تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 15 من 25 الأولىالأولى ... 56789101112131415161718192021222324 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 281 إلى 300 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #281
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (281)
    صــ 45 إلى صــ 51



    ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم

    قوله تعالى : " ولا يحزنك قولهم " قال ابن عباس : تكذيبهم . وقال غيره تظاهرهم عليك بالعداوة وإنكارهم وأذاهم . وتم الكلام هاهنا . ثم ابتدأ فقال : " إن العزة لله جميعا " أي : الغلبة له ، فهو ناصرك وناصر دينك ، " هو السميع " لقولهم " العليم " بإضمارهم ، فيجازيهم على ذلك .
    ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

    قوله تعالى : " ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض " قال الزجاج : " ألا " افتتاح كلام وتنبيه ، أي : فالذي هم له ، يفعل فيهم وبهم ما يشاء .

    قوله تعالى : " وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء " أي : ما يتبعون شركاء على الحقيقة لأنهم يعدونها شركاء لله شفعاء لهم ، وليست على ما يظنون . [ ص: 46 ] " إن يتبعون إلا الظن " في ذلك " وإن هم إلا يخرصون " قال ابن عباس : يكذبون . وقال ابن قتيبة: يحدسون ويحزرون .
    هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون

    قوله تعالى : " هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه " المعنى : إن ربكم الذي يجب أن تعتقدوا ربوبيته ، هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ، فيزول تعب النهار وكلاله بالسكون في الليل ، وجعل النهار مبصرا ، أي : مضيئا تبصرون فيه . وإنما أضاف الإبصار إليه ، لأنه قد فهم السامع المقصود ، إذ النهار لا يبصر ، وإنما هو ظرف يفعل فيه غيره ، كقوله : عيشة راضية [الحاقة :21] إنما هي مرضية ، وهذا كما يقال : ليل نائم ، قال جرير :


    لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم


    قوله تعالى : " إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون " سماع اعتبار ، فيعلمون أنه لا يقدر على ذلك إلا الإله القادر .
    قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

    [ ص: 47 ] قوله تعالى : " قالوا اتخذ الله ولدا " قال ابن عباس : يعني أهل مكة ، جعلوا الملائكة بنات الله .

    قوله تعالى : " سبحانه " تنزيه له عما قالوا . " هو الغني " عن الزوجة والولد . " إن عندكم " أي : ما عندكم " من سلطان " أي : حجة بما تقولون .

    قوله تعالى : " لا يفلحون " فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا يبقون في الدنيا . والثاني : لا يسعدون في العاقبة . والثالث : لا يفوزون . قال الزجاج : وهذا وقف التمام ، وقوله " متاع في الدنيا " مرفوع على معنى : ذلك متاع في الدنيا .
    واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون

    قوله تعالى : " واتل عليهم نبأ نوح " فيه دليل على نبوته ، حيث أخبر عن قصص الأنبياء ولم يكن يقرأ الكتب ، وتحريض على الصبر ، وموعظة لقومه بذكر قوم نوح وما حل بهم من العقوبة بالتكذيب .

    قوله تعالى : " إن كان كبر " أي : عظم وشق " عليكم مقامي " أي : طول مكثي . وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء " مقامي " برفع الميم . " وتذكيري " وعظي . " فعلى الله توكلت " في نصرتي ودفع شركم عني . " فأجمعوا أمركم " قرأ الجمهور : " فأجمعوا " بالهمز وكسر الميم ، من " أجمعت " . وروى الأصمعي عن نافع : " فاجمعوا " بفتح الميم ، من " جمعت " . ومعنى " أجمعوا أمركم " : أحكموا أمركم واعزموا عليه . قال المؤرج : " أجمعت الأمر " أفصح من " أجمعت عليه " ، وأنشد :

    [ ص: 48 ]
    يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع


    فأما رواية الأصمعي ، فقال أبو علي : يجوز أن يكون معناها : اجمعوا ذوي الأمر منكم ، أي : رؤساءكم . ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي يكيدون به ، فيكون كقوله : " فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا " [طه :64] .

    قوله تعالى : " وشركاءكم " قال الفراء وابن قتيبة : المعنى : وادعوا شركاءكم . وقال الزجاج : الواو هاهنا بمعنى " مع " ، فالمعنى : مع شركائكم . تقول : لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها ، أي : مع فصيلها . وقرأ يعقوب : " وشركاؤكم " بالرفع .

    قوله تعالى : " ثم لا يكن أمركم عليكم غمة " فيه قولان : أحدهما : لا يكن أمركم مكتوما ، قاله ابن عباس . والثاني : غما عليكم ، كما تقول : كرب وكربة ، قاله ابن قتيبة . وذكر الزجاج القولين . وفي قوله : " ثم اقضوا إلي " قولان : أحدهما : ثم اقضوا إلي ما في أنفسكم ، قاله مجاهد . والثاني : افعلوا ما تريدون ، قاله الزجاج ، وابن قتيبة . وقال ابن الأنباري : معناه : اقضوا إلي بمكروهكم وما توعدونني به ، كما تقول العرب : قد قضى فلان ، يريدون : مات ومضى .
    فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين

    قوله تعالى : " فإن توليتم " أي : أعرضتم عن الإيمان . " فما سألتكم من أجر " أي : لم يكن دعائي إياكم طمعا في أموالكم .

    [ ص: 49 ] قوله تعالى : " إن أجري " حرك هذه الياء ابن عامر ، وأبو عمرو ، ونافع ، وحفص عن عاصم ، وأسكنها الباقون .

    قوله تعالى : " وجعلناهم خلائف " أي : جعلنا الذين نجوا مع نوح خلفا ممن هلك .
    ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين

    قوله تعالى : " ثم بعثنا من بعده " أي : من بعد نوح " رسلا إلى قومهم " قال ابن عباس : يريد : إبراهيم وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا . " فجاءوهم بالبينات " أي : بان لهم أنهم رسل الله . " فما كانوا " أي : أولئك الأقوام " ليؤمنوا بما كذبوا " يعني الذين قبلهم . والمراد : أن المتأخرين مضوا على سنن المتقدمين في التكذيب . وقال مقاتل فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من العذاب من قبل نزوله .

    قوله تعالى : " كذلك نطبع " أي : كما طبعنا على قلوب أولئك ، " كذلك نطبع على قلوب المعتدين " يعني المتجاوزين ما أمروا به .
    ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

    قوله تعالى : " ثم بعثنا من بعدهم " يعني الرسل الذين أرسلوا بعد نوح .
    فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح [ ص: 50 ] الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون

    قوله تعالى : " فلما جاءهم الحق من عندنا " وهو ما جاء به موسى من الآيات .

    قوله تعالى : " أسحر هذا " قال الزجاج : المعنى : أتقولون للحق لما جاءكم هذا اللفظ ، وهو قولهم : " إن هذا لسحر مبين " ثم قررهم فقال : " أسحر هذا " قال ابن الأنباري : إنما أدخلوا الألف على جهة تفظيع الأمر ، كما يقول الرجل إذا نظر إلى الكسوة الفاخرة : أكسوة هذه ؟ يريد بالاستفهام تعظيمها ، وتأتي الرجل جائزة ، فيقول : أحق ما أرى ؟ معظما لما ورد عليه . وقال غيره : تقدير الكلام : أتقولون للحق لما جاءكم : هو سحر ، أسحر هذا ؟ فحذف السحر الأول اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، كقوله : فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم [الإسراء :8] المعنى : بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم .

    قوله تعالى : " أجئتنا لتلفتنا " قال ابن قتيبة : لتصرفنا . يقال : لفت فلانا عن كذا : إذا صرفته . ومنه الالتفات ، وهو الانصراف عما كنت مقبلا عليه .

    قوله تعالى : " وتكون لكما الكبرياء في الأرض " وروى أبان ، وزيد عن يعقوب " ويكون لكما " بالياء . وفي المراد بالكبرياء ثلاثة أقوال : أحدها : الملك والشرف ، قاله ابن عباس . والثاني : الطاعة ، قاله الضحاك . والثالث : العلو ، قاله ابن زيد . قال ابن عباس : والأرض هاهنا : أرض مصر .

    [ ص: 51 ] قوله تعالى : " بكل ساحر " قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف " بكل سحار " بتشديد الحاء وتأخير الألف .

    قوله تعالى : " ما جئتم به السحر " قرأ الأكثرون " السحر " بغير مد ، على لفظ الخبر والمعنى : الذي جئتم به من الحبال والعصي ، هو السحر ، وهذا رد لقولهم للحق : هذا سحر ، فتقديره : الذي جئتم به السحر ، فدخلت الألف واللام ، لأن النكرة إذا عادت ، عادت معرفة ، كما تقول : رأيت رجلا ، فقال لي الرجل . وقرأ مجاهد ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأبان عن عاصم ، وأبو حاتم عن يعقوب : " آلسحر " بمد الألف ، استفهاما . قال الزجاج : والمعنى: أي شيء جئتم به ؟ أسحر هو؟ على جهة التوبيخ لهم . وقال ابن الأنباري : هذا الاستفهام معناه التعظيم للسحر ، لا على سبيل الاستفهام عن الشيء الذي يجهل ، وذلك مثل قول الإنسان في الخطأ الذي يستعظمه من إنسان : أخطأ هذا ؟ أي : هو عظيم الشأن في الخطأ . والعرب تستفهم عما هو معلوم عندها ، قال امرؤ القيس :


    أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل


    وقال قيس بن ذريح :


    أراجعة يا لبن أيامنا الألى بذي الطلح أم لا ما لهن رجوع


    فاستفهم وهو يعلم أنهن لا يرجعن

    قوله تعالى : " إن الله سيبطله " أي : يهلكه ويظهر فضيحتكم ، " إن الله لا يصلح عمل المفسدين " لا يجعل عملهم نافعا لهم . " ويحق الله الحق " أي : يظهره ويمكنه ، " بكلماته " بما سبق من وعده بذلك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #282
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (282)
    صــ 52 إلى صــ 58




    فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون

    قوله تعالى : " فما آمن لموسى إلا ذرية " في المراد بالذرية هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أن المراد بالذرية : القليل ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أنهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، مات آباؤهم لطول الزمان وآمنوا هم ، قاله مجاهد ، وقال ابن زيد : هم الذين نشؤوا مع موسى حين كف [ ص: 53 ] فرعون عن ذبح الغلمان . قال ابن الأنباري : وإنما قيل لهؤلاء " ذرية " لأنهم أولاد الذين بعث إليهم موسى ، وإن كانوا بالغين .

    والثالث أنهم قوم ، أمهاتهم من بني إسرائيل ، وآباؤهم من القبط ، قاله مقاتل ، واختاره الفراء . قال : وإنما سموا ذرية كما قيل لأولاد فارس : الأبناء ، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم . وفي هاء " قومه " قولان :

    أحدهما : أنها تعود إلى موسى ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني : إلى فرعون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . فعلى القول الأول يكون قوله : " على خوف من فرعون وملئهم " أي : وملإ فرعون . قال الفراء : وإنما قال : " وملئهم " بالجمع ، وفرعون واحد ، لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى من معه ، تقول : قدم الخليفة فكثر الناس ، تريد : بمن معه . وقد يجوز أن يريد بفرعون : آل فرعون ، كقوله : واسأل القرية [يوسف :82] . وعلى القول الثاني : يرجع ذكر الملإ إلى الذرية . قال ابن جرير : وهذا أصح ، لأنه كان في الذرية من أبوه قبطي وأمه إسرائيلية ، فهو مع فرعون على موسى .

    قوله تعالى : " أن يفتنهم " يعني فرعون ، ولم يقل : يفتنوهم ، لأن قومه كانوا على من كان عليه . وفي هذه الفتنة قولان :

    أحدهما : أنها القتل ، قاله ابن عباس . والثاني : التعذيب قاله ابن جرير .

    قوله تعالى : " وإن فرعون لعال في الأرض " قال ابن عباس : متطاول في أرض مصر " وإنه لمن المسرفين " حين كان عبدا فادعى الربوبية .

    قوله تعالى : " إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا " لما شكا بنو إسرائيل إلى موسى ما يهددهم به فرعون من ذبح أولادهم ، واستحياء نسائهم ، قال لهم هذا

    وفي قوله : " لا تجعلنا فتنة " ثلاثة أقوال :

    [ ص: 54 ] أحدها : لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون ، ولا بعذاب من قبلك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم .

    والثاني : لا تسلطهم علينا فيفتنونا والقولان مرويان عن مجاهد .

    والثالث : لا تسلطهم علينا فيفتتنوا بنا ، لظنهم أنهم على حق ، قاله أبو الضحى ، وأبو مجلز .

    قوله تعالى : " أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا " قال المفسرون : لما أرسل موسى ،أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ، ومنعوا من الصلاة ،كانوا لا يصلون إلا في الكنائس فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلون فيها خوفا من فرعون . " وتبوآ " معناه : اتخذا ، وقد شرحناه في (الأعراف :74) . وفي المراد بمصر قولان : أحدهما: أنه البلد المعروف بمصر ، قاله الضحاك . والثاني : أنه الإسكندرية ، قاله مجاهد . وفي البيوت قولان : أحدهما : أنها المساجد ، قاله الضحاك ، والثاني : القصور ، قاله مجاهد . وفي قوله : " واجعلوا بيوتكم قبلة " أربعة أقوال :

    أحدها : اجعلوها مساجد ، رواه مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك عن ابن عباس ، وبه قال النخعي ، وابن زيد . وقد ذكرنا أن فرعون أمر بهدم مساجدهم ، فقيل لهم : اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من المساجد .

    والثاني : اجعلوها قبل القبلة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وروى الضحاك عن ابن عباس ، قال : قبل مكة . وقال مجاهد : أمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة ، وبه قال مقاتل ، وقتادة ، والفراء .

    والثالث : اجعلوها يقابل بعضها بعضا ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال سعيد بن جبير .

    [ ص: 55 ] والرابع : واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلة لكم في الصلاة ، فهي قبلة اليهود إلى اليوم ، قاله ابن بحر .

    فإن قيل : البيوت جمع ، فكيف قال " قبلة " على التوحيد ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : من قال : المراد بالقبلة الكعبة ، قال : وحدت القبلة لتوحيد الكعبة . قال : ويجوز أن يكون أراد : اجعلوا بيوتكم قبلا ، فاكتفى بالواحد عن الجمع ، كما قال العباس بن مرداس :


    فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور


    يريد : إنا إخوتكم . ويجوز أن يكون وحد " قبلة " لأنه أجراها مجرى المصدر ، فيكون المعنى : واجعلوا بيوتكم إقبالا على الله ، وقصدا لما كنتم تستعملونه في المساجد . ويجوز أن يكون وحدها ، والمعنى : واجعلوا بيوتكم شيئا قبلة ، ومكانا قبلة ، ومحلة قبلة .

    قوله تعالى : " وأقيموا الصلاة " قال ابن عباس : أتموا الصلاة " وبشر المؤمنين " أنت يا محمد . قال سعيد بن جبير: بشرهم بالنصر في الدنيا ، وبالجنة في الآخرة .

    قوله تعالى : " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا " قال ابن عباس : كان لهم من لدن فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت .

    قوله تعالى : " ليضلوا عن سبيلك " وفي لام " ليضلوا " أربعة أقوال :

    أحدها : أنها لام " كي " والمعنى : آتيتهم ذلك كي يضلوا وهذا قول الفراء .

    والثاني : أنها لام العاقبة ، والمعنى : إنك آتيتهم ذلك فأصارهم إلى الضلال ، ومثله قوله : ليكون لهم عدوا وحزنا [القصص :8] أي : آل أمرهم إلى أن صار لهم عدوا ، لا أنهم قصدوا ذلك وهذا كما تقول للذي كسب مالا فأداه [ ص: 56 ] إلى الهلاك : إنما كسب فلان لحتفه ، وهو لم يكسب المال طلبا للحتف ، وأنشدوا :


    وللمنايا تربي كل مرضعة وللخراب يجد الناس عمرانا


    وقال آخر :


    وللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدور تبنى المساكن


    وقال آخر :


    فإن يكن الموت أفناهم فللموت ما تلد الوالده


    أراد : عاقبة الأمر ومصيره إلى ذلك ، هذا قول الزجاج .

    والثالث : أنها لام الدعاء ، والمعنى : ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك ، ذكره ابن الأنباري .

    والرابع : أنها لام أجل ، فالمعنى : آتيتهم لأجل ضلالتهم عقوبة منك لهم ، ومثله قوله : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم [التوبة :95] أي : لأجل إعراضكم ، حكاه بعض المفسرين . وقرأ أهل الكوفة إلا المفضل ، وزيد ، وأبو حاتم عن يعقوب : " ليضلوا " بضم الياء ، أي : ليضلوا غيرهم .

    قوله تعالى : " ربنا اطمس " روى الحلبي عن عبد الوارث : " اطمس " بضم الميم ، " على أموالهم " وفيه قولان :

    أحدهما : أنها جعلت حجارة ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضحاك ، وأبو صالح ، والفراء . وقال القرظي : جعل سكرهم حجارة . وقال ابن زيد : صار ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شيء لهم حجارة . وقال مجاهد : مسخ الله النخل والثمار والأطعمة حجارة ، فكانت إحدى الآيات التسع . وقال الزجاج : تطميس الشيء : إذهابه عن صورته والانتفاع به على الحال الأولى التي كان عليها .

    [ ص: 57 ] والثاني : أنها هلكت فالمعنى : أهلك أموالهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، ومنه يقال : طمست عينه ، أي : ذهبت ، وطمس الطريق إذا عفا ودرس .

    وفي قوله : " واشدد على قلوبهم " أربعة أقوال :

    أحدها : اطبع عليها ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، والفراء ، والزجاج .

    والثاني : أهلكهم كفارا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .

    والثالث : اشدد عليها بالضلالة ، قاله مجاهد

    والرابع : أن معناه : قس قلوبهم ، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى : " فلا يؤمنوا " فيه قولان :

    أحدهما : أنه دعاء عليهم أيضا ، كأنه قال : اللهم فلا يؤمنوا ، قاله الفراء ، وأبو عبيدة ، والزجاج . وقال ابن الأنباري : معناه : فلا آمنوا ، قال الأعشى :


    فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم


    معناه : لا انبسط ولا لقيتني

    والثاني : أنه عطف على قوله : " ليضلوا عن سبيلك " ، فالمعنى : أنك آتيتهم ليضلوا فلا يؤمنوا ، حكاه الزجاج عن المبرد .

    قوله تعالى : " حتى يروا العذاب الأليم " قال ابن عباس : هو الغرق ، وكان [ ص: 58 ] موسى يدعو، وهارون يؤمن ، فقال الله تعالى : " قد أجيبت دعوتكما " ، وكان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة .

    فإن قيل : كيف قال : " دعوتكما " وهما دعوتان ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أن الدعوة تقع على دعوتين وعلى دعوات وكلام يطول كما بينا في (الأعراف :158) أن الكلمة تقع على كلمات قال الشاعر :


    وكان دعا دعوة قومه هلم إلى أمركم قد صرم


    فأوقع " دعوة " على ألفاظ بينها آخر بيته .

    والثاني : أن يكون المعنى : قد أجيبت دعواتكما ، فاكتفى بالواحد من ذكر الجميع ، ذكر الجوابين ابن الأنباري . وقد روى حماد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ " دعواتكما " بالألف وفتح العين .

    والثالث : أن موسى هو الذي دعا ، فالدعوة له ، غير أنه لما أمن هارون ، أشرك بينهما في الدعوة ، لأن التأمين على الدعوة منها .

    وفي قوله : " فاستقيما " أربعة أقوال :

    أحدها : فاستقيما على الرسالة وما أمرتكما به ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : فاستقيما على دعاء فرعون وقومه إلى طاعة الله ، قاله ابن جرير .

    والثالث : فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه .

    والرابع : فاستقيما على ديني ، ذكرهما أبو سليمان الدمشقي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #283
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (283)
    صــ 59 إلى صــ 65


    قوله تعالى : " ولا تتبعان " قرأ الأكثرون بتشديد تاء " تتبعان " . وقرأ [ ص: 59 ] ابن عامر بتخفيفها مع الاتفاق على تشديد نون " تتبعان " ، إلا أن النون الشديدة دخلت للنهي مؤكدة ، وكسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها ، واختير لها الكسر لأنها بعد الألف ، فشبهت بنون الاثنين . قال أبو علي : ومن خفض النون أمكن أن يكون خفف النون الثقيلة ، فإن شئت كان على لفظ الخبر ، والمعنى الأمر ، كقوله : " يتربصن بأنفسهن " [البقرة :228 و234] و تضار والدة [البقرة :233] أي : لا ينبغي ذلك ، وإن شئت جعلته حالا من قوله : " فاستقيما " تقديره : استقيما غير متبعين . وفي المراد بسبيل الذين لا يعلمون قولان : أحدهما : أنهم فرعون وقومه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    فإن قيل : كيف جاز أن يدعو موسى على قومه ؟

    فالجواب : أن بعضهم يقول : كان ذلك بوحي ، وهو قول صحيح ، لأنه لا يظن بنبي أن يقدم على مثل ذلك إلا عن إذن من الله عز وجل ، لأن دعاءه سبب للانتقام .

    قوله تعالى : " فأتبعهم فرعون وجنوده " قال أبو عبيدة : أتبعهم وتبعهم سواء . وقال ابن قتيبة : أتبعهم : لحقهم . " بغيا وعدوا " أي : ظلما . وقرأ الحسن " فاتبعهم " بالتشديد ، وكذلك شددوا " وعدوا " مع ضم العين .

    قوله تعالى : " حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر " أنه " بفتح الألف ، والمعنى : آمنت بأنه فلما حذف حرف الجر ، وصل الفعل إلى " أن " فنصب . وقرأ حمزة والكسائي " إنه " بكسر الألف ، فحملوه على القول المضمر ، كأنه قال : آمنت ، فقلت : إنه . قال ابن عباس : لم يقبل الله إيمانه عند رؤية العذاب . قال ابن الأنباري : [ ص: 60 ] جنح فرعون إلى التوبة حين أغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة ، فقيل له : " آلآن " أي : الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها ، وكنت من المفسدين بالدعاء إلى عبادة غير الله عز وجل ؟ والمخاطب له بهذا كان جبريل . وجاء في الحديث أن جبريل جعل يدس الطين في فم فرعون خشية أن يغفر له . قال الضحاك بن قيس : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة ، إن يونس عليه السلام كان عبدا صالحا ، وكان يذكر الله ، فلما وقع في بطن الحوت سأل الله ، فقال الله : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [الصافات :143] ، وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى ، فلما أدركه الغرق قال : آمنت ، فقال الله : " آلآن وقد عصيت قبل " .

    قوله تعالى : " فاليوم ننجيك " وقرأ يعقوب " ننجيك " مخففة . قال اللغويون ، منهم يونس وأبو عبيدة : نلقيك على نجوة من الأرض ، أي : ارتفاع ، ليصير علما أنه قد غرق . وقرأ ابن السميفع " ننحيك " بحاء . وفي سبب إخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن موسى وأصحابه لما خرجوا ، قال من بقي من المدائن من قوم فرعون : ما أغرق فرعون ، ولكنه هو وأصحابه يتصيدون في جزائر البحر ، فأوحى الله إلى البحر أن الفظ فرعون عريانا ، فكانت نجاة عبرة ، وأوحى الله تعالى إلى [ ص: 61 ] البحر : أن الفظ ما فيك ، فلفظهم البحر بالساحل ، ولم يكن يلفظ غريقا ، فصار لا يقبل غريقا إلى يوم القيامة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني : أن أصحاب موسى قالوا : إنا نخاف أن يكون فرعون ما غرق ، ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا موسى ربه ، فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وإلى نحوه ذهب قيس بن عباد ، وعبد الله بن شداد ، والسدي ، ومقاتل . وقال السدي : لما قال بنو إسرائيل : لم يغرق فرعون ، دعا موسى ، فخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفا عليهم الحديد ، فأخذته بنو إسرائيل يمثلون به . وذكر غيره أنه إنما أخرج من البحر وحده دون أصحابه . وقال ابن جريج : كذب بعض بني إسرائيل بغرقه ، فرمى به البحر على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل قصيرا أحمر كأنه ثور . وقال أبو سليمان : عرفه بنو إسرائيل بدرع كان له من لؤلؤ لم يكن لأحد مثلها . فأما وجهه فقد غيره سخط الله تعالى .

    والثالث : أنه كان يدعي أنه رب ، وكان يعبده قوم ، فبين الله تعالى أمره ، فأغرقه وأصحابه ، ثم أخرجه من بينهم ، قاله الزجاج . وفي قوله : " ببدنك " أربعة أقوال : أحدها : بجسدك من غير روح ، قاله مجاهد . وذكر البدن دليل على عدم الروح . والثاني : بدرعك ، قاله أبو صخر . وقد ذكرنا أنه كانت له درع من لؤلؤ ، وقيل : من ذهب ، فعرف بدرعه . والثالث : نلقيك عريانا ، قاله الزجاج . والرابع : ننجيك وحدك ، قاله ابن قتيبة .

    وفي قوله : " لتكون لمن خلفك آية " ثلاثة أقوال :

    أحدها : لتكون لمن بعدك في النكال آية لئلا يقولوا مثل مقالتك ، فإنك لو كنت إلها ما غرقت ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال أبو عبيدة : " خلفك " بمعنى بعدك ، والآية : العلامة .

    [ ص: 62 ] والثاني : لتكون لبني إسرائيل آية ، قاله السدي .

    والثالث : لمن تخلف من قومه ، لأنهم أنكروا غرقه على ما ذكرنا في أول الآية ، فخرج في معنى الآية قولان : أحدهما : عبرة للناس . والثاني : علامة تدل على غرقه . وقال الزجاج : الآية أنه كان يدعي أنه رب ، فبان أمره ، وأخرج من بين أصحابه لما غرقوا . وقرأ ابن السميفع ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء " لمن خلقك " بالقاف .
    ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم

    قوله تعالى : " ولقد بوأنا بني إسرائيل " أي : أنزلناهم منزل صدق ، أي منزلا كريما . وفي المراد ببني إسرائيل قولان : أحدهما : أصحاب موسى . والثاني : قريظة والنضير . وفي المراد بالمنزل الذي أنزلوه خمسة أقوال : أحدها : أنه الأردن ، وفلسطين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : الشام ، وبيت المقدس ، قاله الضحاك وقتادة . والثالث : مصر ، روي عن الضحاك أيضا . والرابع : بيت المقدس ، قاله مقاتل . والخامس : ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري . والمراد بالطيبات : ما أحل لهم من الخيرات [ ص: 63 ] الطيبة . " فما اختلفوا " يعني بني إسرائيل . قال ابن عباس : ما اختلفوا في محمد ، لم يزالوا به مصدقين ، " حتى جاءهم العلم " يعني : القرآن ، وروي عنه : حتى جاءهم العلم ، يعني محمدا . فعلى هذا يكون العلم هاهنا : عبارة عن المعلوم . وبيان هذا أنه لما جاءهم ، اختلفوا في تصديقه ، وكفر به أكثرهم بغيا وحسدا بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه قبل ظهوره .

    قوله تعالى : " فإن كنت في شك " في تأويل هذه الآية ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره من الشاكين ، بدليل قوله في آخر السورة : إن كنتم في شك من ديني [يونس :105] ، ومثله قوله : يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما [الأحزاب :1] ثم قال : بما تعملون خبيرا [الأحزاب :2] ولم يقل : بما تعمل ، وهذا قول الأكثرين .

    والثاني : أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو المراد به . ثم في المعنى قولان : أحدهما : أنه خوطب بذلك وإن لم يكن في شك ، لأنه من المستفيض في لغة العرب أن يقول الرجل لولده : إن كنت ابني فبرني ، ولعبده : إن كنت عبدي فأطعني ، وهذا اختيار الفراء . وقال ابن عباس : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شك ، ولا سأل . والثاني : أن تكون " إن " بمعنى " ما " فالمعنى : ما كنت في شك " فاسأل " ، المعنى : لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاك ، ولكن لتزداد بصيرة ، ذكره الزجاج .

    والثالث : أن الخطاب للشاكين ، فالمعنى : إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزل إليك على لسان محمد ، فسل ، روي عن ابن قتيبة .

    وفي الذي أنزل إليه قولان : أحدهما : أنه أنزل إليه أنه رسول الله . والثاني : أنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل .

    [ ص: 64 ] قوله تعالى : " فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك " وهم اليهود والنصارى . وفي الذين أمر بسؤالهم منهم قولان : أحدهما : من آمن ، كعبد الله بن سلام ، قاله ابن عباس ، ومجاهد في آخرين . والثاني : أهل الصدق منهم ، قاله الضحاك ، وهو يرجع إلى الأول ، لأنه لا يصدق إلا من آمن .

    قوله تعالى : " لقد جاءك الحق من ربك " هذا كلام مستأنف .

    قوله تعالى : " إن الذين حقت " أي : وجبت " عليهم كلمت ربك " أي : قوله . وبماذا حقت الكلمة عليهم ، فيه أربعة أقوال :

    أحدها : باللعنة . والثاني : بنزول العذاب . والثالث : بالسخط . والرابع : بالنقمة .

    قوله تعالى : " ولو جاءتهم كل آية " قال الأخفش : إنما أنث فعل " كل " لأنه أضافه إلى " آية " وهي مؤنثة .
    فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين

    قوله تعالى : " فلولا كانت قرية آمنت " أي : أهل قرية . وفي " لولا " قولان : أحدهما : أنه بمعنى : لم تكن قرية آمنت " فنفعها إيمانها " أي : قبل منها " إلا قوم يونس " ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب ، إلا لقوم يونس . والثاني : أنها بمعنى فهلا ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال الزجاج : والمعنى : فهلا كانت قرية آمنت في وقت نفعها إيمانها ، إلا قوم يونس ؟ و " إلا " هاهنا استثناء ليس من الأول ، كأنه قال : لكن قوم يونس . قال الفراء : نصب القوم على الانقطاع مما قبله ، ألا ترى أن [ ص: 65 ] " ما " بعد " إلا " في الجحد يتبع ما قبلها ؟ تقول : ما قام أحد إلا أخوك ، فإذا قلت : ما فيها أحد إلا كلبا أو حمارا ، نصبت ، لانقطاعهم من الجنس ، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء ، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعا . وذكر ابن الأنباري في قوله : " إلا " قولين آخرين : أحدهما : أنها بمعنى الواو ، والمعنى : وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا ، وهذا مروي عن أبي عبيدة ، والفراء ينكره . والثاني : أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه ، تقديره : حتى يروا العذاب الأليم إلا قوم يونس ، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع .

    قوله تعالى : " كشفنا عنهم " أي : صرفنا عنهم " عذاب الخزي " أي : عذاب الهوان والذل " ومتعناهم إلى حين " أي : إلى حين آجالهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #284
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (284)
    صــ 66 إلى صــ 72


    الإشارة إلى شرح قصتهم

    ذكر أهل العلم بالسير والتفسير أن قوم يونس كانوا بـ " نينوى " من أرض الموصل ، فأرسل الله عز وجل إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام ، فأبوا ، فأخبرهم أن العذاب مصبحهم بعد ثلاث ، فلما تغشاهم العذاب ، قال ابن عباس ، وأنس : لم يبق بين العذاب وبينهم إلا قدر ثلثي ميل ، وقال مقاتل : قدر ميل ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : وجدوا حر العذاب على أكتافهم ، وقال سعيد بن جبير : غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر ، وقال بعضهم : غامت السماء غيما أسود يظهر دخانا شديدا ، فغشي مدينتهم ، واسودت سطوحهم ، [ ص: 66 ] فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح ، وحثوا على رؤوسهم الرماد ، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام ، وعجوا إلى الله بالتوبة الصادقة ، وقالوا : آمنا بما جاء به يونس ، فاستجاب الله منهم . قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم بينهم ، حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقلعه ، فيرده . وقال أبو الجلد : لما غشيهم العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم ، فقالوا : ما ترى ؟ قال : قولوا : يا حي حين لا حي ، يا حي محيي الموتى ، يا حي لا إله إلا أنت ، فقالوها ، فكشف العذاب عنهم . قال مقاتل : عجوا إلى الله أربعين ليلة ، فكشف العذاب عنهم . وكانت التوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة . قال : وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم ، فقيل له ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع إليهم فيجدوني كاذبا ؟ وكان من يكذب بينهم ولا بينة له يقتل ، فانصرف مغاضبا ، فالتقمه الحوت . وقال أبو صالح عن ابن عباس : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له : شعيا ، فقيل له : ائت فلانا الملك ، فقل له يبعث إلى بني إسرائيل نبيا قويا أمينا ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال الملك ليونس : اذهب إليهم ، فقال : ابعث غيري ، فعزم عليه أن يذهب ، فأتى بحر الروم ، فركب سفينة ، فالتقمه الحوت ، فلما خرج من بطنها أمر أن ينطلق إلى قومه ، فانطلق نذيرا لهم ، فأبوا عليه ، فوعدهم بالعذاب ، وخرج ، فلما تابوا رفع عنهم . والقول الأول أثبت عند العلماء ، وأنه إنما التقمه الحوت بعد إنذاره لهم وتوبتهم . وسيأتي شرح قصته في التقام الحوت إياه في مكانه إن شاء الله تعالى [الصافات :143] .

    فإن قيل : كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد إتيانه إليهم ، ولم يكشف عن فرعون حين آمن ؟

    [ ص: 67 ] فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها : أن ذلك كان خاصا لهم كما ذكرنا في أول الآية . والثاني : أن فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يعاين ، فلا توبة له ، ذكره الزجاج .

    والثالث : أن الله تعالى علم منهم صدق النيات ، بخلاف من تقدمهم من الهالكين ، ذكره ابن الأنباري .
    ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين

    قوله تعالى : " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض " قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة . قال الأخفش : جاء بقوله : " جميعا " مع " كل " تأكيدا كقوله : وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين [النحل :51] .

    قوله تعالى : " أفأنت تكره الناس " قال المفسرون ، منهم مقاتل : هذا منسوخ بآية السيف ، والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ ، لأن الإكراه على الإيمان لا يصح ، لأنه عمل القلب .
    وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون

    قوله تعالى : " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " فيه ستة أقوال :

    أحدها : بقضاء الله وقدره . والثاني : بأمر الله ، رويا عن ابن عباس . والثالث : بمشيئة الله ، قاله عطاء . والرابع : إلا أن يأذن الله في ذلك ، قاله مقاتل . والخامس : بعلم الله . والسادس : بتوفيق الله ، ذكرهما الزجاج ، وابن الأنباري .

    [ ص: 68 ] قوله تعالى : " ويجعل الرجس " أي : ويجعل الله الرجس . وروى أبو بكر عن عاصم " ونجعل الرجس " بالنون . وفيه خمسة أقوال :

    أحدها : أنه السخط ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني : الإثم والعدوان ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث : أنه ما لا خير فيه قاله مجاهد .

    والرابع : العذاب ، قاله الحسن ، وأبو عبيدة ، والزجاج .

    والخامس : العذاب والغضب ، قاله الفراء .

    قوله تعالى : " على الذين لا يعقلون " أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه . وقيل : لا يعقلون حججه ودلائل توحيده .
    قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

    قوله تعالى : " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض " قال المفسرون : قل للمشركين الذي يسألونك الآيات على توحيد الله انظروا بالتفكر والاعتبار ماذا في السموات والأرض من الآيات والعبر التي تدل على وحدانيته ونفاذ قدرته كالشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، والشجر ، وكل هذا يقتضي خالقا مدبرا . " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " في علم الله
    فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين

    قوله تعالى : " فهل ينتظرون " قال ابن عباس : يعني كفار قريش . [ ص: 69 ] " إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم " قال ابن الأنباري : أي : مثل وقائع الله بمن سلف قبلهم ، والعرب تكني بالأيام عن الشرور والحروب ، وقد تقصد بها أيام السرور والأفراح إذا قام دليل بذلك .

    قوله تعالى : " قل فانتظروا " هلاكي " إني معكم من المنتظرين " لنزول العذاب بكم " ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا " من العذاب إذا نزل ، فلم يهلك قوم قط إلا نجا نبيهم والذين آمنوا معه .

    قوله تعالى : " كذلك حقا علينا ننج المؤمنين " وقرأ يعقوب ، وحفص ، والكسائي في قراءته وروايته عن أبي بكر : " ننج المؤمنين " بالتخفيف . ثم في هذا الإنجاء قولان :

    أحدهما : ننجيهم من العذاب إذا نزل بالمكذبين ، قاله الربيع بن أنس .

    والثاني : ننجيهم في الآخرة من النار ، قاله مقاتل .
    قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين

    قوله تعالى : " قل يا أيها الناس " قال ابن عباس : يعني أهل مكة " إن كنتم في شك من ديني " الإسلام " فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله " وهي الأصنام " ولكن أعبد الله الذي " يقدر أن يميتكم . وقال ابن جرير : معنى الآية : لا ينبغي لكم أن تشكوا في ديني ، لأني أعبد الله الذي يميت وينفع ويضر ، ولا تستنكر [ ص: 70 ] عبادة من يفعل هذا ، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا وتنكروا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع .

    فإن قيل : لم قال : " الذي يتوفاكم " ولم يقل : " الذي خلقكم " ؟

    فالجواب : أن هذا يتضمن تهديدهم ، لأن ميعاد عذابهم الوفاة .

    قوله تعالى : " وأن أقم وجهك " المعنى : وأمرت أن أقم وجهك ، وفيه قولان :

    أحدهما : أخلص عملك . والثاني : استقم بإقبالك على ما أمرت به بوجهك .

    وفي المراد بالحنيف ثلاثة أقوال :

    أحدهما : أنه المتبع ، قاله مجاهد . والثاني : المخلص ، قاله عطاء . والثالث : المستقيم ، قاله القرظي

    قوله تعالى : " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك " إن دعوته " ولا يضرك " إن تركت عبادته . " والظالم " الذي يضع الشيء في غير موضعه .
    وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين

    قوله تعالى : " وإن يمسسك الله بضر " أي : بشدة وبلاء " فلا كاشف " لذلك " إلا هو " دون ما يعبده المشركون من الأصنام . وإن يصبك بخير ، أي : برخاء ونعمة وعافية ، فلا يقدر أحد أن يمنعك إياه . " يصيب به " أي : بكل واحد من الضر والخير .

    [ ص: 71 ] قوله تعالى : " قد جاءكم الحق من ربكم " فيه قولان :

    أحدهما : أنه القرآن . والثاني : محمد صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى : " ومن ضل فإنما يضل عليها " أي : فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه

    قوله تعالى : " وما أنا عليكم بوكيل " أي : في منعكم من اعتقاد الباطل ، والمعنى : لست بحفيظ عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك . قال ابن عباس : وهذه منسوخة بآية القتال ، والتي بعدها أيضا ، وهي قوله : " واصبر حتى يحكم الله " لأن الله تعالى حكم بقتل المشركين ، والجزية على أهل الكتاب ، والصحيح : أنه ليس هاهنا نسخ . أما الآية الأولى ، فقد ذكرنا الكلام عليها في نظيرتها في (الأنعام :107) . وأما الثانية ، فقد ذكرنا نظيرتها في سورة (البقرة :109) قوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره .
    [ ص: 72 ] سُورَةُ هُودٍ

    عَلَيْهِ السَّلَامُ

    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

    رَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَقَتَادَةُ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : هِيَ مَكِّيَّةٌ ، إِلَّا آيَةً ، وَهِيَ قَوْلُهُ : وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ [هُودٍ :114] ، وَعَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا ، إِلَّا قَوْلَهُ : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [هُودٍ :12] وَقَوْلَهُ : أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [هُودٍ :17] وَقَوْلَهُ : إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هُودٍ :114] .

    وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عُجِّلَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ ، قَالَ : " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا : الْحَاقَّةُ ، وَالْوَاقِعَةُ ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #285
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (285)
    صــ 73 إلى صــ 79



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ

    فَأَمَّا " آلر " فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهَا فِي سُورَةِ ( يُونُسَ )

    قَالَ الْفَرَّاءُ : وَ " كِتَابٌ " مَرْفُوعٌ بِالْهِجَاءِ الَّذِي قَبْلَهُ ، كَأَنَّكَ قُلْتَ : حُرُوفُ الْهِجَاءِ هَذَا الْقُرْآنُ ، وَإِنْ شِئْتَ رَفَعْتَهُ بِإِضْمَارِ " هَذَا كِتَابٌ " ، وَالْكِتَابُ : الْقُرْآنُ .

    وَفِي قَوْلِهِ : " أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : أَحُكِمَتْ فَمَا تُنْسَخُ بِكِتَابٍ كَمَا نُسِخَتِ الْكُتُبُ وَالشَّرَائِعُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .

    وَالثَّانِي : أُحْكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ .

    وَالثَّالِثُ : أُحْكِمَتْ عَنِ الْبَاطِلِ أَيْ : مُنِعَتْ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالرَّابِعُ : أُحْكِمَتْ بِمَعْنَى جُمِعَتْ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

    فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ عَمَّ الْآيَاتِ هَاهُنَا بِالْإِحْكَامِ ، وَخَصَّ بَعْضَهَا فِي قَوْلِهِ : مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آلِ عِمْرَانَ :8] ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ .

    أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِحْكَامَ الَّذِي عَمَّ بِهِ هَاهُنَا ، غَيْرُ الَّذِي خَصَّ بِهِ هُنَاكَ .

    وَفِي مَعْنَى الْإِحْكَامِ الْعَامِّ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ ، قَدْ أَسْلَفْنَا مِنْهَا أَرْبَعَةً فِي قَوْلِهِ : " أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ "

    وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ إِعْجَازُ النَّظْمِ وَالْبَلَاغَةِ وَتَضْمِينُ الْحِكَمِ الْمُعْجِزَةَ .

    [ ص: 74 ] وَمَعْنَى الْإِحْكَامِ الْخَاصِّ : زَوَالُ اللَّبْسِ ، وَاسْتِوَاءُ السَّامِعِينَ فِي مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْآيَةِ .

    وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِحْكَامَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : " أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ " : أُحْكِمَ بَعْضُهَا بِالْبَيَانِ الْوَاضِحِ وَمَنْعِ الِالْتِبَاسِ ، فَأُوقِعَ الْعُمُومُ عَلَى مَعْنَى الْخُصُوصِ ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : قَدْ أَكَلْتُ طَعَامَ زَيْدٍ ، يَعْنُونَ : بَعْضَ طَعَامِهِ ، وَيَقُولُونَ : قُتِلْنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، يَعْنُونَ : قُتِلَ بَعْضُنَا ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

    وَفِي قَوْلِهِ : " ثُمَّ فُصِّلَتْ " سِتَّةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : فُصِّلَتْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي : فُصِّلَتْ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، رَوَاهُ جِسْرُ بْنُ فَرَقَدٍ عَنِ الْحَسَنِ .

    وَالثَّالِثُ : فُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا .

    وَالرَّابِعُ : فُصِّلَتْ بِمَعْنَى فُسِّرَتْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    الْخَامِسُ : أُنْزِلَتْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، وَلَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً ، ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .

    وَالسَّادِسُ : فُصِّلَتْ بِجَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ ، وَتَثْبِيتِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِقَامَةِ الشَّرَائِعِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : " مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ " أَيْ : مِنْ عِنْدِهِ .
    ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير

    [ ص: 75 ] قوله تعالى : " ألا تعبدوا إلا الله " قال الفراء : المعنى : فصلت آياته بأن لا تعبدوا إلا الله " وأن استغفروا " . و " أن " في موضع النصب بإلقائك الخافض .

    وقال الزجاج : المعنى : آمركم أن لا تعبدوا [إلا الله] وأن استغفروا .

    قال مقاتل : والمراد بهذه العبادة : التوحيد . والخطاب لكفار مكة .

    قوله تعالى : " وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه " فيه قولان :

    أحدهما : أن الاستغفار والتوبة هاهنا من الشرك ، قاله مقاتل .

    والثاني : استغفروه من الذنوب السالفة ، ثم توبوا إليه من المستأنفة متى وقعت . وذكر عن الفراء أنه قال : " ثم " هاهنا بمعنى الواو .

    قوله تعالى : " يمتعكم متاعا حسنا " قال ابن عباس : يتفضل عليكم بالرزق والسعة ، وقال ابن قتيبة : يعمركم . وأصل الإمتاع : الإطالة ، يقال : أمتع الله بك ، ومتع الله بك ، إمتاعا ومتاعا ، والشيء الطويل : ماتع ، يقال : جبل ماتع ، وقد متع النهار : إذا تطاول .

    وفي المراد بالأجل المسمى قولان :

    أحدهما : أنه الموت ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة .

    والثاني : أنه يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير .

    قوله تعالى : " ويؤت كل ذي فضل فضله " في هاء الكناية قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى . ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : ويؤت كل ذي فضل من حسنة وخير فضله ، وهو الجنة . والثاني : يؤتيه فضله من الهداية إلى العمل الصالح .

    والثاني : أنها ترجع إلى العبد ، فيكون المعنى : ويؤت كل من زاد في إحسانه [ ص: 76 ] وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي زاده ، فيفضله في الدنيا بالمنزلة الرفيعة ، وفي الآخرة بالثواب الجزيل .

    قوله تعالى : " وإن تولوا " أي : تعرضوا عما أمرتم به . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء : " وإن تولوا " بضم التاء . " فإني أخاف عليكم " فيه إضمار " فقل " . واليوم الكبير : يوم القيامة .
    ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور

    قوله تعالى : " ألا إنهم يثنون صدورهم " في سبب نزولها خمسة أقوال :

    أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف إنه ليحبه ، ويضمر خلاف ما يظهر له ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه محمد بن عباد عن ابن عباس .

    والثالث : أنها نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه لئلا يراه رسول الله ، قاله عبد الله بن شداد .

    والرابع : أن طائفة من المشركين قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا [ ص: 77 ] واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، كيف يعلم بنا ، فأخبر الله عما كتموا ، ذكره الزجاج .

    والخامس : أنها نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا منه القرآن حنوا صدورهم ، ونكسوا رؤوسهم ، وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " يثنون صدورهم " يقال : ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته . وفي معنى الكلام خمسة أقوال :

    أحدها : يكتمون ما فيها من العداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : يثنون صدورهم على الكفر ، قاله مجاهد .

    والثالث : يحنونها لئلا يسمعوا كتاب الله ، قاله قتادة .

    والرابع : يثنونها إذا ناجى بعضهم بعضا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .

    والخامس : يثنونها حياء من الله تعالى ، وهو يخرج على ما حكينا عن ابن عباس . قال ابن الأنباري : وكان ابن عباس يقرؤها " ألا إنهم تثنوني صدورهم " وفسرها أن ناسا كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء . فتثنوني : تفعوعل ، وهو فعل للصدور ، معناه : المبالغة في تثني الصدور ، كما تقول العرب : احلولى الشيء ، يحلولي : إذا بالغوا في وصفه بالحلاوة ، قال عنترة


    ألا قاتل الله الطلول البواليا وقاتل ذكراك السنين الخواليا [ ص: 78 ] وقولك للشيء الذي لا تناله
    إذا ما هو احلولى ألا ليت ذا ليا


    فعلى هذا القول ، هو في حق المؤمنين ، وعلى بقية الأقوال ، هو في حق المنافقين . وقد خرج من هذه الأقوال في معنى " يثنون صدورهم " قولان : أحدهما : أنه حقيقة في الصدور . والثاني : أنه كتمان ما فيها .

    قوله تعالى : " ليستخفوا منه " في هاء " منه " قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى . والثاني : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى : " ألا حين يستغشون ثيابهم " قال أبو عبيدة : العرب تدخل " ألا " توكيدا وإيجابا وتنبيها . قال ابن قتيبة : " يستغشون ثيابهم " أي : يتغشونها ويستترون بها . قال قتادة : أخفى ما يكون ابن آدم ، إذا حنى ظهره ، واستغشى ثيابه ، وأضمر همه في نفسه . قال ابن الأنباري : أعلم الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم .

    قوله تعالى : " إنه عليم بذات الصدور " وقد شرحناه في (آل عمران :119) .
    وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين

    قوله تعالى : " وما من دابة في الأرض " قال أبو عبيدة : " من " من حروف الزوائد ، والمعنى : وما دابة ، والدابة : اسم لكل حيوان يدب . وقوله : " إلا على الله رزقها " قال العلماء : فضلا منه ، لا وجوبا عليه . و " على " هاهنا بمعنى " من " وقد ذكرنا المستقر والمستودع في سورة (الأنعام :67) .

    [ ص: 79 ] قوله تعالى : " كل في كتاب " أي : ذلك عند الله في اللوح المحفوظ ، هذا قول المفسرين . وقال الزجاج : المعنى : ذلك ثابت في علم الله عز وجل .

    قوله تعالى : " وكان عرشه على الماء " قال ابن عباس : عرشه: سريره ، وكان الماء إذ كان العرش عليه على الريح . قال قتادة : ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض .

    قوله تعالى : " ليبلوكم " أي : ليختبركم الاختبار الذي يجازي عليه ، فيثيب المعتبر بما يرى من آيات السموات والأرض ، ويعاقب أهل العناد .

    قوله تعالى : " أيكم أحسن عملا " فيه أربعة أقوال :أحدها : أيكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله عز وجل ، وأسرع في طاعة الله ، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني : أيكم أعمل بطاعة الله ، قاله ابن عباس . والثالث : أيكم أتم عقلا ، قاله قتادة . والرابع : أيكم أزهد في الدنيا ، قاله الحسن وسفيان .

    قوله تعالى : " إن هذا إلا سحر مبين " قال الزجاج : السحر باطل عندهم ، فكأنهم قالوا : إن هذا إلا باطل بين ، فأعلمهم الله تعالى أن القدرة على خلق السموات والأرض تدل على بعث الموتى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #286
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (286)
    صــ 80 إلى صــ 86




    ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون

    [ ص: 80 ] قوله تعالى : " ولئن أخرنا عنهم العذاب " قال المفسرون : هؤلاء كفار مكة ، والمراد بالأمة المعدودة : الأجل المعلوم ، والمعنى : إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها . " ليقولن ما يحبسه " وإنما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء .

    قوله تعالى : " ألا يوم يأتيهم " وقال : " ليس مصروفا عنهم " . وقال بعضهم : لا يصرف عنهم العذاب إذا أتاهم . وقال آخرون : إذا أخذتهم سيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تغمد عنهم حتى يباد أهل الكفر وتعلو كلمة الإخلاص .

    قوله تعالى : " وحاق بهم " قال أبو عبيدة : نزل بهم وأصابهم .

    وفي قوله : " ما كانوا به يستهزئون " قولان : أحدهما : أنه الرسول والكتاب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . فيكون المعنى : حاق بهم جزاء استهزائهم . والثاني : أنه العذاب ، كانوا يستهزئون بقولهم : " ما يحبسه " ، وهذا قول مقاتل .
    ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور

    قوله تعالى : " ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة " اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، قاله ابن عباس . والثاني : في عبد الله بن أبي أمية المخزومي ، ذكره الواحدي . والثالث : أن الإنسان هاهنا اسم جنس ، والمعنى : ولئن أذقنا الناس ، قاله الزجاج . والمراد بالرحمة : النعمة ، من العافية ، والمال ، والولد . واليؤوس : القنوط قال أبو عبيدة : هو فعول من يئست . قال مقاتل : إنه ليؤوس عند الشدة من الخير ، كفور لله في نعمه في الرخاء
    ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور

    قوله تعالى : " ولئن أذقناه نعماء " قال ابن عباس : صحة وسعة في الرزق . [ ص: 81 ] " بعد ضراء مسته " بعد مرض وفقر . " ليقولن ذهب السيئات عني " يريد الضر والفقر . " إنه لفرح " أي : بطر . " فخور " قال ابن عباس : يفاخر أوليائي بما أوسعت عليه .

    فإن قيل : ما وجه عيب الإنسان في قوله : " ذهب السيئات عني " ، وما وجه ذمه على الفرح ، وقد وصف الله الشهداء فقال : " فرحين " ؟

    فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : إنما عابه بقوله : " ذهب السيئات عني " لأنه لم يعترف بنعمة الله ، ولم يحمده على ما صرف عنه ، وإنما ذمه بهذا الفرح ، لأنه يرجع إلى معنى المرح والتكبر عن طاعة الله ، قال الشاعر :


    ولا ينسيني الحدثان عرضي ولا ألقي من الفرح الإزارا


    يعني من المرح . وفرح الشهداء فرح لا كبر فيه ولا خيلاء ، بل هو مقرون بالشكر فهو مستحسن .
    إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير

    قوله تعالى : " إلا الذين صبروا " قال الفراء : هذا الاستثناء من الإنسان ، لأنه في معنى الناس ، كقوله : إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا [العصر :2،3] . وقال الزجاج : هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن الذين صبروا . قال ابن عباس : الوصف الأول للكافر ، والذين صبروا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
    [ ص: 82 ] فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل

    قوله تعالى : " فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك " سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله [يونس :15] ، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسمعهم عيب آلهتهم رجاء أن يتبعوه فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . وفي معنى الآية قولان : أحدهما : فلعلك تارك تبليغ بعض ما يوحى إليك من أمر الآلهة ، وضائق بما كلفته من ذلك صدرك ، خشية أن يقولوا . لولا أنزل عليه كنز . والثاني : فلعلك لعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك . فأما الضائق ، فهو بمعنى الضيق . قال الزجاج : ومعنى " أن يقولوا " : كراهية أن يقولوا . وإنما عليك أن تنذرهم بما يوحى إليك ، وليس عليك أن تأتيهم باقتراحهم من الآيات .

    قوله تعالى : " والله على كل شيء وكيل " فيه قولان : أحدهما : أنه الحافظ . والثاني : الشهيد ، وقد ذكرناه في (آل عمران :173) .
    أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون

    قوله تعالى : " أم يقولون افتراه " " أم " بمعنى " بل " و " افتراه " أتى به من قبل نفسه . "قل فأتوا" أنتم في معارضتي " بعشر سور مثله " في البلاغة [ ص: 83 ] " مفتريات " بزعمكم ودعواكم " وادعوا من استطعتم من دون الله " إلى المعاونة على المعارضة " إن كنتم صادقين " في قولكم : " افتراه " .

    " فإلم يستجيبوا لكم " أي : يجيبوكم إلى المعارضة ، فقد قامت الحجة عليهم لكم .

    فإن قيل : كيف وحد القول في قوله : " قل فأتوا " ثم جمع في قوله : " فإلم يستجيبوا لكم " فعنه جوابان . أحدهما : أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده في الموضعين ، فيكون الخطاب له بقوله : " لكم " تعظيما ، لأن خطاب الواحد بلفظ الجميع تعظيم ، هذا قول المفسرين . والثاني : أنه وحد في الأول لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم . وجمع في الثاني لمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قاله ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " فيه قولان : أحدهما : أنزله وهو عالم بإنزاله ، وعالم بأنه حق من عنده . والثاني أنزله بما أخبر فيه من الغيب ، ودل على ما سيكون وما سلف ، ذكرهما الزجاج .

    قوله تعالى : " وأن لا إله إلا هو " أي : واعلموا ذلك . " فهل أنتم مسلمون " استفهام بمعنى الأمر . وفيمن خوطب به قولان : أحدهما : أهل مكة ، ومعنى إسلامهم : إخلاصهم لله العبادة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد .
    من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون

    قوله تعالى : " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " اختلفوا فيمن نزلت على [ ص: 84 ] أربعة أقوال :أحدها : أنها عامة في جميع الخلق وهو قول الأكثرين . والثاني : أنها في أهل القبلة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : أنها في اليهود والنصارى ، قاله أنس . والرابع : أنها في أهل الرياء ، قاله مجاهد . وروى عطاء عن ابن عباس : من كان يريد عاجل الدنيا ولا يؤمن بالبعث والجزاء . وقال غيره : إنما هي في الكافر ، لأن المؤمن يريد الدنيا والآخرة .

    قوله تعالى : " نوف إليهم أعمالهم " أي : أجور أعمالهم " فيها " . قال سعيد بن جبير : أعطوا ثواب ما عملوا من خير في الدنيا . وقال مجاهد : من عمل عملا من صلة ، أو صدقة ، لا يريد به وجه الله ، أعطاه الله ثواب ذلك في الدنيا ، ويدرأ به عنه في الدنيا .

    قوله تعالى : " وهم فيها " قال ابن عباس : أي في الدنيا . " لا يبخسون " أي : لا ينقصون من أعمالهم في الدنيا شيئا . " أولئك الذين " عملوا لغير الله " ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا " أي : ما عملوا في الدنيا من حسنة " وباطل ما كانوا " لغير الله " يعملون " .

    فصل

    وذكر قوم من المفسرين ، منهم مقاتل ، أن هذه الآية اقتضت أن من أراد الدنيا بعمله ، أعطي فيها ثواب عمله من الرزق والخير ، ثم نسخ ذلك بقوله : عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [الإسراء :18] ، وهذا لا يصح لأنه لا يوفي إلا لمن يريد .
    [ ص: 85 ] أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين

    قوله تعالى : " أفمن كان على بينة من ربه " في المراد بالبينة أربعة أقوال :

    أحدها : أنها الدين قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الضحاك . والثالث : القرآن ، قاله ابن زيد . والرابع : البيان ، قاله مقاتل . وفي المشار إليه بـ " من " قولان :

    أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس والجمهور . والثاني : أنهم المسلمون ، وهو يخرج على قول الضحاك . وفي قوله : " ويتلوه " قولان :

    أحدهما : يتبعه . والثاني : يقرؤه . وفي هاء " يتلوه " قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : إلى القرآن ، وقد سبق ذكره في قوله : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [هود :13] .

    وفي المراد بالشاهد ثمانية أقوال :

    أحدها : أنه جبريل ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة وإبراهيم في آخرين .

    والثاني : أنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلو القرآن ، قاله علي بن أبي طالب ، والحسن ، وقتادة في آخرين .

    [ ص: 86 ] والثالث : أنه علي بن أبي طالب . و " يتلوه " بمعنى يتبعه ، رواه جماعة عن علي بن أبي طالب ، وبه قال محمد بن علي ، وزيد بن علي .

    والرابع : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو شاهد من الله تعالى ، قاله الحسين بن علي عليه السلام .

    والخامس : أنه ملك يحفظه ويسدده ، قاله مجاهد .

    والسادس : أنه الإنجيل يتلو القرآن بالتصديق ، وإن كان قد أنزل قبله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشرت به التوراة ، قاله الفراء .

    والسابع : أنه القرآن ونظمه وإعجازه ، قاله الحسين بن الفضل .

    والثامن : أنه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخايله ، لأن كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وفي هاء " منه " ثلاثة أقوال أحدها : أنها ترجع إلى الله تعالى . والثاني : إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث : إلى البينة .

    قوله تعالى : " ومن قبله " في هذه الهاء ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد . والثاني : إلى القرآن ، قاله ابن زيد . والثالث : إلى الإنجيل ، أي : ومن قبل الإنجيل " كتاب موسى " يتبع محمدا بالتصديق له ، ذكره ابن الأنباري . قال الزجاج : والمعنى : وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون " كتاب موسى " عطفا على قوله : " ويتلوه شاهد منه " أي : ويتلوه كتاب موسى ، لأن موسى وعيسى بشرا بالنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل . ونصب إماما على الحال .

    فإن قيل : كيف تتلوه التوراة ، وهي قبله ؟


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #287
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (287)
    صــ 87 إلى صــ 93



    قيل : لما بشرت به ، كانت كأنها تالية له ، لأنها تبعته بالتصديق له .

    وقال ابن الأنباري : " كتاب موسى " مفعول في المعنى ، لأن جبريل تلاه على موسى ، فارتفع الكتاب ، وهو مفعول بمضمر بعده ، تأويله : ومن قبله كتاب موسى كذاك ، أي : تلاه جبريل أيضا ، كما تقول العرب : أكرمت أخاك وأبوك ، فيرفعون الأب ، وهو مكرم على الاستئناف ، بمعنى وأبوك مكرم أيضا . قال : وذهب قوم إلى أن كتاب موسى فاعل ، لأنه تلا محمدا بالتصديق كما تلاه الإنجيل .

    فصل

    فتلخيص الآية : أفمن كان على بينة من ربه كمن لم يكن ؟ قال الزجاج : ترك المضاد له ، لأن في ما بعده دليلا عليه ، وهو قوله : مثل الفريقين كالأعمى والأصم [هود :24] . وقال ابن قتيبة : لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إلى الدنيا ، جاء بهذه الآية ، وتقدير الكلام : أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا ؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم ، إذ كان فيه دليل عليه . وقال ابن الأنباري : إنما حذف لانكشاف المعنى ، والمحذوف المقدر كثير في القرآن والشعر ، قال الشاعر:


    فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا


    [ ص: 88 ] فإن قلنا : إن المراد بمن كان على بينة ربه ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمعنى الآية : ويتبع هذا النبي شاهد ، وهو جبريل عليه السلام . " منه " أي : من الله . وقيل: " شاهد " هو علي بن أبي طالب ، " منه " أي : من النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : " يتلوه " يعني القرآن ، يتلوه جبريل ، وهو شاهد لمحمد صلى الله عليه وسلم أن الذي يتلوه جاء من عند الله تعالى . وقيل : ويتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وهو شاهد من الله . وقيل : ويتلو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فلسانه شاهد منه . وقيل : ويتبع محمدا شاهد له بالتصديق ، وهو الإنجيل من الله تعالى . وقيل : ويتبع هذا النبي شاهد من نفسه ، وهو سمته وهديه الدال على صدقه . وإن قلنا : إن المراد بمن كان على بينة من ربه المسلمون ، فالمعنى : أنهم يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو البينة ، ويتبع هذا النبي شاهد له بصدقه .

    قوله تعالى : " إماما ورحمة " إنما سماه إماما ، لأنه كان يهتدى به ، " ورحمة " أي : وذا رحمة ، وأراد بذلك التوراة ، لأنها كانت إماما وسببا لرحمة من آمن بها .

    قوله تعالى : " أولئك " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه إشارة إلى أصحاب موسى . والثاني : إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . والثالث : إلى أهل الحق من أمة موسى وعيسى ومحمد .

    وفي هاء " به " ثلاثة أقوال أحدها : أنها ترجع إلى التوراة . والثاني : إلى القرآن . والثالث : إلى محمد صلى الله عليه وسلم .

    وفي المراد بالأحزاب هاهنا أربعة أقوال :أحدها : جميع الملل ، قاله سعيد بن جبير . والثاني : اليهود والنصارى ، قاله قتادة . والثالث : قريش ، قاله السدي . والرابع : بنو أمية ، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي ، وآل أبي طلحة بن عبد العزى ، قاله مقاتل .

    [ ص: 89 ] قوله تعالى : " فالنار موعده " أي : إليها مصيره ، قال حسان بن ثابت :


    أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها


    قوله تعالى : " فلا تك في مرية منه " قرأ الحسن ، وقتادة : " مرية " بضم الميم أين وقع . وفي المكني عنه قولان :

    أحدهما : أنه الإخبار بمصير الكافر به ، فالمعنى : فلا تك في شك أن موعد المكذب به النار ، وهذا قول ابن عباس .

    والثاني : أنه القرآن ، فالمعنى : فلا تك في شك من أن القرآن من الله تعالى ، قاله مقاتل . قال ابن عباس : والمراد بالناس هاهنا : أهل مكة .

    قوله تعالى : " أولئك يعرضون على ربهم " قال الزجاج : ذكر عرضهم توكيدا لحالهم في الانتقام منهم ، وإن كان غيرهم يعرض أيضا .

    فأما " الأشهاد " ففيهم خمسة أقوال :أحدها : أنهم الرسل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : الملائكة قاله مجاهد ، وقتادة . والثالث : الخلائق ، روي عن قتادة أيضا . وقال مقاتل : " الأشهاد " الناس ، كما يقال : على رؤوس الأشهاد ، أي : على رؤوس الناس ، والرابع : الملائكة والنبيون وأمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون على الناس ، والجوارح تشهد على ابن آدم ، قاله ابن زيد . والخامس : الأنبياء والمؤمنون ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري : وفائدة إخبار الأشهاد بما يعلمه الله : تعظيم بالأمر المشهود عليه ، ودفع المجاحدة فيه .
    الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون

    [ ص: 90 ] قوله تعالى : " الذين يصدون عن سبيل الله " قد تقدم تفسيرها في (الأعراف :45) .

    قوله تعالى : " وهم بالآخرة هم كافرون " قال الزجاج : ذكرت " هم " ثانية على جهة التوكيد لشأنهم في الكفر .
    أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

    قوله تعالى : " أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض " قال ابن عباس : لم يعجزوني أن آمر الأرض فتخسف بهم . " وما كان لهم من دون الله من أولياء " أي : لا ولي لهم ممن يعبدون يمنعهم مني . وقال ابن الأنباري : لما كانت عادة العرب جارية بقولهم : لا وزر لك مني ولا نفق ، يعنون بالوزر : الجبل ، والنفق : السرب ، وكلاهما يلجأ إليه الخائف ، أعلم الله تعالى أن هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هربا ، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من الأرض ويلجأ إليه . قال : وقوله : " من أولياء " يقتضي محذوفا ، تلخيصه : من أولياء يمنعونهم من عذاب الله ، فحذف هذا لشهرته .

    قوله تعالى : " يضاعف لهم العذاب " يعني الرؤساء الصادين عن سبيل الله ، وذلك لإضلالهم أتباعهم واقتداء غيرهم بهم . وقال الزجاج : " لم يكونوا معجزين في الأرض " أي : في دار الدنيا ، ولا لهم ولي يمنع من انتقام الله ، ثم استأنف " يضاعف لهم العذاب " لعظم كفرهم بنبيه وبالبعث والنشور .

    قوله تعالى : " ما كانوا يستطيعون السمع " فيمن عني بهذا قولان :

    أحدهما : أنهم الكفار . ثم في معناه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم لم يقدروا [ ص: 91 ] على استماع الخير وإبصار الحق ، وفعل الطاعة ، لأن الله تعالى حال بينهم وبين ذلك ، هذا معنى قول ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : أن المعنى : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه ، وبما كانوا يبصرون حجج الله ولا يعتبرون بها فحذف الباء ، كما تقول العرب : لأجزينك ما عملت ، وبما عملت ذكره الفراء ، وأنشد ابن الأنباري في الاحتجاج له :


    نغالي اللحم للأضياف نيئا ونبذله إذا نضج القدور


    أراد : نغالي باللحم . والثالث : أنهم من شدة كفرهم وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يستطيعون أن يتفهموا ما يقول ، قاله الزجاج .

    والقول الثاني : أنهم الأصنام ، فالمعنى : ما كان للآلهة سمع ولا بصر ، فلم تستطع لذلك السمع ، ولم تكن تبصر . فعلى هذا ، يرجع قوله : " ما كانوا " إلى أوليائهم ، وهي الأصنام ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس أيضا .
    لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون

    قوله تعالى : " لا جرم " قال ابن عباس : يريد : حقا إنهم الأخسرون . وقال الفراء : " لا جرم " كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة ، فجرت على ذلك ، وكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة " حقا " ، ألا ترى أن العرب تقول : لا جرم لآتينك ، لا جرم لقد أحسنت ، وأصلها من جرمت ، أي : كسبت الذنب . قال الزجاج : ومعنى " لا جرم " : " لا " نفي لما ظنوا أنه ينفعهم [ ص: 92 ] كأن المعنى : لا ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ، أي : كسب لهم ذلك الفعل الخسران . وذكر ابن الأنباري أن " لا " رد على أهل الكفر فيما قدروه من اندفاع الشر عنهم في الآخرة ، والمعنى : لا يندفع عنهم عذابي ، ولا يجدون وليا يصرف عنهم نقمتي ، ثم ابتدأ مستأنفا " جرم " ، قال : وفيها قولان :

    أحدهما : أنها بمعنى : كسب كفرهم وما قدروا من الباطل وقوع العذاب بهم . فـ " جرم " فعل ماض ، معناه : كسب ، وفاعله مضمر فيه من ذكر الكفر وتقرير الباطل .

    والثاني : أن معنى جرم : أحق وصحح ، وهو فعل ماض ، وفاعله مضمر فيه ، والمعنى : أحق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم ، قال الشاعر :


    ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا


    أراد : حقت الطعنة فزارة بالغضب . ومن العرب من يغير لفظ " جرم " مع " لا " خاصة ، فيقول بعضهم : " لا جرم " ، ويقول آخرون : " لا جر " بإسقاط الميم ، ويقال : " لاذا جرم " و " لاذا جر " بغير ميم ، و " لا إن ذا جرم " و " لا عن ذا جرم " ، ومعنى اللغات كلها : حقا .

    قوله تعالى : " وأخبتوا إلى ربهم " فيه سبعة أقوال :

    أحدها : خافوا ربهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثاني : أنابوا إلى ربهم ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثالث : ثابوا إلى ربهم ، قاله قتادة . [ ص: 93 ] والرابع : اطمأنوا ، قاله مجاهد . والخامس : أخلصوا ، قاله مقاتل . والسادس : تخشعوا لربهم ، قاله الفراء . والسابع : تواضعوا لربهم ، قاله ابن قتيبة .

    فإن قيل : لم أوثرت " إلى " على اللام في قوله : " وأخبتوا إلى ربهم " ، والعادة جارية بأن يقال : أخبتوا لربهم ؟

    فالجواب : أن المعنى : وجهوا خوفهم وخشوعهم وإخلاصهم إلى ربهم ، واطمأنوا إلى ربهم . قال الفراء : وربما جعلت العرب " إلى " في موضع اللام ، كقوله : بأن ربك أوحى لها [الزلزال :5] ، وقوله : الذي هدانا لهذا [الأعراف :43] . وقد يجوز في العربية : فلان يخبت إلى الله ، يريد : يفعل ذلك موجهه إلى الله . قال بعض المفسرين : هذه الآية نازلة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما قبلها نازل في المشركين . ثم ضرب للفريقين مثلا ، فقال : " مثل الفريقين كالأعمى والأصم " قال مجاهد : الفريقان المؤمن والكافر . فأما الأعمى والأصم فهو الكافر ، وأما البصير والسميع فهو المؤمن . قال قتادة : الكافر عمي عن الحق وصم عنه ، والمؤمن : أبصر الحق وسمعه ثم انتفع به . وقال أبو عبيدة : في الكلام ضمير ، تقديره : مثل الفريقين كمثل الأعمى . وقال الزجاج : مثل الفريقين المسلمين كالبصير والسميع ، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم ، لأنهم في عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من يسمع ولا يبصر .

    قوله تعالى : " هل يستويان مثلا " أي : هل يستويان في المشابهة ؟


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #288
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (288)
    صــ 94 إلى صــ 100


    والمعنى : كما لا يستويان عندكم ، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله . وقال أبو عبيدة : " هل " هاهنا بمعنى الإيجاب ، لا بمعنى الاستفهام ، والمعنى : لا يستويان . قال الفراء : وإنما لم يقل : " يستوون " لأن الأعمى والأصم من [ ص: 94 ] صفة واحد ، والسميع والبصير من صفة واحد ، كقول القائل : مررت بالعاقل واللبيب ، وهو يعني واحدا ، قال الشاعر :


    وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني


    فقال : أيهما . وإنما ذكر الخير وحده ، لأن المعنى يعرف ، إذ المبتغي للخير متق للشر . وقال ابن الأنباري : الأعمى والأصم صفتان لكافر ، والسميع والبصير صفتان لمؤمن ، فرد الفعل إلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة ، كما تقول : العاقل والعالم ، والظالم والجاهل ، حضرا مجلسي ، فتثني الخبر بعد ذكرك أربعة ، لأن الموصوف بالعلم هو الموصوف بالعقل ، وكذلك المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظلم ، فلما كان المنعوتان اثنين ، رجع الخبر إليهما ، ولم يلتفت إلى تفريق الأوصاف ، ألا ترى أنه يسوغ أن تقول : الأديب واللبيب والكريم والجميل قصدني ، فتوحد الفعل بعد أوصاف لعلة أن الموصوف بهن واحد ، ولا يمتنع عطف النعوت على النعوت بحروف العطف ، والموصوف واحد ، فقد قال تعالى : التائبون العابدون [التوبة :112] ثم قال : " الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر " فلم يقتض دخول الواو وقوع خلاف بين الآمرين والناهين ، وقد قيل : الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره ، وكان دخول الواو دلالة على الآمر بالمعروف ، لأن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر ، كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين ، والسائحون بالسياحة دون الحامدين ، ويدل أيضا على أن العرب تنسق النعت على النعت والمنعوت واحد ، كقول الشاعر يخاطب سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان:

    [ ص: 95 ]
    يظن سعيد وابن عمرو بأنني إذا سامني ذلا أكون به أرضى


    فنسق ابن عمرو على سعيد ، وهو سعيد .
    ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون

    قوله تعالى : " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي " أني " بفتح الألف ، والتقدير : أرسلناه بأني ، وكأن الوجه بأنه لهم نذير ، ولكنه على الرجوع من الإخبار عن الغائب إلى خطاب نوح قومه . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة " إني " بكسر الألف ، فحملوه على القول المضمر ، والتقدير فقال لهم : إني لكم نذير .

    قوله تعالى : " ما نراك إلا بشرا مثلنا " أي : إنسانا مثلنا ، لا فضل لك علينا . فأما الأراذل ، فقال ابن عباس : هم السفلة . وقال ابن قتيبة : هم جمع " أرذل " ، يقال : رجل رذل ، وقد رذل رذالة ورذولة . ومعنى الأراذل : الشرار .

    قوله تعالى : " بادي الرأي " قرأ الأكثرون " بادي " بغير همز . وقرأ [ ص: 96 ] أبو عمرو بالهمز بعد الدال . وكلهم همز " الرأي " غير أبي عمرو . وللعلماء في معنى " بادي " إذا لم يهمز ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن المعنى : ما نرى أتباعك إلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر ، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا ، هذا مذهب مقاتل في آخرين .

    والثاني : أن المعنى أن هؤلاء القوم اتبعوك في ظاهر ما يرى منهم ، وطويتهم على خلافك .

    والثالث : أن المعنى : اتبعوك في ظاهر رأيهم ، ولم يتدبروا ما قلت ، ولو رجعوا إلى التفكر لم يتبعوك ، ذكر هذين القولين الزجاج . قال ابن الأنباري : وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز ، لأنه من بدا ، يبدو : إذا ظهر . فأما من همز " بادئ " فمعناه : ابتداء الرأي ، أي : اتبعوك أول ما ابتدؤوا ينظرون ، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك .

    قوله تعالى : " وما نرى لكم علينا من فضل " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : من فضل في الخلق ، قاله ابن عباس . والثاني : في الملك والمال ونحو ذلك ، قاله مقاتل . والثالث : ما فضلتم باتباعكم نوحا ، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى : " بل نظنكم كاذبين " فيه قولان :

    أحدهما : نتيقنكم ، قاله الكلبي . والثاني : نحسبكم ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " أي : على يقين وبصيرة . قال ابن الأنباري : وقوله : " إن كنت " شرط لا يوجب شكا يلحقه ، لكن [ ص: 97 ] الشك يلحق المخاطبين من أهل الزيغ ، فتقديره : إن كنت على بينة من ربي عندكم . " وآتاني رحمة من عنده " فيها قولان :

    أحدهما : أنها النبوة ، قاله ابن عباس . والثاني : الهداية ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " فعميت عليكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : " فعميت " بتخفيف الميم وفتح العين . قال ابن قتيبة : والمعنى عميتم عنها ، يقال عمي علي هذا الأمر : إذا لم أفهمه ، وعميت عنه بمعنى . قال الفراء : وهذا مما حولت العرب الفعل إليه ، وهو في الأصل لغيره ، كقولهم : دخل الخاتم في يدي ، والخف في رجلي ، وإنما الإصبع تدخل في الخاتم ، والرجل في الخف ، واستجازوا ذلك إذ كان المعنى معروفا . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : " فعميت " بضم العين وتشديد الميم . قال ابن الأنباري : ومعنى ذلك : فعماها الله عليكم إذ كنتم ممن حكم عليه بالشقاء . وكذلك قرأ أبي بن كعب ، والأعمش : " فعماها عليكم " .

    وفي المشار إليها قولان : أحدهما : البينة والثاني : الرحمة .

    قوله تعالى : " أنلزمكموها " أي : أنلزمكم قبولها ؟ وهذا استفهام معناه الإنكار ، يقول : لا نقدر أن نلزمكم من ذات أنفسنا . قال قتادة : والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يملك ذلك . وقيل : كان مراد نوح عليه السلام رد قولهم : " وما نرى لكم علينا من فضل " فبين فضله وفضل من آمن به بأنه على بينة من ربه ، وقد آتاه رحمة من عنده وسلب المكذبون ذلك .

    قوله تعالى : " لا أسألكم عليه " أي : على نصحي ودعائي إياكم " مالا " فتتهموني . وقال ابن الأنباري : لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإيمان ، جاز تذكيرها .

    [ ص: 98 ] قوله تعالى : " وما أنا بطارد الذين آمنوا " قال ابن جريج : سألوه طردهم أنفة منهم ، فقال : لا يجوز لي طردهم ، إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم ، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغر شؤونهم .

    وفي قوله : " ولكني أراكم قوما تجهلون " قولان :

    أحدهما : تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى ، قاله ابن عباس .

    والثاني : تجهلون لأمركم إياي بطرد المؤمنين ، قاله أبو سليمان .
    ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون

    قوله تعالى : " ويا قوم من ينصرني " أي : من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم .

    قوله تعالى : " ولا أقول لكم عندي خزائن الله " قال ابن الأنباري : أراد بالخزائن : علم الغيب المطوي عن الخلق ، لأنهم قالوا له : إنما اتبعك هؤلاء في الظاهر وليسوا معك ، فقال لهم : ليس عندي خزائن غيوب الله فأعلم ما تنطوي عليه الضمائر . وإنما قيل للغيوب : خزائن لغموضها عن الناس واستتارها عنهم . قال سفيان بن عيينة : إنما آيات القرآن خزائن ، فإذا دخلت خزانة فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها .

    [ ص: 99 ] قوله تعالى : " ولا أعلم الغيب " قيل : إنما قال لهم هذا ، لأن أرضهم أجدبت ، فسألوه : متى يجيء المطر ؟ وقيل : بل سألوه : متى يجيء العذاب ؟ فقال : ولا أعلم الغيب . وقوله : " ولا أقول إني ملك " جواب لقولهم : ما نراك إلا بشرا مثلنا [هود :27] . " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " أي : تحتقر وتستصغر المؤمنين . قال الزجاج : " تزدري " تستقل وتستخس ، يقال : زريت على الرجل : إذا عبت عليه وخسست فعله ، وأزريت به : إذا قصرت به . وأصل تزدري : تزتري ، إلا أن هذه التاء تبدل بعد الزاي دالا ، لأن التاء من حروف الهمس ، وحروف الهمس خفية ، فالتاء بعد الزاي تخفى ، فأبدلت منها الدال لجهرها .

    قوله تعالى : " لن يؤتيهم الله خيرا " قال ابن عباس : إيمانا . ومعنى الكلام : ليس لي أن أطلع على ما في نفوسهم فأقطع عليهم بشيء ، وليس لاحتقاركم إياهم يبطل أجرهم . " إني إذا لمن الظالمين " إن قلت هذا الذي تقدم ذكره ، وقيل إن طردتهم .

    قوله تعالى : " قد جادلتنا " قال الزجاج : الجدال : هو المبالغة في الخصومة والمناظرة ، وهو مأخوذ من الجدل ، وهو شدة الفتل ، ويقال للصقر : أجدل ، لأنه من أشد الطير . ويقرأ " فأكثرت جدلنا " .

    قوله تعالى : " فأتنا بما تعدنا " قال ابن عباس : يعنون العذاب . " إن كنت من الصادقين " أنه يأتينا .

    قوله تعالى : " إن أردت أن أنصح لكم " أي : أنصحكم . وفي هذه الآية شرطان ، فجواب الأول النصح ، وجواب الثاني النفع .

    قوله تعالى : " إن كان الله يريد أن يغويكم " فيه ثلاثة أقوال :

    [ ص: 100 ] أحدها : يضلكم ، قاله ابن عباس . والثاني : يهلككم ، حكاه ابن الأنباري . وقال : هو قول مرغوب عنه . الثالث : يضلكم ويهلككم ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى : " هو ربكم " أي : هو أولى بكم ، يتصرف في ملكه كما يشاء " وإليه ترجعون " بعد الموت .
    أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون

    قوله تعالى : " أم يقولون " قال الزجاج : المعنى : أيقولون : " افتراه " ؟ قال ابن قتيبة : الافتراء : الاختلاق . " فعلي إجرامي " أي : جرم ذلك الاختلاق إن كنت فعلت . " وأنا بريء مما تجرمون " في التكذيب . وقرأ أبو المتوكل ، وابن السميفع : " فعلي أجرامي " بفتح الهمزة .
    وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون

    قوله تعالى : " وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " قال المفسرون لما أوحي إليه هذا ، استجاز الدعاء عليهم ، فقال : لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [نوح :26] .

    قوله تعالى : " فلا تبتئس " قال ابن عباس ، ومجاهد : لا تحزن . وقال الفراء ، والزجاج : لا تستكن ولا تحزن . قال أبو صالح عن ابن عباس : فلا تحزن إذا نزل بهم الغرق " بما كانوا يفعلون " .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #289
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (289)
    صــ 101 إلى صــ 107


    واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ [ ص: 101 ] من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون

    قوله تعالى : " واصنع الفلك " أي : واعمل السفينة

    وفي قوله : " بأعيننا " ثلاثة أقوال :

    أحدها : بمرأى منا ، قاله ابن عباس . والثاني بحفظنا ، قاله الربيع .

    والثالث : بعلمنا ، قاله مقاتل . قال ابن الأنباري : إنما جمع على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد ، تقول : خرجنا إلى البصرة في السفن ، وإنما جمع ، لأن من عادة الملك أن يقول : أمرنا ونهينا .

    وفي قوله : " ووحينا " قولان :

    أحدهما : وأمرنا لك أن تصنعها . والثاني : وبتعليمنا إياك كيف تصنعها .

    قوله تعالى : " ولا تخاطبني في الذين ظلموا " فيه قولان :

    أحدهما : لا تسألني الصفح عنهم . والثاني : لا تخاطبني في إمهالهم . وإنما نهي عن الخطاب في ذلك صيانة له عن سؤال لا يجاب فيه .

    الإشارة إلى كيفية عمل السفينة

    روى الضحاك عن ابن عباس قال : كان نوح يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته ، يرون أنه قد مات ، ثم يخرج فيدعوهم . حتى إذا يئس من إيمان قومه ، جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا ، فقال : يا بني انظر هذا الشيخ لا يغررك ، قال : ياأبت أمكني من العصا ، فأخذها فضربه ضربة شجه [ ص: 102 ] موضحة ، وسالت الدماء على وجهه ، فقال : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك ، فإن يكن لك فيهم حاجة فاهدهم ، وإلا فصبرني إلى أن تحكم ، فأوحى الله إليه " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " إلى قوله : " واصنع الفلك " ، قال : يارب ، وما الفلك ؟ قال : بيت من خشب يجري على وجه الماء أنجي فيه أهل طاعتي ، وأغرق أهل معصيتي ، قال : يارب ، وأين الماء ؟ قال : إني على ما أشاء قدير ، قال : يارب ، وأين الخشب ؟ قال : اغرس الشجر ، فغرس الساج عشرين سنة ، وكف عن دعائهم ، وكفوا عنه ، إلا أنهم يستهزئون به ، فلما أدرك الشجر ، أمره ربه ، فقطعه وجففه ولفقه ، فقال : يارب ، كيف أتخذ هذا البيت ؟ قال : اجعله على ثلاث صور ، رأسه كرأس الطاووس ، وجؤجؤه كجؤجؤ الطائر ، وذنبه كذنب الديك ، واجعلها مطبقة ، وبعث الله إليه جبريل يعلمه ، وأوحى إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني ، فاستأجر نجارين يعملون معه ، وسام ، وحام ، ويافث ، معه ينحتون السفينة ، فجعل طولها ستمائة ذراع ، وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعا ، وعلوها ثلاثا وثلاثين ، وفجر الله له عين القار تغلي غليانا حتى طلاها . وعن ابن عباس قال : جعل لها ثلاث بطون ، فحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام ، وفي الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه البطن الأعلى . وروي عن الحسن أنه قال : كانت سفينة نوح طولها ألف ذراع ، ومائتا ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع . وقال قتادة : كانت [ ص: 103 ] فيما ذكر لنا طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسمائة ذراع ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا . وقال ابن جريج : كان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ومائة ذراع ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا ، وكان في أعلاها الطير ، وفي وسطها الناس ، وفي أسفلها السباع . وزعم مقاتل أنه عمل السفينة في أربعمائة سنة .

    قوله تعالى : " وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه " فيه قولان :

    أحدهما : أنهم رأوه يبني السفينة وما رأوا سفينة قط ، فكانوا يسخرون ويقولون : صرت بعد النبوة نجارا ، وهذا قول ابن إسحاق .

    والثاني : أنهم قالوا له : ما تصنع ؟ فقال : أبني بيتا يمشي على الماء ، فسخروا من قوله ، وهذا قول مقاتل .

    وفي قوله : " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم " خمسة أقوال :

    أحدها : إن تسخروا من قولنا فإنا نسخر من غفلتكم .

    والثاني : إن تسخروا من فعلنا عند بناء السفينة ، فإنا نسخر منكم عند الغرق ، ذكره المفسرون .

    والثالث : إن تسخروا منا في الدنيا ، فإنا نسخر منكم في الآخرة ، قاله ابن جرير .

    والرابع : إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم ، قاله الزجاج .

    والخامس : إن تسخروا منا ، فإنا نستنصر الله عليكم ، فسمى هذا سخرية ، ليتفق اللفظان كما بينا في قوله : الله يستهزئ بهم [البقرة :15] ، هذا قول ابن الأنباري . قال ابن عباس : لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر ، فلذلك سخروا منه ، وإنما مياه البحار بقية الطوفان .
    [ ص: 104 ] فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم

    قوله تعالى : " فسوف تعلمون " هذا وعيد ، ومعناه : فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ، ومن هو أحمد عاقبة .

    قوله تعالى : " من يأتيه عذاب يخزيه " أي : يذله ، وهو الغرق . " ويحل عليه " أي : ويجب عليه " عذاب مقيم " في الآخرة .
    حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل

    قوله تعالى : " حتى إذا جاء أمرنا " فيه قولان : أحدهما : جاء أمرنا بعذابهم وإهلاكهم . والثاني : جاء عذابنا وهو الماء ، ابتدأ بجنبات الأرض فدار حولها كالإكليل ، وجعل المطر ينزل من السماء كأفواه القرب ، فجعلت الوحوش يطلبن وسط الأرض هربا من الماء حتى اجتمعن عند السفينة ، فحينئذ حمل فيها من كل زوجين اثنين .

    قوله تعالى : " وفار التنور " الفور : الغليان ; والفوارة : ما يفور من القدر ، قاله ابن فارس .

    قال المصنف : وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال : التنور : اسم فارسي معرب لا تعرف له العرب اسما غير هذا ، فلذلك جاء في التنزيل ، لأنهم خوطبوا بما عرفوا . وروي عن ابن عباس أنه قال : التنور ، بكل لسان عربي وعجمي .

    [ ص: 105 ] وفي المراد بهذا التنور ستة أقوال :

    أحدها : أنه اسم لوجه الأرض ، رواه عكرمة عن علي عليه السلام . وروى الضحاك عن ابن عباس : التنور : وجه الأرض ، قال : قيل له : إذا رأيت الماء قد علا وجه الأرض ، فاركب أنت وأصحابك ، وهذا قول عكرمة ، والزهري .

    والثاني : أنه تنوير الصبح ، رواه أبو جحيفة عن علي رضي الله عنه . وقال ابن قتيبة : التنوير عند الصلاة .

    والثالث : أنه طلوع الفجر ، روي عن علي أيضا ، قال : " وفار التنور " : طلع الفجر .

    والرابع : أنه طلوع الشمس ، وهو منقول عن علي أيضا .

    والخامس : أنه تنور أهله ، روى العوفي عن ابن عباس قال : إذا رأيت تنور أهلك يخرج منه الماء ، فإنه هلاك قومك . وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنه تنور آدم عليه السلام ، وهبه الله لنوح ، وقيل له : إذا فار الماء منه ، فاحمل ما أمرت به . وقال الحسن : كان تنورا من حجارة ، وهذا قول مجاهد ، والفراء ، ومقاتل .

    والسادس : أنه أعلى الأرض وأشرفها .

    قال ابن الأنباري : شبهت أعالي الأرض وأماكنها المرتفعة لعلوها ، بالتنانير . واختلفوا في المكان الذي فار منه التنور على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه فار من مسجد الكوفة ، رواه حبة العرني عن علي عليه السلام . وقال زر بن حبيش : فار التنور من زاوية مسجد الكوفة اليمنى . وقال مجاهد : نبع الماء من التنور ، فعلمت به امرأته فأخبرته ، وكان ذلك بناحية الكوفة . وكان الشعبي يحلف بالله ما كان التنور إلا بناحية الكوفة .

    [ ص: 106 ] والثاني : أنه فار بالهند ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثالث : أنه كان في أقصى دار نوح ، وكانت بالشام في مكان يقال له : عين وردة ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى : " قلنا احمل فيها " أي : في السفينة " من كل زوجين اثنين " . وروى حفص عن عاصم : " من كل " بالتنوين . قال أبو علي : والمعنى : من كل شيء ، ومن كل زوج زوجين ، فحذف المضاف . وانتصاب " اثنين " على أنهما صفة لزوجين ، وقد علم أن الزوجين اثنان ، ولكنه توكيد . قال مجاهد : من كل صنف ، ذكرا وأنثى . وقال ابن قتيبة : الزوج يكون واحدا ، ويكون اثنين ، وهو هاهنا واحد ، ومعنى الآية : احمل من كل ذكر وأنثى اثنين . وقال الزجاج : المعنى : احمل زوجين اثنين من كل شيء ، والزوج في كلام العرب يجوز أن يكون معه واحد ، والاثنان يقال لهما : زوجان ، يقال : عندي زوجان من الطير ، إنما يريد ذكرا وأنثى فقط . وقال ابن الأنباري : إنما قال " اثنين " فثنى الزوج ، لأنه قصد قصد الذكر والأنثى من الحيوان ، وتقديره : من كل ذكر وأنثى .

    قوله تعالى : " وأهلك " أي : واحمل أهلك . قال المفسرون أراد بأهله : عياله وولده . " إلا من سبق عليه القول " أي : سبق عليه القول من الله بالإهلاك ، قال الضحاك : وهم امرأته وابنه كنعان .

    قوله تعالى : " ومن آمن " معناه : واحمل من آمن . " وما آمن معه إلا قليل " وفي عددهم ثمانية أقوال :

    أحدها : أنهم كانوا ثمانين رجلا معهم أهلوهم ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    [ ص: 107 ] والثاني : أن نوحا حمل معه ثمانين إنسانا ، وبنيه الثلاثة ، وثلاث نسوة لبنيه ، وامرأة نوح ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس .

    والثالث : كانوا ثمانين إنسانا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة .

    والرابع : كانوا أربعين ، ذكره ابن جريج عن ابن عباس .

    والخامس : كانوا ثلاثين رجلا ، رواه أبو نهيك عن ابن عباس .

    والسادس : كانوا ثمانية ، قال الحكم بن عتيبة : كان نوح وثلاثة بنيه وأربع كنائنه . قال قتادة : ذكر لنا أنه لم ينج في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنين له ، ونساؤهم ، فجماعتهم ثمانية ، وهذا قول القرظي ، وابن جريج .

    والسابع : كانوا سبعة ، نوح وثلاث كنائن له ، وثلاثة بنين ، قاله الأعمش .

    والثامن : كانوا عشرة سوى نسائهم ، قاله ابن إسحاق . وروي عنه أنه قال : الذين نجوا مع نوح بنوه الثلاثة ، ونساؤهم ثلاث ، وستة ممن آمن به


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #290
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (290)
    صــ 108 إلى صــ 114


    وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم


    قوله تعالى : " وقال " يعني نوحا للذين أمر بحملهم " اركبوا " السفينة . قال ابن عباس : ركبوا فيها لعشر مضين من رجب ، وخرجوا منها يوم عاشوراء . وقال ابن جريج : رفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ، فأتت [ ص: 108 ] موضع البيت فطافت به أسبوعا ، وكان البيت قد رفع في ذلك الوقت ، ورست بباقردى على الجودي يوم عاشوراء . وقال ابن عباس : قرض الفأر حبال السفينة ، فشكا نوح ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه ، فمسح ذنب الأسد ، فخرج سنوران وكان في السفينة عذرة ، فشكا ذلك إلى ربه ، فأوحى الله تعالى إليه ، فمسح ذنب الفيل ، فخرج خنزيران فأكلا ذلك .

    قوله تعالى : " بسم الله مجراها ومرساها " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبوبكر عن عاصم : " مجراها " بضم الميم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : " مجراها " بفتح الميم وكسر الراء . وكلهم قرؤوا بضم الميم من " مرساها " إلا أن ابن كثير ، وأبا عمرو ، وابن عامر ، وحفصا عن عاصم ، كانوا يفتحون السين . ونافع ، وأبو بكر عن عاصم ، كانا يقرآنها بين الكسر والتفخيم . وكان حمزة ، والكسائي ، وخلف ، يميلونها . وليس في هؤلاء أحد جعلها نعتا لله ، وإنما جعل الوصفين نعتا لله تعالى ، الحسن ، وقتادة ، وحميد الأعرج ، وإسماعيل بن مجالد عن عاصم ، فقرؤوا " مجريها ومرسيها " بضم الميم وبياءين صحيحتين ، مثل مبديها ومنشيها . وقرأ ابن مسعود : " مجراها " بفتح الميم ، وإمالة الراء بعدها ألف ، " ومرساها " برفع الميم ، وإمالة السين بعدها ألف . وقرأ أبو رزين ، وأبو المتوكل : " مجراها " بفتح الميم والراء ، وبألف بعدها ، ومرساها ، برفع الميم وفتح السين ، وبألف بعدها . وقرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر : " مجراها ومرساها " بفتح الميم فيهما جميعا ، وفتح الراء والسين ، وبألف بعدهما . [ ص: 109 ] وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الميمين ، إلا أنه أمال الراء والسين فيهما . وقرأ أبو عمران الجوني ، وابن جبير ، برفع الميم فيهما ، وفتح الراء والسين ، وبألف بعدهما جميعا . فمن قرأ بضم الميمين ، جعله من أجرى وأرسى . ومن فتحهما ، جعله مصدرا من جرى الشيء يجري مجرى ، ورسى يرسي مرسى . قال الزجاج : قوله " بسم الله " أي : بالله ، والمعنى : أنه أمرهم أن يسموا في وقت جريها ووقت استقرارها .

    ومن قرأ بضم الميمين ، فالمعنى : بالله إجراؤها ، وبالله إرساؤها . ومن فتحهما ، فالمعنى : بالله يكون جريها ، وبالله يقع إرساؤها ، أي : إقرارها . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول : من ضم الميم في " مجراها " أراد : أجراها الله مجرى ، ومن فتحها ، أراد : جرت مجرى . وقال الضحاك : كان إذا أراد أن تجري ، قال : بسم الله فجرت . وإذا أراد أن ترسي ، قال : بسم الله ، فرست .
    وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين

    قوله تعالى : " وهي تجري بهم في موج كالجبال " شبهه بالجبال في عظمه وارتفاعه ، ويقال : إن الماء ارتفع على أطول جبل في الأرض أربعين ذراعا ، ويروى خمس عشرة ذراعا . وذكر بعض المفسرين أنه ارتفع نحو السماء سبعين فرسخا من الأرض .

    قوله تعالى : " ونادى نوح ابنه " لا يختلفون أنه كان كافرا . وفي اسمه قولان :

    أحدهما : كنعان ، وهو قول الأكثرين . والثاني : اسمه يام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عبيد بن عمير ، وابن إسحاق .

    [ ص: 110 ] قوله تعالى : " وكان في معزل " المعزل : المكان المنقطع . ومعنى العزل : التنحية . وفي معنى الكلام وجهان ذكرهما الزجاج .

    أحدهما : في معزل من السفينة . والثاني : في معزل من دين أبيه .

    قوله تعالى : " يا بني اركب معنا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : " يابني اركب " مضافة ، بكسر الياء . وروى أبوبكر عن عاصم " يابني " مفتوحة الياء ها هنا ، وباقي القرآن مكسورة . وروى حفص عنه بالفتح في كل القرآن " يابني " إذا كان واحدا . قال النحويون : الأصل في " بني " ثلاث ياءات ، ياء التصغير ، وياء بعدها هي لام الفعل ، وياء بعد لام الفعل هي ياء الإضافة . فمن قرأ " يابني " أراد يابنيي ، فحذف ياء الإضافة ، وترك الكسرة تدل عليها ، كما يقال : يا غلام أقبل . ومن فتح الياء ، أبدل من كسرة لام الفعل فتحة ، استثقالا لاجتماع الياءات مع الكسرة ، فانقلبت ياء الإضافة ألفا ، ثم حذفت الألف كما تحذف الياء ، فبقيت الفتحة على حالها . وقيل : إن المعنى : يا بني آمن واركب معنا .

    قوله تعالى : " سآوي " أي : سأصير وأرجع " إلى جبل يعصمني " أي : يمنعني " من الماء " أي : من تغريق الماء .

    " قال لا عاصم اليوم " فيه قولان :

    أحدهما : لا مانع اليوم من أمر الله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : لا معصوم ، ومثله : ماء دافق ، أي : مدفوق ، وسر كاتم ، وليل نائم ، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى : " إلا من رحم " قال الزجاج : هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن من رحم الله فإنه معصوم ، قال مقاتل : إلا من رحم فركب السفينة .

    [ ص: 111 ] قوله تعالى : " وحال بينهما الموج " في المكني عنها قولان :

    أحدهما : أنهما ابن نوح والجبل الذي زعم أنه يعصمه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد . والثاني : نوح وابنه ، قاله مقاتل .
    وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين

    قوله تعالى : " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " وقف قوم على ظاهر الآية ، وقالوا : إنما ابتلعت ما نبع منها ، ولم تبتلع ماء السماء ، فصار ذلك بحارا وأنهارا ، وهو معنى قول ابن عباس . وذهب آخرون إلى أن المراد : ابلعي ماءك الذي عليك ، وهو ما نبع من الأرض ونزل من السماء ، وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض .

    قوله تعالى : " ويا سماء أقلعي " أي : أمسكي عن إنزال الماء . قال ابن الأنباري : لما تقدم ذكر الماء ، علم أن المعنى : أقلعي عن إنزال الماء .

    قوله تعالى : " وغيض الماء " أي : نقص . قال الزجاج : يقال غاض الماء يغيض : إذا غاب في الأرض . ويجوز إشمام الضم في الغين .

    قوله تعالى : " وقضي الأمر " قال ابن عباس : غرق من غرق ، ونجا من نجا . وقال مجاهد : قضي الأمر : هلاك قوم نوح . وقال ابن قتيبة : " وقضي [ ص: 112 ] الأمر " أي : فرغ منه . قال ابن الأنباري : والمعنى : أحكمت هلكة قوم نوح ، فلما دلت القصة على ما يبين هلكتهم ، أغنى عن نعت الأمر .

    قوله تعالى : " واستوت " يعني السفينة " على الجودي " وهو اسم جبل . وقرأ الأعمش ، وابن أبي عبلة : " على الجودي " بسكون الياء . قال ابن الأنباري : وتشديد الياء في " الجودي " لأنها ياء النسبة ، فهي كالياء في علوي ، وهاشمي . وقد خففها بعض القراء ، ومن العرب من يخفف ياء النسبة ، فيسكنها في الرفع ، والخفض ، ويفتحها في النصب ، فيقول : قام زيد العلوي ، ورأيت زيدا العلوي .

    قال ابن عباس : دارت السفينة بالبيت أربعين يوما ، ثم وجهها الله إلى الجودي فاستقرت عليه .

    واختلفوا أين هذا الجبل على ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه بالموصل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .

    والثاني : بالجزيرة ، قاله مجاهد ، وقتادة . وقال مقاتل : هو بالجزيرة قريب من الموصل .

    والثالث : أنه بناحية آمد ، قاله الزجاج .

    وفي علة استوائها عليه قولان :

    أحدهما : أنه لم يغرق ، لأن الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت ، وتواضع هو فلم يغرق ، فأرست عليه ، قاله مجاهد .

    والثاني : أنه لما قل الماء أرست عليه ، فكان استواؤها عليه دلالة على قلة الماء .

    قوله تعالى : " وقيل بعدا للقوم الظالمين " قال ابن عباس : بعدا من رحمة الله للقوم الكافرين .

    [ ص: 113 ] فإن قيل : ما ذنب من أغرق من البهائم والأطفال ؟

    فالجواب : أن آجالهم حضرت ، فأميتوا بالغرق ، قاله الضحاك ، وابن جريج .

    قوله تعالى : " رب إن ابني من أهلي " إنما قال نوح هذا ، لأن الله تعالى وعده نجاة أهله ، فقال : " وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين " قال ابن عباس : أعدل العادلين . وقال ابن زيد : فأنت أحكم الحاكمين بالحق .

    واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين :

    أحدهما : أنه ابن نوح لصلبه ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، والجمهور .

    والثاني : أنه ولد على فراشه لغير رشدة ولم يكن ابنه . روى ابن الأنباري بإسناده عن الحسن أنه قال : لم يكن ابنه ، إن امرأته فجرت . وعن الشعبي قال : لم يكن ابنه ، إن امرأته خانته ، وعن مجاهد نحو ذلك . وقال ابن جريج : ناداه نوح وهو يحسب أنه ابنه ، وكان ولد على فراشه . فعلى القول الأول ، يكون في معنى قوله : " إنه ليس من أهلك " قولان :

    أحدهما : ليس من أهل دينك .

    والثاني : ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم . قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنما المعنى : ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم . وعلى القول [ ص: 114 ] الآخر : الكلام على ظاهره ، والأول أصح ، لموافقته ظاهر القرآن ، ولاجتماع الأكثرين عليه ، وهو أولى من رمي زوجة نبي بفاحشة .

    قوله تعالى : " إنه عمل غير صالح " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : " إنه عمل " رفع منون " غير صالح " برفع الراء ، وفيه قولان :

    أحدهما : أنه يرجع إلى السؤال فيه ، فالمعنى : سؤلك إياي فيه عمل غير صالح ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وهذا ظاهر ، لأنه قد تقدم السؤال فيه في قوله : " رب إن ابني من أهلي " فرجعت الكناية إليه .

    والثاني : أنه يرجع إلى المسؤول فيه .

    وفي هذا المعنى قولان : أحدهما : أنه لغير رشدة ، قاله الحسن . والثاني : أن المعنى : إنه ذو عمل غير صالح ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري : من قال : هو لغير رشدة ، قال : المعنى : إن أصل ابنك الذي تظن أنه ابنك عمل غير صالح . ومن قال : إنه ذو عمل غير صالح ، قال : حذف المضاف ، وأقام العمل مقامه ، كما تقول العرب : عبد الله إقبال وإدبار ، أي : صاحب إقبال وإدبار . وقرأ الكسائي : " عمل " بكسر الميم وفتح اللام " غير صالح " بفتح الراء ، يشير إلى أنه مشرك .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #291
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (291)
    صــ 115 إلى صــ 121



    قوله تعالى : " فلا تسألني ما ليس لك به علم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : " فلا تسألن " بفتح اللام ، وتشديد النون ، غير أن نافعا ، وابن عامر ، كسرا النون ، وفتحها ابن كثير ، وحذفوا الياء في الوصل والوقف . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، بسكون اللام وتخفيف النون ، غير أن أبا عمرو ، [ ص: 115 ] وأبا جعفر ، أثبتا الياء في الوصل ، وحذفاها في الوقف ، ووقف عليها يعقوب بالياء ، والباقون يحذفونها في الحالين . قال أبو علي : من كسر النون ، فقد عدى السؤال إلى مفعولين ، أحدهما : اسم المتكلم ، والآخر : الاسم الموصول ، وحذفت النون المتصلة بياء المتكلم لاجتماع النونات . وأما إثبات الياء في الوصل فهو الأصل ، وحذفها أخف ، والكسرة تدل عليها ، وتعلم أن المفعول مراد في المعنى .

    ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه نسبته إليه ، وليس منه .

    والثاني : في إدخاله إياه في جملة أهله الذين وعده نجاتهم .

    والثالث : سؤاله في إنجاء كافر من العذاب .

    قوله تعالى : " إني أعظك أن تكون من الجاهلين " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن تكون من الجاهلين في سؤالك من ليس من حزبك .

    والثاني : من الجاهلين بوعدي ، لأني وعدت بإنجاء المؤمنين .

    والثالث : من الجاهلين بنسبك ، لأنه ليس من أهلك .
    قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم

    قوله تعالى : " يا نوح اهبط " قال ابن عباس : يريد : من السفينة إلى الأرض . " بسلام منا " أي : بسلامة .

    قوله تعالى : " وبركات عليك " قال المفسرون : البركات عليه : أنه صار أبا للبشر جميعا ، لأن جميع الخلق من نسله . " وعلى أمم ممن معك " قال ابن عباس : يريد : من ولدك . قال ابن الأنباري : المعنى : من ذراري من معك ، والمراد : [ ص: 116 ] المؤمنون من ذريته . ثم ذكر الكفار ، فقال : " وأمم " أي : من الذرية أيضا ، والمعنى : وفيمن نصف لك أمم ، وفيمن نقص عليك أمره أمم . " سنمتعهم " أي : في الدنيا " ثم يمسهم منا عذاب أليم " في الآخرة . قال محمد بن كعب القرظي : لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا وقد دخل في ذلك السلام والبركات ، ولم يبق كافر إلا دخل في ذلك المتاع والعذاب .
    تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين

    قوله تعالى : " تلك من أنباء الغيب " في المشار إليه بـ " تلك " قولان :

    أحدهما : قصة نوح . والثاني : آيات القرآن ، والمعنى : تلك من أخبار ما غاب عنك وعن قومك .

    فإن قيل : كيف قال هاهنا : " تلك " ، وفي مكان آخر " ذلك " ؟

    فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : " تلك " إشارة إلى آيات القرآن ، و " ذلك " إشارة إلى الخبر والحديث ، وكلاهما معروف في اللغة الفصيحة ، يقول [ ص: 117 ] الرجل : قد قدم فلان ، فيقول سامع قوله : قد فرحت به ، وقد سررت بها ، فإذا ذكر ، عنى القدوم ، وإذا أنث ، ذهب إلى القدمة .

    قوله تعالى : " من قبل هذا " يعني القرآن . " فاصبر " كما صبر نوح على أذى قومه " إن العاقبة " أي : آخر الأمر بالظفر والتمكين " للمتقين " أي : لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح .

    قوله تعالى : " إن أنتم إلا مفترون " أي : ما أنتم إلا كاذبون في إشراككم مع الله الأوثان . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [يونس :72] إلى قوله : " يرسل السماء عليكم مدرارا " وهذا أيضا قد سبق تفسيره في سورة [الأنعام :61] . والسبب في قوله لهم ذلك ، أن الله تعالى حبس المطر عنهم ثلاث سنين ، وأعقم أرحام نسائهم ، فوعدهم إحياء بلادهم وبسط الرزق لهم إن آمنوا .

    قوله تعالى : " ويزدكم قوة إلى قوتكم " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الولد وولد الولد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : يزدكم شدة إلى شدتكم ، قاله مجاهد ، وابن زيد .

    والثالث : خصبا إلى خصبكم ، قاله الضحاك .

    قوله تعالى : " ولا تتولوا مجرمين " قال مقاتل : لا تعرضوا عن التوحيد مشركين .

    قوله تعالى : " ما جئتنا ببينة " أي : بحجة واضحة . " وما نحن بتاركي آلهتنا " يعنون الأصنام . " عن قولك " أي : بقولك ، " والباء " و " عن " يتعاقبان .
    إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم

    [ ص: 118 ] قوله تعالى : " إن نقول " أي : ما نقول في سبب مخالفتك إيانا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لسبك إياها ، فالذي تظهر من عيبها لما لحق عقلك من التغيير . قال ابن قتيبة : يقال عراني كذا ، واعتراني : إذا ألم بي . ومنه قيل لمن أتاك يطلب نائلك ، عار ، ومنه قول النابغة :


    أتيتك عاريا خلقا ثيابي على خوف تظن بي الظنون


    قوله تعالى : " إني أشهد الله " إلى آخر الآية . حرك ياء " إني " نافع . ومعنى الآية : إن كنتم تقولون : إن الآلهة عاقبتني لطعني عليها ، فإني على يقين من عيبها والبراءة منها ، وها أنا ذا أزيد في الطعن عليها ، " فكيدوني جميعا " أي : احتالوا أنتم وأوثانكم في ضري ، ثم لا تمهلون . قال الزجاج : وهذا من أعظم آيات الرسل ، أن يكون الرسول وحده ، وأمته متعاونة عليه ، فيقول لهم : كيدوني ، فلا يستطيع أحد منهم ضره ، وكذلك قال نوح لقومه : فأجمعوا أمركم وشركاءكم [يونس :71] . وقال محمد صلى الله عليه وسلم : فإن كان لكم كيد فكيدون [المرسلات :39] .

    قوله تعالى : " إلا هو آخذ بناصيتها " قال أبو عبيدة : المعنى : أنها في قبضته وملكه وسلطانه .

    فإن قيل : لم خص الناصية ؟

    فالجواب : أن الناصية شعر مقدم الرأس ، فإذا أخذت بها من شخص ، فقد ملكت سائر بدنه ، وذل لك .

    قوله تعالى : " إن ربي على صراط مستقيم " قال مجاهد : على الحق ، وقال غيره : في الكلام إضمار ، تقديره : إن ربي يدل على صراط مستقيم .

    [ ص: 119 ] فإن قيل : ما وجه المناسبة بين قوله : " إلا هو آخذ بناصيتها " وبين كونه على صراط مستقيم ؟ فعنه جوابان :

    أحدهما : أنه لما أخبر أنه آخذ بنواصي الخلق ، كان معناه : أنهم لا يخرجون عن قبضته ، فأخبر أنه على طريق لا يعدل عنه هارب ، ولا يخفى عليه مستتر .

    والثاني : أن المعنى : أنه وإن كان قادرا عليهم ، فهو لا يظلمهم ، ولا يريد إلا العدل ، ذكرهما ابن الأنباري .
    فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ

    قوله تعالى : " فإن تولوا " فيه قولان :

    أحدهما : أنه فعل ماض ، معناه : فإن أعرضوا . فعلى هذا ، في الآية إضمار ، تلخيصه : فإن أعرضوا فقل لهم : قد أبلغتكم ، هذا مذهب مقاتل في آخرين .

    والثاني : أنه خطاب للحاضرين ، وتقديره فإن تتولوا ، فاستثقلوا الجمع بين تاءين متحركتين ، فاقتصر على إحداهما ، وأسقطت الأخرى ، كما قال النابغة


    المرء يهوى أن يعيـ ش وطول عيش قد يضره

    [ ص: 120 ] تفنى بشاشته ويبـ
    قى بعد حلو العيش مره

    وتصرف الأيام حـ
    تى ما يرى شيئا يسره


    أراد : وتتصرف الأيام ، فأسقط إحدى التاءين ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " ويستخلف ربي قوما غيركم " فيه وعيد لهم بالهلاك . " إن ربي على كل شيء حفيظ " فيه قولان :

    أحدهما : حفيظ على أعمال العباد حتى يجازيهم بها . والثاني : أن " على " بمعنى اللام ، فالمعنى : لكل شيء حافظ ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء .
    ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ

    قوله تعالى : " ولما جاء أمرنا " فيه قولان :

    أحدهما : جاء عذابنا ، قاله ابن عباس . والثاني : جاء أمرنا بهلاكهم

    قوله تعالى : " نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا " فيه قولان :

    أحدهما : نجيناهم من العذاب بنعمتنا . والثاني : نجيناهم بأن هديناهم إلى الإيمان ، وعصمناهم من الكفر ، روي القولان عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " ونجيناهم من عذاب غليظ " أي : شديد ، وهو ما استحقه قوم هود من عذاب الدنيا والآخرة .
    وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد

    قوله تعالى : " وتلك عاد " يعني القبيلة . " وعصوا رسله " لقائل أن يقول : إنما أرسل إليهم هود وحده ، فكيف ذكر بلفظ الجمع ؟

    [ ص: 121 ] فالجواب من ثلاثة أوجه :

    أحدها : أنه قد يذكر لفظ الجمع ويراد به الواحد ، كقوله : أم يحسدون الناس [النساء :54] والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده .

    والثاني : أن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الكل .

    والثالث : أن كل مرة ينذرهم فيها هي رسالة مجددة وهو بها رسول .

    قوله تعالى : " واتبعوا " أي : واتبع الأتباع أمر الرؤساء .

    والجبار : الذي طال وفات اليد .

    وللعلماء في الجبار أربعة أقوال :

    أحدها : أنه الذي يقتل على الغضب ويعاقب على الغضب ، قاله الكلبي .

    والثاني : أنه الذي يجبر الناس على ما يريد ، قاله الزجاج .

    والثالث : أنه المسلط .

    والرابع : أنه العظيم في نفسه ، المتكبر على العباد ، ذكرهما ابن الأنباري . والذي ذكرناه يجمع هذه الأقوال ، وقد زدنا هذا شرحا في [المائدة :22] .

    وأما العنيد : فهو الذي لا يقبل الحق . قال ابن قتيبة : العنود ، والعنيد ، والعاند : المعارض لك بالخلاف عليك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #292
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (292)
    صــ 122 إلى صــ 128




    وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا [ ص: 122 ] أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ

    قوله تعالى : " وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة " أي : ألحقوا لعنة تنصرف معهم . " ويوم القيامة " أي : وفي يوم القيامة لعنوا أيضا . " ألا إن عادا كفروا ربهم " أي : بربهم فحذف الباء ، وأنشدوا :


    أمرتك الخير فافعل ما أمرت به [فقد تركتك ذا مال وذا نشب]


    قال الزجاج : قوله : " ألا " ابتداء وتنبيه ، و " بعدا " منصوب على معنى : أبعدهم الله فبعدوا بعدا ، والمعنى : أبعدهم من رحمته .

    [ ص: 123 ] قوله تعالى : " هو أنشأكم من الأرض " فيه قولان :

    أحدهما : خلقكم من آدم ، وآدم خلق من الأرض . والثاني : أنشأكم في الأرض .

    وفي قوله : " واستعمركم فيها " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أعمركم فيها أي : جعلكم ساكنيها مدة أعماركم ، ومنه العمرى ، وهذا قول مجاهد .

    والثاني : أطال أعماركم ، وكانت أعمارهم من ألف سنة إلى ثلاثمائة ، قاله الضحاك .

    والثالث : جعلكم عمارها ، قاله أبو عبيدة .

    قوله تعالى : " قد كنت فينا مرجوا قبل هذا " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم ، لأنه كان ذا حسب وثروة ، قاله كعب .

    والثاني : أنه كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم ، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم ، فلما أظهر إنذارهم ، انقطع رجاؤهم منه ، وإلى نحو هذا ذهب مقاتل .

    والثالث : أنهم كانوا يرجون خيره ، فلما أنذرهم ، زعموا أن رجاءهم لخيره قد انقطع ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " وإننا لفي شك " إن قال قائل : لم قال هاهنا : " وإننا " وقال في (إبراهيم) : " وإنا " ؟

    [ ص: 124 ] فالجواب : أنهما لغتان من لغات قريش السبع التي نزل القرآن عليها . قال الفراء : من قال : " إننا " أخرج الحرف على أصله ، لأن كناية المتكلمين " نا " فاجتمعت ثلاث نونات ، نونا " إن " والنون المضمومة إلى الألف ; ومن قال : " إنا " استثقل الجمع بين ثلاث نونات ، وأسقط الثالثة ،وأبقى الأوليين ; وكذلك يقال : إني وإنني ، ولعلي ولعلني ـ وليتي وليتني ، قال الله في اللغة العليا : لعلي أبلغ الأسباب [غافر :36] ، وقال الشاعر في اللغة الأخرى :
    أريني جوادا مات هزلا لعلني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا


    وقال تعالى : يا ليتني كنت معهم [النساء :73] ، وقال الشاعر :


    كمنية جابر إذ قال ليتي أصادفه وأتلف بعض مالي


    فأما المريب ، فهو الموقع للريبة والتهمة . والرحمة يراد بها هاهنا : النبوة .

    قوله تعالى : " فما تزيدونني غير تخسير " التخسير : النقصان .

    وفي معنى الكلام قولان :

    أحدهما : فما تزيدونني غير بصارة في خسارتكم ، قاله ابن عباس . وقال الفراء : المعنى : فما تزيدونني غير تخسير لكم ، أي : كلما اعتذرتم عندي بعذر فهو يزيدكم تخسيرا . وقال ابن الأعرابي : غير تخسير لكم ، لا لي . وقال بعضهم : المعنى : فما تزيدونني بما قلتم إلا نسبتي لكم إلى الخسارة .

    [ ص: 125 ] والقول الثاني : فما تزيدونني غير الخسران إن رجعت إلى دينكم ، وهذا معنى قول مقاتل .

    فإن قيل : فظاهر هذا أنه كان خاسرا ، فزادوه خسارا ، فقد أسلفنا الجواب في قوله : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا [التوبة :47] .

    قوله تعالى : " هذه ناقة الله لكم آية " قد شرحناها في سورة [الأعراف :73] .

    قوله تعالى : " تمتعوا في داركم " أي : استمتعوا بحياتكم ، وعبر عن الحياة بالتمتع ، لأن الحي يكون متمتعا بالحواس .

    قوله تعالى : " ثلاثة أيام " قال المفسرون : لما عقرت الناقة صعد فصيلها إلى الجبل ، ورغا ثلاث مرات ، فقال صالح : لكل رغوة أجل يوم ، ألا إن اليوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني محمرة ، واليوم الثالث مسودة ; فلما أصبحوا في اليوم الأول ، إذا وجوههم مصفرة ، فصاحوا وضجوا وبكوا ، وعرفوا أنه العذاب ، فلما أصبحوا في اليوم الثاني ، إذا وجوههم محمرة ، فضجوا ، وبكوا ، فلما أصبحوا في اليوم الثالث ، إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار ، فصاحوا جميعا : ألا قد حضركم العذاب ; فتكفنوا وألقوا أنفسهم بالأرض ، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، فلما أصبحوا في اليوم الرابع ، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ، فتقطعت قلوبهم في صدورهم . وقال مقاتل : حفروا لأنفسهم قبورا ، فلما ارتفعت الشمس من اليوم الرابع ، ولم يأتهم العذاب ، ظنوا أن الله قد رحمهم ، فخرجوا من قبورهم يدعو بعضهم بعضا ، إذ نزل جبريل فقام فوق المدينة فسد ضوء الشمس ، فلما عاينوه دخلوا قبورهم ، فصاح بهم صيحة : موتوا عليكم لعنة الله فخرجت أرواحهم ، وتزلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم .

    قوله تعالى : " ذلك وعد " أي : العذاب " غير مكذوب " أي : غير كذب .

    [ ص: 126 ] قوله تعالى : " ومن خزي يومئذ " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، " يومئذ " بكسر الميم . وقرأ الكسائي بفتحها مع الإضافة . قال مكي : من كسر الميم ، أعرب ، وخفض ، لإضافة الخزي إلى اليوم ، ولم يبنه ; ومن فتح ، بنى اليوم على الفتح ، لإضافته إلى غير متمكن ، وهو " إذ " . وقرأ ابن مسعود " ومن خزي " بالتنوين ، " يومئذ " بفتح الميم . قال ابن الأنباري : هذه الواو في قوله : " ومن خزي " معطوفة على محذوف ، تقديره : نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ . قال : ويجوز أن تكون دخلت لفعل مضمر ، تأويله : نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ، ونجيناهم من خزي يومئذ . قال : وإنما قال : " وأخذ " لأن الصيحة محمولة على الصياح .

    قوله تعالى : " ألا بعدا لثمود " اختلفوا في صرف " ثمود " وترك إجرائه في خمسة مواضع : في (هود :69) ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ، وفي (الفرقان :38) وعادا وثمود وأصحاب الرس ، وفي (العنكبوت :38) وعادا وثمود وقد تبين لكم ، وفي (النجم :51) وثمود فما أبقى . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر بالتنوين في أربعة مواضع منها ، وتركوا " ألا بعدا لثمود " فلم يصرفوه . وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف ، وصرفهن الكسائي . واختلف عن عاصم ، فروى حسين الجعفي عن أبي بكر عنه أنه أجرى الأربعة الأحرف مثل أبي عمرو ; وروى يحيى بن آدم أنه أجرى ثلاثة ، في (هود :69) " ألا إن ثمودا " ، وفي (الفرقان :38) ، و(العنكبوت :38) . وروى حفص عنه أنه لم يجر شيئا منها مثل حمزة .

    واعلم أن ثمودا يراد به القبيلة تارة ، ويراد به الحي تارة ، فإذا أريد به القبيلة ، [ ص: 127 ] لم يصرف ، وإذا أريد به الحي ، صرف . وما أخللنا به ، فقد سبق تفسيره [الأعراف :73 ، والتوبة :70] إلى قوله : " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم " .

    والرسل هاهنا : الملائكة وفي عددهم ستة أقوال :

    أحدها : أنهم كانوا ثلاثة ، جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير . وقال مقاتل : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت . والثاني : أنهم كانوا اثني عشر ، روي عن ابن عباس أيضا . والثالث : ثمانية ، قاله محمد بن كعب . والرابع : تسعة ، قاله الضحاك . والخامس : أحد عشر ، قاله السدي . والسادس : أربعة ، حكاه الماوردي .

    وفي هذه البشرى أربعة أقوال :

    أحدها : أنها البشرى بالولد ، قاله الحسن ، ومقاتل . والثاني : بهلاك قوم لوط ، قاله قتادة . والثالث : بنبوته ، قاله عكرمة . والرابع : بأن محمدا يخرج من صلبه ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " قالوا سلاما " قال ابن الأنباري : انتصب بالقول ، لأنه حرف مقول ، والسلام الثاني مرفوع بإضمار " عليكم " . وقال الفراء : فيه وجهان :

    أحدهما : أنه أضمر " عليكم " كما قال الشاعر :


    فقلنا السلام فاتقت من أميرها فما كان إلا ومؤها بالحواجب


    والعرب تقول : التقينا فقلنا : سلام سلام .

    والثاني : أن القوم سلموا ، فقال حين أنكرهم هو : سلام ، فمن أنتم ؟ لإنكاره إياهم . وقرأ حمزة ، والكسائي : " قال سلم " وهو بمعنى سلام ، كما [ ص: 128 ] قالوا : حل وحلال ، وحرم وحرام ; فعلى هذا ، يكون معنى " سلم " : سلام عليكم . قال أبو علي : فيكون معنى القراءتين واحدا وإن اختلف اللفظان . وقال الزجاج : من قرأ " سلم " فالمعنى : أمرنا سلم ، أي : لا بأس علينا .

    قوله تعالى : " فما لبث " أي : ما أقام حتى جاء بعجل حنيذ ، لأنه ظنهم أضيافا ، وكانت الملائكة قد جاءته في صورة الغلمان الوضاء .

    وفي الحنيذ ستة أقوال :

    أحدها : أنه النضيج ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

    والثاني : أنه الذي يقطر ماؤه ودسمه وقد شوي ، قاله شمر بن عطية .

    والثالث : أنه ما حفرت الأرض ثم غممته ، وهو من فعل أهل البادية ، معروف ، وأصله : محنوذ ، فقيل : حنيذ ، كما قيل : طبيخ للمطبوخ ، وقتيل للمقتول ، هذا قول الفراء .

    والرابع : أنه المشوي ، قاله أبو عبيدة .

    والخامس : المشوي بالحجارة المحماة ، قاله مقاتل ، وابن قتيبة .

    والسادس : السميط ، ذكره الزجاج ، وقال : يقال إنه المشوي فقط ، ويقال : المشوي الذي يقطر ، ويقال : المشوي بالحجارة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #293
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (293)
    صــ 129 إلى صــ 135


    فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط


    قوله تعالى : " فلما رأى أيديهم " يعني الملائكة " لا تصل إليه " يعني العجل " نكرهم " أي : أنكرهم . قال أبو عبيدة : نكرهم وأنكرهم واستنكرهم ، سواء ، قال الأعشى :

    [ ص: 129 ]
    فأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا


    قوله تعالى : " وأوجس منهم خيفة " أي : أضمر في نفسه خوفا . قال الفراء : وكانت سنة في زمانهم إذا ورد عليهم القوم فأتوهم بالطعام فلم يمسوه ، ظنوا أنهم عدو أو لصوص ، فهنالك أوجس في نفسه خيفة ، فرأوا ذلك في وجهه ، فقالوا : " لا تخف " .

    قوله تعالى : " إنا أرسلنا إلى قوم لوط " قال الزجاج : أي : أرسلنا بالعذاب إليهم . قال ابن الأنباري : وإنما أضمر ذلك هاهنا ، لقيام الدليل عليه بذكر الله تعالى له في سورة أخرى .
    وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب

    قوله تعالى : " وامرأته قائمة " واسمها سارة . واختلفوا أين كانت قائمة على ثلاثة أقوال :

    أحدها : وراء الستر تسمع كلامهم ، قاله وهب .

    والثاني : كانت قائمة تخدمهم ، قاله مجاهد ، والسدي .

    والثالث : كانت قائمة تصلي ، قاله محمد بن إسحاق .

    [ ص: 130 ] وفي قوله : " فضحكت " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن الضحك ها هنا بمعنى التعجب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أن معنى " ضحكت " : حاضت ، قاله مجاهد ، وعكرمة . قال ابن قتيبة : وهذا من قولهم : ضحكت الأرنب : إذا حاضت فعلى هذا ، يكون حيضها حينئذ تأكيدا للبشارة بالولد ، لأن من لا تحيض لا تحمل . وقال الفراء : لم نسمع من ثقة أن معنى " ضحكت " حاضت . قال ابن الأنباري : أنكر الفراء ، وأبو عبيدة ، وأبو عبيد ، أن يكون " ضحكت " بمعنى حاضت ، وعرفه غيرهم . قال الشاعر :


    تضحك الضبع لقتلى هذيل وترى الذئب لها يستهل


    قال بعض أهل اللغة : معناه : تحيض .

    والثالث : أنه الضحك المعروف ، وهو قول الأكثرين .

    وفي سبب ضحكها ستة أقوال :

    أحدها : أنها ضحكت من شدة خوف إبراهيم من أضيافه ، وقالت : من ماذا يخاف إبراهيم ، وإنما هم ثلاثة ، وهو في أهله وغلمانه ؟ رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .

    والثاني : أنها ضحكت من بشارة الملائكة لإبراهيم بالولد ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا ، ووهب بن منبه ; فعلى هذا ، إنما ضحكت سرورا بالبشارة ، ويكون في الآية تقديم وتأخير ، المعنى : وامرأته قائمة فبشرناها فضحكت ، وهو اختيار ابن قتيبة .

    [ ص: 131 ] والثالث : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم ، قاله قتادة .

    والرابع : ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل ، وقالت : عجبا لأضيافنا ، نخدمهم بأنفسنا ، وهم لا يأكلون طعامنا ! قاله السدي .

    والخامس : ضحكت سرورا بالأمن ، لأنها خافت كخوف إبراهيم ، قاله الفراء .

    والسادس : أنها كانت قالت لإبراهيم : اضمم إليك ابن أخيك لوطا ، فإنه سينزل العذاب بقومه ، فلما جاءت الملائكة بعذابهم ، ضحكت سرورا بموافقتها للصواب ، ذكره ابن الأنباري .

    قال المفسرون : قال جبريل لسارة : أبشري أيتها الضاحكة بولد اسمه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فبشروها أنها تلد إسحاق ، وأنها تعيش إلى أن ترى ولد الولد .

    وفي معنى الوراء قولان :

    أحدهما : أنه بمعنى " بعد " ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره مقاتل ، وابن قتيبة .

    والثاني : أن الوراء : ولد الولد ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الشعبي ، واختاره أبو عبيدة .

    فإن قيل : كيف يكون يعقوب وراء إسحاق وهو ولده لصلبه ، وإنما الوراء : ولد الولد ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : المعنى : ومن وراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب ، لأنه قد كان الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق ، فلو قال : ومن الوراء يعقوب ، لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق ، أم إلى [ ص: 132 ] إسماعيل ؟ فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس . قال : ويجوز أن ينسب ولد إبراهيم من غير إسحاق إلى سارة على المجاز ، فكان تأويل الآية : من الوراء المنسوب إلى سارة ، وإلى إبراهيم من جهة إسحاق ، يعقوب . ومن حمل الوراء على " بعد " لزم ظاهر العربية .

    واختلف القراء في " يعقوب " ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " يعقوب " بالرفع . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : " يعقوب " بالنصب .

    قال الزجاج : وفي رفع " يعقوب " وجهان :

    أحدهما : على الابتداء المؤخر ، معناه التقديم ; والمعنى : ويعقوب يحدث لها من وراء إسحاق .

    والثاني : وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب .

    ومن نصبه ، حمله على المعنى ، والمعنى : وهبنا لها إسحاق ، ووهبنا لها يعقوب .

    قوله تعالى : " يا ويلتى أألد وأنا عجوز " هذه الكلمة تقال عند الإيذان بورود الأمر العظيم . ولم ترد بها الدعاء على نفسها ، وإنما هي كلمة تخف على ألسنة النساء عند الأمر العجيب . وقولها " أألد " استفهام تعجب . قال الزجاج : و " شيخا " منصوب على الحال . قال ابن الأنباري : إنما أشارت بقولها هذا لتنبه على شيخوخته .

    واختلفوا في سن إبراهيم وسارة يومئذ على أربعة أقوال :

    أحدها : أنه كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة ، وسارة بنت ثمان وتسعين سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أنه كان إبراهيم ابن مائة سنة ، وسارة بنت تسع وتسعين ، قاله مجاهد .

    [ ص: 133 ] والثالث : كان إبراهيم ابن تسعين ، وسارة مثله ، قاله قتادة .

    والرابع : كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة ، وسارة بنت تسعين ، قاله عبيد بن عمير ، وابن إسحاق .
    قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد

    قوله تعالى : " قالوا أتعجبين من أمر الله " أي : من قضائه وقدرته ، وهو إيجاد ولد من بين كبيرين . قال السدي : قالت سارة لجبرئيل : ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه فاهتز أخضر ، فقالت : هو إذن لله ذبيح .

    قوله تعالى : " رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت " فيه وجهان :

    أحدهما : أنه من دعاء الملائكة لهم .

    والثاني : أنه إخبار عن ثبوت ذلك لهم .

    ومن تلك البركات وجود أكثر الأنبياء والأسباط من إبراهيم وسارة .

    والحميد بمعنى المحمود . فأما المجيد ، فقال ابن قتيبة : بمعنى الماجد ، وهو الشريف . وقال أبو سليمان الخطابي : هو الواسع الكرم . وأصل المجد في كلامهم : السعة ، يقال : رجل ماجد : إذا كان سخيا واسع العطاء . وفي بعض الأمثال : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار ، أي : استكثرا منها .
    [ ص: 134 ] فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود

    قوله تعالى : " فلما ذهب عن إبراهيم الروع " يعني الفزع الذي أصابه حين امتنعوا من الأكل . " يجادلنا " فيه إضمار أخذ وأقبل يجادلنا ، والمراد : يجادل رسلنا .

    قال المفسرون : لما قالوا له : إنا مهلكو أهل هذه القرية [العنكبوت :31] ، قال : أتهلكون قرية فيها مائة مؤمن ؟ قالوا : لا . قال : أتهلكون قرية فيها خمسون مؤمنا ؟ قالوا : لا . قال : أربعون ؟ قالوا : لا . فما زال ينقص حتى قال : فواحد ؟ قالوا : لا . فقال حينئذ : إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها [العنكبوت :31] ، هذا قول ابن إسحاق . وقال غيره : قيل له : إن كان فيهم خمسة لم نعذبهم ، فما كان فيهم سوى لوط وابنتيه . وقال سعيد بن جبير : قال لهم أتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا ؟ قالوا : لا ; وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر مع امرأة لوط ، فسكت واطمأنت نفسه ; وإنما كانوا ثلاثة عشر فأهلكوا .

    قوله تعالى : " إن إبراهيم لحليم أواه " قد فسرناه في (براءة :114) . فعند ذلك قالت الرسل لإبراهيم : " يا إبراهيم أعرض عن هذا " يعنون الجدال . " إنه قد جاء أمر ربك " بعذابهم . وقيل : قد جاء عذاب ربك ، فليس بمردود ، لأن الله قد قضى به .
    ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا [ ص: 135 ] يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب

    قوله تعالى : " ولما جاءت رسلنا لوطا " قال المفسرون : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط ، فأتوها عشاء . وقال السدي عن أشياخه : أتوها نصف النهار ، فلما بلغوا نهر سدوم ، لقوا بنت لوط تستقي الماء لأهلها ، فقالوا لها : ياجارية ، هل من منزل ؟ قالت : نعم ، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم فرقا عليهم من قومها ، فأتت أباها ، فقالت : يا أبتاه ، أدرك فتيانا على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم ، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم ; وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلا ; فجاء بهم ، ولم يعلم بهم أحدا إلا أهل بيت لوط ; فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، فجاؤوا يهرعون إليه .

    قوله تعالى : " سيء بهم " فيه قولان :

    أحدهما : ساء ظنه بقومه ، قاله ابن عباس .

    والثاني : ساءه مجيء الرسل ، لأنه لم يعرفهم ، وأشفق عليهم من قومه ، قاله ابن جرير .

    قال الزجاج : وأصل " سيء بهم " سوئ بهم ، من السوء ، إلا أن الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #294
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (294)
    صــ 136 إلى صــ 142



    [ ص: 136 ] قوله تعالى : " وضاق بهم ذرعا " قال ابن عباس : ضاق ذرعا بأضيافه . قال الفراء : الأصل فيه : وضاق ذرعه بهم ، فنقل الفعل عن الذرع إلى ضمير لوط ، ونصب الذرع بتحول الفعل عنه ، كما قال : واشتعل الرأس شيبا [مريم :4] ومعناه : اشتعل شيب الرأس .

    قال الزجاج : يقال : ضاق فلان بأمره ذرعا : إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصا . وذكر ابن الأنباري فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن معناه : وقع به مكروه عظيم يصل إلى دفعه عن نفسه ; فالذرع كناية عن هذا المعنى .

    والثاني : أن معناه : ضاق صبره وعظم المكروه عليه ; وأصله من ذرع فلانا القيء : إذا غلبه وسبقه .

    والثالث : أن المعنى : ضاق بهم وسعه ، فناب الذرع والذراع عن الوسع ، لأن الذراع من اليد ، والعرب تقول : ليس هذا في يدي ، يعنون : ليس هذا في وسعي ; ويدل على صحة هذا أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع ، فيقولون : ضقت بهذا الأمر ذراعا ، قال الشاعر :


    إليك إليك ضاق بهم ذراعا


    فأما العصيب ، فقال أبو عبيدة : العصيب : الشديد الذي يعصب الناس بالشر ، وأنشد :


    يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا


    وقال أبو عبيد : يقال يوم عصيب ، ويوم عصبصب : إذا كان شديدا .

    [ ص: 137 ] قوله تعالى : " يهرعون إليه " قال ابن عباس ، ومجاهد : " يهرعون " يسرعون . وقال الفراء ، والكسائي : لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة . قال ابن قتيبة : الإهراع شبيه بالرعدة ، يقال : أهرع الرجل : إذا أسرع ، على لفظ ما لم يسم فاعله ، كما يقال : أرعد . قال ابن الأنباري الإهراع فعل واقع بالقوم وهو لهم في المعنى ، كما قالت العرب : قد أولع الرجل بالأمر ، فجعلوه مفعولا ، وهو صاحب الفعل ، ومثله أرعد زيد ، وسهي عمرو من السهو ، كل واحد من هذه الأفاعيل خرج الاسم معه مقدرا تقدير المفعول ، وهو صاحب الفعل لا يعرف له فاعل غيره . قال : وقال بعض النحويين : لا يجوز للفعل أن يجعل فاعله مفعولا ، وهذه الأفعال المذكورة فاعلوها محذوفون ، وتأويل " أولع زيد " : أولعه طبعه وجبلته ، و " أرعد الرجل " : أرعده غضبه ، و " سهي عمرو " جعله ساهيا ماله أو جهله ، و " أهرع " معناه : أهرعه خوفه ورعبه ، فلهذه العلة خرج هؤلاء الأسماء مخرج المفعول به . قال : وقال بعض اللغويين : لا يكون الإهراع إلا إسراع المذعور الخائف ; لا يقال لكل مسرع : مهرع حتى ينضم إلى إسراعه جزع وذعر . قال المفسرون : سبب إهراعهم ، أن امرأة لوط أخبرتهم بالأضياف .

    " ومن قبل " أي : ومن قبل مجيئهم إلى لوط " كانوا يعملون السيئات " يعني فعلهم المنكر .

    وفي قوله : " هؤلاء بناتي " قولان :

    أحدهما : أنهن بناته لصلبه ، قاله ابن عباس .

    فإن قيل : كيف جمع ، وقد كن اثنتين ؟

    فالجواب أنه قد يقع الجمع على اثنين ، كقوله : وكنا لحكمهم شاهدين [الأنبياء :78] .

    [ ص: 138 ] والثاني : أنه عنى نساء أمته ، لأن كل نبي أبو أمته ، والمعنى : أنه عرض عليهم التزويج ، أو أمرهم أن يكتفوا بنسائهم ، وهذا مذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جريج .

    فإن قيل : كيف عرض تزويج المؤمنات على الكافرين ؟ فعنه جوابان :

    أحدهما : أنه قد كان يجوز ذلك في شريعته ، وكان جائزا في صدر الإسلام حتى نسخ ، قاله الحسن .

    والثاني : أنه عرض ذلك عليهم بشرط إسلامهم ، قاله الزجاج ، ويؤكده أن عرضهن عليهم موقوف على عقد النكاح ، فجاز أن يقف على شرط آخر .

    قوله تعالى : " هن أطهر لكم " قال مقاتل : هن أحل من إتيان الرجال .

    قوله تعالى : " فاتقوا الله " فيه قولان :

    أحدهما : اتقوا عقوبته . والثاني : اتقوا معصيته .

    قوله تعالى : " ولا تخزون في ضيفي " حرك ياء " ضيفي " أبو عمرو ، ونافع . وفي معنى هذا الخزي ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الفضيحة ، قاله ابن عباس . والثاني : الاستحياء ، والمعنى : لا تفعلوا بأضيافي فعلا يلزمني الاستحياء منه ، لأن المضيف يلزمه الاستحياء من كل فعل يصل إلى ضيفه . والعرب تقول : قد خزي الرجل يخزى خزاية : إذا استحيى ، قال الشاعر :


    من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها


    والثالث : أنه بمعنى الهلاك ، لأن المعرة التي تقع بالمضيف في هذه الحال تلزمه هلكة ، ذكرهما ابن الأنباري .

    [ ص: 139 ] قال ابن قتيبة : والضيف هاهنا : بمعنى الأضياف ، والواحد يدل على الجميع ، كما تقول : هؤلاء رسولي ووكيلي .

    قوله تعالى : " أليس منكم رجل رشيد " في المراد بالرشيد قولان :

    أحدهما : المؤمن . والثاني : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر . رويا عن ابن عباس .

    قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشد ، فيكون المعنى : أليس منكم مرشد يعظكم ويعرفكم قبيح ماتأتون ؟ فيكون الرشيد من صفة الفاعل ، كالعليم ، والشهيد . ويجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشد ، فيكون المعنى : أليس منكم رجل قد أسعده الله بما منحه من الرشاد يصرفكم عن إتيان هذه المعرة ؟ فيجري رشيد مجرى مفعول ، كالكتاب الحكيم بمعنى المحكم .

    قوله تعالى : " ما لنا في بناتك من حق " فيه قولان :

    أحدهما : مالنا فيهن حاجة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : لسن لنا بأزواج فنستحقهن ، قاله ابن إسحاق ، وابن قتيبة .

    قوله تعالى : " وإنك لتعلم ما نريد " قال عطاء : وإنك لتعلم أنا نريد الرجال لا النساء .

    قوله تعالى : " لو أن لي بكم قوة " أي : جماعة أقوى بهم عليكم ، وقيل : أراد بالقوة البطش . " أو آوي إلى ركن شديد " أي : أنضم إلى عشيرة وشيعة تمنعني . وجواب " لو " محذوف على تقدير : لحلت بينكم وبين المعصية . قال أبو عبيدة : قوله : " آوي " من قولهم : أويت إليك ، فأنا آوي أويا ، [ ص: 140 ] والمعنى : صرت إليك وانضممت . ومجاز الركن هاهنا : العشيرة العزيزة الكثيرة المنيعة ، وأنشد :


    يأوي إلى ركن من الأركان في عدد طيس ومجد باني


    والطيس : الكثير يقال أتانا لبن طيس وشراب طيس أي : كثير .

    واختلفوا أي وقت قال هذا لوط ; فروي عن ابن عباس أن لوطا كان قد أغلق بابه والملائكة معه في الدار ، وهو يناظرهم ويناشدهم وراء الباب ، وهم يعالجون الباب ويرومون تسور الجدار ; فلما رأت الملائكة ما يلقى من الكرب ، قالوا : يا لوط إنا رسل ربك فافتح الباب ودعنا وإياهم ; ففتح الباب فدخلوا ، واستأذن جبريل ربه في عقوبتهم ، فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم ، فانصرفوا يقولون : النجاء النجاء ، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض ; وجعلوا يقولون : يا لوط ، كما أنت حتى تصبح ، يوعدونه ; فقال لهم لوط : متى موعد هلاكهم ؟ قالوا : الصبح ، قال : لو أهلكتموهم الآن ، فقالوا : أليس الصبح بقريب ؟ وقال أبو صالح عن ابن عباس : إنهم لما تواعدوه ، قال في نفسه : ينطلق هؤلاء القوم غدا من عندي ، وأبقى مع هؤلاء فيهلكوني ، فقال : لو أن لي بكم قوة .

    قلت : وإنما يتوجه هذا إذا قلنا : إنه كان قبل علمه أنهم ملائكة . وقال قوم : إنه إنما قال هذا لما كسروا بابه وهجموا عليه . وقال آخرون : لما نهاهم عن أضيافه فأبوا قال هذا .

    وفي الجملة ، ما أراد بالركن نصر الله وعونه ، لأنه لم يخل من ذلك ، وإنما ذهب إلى العشيرة والأسرة .

    وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رحم الله لوطا ، لقد [ ص: 141 ] كان يأوي إلى ركن شديد ، وما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه "

    قوله تعالى : " لن يصلوا إليك " قال مقاتل : فيه إضمار ، تقديره لن يصلوا إليك بسوء ، وذلك أنهم قالوا للوط : إنا نرى معك رجالا سحروا أبصارنا ، فستعلم غدا ما تلقى أنت وأهلك ; فقال له جبريل : " إنا رسل ربك لن يصلوا إليك " .

    قوله تعالى : " فأسر بأهلك " قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي " فأسر " بإثبات الهمز في اللفظ من أسريت . وقرأ ابن كثير ، ونافع " فاسر بأهلك " بغير همز من سريت ، وهما لغتان . قال الزجاج : يقال : سريت ، وأسريت إذا سرت ليلا ، قال الشاعر :


    سريت بهم حتى تكل مطيهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان


    وقال النابغة :


    أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد


    وقد رووه : سرت . فأما أهله ، فقال مقاتل : هم امرأته وابنتاه ، واسم ابنتيه : ربثا وزعرثا . وقال السدي : اسم الكبرى : رية ، واسم الصغرى : عروبة ، [ ص: 142 ] والمراد بأهله : ابنتاه . فأما القطع ، فهو بمعنى القطعة ; يقال : مضى قطع من الليل ، أي : قطعة . قال ابن عباس : يريد به : آخر الليل . وقال ابن قتيبة : " بقطع " أي : ببقية تبقى من آخره . وقال ابن الأنباري : ذكر القطع بمعنى القطعة مختص بالليل ، ولا يقال : عندي قطع من الثوب ، بمعنى : عندي قطعة .

    قوله تعالى : " ولا يلتفت منكم أحد " فيه قولان :

    أحدهما : أنه بمعنى : لا يتخلف منكم أحد ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : أنه الالتفات المعروف ، قاله مجاهد ، ومقاتل .

    قوله تعالى : " إلا امرأتك " قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بنصب التاء . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن جماز عن أبي جعفر برفع التاء . قال الزجاج : من قرأ بالنصب ، فالمعنى : فأسر بأهلك إلا امرأتك . ومن قرأ بالرفع حمله ، على " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " . وإنما أمروا بترك الالتفات لئلا يروا عظيم ما ينزل بهم من العذاب . قاله ابن الأنباري : وعلى قراءة الرفع ، يكون الاستثناء منقطعا ، معناه : لكن امرأتك ، فإنها تلتفت فيصيبها ما أصابهم ; فإذا كان استثناء منقطعا ، كان التفاتها معصية لربها ، لأنه ندب إلى ترك الالتفات . قال قتادة : ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية ، فلما سمعت هدة العذاب ، التفتت فقالت : واقوماه ، فأصابها حجر فأهلكها ، وهو قوله : " إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم " للعذاب " الصبح " .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #295
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (295)
    صــ 143 إلى صــ 149




    قوله تعالى : " أليس الصبح بقريب " قال المفسرون : قالت الملائكة : " إن موعدهم الصبح " فقال : أريد أعجل من ذلك ، فقالوا له : " أليس الصبح بقريب " ؟
    [ ص: 143 ] فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد

    قوله تعالى : " فلما جاء أمرنا " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أمر الله الملائكة بعذابهم . والثاني : أن الأمر بمعنى العذاب . والثالث : أنه بمعنى القضاء بعذابهم .

    قوله تعالى : " جعلنا عاليها سافلها " الكناية تعود إلى المؤتفكات ، وهي قرى قوم لوط ، وقد ذكرناها في (براءة :70) ، ونحن نشير إلى قصة هلاكهم هاهنا . قال ابن عباس : أمر جبريل لوطا بالخروج ، وقال : اخرج وأخرج غنمك وبقرك ، فقال : كيف لي بذلك وقد أغلقت أبواب المدينة ، فبسط جناحه ، وحمله وبنتيه ومالهم شيء ، فأخرجهم من المدينة ، وسأل جبريل ربه : فقال : يا رب ولني هلاك هؤلاء القوم ، فأوحى الله إليه أن تول هلاكهم ; فلما أن بدا الصبح ، غدا عليهم جبريل فاحتملها على جناحه ، ثم صعد بها حتى خرج الطير في الهواء لا يدري أين يذهب ، ثم كفأها عليهم ، وسمعوا وجبة شديدة ، فالتفتت امرأة لوط ، فرماها جبريل بحجر فقتلها ، ثم صعد حتى أشرف على الأرض ، فجعل يتبعهم مسافرهم ورعاتهم ومن تحول عن القرية ، فرماهم بالحجارة حتى قتلهم . وقال السدي : اقتلع جبريل الأرض من سبع أرضين ، فاحتملها حتى بلغ بها إلى أهل السماء الدنيا ، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم قلبها . وقال غيره : كانت خمس قرى ، أعظمها سدوم ، وكان القوم أربعة آلاف ألف . وقيل : كان في كل قرية مائة ألف مقاتل ، فلما رفعها إلى السماء ، لم ينكسر لهم إناء ولم [ ص: 144 ] يسقط حتى قلبها عليهم . وقيل : نجا من الخمس واحدة لم تكن تعمل مثل عملهم . وانفرد سعيد بن جبير ، فقال : إن جبريل وميكائيل توليا قلبها .

    قوله تعالى : " وأمطرنا عليها " في هاء الكناية قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى القرى . والثاني إلى الأمة .

    وفي السجل سبعة أقوال :

    أحدها : أنها بالفارسية سنك وكل ، السنك : الحجر ، والكل : الطين ، هذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير . وقال مجاهد : أولها حجر ، وآخرها طين . وقال الضحاك : يعني الآجر . قال ابن قتيبة : من ذهب إلى هذا القول ، اعتبره بقوله : حجارة من طين [الذاريات :33] يعني الآجر . وحكى الفراء أنه طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء .

    والثاني : أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض ، ومنه نزلت الحجارة ، قاله عكرمة .

    والثالث : أن السجيل : اسم السماء الدنيا ، فالمعنى : حجارة من السماء الدنيا ، قاله ابن زيد .

    والرابع : أنه الشديد من الحجارة الصلب ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لابن مقبل :


    [ورجلة يضربون البيض عن عرض] ضربا تواصت به الأبطال سجينا


    [ ص: 145 ] ورد هذا القول ابن قتيبة ، فقال : هذا بالنون ، وذاك باللام ، وإنما هو في هذا البيت فعيل من سجنت ، أي : حبست ، كأنه يثبت صاحبه .

    والخامس : أن قوله : " من سجيل " كقولك : من سجل ، أي : مما كتب لهم أن يعذبوا به ، وهذا اختيار الزجاج .

    والسادس : أنه من أسجلته ، أي : أرسلته ، فكأنها مرسلة عليهم .

    والسابع : أنه من أسجلت : إذا أعطيت ، حكى القولين الزجاج .

    وفي قوله : " منضود " ثلاثة أقوال :

    أحدها : يتبع بعضه بعضا ، قاله ابن عباس . والثاني : مصفوف ، قاله عكرمة ، وقتادة . والثالث : نضد بعضه على بعض ، لأنه طين جمع فجعل حجارة ، قاله الربيع بن أنس .

    قوله تعالى : " مسومة " قال الزجاج : أي :معلمة ، أخذ من السومة ، وهي العلامة .

    وفي علامتها ستة أقوال :

    أحدها : بياض في حمرة ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن .

    والثاني : أنها كانت مختومة ، فالحجر أبيض وفيه نقطة سوداء ، أو أسود وفيه نقطة بيضاء ، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث : أنها المخططة بالسواد والحمرة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والرابع : عليها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع ، قاله عكرمة ، وقتادة . [ ص: 146 ] والخامس : أنها كانت معلمة بعلامة يعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا ، قاله ابن جريج .

    والسادس : أنه كان على كل حجر منها اسم صاحبه ، قاله الربيع . وحكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال : كانت مثل رأس الإبل ، ومثل مبارك الإبل ، ومثل قبضة الرجل .

    وفي قوله تعالى : " عند ربك " أربعة أقوال :

    أحدها : أن المعنى : جاءت من عند ربك ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .

    والثاني : عند ربك معدة ، قاله أبو بكر الهزلي .

    والثالث : أن المعنى : هذا التسويم لزم هذه الحجارة عند الله إيذانا بنفاذ قدرته وشدة عذابه ، قاله ابن الأنباري .

    والرابع : أن معنى قوله : " عند ربك " : في خزائنه التي لا يتصرف في شيء منها إلا بإذنه .

    قوله تعالى : " وما هي من الظالمين ببعيد " في المراد بالظالمين هاهنا ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن المراد بالظالمين هاهنا : كفار قريش ، خوفهم الله بها ، قاله الأكثرون .

    والثاني : أنه عام في كل ظالم ; قال قتادة : والله ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط ، فاتقوا الله وكونوا منه على حذر .

    والثالث : أنهم قوم لوط ، فالمعنى : وما هي من الظالمين ، أي : من قوم لوط ببعيد ، والمعنى : لم تكن لتخطئهم ، قاله الفراء .
    [ ص: 147 ] وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين

    قوله تعالى : " وإلى مدين " قد ذكرناه في (الأعراف :85) .

    قوله تعالى : " ولا تنقصوا المكيال والميزان " أي : تطففوا ; وكانوا يطففون مع كفرهم .

    قوله تعالى : " إني أراكم بخير " فيه قولان :

    أحدهما : أنه رخص الأسعار ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .

    والثاني : سعة المال ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال قتادة ، وابن زيد . وقال الفراء : أموالكم كثيرة ، وأسعاركم رخيصة ، فأي حاجة بكم إلى سوء الوزن والكيل ؟

    قوله تعالى : " وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه غلاء السعر ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : القحط والجدب والغلاء .

    والثاني : العذاب في الدنيا ، وهوالذي أصابهم ، قاله مقاتل .

    والثالث : عذاب النار في الآخرة ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " أوفوا المكيال والميزان بالقسط " أي : أتموا ذلك بالعدل . والإيفاء : الإتمام . " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " بنقص المكيال والميزان .
    [ ص: 148 ] بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود

    قوله تعالى : " بقيت الله خير لكم " فيه ثمانية أقوال :

    أحدها : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن ، خير من البخس ، قاله ابن عباس .

    [ ص: 149 ] والثاني : رزق الله خير لكم ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال سفيان .

    والثالث : طاعة الله خير لكم ، قاله مجاهد ، والزجاج .

    والرابع : حظكم من الله خير لكم ، قاله قتادة .

    والخامس : رحمة الله خير لكم ، قاله ابن زيد .

    والسادس : وصية الله خير لكم ، قاله الربيع .

    والسابع : ثواب الله في الآخرة خير لكم ، قاله مقاتل .

    والثامن : مراقبة الله خير لكم ، ذكره الفراء .

    وقرأ الحسن البصري : " تقية الله خير لكم " بالتاء .

    قوله تعالى : " إن كنتم مؤمنين " شرط الإيمان في كونه خيرا لهم ، لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عز وجل ، عرفوا صحة ما يقول .

    وفي قوله : " وما أنا عليكم بحفيظ " ثلاثة أقوال :

    أحدها : ما أمرت بقتالكم وإكراهكم على الإيمان .

    والثاني : ما أمرت بمراقبتكم عند كيلكم لئلا تبخسوا .

    والثالث : ما أحفظكم من عذاب الله إن نالكم .

    قوله تعالى : " أصلواتك تأمرك " وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وحفص : " أصلاتك " على التوحيد .

    وفي المراد بصلواته ثلاثة أقوال : أحدها : دينه ، قاله عطاء . والثاني : قراءته ، قاله الأعمش . والثالث : أنها الصلوات المعروفة . وكان شعيب كثير الصلاة .

    قوله تعالى : " أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " قال الفراء : معنى الآية : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #296
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (296)
    صــ 150 إلى صــ 156





    [ ص: 150 ] وفي معنى الكلام على قراءة من قرأ بالنون قولان :

    أحدهما : أن فعلهم في أموالهم هو البخس والتطفيف ، قاله ابن عباس ; فالمعنى : قد تراضينا فيما بيننا بذلك .

    والثاني : أنهم كانوا يقطعون الدراهم والدنانير ، فنهاهم عن ذلك ، قاله ابن زيد . وقال القرظي : عذبوا في قطعهم الدراهم . قال ابن الأنباري : وقرأ الضحاك بن قيس الفهري " ما تشاء " بالتاء ، ونسق " أن تفعل " على " أن تترك " ، واستغنى عن الإضمار . قال سفيان الثوري : في معنى هذه القراءة أنه أمرهم بالزكاة فامتنعوا . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك ، وابن أبي عبلة : " أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء " بالتاء فيهما ; ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الفهري .

    وفي قوله : " إنك لأنت الحليم الرشيد " أربعة أقوال :

    أحدها : أنهم قالوه استهزاء به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والفراء .

    والثاني : أنهم قالوا له : إنك لأنت السفيه الجاهل ، فكنى بهذا عن ذلك ، ذكره الزجاج .

    والثالث : أنهم سبوه بأنه ليس بحليم ولا رشيد ، فأثنى الله عز وجل عليه فقال : بل إنك لأنت الحليم الرشيد ، لا كما قال لك الكافرون ، حكاه أبو سليمان الدمشقي عن أبي الحسن المصيصي .

    والرابع : أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد حقيقة ، وقالوا : أنت حليم رشيد ، فلم تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ حكاه الماوردي ، وذهب إلى نحوه ابن كيسان .

    قوله تعالى : " إن كنت على بينة من ربي " قد تقدم تفسيره [هود :28 و63] .

    [ ص: 151 ] وفي قوله : " ورزقني منه رزقا حسنا " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه الحلال ; قال ابن عباس : وكان شعيب كثير المال .

    والثاني : النبوة . والثالث : العلم والمعرفة .

    قال الزجاج : وجواب الشرط هاهنا متروك ، والمعنى : إن كنت على بينة من ربي ، أتبع الضلال ؟ فترك الجواب ، لعلم المخاطبين بالمعنى ، وقد مر مثل هذا .

    قوله تعالى : " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " قال قتادة : لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه . وقال الزجاج : ما أقصد بخلافكم القصد إلى ارتكابه .

    قوله تعالى : " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " أي : ما أريد بما آمركم به إلا إصلاح أموركم بقدر طاقتي . وقدر طاقتي : إبلاغكم لا إجباركم .

    قوله تعالى : " وما توفيقي إلا بالله " فتح تاء " توفيقي " أهل المدينة ، وابن عامر . ومعنى الكلام : ما إصابتي الحق في محاولة صلاحكم إلا بالله . " عليه توكلت " أي : فوضت أمري ، وذلك أنهم تواعدوه بقولهم : لنخرجنك يا شعيب [الأعراف :88] . " وإليه أنيب " : أي : أرجع .

    قوله تعالى : " لا يجرمنكم شقاقي " حرك هذه الياء ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع . قال الزجاج : لا تكسبنكم عداوتكم إياي أن تعذبوا .

    قوله تعالى : " وما قوم لوط منكم ببعيد " فيه قولان :

    أحدهما : أنهم كانوا قريبا من مساكنهم .

    والثاني : أنهم كانوا حديثي عهد بعذاب قوم لوط . قال الزجاج : كان إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفوها . قال ابن الأنباري : إنما وحد بعيدا ، لأنه أزاله عن صفة القوم ، وجعله نعتا لمكان محذوف ، تقديره : وما قوم لوط منكم بمكان بعيد .

    [ ص: 152 ] قوله تعالى : " إن ربي رحيم ودود " قد سبق معنى الرحيم .

    فأما الودود : فقال ابن الأنباري : معناه : المحب لعباده ، من قولهم : وددت الرجل أوده ودا وودا وودا ، ويقال : وددت الرجل ودادا و ودادة و ودادة . وقال الخطابي : هو اسم مأخوذ من الود ; وفيه وجهان :

    أحدهما : أن يكون فعولا في محل مفعول ، كما قيل : رجل هيوب ، بمعنى مهيب ، وفرس ركوب ، بمعنى مركوب ، فالله سبحانه مودود في قلوب أوليائه لما يتعرفونه من إحسانه إليهم .

    والوجه الآخر : أن يكون بمعنى الواد ، أي : أنه يود عباده الصالحين ، بمعنى أنه يرضى عنهم بتقبل أعمالهم ; ويكون معناه : أن يوددهم إلى خلقه ، كقوله : سيجعل لهم الرحمن ودا [مريم :96] .

    قوله تعالى : " ما نفقه كثيرا مما تقول " قال ابن الأنباري : معناه : ما نفقه صحة كثير مما تقول ، لأنهم كانوا يتدينون بغيره ، ويجوز أن يكونوا لاستثقالهم ذلك كأنهم لا يفقهونه .

    قوله تعالى : " وإنا لنراك فينا ضعيفا " وفيه أربعة أقوال :

    أحدها : ضريرا ; قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : كان أعمى . قال الزجاج : ويقال إن حمير تسمي المكفوف : ضعيفا .

    والثاني : ذليلا ، قاله الحسن ، وأبو روق ، ومقاتل .

    وزعم أبو روق أن الله لم يبعث نبيا أعمى ، ولا نبيا به زمانة .

    والثالث : ضعيف البصر ، قاله سفيان .

    والرابع : عاجزا عن التصرف في المكاسب ، ذكره ابن الأنباري .

    [ ص: 153 ] قوله تعالى : " ولولا رهطك لرجمناك " قال الزجاج : لولا عشيرتك لقتلناك بالرجم ، والرجم من سيئ القتلات ، وكان رهطه من أهل ملتهم ، فلذلك أظهروا الميل إليهم والإكرام لهم . وذكر بعضهم أن الرجم هاهنا بمعنى الشتم والأذى .

    قوله تعالى : " وما أنت علينا بعزيز " فيه قولان :

    أحدهما : بكريم ، والثاني : بممتنع أن نقتلك .

    قوله تعالى : " أرهطي أعز عليكم من الله " وأسكن ياء " رهطي " أهل الكوفة ، ويعقوب ، والمعنى : أتراعون رهطي في ، ولا تراعون الله في ؟

    قوله تعالى : " واتخذتموه وراءكم " في هاء الكناية قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله الجمهور . قال الفراء : المعنى : رميتم بأمر الله وراء ظهوركم . قال الزجاج : والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمر : قد جعل فلان هذا الأمر بظهر ، قال الشاعر :


    تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها


    والثاني: أنها كناية عما جاء به شعيب ، قاله مجاهد .

    قوله تعالى : " إن ربي بما تعملون محيط " أي : عالم بأعمالكم ، فهو يجازيكم بها . وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله : " سوف تعلمون " [الأنعام :135] .

    فإن قال قائل : كيف قال هاهنا " سوف " وفي سورة أخرى " فسوف " ؟ [الأنعام :135]

    فالجواب : أن كلا الأمرين حسن عند العرب ، إن أدخلوا الفاء ، دلوا على اتصال ما بعد الكلام بما قبله ، وإن أسقطوها ، بنوا الكلام الأول على أنه قد تم ، [ ص: 154 ] وما بعده مستأنف ، كقوله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا [البقرة :67] ، والمعنى : فقالوا : أتتخذنا ، بالفاء ، فحذفت الفاء لتمام ما قبلها . قال امرؤ القيس :


    فقالت يمين الله مالك حيلة وما إن أرى عنك الغواية تنجلي


    خرجت بها أمشي تجر وراءنا على إثرنا أذيال مرط مرحل


    قال ابن الأنباري : أراد : فخرجت ، فأسقط الفاء لتمام ما قبلها . ويروى : فقمت بها أمشي .

    قوله تعالى : " وارتقبوا إني معكم رقيب " قال ابن عباس : ارتقبوا العذاب ، فإني أرتقب الثواب .

    قوله تعالى : " وأخذت الذين ظلموا الصيحة " قال المفسرون : صاح بهم جبريل فماتوا في أمكنتهم . قال محمد بن كعب : عذب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب ، أخذتهم رجفة في ديارهم ، حتى خافوا أن تسقط عليهم ، فخرجوا منها فأصابهم حر شديد ، فبعث الله الظلة ، فتنادوا : هلم إلى الظل ; فدخلوا جميعا في الظلة ، فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم . قال ابن عباس : لم تعذب أمتان قط بعذاب واحد ، إلا قوم شعيب وصالح ، فأما قوم صالح ، فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم ، نشأت لهم سحابة كهيئة الظلة فيها ريح بعد أن امتنعت الريح عنهم ، فأتوها يستظلون تحتها فأحرقتهم .

    قوله تعالى : " كما بعدت ثمود " أي : كما هلكت ثمود .

    [ ص: 155 ] قال ابن قتيبة : يقال : بعد يبعد : إذا كان بعده هلكة ; وبعد يبعد : إذا نأى .
    ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد

    قوله تعالى : " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا " قال الزجاج : بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته . " وسلطان مبين " أي : حجة بينة .

    قوله تعالى : " فاتبعوا أمر فرعون " وهو ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إلها . " وما أمر فرعون برشيد " أي : مرشد إلى خير .
    يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود

    قوله تعالى : " يقدم قومه يوم القيامة " قال الزجاج : يقال : قدمت القوم أقدمهم ، قدما وقدوما : إذا تقدمتهم ; والمعنى : يقدمهم إلى النار ; ويدل عليه قوله : " فأوردهم النار " قال ابن عباس : أوردهم بمعنى أدخلهم . وقال قتادة : يمضي بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار .

    قوله تعالى : " وبئس الورد المورود " قال المفسرون : الورد : الموضع الذي ترده . وقال ابن الأنباري : الورد : مصدر معناه : الورود ، تجعله العرب بمعنى الموضع المورود ; فتلخيص الحرف : وبئس المدخل المدخول النار .
    وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود

    قوله تعالى : " وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة " .

    في هذه اللعنة قولان :

    [ ص: 156 ] أحدهما : أنها في الدنيا الغرق . وفي الآخرة عذاب النار ، هذا قول الكلبي ، ومقاتل .

    والثاني : أنها اللعنة في الدنيا من المؤمنين ، وفي الآخرة من الملائكة ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " بئس الرفد المرفود " قال ابن قتيبة : الرفد : العطية ; يقول : اللعنة بئس العطية ; يقال : رفدته أرفده : إذا أعطيته وأعنته . والمرفود : المعطى .

    ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد

    قوله تعالى : " ذلك من أنباء القرى " يعني ما تقدم من الخبر عن القرى المهلكة . " نقصه عليك " أي : نخبرك به . " منها قائم وحصيد " قال قتادة : القائم : ما يرى مكانه ، والحصيد : لا يرى أثره . وقال ابن قتيبة : القائم : الظاهر العين ، والحصيد : الذي قد أبيد وحصد . وقال الزجاج : القائم : ما بقيت حيطانه ، والحصيد : الذي خسف به وما قد انمحى أثره .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #297
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (297)
    صــ 157 إلى صــ 163





    وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب

    قوله تعالى : " وما ظلمناهم " أي : بالعذاب والإهلاك . " ولكن ظلموا أنفسهم " بالكفر والمعاصي . " فما أغنت عنهم آلهتهم " أي : فما نفعتهم ولا دفعت عنهم شيئا " لما جاء أمر ربك " بالهلاك . " وما زادوهم " يعني الآلهة " غير تتبيب " وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه التخسير ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، [ ص: 157 ] وقتادة ، واختاره ابن قتيبة ، والزجاج . والثاني : أنه الشر ، قاله ابن زيد . والثالث : التدمير والإهلاك ، قاله أبو عبيدة .

    فإن قيل : الآلهة جماد ، فكيف قال : " زادوهم " فعنه جوابان :

    أحدهما : وما زادتهم عبادتها .

    والثاني : أنها في القيامة تكون عونا عليهم فتزيدهم شرا .
    وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد

    قوله تعالى : " وكذلك أخذ ربك " أي : وكما ذكر من إهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب أخذ ربك . " إذا أخذ القرى وهي ظالمة " وصف القرى بالظلم ، والمراد أهلها . وقال ابن عباس : الظلم هاهنا : بمعنى الكفر .
    إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود

    قوله تعالى : " إن في ذلك لآية " يعني ما ذكر من عذاب الأمم وأخذهم . والآية : العبرة والعظة . " ذلك يوم مجموع له الناس " لأن الخلق يحشرون فيه ، ويشهده البر والفاجر ، وأهل السماء والأرض . . " وما نؤخره " وروى زيد عن يعقوب ، وأبو زيد عن المفضل " وما يؤخره " بـالياء والمعنى : وما نؤخر ذلك اليوم إلا لوقت معلوم لا يعلمه إلا الله .
    يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق [ ص: 158 ] خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ

    قوله تعالى : " يوم يأت " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي : " يوم يأتي " بياء في الوصل ، وحذفوها في الوقف ; غير أن ابن كثير كان يقف بالياء ، ويصل بالياء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة بغير ياء في الوصل والوقف . قال الزجاج : الذي يختاره النحويون " يوم يأتي " بإثبات الياء ، والذي في المصحف وعليه أكثر القراءات بكسر التاء ، وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثيرا . وقد حكى الخليل ، وسيبويه ، أن العرب تقول : لا أدر ، فتحذف الياء ، وتجتزئ بالكسرة ويزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال . وقال الفراء : كل ياء ساكنة وما قبلها مكسور ، أو واو ساكنة وما قبلها مضموم ، فإن العرب تحذفها وتجتزئ بالكسرة من الياء ، وبالضمة من الواو ، وأنشدني بعضهم :


    كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما


    قال المفسرون : وقوله : " يوم يأتي " يعني : يأتي ذلك اليوم ، لا تكلم نفس إلا بإذن الله ، فكل الخلائق ساكتون ، إلا من أذن الله له في الكلام . وقيل : المراد بهذا الكلام الشفاعة .

    قوله تعالى : " فمنهم شقي " قال ابن عباس : منهم من كتبت عليه الشقاوة ، ومنهم من كتبت له السعادة .

    قوله تعالى : " لهم فيها زفير وشهيق " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن الزفير كزفير الحمار في الصدر ، وهو أول ما ينهق ، والشهيق كشهيق الحمار في الحلق ، وهو آخر ما يفرغ من نهيقه ، رواه أبو صالح عن ابن [ ص: 159 ] عباس ، وبه قال الضحاك ، ومقاتل ، والفراء . وقال الزجاج : الزفير : شديد الأنين وقبيحه ، والشهيق : الأنين الشديد المرتفع جدا ، وهما من أصوات المكروبين . وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوته في النهيق .

    والثاني : أن الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدور ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، والربيع بن أنس . وفي رواية أخرى عن ابن عباس : الزفير : الصوت الشديد ، والشهيق : الصوت الضعيف . وقال ابن فارس : الشهيق ضد الزفير ، لأن الشهيق رد النفس ، والزفير إخراج النفس . وقال غيره : الزفير : الشديد ، مأخوذ من الزفر ، وهو الحمل على الظهر لشدته ; والشهيق : النفس الطويل الممتد ، مأخوذ من قولهم : جبل شاهق ، أي : طويل .

    والثالث : أن الزفير زفير الحمار ، والشهيق شهيق البغال ، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى : " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " المعروف فيه قولان :

    أحدهما : أنها السموات المعروفة عندنا ، والأرض المعروفة ; قال ابن قتيبة ، وابن الأنباري : للعرب في معنى الأبد ألفاظ ; تقول : لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار ، وما دامت السموات والأرض ، وما اختلفت الجرة والدرة ، وما أطت الإبل ، في أشباه لهذا كثيرة ، ظنا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير ، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم .

    [ ص: 160 ] والثاني : أنها سماوات الجنة والنار وأرضهما .

    قوله تعالى : " إلا ما شاء ربك " في الاستثناء المذكور في حق أهل النار سبعة أقوال :

    أحدها : أن الاستثناء في حق الموحدين الذين يخرجون بالشفاعة ، قاله ابن عباس ، والضحاك .

    والثاني : أنه استثناء لا يفعله ، تقول : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، وعزيمتك على ضربه ، ذكره الفراء ، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس : " إلا ما شاء ربك " قال : فقد شاء أن يخلدوا فيها . قال الزجاج : وفائدة هذا ، أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم ، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبدا .

    والثالث : أن المعنى : خالدين فيها أبدا ، غير أن الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم ، ثم يجدد خلقهم ، فيرجع الاستثناء إلى تلك الحال ، قاله ابن مسعود .

    والرابع : أن " إلا " بمعنى " سوى " تقول : لو كان معنا رجل إلا زيد أي : سوى زيد ; فالمعنى : خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة ، وهذا اختيار الفراء . قال ابن قتيبة : ومثله في الكلام أن تقول : لأسكننك في هذه الدار حولا إلا ما شئت ; تريد : سوى ما شئت أن أزيدك .

    والخامس : أنهم إذا حشروا وبعثوا ، فهم في شروط القيامة ; فالاستثناء واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب ، فالمعنى : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا مقدار موقفهم للمحاسبة ، ذكره الزجاج . وقال ابن كيسان : الاستثناء يعود إلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب ; قال ابن قتيبة : فالمعنى : خالدين في النار وخالدين في الجنة دوام السماء والأرض إلا ما شاء ربك [ ص: 161 ] من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك ، فكأنه جعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت العرب تستعمل ، وإن كانتا قد تتغيران . واستثنى المشيئة من دوامهما ، لأن أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا ، لا في الجنة ، ولا في النار .

    والسادس : أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيرا وشهيقا ، إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تذكر ; وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذكر ، ولهم مما لم يذكر ما شاء ربك ، ذكره الزجاج أيضا .

    والسابع : أن " إلا " بمعنى " كما " ومنه قوله : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف [النساء :22] ، ذكره الثعلبي .

    فأما الاستثناء في حق أهل الجنة ، ففيه ستة أقوال :

    أحدها : أنه استثناء لا يفعله . والثاني : أن " إلا " بمعنى " سوى " . والثالث: أنه يرجع إلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور . والرابع : أنه بمعنى : إلا ما شاء أن يزيدهم من النعيم الذي لم يذكر . والخامس : أن " إلا " بمعنى " كما " ، وهذه الأقوال قد سبق شرحها . والسادس : أن الاستثناء يرجع إلى لبث من لبث في النار من الموحدين ، ثم أدخل الجنة ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، ومقاتل . قال ابن قتيبة : فيكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار ، فكأنه قال : إلا ما شاء ربك من إخراج المذنبين إلى الجنة ، وخالدين في الجنة إلا ما شاء ربك من إدخال المذنبين النار مدة .

    واختلف القراء في " سعدوا " فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن [ ص: 162 ] عامر ، وأبو بكر عن عاصم : " سعدوا " بفتح السين . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : بضمها ، وهما لغتان .

    قوله تعالى : " عطاء غير مجذوذ " نصب عطاء بما دل عليه الكلام ، كأنه قال : أعطاهم النعيم عطاء . والمجذوذ : المقطوع ; قال ابن قتيبة : يقال جذذت ، وجددت ، وجذفت ، وجدفت : إذا قطعت .
    فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص

    قوله تعالى : " فلا تك في مرية " أي : فلا تك يا محمد في شك " مما يعبد هؤلاء " المشركون من الأصنام ، أنه باطل وضلال ، إنما يقلدون آباءهم ، " وإنا لموفوهم نصيبهم " وفيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : ما قدر لهم من خير وشر ، قاله ابن عباس . والثاني : نصيبهم من الرزق ، قاله أبو العالية . والثالث : نصيبهم من العذاب ، قاله ابن زيد . وقال بعضهم : لا ينقصهم من عذاب آبائهم .
    ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب

    قوله تعالى : " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني التوراة " فاختلف فيه " فمن مصدق به ومكذب كما فعل قومك بالقرآن . قال المفسرون : وهذه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى : " ولولا كلمة سبقت من ربك " قال ابن عباس : يريد : إني أخرت أمتك إلى يوم القيامة ، ولولا ذلك لعجلت عقاب من كذبك . وقال ابن قتيبة : لولا نظرة لهم إلى يوم الدين لقضي بينهم في الدنيا . وقال ابن جرير : [ ص: 163 ] سبقت من ربك أنه لا يعجل على خلقه بالعذاب ، لقضي بين المصدق منهم والمكذب بإهلاك المكذب وإنجاء المصدق .

    قوله تعالى : " وإنهم لفي شك منه " أي : من القرآن " مريب " أي : موقع للريب .
    وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير

    قوله تعالى : " وإن كلا " يشير إلى جميع من قص قصته في هذه السورة . وقال مقاتل : يعني به كفار هذه الأمة . وقيل : المعنى : وإن كلا لخلق أو بشر " ليوفينهم " . قرأ أبو عمرو ، والكسائي " وإن " مشددة النون ، " لما " خفيفة . واللام في " لما " لام التوكيد ، دخلت على " ما " وهي خبر " إن " . واللام في " ليوفينهم " اللام التي يتلقى بها القسم ، والتقدير : والله ليوفينهم ، ودخلت " ما " للفصل بين اللامين . قال مكي بن أبي طالب : وقيل: إن " ما " زائدة ، لكن دخلت لتفصل بين اللامين اللذين يتلقيان القسم ، وكلاهما مفتوح ، ففصل بـ " ما " بينهما ، وقرأ ابن كثير " وإن " بالتخفيف ، وكذلك " لما " . قال سيبويه : حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول : إن عمرا لمنطلق ، فيخففون " إن " ويعملونها وأنشد :


    ووجه حسن النحر كأن ثدييه حقان


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #298
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (298)
    صــ 164 إلى صــ 170





    [ ص: 164 ] وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : " وإن " خفيفة ، " لما " مشددة ، والمعنى : وما كلا إلا ; وهذا كما تقول : سألتك لما فعلت ، وإلا فعلت ، ومثله قوله : إن كل نفس لما عليها حافظ [الطارق :4] . وقرأ حمزة ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : " وإن " بالتشديد ، " لما " بالتشديد أيضا . قال أبو علي : هذه قراءة مشكلة ، لأنه كما لا يحسن : إن زيدا إلا منطلق ، كذلك لا يحسن تثقيل " إن " وتثقيل " لما " . وحكى عن الكسائي أنه قال : لا أعرف وجه التثقيل في " لما " ، ولم يبعد فيما قال . وقال مكي بن أبي طالب : الأصل فيها " لمن ما " ثم أدغمت النون في الميم ، فاجتمعت ثلاث ميمات في اللفظ ، فحذفت الميم المكسورة ; والتقدير : وإن كلا لمن خلق ليوفينهم . قال : وقيل : التقدير : " لمن ما " بفتح الميم في " من " فتكون " ما " زائدة ، وتحذف إحدى الميمات لتكرير الميم في اللفظ ; والتقدير : لخلق ليوفينهم ، ومعنى الكلام : ليوفينهم جزاء أعمالهم .
    فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير

    قوله تعالى : " فاستقم كما أمرت " قال ابن عيينة : استقم على القرآن . وقال ابن قتيبة : امض على ما أمرت به .

    قوله تعالى : " ومن تاب معك " قال ابن عباس : من تاب معك من الشرك .

    قوله تعالى : " ولا تطغوا " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : لا تطغوا في القرآن ، فتحلوا وتحرموا ما لم آمركم به ، قاله ابن عباس .

    والثاني : لا تعصوا ربكم ولا تخالفوه ، قاله ابن زيد .

    والثالث : لا تخلطوا التوحيد بشك ، قاله مقاتل .
    [ ص: 165 ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون

    قوله تعالى : " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " روى عبد الوارث عن أبي عمرو : " تركنوا " بفتح التاء وضم الكاف ، وهي قراءة قتادة . وروى هارون عن أبي عمرو " تركنوا " بفتح التاء وكسر الكاف . وروى محبوب عن أبي عمرو : " تركنوا " بكسر التاء وفتح الكاف . وقرأ ابن أبي عبلة " تركنوا " بضم التاء وفتح الكاف على ما لم يسم فاعله . وفي المراد بهذا الركون أربعة أقوال .

    أحدها : لا تميلوا إلى المشركين ، قاله ابن عباس . والثاني : لا ترضوا أعمالهم ، قاله أبو العالية . والثالث : لا تلحقوا بالمشركين ، قاله قتادة . والرابع : لا تداهنوا الظلمة ، قاله السدي ، وابن زيد .

    وفي قوله : " فتمسكم النار " وجهان : أحدهما : فتصيبكم النار ، قاله ابن عباس . والثاني : فيتعدى إليكم ظلمهم كما تتعدى النار إلى إحراق ما جاورها ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " وما لكم من دون الله من أولياء " أي : ليس لكم أعوان يمنعونكم من العذاب .
    وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين

    قوله تعالى : " وأقم الصلاة طرفي النهار " أما سبب نزولها ، فروى علقمة والأسود عن ابن مسعود أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أخذت امرأة في البستان فقبلتها ، وضممتها ، إلي وباشرتها ، وفعلت بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها ; [ ص: 166 ] فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى " وأقم الصلاة طرفي النهار . . . " الآية ، فدعا الرجل فقرأها عليه ، فقال عمر : أهي له خاصة ، أم للناس كافة ؟ قال : " لا ، بل للناس كافة " . وفي رواية أخرى عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى رسول الله ، فذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية ، فقال الرجل : ألي هذه الآية ؟ فقال : " لمن عمل بها من أمتي " . وقال معاذ بن جبل : كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل ، فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل أصاب من امرأة مالا يحل له ، فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من امرأته إلا أصابه منها ، غير أنه لم يجامعها ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " توضأ وضوءا حسنا ، ثم قم فصل " فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال معاذ : أهي له خاصة ، أم للمسلمين عامة ؟ فقال : " بل هي للمسلمين عامة " . واختلفوا في اسم هذا الرجل ، فقال أبو صالح عن ابن عباس : هو عمرو بن غزية الأنصاري ، وفيه نزلت هذه الآية ، كان يبيع التمر ، فأتته امرأة تبتاع منه تمرا ، فأعجبته ، فقال : إن في البيت تمرا أجود من هذا ، فانطلقي معي حتى أعطيك منه ; فذكر نحو [ ص: 167 ] حديث معاذ . وقال مقاتل : هو أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري . وذكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري . وذكر في الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، أله خاصة ؟ ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه أبو اليسر صاحب القصة . والثاني : معاذ بن جبل . والثالث : عمر بن الخطاب .

    فأما التفسير ، فقوله : " وأقم الصلاة " أي : أتم ركوعها وسجودها .

    فأما طرفا النهار ، ففي الطرف الأول قولان :

    أحدهما : أنه صلاة الفجر ، قاله الجمهور . والثاني : أنه الظهر ، حكاه ابن جرير .

    وفي الطرف الثاني ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه صلاة المغرب ، قاله ابن عباس ، وابن زيد . الثاني : العصر ، قاله قتادة . وعن الحسن كالقولين . والثالث : الظهر ، والعصر ، قاله مجاهد ، والقرظي . وعن الضحاك كالأقوال الثلاثة .

    قوله تعالى : " وزلفا من الليل " وقرأ أبو جعفر ، وشيبة " وزلفا " بضم اللام . قال أبو عبيدة : الزلف : الساعات ، واحدها : زلفة ، أي : ساعة ومنزلة وقربة ; ومنه سميت المزدلفة ، قال العجاج :

    [ ص: 168 ]
    ناج طواه الأين مما أوجفا طي الليالي زلفا فزلفا


    سماوة الهلال حتى احقوقفا

    قال ابن قتيبة : ومنه يقال : أزلفني كذا عندك ، أي : أدناني ; والمزالف : المنازل والدرج ، وكذلك الزلف :

    وفيها للمفسرين قولان :

    أحدهما : أنها صلاة العتمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وعوف عن الحسن ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال ابن زيد .

    والثاني : أنها صلاة المغرب والعشاء ، روي عن ابن عباس أيضا ، ورواه يونس عن الحسن ، ومنصور عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، ومقاتل ، والزجاج .

    قوله تعالى : " إن الحسنات يذهبن السيئات " في المراد بالحسنات قولان :

    أحدهما : أنها الصلوات الخمس ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن المسيب ، ومسروق ، ومجاهد ، والقرظي ، والضحاك ، والمقاتلان : ابن سليمان ، وابن حيان .

    والثاني : أنها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، رواه منصور عن مجاهد . والأول أصح ، لأن الجمهور عليه ، وفيه حديث مسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه عثمان بن عفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ، وقال : من توضأ وضوئي هذا ، ثم صلى الظهر ، غفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح ، [ ص: 169 ] ومن صلى العصر ، غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر ، ومن صلى المغرب ، غفر له ما بينها وبين صلاة العصر ، ثم صلى العشاء ، غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب ، ثم لعله أن يبيت ليلته يتمرغ ، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح ، غفر له ما بينه وبين صلاة العشاء ، وهن الحسنات يذهبن السيئات " .

    فأما السيئات المذكورة هاهنا ، فقال المفسرون : هي الصغائر من الذنوب . وقد روى معاذ بن جبل ، قال : قلت : يا رسول الله ، أوصني ; قال : " اتق الله حيثما كنت " ، قال : قلت : زدني ; قال : " أتبع السيئة الحسنة تمحها " ، قلت : زدني ; قال : " خالق الناس بخلق حسن " .

    قوله تعالى : " ذلك ذكرى للذاكرين " في المشار إليه بـ " ذلك " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه القرآن . والثاني : إقام الصلاة . والثالث : جميع ما تقدم من الوصية بالاستقامة ، والنهي عن الطغيان ، وترك الميل إلى الظالمين ، والقيام بالصلاة .

    [ ص: 170 ] وفي المراد بالذكرى قولان :

    أحدهما : أنه بمعنى التوبة . والثاني : بمعنى العظة .
    واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

    قوله تعالى : " واصبر " فيما أمر بالصبر عليه قولان :

    أحدهما : لما يلقاه من أذى قومه . والثاني : الصلاة .

    وفي المراد بالمحسنين ثلاثة أقوال :

    أحدها : المصلون ، قاله ابن عباس . والثاني : المخلصون ، قاله مقاتل . والثالث : أنهم المحسنون في أعمالهم ، قاله أبو سليمان .
    فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين

    قوله تعالى : " فلولا كان من القرون " قال ابن عباس ، والفراء : المعنى : فلم يكن . وقال ابن قتيبة : المعنى : فهلا كان من القرون من قبلكم أولو بقية . وروى ابن جماز عن أبي جعفر " أولو بقية " بكسر الباء وسكون القاف وتخفيف الياء .

    وفي معنى " أولو بقية " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أولو دين ، قاله ابن عباس . قال ابن قتيبة : يقال : قوم لهم بقية ، وفيهم بقية : إذا كانت بهم مسكة وفيهم خير . والثاني : أولو تمييز . والثالث : أولو طاعة ، ذكرهما الزجاج ، وقال : إذا قلت : فلان فيه بقية ، فمعناه : فيه فضل .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #299
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ هُودٍ
    الحلقة (299)
    صــ 171 إلى صــ 177



    قوله تعالى : " إلا قليلا " استثناء منقطع ، أي : لكن قليلا ممن أنجينا منهم [ ص: 171 ] ممن نهى عن الفساد . قال مقاتل : لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك إلا قليلا ممن أنجينا من العذاب مع الرسل .

    قوله تعالى : " واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه " أي : اتبعوا مع ظلمهم ما أترفوا فيه مع استدامة نعيمهم ، فلم يقبلوا ما ينقص من ترفهم . قال الفراء : آثروا اللذات على أمر الآخرة . قال : ويقال : اتبعوا ذنوبهم السيئة إلى النار .
    وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون

    قوله تعالى : " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم " فيه قولان :

    أحدهما : بغير جرم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : بشرك ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان . وفي قوله : " وأهلها مصلحون " ثلاثة أقوال :

    أحدها : ينتصف بعضهم من بعض ، رواه قيس بن أبي حازم عن جرير . قال أبو جعفر الطبري : فيكون المعنى : لا يهلكهم إذا تناصفوا وإن كانوا مشركين ، وإنما يهلكهم إذا تظالموا .

    والثاني : مصلحون لأعمالهم ، متمسكون بالطاعة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : مؤمنون ، قاله مقاتل .
    ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

    قوله تعالى : " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة " قال ابن عباس : لو شاء أن يجعلهم كلهم مسلمين لفعل .

    قوله تعالى : " ولا يزالون مختلفين " في المشار إليهم قولان :

    [ ص: 172 ] أحدهما : أنهم أهل الحق وأهل الباطل ، رواه الضحاك عن ابن عباس ; فيكون المعنى : إن هؤلاء يخالفون هؤلاء .

    والثاني : أنهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    قوله تعالى : " إلا من رحم ربك " قال ابن عباس : هم أهل الحق . وقال الحسن : أهل رحمة الله لا يختلفون .

    قوله تعالى : " ولذلك خلقهم " في المشار إليه بذلك أربعة أقوال :

    أحدها : أنه يرجع إلى ما هم عليه . قال ابن عباس : خلقهم فريقين ، فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم يختلف .

    والثاني : أنه يرجع إلى الشقاء والسعادة ، قاله ابن عباس أيضا ، واختاره الزجاج ، قال : لأن اختلافهم مؤديهم إلى سعادة وشقاوة . قال ابن جرير : واللام في قوله : " ولذلك " بمعنى " على " .

    والثالث : أنه يرجع إلى الاختلاف ، رواه مبارك عن الحسن .

    والرابع : أنه يرجع إلى الرحمة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ; فعلى هذا يكون المعنى : ولرحمته خلق الذين لا يختلفون في دينهم .

    قوله تعالى : " وتمت كلمة ربك " قال ابن عباس : وجب قول ربك : " لأملأن جهنم " من كفار الجنة ، وكفار الناس .
    وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين

    قوله تعالى : " وكلا نقص " قال الزجاج : " كلا " منصوب بـ " نقص " ، [ ص: 173 ] المعنى : كل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك ، و " ما " منصوبة بدلا من كل ، المعنى : نقص عليك ما نثبت به فؤادك ; ومعنى تثبيت الفؤاد تسكين القلب هاهنا ، ليس للشك ، ولكن كلما كان البرهان والدلالة أكثر ، كان القلب أثبت .

    قوله تعالى : " وجاءك في هذه الحق " في المشار إليه بـ " هذه " أربعة أقوال :

    أحدها : أنها السورة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، ورواه شيبان عن قتادة .

    والثاني : أنها الدنيا ، فالمعنى : وجاءك في هذه الدنيا ، رواه سعيد عن قتادة ; وعن الحسن كالقولين .

    والثالث : أنها الأقاصيص المذكورة .

    والرابع : أنها هذه الآية بعينها ، ذكر القولين ابن الأنباري .

    وفي المراد بالحق هاهنا ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها البيان . والثاني : صدق القصص والأنباء . والثالث : النبوة .

    فإن قيل : أليس قد جاءه الحق في كل القرآن ، فلم خص هذه السورة ؟

    فالجواب : أنا إن قلنا : إن الحق النبوة ، فالإشارة بـ " هذه " إلى الدنيا ، فيكون المعنى : وجاءك في هذه الدنيا النبوة ، فيرتفع الإشكال . وإن قلنا : إنها السورة ، فعنه أربعة أجوبة :

    أحدها : أن المراد بالحق البيان ، وهذه السورة جمعت من تبيين إهلاك الأمم ، وشرح مآلهم ، ما لم يجمع غيرها ، فبان أثر التخصيص ، وهذا مذهب بعض المفسرين .

    والثاني : أن بعض الحق أوكد من بعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا ، [ ص: 174 ] ولهذا يقول الناس : فلان في الحق : إذا كان في الموت ، وإن لم يكن قبله في باطل ، ولكن لتعظيم ما هو فيه ، فكأن الحق المبين في هذه السورة أجلى من غيره ، وهذا مذهب الزجاج .

    والثالث : أنه خص هذه السورة بذلك لبيان فضلها ، وإن كان في غيرها حق أيضا ، فهو كقوله : والصلاة الوسطى [البقرة :238] ، وقوله : وجبريل وميكال [البقرة :98] ، وهذا مذهب ابن الأنباري .

    والرابع : أن المعنى : وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك من سائر السور ، قاله ابن جرير الطبري .

    قوله تعالى : " وموعظة وذكرى للمؤمنين " أي : يتعظون إذا سمعوا هذه السورة وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم .
    وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون

    قوله تعالى : وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم هذا تهديد ووعيد ، والمعنى : اعملوا ما أنتم عاملون ، فستعلمون عاقبة أمركم ، " وانتظروا " ما يعدكم الشيطان " إنا منتظرون " ما يعدنا ربنا .

    فصل

    قال المفسرون : وهذه الآية اقتضت تركهم على أعمالهم ، والاقتناع بإنذارهم ، وهي منسوخة بآية السيف .

    واعلم أنه إذا قلنا : إن المراد بالآية التهديد ، لم يتوجه نسخ .
    [ ص: 175 ] ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون .

    قوله تعالى : " ولله غيب السماوات والأرض " أي : علم ما غاب عن العباد فيهما . " وإليه يرجع الأمر كله " قرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، " يرجع الأمر كله " بضم الياء . وقرأ الباقون ، وأبو بكر عن عاصم " يرجع " بفتح الياء ، والمعنى : إن كل الأمور ترجع إليه في المعاد . " فاعبده " أي : وحده . " وتوكل عليه " أي : ثق به . " وما ربك بغافل عما يعملون " قرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم " تعملون " بالتاء . وقرأ الباقون بالياء . قال أبو علي : فمن قرأ بالياء ، فالمعنى : قل لهم : وما ربك بغافل عما يعملون . ومن قرأ بالتاء ، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم ، فهو أعم من الياء ، وهذا وعيد ، والمعنى : إنه يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . قال كعب : خاتمة التوراة خاتمة " هود " .

    سُورَةُ يُوسُفَ

    [عَلَيْهِ السَّلَامُ]

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ

    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

    هِيَ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَفِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ : أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، فَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَاهُ ، عَلَيْهِمْ زَمَانًا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ " إِلَى قَوْلِهِ : " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ " ، فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ حَدَّثْتَنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزُّمَرِ :23] كُلُّ ذَلِكَ يُؤْمَرُونَ بِالْقُرْآنِ . وَقَالَ [ ص: 177 ] عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : مَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَّةً ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزُّمَرِ :23] ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَلُّوا مَلَّةً أُخْرَى ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَوْقَ الْحَدِيثِ ، وَدُونَ الْقُرْآنِ ، يَعْنُونَ الْقَصَصَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ " فَأَرَادُوا الْحَدِيثَ ، فَدَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْحَدِيثِ ، وَأَرَادُوا الْقَصَصَ ، فَدَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْقَصَصِ . وَالثَّانِي : رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَأَلَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : حَدِّثْنَا عَنْ أَمْرِ يَعْقُوبَ وَوَلَدِهِ وَشَأْنِ يُوسُفَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا " وَذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِي َّةِ ، وَالْإِنْجِيلَ بِالسُّرْيَانِي َّةِ ، وَأَنْتُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ ، وَلَوْ أَنْزَلْتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَا فَهِمْتُمُوهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ (يُونُسَ) إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ زِيَادَةَ وَجْهٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَالَ : لَمَّا لَحِقَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَلٌ وَسَآمَةٌ ، فَقَالُوا لَهُ : حَدِّثْنَا بِمَا يُزِيلُ عَنَّا هَذَا الْمَلَلَ ، فَقَالَ : " تِلْكَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَقْدِرُونَ الِانْتِفَاعَ بِهَا وَانْصِرَافَ الْمَلَلِ ، هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ "


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #300
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع

    سُورَةُ يُوسُفَ
    الحلقة (300)
    صــ 178 إلى صــ 184



    وَفِي مَعْنَى " الْمُبِينِ " خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :

    أَحَدُهَا : الْبَيِّنُ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : الْمُبَيِّنُ لِلْحُرُوفِ الَّتِي تَسْقُطُ عَنْ أَلْسُنِ الْأَعَاجِمِ ، رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ . وَالثَّالِثُ : الْبَيِّنُ هُدَاهُ وَرُشْدُهُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ : الْمُبَيِّنُ لِلْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ . وَالْخَامِسُ : الْبَيِّنُ إِعْجَازُهُ فَلَا يُعَارَضُ ، ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ .
    [ ص: 178 ] إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون

    قوله تعالى : " إنا أنزلناه " في هاء الكناية قولان :

    أحدهما : أنها ترجع إلى الكتاب ، قاله الجمهور . والثاني : إلى خبر يوسف ، ذكره الزجاج ، وابن القاسم .

    قوله تعالى : " قرآنا عربيا " قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة (النساء :82) . وقد اختلف الناس ، هل في القرآن شيء بغير العربية ، أم لا ، فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء بغير العربية . وقال أبو عبيدة : من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول ، واحتج بقوله : إنا جعلناه قرآنا عربيا [الزخرف :3] وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة أن فيه من غير لسان العرب ، مثل " سجيل " و " المشكاة " و " اليم " و " الطور " و " أباريق " و " إستبرق " وغير ذلك . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : قال أبو عبيد : وهؤلاء أعلم من أبي عبيدة ، ولكنهم ذهبوا إلى مذهب ، وذهب هو إلى غيره ، وكلاهما مصيب إن شاء الله ، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل ، فقال : أولئك على الأصل ، ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربيا بتعريبها إياه ، فهي عربية في هذه الحالة ، أعجمية الأصل ، فهذا القول يصدق الفريقين جميعا .

    قوله تعالى : " لعلكم تعقلون " قال ابن عباس : لكي تفهموا .
    نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين

    قوله تعالى : " نحن نقص عليك أحسن القصص " قد ذكرنا سبب نزولها في [ ص: 179 ] أول الكلام . وقد خصت بسبب آخر ، فروي عن سعيد بن جبير قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى سلمان ، فقالوا : حدثنا عن التوراة فإنها حسن ما فيها ، فأنزل الله تعالى " نحن نقص عليك أحسن القصص " يعني : قصص القرآن أحسن مما في التوراة . قال الزجاج : والمعنى : نحن نبين لك أحسن البيان ، والقاص : الذي يأتي بالقصة على حقيقتها . قال : وقوله : " بما أوحينا إليك " أي : بوحينا إليك هذا القرآن .

    قال العلماء : وإنما سميت قصة يوسف أحسن القصص ، لأنها جمعت ذكر الأنبياء ، والصالحين ، والملائكة ، والشياطين ، والأنعام ، وسير الملوك ، والمماليك ، والتجار ، والعلماء ، والرجال ، والنساء ، وحيلهن ، وذكر التوحيد ، والفقه ، والسر ، وتعبير الرؤيا ، والسياسة ، والمعاشرة ، وتدبير المعاش ، والصبر على الأذى ، والحلم ; والعز ، والحكم ، إلى غير ذلك من العجائب .

    قوله تعالى : " وإن كنت " في " إن " قولان :

    أحدهما : أنها بمعنى " قد " . والثاني بمعنى " ما " .

    قوله تعالى : " من قبله " قال ابن عباس : من قبل نزول القرآن . " لمن الغافلين " عن علم خبر يوسف وما صنع به إخوته .
    إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين

    قوله تعالى : " إذ قال يوسف لأبيه " في " إذ " قولان :

    أحدهما : أنها صلة للفعل المتقدم ، والمعنى : نحن نقص عليك إذ قال يوسف .

    [ ص: 180 ] والثاني : أنها صلة لفعل مضمر ، تقديره : اذكر إذ قال يوسف ، ذكرهما الزجاج ، وابن الأنباري .

    قوله تعالى : " يا أبت " قرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، بفتح التاء ، ووقفا بالهاء ، وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء ، وقرأ الباقون بكسر التاء . فمن فتح التاء ، أراد : يا أبتا فحذف الألف كما تحذف الياء ، فبقيت الفتحة دالة على الألف ، كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء . ومن وقف على الهاء ، فلأن تاء التأنيث تبدل منها الهاء في الوقف . وقرأ أبو جعفر أحد عشر ، وتسعة عشر ، بسكون العين فيهما .

    وفي ما رآه يوسف قولان :

    أحدهما : أنه رأى الشمس والقمر والكواكب ، وهو قول الأكثرين . قال الفراء : وإنما قال : " رأيتهم " على جمع ما يعقل ، لأن السجود فعل ما يعقل ، كقوله : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم [النمل :18] . قال المفسرون : كانت الكواكب في التأويل إخوته ، والشمس أمه ، والقمر أباه ، فلما قصها على يعقوب أشفق من حسد إخوته . وقال السدي : الشمس أبوه ، والقمر خالته ، لأن أمه كانت قد ماتت .

    والثاني : أنه رأى : أبويه وإخوته ساجدين له ، فكنى عن ذكرهم ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وقتادة . فأما تكرار قوله : " رأيتهم " فقال الزجاج : إنما كرره لما طال الكلام توكيدا .

    وفي سن يوسف لما رأى هذا المنام ثلاثة أقوال :

    أحدها : سبع سنين . والثاني : اثنتا عشرة سنة . والثالث : سبع عشرة سنة .

    قال المفسرون : علم يعقوب أن إخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه ، فقال : " لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا " ، قال ابن قتيبة : يحتالوا لك [ ص: 181 ] حيلة ويغتالوك . وقال غيره : اللام صلة ، والمعنى : فيكيدوك . والعدو المبين : الظاهر العداوة .
    وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم

    قوله تعالى : " وكذلك يجتبيك ربك " قال الزجاج ، وابن الأنباري : ومثل ما رأيت من الرفعة والحال الجليلة ، يختارك ربك ويصطفيك من بين إخوتك . وقد شرحنا في (الأنعام :87) معنى الاجتباء . وقال ابن عباس : يصطفيك بالنبوة .

    قوله تعالى : " ويعلمك من تأويل الأحاديث " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه تعبير الرؤيا ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، فعلى هذا سمي تأويلا لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إليه .

    والثاني : أنه العلم والحكمة ، قاله ابن زيد .

    والثالث : تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتب ، ذكره الزجاج . قال مقاتل : و " من " هاهنا صلة .

    قوله تعالى : " ويتم نعمته عليك " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : بالنبوة ، قاله ابن عباس .

    والثاني : بإعلاء الكلمة .

    والثالث : بأن أحوج إخوته إليه حتى أنعم عليهم ، ذكرهما الماوردي .

    وفي " آل يعقوب " ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنهم ولده ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر ، أتم عليهم نعمته بالسجود ليوسف ، قاله مقاتل . [ ص: 182 ] والثالث : أهله ، قاله أبو عبيدة ، واحتج بأنك إذا صغرت الآل ، قلت : أهيل .

    قوله تعالى : " كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق " قال عكرمة : فنعمته على إبراهيم أن نجاه من النار ، ونعمته على إسحاق أن نجاه من الذبح ،

    قوله تعالى : " إن ربك عليم " أي : عليم حيث يضع النبوة " حكيم " في تدبير خلقه .
    لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين

    قوله تعالى : " لقد كان في يوسف وإخوته " أي : في خبر يوسف وقصة إخوته " آيات " أي : عبر لمن سأل عنهم ، فكل حال من أحواله آية . وقرأ ابن كثير " آية " قال المفسرون : وكان اليهود قد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف ، فأخبرهم بها كما في التوراة ، فعجبوا من ذلك .

    وفي وجه هذه الآيات خمسة أقوال :

    أحدها : الدلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم ، ولا نظر في الكتب . والثاني ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه . والثالث : صدق رؤياه وصحة تأويله . والرابع : ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحق الأمانة . والخامس : حدوث السرور بعد اليأس .

    فإن قيل : لم خص السائلين ، ولغيرهم فيها آيات أيضا ؟ فعنه جوابان :

    أحدهما : أن المعنى : للسائلين وغيرهم ، فاكتفى بذكر السائلين من غيرهم ، كما اكتفى بذكر الحر من البرد في قوله : تقيكم الحر [النحل :81] .

    والثاني : أنه إذا كان للسائلين عن خبر يوسف آية ، كان لغيرهم آية أيضا ; وإنما خص السائلين ، لأن سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر .
    [ ص: 183 ] إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين

    قوله تعالى : " إذ قالوا " يعني إخوة يوسف . " ليوسف وأخوه " يعنون ابن يامين . وإنما قيل له : ابن يامين لأن أمه ماتت نفساء . ويامين بمعنى الوجع ، وكان أخاه لأمه وأبيه . والباقون إخوته لأبيه دون أمه .

    فأما العصبة ، فقال الزجاج : هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضا في الفعل ، ويتعصب بعضهم لبعض .

    وللمفسرين في العصبة ستة أقوال :

    أحدها : أنها ما كان أكثر من عشرة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أنها ما بين العشرة إلى الأربعين ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال قتادة . والثالث : أنها ستة أو سبعة ، قاله سعيد بن جبير . والرابع : أنها من عشرة إلى خمسة عشر ، قاله مجاهد . والخامس : الجماعة ، قاله ابن زيد ، وابن قتيبة ، والزجاج . والسادس : عشرة ، قاله مقاتل . وقال الفراء : العصبة عشرة فما زاد .

    قوله تعالى : " إن أبانا لفي ضلال مبين " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : لفي خطإ من رأيه ، قاله ابن زيد . والثاني : في شقاء ، قاله مقاتل ; والمراد به عناء الدنيا . والثالث : لفي ضلال عن طريق الصواب الذي يقتضي تعديل المحبة بيننا ، لأن نفعنا له أعم . قال الزجاج : ولو نسبوه إلى الضلال في الدين كانوا كفارا ، إنما أرادوا : إنه قدم ابنين صغيرين علينا في المحبة ونحن جماعة نفعنا أكثر .
    اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين

    [ ص: 184 ] قوله تعالى : " اقتلوا يوسف " قال أبو علي : قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي : " مبين اقتلوا " بضم التنوين ، لأن تحريكه يلزم لالتقاء الساكنين ، فحركوه بالضم ليتبعوا الضمة الضمة ، كما قالوا : " مد " " وظلمات " . وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، بكسر التنوين ، فلم يتبعوا الضمة كما قالوا : " مد " " ظلمات " . قال المفسرون : وهذا قولهم بينهم " أو اطرحوه أرضا " قال الزجاج : نصب " أرضا " على إسقاط " في " ، وأفضى الفعل إليها ; والمعنى : أو اطرحوه أرضا يبعد بها عن أبيه . وقال غيره : أرضا تأكله فيها السباع .

    قوله تعالى : " يخل لكم وجه أبيكم " أي : يفرغ لكم من الشغل بيوسف . " وتكونوا من بعده " أي : من بعد يوسف . " قوما صالحين " فيه قولان :

    أحدهما : صالحين بالتوبة من بعد قتله ، قاله ابن عباس .

    والثاني : يصلح حالكم عند أبيكم ، قاله مقاتل . وفي قصتهم نكتة عجيبة ، وهو أنهم عزموا على التوبة قبل الذنب ، وكذلك المؤمن لا ينسى التوبة وإن كان مرتكبا للخطايا

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •