعلم المجاهدين منكم [محمد :31] .

    فإن قيل : إن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك ، فكيف قال : " ليعلم " ولم يقل : لتعلم ، وهو يخاطبه ؟

    فالجواب : أنا إن قلنا : إنه كان حاضرا عند الملك ، فإنما آثر الخطاب بالياء توقيرا للملك ، كما يقول الرجل للوزير : إن رأى الوزير أن يوقع في قصتي . وإن قلنا : إنه كان غائبا ، فلا وجه لدخول التاء ، وكذلك إن قلنا : إنه عنى العزيز ، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ .

    والقول الثاني : أنه قول امرأة العزيز ، فعلى هذا يتصل بما قبله ، والمعنى : ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه .

    والثالث : أنه قول العزيز ، والمعنى : ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب ، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته ، حكى القولين الماوردي .

    قوله تعالى : " وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " قال ابن عباس : لا يصوب عمل الزناة ، وقال غيره : لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #309
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (309)
    صــ 241 إلى صــ 247





    وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين

    [ ص: 241 ] قوله تعالى : " وما أبرئ " في القائل لهذا ثلاثة أقوال ، وهي التي تقدمت في الآية قبلها .

    فالذين قالوا : هو يوسف ، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال :

    أحدها : أنه لما قال : " ليعلم أني لم أخنه بالغيب " غمزه جبريل ، فقال : ولا حين هممت ؟ فقال : " وما أبرئ نفسي " رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون .

    والثاني : أن يوسف لما قال : " لم أخنه " ذكر أنه قد هم بها فقال : " وما أبرئ نفسي " رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أنه لما قال ذلك ، خاف أن يكون قد زكى نفسه ، فقال : " وما أبرئ نفسي " ، قاله الحسن .

    والرابع : أنه لما قاله ، قال له الملك الذي معه : اذكر ما هممت به ، فقال : " وما أبرئ نفسي " ، قاله قتادة .

    والخامس : أنه لما قاله ، قالت امرأة العزيز : ولا يوم حللت سراويلك ، فقال : " وما أبرئ نفسي " ، قاله السدي .

    والذين قالوا : هذا قول امرأة العزيز ، فالمعنى : وما أبرئ نفسي أني كنت راودته .

    والذين قالوا : هو العزيز ، فالمعنى : وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف ، لأنه قد خطر لي .

    قوله تعالى : " لأمارة بالسوء " قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ويعقوب إلا رويسا : " بالسوء إلا " بتحقيق الهمزتين . وقرأ أبو عمرو ، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى . وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياء . وقرأ أبو جعفر ، وورش ، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية [ ص: 242 ] بين بين ، مثل : " السوء علا " . وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واوا ، وأدغمها في الواو التي قبلها . فتصير واوا مكسورة مشددة قبل همزة " إلا " .

    قوله تعالى : " إلا ما رحم ربي " قال ابن الأنباري : قال اللغويون هذا استثناء منقطع ، والمعنى : إلا أن رحمة ربي عليها المعتمد . قال أبو صالح عن ابن عباس : المعنى : إلا من عصم ربي . وقيل : " ما " بمعنى " من " . قال الماوردي : ومن قال : هو قول امرأة العزيز ، فالمعنى : إلا من رحم ربي في قهره لشهوته ، أو في نزعها عنه . ومن قال : هو قول العزيز ، فالمعنى : إلا من رحم ربي بأن يكفيه سوء الظن ، أو يثبته فلا يعجل . قال ابن الأنباري : والقول بأن هذا قول يوسف ، أصح لوجهين :

    أحدهما : لأن العلماء عليه . والثاني : لأن المرأة كانت عابدة وثن ، وما تضمنته " الآية " أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله عز وجل . وقال المفسرون : فلما تبين الملك عذر يوسف وعلم أمانته ، قال : " ائتوني به أستخلصه لنفسي " أي : أجعله خالصا لي ، لا يشركني فيه أحد .

    فإن قيل : فقد رويتم في بعض ما مضى أن يوسف قال في مجلس الملك : " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " ، فكيف قال الملك : " ائتوني به " وهو حاضر عنده ؟!

    فالجواب : أن أرباب هذا القول يقولون : أمر الملك بإحضاره ليقلده الأعمال في غير المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرؤيا . قال وهب : لما دخل يوسف على الملك ، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا ، كان كلما كلمه بلسان ، أجابه يوسف بذلك اللسان ، فعجب الملك ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فقال : إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها فذكرها له ، قال : فما ترى أيها الصديق ؟ [ ص: 243 ] قال : أرى أن تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ، وتجمع الطعام ، فيأتيك الناس فيمتارون ، وتجمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد ، فقال الملك : ومن لي بهذا ؟ فقال يوسف : " اجعلني على خزائن الأرض " . قال ابن عباس : ويريد : بقوله : " مكين أمين " أي : قد مكنتك في ملكي وائتمنتك فيه . وقال مقاتل : المكين : الوجيه ، والأمين : الحافظ .

    قوله تعالى : " اجعلني على خزائن الأرض " أي : خزائن أرضك .

    وفي المراد بالخزائن قولان :

    أحدهما : خزائن الأموال ، قاله الضحاك ، والزجاج .

    والثاني : خزائن الطعام فحسب ، قاله ابن السائب . قال الزجاج : وإنما سأل ذلك ، لأن الأنبياء بعثوا بالعدل ، فعلم أنه لا أحد أقوم بذلك منه .

    وفي قوله : إني حفيظ عليم ثلاثة أقوال :

    أحدها : حفيظ لما وليتني ، عليم بالمجاعة متى تكون ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : حفيظ لما استودعتني ، عليم بهذه السنين ، قاله الحسن .

    والثالث : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن ، قاله السدي ، وذلك أن الناس كانوا يردون على الملك من كل ناحية فيتكلمون بلغات مختلفة .

    واختلفوا ، هل ولاه الملك يومئذ ، أم لا ؟ على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه ولاه بعد سنة ، روى الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، ولكنه أخر ذلك سنة " . وذكر مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 244 ] قال : " لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله ، لملك من وقته " . قال مجاهد : أسلم الملك على يد يوسف ، وقال أهل السير : أقام في بيت الملك سنة ، فلما انصرمت ، دعاه الملك ، فتوجه ، ورداه بسيفه ، وأمر له بسرير من ذهب ، وضرب عليه كلة من إستبرق ، فجلس على السرير كالقمر ، ودانت له الملوك ، ولزم الملك بيته ، وفوض أمره إليه ، وعزل قطفير عما كان عليه ، وجعل يوسف مكانه ، ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي ، فزوج الملك يوسف بامرأة قطفير ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيرا مما تريدين ؟ فقالت : أيها الصديق لا تلمني ، فإني كنت امرأة حسناء في ملك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، فغلبتني نفسي ، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء ، فولدت له ابنين ، إفراييم ، وميشا ، واستوسق له ملك مصر .

    والقول الثاني : أنه ملكه بعد سنة ونصف ، حكاه مقاتل عن ابن عباس .

    والثالث : أنه سلم إليه الأمر من وقته ، قاله وهب ، وابن السائب .

    فإن قيل : كيف قال يوسف : " إني حفيظ عليم " ولم يقل : إن شاء الله ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أن ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخر تمليكه ، على ما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    والثاني : أنه أضمر الاستثناء ، كما أضمروه في قولهم : " ونمير أهلنا "

    والثالث : أنه أراد أن حفظي وعلمي يزيدان على حفظ غيري وعلمه ، فلم يحتج هذا إلى الاستثناء ، لعدم الشك فيه ، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري .

    فإن قيل : كيف مدح نفسه بهذا القول ، ومن شأن الأنبياء والصالحين التواضع ؟

    [ ص: 245 ] فالجواب : أنه لما خلا مدحه لنفسه من بغي وتكبر ، وكان مراده به الوصول إلى حق يقيمه وعدل يحييه وجور يبطله ، كان ذلك جميلا جائزا ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " أنا أكرم ولد آدم على ربه " ، وقال علي بن أبي طالب عليه السلام : والله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت ، أم بنهار . وقال ابن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته . فهذه الأشياء ، خرجت مخرج الشكر لله ، وتعريف المستفيد ما عند المفيد ، ذكر هذا محمد بن القاسم . قال القاضي أبو يعلى : في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه ، وأنه ليس من المحظور في قوله : فلا تزكوا أنفسكم [النجم :32] .

    قوله تعالى : " وكذلك مكنا ليوسف " في الكلام محذوف ، تقديره : اجعلني على خزائن الأرض ، قال : قد فعلت ، فحذف ذلك ، لأن قوله : " وكذلك مكنا ليوسف " يدل عليه ، والمعنى : ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في دفع المكروه عنه ، وتخليصه من السجن ، وتقريبه من قلب الملك ، أقدرناه على ما يريد في أرض مصر " يتبوأ منها حيث يشاء " قال ابن عباس : ينزل حيث أراد . وقرأ ابن كثير ، والمفضل : " حيث نشاء " بالنون .

    قوله تعالى : " نصيب برحمتنا " أي : نختص بنعمتنا من النبوة والنجاة " من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " يعني المؤمنين . يقال : إن يوسف باع أهل مصر الطعام بأموالهم ، وحليهم ، ومواشيهم ، وعقارهم ، وعبيدهم ، ثم بأولادهم ، ثم برقابهم ، ثم قال للملك : كيف ترى صنع ربي ؟ فقال الملك : إنما نحن لك تبع ، قال : [ ص: 246 ] فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم . وكان يوسف لا يشبع في تلك الأيام ، ويقول : إني أخاف أن أنسى الجائع .
    ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون

    قوله تعالى : " ولأجر الآخرة خير " المعنى : ما نعطي يوسف في الآخرة ، خير مما أعطيناه في الدنيا ، وكذلك غيره من المؤمنين ممن سلك طريقه في الصبر .
    وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون

    قوله تعالى : " وجاء إخوة يوسف " روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما فوض الملك إلى يوسف أمر مصر ، تلطف يوسف للناس ، ولم يزل يدعوهم إلى الإسلام ، فآمنوا به وأحبوه ، فلما أصاب الناس القحط ، نزل ذلك بأرض كنعان ، فأرسل يعقوب ولده للميرة ، وذاع أمر يوسف في الآفاق ، وانتشر عدله ورحمته ورأفته ، فقال يعقوب : يا بني ، إنه قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا ، فانطلقوا إليه وأقرئوه مني السلام ، وانتسبوا له لعله يعرفكم ، فانطلقوا فدخلوا عليه ، فعرفهم وأنكروه ، قال : من أين أقبلتم ؟ قالوا : من أرض كنعان ، ولنا شيخ يقال له : يعقوب ، وهو يقرئك السلام ، فبكى وعصر عينيه وقال : لعلكم جواسيس جئتم تنظرون عورة بلدي ، فقالوا : لا والله ، ولكنا من كنعان ، أصابنا الجهد فأمرنا أبونا أن نأتيك ، فقد بلغه عنك خير ، قال : فكم أنتم ؟ قالوا : أحد عشر أخا ، وكنا اثني عشر فأكل أحدنا الذئب ، قال : فمن يعلم صدقكم ؟ ائتوني بأخيكم الذي من أبيكم . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : لما دخلوا عليه كلموه بالعبرانية ، فأمر الترجمان فكلمهم ليشبه عليهم ، فقال للترجمان : قل لهم : أنتم عيون ، بعثكم ملككم لتنظروا إلى أهل مصر فتخبرونه فيأتينا بالجنود ، فقالوا : لا ، [ ص: 247 ] ولكنا قوم لنا أب شيخ كبير ، وكنا اثني عشر ، فهلك منا واحد في الغنم ، وقد خلفنا عند أبينا أخا له من أمه ، فقال : إن كنتم صادقين ، فخلفوا عندي بعضكم رهنا ، وائتوني بأخيكم ، فحبس عنده شمعون .

    واختلفوا بماذا عرفهم يوسف على قولين :

    أحدهما : أنه عرفهم برؤيتهم ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه ما عرفهم حتى تعرفوا إليه ، قاله الحسن .

    قوله تعالى : " وهم له منكرون " قال مقاتل : لا يعرفونه .

    وفي علة كونهم لم يعرفوه قولان :

    أحدهما : أنهم جاؤوه مقدرين أنه ملك كافر ، فلم يتأملوا منه ما يزول به عنهم الشك .

    والثاني : أنهم عاينوا من زيه وحليته ما كان سببا لإنكارهم . وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان لابسا ثياب حرير ، وفي عنقه طوق من ذهب .

    فإن قيل : كيف يخفى من قد أعطي نصف الحسن ، وكيف يشتبه بغيره ؟

    فالجواب : أنهم فارقوه طفلا ورأوه كبيرا ، والأحوال تتغير ، وما توهموا أنه ينال هذه المرتبة . وقال ابن قتيبة : معنى كونه أعطي نصف الحسن ، أن الله جعل للحسن غاية وحدا ، وجعله لمن شاء من خلقه ، إما للملائكة ، أو للحور ، فجعل ليوسف نصف ذلك الحسن ، فكأنه كان حسنا مقاربا لتلك الوجوه الحسنة ، وليس كما يزعم الناس من أنه أعطي هذا الحسن ، وأعطي الناس كلهم نصف الحسن .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #310
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (310)
    صــ 248 إلى صــ 254



    ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين
    فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون

    قوله تعالى : " ولما جهزهم بجهازهم " يقال : جهزت القوم تجهيزا : إذا هيأت [ ص: 248 ] لهم ما يصلحهم ، وجهاز البيت : متاعه . قال المفسرون : حمل لكل رجل منهم بعيرا ، وقال " ألا ترون أني أوفي الكيل " أي : أتمه ولا أبخسه ، " وأنا خير المنزلين " يعني : المضيفين ، وذلك أنه أحسن ضيافتهم . ثم أوعدهم على ترك الإتيان بأخيهم ، فقال : " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي " وفيه قولان :

    أحدهما : أنه يعني به : فيما بعد ، وهو قول الأكثرين .

    والثاني : أنه منعهم الكيل في الحال ، قاله وهب بن منبه .
    قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون

    قوله تعالى : " قالوا سنراود عنه أباه " أي : نطلبه منه ، والمراودة : الاجتهاد في الطلب .

    وفي قوله : " وإنا لفاعلون " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن المعنى : وإنا لجاؤوك به ، وضامنون لك المجيء به ، هذا مذهب الكلبي .

    والثاني : أنه توكيد ، قاله الزجاج ، فعلى هذا ، يكون الفعل الذي ضمنوه عائدا إلى المراودة ، فيصح معنى التوكيد .

    والثالث : وإنا لمديمون المطالبة به لأبينا ، ومتابعون المشورة عليه بتوجيهه ، وهذا غير المراودة ، ذكره ابن الأنباري .

    فإن قيل : كيف جاز ليوسف أن يطلب أخاه ، وهو يعلم مافي ذلك من إدخال الحزن على أبيه ؟ فعنه خمسة أجوبة :

    أحدها : أنه يجوز أن يكون ذلك بأمر عن الله تعالى زيادة لبلاء يعقوب ليعظم ثوابه ، وهذا الأظهر .

    [ ص: 249 ] والثاني : أنه طلبه لا ليحبسه ، فلما عرفه قال : لا أفارقك يا يوسف ، قال : لا يمكنني حبسك إلا أن أنسبك إلى أمر فظيع ، قال : افعل ما بدا لك ، قاله كعب .

    والثالث : أن يكون قصد تنبيه يعقوب بذلك على حال يوسف .

    والرابع : ليتضاعف سرور يعقوب برجوع ولديه .

    والخامس : ليعجل سرور أخيه باجتماعه به قبل إخوته . وكل هذه الأجوبة مدخولة ، إلا الأول ، فإنه الصحيح . ويدل عليه ما روينا عن وهب بن منبه ، قال : لما جمع الله بين يوسف ويعقوب ، قال له : يعقوب بيني وبينك هذه المسافة القريبة ، ولم تكتب إلى تعرفني ؟! فقال : إن جبريل أمرني أن لا أعرفك ، فقال له : سل جبريل ، فسأله ، فقال : إن الله أمرني بذلك ، فقال : سل ربك ، فسأله ، فقال : قل ليعقوب خفت عليه الذئب ، ولم تؤمني ؟
    وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون

    قوله تعالى : " وقال لفتيانه " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : " لفتيته " . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : " لفتيانه " . قال أبو علي : الفتية جمع فتى في العدد القليل ، والفتيان في الكثير . والمعنى : قال لغلمانه : " اجعلوا بضاعتهم " وهي التي اشتروا بها الطعام " في رحالهم " ، والرحل : كل شيء يعد للرحيل . " لعلهم يعرفونها " أي : ليعرفوها " إذا انقلبوا " أي : رجعوا " إلى أهلهم لعلهم يرجعون " أي : لكي يرجعوا .

    وفي مقصوده بذلك خمسة أقوال :

    أحدها : أنه تخوف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى ، فجعل دراهمهم في رحالهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    [ ص: 250 ] والثاني : أنه أراد أنهم إذا عرفوها ، لم يستحلوا إمساكها حتى يردوها ، قاله الضحاك .

    والثالث : أنه استقبح أخذ الثمن من والده وإخوته مع حاجتهم إليه ، فرده عليهم من حيث لا يعلمون سبب رده تكرما وتفضلا ، ذكره ابن جرير الطبري ، وأبو سليمان الدمشقي .

    والرابع : ليعلموا أن طلبه لعودهم لم يكن طمعا في أموالهم ، ذكره الماوردي .

    والخامس : أنه أراهم كرمه وبره ليكون أدعى إلى عودهم .
    فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين

    قوله تعالى : " فلما رجعوا إلى أبيهم " قال المفسرون : لما عادوا إلى يعقوب ، قالوا : يا أبانا ، قدمنا على خير رجل ، أنزلنا ، وأكرمنا كرامة ، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته .

    وفي قوله : " منع منا الكيل " قولان قد تقدما في قوله : فلا كيل لكم عندي [يوسف :61] .

    فإن قلنا : إنه لم يكل لهم ، فلفظ " منع " بين .

    وإن قلنا : إنه خوفهم منع الكيل ، ففي المعنى قولان :

    أحدهما : حكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت ، كما تقول للرجل : دخلت والله النار بما فعلت .

    [ ص: 251 ] والثاني : أن المعنى : يا أبانا يمنع منا الكيل إن لم ترسله معنا ، فناب " منع " عن " يمنع " كقوله : يحسب أن ماله أخلده [الهمزة :3] أي : يخلده ، وقوله : ونادى أصحاب النار [الأعراف :50] ، وإذ قال الله يا عيسى [المائدة :116] أي : وإذ يقول ، ذكرهما ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " فأرسل معنا أخانا نكتل " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : " نكتل " بالنون . وقرأ حمزة ، والكسائي : " يكتل " بالياء . والمعنى : إن أرسلته معنا اكتلنا ، وإلا فقد منعنا الكيل .

    قوله تعالى : " هل آمنكم عليه " أي : لا آمنكم إلا كأمني على يوسف ، يريد أنه لم ينفعه ذلك الأمن إذ خانوه . " فالله خير حفظا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : " حفظا " ، والمعنى : خير حفظا من حفظكم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : " خير حافظا " بألف . قال أبو علي : ونصبه على التمييز دون الحال .
    ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا [ ص: 252 ] حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون

    قوله تعالى : " ولما فتحوا متاعهم " يعني أوعية الطعام " وجدوا بضاعتهم " التي حملوها ثمنا للطعام " ردت " قال الزجاج : الأصل " رددت " ، فأدغمت الدال الأولى في الثانية ، وبقيت الراء مضمومة . ومن قرأ بكسر الراء جعل كسرتها منقولة من الدال ، كما فعل ذلك في : قيل ، وبيع ، ليدل على أن أصل الدال الكسر .

    قوله تعالى : " ما نبغي " في " ما " قولان :

    أحدهما : أنها استفهام ، المعنى : أي شيء نبغي وقد ردت بضاعتنا إلينا ؟

    والثاني : أنها نافية ، المعنى : ما نبغي شيئا ، أي : لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها إليه ، بل تكفينا هذه في الرجوع إليه ، وأرادوا بذلك تطييب قلبه ليأذن لهم بالعود . وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، والجحدري ، وأبو حيوة " ما تبغي " بالتاء على الخطاب ليعقوب .

    قوله تعالى : " ونمير أهلنا " أي : نجلب لهم الطعام . قال ابن قتيبة : يقال : مار أهله يميرهم ميرا ، وهو مائر لأهله : إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده .

    قوله تعالى : " ونحفظ أخانا " فيه قولان :

    أحدهما : نحفظ أخانا بنيامين الذي ترسله معنا ، قاله الأكثرون .

    والثاني : ونحفظ أخانا شمعون الذي أخذه رهينة عنده ، قاله الضحاك عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " ونزداد كيل بعير " أي : وقر بعير ، يعنون بذلك نصيب أخيهم ، لأن يوسف كان لا يعطي الواحد أكثر من حمل بعير .

    [ ص: 253 ] قوله تعالى : " ذلك كيل يسير " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : ذلك كيل سريع ، لا حبس فيه ، يعنون إذا جاء معنا ، عجل الملك لنا الكيل ، قاله مقاتل .

    والثاني : ذلك كيل سهل على الذي نمضي إليه ، قاله الزجاج .

    والثالث : ذلك الذي جئناك به كيل يسير لا يقنعنا ، قاله الماوردي .

    قوله تعالى : " حتى تؤتون موثقا من الله " أي : تعطوني عهدا أثق به ، والمعنى : حتى تحلفوا لي بالله " لتأتنني به " أي : لتردنه إلي . قال ابن الأنباري : وهذه اللام جواب لمضمر ، تلخيصه : وتقولوا : والله لتأتنني به .

    قوله تعالى : " إلا أن يحاط بكم " فيه قولان :

    أحدهما : أن يهلك جميعكم ، قاله مجاهد .

    والثاني : أن يحال بينكم وبينه فلا تقدرون على الإتيان به ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " فلما آتوه موثقهم " أي : أعطوه العهد ، وفيه قولان :

    أحدهما : أنهم حلفوا له بحق محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من ربه ، قاله الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أنهم حلفوا بالله تعالى ، قاله السدي .

    قوله تعالى : " قال الله على ما نقول وكيل " فيه قولان :

    أحدهما : أنه الشهيد . والثاني : كفيل بالوفاء ، رويا عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " لا تدخلوا من باب واحد " قال المفسرون : لما تجهزوا للرحيل ، قال لهم يعقوب : " لا تدخلوا " يعني مصر " من باب واحد " .

    وفي المراد بهذا الباب قولان :

    أحدهما : أنه أراد بابا من أبواب مصر ، وكان لمصر أربعة أبواب ، قاله الجمهور .

    [ ص: 254 ] والثاني : أنه أراد الطرق لا الأبواب ، قاله السدي ، وروى نحوه أبو صالح عن ابن عباس .

    وفي ما أراد بذلك ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه خاف عليهم العين ، وكانوا أولي جمال وقوة ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

    والثاني : أنه خاف أن يغتالوا لما ظهر لهم في أرض مصر من التهمة ، قاله وهب بن منبه .

    والثالث : أنه أحب أن يلقوا يوسف في خلوة ، قاله إبراهيم النخعي .

    قوله تعالى : " وما أغني عنكم من الله من شيء " أي : لن أدفع عنكم شيئا قضاه الله ، فإنه إن شاء أهلككم متفرقين ، ومصداقه في الآية التي بعدها " ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها " وهي إرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم . قال الزجاج : " إلا حاجة " استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها . قال ابن عباس : " قضاها " أي : أبداها وتكلم بها .

    قوله تعالى : " وإنه لذو علم لما علمناه " فيه سبعة أقوال :

    أحدها : إنه حافظ لما علمناه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : وإنه لذو علم أن دخولهم من أبواب متفرقة لا يغني عنهم من الله شيئا ، قاله الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث : وإنه لعامل بما علم ، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري : سمي العمل علما ، لأن العلم أول أسباب العمل .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #311
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (311)
    صــ 255 إلى صــ 261

    [ ص: 255 ] والرابع : وإنه لمتيقن لوعدنا ، قاله الضحاك .

    والخامس : وإنه لحافظ لوصيتنا ، قاله ابن السائب .

    والسادس : وإنه لعالم بما علمناه ، أنه لا يصيب بنيه إلا ما قضاه الله، قاله مقاتل .

    والسابع : وإنه لذو علم لتعليمنا إياه ، قاله الفراء .
    ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون

    قوله تعالى : " ولما دخلوا على يوسف " يعني إخوته " آوى إليه أخاه " يعني بنيامين ، وكان أخاه لأبيه وأمه ، قاله قتادة ، وضمه إليه وأنزله معه . قال ابن قتيبة : يقال : آويت فلانا إلي ، بمد الألف : إذا ضممته إليك ، وأويت إلى بني فلان ، بقصر الألف : إذا لجأت إليهم .

    وفي قوله : " قال إني أنا أخوك " قولان :

    أحدهما : أنهم لما دخلوا عليه حبسهم بالباب ، وأدخل أخاه ، فقال له : ما اسمك ؟ فقال : بنيامين ، قال : فما اسم أمك ؟ قال : راحيل بنت لاوي ، فوثب إليه فاعتنقه ، فقال : " إني أنا أخوك " ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وكذلك قال ابن إسحاق : أخبره أنه يوسف .

    والثاني : أنه لم يعترف له بذلك ، وإنما قال : أنا أخوك مكان أخيك الهالك ، قاله وهب بن منبه . وقيل : إنه أجلسهم كل اثنين على مائدة ، فبقي بنيامين وحيدا يبكي ، وقال : لو كان أخي حيا لأجلسني ، معه فضمه يوسف إليه ، وقال : إني أرى هذا وحيدا ، فأجلسه معه على مائدته . فلما جاء الليل ، نام كل اثنين على منام ، فبقي وحيدا ، فقال يوسف : هذا ينام معي . فلما خلا به ، [ ص: 256 ] قال هل لك أخ من أمك ؟ قال : كان لي أخ من أمي فهلك ، فقال : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ، فقال : أيها الملك ، ومن يجد أخا مثلك ؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف ، وقام إليه فاعتنقه ، وقال : " إني أنا أخوك " يوسف " فلا تبتئس " قال قتادة : لا تأس ولا تحزن ، وقال الزجاج : لا تحزن ولا تستكن . قال ابن الأنباري : " تبتئس " تفتعل ، من البؤس ، وهو الضر والشدة ، أي : لا يلحقنك بؤس بالذي فعلوا .

    قوله تعالى : " بما كانوا يعملون " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم كانوا يعيرون يوسف وأخاه بعبادة جدهما أبي أمهما للأصنام ، فقال : لا تبتئس بما كانوا يعملون من التعيير لنا ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : لا تحزن بما سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرقونك ، فتكون " كانوا " بمعنى " يكونون " قال الشاعر :


    فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع لمن كان بعدي من القصائد مصنعا


    وقال آخر :


    وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح


    أراد : فقد كان ، وهذا مذهب مقاتل .

    والثالث : لا تحزن بما عملوا من حسدنا ، وحرصوا على صرف وجه أبينا عنا ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن إسحاق .
    [ ص: 257 ] فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم

    قوله تعالى : " فلما جهزهم بجهازهم " قال المفسرون : أوفى لهم الكيل ، وحمل لـ " بنيامين " بعيرا باسمه كما حمل لهم ، وجعل السقاية في رحل أخيه ، وهي الصواع ، فهما اسمان واقعان على شيء واحد ، كالبر والحنطة ، والمائدة والخوان . وقال بعضهم : الاسم الحقيقي : الصواع ، والسقاية وصف ، كما يقال : كوز ، وإناء ، فالاسم الخاص : الكوز . قال المفسرون : جعل يوسف ذلك الصاع مكيالا لئلا يكال بغيره . وقيل : كال لإخوته بذلك ، إكراما لهم . قالوا : ولما ارتحل إخوة يوسف وأمعنوا ، أرسل الطلب في أثرهم ، فأدركوا وحبسوا ، " ثم أذن مؤذن " قال الزجاج : أعلم معلم ، يقال : آذنته بالشيء ، فهو مؤذن به ، أي : أعلمته ، وآذنت : أكثرت الإعلام بالشيء ، يعني : أنه إعلام بعد إعلام . " أيتها العير " يريد : أهل العير ، فأنث لأنه جعلها للعير . قال الفراء : لا يقال : عير ، إلا لأصحاب الإبل . وقال أبو عبيدة : العير الإبل المرحولة المركوبة . وقال ابن قتيبة : العير : القوم على الإبل .

    فإن قيل : كيف جاز ليوسف أن يسرق من لم يسرق ؟ فعنه أربعة أجوبة :

    أحدها : أن المعنى : إنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجب ، قاله الزجاج .

    [ ص: 258 ] والثاني : أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف أمر بوضع السقاية في رحل أخيه ، فكان غير كاذب في قوله ، قاله ابن جرير .

    والثالث : أن المنادي نادى بالتسريق لهم بغير أمر يوسف .

    والرابع : أن المعنى : إنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم ، كقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [الدخان :49] أي : عند نفسك ، لا عندنا ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " كذب إبراهيم ثلاث كذبات " أي : قال قولا يشبه الكذب ، وليس به .

    قوله تعالى : " قالوا " يعني : إخوة يوسف " وأقبلوا عليهم " فيه قولان :

    أحدهما : على المؤذن وأصحابه . والثاني : أقبل المنادي ومن معه على إخوة يوسف بالدعوى . " ماذا تفقدون " ما الذي ضل عنكم ؟ " قالوا نفقد صواع الملك " قال الزجاج : الصواع هو الصاع بعينه ، وهو يذكر ويؤنث ، وكذلك الصاع يذكر ويؤنث . وقد قرئ : " صياع " بياء ، وقرئ : " صوغ " بغين معجمة ، وقرئ : " صوع " بعين غير معجمة مع فتح الصاد ، وضمها ، وقرأ أبو هريرة : " صاع الملك " وكل هذه لغات ترجع إلى معنى واحد ، إلا أن الصوغ ، بالغين المعجمة ، مصدر صغت ، وصف الإناء به ، لأنه كان مصوغا من ذهب .

    واختلفوا في جنسه على خمسة أقوال :

    أحدها : أنه كان قدحا من زبرجد . والثاني : أنه كان من نحاس ، رويا عن ابن عباس . والثالث : أنه كان شربة من فضة مرصعة بالجوهر ، قاله عكرمة . [ ص: 259 ] والرابع : كان كأسا من ذهب ، قاله ابن زيد . والخامس : كان من مس ، حكاه الزجاج .

    وفي صفته قولان :

    أحدهما : أنه كان مستطيلا يشبه المكوك . والثاني : أنه كان يشبه الطاس .

    قوله تعالى : " ولمن جاء به " يعني الصواع " حمل بعير " من الطعام " وأنا به زعيم " أي : كفيل لمن رده بالحمل ، يقوله المؤذن .
    قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين

    قوله تعالى : " قالوا تالله " قال الزجاج : " تالله " بمعنى : والله ، إلا أن التاء لا يقسم بها إلا في الله عز وجل . ولا يجوز : تالرحمن لأفعلن ، ولا : تربي لأفعلن . والتاء تبدل من الواو ، كما قالوا في وراث : تراث ، وقالوا : يتزن ، وأصله : يوتزن ، من الوزن . قال ابن الأنباري : أبدلت التاء من الواو ، كما أبدلت في التخمة والتراث والتجاه ، وأصلهن من الوخمة والوراث والوجاه ، لأنهن من الوخامة والوراثة والوجه . ولا تقول العرب : تالرحمن ، كما قالوا : تالله ، لأن الاستعمال في الإقسام كثر بالله ، ولم يكن بالرحمن ، فجاءت التاء بدلا من الواو في الموضع الذي يكثر استعماله .

    قوله تعالى : " لقد علمتم " يعنون يوسف " ما جئنا لنفسد في الأرض " أي : لنظلم أحدا أو نسرق .

    فإن قيل : كيف حلفوا على علم قوم لا يعرفونهم ؟

    [ ص: 260 ] فالجواب من ثلاثة أوجه :

    أحدها : أنهم قالوا ذلك ، لأنهم ردوا الدراهم ولم يستحلوها ، فالمعنى : لقد علمتم أنا رددنا عليكم دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصاع ، فكيف نستحل صاعكم ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .

    والثاني : لأنهم لما دخلوا مصر كعموا أفواه إبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئا ، وكان غيرهم لا يفعل ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث : أن أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحدا .

    قوله تعالى : " فما جزاؤه " المعنى : قال المنادي وأصحابه : فما جزاؤه . قال الأخفش : إن شئت رددت الكناية إلى السارق ، وإن شئت رددتها إلى السرق .

    قوله تعالى : " إن كنتم كاذبين " أي : في قولكم ، " وما كنا سارقين " . " قالوا " يعني إخوة يوسف " جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه " أي : يستعبد بذلك ، قال ابن عباس : وهذه كانت سنة آل يعقوب .
    فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم

    قوله تعالى : " فبدأ بأوعيتهم " قال المفسرون : انصرف بهم المؤذن إلى يوسف ، وقال : لا بد من تفتيش أمتعتكم ، " فبدأ " يوسف " بأوعيتهم قبل وعاء أخيه " لإزالة التهمة ، فلما وصل إلى وعاء أخيه ، قال : ما أظن هذا أخذ شيئا ، فقالوا : والله لا نبرح حتى تنظر في رحله ، فهو أطيب لنفسك . فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع ، فذلك قوله " ثم استخرجها " .

    [ ص: 261 ] وفي هاء الكناية ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها ترجع إلى السرقة ، قاله الفراء . والثاني : إلى السقاية ، قاله الزجاج . والثالث : إلى الصواع على لغة من أنثه ، ذكره ابن الأنباري . قال المفسرون : فأقبلوا على بنيامين ، وقالوا : أي شيء صنعت ؟! فضحتنا وأزريت بأبيك الصديق ، فقال : وضع هذا في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم ، وقد كان يوسف أخبر أخاه بما يريد أن يصنع به .

    قوله تعالى : " كذلك كدنا ليوسف " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : كذلك صنعنا له ، قاله الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : احتلنا له ، والكيد : الحيلة ، قاله ابن قتيبة .

    والثالث : أردنا ليوسف ، ذكره ابن القاسم .

    والرابع : دبرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصل إلى حبسه . قال ابن الأنباري : لما دبر الله ليوسف ما دبر من ارتفاع المنزلة وكمال النعمة على غير ما ظن إخوته ، شبه بالكيد من المخلوقين ، لأنهم يسترون ما يكيدون به عمن يكيدونه .

    قوله تعالى : " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " في المراد بالدين هاهنا قولان :

    أحدهما : أنه السلطان ، فالمعنى : في سلطان الملك ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : أنه القضاء ، فالمعنى : في قضاء الملك ، لأن قضاء الملك أن من سرق إنما يضرب ويغرم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه حبسه ، لأن حكم الملك الغرم والضرب فحسب ، فأجرى الله على ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق ، فكان ذلك مما كاد الله ليوسف لطفا حتى أظفره بمراده بمشيئة الله ، فذلك معنى قوله : " إلا أن يشاء الله " وقيل : إلا أن يشاء الله إظهار علة يستحق بها أخاه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #312
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (312)
    صــ 262 إلى صــ 268


    [ ص: 262 ] قوله تعالى : " نرفع درجات من نشاء " وقرأ يعقوب " يرفع درجات من يشاء " بالياء فيهما . وقرأ أهل الكوفة " درجات " بالتنوين ، والمعنى : نرفع الدرجات بصنوف العطاء ، وأنواع الكرامات ، وأبواب العلوم ، وقهر الهوى ، والتوفيق للهدى ، كما رفعنا يوسف . " وفوق كل ذي علم عليم " أي : فوق كل ذي علم رفعه الله بالعلم من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى ، والكمال في العلم معدوم من غيره .

    وفي مقصود هذا الكلام ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن المعنى : يوسف أعلم من إخوته ، وفوقه من هو أعلم منه .

    والثاني : أنه نبه على تعظيم العلم ، وبين أنه أكثر من أن يحاط به .

    والثالث : أنه تعليم للعالم التواضع لئلا يعجب .
    قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون

    قوله تعالى : " قالوا " يعني : إخوة يوسف " إن يسرق " يعنون بنيامين " فقد سرق أخ له من قبل " يعنون يوسف . قال المفسرون : عوقب يوسف ثلاث مرات ، قال للساقي : " اذكرني عند ربك " فلبث في السجن بضع سنين ، وقال للعزيز : " ليعلم أني لم أخنه بالغيب " فقال له جبريل : ولا حين هممت ؟ فقال : " وما أبرئ نفسي " وقال لإخوته : " إنكم لسارقون " ، فقالوا : " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " .

    [ ص: 263 ] وفي ما عنوا بهذه السرقة سبعة أقوال :

    أحدها : أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه في سني المجاعة ، فيطعمه للمساكين ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني : أنه سرق مكحلة لخالته ، رواه أبو مالك عن ابن عباس .

    والثالث : أنه سرق صنما لجده أبي أمه ، فكسره وألقاه في الطريق ، فعيره إخوته بذلك ، قاله سعيد بن جبير ، ووهب بن منبه ، وقتادة .

    والرابع : أن عمة يوسف - وكانت أكبر ولد إسحاق - كانت تحضن يوسف وتحبه حبا شديدا ، فلما ترعرع ، طلبه يعقوب ، فقالت : ما أقدر أن يغيب عني ، فقال : والله ما أنا بتاركه ، فعمدت إلى منطقة إسحاق ، فربطتها على يوسف تحت ثيابه ، ثم قالت : لقد فقدت منطقة إسحاق ، فانظروا من أخذها ، فوجدوها مع يوسف ، فأخبرت يعقوب ذلك ، وقالت : والله إنه لي أصنع فيه ما شئت ، فقال : أنت وذاك ، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت ، فذاك الذي عيره به إخوته ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والخامس : أنه جاءه سائل يوما ، فسرق شيئا ، فأعطاه السائل ، فعيروه بذلك . وفي ذلك الشيء ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان بيضة ، قاله مجاهد . والثاني : أنه شاة ، قاله كعب . والثالث : دجاجة ، قاله سفيان بن عيينة .

    والسادس : أن بني يعقوب كانوا على طعام ، فنظر يوسف إلى عرق ، فخبأه ، فعيروه بذلك ، قاله عطية العوفي ، وإدريس الأودي . قال ابن الأنباري : وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب السرقة ، لكنها تشبه السرقة ، فعيره إخوته بذلك عند الغضب .

    [ ص: 264 ] والسابع : أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه ، قاله الحسن . وقرأ أبو رزين ، وابن أبي عبلة : " فقد سرق " بضم السين وكسر الراء وتشديدها .

    قوله تعالى : " فأسرها يوسف في نفسه " في هاء الكناية ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها ترجع إلى الكلمة التي ذكرت بعد هذا ، وهي قوله : " أنتم شر مكانا " ، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : أنها ترجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه ، وهي قولهم : " فقد سرق أخ له من قبل " ، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس ، فعلى هذا يكون المعنى : أسر جواب الكلمة فلم يجبهم عليها .

    والثالث : أنها ترجع إلى الحجة ، المعنى : فأسر الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " أنتم شر مكانا " فيه قولان :

    أحدهما : شر صنيعا من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم ، قاله ابن عباس .

    والثاني : شر منزلة عند الله ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " والله أعلم بما تصفون " فيه قولان :

    أحدهما : تقولون ، قاله مجاهد . والثاني : بما تكذبون ، قاله قتادة . قال الزجاج : المعنى : والله أعلم أسرق أخ له ، أم لا؟ . وذكر بعض المفسرين أنه لما استخرج الصواع من رحل أخيه ، نقر الصواع ، ثم أدناه من أذنه ، فقال : إن صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا ، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه ، فقال بنيامين : أيها الملك ، سل صواعك عن أخي ، أحي هو ؟ فنقره ، ثم قال : [ ص: 265 ] هو حي ، وسوف تراه ، فقال : سل صواعك ، من جعله في رحلي ؟ فنقره ، وقال : إن صواعي هذا غضبان ، وهو يقول : كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت ؟ فغضب روبيل ، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا ، فإذا مس أحدهم الآخر ذهب غضبه ، فقال : والله أيها الملك لتتركنا ، أو لأصيحن صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلا ألقت ما في بطنها ، فقال يوسف لابنه : قم إلى جنب روبيل فامسسه ، ففعل الغلام ، فذهب غضبه ، فقال روبيل : ما هذا ؟! إن في هذا البلد من ذرية يعقوب ؟ قال يوسف : ومن يعقوب ؟ فقال : أيها الملك ، لا تذكر يعقوب ، فإنه إسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل الله . فلما لم يجدوا إلى خلاص أخيهم سبيلا ، سألوه أن يأخذ منهم بديلا به ، فذلك قوله : " يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا " أي : في سنه ، وقيل : في قدره ، " فخذ أحدنا مكانه " أي : تستعبده بدلا عنه . " إنا نراك من المحسنين " فيه قولان :

    أحدهما : فيما مضى . والثاني : إن فعلت . " قال معاذ الله " قد سبق تفسيره [يوسف :33] والمعنى : أعوذ بالله أن نأخذ بريئا بسقيم .

    فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين

    قوله تعالى : " فلما استيأسوا منه " أي : أيسوا .

    [ ص: 266 ] وفي هاء " منه " قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، فالمعنى : يئسوا من يوسف أن يخلي سبيل أخيهم .

    والثاني : إلى أخيهم ، فالمعنى : يئسوا من أخيهم .

    قوله تعالى : " خلصوا نجيا " أي : اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم ، يتناجون ويتناظرون ويتشاورون ، يقال : قوم نجي ، والجمع أنجية ، قال الشاعر :


    إني إذا ما القوم كانوا أنجيه واضطربت أعناقهم كالأرشيه


    وإنما وحد " نجيا " لأنه يجري مجرى المصدر الذي يكون للاثنين ، والجمع والمؤنث بلفظ واحد . وقال الزجاج : انفردوا متناجين فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم وليس معهم أخوهم .

    قوله تعالى : " قال كبيرهم " فيه قولان :

    أحدهما : أنه كبيرهم في العقل ، ثم فيه قولان : أحدهما : أنه يهوذا ، ولم يكن أكبرهم سنا ، وإنما كان أكبرهم سنا روبيل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، ومقاتل . والثاني : أنه شمعون ، قاله مجاهد .

    والثاني : أنه كبيرهم في السن وهو روبيل ، قاله قتادة ، والسدي .

    قوله تعالى : " ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله " في حفظ [ ص: 267 ] أخيكم ورده إليه " ومن قبل ما فرطتم في يوسف " قال الفراء : " ما " في موضع رفع ، كأنه قال : ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف ، وإن شئت جعلتها نصبا ، المعنى : ألم تعلموا هذا ، وتعلموا من قبل تفريطكم في يوسف ، وإن شئت جعلت " ما " صلة ، كأنه قال : ومن قبل فرطتم في يوسف . قال الزجاج : وهذا أجود الوجوه ، أن تكون " ما " لغوا .

    قوله تعالى : " فلن أبرح الأرض " أي : لن أخرج من أرض مصر ، يقال : برح الرجل براحا : إذا تنحى عن موضعه . " حتى يأذن لي " قال ابن عباس : حتى يبعث إلي أن آتيه ، " أو يحكم الله لي " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أو يحكم الله لي ، فيرد أخي علي . والثاني : يحكم الله لي بالسيف ، فأحارب من حبس أخي . والثالث : يقضي في أمري شيئا ، " وهو خير الحاكمين " أي : أعدلهم وأفضلهم .

    قوله تعالى : " إن ابنك سرق " وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وابن أبي سريج عن الكسائي : " سرق " بضم السين وتشديد الراء وكسرها .

    قوله تعالى : " وما شهدنا إلا بما علمنا " فيه قولان :

    أحدهما : وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمنا ، لأنا رأينا المسروق في رحله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إلا بما علمنا من دينك ، قاله ابن زيد .

    وفي قوله : " وما كنا للغيب حافظين " ثمانية أقوال :

    أحدها : أن الغيب هو الليل ، والمعنى : لم نعلم ما صنع بالليل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وهذا يدل على أن التهمة وقعت به ليلا .

    [ ص: 268 ] والثاني : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال عكرمة ، وقتادة ، ومكحول ، قال ابن قتيبة : فالمعنى : لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثق لنأتينك به أنه يسرق فيؤخذ .

    والثالث : لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق ، رواه عبد الوهاب عن مجاهد .

    والرابع : لم نعلم أنه سرق للملك شيئا ، ولذلك حكمنا باسترقاق السارق ، قاله ابن زيد .

    والخامس : أن المعنى : قد رأينا السرقة قد أخذت من رحله ، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرقوه ، قاله ابن إسحاق .

    والسادس : ما كنا لغيب ابنك حافظين ، إنما نقدر على حفظه في محضره ، فإذا غاب عنا ، خفيت عنا أموره .

    والسابع : لو علمنا من الغيب أن هذه البلية تقع بابنك ما سافرنا به ، ذكرهما ابن الأنباري .

    والثامن : لم نعلم أنك تصاب به كما أصبت بيوسف ، ولو علمنا لم نذهب به ، قاله ابن كيسان .
    واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون

    قوله تعالى : " واسأل القرية " المعنى : قولوا لأبيكم : سل أهل القرية " التي كنا فيها " يعنون مصر " والعير التي أقبلنا فيها " أي : وأهل العير ، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون المعنى : وسل القرية والعير فإنها تعقل عنك لأنك نبي ، والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم ، فعلى هذا تسلم الآية من إضمار .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #313
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (313)
    صــ 269 إلى صــ 275


    [ ص: 269 ] قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم

    قوله تعالى : " قال بل سولت لكم أنفسكم " في الكلام اختصار ، والمعنى : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ذلك ، فقال لهم هذا ، وقد شرحناه في أول السورة [يوسف :18] .

    واختلفوا لأي علة قال لهم هذا القول ، على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه ظن أن الذي تخلف منهم ، إنما تخلف حيلة ومكرا ليصدقهم ، قاله وهب بن منبه .

    والثاني : أن المعنى : سولت لكم أنفسكم أن خروجكم بأخيكم يجلب نفعا ، فجر ضررا ، قاله ابن الأنباري .

    والثالث : سولت لكم أنه سرق ، وما سرق .

    قوله تعالى : " عسى الله أن يأتيني بهم جميعا " يعني : يوسف وبنيامين وأخاهما المقيم بمصر . وقال مقاتل : أقام بمصر يهوذا وشمعون ، فاراد بقوله : " أن يأتيني بهم " يعني الأربعة

    قوله تعالى : " إنه هو العليم " أي : بشدة حزني ، وقيل : بمكانهم ، " الحكيم " فيما حكم علي .
    وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم

    قوله تعالى : " وتولى عنهم " أي : أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب ، وانفرد بحزنه ، وهيج عليه ذكر يوسف " وقال يا أسفى على يوسف " قال ابن [ ص: 270 ] عباس : يا طول حزني على يوسف . قال ابن قتيبة : الأسف : أشد الحسرة . قال سعيد بن جبير : لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء قبلهم إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة :156] ، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب ، إذ يقول : " يا أسفى على يوسف " .

    فإن قيل : هذا لفظ الشكوى ، فأين الصبر ؟

    فالجواب من وجهين :

    أحدهما : أنه شكا إلى الله تعالى ، لا منه . والثاني : أنه أراد به الدعاء ، فالمعنى : يارب ارحم أسفي على يوسف . وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال : نداء يعقوب الأسف في اللفظ من المجاز الذي يعنى به غير المظهر في اللفظ ، وتلخيصه : يا إلهي ارحم أسفي ، أو أنت راء أسفي ، وهذا أسفي ، فنادى الأسف في اللفظ ، والمنادى في المعنى سواه ، كما قال : " يا حسرتنا " والمعنى : يا هؤلاء تنبهوا على حسرتنا ، قال : والحزن ونفور النفس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم ولم يشك إلا إلى ربه ، فلما كان قوله : " يا أسفى " شكوى إلى ربه ، كان غير ملوم . وقد روي عن الحسن أن أخاه مات ، فجزع الحسن جزعا شديدا ، فعوتب في ذلك ، فقال : ما وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث قال : " يا أسفى على يوسف "

    قوله تعالى : " وابيضت عيناه من الحزن " أي : انقلبت إلى حال البياض . وهل ذهب بصره ، أم لا ، فيه قولان :

    أحدهما : أنه ذهب بصره ، قاله مجاهد .

    والثاني : ضعف بصره لبياض تغشاه من كثرة البكاء ، ذكره الماوردي . وقال مقاتل : لم يبصر بعينيه ست سنين .

    [ ص: 271 ] قال ابن عباس : وقوله : " من الحزن " أي : من البكاء ، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه ، فلما كان الحزن سببا للبكاء ، سمي البكاء حزنا . وقال ثابت البناني : دخل جبريل على يوسف ، فقال : أيها الملك الكريم على ربه ، هل لك علم بيعقوب ؟ قال : نعم . قال : ما فعل ، قال : ابيضت عيناه ، قال : ما بلغ حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى ، قال : فهل له على ذلك من أجر ؟ قال : أجر مائة شهيد . وقال الحسن البصري : ما فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة ، وما جفت عينه ، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره .

    قوله تعالى : " فهو كظيم " الكظيم بمعنى الكاظم ، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ، قاله ابن قتيبة ، وقد شرحنا هذا عند قوله : والكاظمين الغيظ [آل عمران :134] .
    قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .

    قوله تعالى : قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف قال ابن الأنباري : معناه : والله ، وجواب هذا القسم " لا " المضمرة التي تأويلها : تالله لا تفتأ ، فلما كان موضعها معلوما خفف الكلام بسقوطها من ظاهره ، كما تقول العرب : والله أقصدك أبدا ، يعنون : لا أقصدك ، قال امرؤ القيس :

    [ ص: 272 ]
    فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي


    يريد : لا أبرح ، وقالت الخنساء :


    فأقسمت آسى على هالك أو أسأل نائحة مالها


    أرادت : لا آسى ، وقال الآخر :


    لم يشعر النعش ما عليه من الـ ـعرف ولا الحاملون ما حملوا
    تالله أنسى مصيبتي أبدا ما أسمعتني حنينها الإبل


    وقرأ أبو عمران ، وابن محيصن ، وأبو حيوة : " قالوا بالله " بالباء ، وكذلك كل قسم في القرآن . وأما قوله : " تفتأ " فقال المفسرون وأهل اللغة : معنى " تفتأ " تزال ، فمعنى الكلام : لا تزال تذكر يوسف ، وأنشد أبو عبيدة :


    فما فتئت خيل تثوب وتدعي ويلحق منها لاحق وتقطع


    وأنشد ابن القاسم :


    فما فتئت منا رعال كأنها رعال القطا حتى احتوين بني صخر


    قوله تعالى : " حتى تكون حرضا " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : أنه الدنف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : يقال : [ ص: 273 ] أحرضه الحزن ، أي : أدنفه . قال أبو عبيدة : الحرض : الذي قد أذابه الحزن أو الحب ، وهي في موضع محرض . وأنشد :


    إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم


    أي : أذابني . وقال الزجاج : الحرض : الفاسد في جسمه ، والمعنى : حتى تكون مدنفا مريضا .

    والثاني : أنه الذاهب العقل ، قاله الضحاك عن ابن عباس . وقال ابن إسحاق : الفاسد العقل . قال الزجاج : وقد يكون الحرض : الفاسد في أخلاقه .

    والثالث : أنه الفاسد في جسمه وعقله ، يقال : رجل حارض وحرض ، فحارض يثني ويجمع ويؤنث ، وحرض لا يجمع ولا يثنى ، لأنه مصدر ، قاله الفراء .

    والرابع : أنه الهرم ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد .

    قوله تعالى : " أو تكون من الهالكين " يعنون الموتى .

    فإن قيل : كيف حلفوا على شيء يجوز أن يتغير ؟

    فالجواب : أن في الكلام إضمارا ، تقديره : إن هذا في تقديرنا وظننا .

    قوله تعالى : " إنما أشكو بثي " قال ابن قتيبة : البث : أشد الحزن ، سمي بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه ،

    قوله تعالى : " إلى الله " المعنى : إني لا أشكو إليكم ، وذلك لما عنفوه بما تقدم ذكره . وروى الحاكم أبو عبد الله في " صحيحه " من حديث أنس بن [ ص: 274 ] مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان ليعقوب أخ مؤاخ ، فقال له ذات يوم : يا يعقوب ، ما الذي أذهب بصرك ؟ وما الذي قوس ظهرك ؟ قال : أما الذي أذهب بصري ، فالبكاء على يوسف ، وأما الذي قوس ظهري ، فالحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل ، فقال : يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك : أما تستحي أن تشكو إلى غيري ؟ فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، فقال جبريل : الله أعلم بما تشكو ، ثم قال يعقوب : أي رب ، أما ترحم الشيخ الكبير ؟ أذهبت بصري ، وقوست ظهري ، فاردد علي ريحاني أشمه شمة قبل الموت ، ثم اصنع بي يا رب ما شئت ، فأتاه جبريل ، فقال : يا يعقوب ، إن الله يقرأ عليك السلام ويقول : أبشر ، فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك ، اصنع طعاما للمساكين ، فإن أحب عبادي إلي المساكين ، وتدري لم أذهبت بصرك ، وقوست ظهرك ، وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا ، لأنكم ذبحتم شاة ، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم ، فلم تطعموه منها . فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى : ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب ، وإذا كان صائما ، أمر مناديا فنادى : من كان صائما فليفطر مع يعقوب . وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى يعقوب : أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة ؟ قال : لا ، [ ص: 275 ] قال : لأنك شويت عناقا وقترت على جارك ، وأكلت ولم تطعمه . وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها ، وهي تخور فلم يرحمها .

    فإن قيل : كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكا ؟

    فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى ، وهو الأظهر .

    والثاني : لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله ، شدة فاقتهم .

    والثالث : أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرج نفسه إلى كمال السرور . والصحيح أن ذلك كان عن أمر الله تعالى ، ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء . وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيما ، ولا يقدر على دفع سببه .

    قوله تعالى : " وأعلم من الله ما لا تعلمون " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنا سنسجد له ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني : أعلم من سلامة يوسف ما لا تعلمون . قال ابن السائب : وذلك أن ملك الموت أتاه ، فقال له يعقوب : هل قبضت روح ابني يوسف ؟ قال : لا .

    والثالث : أعلم من رحمة الله وقدرته مالا تعلمون ، قاله عطاء .

    والرابع : أنه لما أخبره بنوه بسيرة العزيز ، طمع أن يكون هو يوسف ، قاله السدي ، قال : ولذلك قال لهم : " اذهبوا فتحسسوا " . وقال وهب بن منبه : لما قال له ملك الموت : ما قبضت روح يوسف ، تباشر عند ذلك ، ثم أصبح ، فقال لبنيه : " اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه " قال أبو عبيدة : " تحسسوا " أي : تخبروا والتمسوا في المظان .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #314
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (314)
    صــ 276 إلى صــ 282



    [ ص: 276 ] فإن قيل : كيف قال : " من يوسف " والغالب أن يقال : تحسست عن كذا ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :

    أحدهما : أن المعنى : عن يوسف ، ولكن نابت عنها " من " كما تقول العرب : حدثني فلان من فلان ، يعنون عنه .

    والثاني : أن " من " أوثرت للتبعيض ، والمعنى : تحسسوا خبرا من أخبار يوسف .

    قوله تعالى : " ولا تيأسوا من روح الله " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : من رحمة الله ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والثاني : من فرج الله ، قاله ابن زيد . والثالث : من توسعة الله ، حكاه ابن القاسم . قال الأصمعي : الروح : الاستراحة من غم القلب . وقال أهل المعاني : لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله ، " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " لأن المؤمن يرجو الله في الشدائد .
    فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين

    [ ص: 277 ] قوله تعالى : " فلما دخلوا عليه " في الكلام محذوف ، تقديره : فخرجوا إلى مصر ، فدخلوا على يوسف فـ " قالوا : يا أيها العزيز " وكانوا يسمون ملكهم بذلك ، " مسنا وأهلنا الضر " يعنون الفقر والحاجة " وجئنا ببضاعة مزجاة " .

    وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال :

    أحدها : أنها كانت دراهم ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثاني : أنها كانت متاعا رثا كالحبل والغرارة ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس . والثالث : كانت أقطا ، قاله الحسن . والرابع : كانت نعالا وأدما ، رواه جويبر عن الضحاك . والخامس : كانت سويق المقل ، روي عن الضحاك أيضا . والسادس : حبة الخضراء وصنوبر ، قاله أبو صالح . والسابع : كانت صوفا وشيئا من سمن ، قاله عبد الله بن الحارث .

    وفي المزجاة خمسة أقوال :

    أحدها : أنها القليلة . روى العوفي عن ابن عباس قال : دراهم غير طائلة ، وبه قال مجاهد ، وابن إسحاق ، وابن قتيبة . قال الزجاج : تأويله في اللغة أن التزجية : الشيء الذي يدافع به ، يقال : فلان يزجي العيش ، أي : يدفع بالقليل ويكتفي به ، فالمعنى : جئنا ببضاعة إنما ندافع بها ونتقوت ، وليست مما يتسع به ، قال الشاعر :

    [ ص: 278 ]
    الواهب المائة الهجان وعبدها عوذا تزجي خلفها أطفالها


    أي : تدفع أطفالها .

    والثاني : أنها الرديئة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . قال أبو عبيدة : إنما قيل للرديئة : مزجاة ، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها ، قال : وهي من الإزجاء ، والإزجاء عند العرب : السوق والدفع ، وأنشد :


    ليبك على ملحان ضيف مدفع وأرملة تزجي مع الليل أرملا


    أي : تسوقه .

    والثالث : الكاسدة ، رواه الضحاك أيضا عن ابن عباس .

    والرابع : الرثة ، وهي المتاع الخلق ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس .

    والخامس : الناقصة ، رواه أبو حصين عن عكرمة .

    قوله تعالى : " فأوف لنا الكيل " أي : أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا .

    قوله تعالى : " وتصدق علينا " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : تصدق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة ، قاله سعيد بن جبير ، والسدي . قال ابن الأنباري : كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدق ، وليس به .

    والثاني : برد أخينا ، قال ابن جريج ، قال : وذلك أنهم كانوا أنبياء ، والصدقة لا تحل للأنبياء .

    [ ص: 279 ] والثالث : وتصدق علينا بالزيادة على حقنا ، قاله ابن عيينة ، وذهب إلى أن الصدقة قد كانت تحل للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، حكاه أبو سليمان الدمشقي ، وأبو الحسن الماوردي ، وأبو يعلى بن الفراء .

    قوله تعالى : " إن الله يجزي المتصدقين " أي : بالثواب . قال الضحاك : لم يقولوا إن الله يجزيك إن تصدقت علينا ، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن .

    قوله تعالى : " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه " في سبب قوله لهم هذا ، ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه أخرج إليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر ، وفي آخر الكتاب : " وكتب يهوذا " فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا : هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبد كان لنا ، فقال يوسف عند ذلك : إنكم تستحقون العقوبة ، وأمر بهم ليقتلوا ، فقالوا : إن كنت فاعلا ، فاذهب بأمتعتنا إلى يعقوب ، ثم أقبل يهوذا على بعض إخوته ، وقال : قد كان أبونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده ، فكيف به إذا أخبر بهلكنا أجمعين ؟ فرق يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره ، وقال لهم هذا القول ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    الثاني : أنهم لما قالوا : " مسنا وأهلنا الضر أدركته الرحمة ، فقال لهم هذا ، قاله ابن إسحاق .

    والثالث : أن يعقوب كتب إليه كتابا : إن رددت ولدي ، وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك ، فبكى ، وقال لهم هذا .

    وفي هل قولان :

    أحدهما : أنها استفهام لتعظيم القصة لا يراد به نفس الاستفهام . قال ابن [ ص: 280 ] الأنباري : والمعنى : ما أعظم ما ارتكبتم ، وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرحم وتضييع الحق ، وهذا مثل قول العربي : أتدري من عصيت ؟ هل تعرف من عاديت ؟ لا يريد بذلك الاستفهام ، ولكن يريد تفظيع الأمر ، قال الشاعر :


    أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي


    لم يرد الاستفهام ، إنما أراد أن هذا غير مرجو عندهم . قال : ويجوز أن يكون المعنى : هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه ؟ وهذه الآية تصديق قوله : " لتنبئنهم بأمرهم " .

    والثاني : أن " هل " بمعنى " قد " ذكره بعض أهل التفسير .

    فإن قيل : فالذي فعلوا بيوسف معلوم ، فما الذي فعلوا بأخيه ، وما سعوا في حبسه ولا أرادوه ؟

    فالجواب من وجوه : أحدها : أنهم فرقوا بينه وبين يوسف ، فنغصوا عيشه بذلك . والثاني : أنهم آذوه بعد فقد يوسف . والثالث : أنهم سبوه لما قذف بسرقة الصاع .

    وفي قوله : " إذ أنتم جاهلون " أربعة أقوال :

    أحدها : إذ أنتم صبيان ، قاله ابن عباس . والثاني : مذنبون ، قاله مقاتل . والثالث : جاهلون بعقوق الأب ، وقطع الرحم ، وموافقة الهوى . والرابع : جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف ، ذكرهما ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " أإنك لأنت يوسف " قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وابن محيصن : " إنك " على الخبر ، وقرأه آخرون بهمزتين محققتين ، وأدخل بعضهم بينهما ألفا .

    [ ص: 281 ] واختلف المفسرون ، هل عرفوه ، أم شبهوه ؟ على قولين :

    أحدهما : أنهم شبهوه بيوسف ، قاله ابن عباس في رواية .

    والثاني : أنهم عرفوه ، قاله ابن إسحاق . وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه تبسم ، فشبهوا ثناياه بثنايا يوسف ، قاله الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : أنه كانت له علامة كالشامة في قرنه ، وكان ليعقوب مثلها ، ولإسحاق مثلها ، ولسارة مثلها ، فلما وضع التاج عن رأسه ، عرفوه ، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثالث : أنه كشف الحجاب ، فعرفوه قاله ابن إسحاق .

    قوله تعالى : " قال أنا يوسف " قال ابن الأنباري : إنما أظهر الاسم ، ولم يقل : أنا هو ، تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته ، فكأنه قال : أنا المظلوم المستحل منه ، المراد قتله ، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني ، ولهذا قال : " وهذا أخي " وهم يعرفونه ، وإنما قصد : وهذا المظلوم كظلمي .

    قوله تعالى : " قد من الله علينا " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : بخير الدنيا والآخرة . والثاني : بالجمع بعد الفرقة . والثالث : بالسلامة ثم بالكرامة .

    قوله تعالى : " إنه من يتق ويصبر " قرأ ابن كثير في رواية قنبل : " من يتقي ويصبر " بياء في الوصل والوقف ، وقرأ الباقون بغير ياء في الحالين .

    وفي معنى الكلام أربعة أقوال :

    أحدها : من يتق الزنى ويصبر على البلاء . والثاني : من يتق الزنى ويصبر [ ص: 282 ] على العزبة . والثالث : من يتق الله ويصبر على المصائب ، رويت هذه الأقوال عن ابن عباس . والرابع : يتق معصية الله ويصبر على السجن ، قاله مجاهد .

    قوله تعالى : " فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " أي : أجر من كان هذا حاله .

    قوله تعالى : " لقد آثرك الله علينا " أي : اختارك وفضلك .

    وبماذا عنوا أنه فضله فيه ؟ أربعة أقوال :

    أحدها : بالملك ، قاله الضحاك عن ابن عباس . والثاني : بالصبر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : بالحلم والصفح عنا ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . والرابع : بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه .

    قوله تعالى : " وإن كنا لخاطئين " قال ابن عباس : لمذنبين آثمين في أمرك . قال ابن الأنباري : ولهذا اختير " خاطئين " على " مخطئين " وإن كان " أخطأ " على ألسن الناس أكثر من " خطئ يخطأ " لأن معنى خطئ يخطأ ، فهو خاطئ : آثم ، ومعنى أخطأ يخطئ ، فهو مخطئ : ترك الصواب ولم يأثم ، قال الشاعر :


    عبادك يخطأون وأنت رب بكفيك المنايا والحتوم


    أراد : يأثمون . قال : ويجوز أن يكون آثر " خاطئين " على " مخطئين " لموافقة رؤوس الآيات ، لأن " خاطئين " أشبه بما قبلها .

    وذكر الفراء في معنى " إن " قولين :

    أحدهما وقد كنا خاطئين . والثاني : وما كنا إلا خاطئين .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #315
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (315)
    صــ 283 إلى صــ 289



    قوله تعالى : " لا تثريب عليكم اليوم " قال أبو صالح عن ابن عباس : لا أعيركم بعد اليوم بهذا أبدا . قال ابن الأنباري : إنما أشار إلى ذلك اليوم ، لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة . وقال ثعلب : قد ثرب [ ص: 283 ] فلان على فلان : إذا عدد عليه ذنوبه . وقال ابن قتيبة : لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم ، وأصل التثريب : الإفساد ، يقال : ثرب علينا إذا أفسد ، وفي الحديث : " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ، ولا يثرب " أي : لا يعيرها بالزنى . قال ابن عباس : جعلهم في حل ، وسأل الله المغفرة لهم . وقال السدي : لما عرفهم نفسه ، سألهم عن أبيه ، فقالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه ، وقال : " اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا " وهذا القميص كان في قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف لما ألقي في الجب ، وكان من الجنة ، وقد سبق ذكره [يوسف :18،25،26،27،28] .

    قوله تعالى : " يأت بصيرا " قال أبو عبيدة : يعود مبصرا .

    فإن قيل : من أين قطع على الغيب ؟

    فالجواب : أن ذلك كان بالوحي إليه ، قاله مجاهد .

    قوله تعالى : " وأتوني بأهلكم أجمعين " قال الكلبي : كان أهله نحوا من سبعين إنسانا .
    ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون

    قوله تعالى : " ولما فصلت العير " أي : خرجت من مصر متوجهة إلى كنعان . وكان الذي حمل القميص يهوذا . قال السدي : قال يهوذا ليوسف : أنا الذي حملت القميص إلى يعقوب بدم كذب فأحزنته ، وأنا الآن أحمل قميصك لأسره ، فحمله ، قال ابن عباس : فخرج حافيا حاسرا يعدو ، ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها .

    [ ص: 284 ] قوله تعالى : " قال أبوهم " يعني يعقوب لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده " إني لأجد ريح يوسف " . ومعنى أجد : أشم ، قال الشاعر :


    وليس صرير النعش ما تسمعونه ولكنها أصلاب قوم تقصف وليس فتيق المسك ما تجدونه
    ولكنه ذاك الثناء المخلف


    فإن قيل : كيف وجد يعقوب ريحه وهو بمصر ؟ ولم يجد ريحه من الجب وبعد خروجه منه ، والمسافة هناك أقرب ؟

    فعنه جوابان : أحدهما : أن الله تعالى أخفى أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع البلية التي يتكامل بها الأجر ، وأوجده ريحه من المكان النازح عند تقضي البلاء ومجيء الفرج .

    والثاني : أن هذا القميص كان في قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه ، فلما نشره فاحت روائح الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب ، فعلم أن الرائحة من جهة ذلك القميص . قال مجاهد : هبت ريح فضربت القميص ، ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص ، فمن ثم قال : " إني لأجد ريح يوسف " . وقيل : إن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل البشير فأذن لها ، فلذلك يستروح كل محزون إلى ريح الصبا ، ويجد المكروبون لها روحا ، وهي ريح لينة تأتي من ناحية المشرق ، قال أبو صخر الهذلي :


    إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر


    قال ابن عباس : وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ثمانين فرسخا .

    [ ص: 285 ] قوله تعالى : " لولا أن تفندون " فيه خمسة أقوال :

    أحدها : تجهلون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .

    والثاني : تسفهون ، رواه عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وقتادة ، ومجاهد في رواية . وقال في رواية أخرى : لولا أن تقولوا : ذهب عقلك

    والثالث : تكذبون ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضحاك .

    والرابع : تهرمون ، قاله الحسن ، ومجاهد في رواية . قال ابن فارس : الفند : إنكار العقل من هرم .

    والخامس : تعجزون ، قاله ابن قتيبة . وقال أبو عبيدة : تسفهون وتعجزون وتلومون ، وأنشد :


    يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمر بمردود


    قال ابن جرير : وأصل التفنيد : الإفساد ، وأقوال المفسرين تتقارب معانيها ، وسمعت الشيخ أبا محمد ابن الخشاب يقول : قوله : " لولا أن تفندون " فيه إضمار ، تقديره : لأخبرتكم أنه حي .

    قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم

    قوله تعالى : " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " قال ابن عباس : بنو بنيه خاطبوه بهذا ، وكذلك قال السدي : هذا قول بني بنيه ، لأن بنيه كانوا بمصر .

    وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال :

    [ ص: 286 ] أحدها : أنه بمعنى الخطإ ، قاله ابن عباس ، وابن زيد . والثاني : أنه الجنون ، قاله سعيد بن جبير . والثالث : الشقاء والعناء ، قاله مقاتل . يريد بذلك شقاء الدنيا .
    فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم

    قوله تعالى : " فلما أن جاء البشير " فيه قولان :

    أحدهما : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن منبه ، والسدي ، والجمهور . والثاني : أنه شمعون ، قاله الضحاك .

    فإن قيل : ما الفرق بين قوله هاهنا : " فلما أن جاء " وقال في موضع : فلما جاءهم [البقرة :89] .

    فالجواب : أنهما لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعا ، فدخول " أن " لتوكيد مضي الفعل ، وسقوطها للاعتماد على إيضاح الماضي بنفسه ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " ألقاه " يعني القميص " على وجهه " يعني يعقوب " فارتد بصيرا " ، الارتداد : رجوع الشيء إلى حال قد كان عليها . قال ابن الأنباري : إنما قال ارتد ، ولم يقل : رد ، لأن هذا من الأفعال المنسوبة إلى المفعولين ، كقولهم : طالت النخلة ، والله أطالها ، وتحركت الشجرة ، والله حركها : قال الضحاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، وقوته بعد الضعف ، وشبابه بعد الهرم ، وسروره بعد الحزن .

    وروى يحيى بن يمان عن سفيان قال : لما جاء البشير يعقوب ، قال : على أي دين تركت يوسف ؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة .

    [ ص: 287 ] قوله تعالى : " ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون " فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل .

    قوله تعالى : " يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا " سألوه يستغفر لهم ما أتوا ، لأنه نبي مجاب الدعوة . " قال سوف أستغفر لكم ربي " في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال :

    أحدهما : أنه أخرهم لانتظار الوقت الذي هو مظنة الإجابة ، ثم فيه ثلاثة أقوال :أحدها : أنه أخرهم إلى ليلة الجمعة ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال وهب : كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة . والثاني : إلى وقت السحر من ليلة الجمعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال طاووس : فوافق ذلك ليلة عاشوراء . والثالث : إلى وقت السحر ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل . قال الزجاج : إنما أراد الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدعاء ، لا أنه ضن عليهم بالاستغفار ، وهذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم السلام .

    والقول الثاني : أنه دفعهم عن التعجيل بالوعد . قال عطاء الخراساني : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ، ألا ترى إلى قول يوسف : " لا تثريب عليكم اليوم " وإلى قول يعقوب : " سوف أستغفر لكم ربي " .

    والثالث : أنه أخرهم ليسأل يوسف ، فإن عفا عنهم ، استغفر لهم ، قاله الشعبي . وروي عن أنس بن مالك أنهم قالوا : يا أبانا إن عفا الله عنا ، وإلا فلا [ ص: 288 ] قرة عين لنا في الدنيا ، فدعا يعقوب وأمن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة ، ثم جاء جبريل فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك ، وعفا عما صنعوا به ، واعتقد مواثيقهم من بعد على النبوة . قال المفسرون : وكان يوسف قد بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة ، وسأله أن يأتيه بأهله وولده ، فلما ارتحل يعقوب ودنا من مصر ، استأذن يوسف الملك الذي فوقه في تلقي يعقوب ، فأذن له ، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه ، فخرج في أربعة آلاف من الجند ، وخرج معهم أهل مصر .

    وقيل : إن الملك خرج معهم أيضا . فلما التقى يعقوب ويوسف ، بكيا جميعا فقال يوسف : يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ، أما علمت أن القيامة تجمعني وإياك ؟ قال : أي بني ، خشيت أن تسلب دينك فلا نجتمع .

    وقيل : إن يعقوب ابتدأه بالسلام ، فقال : السلام عليكم يا مذهب الأحزان .
    فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين

    قوله تعالى : " فلما دخلوا على يوسف " يعني : يعقوب وولده .

    وفي هذا الدخول قولان :

    أحدهما : أنه دخول أرض مصر ، ثم قال لهم : " ادخلوا مصر " يعني البلد .

    والثاني : أنه دخول مصر ، ثم قال لهم : " ادخلوا مصر " أي : استوطنوها .

    وفي قوله : " آوى إليه أبويه " قولان :

    أحدهما : أبوه وخالته ، لأن أمه كانت قد ماتت ، قاله ابن عباس والجمهور .

    والثاني : أبوه وأمه ، قاله الحسن ، وابن إسحاق .

    [ ص: 289 ] وفي قوله : " إن شاء الله آمنين " أربعة أقوال :

    أحدها : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، فالمعنى : سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله ، إنه هو الغفور الرحيم ، هذا قول ابن جريج .

    والثاني : أن الاستثناء يعود إلى الأمن . ثم فيه قولان : أحدهما : أنه لم يثق بانصراف الحوادث عنهم . والثاني : أن الناس كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ، فلا يدخلون إلا بجوارهم .

    والثالث : أنه يعود إلى دخول مصر ، لأنه قال لهم هذا حين تلقاهم قبل دخولهم ، على ما سبق بيانه .

    والرابع : أن " إن " بمعنى : " إذ " كقوله : إن أردن تحصنا [النور: 33] . قال ابن عباس : دخلوا مصر يومئذ وهم نيف وسبعون من ذكر وأنثى . وقال ابن مسعود : دخلوا وهم ثلاثة وتسعون ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #316
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (316)
    صــ 290 إلى صــ 296


    ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين

    قوله تعالى : " ورفع أبويه على العرش " في " أبويه " قولان قد تقدما في [ ص: 290 ] الآية التي قبلها . والعرش هاهنا : سرير المملكة ، أجلس أبويه عليه " وخروا له " يعني : أبويه وإخوته .

    وفي هاء له قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، قاله الجمهور . قال أبو صالح عن ابن عباس : كان سجودهم كهيأة الركوع كما يفعل الأعاجم . وقال الحسن : أمرهم الله بالسجود لتأويل الرؤيا . قال ابن الأنباري : سجدوا له على جهة التحية ، لا على معنى العبادة ، وكان أهل ذلك الدهر يحيى بعضهم بعضا بالسجود والانحناء ، فحظره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروى أنس بن مالك قال : " قال رجل : يا رسول الله ، أحدنا يلقى صديقه ، أينحني له ؟ قال لا " .

    والثاني : أنها ترجع إلى الله ، فالمعنى : وخروا لله سجدا ، رواه عطاء ، والضحاك عن ابن عباس ، فيكون المعنى : أنهم سجدوا شكرا لله إذ جمع بينهم وبين يوسف .

    قوله تعالى : " هذا تأويل رؤياي " أي : تصديق ما رأيت ، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له ، فأراه الله ذلك في اليقظة .

    واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال :

    أحدها : أربعون سنة ، قاله سلمان الفارسي ، وعبد الله بن شداد بن الهاد ، ومقاتل . والثاني : اثنتان وعشرون سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : ثمانون سنة ، قاله الحسن ، والفضيل بن عياض . والرابع : ست وثلاثون سنة ، [ ص: 291 ] قاله سعيد بن جبير ، وعكرمة ، والسدي . والخامس : خمس وثلاثون سنة ، قاله قتادة . والسادس : سبعون سنة ، قاله عبد الله بن شوذب . السابع : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن إسحاق .

    قوله تعالى : " وقد أحسن بي " أي : إلي . والبدو : البسط من الأرض . وقال ابن عباس : البدو : البادية ، وكانوا أهل عمود وماشية .

    قوله تعالى : " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " أي : أفسد بيننا . قال أبو عبيدة : يقال : نزغ بينهم ينزغ ، أي : أفسد وهيج ، وبعضهم يكسر زاي ينزغ . " إن ربي لطيف لما يشاء " أي : عالم بدقائق الأمور . وقد شرحنا معنى " اللطيف " في (الأنعام :102) .

    فإن قيل : قد توالت على يوسف نعم خمسة ، فما اقتصاره على ذكر السجن ، وهلا ذكر الجب ، وهو أصعب ؟

    فالجواب من وجوه :

    أحدها : أنه ترك ذكر الجب تكرما ، لئلا يذكر إخوته صنيعهم ، وقد قال : " لا تثريب عليكم اليوم " .

    والثاني : أنه خرج من الجب إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك ، فكانت هذه النعمة أوفى .

    والثالث : أن طول لبثه في السجن كان عقوبة ، له بخلاف الجب ، فشكر الله على عفوه .

    قال العلماء بالسير : أقام يعقوب بعد قدومه مصر أربعا وعشرين سنة . وقال بعضهم : سبع عشرة سنة في أهنإ عيش ، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف [ ص: 292 ] أن يحمل إلى الشام حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل به ذلك ، وكان عمره مائة وسبعا وأربعين سنة . ثم إن يوسف تاق إلى الجنة ، وعلم أن الدنيا لا تدوم فتمنى الموت ، قال ابن عباس ، وقتادة : ولم يتمن الموت نبي قبله ، فقال : " رب قد آتيتني من الملك " يعني : ملك مصر " وعلمتني من تأويل الأحاديث " وقد سبق تفسيرها [يوسف :6] .

    وفي " من " قولان :

    أحدهما : أنها صلة ، قاله مقاتل . والثاني : أنها للتبعيض ، لأنه لم يؤت كل الملك ، ولا كل تأويل الأحاديث .

    قوله تعالى : " فاطر السماوات والأرض " قد شرحناه في (الأنعام :6) .

    " أنت وليي " أي : الذي تلي أمري . " توفني مسلما " قال ابن عباس : يريد : لا تسلبني الإسلام حتى تتوفاني عليه . وكان ابن عقيل يقول : لم يتمن يوسف الموت ، وإنما سأل أن يموت على صفة ، والمعنى : توفني إذا توفيتني مسلما ، قال الشيخ : وهذا الصحيح .

    قوله تعالى : " وألحقني بالصالحين " والمعنى : ألحقني بدرجاتهم ، وفيهم قولان :

    أحدهما : أنهم أهل الجنة ، قاله عكرمة .

    والثاني : آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، قاله الضحاك ، قالوا : فلما احتضر يوسف ، أوصى إلى يهوذا ، ومات ، فتشاح الناس في دفنه ، كل يحب أن يدفن في محلته رجاء البركة ، فاجتمعوا على دفنه في النيل ليمر الماء عليه ويصل إلى الجميع ، فدفنوه في صندوق من رخام ، فكان هنالك إلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان . قال الحسن : مات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة . وذكر مقاتل أنه مات بعد يعقوب بسنتين .
    [ ص: 293 ] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون

    قوله تعالى : " ذلك من أنباء الغيب " أي : ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك ، فأنزله الله عليك دليلا على نبوتك . " وما كنت لديهم " أي : عند إخوة يوسف " إذ أجمعوا أمرهم " أي : عزموا على إلقائه في الجب " وهم يمكرون " بيوسف ، وفي هذا احتجاج على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يشاهد تلك القصة ، ولا كان يقرأ الكتاب ، وقد أخبر عنها بهذا الكلام المعجز ، فدل على أنه أخبر بوحي .
    وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين

    قوله تعالى : " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " قال ابن الأنباري : إن قريشا واليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإخوته ، فشرحها شرحا شافيا ، وهو يؤمل أن يكون ذلك سببا لإسلامهم ، فخالفوا ظنه ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعزاه الله تعالى بهذه الآية . قال الزجاج : ومعناها : وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم . " وما تسألهم عليه " أي : على القرآن وتلاوته وهدايتك إياهم " من أجر إن هو " أي : ما هو إلا تذكرة لهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم .
    وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون

    قوله تعالى : " وكأين " أي : وكم " من آية " أي : علامة ودلالة تدلهم [ ص: 294 ] على توحيد الله ، من أمر السموات والأرض ، " يمرون عليها " أي : يتجاوزونها غير متفكرين ولا معتبرين .
    وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون

    قوله تعالى : " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " فيهم ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم المشركون ، ثم في معناها المتعلق بهم قولان : أحدهما : أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة . والثاني : أنها نزلت في تلبية مشركي العرب ، كانوا يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : أنهم النصارى ، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم ، ومع ذلك يشركون به ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أنهم المنافقون ، يؤمنون في الظاهر رئاء الناس ، وهم في الباطن كافرون ، قاله الحسن .

    فإن قيل : كيف وصف المشرك بالإيمان ؟

    فالجواب : أنه ليس المراد به حقيقة الإيمان ، وإنما المعنى : أن أكثرهم ، مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم ، مشركون .
    أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون

    قوله تعالى : " أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله " قال ابن قتيبة : الغاشية : المجللة تغشاهم . وقال الزجاج : المعنى : يأتيهم ما يغمرهم من العذاب . والبغتة : الفجأة من حيث لم تتوقع .
    [ ص: 295 ] قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين

    قوله تعالى : " قل هذه سبيلي " المعنى : قل يا محمد للمشركين : هذه الدعوة التي أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها ، سبيلي ، أي : سنتي ومنهاجي . والسبيل تذكر وتؤنث ، وقد ذكرنا ذلك في (آل عمران :195) . " أدعو إلى الله على بصيرة " أي : على يقين . قال ابن الأنباري : وكل مسلم لا يخلو من الدعاء إلى الله عز وجل ، لأنه إذا تلا القرآن فقد دعا إلى الله بما فيه . ويجوز أن يتم الكلام عند قوله : " إلى الله " ، ثم ابتدأ فقال : " على بصيرة أنا ومن اتبعني " .

    قوله تعالى : " وسبحان الله " المعنى : وقل : سبحان الله تنزيها له عما أشركوا .
    وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون

    قوله تعالى : " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا " هذا نزل من أجل قولهم : هلا بعث الله ملكا ، فالمعنى : كيف تعجبوا من إرسالنا إياك ، وسائر الرسل كانوا على مثل حالك " يوحى إليهم " وقرأ حفص عن عاصم : " نوحي " بالنون . والمراد بالقرى : المدائن . وقال الحسن : لم يبعث الله نبيا من أهل البادية ، ولا من الجن ، ولا من النساء ، قال قتادة : لأن أهل القرى أعلم وأحلم من أهل العمود .

    قوله تعالى : " أفلم يسيروا في الأرض " يعني : المشركين المنكرين نبوتك " فينظروا " إلى مصارع الأمم المكذبة فيعتبروا بذلك . " ولدار الآخرة " يعني : الجنة " خير " من الدنيا " للذين اتقوا " الشرك . قال الفراء : أضيفت الدار إلى الآخرة ، وهي الآخرة ، لأن العرب قد تضيف الشيء إلى نفسه إذا [ ص: 296 ] اختلف لفظه ، كقوله : لهو حق اليقين [الواقعة :96] والحق : هو اليقين ، وقولهم : أتيتك عام الأول ، ويوم الخميس .

    قوله تعالى : " أفلا يعقلون " قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وحفص ، والمفضل ، ويعقوب : " تعقلون " بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، والمعنى : أفلا يعقلون هذا فيؤمنوا .
    حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين

    قوله تعالى : " حتى إذا استيئس الرسل " المعنى متعلق بالآية الأولى ، فتقديره : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ، فدعوا قومهم ، فكذبوهم ، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل ، وفيه قولان :

    أحدهما : استيأسوا من تصديق قومهم ، قاله ابن عباس .

    والثاني : من أن نعذب قومهم ، قاله مجاهد . " وظنوا أنهم قد كذبوا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " كذبوا " مشددة الذال مضمومة الكاف ، والمعنى : وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم ، فيكون الظن هاهنا بمعنى اليقين ، هذا قول الحسن ، وعطاء ، وقتادة . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : " كذبوا " خفيفة ، والمعنى : ظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من النصر ، لأن الرسل لا يظنون ذلك . وقرأ أبو رزين ، ومجاهد ، والضحاك : " كذبوا " بفتح الكاف والذال خفيفة ، والمعنى : ظن قومهم أيضا أنهم قد كذبوا ، قاله الزجاج .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #317
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (317)
    صــ 297 إلى صــ 303


    قوله تعالى : " جاءهم نصرنا " يعني : الرسل " فننجي من نشاء " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : " فننجي " بنونين ، الأولى [ ص: 297 ] مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، وحفص ، جميعا عن عاصم ، ويعقوب : " فنجي " مشددة الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة ، يعني : المؤمنين ، نجوا عند نزول العذاب .
    لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

    قوله تعالى : " لقد كان في قصصهم " أي : في خبر يوسف وإخوته ، وروى عبد الوارث كسر القاف ، وهي قراءة قتادة ، وأبي الجوزاء . " عبرة " أي : عظة " لأولي الألباب " أي : لذوي العقول السليمة ، وذلك من وجهين :

    أحدهما : ما جرى ليوسف من إعزازه وتمليكه بعد استعباده ، فإن من فعل ذلك به ، قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وتعلية كلمته .

    والثاني : أن من تفكر ، علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم مع كونه أميا ، لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في التوراة من قبل نفسه ، فاستدل بذلك على صحة نبوته .

    قوله تعالى : " ما كان حديثا يفترى " في المشار إليه قولان :

    أحدهما أنه القرآن ، قاله قتادة .

    والثاني : ما تقدم من القصص ، قاله ابن إسحاق ، فعلى القول الأول ، يكون معنى قوله : " ولكن تصديق الذي بين يديه " : ولكن كان تصديقا لما بين يديه من الكتب " وتفصيل كل شيء " يحتاج إليه من أمور الدين " وهدى " بيانا [ ص: 298 ] " ورحمة لقوم يؤمنون " أي : يصدقون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وعلى القول الثاني وتفصيل كل شيء من نبإ يوسف وإخوته .
    [ ص: 299 ]
    سُورَةُ الرَّعْدِ

    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا


    اخْتَلَفُوا فِي نُزُولِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ :

    أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ . وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا ، قَوْلُهُ : وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ . . إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [الرَّعْدُ :31] ، وَقَوْلُهُ : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا [الرَّعْدِ :43] .

    وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ ، رَوَاهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ جَابِرُ ابْنُ زَيْدٍ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ ، إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِمَكَّةَ ، وَهُمَا قَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ . . إِلَى آخِرِهَا [الرَّعْدِ :31] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَدَنِيُّ مِنْهَا قَوْلُهُ : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ إِلَى قَوْلِهِ : لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرَّعْدِ :14] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [ ص: 300 ] الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " آلمر " قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) جُمْلَةً مِنَ الْكَلَامِ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَنَّ مَعْنَاهَا : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى ، رَوَاهُ أَبُو الضُّحَى عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَا اللَّهُ أَرَى ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ الرَّحْمَنُ ، رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ " فِي " تِلْكَ " قَوْلَانِ ، وَفِي " الْكِتَابِ " قَوْلَانِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ (يُونُسَ) .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ " يَعْنِي : الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْوَحْيِ " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَعْنِي : أَهْلَ مَكَّةَ . قَالَ الزَّجَّاجُ : لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، عَرَّفَ الدَّلِيلَ الَّذِي يُوجِبُ التَّصْدِيقَ بِالْخَالِقِ فَقَالَ : " اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ " قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : الْعَمَدُ : مُتَحَرِّكُ الْحُرُوفِ بِالْفَتْحَةِ ، وَبَعْضُهُمْ يُحَرِّكُهَا بِالضَّمَّةِ ، لِأَنَّهَا جَمْعُ عَمُودٍ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، لِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ هِجَاؤُهَا أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ الثَّالِثُ مِنْهَا أَلِفٌ أَوْ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ ، فَجَمِيعُهُ مَضْمُومُ الْحُرُوفِ ، نَحْوُ رَسُولٍ ، وَالْجَمْعُ : رُسُلٌ ، وَحِمَارٌ ، وَالْجَمْعُ : حُمُرٌ ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ أَسَامٍ اسْتَعْمَلُوا جَمِيعَهَا بِالْحَرَكَةِ وَالْفَتْحَةِ ، نَحْوُ عَمُودٍ ، وَأَدِيمٍ ، وَإِهَابٍ ، قَالُوا : أَدَمٌ ، [ ص: 301 ] وَأَهَبٌ . وَمَعْنَى " عَمَدٍ " : سَوَارٍ ، وَدَعَائِمُ ، وَمَا يَعْمِدُ الْبِنَاءَ . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ : " بِغَيْرِ عُمُدٍ " بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ .

    وَفِي قَوْلِهِ : " تَرَوْنَهَا " قَوْلَانِ :

    أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَاءَ الْكِنَايَةِ تَرْجِعُ إِلَى السَّمَوَاتِ ، فَالْمَعْنَى : تَرَوْنَهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْجُمْهُورُ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : " تَرَوْنَهَا " خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ ، وَالْمَعْنَى : رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِلَا دِعَامَةٍ تُمْسِكُهَا ، ثُمَّ قَالَ : " تَرَوْنَهَا " أَيْ : مَا تُشَاهِدُونَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ ، يُغْنِيكُمْ عَنْ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ .

    وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْعَمَدِ ، فَالْمَعْنَى : إِنَّهَا بِعَمْدٍ لَا تَرَوْنَهَا ، رَوَاهُ عَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ : لَهَا عَمَدٌ عَلَى قَافٍ ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ الْعَمَدَ ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ " أَيْ : ذَلَّلَهُمَا لِمَا يُرَادُ مِنْهُمَا " كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى " أَيْ : إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، وَهُوَ فَنَاءُ الدُّنْيَا . " يُدَبِّرُ الأَمْرَ " أَيْ : يُصَرِّفُهُ بِحِكْمَتِهِ . " يُفَصِّلُ الآيَاتِ " أَيْ : يُبَيِّنُ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ لِكَيْ تُوقِنُوا بِذَلِكَ . وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالنَّخَعِيُّ : " نُدَبِّرُ الْأَمْرَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ " بِالنُّونِ فِيهِمَا .
    [ ص: 302 ] وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

    قوله تعالى : " وهو الذي مد الأرض " قال ابن عباس : بسطها على الماء .

    قوله تعالى : " وجعل فيها رواسي " قال الزجاج : أي جبالا ثوابت ، يقال : رسا الشيء يرسو رسوا ، فهو راس : إذا ثبت . و " جعل فيها زوجين اثنين " أي : نوعين . والزوج : الواحد الذي له قريب من جنسه ، قال المفسرون : ويعني بالزوجين : الحلو والحامض ، والعذب والملح ، والأبيض والأسود .

    قوله تعالى : " يغشي الليل النهار " قد شرحناه في (الأعراف :54) .
    وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون

    قوله تعالى : " وفي الأرض قطع متجاورات " فيها قولان :

    أحدهما : أنها الأرض السبخة ، والأرض العذبة ، تنبت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت ، هذا قول ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، والضحاك .

    والثاني : أنها القرى المتجاورات ، قاله قتادة ، وابن قتيبة ، وهو يرجع إلى معنى الأول .

    قوله تعالى : " وزرع ونخيل " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : " وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان " رفعا في الكل . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " وزرع ونخيل صنوان [ ص: 303 ] وغير صنوان " خفضا في الكل . قال أبو علي : من رفع ، فالمعنى : وفي الأرض قطع متجاورات وجنات ، وفي الأرض زرع ، ومن خفض حمله على الأعناب ، فالمعنى : جنات من أعناب ، ومن زرع ، ومن نخيل .

    قوله تعالى : " صنوان وغير صنوان " هذا من صفة النخيل . قال الزجاج : الصنوان : جمع صنو وصنو ، ومعناه : أن يكون الأصل واحدا وفيه النخلتان والثلاث والأربع . وكذلك قال المفسرون : الصنوان : النخل المجتمع وأصله واحد ، وغير صنوان : المتفرق . وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وابن جبير ، وقتادة : " صنوان " بضم الصاد . قال الفراء : لغة أهل الحجاز " صنوان " بكسر الصاد ، وتميم وقيس يضمون الصاد .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #318
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الرَّعْدِ
    الحلقة (318)
    صــ 304 إلى صــ 310



    قوله تعالى : " تسقى بماء واحد " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو " تسقى " بالتاء ، " ونفضل " بالنون . وقرأ حمزة ، والكسائي ، " تسقى " بالتاء أيضا ، لكنهما أمالا القاف . وقرأ الحسن " ويفضل " بالياء . وقرأ عاصم ، وابن عامر " يسقى " بالياء ، " ونفضل " بالنون ، وكلهم كسر الضاد . وروى الحلبي عن عبد الوارث ضم الياء من " يفضل " وفتح الضاد ، " بعضها " برفع الضاد . وقال الفراء : من قرأ " تسقى " بالتاء ذهب إلى تأنيث الزرع ، والجنات ، والنخيل ، ومن كسر ذهب إلى النبت ، وذلك كله يسقى بماء واحد ، وأكله مختلف حامض وحلو ، ففي هذا آية . قال المفسرون : الماء الواحد : ماء المطر ، والأكل : الثمر ، بعضه أكبر من بعض ، وبعضه أفضل من بعض ، وبعضه حامض وبعضه حلو ، إلى غير ذلك ، وفي هذا دليل على بطلان قول الطبائعيين ، لأنه لو كان حدوث الثمر على طبع الأرض والهواء والماء ، وجب أن يتفق ما يحدث لاتفاق ما أوجب [ ص: 304 ] الحدوث ، فلما وقع الاختلاف ، دل على مدبر قادر ، " إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " أنه لا تجوز العبادة إلا لمن يقدر على هذا .
    وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    قوله تعالى : " وإن تعجب " أي : من تكذيبهم وعبادتهم مالا ينفع ولا يضر بعدما رأوا من تأثير قدرة الله عز وجل في خلق الأشياء ، فإنكارهم البعث موضع عجب . وقيل : المعنى وإن تعجب بما وقفت عليه من القطع المتجاورات وقدرة ربك في ذلك ، فعجب جحدهم البعث ، لأنه قد بان لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة .

    قوله تعالى : " أإذا كنا ترابا " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو " آيذا كنا ترابا آينا " جميعا بالاستفهام ، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد . وقرأ نافع " آيذا " مثل أبي عمرو ، واختلف عنه في المد ، وقرأ " إنا لفي خلق " مكسورة على الخبر . وقرأ عاصم ، وحمزة " أإذا كنا " " أإنا " بهمزتين فيهما . وقرأ ابن عامر " إذا كنا ترابا " مكسورة الألف من غير استفهام ، " آإنا " يهمز ثم يمد ثم يهمز على وزن : عاعنا . وروي عن ابن عامر أيضا " أإذا " بهمزتين لا ألف بينهما .

    والأغلال جمع غل ، وفيها قولان : أحدهما : أنها أغلال يوم القيامة ، قاله الأكثرون . والثاني : أنها الأعمال التي هي أغلال ، قاله الزجاج .
    [ ص: 305 ] ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال

    قوله تعالى : " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة " اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها نزلت في كفار مكة ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب ، استهزاء منهم بذلك ، قاله ابن عباس .

    والثاني : في مشركي العرب ، قاله قتادة .

    والثالث : في النضر بن الحارث حين قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، قاله مقاتل .

    وفي السيئة والحسنة قولان :

    أحدهما : بالعذاب قبل العافية ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .

    والثاني : بالشر قبل الخير ، قاله قتادة .

    فأما " المثلات " فقرأ الجمهور بفتح الميم . وقرأ عثمان ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والحسن ، وابن أبي عبلة برفع الميم .

    ثم في معناها قولان :

    أحدهما : أنها العقوبات ، قاله ابن عباس . وقال الزجاج : المعنى : قد تقدم [ ص: 306 ] من العذاب ما هو مثله وما فيه نكال ، لو أنهم اتعظوا . وقال ابن الأنباري : المثلة : العقوبة التي تبقي في المعاقب شينا بتغيير بعض خلقه ، من قولهم : مثل فلان بفلان ، إذا شان خلقه بقطع أنفه أو أذنه ، أو سمل عينيه أو نحو ذلك .

    والثاني : أن المثلات : الأمثال التي ضربها الله عز وجل لهم ، قاله مجاهد ، وأبو عبيدة .

    قوله تعالى : " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " قال ابن عباس : لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا ، وشديد العقاب للمصرين على الشرك . وقال مقاتل : لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب ، وإنه لشديد العقاب إذا عذب .

    فصل

    وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به [النساء :48] ، والمحققون على أنها محكمة .

    قوله تعالى : " لولا أنزل عليه آية من ربه " " لولا " بمعنى هلا ، والآية التي طلبوها ، مثل عصا موسى وناقة صالح . ولم يقنعوا بما رأوا ، فقال الله تعالى : " إنما أنت منذر " أي : مخوف عذاب الله ، وليس لك من الآيات شيء .

    وفي قوله : " ولكل قوم هاد " ستة أقوال :

    [ ص: 307 ] أحدها : أن المراد بالهادي : الله عز وجل ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والنخعي ، فيكون المعنى : إنما إليك الإنذار ، والله الهادي .

    والثاني : أن الهادي : الداعي ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث : أن الهادي النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، وابن زيد ، فالمعنى : ولكل قوم نبي ينذرهم .

    والرابع : أن الهادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا ، قاله عكرمة ، وأبو الضحى ، والمعنى : أنت منذر ، وأنت هاد .

    والخامس : أن الهادي : العمل ، قاله أبو العالية .

    والسادس : أن الهادي : القائد إلى الخير أو إلى الشر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    وقد روى المفسرون من طرق ليس فيها ما يثبت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره ، فقال : " أنا المنذر " ، وأومأ بيده إلى منكب علي ، فقال : " أنت الهادي يا علي بك يهتدى من بعدي " . قال المصنف : " وهذا من موضوعات الرافضة .

    [ ص: 308 ] ثم إن الله تعالى أخبرهم عن قدرته ، ردا على منكري البعث ، فقال : " الله يعلم ما تحمل كل أنثى " أي : من علقة أو مضغة ، أو زائد أو ناقص ، أو ذكر أو أنثى ، أو واحد أو اثنين أو أكثر ، " وما تغيض الأرحام " أي : وما تنقص ، " وما تزداد " وفيه أربعة أقوال :

    أحدها : ما تغيض : بالوضع لأقل من تسعة أشهر ، وما تزداد : بالوضع لأكثر من تسعة أشهر ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجاج .

    والثاني : وما تغيض : بالسقط الناقص ، وما تزداد : بالولد التام ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وعن الحسن كالقولين .

    والثالث : وما تغيض : بإراقة الدم في الحمل حتى يتضاءل الولد ، وما تزداد : إذا أمسكت الدم فيعظم الولد ، قاله مجاهد .

    والرابع : ما تغيض الأرحام : من ولدته من قبل ، وما تزداد : من تلده من بعد ، روي عن قتادة ، والسدي .

    قوله تعالى : " وكل شيء عنده بمقدار " أي : بقدر . قال أبو عبيدة : هو مفعال من القدر . قال ابن عباس : علم كل شيء فقدره تقديرا .

    قوله تعالى : " عالم الغيب والشهادة " قد شرحنا ذلك في (الأنعام :6) . و " الكبير " بمعنى : العظيم ، ومعناه : يعود إلى كبر قدره واستحقاقه صفات العلو ، فهو أكبر من كل كبير ، لأن كل كبير يصغر بالإضافة إلى عظمته . ويقال : " الكبير " الذي كبر عن مشابهة المخلوقين .

    فأما " المتعال " فقرأ ابن كثير " المتعالي " بياء في الوصل والوقف ، وكذلك [ ص: 309 ] روى عبد الوارث عن أبي عمرو ، وأثبتها في الوقف دون الوصل ابن شنبوذ عن قنبل ، والباقون بغير ياء في الحالين . والمتعالي هو المتنزه عن صفات المخلوقين ، قال الخطابي : وقد يكون بمعنى العالي فوق خلقه . وروي عن الحسن أنه قال : المتعالي عما يقول المشركون .
    سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار

    قوله تعالى : " سواء منكم " قال ابن الأنباري : ناب " سواء " عن مستو ، والمعنى : مستو منكم " من أسر القول " أي : أخفاه وكتمه " ومن جهر به " أعلنه وأظهره ، والمعنى : أن السر والجهر سواء عنده .

    قوله تعالى : " ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " فيه قولان :

    أحدهما : أن المستخفي : هو المستتر المتواري في ظلمة الليل ، والسارب بالنهار : الظاهر المتصرف في حوائجه . يقال : سربت الإبل تسرب : إذا مضت في الأرض ظاهرة ، وأنشدوا :


    أرى كل قوم قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب


    [ ص: 310 ] أي : ذاهب . ومعنى الكلام : أن الظاهر والخفي عنده سواء ، هذا قول الأكثرين . وروى العوفي عن ابن عباس : " ومن هو مستخف " قال : صاحب ريبة بالليل ، فإذا خرج بالنهار ، أرى الناس أنه بريء من الإثم .

    والثاني : أن المستخفي بالليل : الظاهر ، والسارب بالنهار : المستتر ، يقال : انسرب الوحش : إذا دخل في كناسه ، وهذا قول الأخفش ، وذكره قطرب أيضا ، واحتج له ابن جرير بقولهم : خفيت الشيء : إذا أظهرته ، ومنه أكاد أخفيها [طه :15] بفتح الألف ، أي : أظهرها ، قال : وإنما قيل للمتواري : سارب ، لأنه صار في السرب مستخفيا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #319
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الرَّعْدِ
    الحلقة (319)
    صــ 311 إلى صــ 317


    له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال

    قوله تعالى : " له معقبات " في هاء له أربعة أقوال :

    أحدها : أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

    والثاني : إلى الملك من ملوك الدنيا ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثالث : إلى الإنسان ، قاله الزجاج .

    والرابع : إلى الله تعالى ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي .

    وفي المعقبات قولان :

    أحدهما : أنها الملائكة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة في آخرين . قال الزجاج : والمعنى : للإنسان ملائكة يعتقبون ، يأتي بعضهم بعقب بعض . وقال أكثر المفسرين : هم الحفظة ، اثنان بالنهار [ ص: 311 ] واثنان بالليل ، إذا مضى فريق ، خلف بعده فريق ، ويجتمعون عند صلاة المغرب والفجر . وقال قوم ، منهم ابن زيد : هذه الآية خاصة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عزم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس على قتله ، فمنعه الله منهما ، وأنزل هذه الآية .

    والقول الثاني : أن المعقبات حراس الملوك الذين يتعاقبون الحرس ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وعكرمة . وقال الضحاك : هم السلاطين المشركون المحترسون من الله تعالى .

    وفي قوله : " يحفظونه من أمر الله " سبعة أقوال :

    أحدها : يحرسونه من أمر الله ولا يقدرون ، هذا على قول من قال : هي في المشركين المحترسين من أمر الله .

    والثاني : أن المعنى : حفظهم له من أمر الله ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، فيكون تقدير الكلام : هذا الحفظ مما أمرهم الله به .

    والثالث : يحفظونه بأمر الله ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة . قال اللغويون : والباء تقوم مقام " من " ، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض .

    [ ص: 312 ] والرابع : يحفظونه من الجن ، قاله مجاهد ، والنخعي . وقال كعب : لولا أن الله تعالى وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم ، إذا لتخطفتكم الجن . وقال مجاهد : ما من عبد إلا وملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فإذا أراده شيء ، قال : وراءك وراءك ، إلا شيء قد قضي له أن يصيبه . وقال أبو مجلز : جاء رجل من مراد إلى علي عليه السلام ، فقال : احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك ، فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حصينة .

    والخامس : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والمعنى : له معقبات من أمر الله يحفظونه ، قاله أبو صالح ، والفراء .

    والسادس : يحفظونه لأمر الله فيه حتى يسلموه إلى ما قدر له ، ذكره أبو سليمان الدمشقي ، واستدل بما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : يحفظونه من أمر الله ، حتى إذا جاء القدر خلوا عنه ، وقال عكرمة : يحفظونه لأمر الله .

    والسابع : يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، قاله ابن جريج . قال الأخفش : وإنما أنث المعقبات لكثرة ذلك منها ، نحو النسابة ، والعلامة ، ثم ذكر في قوله : " يحفظونه " لأن المعنى مذكر .

    قوله تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم " أي : يسلبهم نعمه " حتى يغيروا ما بأنفسهم " فيعملوا بمعاصيه . قال مقاتل : ويعني بذلك كفار مكة .

    قوله تعالى : " وإذا أراد الله بقوم سوءا " فيه قولان :

    أحدهما : أنه العذاب . والثاني : البلاء .

    قوله تعالى : " فلا مرد له " أي : لا يرده شيء ولا تنفعه المعقبات .

    [ ص: 313 ] " وما لهم من دونه " يعني : من دون الله " من وال " أي : من ولي يدفع عنهم العذاب والبلاء .
    هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال

    قوله تعالى : " هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا " فيه أربعة أقوال :

    أحدها : خوفا للمسافر وطمعا للمقيم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال قتادة : فالمسافر خاف أذاه ومشقته والمقيم يرجو منفعته .

    والثاني : خوفا من الصواعق وطمعا في الغيث ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الحسن .

    والثالث : خوفا للبلد الذي يخاف ضرر المطر وطمعا لمن يرجو الانتفاع به ، ذكره الزجاج .

    والرابع : خوفا من العقاب وطمعا في الثواب ، ذكره الماوردي . وكان ابن الزبير إذا سمع صوت الرعد يقول : إن هذا وعيد شديد لأهل الأرض .

    قوله تعالى : " وينشئ السحاب الثقال " أي : ويخلق السحاب الثقال بالماء . قال الفراء : السحاب ، وإن كان لفظه واحدا ، فإنه جمع واحدته سحابة ، جعل نعته على الجمع ، كما قال : متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان [الرحمن :76] ولم يقل : أخضر ، ولا حسن .
    ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال

    قوله تعالى : " ويسبح الرعد بحمده " فيه قولان : [ ص: 314 ] أحدهما : أنه اسم الملك الذي يزجر السحاب ، وصوته : تسبيحه ، قاله مقاتل .

    والثاني : أنه الصوت المسموع . وإنما خص الرعد بالتسبيح ، لأنه من أعظم الأصوات . قال ابن الأنباري : وإخباره عن الصوت بالتسبيح مجاز ، كما يقول القائل : قد غمني كلامك .

    قوله تعالى : " والملائكة من خيفته " في هاء الكناية قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الله عز وجل ، وهو الأظهر . قال ابن عباس : يخافون الله ، وليس كخوف ابن آدم ، لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره ، ولا يشغله عن عبادة الله شيء .

    والثاني : أنها ترجع إلى الرعد ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء " اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها نزلت في أربد بن قيس ، وعامر بن الطفيل ، أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان الفتك به ، فقال : " اللهم اكفنيهما بما شئت " ، فأما أربد فأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته ، وأما عامر فأصابته غدة فهلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، هذا قول الأكثرين ، منهم ابن جريج ، وأربد هو أخو لبيد بن ربيعة لأمه .

    [ ص: 315 ] والثاني : أنها نزلت في رجل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : حدثني يا محمد عن إلهك : أياقوت هو ؟ أذهب هو ؟ فنزلت على السائل صاعقة فأحرقته ، ونزلت هذه الآية ، قاله علي عليه السلام . قال مجاهد : وكان يهوديا . وقال أنس بن مالك : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض فراعنة العرب يدعوه إلى الله تعالى ، فقال للرسول : وما الله ، أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من نحاس ؟ فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : " ارجع إليه فادعه " فرجع ، فأعاد عليه الكلام ، إلى أن رجع إليه ثالثة ، فبينما هما يتراجعان الكلام ، إذ بعث الله سحابة حيال رأسه ، فرعدت ووقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه ، ونزلت هذه الآية .

    والثالث : أنها في رجل أنكر القرآن وكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، ونزلت هذه الآية ، قاله قتادة .

    قوله تعالى : " وهم يجادلون في الله " فيه قولان :

    أحدهما : يكذبون بعظمة الله ، قاله ابن عباس .

    والثاني : يخاصمون في الله ، حيث قال قائلهم : أهو من ذهب ، أم من فضة ؟ على ما تقدم بيانه .

    قوله تعالى : " وهو شديد المحال " فيه خمسة أقوال :

    [ ص: 316 ] أحدها : شديد الأخذ ، قاله علي عليه السلام .

    والثاني : شديد المكر ، شديد العداوة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث : شديد العقوبة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وقال مجاهد في رواية عنه : شديد الانتقام . وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة والمكر والنكال ، وأنشد للأعشى :


    فرع نبع يهتز في غصن المجـ ـد ، غزير الندى ، شديد المحال

    إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ
    ـط جزيلا فإنه لا يبالي


    وقال ابن قتيبة : شديد المكر واليد ، وأصل المحال : الحيلة

    والرابع : شديد القوة ، قاله مجاهد . قال الزجاج : يقال : ماحلته محالا : إذا قاويته حتى تبين له أيكما الأشد ، والمحل في اللغة : الشدة .

    والخامس : شديد الحقد ، قاله الحسن البصري فيما سمعناه عنه مسندا من طرق ، وقد رواه عنه جماعة من المفسرين منهم ابن الأنباري ، والنقاش ، ولا يجوز هذا في صفات الله تعالى . قال النقاش : هذا قول منكر عند أهل الخبر والنظر في اللغة لا يجوز أن تكون هذه صفة من صفات الله عز وجل . والذي أختاره في هذا ما قاله علي عليه السلام : شديد الأخذ ، يعني : أنه إذا أخذ الكافر والظالم لم يفلته من عقوباته .
    [ ص: 317 ] له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال

    قوله تعالى : " له دعوة الحق " فيه قولان :

    أحدهما : أنها كلمة التوحيد ، وهي : لا إله إلا الله ، قاله علي ، وابن عباس ، والجمهور ، فالمعنى: له من خلقه الدعوة الحق ، فأضيفت الدعوة إلى الحق ، لاختلاف اللفظين .

    والثاني : أن الله عز وجل هو الحق ، فمن دعاه دعا الحق ، قاله الحسن .

    قوله تعالى : " والذين يدعون من دونه " يعني : الأصنام يدعونها آلهة . قال أبو عبيدة : المعنى : والذين يدعون غيره من دونه .

    قوله تعالى : " لا يستجيبون لهم " أي : لا يجيبونهم .

    قوله تعالى : " إلا كباسط كفيه إلى الماء " فيه خمسة أقوال :

    أحدها : أنه العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه ، قاله علي عليه السلام ، وعطاء .

    والثاني : أنه الرجل العطشان قد وضع كفيه في الماء وهو لا يرفعهما ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أنه العطشان يرى خياله في الماء من بعيد ، فهو يريد أن يتناوله فلا يقدر عليه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والرابع : أنه الرجل يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا ، قاله مجاهد .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #320
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,820

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ الرَّعْدِ
    الحلقة (320)
    صــ 318 إلى صــ 324


    والخامس : أنه الباسط كفيه ليقبض على الماء حتى يؤديه إلى فيه ، لا يتم [ ص: 318 ] له ذلك ، والعرب تقول : من طلب ما لا يجد فهو القابض على الماء ، وأنشدوا :


    وإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسقه أنامله


    أي : لم تحمله ، والوسق : الحمل ، وقال آخر :


    فأصبحت مما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد


    هذا قول أبي عبيدة ، وابن قتيبة .

    قوله تعالى : " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ، فيه قولان :

    أحدهما : وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال ، لأن أصواتهم محجوبة عن الله ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : وما عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسران وباطل ، قاله مقاتل .
    ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال

    قوله تعالى : " ولله يسجد من في السماوات " أي : من الملائكة ، ومن في الأرض من المؤمنين " طوعا وكرها " .

    وفي معنى سجود الساجدين كرها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه سجود من دخل في الإسلام بالسيف ، قاله ابن زيد .

    والثاني : أنه سجود ظل الكافر ، قاله مقاتل .

    [ ص: 319 ] والثالث : أن سجود الكاره تذلله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر .

    قوله تعالى : " وظلالهم " أي : وتسجد ظلال الساجدين طوعا وكرها ، وسجودها : تمايلها من جانب إلى جانب ، وانقيادها للتسخير بالطول والقصر ، قال ابن الأنباري : قال اللغويون : الظل ما كان بالغدوات قبل انبساط الشمس ، والفيء ما كان بعد انصراف الشمس ، وإنما سمي فيئا ، لأنه فاء ، أي : رجع إلى الحال التي كان عليها قبل أن تنبسط الشمس ، وما كان سوى ذلك فهو ظل ، نحو ظل الإنسان ، وظل الجدار ، وظل الثوب ، وظل الشجرة ، قال حميد بن ثور :


    فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق


    وقال لبيد :


    بينما الظل ظليل مونق طلعت شمس عليه فاضمحل


    وقال آخر :


    أيا أثلات القاع من بطن توضح حنيني إلى أظلالكن طويل


    وقيل : إن الكافر يسجد لغير الله ، وظله يسجد لله . وقد شرحنا معنى الغدو والآصال في (الأعراف :7) .
    [ ص: 320 ] قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار

    قوله تعالى : " قل من رب السماوات والأرض قل الله " إنما جاء السؤال والجواب من جهة ، لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء ، فلما لم ينكروا ،كان كأنهم أجابوا . ثم ألزمهم الحجة بقوله : " قل أفاتخذتم من دونه أولياء " يعني : الأصنام توليتموهم فعبدتموهم وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فكيف لغيرهم ؟ ثم ضرب مثلا للذي يعبد الأصنام والذي يعبد الله بقوله : " قل هل يستوي الأعمى والبصير " يعني المشرك والمؤمن " أم هل تستوي الظلمات والنور " وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : " تستوي " بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " يستوي " بالياء . قال أبو علي : التأنيث حسن ، لأنه فعل مؤنث ، والتذكير سائغ ، لأنه تأنيث غير حقيقي . ويعني بالظلمات والنور : الشرك والإيمان . " أم جعلوا لله شركاء " قال ابن الأنباري : معناه : أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء ؟ وهذا استفهام إنكار ، والمعنى : ليس الأمر على هذا ، بل إذا فكروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق ، وغيره لا يخلق شيئا .

    قوله تعالى : " قل الله خالق كل شيء " قال الزجاج : قل ذلك وبينه بما أخبرت به من الدلالة في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شيء ، وقد ذكرنا في (يوسف :39) معنى الواحد القهار .
    [ ص: 321 ] أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد

    قوله تعالى : " أنزل من السماء ماء " يعني : المطر " فسالت أودية " وهي جمع واد ، وهو كل منفرج بين جبلين يجتمع إليه ماء المطر فيسيل " بقدرها " أي : بمبلغ ما تحمل ، فإن صغر الوادي ، قل الماء ، وإن هو اتسع ، كثر . وقرأ الحسن ، وابن جبير ، وأبو العالية ، وأيوب ، وابن يعمر ، وأبو حاتم عن يعقوب : " بقدرها " بإسكان الدال . وقوله : " فسالت أودية " توسع في الكلام ، والمعنى : سالت مياهها ، فحذف المضاف ، وكذلك قوله : " بقدرها " أي : بقدر مياهها . " فاحتمل السيل زبدا رابيا " أي : عاليا فوق الماء ، فهذا مثل ضربه الله عز وجل . ثم ضرب مثلا آخر ، فقال : " ومما توقدون عليه في النار " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : " توقدون عليه " بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم بالياء . قال أبو علي : من قرأ بالتاء ، فلما قبله من الخطاب ، وهو قوله : " أفاتخذتم " ، ويجوز أن يكون خطابا عاما للكافة ، ومن قرأ بالياء فلأن ذكر الغيبة قد تقدم في قوله : " أم جعلوا لله شركاء " .

    [ ص: 322 ] ويعني بقوله : " ومما توقدون عليه " ما يدخل إلى النار فيذاب من الجواهر " ابتغاء حلية " يعني : الذهب والفضة " أو متاع " يعني : الحديد والصفر والنحاس والرصاص تتخذ منه الأواني والأشياء التي ينتفع بها ، " زبد مثله " أي : له زبد إذا أذيب مثل زبد السيل ، فهذا مثل آخر .

    وفيما ضرب له هذان المثلان ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه القرآن ، شبه نزوله من السماء بالماء ، وشبه قلوب العباد بالأودية تحمل منه على قدر اليقين والشك ، والعقل والجهل ، فيستكن فيها ، فينتفع المؤمن بما في قلبه كانتفاع الأرض التي يستقر فيها المطر ، ولا ينتفع الكافر بالقرآن لمكان شكه وكفره ، فيكون ما حصل عنده من القرآن كالزبد وكخبث الحديد لا ينتفع به .

    والثاني : أنه الحق والباطل ، فالحق شبه بالماء الباقي الصافي ، والباطل مشبه بالزبد الذاهب ، فهو وإن علا على الماء فإنه سيمحق ، كذلك الباطل ، وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال ، فإن الله سيبطله .

    والثالث : أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فمثل المؤمن واعتقاده وعمله كالماء المنتفع به ، ومثل الكافر واعتقاده وعمله كالزبد .

    قوله تعالى : " كذلك " أي : كما ذكر هذا ، يضرب الله مثل الحق والباطل . وقال أبو عبيدة : كذلك يمثل الله الحق ويمثل الباطل .

    فأما الجفاء ، فقال ابن قتيبة : هو ما رمى به الوادي إلى جنباته ، يقال : أجفأت القدر بزبدها : إذا ألقته عنها . قال ابن فارس : الجفاء : ما نفاه السيل ، ومنه اشتقاق الجفاء . وقال ابن الأنباري : " جفاء " أي : باليا متفرقا . قال ابن عباس : إذا مس الزبد لم يكن شيئا .

    [ ص: 323 ] قوله تعالى : " وأما ما ينفع الناس " من الماء والجواهر التي زال زبدها " فيمكث في الأرض " فينتفع به " كذلك " يبقى الحق لأهله .

    قوله تعالى : " للذين استجابوا لربهم " يعني : المؤمنين ، " والذين لم يستجيبوا له " يعني : الكفار . قال أبو عبيدة : استجبت لك واستجبتك سواء ، وهو بمعنى : أجبت .

    وفي الحسنى ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها الجنة ، قاله ابن عباس ، والجمهور . والثاني : أنها الحياة والرزق ، قاله مجاهد . والثالث : كل خير من الجنة فما دونها ، قاله أبو عبيدة .

    قوله تعالى : " لافتدوا به " أي : لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، ولا يقبل منهم . وفي سوء الحساب ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها المناقشة بالأعمال ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس . وقال النخعي : هو أن يحاسب بذنبه كله ، فلا يغفر له منه شيء .

    والثاني : أن لا تقبل منهم حسنة ، ولا يتجاوز لهم عن سيئة .

    والثالث : أنه التوبيخ والتقريع عند الحساب .
    أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب

    قوله تعالى : " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " قال ابن عباس : نزلت في حمزة ، وأبي جهل . " إنما يتذكر " أي : إنما يتعظ ذوو العقول . والتذكر : الاتعاظ .
    [ ص: 324 ] الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب

    قوله تعالى : " الذين يوفون بعهد الله: " في هذا العهد قولان :

    أحدهما : أنه ما عاهدهم عليه حين استخرجهم من ظهر آدم .

    والثاني : ما أمرهم به وفرضه عليهم . وفي الذي أمر الله به ، عز وجل ، أن يوصل ، ثلاثة أقوال قد نسبناها إلى قائلها في أول سورة (البقرة :27) ، وقد ذكرنا سوء الحساب آنفا .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •