تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 11 من 25 الأولىالأولى ... 23456789101112131415161718192021 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 201 إلى 220 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #201
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (201)
    صــ41 إلى صــ 46


    فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين


    قوله تعالى: فقطع دابر القوم الذين ظلموا قال ابن السائب: دابرهم: [ ص: 41 ] الذي يتخلف في آخرهم . والمعنى: أنهم استؤصلوا . وقال أبو عبيدة: دابرهم: آخرهم الذي يدبرهم . قال ابن قتيبة: هو كما يقال: اجتث أصلهم .

    قال المفسرون: وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم ، لأن ذلك إنعام على رسلهم الذين كذبوهم ، وعلم الحمد على كفايته شر الظالمين .
    قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون

    قوله تعالى: قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم أي أذهبها ، وختم على قلوبكم حتى لا تعرفون شيئا من إله غير الله يأتيكم به في هاء "به" ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها تعود على الفعل: والمعنى: يأتيكم بما أخذ الله منكم ، قاله الزجاج . وقال الفراء: إذا كنيت عن الأفاعيل ، وإن كثرت ، وحدت الكناية ، كقوله للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذيني .

    والثاني: أنها تعود إلى الهدى ، ذكره الفراء . فعلى هذا تكون الكناية عن غير مذكور ، ولكن المعنى يشتمل عليه ، لأن من أخذ سمعه وبصره وختم على قلبه لم يهتد .

    والثالث: أنها تعود على السمع ، ويكون ما عطف عليه داخلا معه في القصة ، لأنه معطوف عليه ، ذكره الزجاج . والجمهور يقرؤون: من إله غير الله يأتيكم به انظر بكسر هاء "به" وروى المسيبي عن نافع: "به انظر" [ ص: 42 ] بالضم . قال أبو علي: من كسر ، حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو: بهي عيب ، ومن ضم ، فعلى قول من قال: فخسفنا بهو وبدارهو الأرض ، فحذف الواو .

    قوله تعالى: انظر كيف نصرف الآيات قال مقاتل: يعني تكون العلامات في أمور شتى فيخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب ، وبما صنع بالأمم الخالية ثم هم يصدفون أي يعرضون فلا يعتبرون .
    قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون

    قوله تعالى: قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة قال الزجاج : البغتة: المفاجأة; والجهرة: أن يأتيهم وهم يرونه . هل يهلك إلا القوم الظالمون أي: هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم لأنكم كفرتم معاندين فقد علمتم أنكم ظالمون .
    وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون

    قوله تعالى: وما نرسل المرسلين إلا مبشرين أي بالثواب; ومنذرين بالعقاب ، وليس إرسالهم ليأتوا بما يقترحونه من الآيات . ثم ذكر ثواب من صدق ، وعقاب من كذب في تمام الآية والتي بعدها . وقال ابن عباس : يفسقون: بمعنى يكفرون .
    قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون [ ص: 43 ] قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله سبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: يا محمد ، لو أنزل الله عليك كنزا فتستغني به ، فإنك فقير محتاج ، أو تكون لك جنة تأكل منها ، فإنك تجوع ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    قال الزجاج : وهذه الآية متصلة بقوله: ( لولا أنزل عليه آية من ربه ) ، فأعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي ، ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلا بوحي ، ولا يقول: إنه ملك ، لأن الملك يشاهد من أمور الله تعالى ما لا يشاهده البشر . وقرأ ابن مسعود ، وابن جبير ، وعكرمة ، والجحدري: "إني ملك" بكسر اللام . وفي الأعمى والبصير قولان .

    أحدهما: أن الأعمى: الكافر ، والبصير: المؤمن ، قاله ابن عباس ، وقتادة .

    والثاني: الأعمى: الضال ، والبصير: المهتدي ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد . وفي قوله تعالى: أفلا تتفكرون قولان .

    أحدهما: فيما بين لكم من الآيات الدالة على وحدانيته ، وصدق رسوله .

    والثاني: فيما ضرب لكم من مثل الأعمى والبصير ، وأنهما لا يستويان .
    وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون

    قوله تعالى: وأنذر به قال الزجاج : يعني بالقرآن ، وإنما ذكر الذين يخافون الحشر دون غيرهم ، وإن كان منذرا لجميع الخلق ، لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر ، لاعترافهم بالمعاد ، فهم أحد رجلين: إما مسلم ، فينذر ليؤدي حق الله عليه في إسلامه ، وإما كتابي ، فأهل الكتاب . مجمعون على البعث .

    [ ص: 44 ] وذكر الولي والشفيع ، لأن اليهود والنصارى ذكرت أنها أبناء الله وأحباؤه ، فأعلم عز وجل أن أهل الكفر ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ، وقال غيره: ليس لهم من دونه ولي ، أي: ليس لهم غير الله ولي ولا شفيع ، لأن شفاعة الشافعين بأمره .

    وقال أبو سليمان الدمشقي: هذه الآية متعلقة بقوله: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به [ الأنعام:19 ] .
    ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين .

    قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم روى سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية في ستة: في ، وفي ابن مسعود ، وصهيب ، وعمار ، والمقداد ، وبلال ، قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء ، فاطردهم عنك . فدخل على رسول الله من ذلك ما شاء الله أن يدخل ، فنزلت هذه الآية

    وقال خباب بن الأرت: نزلت فينا ، كنا ضعفاء عند النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا ، فجاء الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، فقالا: إنا من أشراف قومنا ، وإنا نكره أن يرونا معهم ، فاطردهم إذا جالسناك . قال: "نعم" .

    [ ص: 45 ] فقالوا: لا نرضى حتى تكتب بيننا كتابا ، فأتى بأديم ودواة ، ودعا عليا ليكتب ، فلما أراد ذلك ، ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بقوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم إلى قوله: فتنا بعضهم ببعض ، فرمى بالصحيفة ودعانا ، فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة . فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته .
    وقال ابن مسعود: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، فقالوا: يا محمد ، رضيت بهؤلاء ، أتريد أن نكون تبعا لهم؟ فنزلت: ولا تطرد الذين يدعون ربهم . وقال عكرمة: جاء عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، ومطعم بن عدي ، والحارث بن نوفل ، في أشراف بني عبد مناف ، إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم في صدورنا ، وأدنى لاتباعنا إياه ، فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك ، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون ، فنزلت هذه الآيات ، فأقبل عمر يعتذر من مقالته . وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في الموالي ، منهم بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار ، ومهجع ، وسلمان ، وعامر بن فهيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة; وأن قوله: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم نزلت فيهم أيضا . وقد روى العوفي عن ابن عباس: أن ناسا من [ ص: 46 ] الأشراف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نؤمن لك ، وإذا صلينا فأخر هؤلاء الذين معك ، فليصلوا خلفنا . فعلى هذا ، إنما سألوه تأخيرهم عن الصف ، وعلى الأقوال التي قبله ، سألوه طردهم عن مجلسه .

    قوله تعالى: يدعون ربهم في هذا الدعاء خمسة أقوال .

    أحدها: أنه الصلاة ، المكتوبة قاله ابن عمر ، وابن عباس . وقال مجاهد: هي الصلوات الخمس; وفي رواية عن مجاهد ، وقتادة قالا: يعني صلاة الصبح والعصر . وزعم مقاتل أن الصلاة يومئذ كانت ركعتين بالغداة ، وركعتين بالعشي; ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك .

    والثاني: أنه ذكر الله تعالى ، قاله إبراهيم النخعي ، وعنه كالقول الأول .

    والثالث: أنه عبادة الله ، قاله الضحاك .

    والرابع: أنه تعلم القرآن غدوة وعشية ، قاله أبو جعفر .

    والخامس: أنه دعاء الله بالتوحيد ، والإخلاص له ، وعبادته ، قاله الزجاج . وقرأ الجمهور: "بالغداة" وقرأ ابن عامر هاهنا وفي [الكهف] أيضا: "بالغدوة" بضم الغين وإسكان الدال وبعدها واو .

    قال الفراء: والعرب لا تدخل الألف واللام على "الغدوة" لأنها معرفة بغير ألف ولام ، ولا تضيفها العرب ، يقولون: أتيتك غداة الخميس ، ولا يقولون: غدوة الخميس ، فهذا دليل على أنها معرفة .

    وقال أبو علي: الوجه: الغداة ، لأنها تستعمل نكرة ، وتتعرف باللام; وأما غدوة ، فمعرفة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #202
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (202)
    صــ47 إلى صــ 52



    وقال الخليل: يجوز أن تقول: أتيتك اليوم غدوة وبكرة ، فجعلها بمنزلة ضحوة ، فهذا وجه قراءة ابن عامر . [ ص: 47 ] فإن قيل: دعاء القوم كان متصلا بالليل والنهار ، فلماذا خص الغداة والعشي؟ فالجواب: أنه نبه بالغداة على جميع النهار ، وبالعشي على الليل ، لأنه إذا كان عمل النهار خالصا له ، كان عمل الليل أصفى .

    قوله تعالى: يريدون وجهه قال الزجاج : أي يريدون الله ، فيشهد الله لهم بصحة النيات ، وأنهم مخلصون في ذلك .

    وأما الحساب المذكور في الآية ، ففيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه حساب الأعمال ، قاله الحسن .

    والثاني: حساب الأرزاق . والثالث: أنه بمعنى الكفاية; والمعنى: ما عليك من كفايتهم ، ولا عليهم كفايتك .

    قوله تعالى: فتكون من الظالمين قال ابن الأنباري: عظم هذا الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم ، وخوف بالدخول في جملة الظالمين ، لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء على الضعفاء .
    وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

    قوله تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض المعنى: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير ، ابتلينا أيضا بعضهم ببعض . "وفتنا" بمعنى: ابتلينا واختبرنا; "ليقولوا" ، يعني الكبراء "أهؤلاء" يعنون الفقراء والضعفاء من الله عليهم بالهدى؟ وهذا استفهام معناه الإنكار ، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة .

    قال ابن السائب: ابتلى الله الرؤساء بالموالي ، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله ، أنف أن يسلم ، ويقول: سبقني هذا؟ [ ص: 48 ] قوله تعالى: أليس الله بأعلم بالشاكرين أي: بالذين يشكرون نعمته إذا من عليهم بالهداية . والمعنى: إنما يهدي الله من يعلم أنه يشكر . والاستفهام في "أليس" ، معناه التقرير ، أي: إنه كذلك .
    وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم

    قوله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .

    أحدها: أنها نزلت في رجال أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظيمة ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه ، الآية قاله أنس بن مالك .

    والثاني: أنها نزلت في الذين نهى عن طردهم ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام ، قاله الحسن وعكرمة .

    والثالث: أنها نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وعثمان بن مظعون ، وأبي عبيدة ، ومصعب بن عمير ، وسالم ، وأبي سلمة ، والأرقم ابن أبي الأرقم ، وعمار ، وبلال ، قاله عطاء .

    والرابع: أن عمر بن الخطاب كان أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأخير الفقراء ، [ ص: 49 ] استمال للرؤساء إلى الإسلام . فلما نزلت: ولا تطرد الذين يدعون ربهم ، جاء عمر يعتذر من مقالته ويستغفر منها ، فنزلت فيه هذه الآية ، قاله ابن السائب .

    والخامس: أنها نزلت مبشرة بإسلام عمر بن الخطاب ، فلما جاء وأسلم ، تلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

    فأما قوله تعالى: يؤمنون بآياتنا فمعناه: يصدقون بحججنا وبراهيننا .

    قوله تعالى فقل سلام عليكم فيه قولان .

    أحدهما: أنه أمر بالسلام عليهم تشريفا لهم; وقد ذكرناه عن الحسن ، وعكرمة .

    والثاني: أنه أمر بإبلاغ السلام إليهم عن الله تعالى ، قاله ابن زيد . قال الزجاج : ومعنى السلام: دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات . وفي السوء قولان .

    أحدهما: أنه الشرك . والثاني: المعاصي .

    وقد ذكرنا في سورة [النساء] معنى "الجهالة" قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي: "أنه من عمل منكم سوءا" فإنه غفور بكسر الألف فيهما . وقرأ عاصم ، وابن عامر: بفتح الألف فيهما . وقرأ نافع: بنصب ألف "أنه" وكسر ألف "فإنه غفور" قال أبو علي: من كسر ألف "إنه" جعله تفسيرا للرحمة ، ومن كسر ألف "فإنه غفور" فلأن ما بعد الفاء حكمة الابتداء ، ومن فتح ألف "أنه من عمل" جعل "أن" بدلا من الرحمة ، والمعنى: كتب ربكم "أنه من عمل" ومن فتحها بعد الفاء ، أضمر خبرا تقديره: فله ( أنه غفور رحيم ) والمعنى: فله غفرانه . وكذلك قوله تعالى: فإن له نار جهنم [التوبة:63] ، معناه: فله أن له نار جهنم . وأما قراءة نافع ، فإنه أبدل من الرحمة ، واستأنف ما بعد الفاء .
    [ ص: 50 ] وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين

    قوله تعالى: وكذلك نفصل الآيات أي: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين ، كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل . قال ابن قتيبة: ومعنى تفصيلها: إتيانها متفرقة شيئا بعد شيء .

    قوله تعالى "ولتستبين" وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "ولتستبين" بالتاء ، "سبيل" بالرفع . وقرأ نافع ، وزيد عن يعقوب: بالتاء أيضا ، إلا أنهما نصبا السبيل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم: "وليستبين" بالياء ، "سبيل" بالرفع . فمن قرأ "ولتستبين" بالياء أو التاء ، فلأن السبيل تذكر وتؤنث على ما بينا في (آل عمران) ومن نصب اللام ، فالمعنى: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين . وفي سبيلهم التي بينت له ، قولان .

    أحدهما: أنها طريقهم في الشرك ، ومصيرهم إلى الخزي ، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه ، وذلك إنما هو الحسد ، لا إيثار مجالسته واتباعه ، قاله أبو سليمان .

    فإن قيل: كيف انفردت لام "كي" في قوله: "ولتستبين" وسبيلها أن تكون شرطا لفعل يتقدمها أو يأتي بعدها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري بجوابين .

    أحدهما: أنها شرط لفعل مضمر ، يراد به: ونفعل ذلك لكي تستبين .

    والثاني: أنها معطوفة على لام مضمرة ، تأويله: نفصل الآيات ليتكشف أمرهم ، ولتستبين سبيلهم .
    قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين [ ص: 51 ] قوله تعالى قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله يعني الأصنام . وفي معنى "تدعون" قولان . أحدهما: تدعونهم آلهة .

    والثاني: تعبدون; قاله ابن عباس . وأهواءهم: دينهم . قال الزجاج : أراد إنما عبدتموها على طريق الهوى ، لا على طريق البينة والبرهان . ومعنى "إذا" معنى الشرط; والمعنى: قد ضللت إن عبدتها . وقرأ طلحة ، وابن أبي ليلى: "قد ضللت" بكسر اللام .
    قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين

    قوله تعالى: قل إني على بينة من ربي سبب نزولها أن النضر بن الحارث وسائر قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به ، استهزاء; وقام النضر عند الكعبة وقال: اللهم إن كان ما يقول حقا ، فائتنا بالعذاب; فنزلت هذه الآية; رواه أبو صالح عن ابن عباس . فأما البينة ، فهي الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل . قال الزجاج : أنا على أمر بين ، لا متبع لهوى .

    قوله تعالى: وكذبتم به في هاء الكناية ، ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها ترجع إلى الرب . والثاني: ترجع إلى البيان . والثالث: ترجع إلى العذاب الذي طلبوه استهزاء

    قوله تعالى: ما عندي ما تستعجلون به أي: ما بيدي . وفي الذي استعجلوا به قولان .

    أحدهما: أنه العذاب; قاله ابن عباس ، والحسن .

    والثاني: أنه الآيات التي كانوا يقترحونها; ذكره الزجاج . [ ص: 52 ] قوله تعالى: إن الحكم إلا لله فيه قولان .

    أحدهما: أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب .

    والثاني: أنه القضاء بإنزال العذاب على المخالف .

    قوله تعالى: يقص الحق قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع "يقص الحق" بالصاد المشددة ، من القصص; والمعنى: أن كل ما أخبر به فهو حق . وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة والكسائي: "يقضي الحق" من القضاء; والمعنى يقضي القضاء الحق .
    قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين

    قوله تعالى: قل لو أن عندي ما تستعجلون به أي: من العذاب لقضي الأمر بيني وبينكم قال ابن عباس : يقول: لم أمهلكم ساعة ولأهلكتكم .

    قوله تعالى: والله أعلم بالظالمين فيه قولان .

    أحدهما: أن المعنى: إن شاء عاجلهم ، وإن شاء أخر عقوبتهم .

    والثاني: أعلم بما يؤول إليه أمرهم ، وأنه قد يهتدي منهم قوم ، ولا يهتدي آخرون; فلذلك يؤخروهم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #203
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (203)
    صــ53 إلى صــ 58



    وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين

    قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب قال ابن جرير: المفاتح: جمع مفتح; [ ص: 53 ] يقال مفتح ومفتاح ، فمن قال مفتح ، جمعه: مفاتح . ومن قال: مفتاح ، جمعه: مفاتيح . وفي "مفاتح الغيب" سبعة أقوال .

    أحدها: أنها خمس لا يعلمها إلا الله عز وجل . روى البخاري في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله" قال ابن مسعود: أوتي نبيكم علم كل شيء إلا مفاتيح الغيب .

    والثاني: أنها خزائن غيب السماوات من الأقدار والأرزاق ، قاله ابن عباس .

    والثالث: ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب ، وما تصير إليه الأمور ، قاله عطاء .

    والرابع خزائن غيب العذاب ، متى ينزل ، قاله مقاتل . [ ص: 54 ] والخامس الوصلة إلى علم الغيب إذا استعلم ، قاله الزجاج .

    والسادس: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال .

    والسابع: ما لم يكن ، هل يكون ، أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون وما لا يكون ، إن كان ، كيف يكون؟ فأما البر ، فهو القفر . وفي البحر قولان . أحدهما: أنه الماء ، قاله الجمهور . والثاني: أنه القرى ، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها قال الزجاج : المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة ، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه ، ليس تأويله: اعرفه في حال مجيئه فقط . فأما ظلمات الأرض ، فالمراد بها بطن الأرض .

    وفي الرطب واليابس ، خمسة أقوال .

    أحدها: أن الرطب: الماء ، واليابس: البادية . والثاني: الرطب: ما ينبت ، واليابس: ما لا ينبت ، والثالث: الرطب: الحي ، واليابس: الميت . والرابع: الرطب: لسان المؤمن يذكر الله ، واليابس: لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله . والخامس: أنهما الشيء ينتقل من إحدى الحالتين إلى الأخرى ، فهو يعلمه رطبا ، ويعلمه يابسا . وفي الكتاب المبين قولان .

    أحدهما أنه اللوح المحفوظ; قاله مقاتل . والثاني: أنه علم الله المتقن; ذكره الزجاج . فإن قيل: ما الفائدة في إحصاء هذه الأشياء في كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة ، ذكرهن ابن الأنباري .

    أحدها: أنه أحصاها في كتاب ، لتقف الملائكة على نفاذ علمه .

    والثاني: أنه نبه بذلك عباده على تعظيم الحساب ، وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون ، لأن من يثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب ، فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع . [ ص: 55 ] والثالث: أن المراد بالكتاب: العلم; فالمعنى: أنها مثبتة في علمه .
    وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون

    قوله تعالى: وهو الذي يتوفاكم بالليل يريد به النوم لأنه يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم ، كما يقبض بالموت . وقال ابن عباس : يقبض أرواحكم في منامكم . وجرحتم: بمعنى كسبتم . "ثم يبعثكم" أي يوقظكم فيه ، أي: في النهار ليقضى أجل مسمى أي: لتبلغوا الأجل المسمى لانقطاع حياتكم ، فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت .
    وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون

    قوله تعالى: ويرسل عليكم حفظة الحفظة: الملائكة ، وأحدهما: حافظ ، والجمع: حفظة ، مثل كاتب وكتبة ، وفاعل وفعلة . وفيما يحفظونه قولان .

    أحدهما: أعمال بني آدم; قاله ابن عباس . والثاني: أعمالهم وأجسادهم ، قاله السدي .

    قوله تعالى: توفته رسلنا وقرأ حمزة: "توفاه رسلنا" وحجته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير حقيقي ، وإنما التأنيث للجمع ، فهو مثل: وقال نسوة [يوسف:30] . وفي المراد بالرسل ثلاثة أقوال .

    أحدها أنهم أعوان ملك الموت قاله ابن عباس وقال النخعي: أعوانه يتوفون النفوس ، وهو يأخذها منهم .

    [ ص: 56 ] والثاني: أن المراد بالرسل: ملك الموت وحده ، قاله مقاتل .

    والثالث: أنهم الحفظة ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: وهم لا يفرطون قال ابن عباس : لا يضيعون . فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: توفته رسلنا وبين قوله: قل يتوفاكم ملك الموت ، [السجدة:11 ] فعنه جوابان

    أحدهما: أنه يجوز أن يريد بالرسل ملك الموت وحده ، وقد يقع الجمع على الواحد . والثاني: أن أعوان ملك الموت يفعلون بأمره ، فأضيف الكل إلى فعله .

    وقيل: توفي أعوان ملك الموت بالنزع ، وتوفي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب ، ويدعوها فتخرج ، وتوفي الله تعالى بأن يخلق الموت في الميت .
    ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين

    قوله تعالى: ثم ردوا إلى الله يعني العباد . وفي متولي الرد قولان .

    أحدهما: أنهم الملائكة ، ردتهم بالموت إلى الله تعالى .

    والثاني: أنه الله عز وجل ، ردهم بالبعث في الآخرة . وفي معنى ردهم إلى الله تعالى قولان .

    أحدهما: أنهم ردوا إلى المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلا الله وحده .

    والثاني: أنهم ردوا إلى الله تدبيره وحده; لأنه لما أنشأهم كان منفردا بتدبيرهم ، فلما مكنهم من التصرف ، صاروا في تدبير أنفسهم ، ثم كفهم عنه بالموت ، فصاروا مردودين . إلى تدبيره [ ص: 57 ] قوله تعالى: ألا له الحكم يعني القضاء . وبيان سرعة الحساب ، في [البقرة] .
    قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون

    قوله تعالى: قل من ينجيكم قرأ عاصم ، وحمزة والكسائي ، وأبو جعفر: " قل من ينجيكم قل الله ينجيكم" مشددين . وقرأ يعقوب ، والقزاز عن عبد الوارث: بسكون النون وتخفيف الجيم . قال الزجاج : والمشددة أجود للكثرة . وظلمات البر والبحر: شدائدها; والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة يوم مظلم ، حتى إنهم يقولون: يوم ذو كواكب ، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل . قال الشاعر:


    فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا


    [ ص: 58 ] قوله تعالى: تدعونه تضرعا أي مظهرين الضراعة ، وهي شدة الفقر إلى الشيء ، والحاجة .

    قوله تعالى: وخفية قرأ عاصم إلا حفصا: "وخفية" بكسر الخاء; وكذلك في [الأعراف] . وقرأ الباقون بضم الخاء ، وهما لغتان . قال الفراء: وفيها لغة أخرى بالواو ، ولا تصلح في القراءة ، خفوة ، وخفوة . ومعنى الكلام ، أنكم تدعونه في أنفسكم ، كما تدعونه ظاهرا: "لئن أنجيتنا" كذلك قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو: "لئن أنجيتنا" وقرأ عاصم ، وحمزة والكسائي: "لئن أنجانا" بألف ، لمكان الغيبة في قوله: "تدعونه" . وكان حمزة ، والكسائي: وخلف يميلون الجيم .

    قوله تعالى: من هذه يعني: في أي شدة وقعتم ، قلتم: "لئن أنجيتنا من هذه" . قال ابن عباس : و"الشاكرون" هاهنا: المؤمنون . وكانت قريش تسافر في البر والبحر ، فإذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك ، دعوا الله مخلصين ، فأنجاهم . فأما "الكرب" فهو الغم الذي يأخذ بالنفس ، ومنه اشتقت الكربة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #204
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (204)
    صــ59 إلى صــ 64



    قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون .

    قوله تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم فيه قولان .

    [ ص: 59 ] أحدهما: أن الذي فوقهم: العذاب النازل من السماء ، كما حصب قوم لوط ، وأصحاب الفيل . والذي من تحت أرجلهم: كما خسف بقارون ، قاله ابن عباس ، والسدي ، ومقاتل . وقال غيرهم: ومنه الطوفان ، والريح ، والصيحة ، والرجفة .

    والقول الثاني: أن الذي من فوقهم: من قبل أمرائهم . والذي من تحتهم: من سفلتهم ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال في رواية أخرى: الذي من فوقهم: أئمة السوء; والذي من تحت أرجلهم: عبيد السوء .

    قوله تعالى: أو يلبسكم شيعا قال ابن عباس : يبث فيكم الأهواء المختلفة ، فتصيرون فرقا . قال ابن قتيبة: يلبسكم: من الالتباس عليهم والمعنى: حتى تكونوا شيعا ، أي: فرقا مختلفين . ثم يذيق بعضكم بأس بعض بالقتال والحرب . وقال الزجاج : يلبسكم ، أي: يخلط أمركم خلط اضطراب ، لا خلط اتفاق . يقال: لبست عليهم الأمر ، ألبسه: إذا لم أبينه . ومعنى شيعا: أي يجعلكم فرقا ، فإذا كنتم مختلفين ، قاتل بعضكم بعضا .

    قوله تعالى: ويذيق بعضكم بأس بعض أي يقتل بعضكم بيد بعض . وفيمن عني بهذه الآية ، ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها في المسلمين أهل الصلاة ، هذا مذهب ابن عباس ، وأبي العالية ، وقتادة . وقال أبي بن كعب في هذه الآية: هن أربع خلال ، وكلهن عذاب ، وكلهن واقع قبل يوم القيامة ، فمضت اثنتان قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ، ألبسوا شيعا ، وأذيق بعضهم بأس بعض . وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف ، والرجم .

    [ ص: 60 ] والثاني: أن العذاب للمشركين ، وباقي الآية للمسلمين ، قاله الحسن . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سألت ربي ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة ، سألته أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به من كان قبلكم فأعطانيها ، وسألته أن لا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم فأعطانيها ، وسألته أن لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ، فمنعنيها .

    والثالث: أنها تهدد للمشركين ، قاله ابن جرير الطبري ، وأبو سليمان الدمشقي .
    وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل

    قوله تعالى: وكذب به قومك في هاء "به" ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها كناية عن القرآن . والثاني: عن تصريف الآيات . والثالث: عن العذاب . [ ص: 61 ] قوله تعالى: قل لست عليكم بوكيل فيه قولان .

    أحدهما: لست حفيظا على أعمالكم لأجازيكم بها ، إنما أنا منذر ، قاله الحسن .

    والثاني: لست حفيظا عليكم أخذكم بالإيمان ، إنما أدعوكم إلى الله ، قاله الزجاج .

    فصل

    وفي هذا القدر من الآية قولان .

    أحدهما: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة ، ثم نسخ ذلك بآية السيف .

    والثاني: أن معناه: لست حفيظا عليكم ، إنما أطالبكم بالظواهر من الإقرار والعمل ، لا بالإسرار; فعلى هذا هو محكم .
    لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون

    قوله تعالى: لكل نبإ مستقر أي: لكل خبر يخبر الله به وقت يقع فيه من غير خلف ولا تأخير . قال السدي: فاستقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر . وقال مقاتل: منه في الدنيا يوم بدر ، وفي الآخرة جهنم .
    وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين

    قوله تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال . [ ص: 62 ] أحدها: المشركون . والثاني: اليهود: والثالث: أصحاب الأهواء . والآيات: القرآن . وخوض المشركين فيه: تكذيبهم به واستهزاؤهم ، ويقاربه خوض اليهود ، وخوض أهل الأهواء بالمراء والخصومات .

    قوله تعالى: فأعرض عنهم أي: فاترك مجالستهم ، حتى يكون خوضهم في غير القرآن . وإما ينسينك وقرأ ابن عامر: "ينسينك" ، بفتح النون ، وتشديد السين ، والنون الثانية ، ومثل هذا: غرمته وأغرمته . وفي التنزيل: فمهل الكافرين أمهلهم والمعنى: إذا أنساك الشيطان ، فقعدت معهم ناسيا نهينا لك ، فلا تقعد بعد الذكرى . والذكر والذكرى: واحد . قال ابن عباس : قم إذا ذكرته; والظالمون: المشركون .
    وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون

    قوله تعالى: وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء في سبب نزولها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن المسلمين قالوا: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن ،

    وخاضوا فيه ، فمنعناهم ، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، ولا أن نطوف بالبيت ، فنزلت هذه الآية .

    والثاني: أن المسلمين قالوا: إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض فنزلت هذه الآية .

    والثالث: أن المسلمين قالوا: لو قمنا عنهم إذا خاضوا ، فانا نخشى الإثم في مجالستهم ، فنزلت هذه الآية . هذا عن مقاتل ، والأولان عن ابن عباس . [ ص: 63 ] قوله تعالى: وما على الذين يتقون فيه قولان .

    أحدهما: يتقون الشرك . والثاني: يتقون الخوض .

    قوله تعالى: من حسابهم يعني: حساب الخائضين . وفي حسابهم قولان .

    أحدهما: أنه كفرهم وآثامهم . والثاني: عقوبة خوضهم .

    قوله تعالى: ولكن ذكرى أي: ولكن عليكم أن تذكروهم . وفيما تذكرونهم به ، قولان .

    أحدهما: المواعظ . والثاني: قيامكم عنهم . قال مقاتل: إذا قمتم عنهم ، منعهم من الخوض الحياء منكم ، والرغبة في مجالستكم .

    قوله تعالى: لعلهم يتقون فيه قولان .

    أحدهما: يتقون الاستهزاء . والثاني: يتقون الوعيد .

    فصل

    وقد ذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة ، لأنها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار على تذكيرهم ، ثم نسخت بقوله: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم [النساء:410] والصحيح أنها محكمة ، لأنها خبر ، وإنما دلت على أن كل عبد يختص بحساب نفسه ، ولا يلزمه حساب غيره .
    وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون [ ص: 64 ] الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

    قوله تعالى: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا فيهم قولان .

    أحدهما: أنها الكفار . والثاني: اليهود والنصارى .

    وفي اتخاذهم دينهم لعبا ولهوا ، ثلاثة أقوال . أحدها: أنه استهزاؤهم بآيات الله إذا سمعوها .

    والثاني: أنهم دانوا بما اشتهوا كما يلهون بما يشتهون .

    والثالث: أنهم يحافظون على دينهم إذا اشتهوا ، كما يلهون إذا اشتهوا . قال الفراء: ويقال: إنه ليس من قوم إلا ولهم عيد ، فهم يلهون في أعيادهم ، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن أعيادهم صلاة وتكبير وبر وخير .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #205
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (205)
    صــ65 إلى صــ 70



    فصل

    ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، قولان .

    أحدهما: أنه خرج مخرج التهديد ، كقوله: ذرني ومن خلقت وحيدا [المدثر:11] فعلى هذا ، هو محكم ، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد .

    والثاني: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم ، ثم نسخ بآية السيف; وإلى هذا ذهب قتادة ، والسدي .

    قوله تعالى: وذكر به أي: عظ بالقرآن . وفي قوله: أن تبسل قولان . [ ص: 65 ] أحدهما: لئلا تبسل نفس كقوله: أن تضلوا [النساء:176] .

    والثاني: ذكرهم إبسال المبسلين بجناياتهم لعلهم يخافون .

    وفي معنى "تبسل" سبعة أقوال .

    أحدها: تسلم ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، والسدي . وقال ابن قتيبة: تسلم إلى الهلكة . قال الشاعر:


    وإبسالي بني بغير جرم بعوناه ولا بدم مراق


    أي: بغير جرم أجرمناه; والبعو: الجناية . وقال الزجاج : تسلم بعملها غير قادرة على التخلص . والمستبسل: المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التخلص .

    والثاني: تفضح ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث: تدفع رواه الضحاك عن ابن عباس . والرابع: تهلك ، روي عن ابن عباس أيضا . والخامس: تحبس وتؤخذ ، قاله قتادة ، وابن زيد . والسادس: تجزى ، قاله ابن السائب ، والكسائي . والسابع: ترتهن ، قاله الفراء . وقال أبو عبيدة: ترتهن وتسلم; وأنشد:


    هنالك لا أرجو حياة تسرني سمير الليالي مبسلا بالجرائر


    [ ص: 66 ] سمير الليالي: أبد الليالي: فأما الولي: فهو الناصر الذي يمنعها من عذاب الله . والعدل: الفداء . قال ابن زيد: وإن تفتد كل فداء لا يقبل منها . فأما الحميم ، فهو الماء الحار . قال ابن قتيبة: ومنه سمي الحمام .
    قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون

    قوله تعالى: قل أندعو من دون الله أي: أنعبد ما لا يضرنا إن لم نعبده ، ولا ينفعنا إن عبدناه ، وهي الأصنام . ونرد على أعقابنا أي: نرجع إلى الكفر بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام ، فنكون كالذي استهوته الشياطين . وقرأ حمزة: "استهواه الشياطين" على قياس قراءته: ( توفاه رسلنا ) . وفي معنى "استهوائها" قولان .

    أحدهما: أنها هوت به وذهبت ، قاله ابن قتيبة . وقال أبو عبيدة: تشبه له الشياطين ، فيتبعها حتى تهوي به في الأرض ، فتضله .

    والثاني: زينت له هواه ، قاله الزجاج . قال: و"حيران" منصوب على الحال ، أي: استهوته في حال حيرته . قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا ، واتركوا دين محمد ، فقال تعالى: قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله فنكون كرجل كان مع قوم [ ص: 67 ] على طريق ، فضل ، فخيرته الشياطين ، وأصحابه على الطريق يدعونه: يا فلان هلم إلينا ، فإنا على الطريق ، فيأبى . وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق ، دعاه أبوه وأمه إلى الإسلام فأبى . قال مقاتل: والمراد بأصحابه: أبواه .

    قوله تعالى: قل إن هدى الله هو الهدى هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام ، وزجر عن إجابته كأنه قيل له: لا تفعل ذلك ، لأن هدى الله هو الهدى ، لا هدى غيره .

    قوله تعالى: وأمرنا لنسلم قال الزجاج : العرب تقول أمرتك أن تفعل: وأمرتك لتفعل ، وأمرتك بأن تفعل ، فمن قال: "بأن" فالباء; للإلصاق . والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل ، ومن قال: "أن تفعل" فعلى خذف الباء; ومن قال: "لتفعل" فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الأمر . قال: وفي قوله: وأن أقيموا الصلاة وجهان .

    أحدهما: أمرنا لأن نسلم ، ولأن نقيم الصلاة .

    والثاني: أن يكون محمولا على المعنى ، لأن المعنى: أمرنا بالإسلام ، وبإقامة الصلاة .
    وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير

    قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق فيه أربعة أقوال .

    أحدها: خلقهما للحق . والثاني: خلقهما حقا . والثالث: خلقهما بكلامه وهو الحق . والرابع: خلقهما بالحكمة . [ ص: 68 ] قوله تعالى: ويوم يقول كن فيكون قال الزجاج : الأجود أن يكون منصوبا على معنى: واذكر يوم يقول كن فيكون ، لأن بعده وإذ قال إبراهيم فالمعنى: واذكر هذا وهذا . وفي الذي يقول له كن فيكون ، ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه يوم القيامة ، قاله مقاتل . والثاني: ما يكون في القيامة .

    والثالث: أنه الصور ، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه ، قالهما الزجاج . قال وخص ذلك اليوم بسرعة إيجاد الشيء ، ليدل على سرعة أمر البعث .

    قوله تعالى: قوله الحق أي: الصدق الكائن لا محالة وله الملك يوم ينفخ في الصور وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو: "ننفخ" بنونين . ومعنى الكلام: أن الملوك يومئذ لا ملك لهم ، فهو المنفرد بالملك وحده ، كما قال: والأمر يومئذ لله [الانفطار:19] . وفي "الصور" قولان .

    أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه; روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور ، فقال: "هو قرن ينفخ فيه" . وقال مجاهد: الصور كهيأة البوق . وحكى ابن قتيبة: أن الصور: القرن ، في لغة قوم من أهل اليمن ، وأنشد:


    نحن نطحناهم غداة الجمعين بالضابحات في غبار النقعين



    نطحا شديدا لا كنطح الصورين


    [ ص: 69 ] وأنشد الفراء:


    لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم ولا خراسان حتى ينفخ الصور


    وهذا اختيار الجمهور .

    والثاني: أن الصور جمع صورة; يقال: صورة وصور ، بمنزلة سورة وسور ، كسورة البناء; والمراد نفخ الأرواح في صورة الناس ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة . وكذلك قرأ الحسن ، ومعاذ القارئ ، وأبو مجلز ، وأبو "المتوكل في الصور" بفتح الواو . قال ثعلب: الأجود أن يكون الصور: القرن ، لأنه قال عز وجل: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ;ثم قال: نفخ فيه أخرى ; ولو كان الصور ، كان: ثم نفخ فيها ، أو فيهن; وهذا يدل على أنه واحد; وظاهر القرآن يشهد أنه ينفخ في الصور مرتين . وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصور قرن ينفخ فيه ثلاث نفخات; الأولى: نفخة الفزع ، والثانية: نفخة الصعق ، والثالثة: نفخة القيامة لرب العالمين" . قال ابن عباس : وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى يعني: نفخة الصعق . [ ص: 70 ] قوله تعالى: عالم الغيب وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ، "والشهادة" وهو ما شاهدوه ورأوه . وقال الحسن: يعني بذلك السر والعلانية .
    وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين

    قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر في آزر أربعة أقوال .

    أحدها: أنه اسم أبيه ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، وابن إسحاق .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #206
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (206)
    صــ71 إلى صــ 76



    [ ص: 71 ] والثاني: أنه اسم صنم ، فأما اسم أبي إبراهيم ، فتارح ، قاله مجاهد . فيكون المعنى: أتتخذ آزر أصناما؟ فكأنه جعل أصناما بدلا من آزر ، والاستفهام معناه الإنكار .

    والثالث: أنه ليس باسم ، إنما هو سب بعيب ، وفي معناه قولان . أحدهما: أنه المعوج ، كأنه عابه نريغه وتعويجه عن الحق ، ذكره الفراء . والثاني: أنه المخطئ ، فكأنه قال: يا مخطئ أتتخذ أصناما؟ ذكره الزجاج .

    والرابع: أنه لقب لأبيه ، وليس باسمه ، قاله مقاتل بن حيان . قال ابن الأنباري: قد يغلب على اسم الرجل لقبه ، حتى يكون به أشهر منه باسمه . والجمهور على قراءة "آزر" بالنصب . وقرأ الحسن ، ويعقوب بالرفع . قال الزجاج : من نصب فموضع "آزر" خفض بدلا من أبيه; ومن رفع فعلى النداء .
    وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين

    قوله تعالى: وكذلك نري إبراهيم أي: وكما أريناه البصيرة في دينه ، والحق في خلاف قومه ، نريه ملكوت السماوات والأرض . وقيل "نري" بمعنى أرينا . قال الزجاج : والملكوت بمنزلة الملك ، إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة ، لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة; ومثل الملكوت: الرغبوت والرهبوت . قال مجاهد: ملكوت السماوات والأرض: آياتها; تفرجت له السماوات السبع ، حتى العرش ، فنظر فيهن ، وتفرجت به الأرضون السبع ، فنظر فيهن وقال قتادة: ملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم ، وملكوت الأرض:الجبال والشجر والبحار . وقال السدي: أقيم على صخرة ، وفتحت له السماوات والأرض ، فنظر إلى ملك الله عز وجل ، حتى نظر إلى العرش ، وإلى منزله من الجنة ، وفتحت له الأرضون السبع ، حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون . [ ص: 72 ] قوله تعالى: وليكون من الموقنين هذا عطف على المعنى ، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السماوات والأرض ليستدل به ، وليكون من الموقنين . وفي ما يوقن به ثلاثة أقوال .

    أحدها: وحدانية الله وقدرته . والثاني: نبوته ورسالته . والثالث: ليكون موقنا بعلم كل شيء حسا لا خبرا .
    فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين

    قوله تعالى: فلما جن عليه الليل الله قال الزجاج : يقال جن عليه الليل ، وأجنه الليل: إذا أظلم ، حتى يستر بظلمته; ويقال لكل ما ستر: جن ، وأجن والاختيار أن يقال جن عليه الليل وأجنه الليل .

    الإشارة إلى بدء قصة إبراهيم عليه السلام

    روى أبو صالح عن ابن عباس قال: ولد إبراهيم في زمن نمروذ ، وكان ، لنمروذ كهان ، فقالوا له: يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض ، ويدعوهم إلى غير دينهم ، ويكون هلاك أهل بيتك على يده ، فعزل النساء عن الرجال ، ودخل آزر إلى بيته ، فوقع على زوجته ، فحملت فقال الكهان لنمروذ: إن الغلام قد حمل به الليلة . فقال: كل من ولدت غلاما فاقتلوه . فلما أخذ أم إبراهيم المخاض ، خرجت هاربة ، فوضعته في نهر يابس ، ولفته في خرقة ، ثم وضعته في حلفاء ، وأخبرت به أباه ، فأتاه ، فحفر له سربا ، وسد عليه بصخرة ، [ ص: 73 ] وكانت أمه تختلف إليه فترضعه ، حتى شب وتكلم ، فقال لأمه: من ربي؟ فقالت: أنا . قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك . قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت . فسكت ، فرجعت إلى زوجها ، فقالت: إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض ، ابنك . فأتاه ، فقال له مثل ذلك . فلما جن عليه الليل ، دنا من باب السرب ، فنظر فرأى كوكبا . قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم "رأى" بفتح الراء والهمزة; وقرأ أبو عمرو: "رأى"; بفتح الراء وكسر الهمزة ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم . "رأى" ، بكسر الراء والهمزة ، واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن ، وهو آت في ستة مواضع: رأى القمر فلما رأى الشمس وفي النحل وإذا رأى الذين ظلموا [النحل:85] وإذا رأى الذين أشركوا [النحل:86] وفي الكهف: ورأى المجرمون النار [الكهف:53] وفي الأحزاب: ولما رأى المؤمنون [الأحزاب:22] .

    وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وحمزة إلا العبسي ، وخلف في اختياره: بكسر الراء وفتح الهمزة في الكل ، وروى العبسي كسرة الهمزة ، أيضا وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو; وابن عامر ، والكسائي: بفتح الراء والهمزة .

    فإن اتصل ذلك بمكنى ، نحو: رآك ، ورآه ورآها; فإن حمزة ، والكسائي ، وخلف ، والوليد عن ابن عامر ، والمفضل ، وأبان والقزاز عن عبد الوارث ، والكسائي عن أبي بكر: يكسرون الراء ، ويميلون الهمزة .

    وفي الكوكب الذي رآه قولان .

    أحدهما: أنه الزهرة ، قاله ابن عباس ، وقتادة . والثاني: المشترى ، قاله مجاهد ، والسدي .

    قوله تعالى: قال هذا ربي فيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 74 ] أحدها: أنه على ظاهره . روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال: هذا ربي ، فعبده حتى غاب ، وعبد القمر حتى غاب ، وعبد الشمس حتى غابت; واحتج أرباب هذا القول بقوله: لئن لم يهدني ربي وهذا يدل على نوع تحيير ، قالوا: وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه ، قبل أن يثبت عنده دليل .

    وهذا القول لا يرتضى ، والمتأهلون للنبوة محفوظون من مثل هذا على كل حال .

    فأما قوله: لئن لم يهدني ربي فما زال الأنبياء يسألون الهدى ، ويتضرعون في دفع الضلال عنهم ، كقوله: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [إبراهيم:35] ولأنه قد آتاه رشده من قبل ، وأراه ملكوت السماوات والأرض ليكون موقنا ، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التخيير؟!

    والثاني: أنه قال ذلك استدراجا للحجة ، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها ، ولا بد أن يضمر في نفسه: إما على زعمكم ، أو فيما تظنون ، فيكون كقوله: " أين شركائي " ، وإما أن يضمر: يقولون ، فيكون كقوله: ربنا تقبل منا [البقرة:127] أي: يقولان ذلك ، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الأنباري ، ويكون مراده استدراج الحجة عليهم ، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما ، فأظهر تعظيمه ، فأكرموه ، وصدروا عن رأيه ، فدهمهم عدو ، فشاورهم ملكهم ، فقال: ندعو إلهنا ليكشف ما بنا ، فاجتمعوا يدعونه ، فلم ينفع ، فقال هاهنا إله ندعوه ، فيستجيب ، فدعوا الله ، فصرف عنهم ما يحذرون ، وأسلموا .

    والثالث: أنه قال مستفهما ، تقديره: أهذا ربي؟ فأضمرت ألف الاستفهام ، كقوله: أفإن مت فهم الخالدون [الأنبياء:34]؟ أي: أفهم الخالدون؟ قال الشاعر: [ ص: 75 ]


    كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا


    أراد: أكذبتك؟ قال ابن الأنباري: وهذا القول شاذ ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقا بين الإخبار والاستخبار; وظاهر قوله: هذا ربي أنه إشارة إلى الصانع . وقال الزجاج : كانوا أصحاب نجوم ، فقال: هذا ربي ، أي: هذا الذي يدبرني ، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون أنه مدبر ، لا نرى فيه إلا أثر مدبر و"أفل" بمعنى: غاب; يقال: أفل النجم يأفل ويأفل أفولا

    قوله تعالى: لا أحب الآفلين أي: حب رب معبود ، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبرا .
    فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون

    قوله تعالى: فلما رأى القمر قال ابن قتيبة: سمي القمر قمرا لبياضه; والأقمر: الأبيض; وليلة قمراء ، أي: مضيئة . فأما البازغ ، فهو الطالع . ومعنى لئن لم يهدني : لئن لم يثبتني على الهدى . فإن قيل: لم قال في الشمس: هذا ، ولم يقل: هذه؟ فعنه أربعة أجوبة .

    أحدها: أنه رأى ضوء الشمس ، لا عينها ، قاله محمد بن مقاتل . والثاني: [ ص: 76 ] أنه أراد: هذا الطالع ربي ، قاله الأخفش . والثالث: أن الشمس بمعنى الضياء والنور ، فحمل الكلام على المعنى . والرابع: أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث ، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكر ، فجاز تذكيرها . ذكره والذي قبله ابن الأنباري .

    إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون

    قوله تعالى: إني وجهت وجهي قال الزجاج : جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين عز وجل . وباقي الآية قد تقدم .

    و قوله تعالى: وحاجه قومه قال ابن عباس : جادلوه في آلهتهم ، وخوفوه بها ، فقال منكرا عليهم: أتحاجوني . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي: " أتحاجوني " و " تأمروني " [الزمر:64] بتشديد النون . وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيفها ، فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين . ومعنى أتحاجوني في الله أي: في توحيده . وقد هداني ، أي: بين لي ما به اهتديت . وقرأ الكسائي: "هداني" بإمالة الدال . والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء ، وهذا من هدى يهدي .

    قوله تعالى: ولا أخاف ما تشركون به أي: لا أرهب آلهتكم ، وذلك أنهم قالوا: نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء ، فقال: لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع إلا أن يشاء ربي شيئا فله أخاف وسع ربي كل شيء علما أي: علمه علما تاما .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #207
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (207)
    صــ77 إلى صــ 82



    وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .

    قوله تعالى: وكيف أخاف ما أشركتم أي: من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم ، وهو قادر على ضركم ونفعكم ما لم ينزل به عليكم سلطانا أي: حجة فأي الفريقين أحق بالأمن أي: بأن يأمن العذاب ، الموحد الذي يعبد من بيده الضر والنفع؟ أم المشرك الذي يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ ثم بين الأحق من هو بقوله: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي: يخلطوه بشرك . روى البخاري ، ومسلم في "صحيحيهما" من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية ، شق ذلك على المسلمين ، فقالوا: يا رسول الله ، وأينا ذلك؟ فقال إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان:13]؟

    وفيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه إبراهيم وأصحابه ، وليست في هذه الأمة ، قاله علي بن أبي طالب . وقال في رواية أخرى: هذه الآية لإبراهيم خاصة ، ليس لهذه الأمة منها شيء .

    والثاني: أنه من هاجر إلى المدينة ، قاله عكرمة .

    والثالث: أنها عامة ، ذكره بعض المفسرين . وهل هي من قول إبراهيم لقومه ، أم جواب من الله تعالى؟ فيه قولان .

    [ ص: 78 ] وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم

    قوله تعالى: وتلك حجتنا يعني ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس ، وعيبهم ، إذ سووا بين الصغير والكبير ، وعبدوا من لا ينطق ، وإلزامه إياهم الحجة . آتيناها إبراهيم أرشدناه إليها بالإلهام .

    وقال مجاهد: الحجة قول إبراهيم فأي الفريقين أحق بالأمن

    قوله تعالى: نرفع درجات من نشاء قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عمرو وابن عامر: " درجات من نشاء " مضافا . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي "درجات" منونا ، وكذلك قرؤوا في "يوسف" [يوسف: 76] . ثم في المعنى قولان .

    أحدهما: أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة . والثاني: بالاصطفاء للرسالة .

    قوله تعالى: إن ربك حكيم قال ابن جرير: حكيم في سياسة خلقه ، وتلقينه أنبياءه الحج على أممهم المكذبة "عليم" بما يؤول إليه أمر الكل .
    ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم

    قوله تعالى: ووهبنا له إسحاق ولدا لصلبه "ويعقوب" ولدا لإسحاق "كلا" من هؤلاء المذكورين هدينا أي: أرشدنا .

    [ ص: 79 ] قوله تعالى: ومن ذريته في "هاء الكناية" قولان .

    أحدهما: أنها ترجع إلى نوح; رواه أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفراء ، ومقاتل ، وابن جرير الطبري .

    والثاني: إلى إبراهيم ، قاله عطاء . وقال الزجاج : كلا القولين جائز ، لأن ذكرهما جميعا قد جرى ، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى: ذكر في سياق الآيات لوطا ، وليس من ذرية إبراهيم . وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد: ووهبنا له لوطا في المعاضدة والنصرة ، ثم قوله: وكذلك نجزي المحسنين من أبين دليل على أنه إبراهيم ، لأن افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم . فأما "يوسف" فهو اسم أعجمي . قال الفراء: "يوسف" . بضم السين من غير همز ، لغة أهل الحجاز ، وبعض بني أسد يقول: "يؤسف" بالهمز ، وبعض العرب يقول: "يوسف" بكسر السين ، وبعض بني عقيل يقول: "يوسف" بفتح السين .

    قوله تعالى: وكذلك نجزي المحسنين أي: كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه ، بأن رفعنا درجته ، ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء ، كذلك نجزي المحسنين . فأما عيسى ، وإلياس ، واليسع ، ولوطا ، فأسماء أعجمية ، وجمهور القراء يقرؤون "اليسع" بلام واحدة مخففا ، منهم ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو وابن عامر . وقرأ حمزة ، والكسائي هاهنا وفي "ص": "إلليسع" بلامين مع التشديد . قال الفراء: وهي أشبه بالصواب ، وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل ، ولأن العرب لا تدخل على "يفعل" ، إذا كان في معنى فلان ، ألفا ولاما ، يقولون: [ ص: 80 ] هذا يسع قد جاء ، وهذا يعمر ، وهذا يزيد ، فهكذا الفصيح من الكلام .

    وأنشدني بعضهم .


    وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأحناء الخلافة كاهله


    فلما ذكر الوليد بالألف واللام ، أتبعه يزيد بالألف واللام ، وكل صواب . وقال مكي: من قرأه بلام واحدة ، فالأصل عنده: يسع ، ومن قرأه بلامين ، فالأصل عنده: ليسع ، فأدخلوا عليه حرف التعريف . وباقي أسماء الأنبياء قد تقدم بيانها ، والمراد بالعالمين: عالمو زمانهم .

    قوله تعالى: ومن آبائهم وذرياتهم "من" هاهنا للتبعيض . قال الزجاج : المعنى: هدينا هؤلاء ، وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم . واجتبيناهم مثل اخترناهم واصطفيناهم ، وهو مأخوذ من جبيت الشيء: إذا أخلصته لنفسك . وجبيت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه . فأما الصراط المستقيم ، فهو التوحيد .

    ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون

    قوله تعالى: ذلك هدى الله قال ابن عباس : ذلك دين الله الذي هم عليه يهدي به من يشاء من عباده . "ولو أشركوا" يعني الأنبياء المذكورين "لحبط" أي: لبطل وزال عملهم ، لأنه لا يقبل عمل مشرك .
    [ ص: 81 ] أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين

    قوله تعالى: أولئك الذين آتيناهم الكتاب يعني الكتب التي أنزلها عليهم .

    والحكم: الفقه ، والعلم فإن يكفر بها يعني بآياتنا .

    وفيمن أشير إليه بـ" هؤلاء" ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم أهل مكة ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة .

    والثاني: أنهم قريش ، قاله السدي . والثالث: أمة النبي صلى الله عليه وسلم . قاله الحسن .

    قوله تعالى: فقد وكلنا بها قال أبو عبيدة: فقد رزقناها قوما . وقال الزجاج : وكلنا بالإيمان بها قوما . وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم أهل المدينة من الأنصار ، قاله ابن عباس ، وابن المسيب ، وقتادة ، والسدي .

    والثاني: الأنبياء والصالحون ، قاله الحسن . وقال قتادة: هم النبيون الثمانية عشر ، المذكورون في هذا المكان ، وهذا اختيار الزجاج ، وابن جرير .

    والثالث: أنهم الملائكة ، قاله أبو رجاء . والرابع: أنهم المهاجرون والأنصار .
    أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين

    قوله تعالى: أولئك الذين هدى الله يعني النبيين المذكورين .

    وفي قوله تعالى: فبهداهم اقتده قولان .

    أحدهما: بشرائعهم وبسننهم فاعمل ، قاله ابن السائب .

    [ ص: 82 ] والثاني: اقتد بهم في صبرهم ، قاله الزجاج . وكان ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، يثبتون الهاء من قوله: "اقتده" في الوصل ساكنة . وكان حمزة ، وخلف ، ويعقوب ، والكسائي عن أبي بكر ، واليزيدي في اختياره ، يحذفون الهاء في الوصل . ولا خلاف في إثباتها في الوقف ، وإسكانها فيه .

    قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا يعني على القرآن . والذكرى: العظة . والعالمون هاهنا: الجن والإنس .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #208
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (208)
    صــ83 إلى صــ 88




    وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون

    قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره في سبب نزولها سبعة أقوال .

    أحدها: أن مالك بن الصيف رأس اليهود ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟" قال: نعم . قال: "فأنت الحبر السمين" . فغضب ، ثم قال: ما أنزل الله على بشر من شيء فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس; وكذلك قال سعيد بن جبير ، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف .

    والثاني: أن اليهود قالوا: يا محمد ، أنزل الله عليك كتابا؟ قال: "نعم" قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا ، فنزلت هذه الآية ، رواه الوالبي عن ابن عباس .

    والثالث: أن اليهود قالوا: يا محمد ، إن موسى جاء بألواح يحملها من عند الله ، فائتنا بآية كما جاء موسى ، فنزل: يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا [ ص: 83 ] من السماء إلى قوله: "عظيما"[النساء:153-156] . فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة ، قالوا: والله ما أنزل الله عليك ولا على موسى وعيسى ، ولا على بشر من شيء ، فنزلت هذه الآية ، قاله محمد بن كعب .

    والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى ، آتاهم الله علما ، فلم ينتفعوا به ، قاله قتادة .

    والخامس: أنها نزلت في فنحاص اليهودي ، وهو الذي قال: ما أنزل الله على بشر من شيء قاله السدي .

    والسادس: أنها نزلت في مشركي قريش ، قالوا: والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والسابع: أن أولها ، إلى قوله: من شيء في مشركي قريش . وقوله: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى في اليهود ، رواه ابن كثير عن مجاهد . وفي معنى وما قدروا الله حق قدره ثلاثة أقوال .

    أحدها: ما عظموا الله حق عظمته ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والفراء; وثعلب ، والزجاج .

    والثاني: ما وصفه حق صفته ، قاله أبو العالية ، واختاره الخليل .

    والثالث: ما عرفوه حق معرفته ، قاله أبو عبيدة .

    [ ص: 84 ] قوله تعالى: ( يجعلونه قراطيس ) معناه يكتبونه في قراطيس وقيل إنما قال قراطيس لأنهم كانوا يكتبونه في قراطيس مقطعة حتى لا تكون مجموهة ليخفوا منها ما شاؤوا .

    قوله تعالى: ( يبدونها ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: " يجعلونه قراطيس يبدونها " ، "ويخفون" بالياء فيهن . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: بالتاء فيهن . فمن قرأ بالياء ، فلأن القوم غيب ، بدليل قوله: وما قدروا الله حق قدره . ومن قرأ بالتاء ، فعلى الخطاب; والمعنى: تبدون منها ما تحبون ، وتخفون كثيرا ، مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ، ونحو ذلك مما كتموه .

    قوله تعالى: وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم في المخاطب بهذا قولان .

    أحدهما: أنهم اليهود ، قاله الجمهور .

    والثاني: أنه خطاب للمسلمين ، قاله مجاهد . فعلى الأول: علموا ما في التوراة; وعلى الثاني: علموا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: قل الله هذا جواب لقوله: من أنزل الكتاب وتقديره: فإن أجابوك ، وإلا فقل: الله أنزله .

    قوله تعالى: ثم ذرهم تهديد . وخوضهم: باطلهم . وقيل: إن هذا أمر بالإعراض عنهم ، ثم نسخ بآية السيف .

    قوله تعالى: وهذا كتاب أنزلناه يعني القرآن . قال الزجاج : والمبارك: الذي يأتي من قبله الخير الكثير . والمعنى: أنزلناه للبركة والإنذار .
    وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون [ ص: 85 ] قوله تعالى: مصدق الذي بين يديه من الكتب .

    قوله تعالى: ولتنذر أم القرى قرأ عاصم إلا حفصا: "ولينذر" بالياء; فيكون الكتاب هو المنذر . وقرأ الباقون: بالتاء ، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . فأما أم القرى ، فهي مكة . قال الزجاج : والمعنى: لتنذر أهل أم القرى .

    وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال .

    أحدها: أنها سميت بذلك ، لأن الأرض دحيت من تحتها ، قاله ابن عباس .

    والثاني: لأنها أقدمها ، قاله ابن قتيبة . والثالث لأنها قبلة جميع الناس ، يؤمونها ، والرابع: لأنها كانت أعظم القرى شأنا ، ذكرهما الزجاج .

    قوله تعالى: ومن حولها قال ابن عباس : يريد الأرض كلها .

    قوله تعالى: والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به في هاء الكناية قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن .

    والثاني: إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم . والمعنى: من آمن بالآخرة آمن به; ومن لم يؤمن به ، فليس إيمانه بالآخرة حقيقة ، ولا يعتد به ، ألا ترى إلى قوله: وهم على صلاتهم يحافظون فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصلوات .
    ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون

    قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .

    [ ص: 86 ] أحدها: أن أولها ، إلى قوله: ولم يوح إليه شيء نزل في مسيلمة الكذاب .

    و قوله تعالى: ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان قد تكلم بالإسلام ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين; فإذا أملي عليه: "عزيز حكيم" كتب: "غفور رحيم" فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا وذاك سواء . فلما نزلت: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين أملاها عليه ، فلما انتهى إلى قوله: خلقا آخر عجب عبد الله بن سعد ، فقال: ( تبارك الله أحسن الخالقين ) [المؤمنون:12-14] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذا أنزلت علي ، فاكتبها" فشك حينئذ ، وقال: لئن كان محمد صادقا: لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا ، لقد قلت كما قال ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال عكرمة: ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة .

    والقول الثاني: أن جميع الآية في عبد الله بن سعد ، قاله السدي .

    والثالث: أنها نزلت في مسيلمة ، والأسود العنسي ، قاله قتادة . فإن قيل: كيف أفرد قوله: أو قال أوحي إلي من قوله: ومن أظلم ممن افترى وذاك مفتر أيضا؟ فعنه جوابان .

    أحدهما: أن الوصفين لرجل واحد ، وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته .

    والثاني: أنه خص بقوله: أو قال أوحي إلي بعد أن عم بقوله: افترى على الله لأنه ليس كل مفتر على الله يدعي أنه يوحى إليه ، ذكرهما ابن الأنباري .

    قوله تعالى: سأنزل مثل ما أنزل الله أي: سأقول . قال ابن عباس : يعنون الشعر ، وهم المستهزؤون . وقيل: هو قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح . قال الزجاج : وهذا جواب لقولهم: "لو نشاء لقلنا مثل هذا" .

    [ ص: 87 ] قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون فيهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة ، فأخرجهم الكفار معهم إلى قتال بدر ، فلما أبصروا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا عن الإيمان ، فنزل فيهم هذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أنهم الذين قالوا: "ما أنزل على بشر من شيء" قاله أبو سليمان .

    والثالث: الموصوفون في هذه الآية ، وهم المفترون والمدعون الوحي إليهم ، ومماثلة كلام الله . قال الزجاج : وجواب "لو" محذوف; والمعنى: لو تراهم في غمرات الموت لرأيت عذابا عظيما . ويقال لكل من كان في شيء كبير: قد غمر فلانا ذلك . قال ابن عباس : غمرات الموت: سكراته . قاله ابن الأنباري: قال اللغويون: سميت غمرات ، لأن أهوالها يغمرن من يقعن به .

    قوله تعالى: والملائكة باسطو أيديهم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: بالضرب ، قاله ابن عباس . والثاني: بالعذاب ، قاله الحسن ، والضحاك . والثالث: باسطوها لقبض الأرواح من الأجساد ، قاله الفراء . وفي الوقت الذي يكون هذا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: عند الموت . قال ابن عباس : هذا عند الموت ، الملائكة يضربون وجوههم ، وأدبارهم وملك الموت يتوفاهم .

    والثاني: يوم القيامة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث: في النار ، قاله الحسن .

    قوله تعالى: أخرجوا أنفسكم فيه إضمار "يقولون" وفي معناه قولان .

    أحدهما: استسلموا لإخراج أنفسكم .

    [ ص: 88 ] والثاني: أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم .

    قوله تعالى: تجزون عذاب الهون قال أبو عبيدة: الهون: مضمون ، وهو الهوان; وإذا فتحوا أوله ، فهو الرفق والدعة . قال الزجاج : والمعنى: تجزون العذاب; الذي يقعد به الهوان الشديد .
    ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون

    قوله تعالى: ولقد جئتمونا فرادى سبب نزولها: أن النضر بن الحارث قال: سوف تشفع لي اللات والعزى ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة . ومعنى فرادى: وحدانا . وهذا إخبار من الله تعالى بما يوبخ به المشركين يوم القيامة . قال أبو عبيدة: فرادى ، أي فرد فرد . وقال ابن قتيبة; فرادى: جمع فرد .

    وللمفسرين في معنى "فرادى" خمسة أقوال متقاربة المعنى .

    أحدها: فرادى من الأهل والمال والولد ، قاله ابن عباس . والثاني: كل واحد على حدة ، قاله الحسن . والثالث: ليس معكم من الدنيا شيء ، قاله مقاتل . والرابع: كل واحد منفرد عن شريكه في الغي ، وشقيقه ، قاله الزجاج . والخامس: فرادى من المعبودين ، قاله ابن كيسان .

    قوله تعالى: كما خلقناكم أول مرة فيه ثلاثة أقوال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #209
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (209)
    صــ89 إلى صــ 94



    أحدها: لا مال ولا أهل ولا ولد . والثاني: حفاة عراة غرلا . والغرل: القلف . والثالث: أحياء . وخولناكم: بمعنى ملكناكم . وراء ظهوركم أي: [ ص: 89 ] في الدنيا . والمعنى: أن ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني ، وبقي الندم على سوء الاختيار . وفي شفعائهم ، قولان .

    أحدهما: أنها الأصنام . قال ابن عباس : شفعاؤكم ، أي: آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم . و زعمتم أنهم فيكم أي: عندكم شركاء . وقال ابن قتيبة: زعمتم أنهم لي في خلقكم شركاء .

    والثاني: أنها الملائكة; كانوا يعتقدون شفاعتها ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: لقد تقطع بينكم قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم: بالرفع . والكسائي ، وحفص عن عاصم: بنصب النون على الظرف . قال الزجاج : الرفع أجود ، ومعناه: لقد تقطع وصلكم ، والنصب جائز ، ومعناه: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم . وقال ابن الأنباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم ، فحذف "ما" لوضوح معناها . قال أبو علي: الذين رفعوه ، جعلوه اسما ، فأسندوا الفعل الذي هو "تقطع" إليه; والمعنى: لقد تقطع وصلكم . والذين نصبوا ، أضمروا اسم الفاعل في الفعل ، والمضمر هو الوصل; فالتقدير: لقد تقطع وصلكم بينكم . وفي الذي كانوا يزعمون قولان .

    أحدهما: شفاعة آلهتهم . والثاني: عدم البعث والجزاء .
    إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون

    قوله تعالى: إن الله فالق الحب والنوى في معنى الفلق قولان .

    أحدهما: أنه بمعنى الخلق ، فالمعنى: خالق الحب والنوى ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، ومقاتل .

    [ ص: 90 ] والثاني: أن الفلق بمعنى الشق . ثم في معنى الكلام قولان .

    أحدهما: أنه فلق الحبة عن السنبلة ، والنواة عن النخلة ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والسدي ، وابن زيد .

    والثاني: أنه الشقان اللذان في الحب والنوى ، قاله مجاهد ، وأبو مالك . قال ابن السائب: الحب: ما لم يكن له نوى ، كالبر والشعير; والنوى ، مثل نوى التمر .

    قوله تعالى: يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي قد سبق تفسيره في [آل عمران] .

    قوله تعالى: فأنى تؤفكون أي: كيف تصرفون عن الحق بعد هذا البيان .
    فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم

    قوله تعالى: فالق الإصباح في معنى الفلق قولان قد سبقا . فأما الإصباح فقال الأخفش هو مصدر من أصبح وقال الزجاج : الإصباح والصبح واحد .

    وللمفسرين في الإصباح ، ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني: أنه إضاءة الفجر ، قاله مجاهد . وقال ابن زيد: فلق الإصباح من الليل .

    والثالث: أنه نور النهار ، قاله الضحاك . وقرأ أنس بن مالك ، والحسن ، وأبو مجلز ، وأيوب ، والجحدري: "فالق الإصباح" بفتح الهمزة . قال أبو عبيد: ومعناه جمع صبح . [ ص: 91 ] قوله تعالى: ( وجاعل الليل سكنا ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "جاعل" بألف . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي: "وجعل" بغير ألف . "الليل" نصبا . قال أبو علي: من قرأ: "جاعل" فلأجل "فالق" وهم يراعون المشاكلة . ومن قرأ: "جعل" فلأن "فاعلا" هاهنا ، بمعنى: "فعل" بدليل قوله: والشمس والقمر حسبانا . فأما السكن ، فهو ما سكنت إليه . والمعنى: أن الناس يسكنون فيه سكون راحة . وفي الحسبان قولان .

    أحدهما: أنه الحساب ، قاله الجمهور . قال ابن قتيبة: يقال: خذ من كل شيء بحسبانه ، أي: بحسابه . وفي المراد بهذا الحساب ، ثلاثة أقوال . أحدها: أنهما يجريان إلى أجل جعل لهما ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثاني: يجريان في منازلهما بحساب ، ويرجعان إلى زيادة ونقصان ، قاله السدي . والثالث: أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور والأعوام ، قاله مقاتل .

    والقول الثاني: أن معنى الحسبان: الضياء ، قاله قتادة . قال الماوردي ، كأنه أخذه من قوله تعالى: ويرسل عليها حسبانا من السماء أي: نارا . قال ابن جرير: وليس هذا من ذاك في شيء .
    وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون

    قوله تعالى: وهو الذي جعل لكم النجوم جعل ، بمعنى خلق . وإنما امتن عليهم بالنجوم ، لأن سالكي القفاء وراكبي البحار ، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها .
    وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون [ ص: 92 ] قوله تعالى: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة يعني آدم "فمستقر" قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، إلا رويسا: بكسر القاف . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي: بفتحها . قال الزجاج من كسر ، فالمعنى "فمنكم مستقر" ومن نصب ، فالمعنى: "فلكم مستقر" فأما مستودع فبالفتح ، لا غير ومعناه على فتح القاف: "ولكم مستودع" وعلى كسر القاف: "منكم مستودع" . وللمفسرين في هذا المستقر والمستودع تسعة أقوال .

    أحدها: فمستقر في الأرحام ، ومستودع في الأصلاب ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والنخعي ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد .

    والثاني: المستقر في الأرحام ، والمستودع في القبر ، قاله ابن مسعود .

    والثالث: المستقر في الأرض ، والمستودع في الأصلاب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس .

    والرابع: المستقر والمستودع في الرحم ، رواه قابوس عن أبيه عن ابن عباس .

    والخامس: المستقر حيث يأوي ، والمستودع حيث يموت ، رواه مقسم عن ابن عباس .

    والسادس: المستقر في الدنيا ، والمستودع في القبر .

    والسابع: المستقر في القبر ، والمستودع في الدنيا ، وهو عكس الذي قبله ، رويا عن الحسن .

    والثامن: المستقر في الدنيا ، والمستودع عند الله تعالى ، قاله مجاهد .

    والتاسع: المستقر في الأصلاب ، والمستودع في الأرحام ، قاله ابن بحر ، وهو عكس الأول .
    [ ص: 93 ] وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون

    قوله تعالى: وهو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر فأخرجنا به أي: بالمطر . وفي قوله تعالى: نبات كل شيء قولان .

    أحدهما: نبات كل شيء من الثمار ، لأن كل ما ينبت ، فنباته بالماء .

    والثاني: رزق كل شيء غذاؤه . وفي قوله تعالى: فأخرجنا منه قولان . أحدهما: من الماء ، أي: به .

    والثاني: من النبات . قال الزجاج : الخضر; بمعنى الأخضر يقال: اخضر; فهو أخضر ، وخضر ، مثل أعور ، فهو أعور ، وعور .

    قوله تعالى: نخرج منه أي: من الخضر حبا متراكبا كالسنبل والشعير .

    والمتراكب: الذي بعضه فوق بعض .

    قوله تعالى: ومن النخل من طلعها قنوان دانية وروى الخفاف عن أبي عمرو: "قنوان" بضم القاف; وروى هارون عنه بفتحها . قال الفراء: معناه: ومن النخل ما قنوانه دانية; وأهل الحجاز يقولون: "قنوان" بكسر القاف; وقيس يضمونها; وضبة ، وتميم يقولون "قنيان" . وأنشدني المفضل عنهم:


    فأثت أعاليه وآدت أصوله ومال بقنيان من البسر أحمرا


    [ ص: 94 ] ويجتمعون جميعا ، فيقولون: "قنو" و"قنو" ولا يقولون: "قني" ولا "قني" وكلب يقولون: "ومال بقنيان" قال المصنف: والبيت لامرئ القيس; ورواه أبو سعيد السكري: "ومال بقنوان" مكسورة القاف مع الواو ، ففيه أربع لغات: قنوان ، وقنوان ، وقنيان ، وقنيان; و"أثت": كثرت; ومنه: شعر أثيت . و"آدت": اشتدت . وقال ابن قتيبة: القنوان: عذوق النخل ، واحدها: قنو ، جمع على لفظ تثنية; ومثله: صنو وصنوان في التثنية ، وصنوان في الجمع . وقال الزجاج : قنوان: جمع قنو ، وإذا ثنيته فهما قنوان ، بكسر النون . ودانية ، أي: قريبة المتناول ، ولم يقل: "ومنها قنوان بعيدة" لأن في الكلام دليلا أن البعيدة السحيقة; قد كانت غير سحيقة ، فاجتزئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة; كقوله تعالى: سرابيل تقيكم الحر [النحل:81] . وقال ابن عباس : القنوان الدانية: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض .

    قوله تعالى: وجنات من أعناب قال الزجاج : هو نسق على قوله: "خضرا" والزيتون والرمان المعنى . وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان: وقد روى أبو زيد عن المفضل: و"جنات" بالرفع .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #210
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (210)
    صــ95 إلى صــ 100



    قوله تعالى: مشتبها وغير متشابه فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: مشتبها في المنظر ، وغير متشابه في الطعم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني مشتبها ورقه ، مختلفا ثمره ، قاله قتادة ، وهو في معنى الأول .

    والثالث: منه ما يشبه بعضه بعضا ، ومنه ما يخالف . قال الزجاج : وإنما قرن الزيتون بالرمان ، لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره . قال الشاعر: [ ص: 95 ]


    بورك الميت الغريب كما بو رك نضح الرمان والزيتون


    ومعناه: أن البركة في ورقه اشتماله على عوده كله .

    قوله تعالى: ( انظروا إلى ثمرة ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم: " انظروا إلى ثمره " ، " وكلوا من ثمره " [الأنعام:141] ، و " ليأكلوا من ثمره " [يس: 35]: بالفتح في ذلك . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف: بالضم فيهن . قال الزجاج : يقال: ثمرة ، وثمر ، وثمار ، وثمر; فمن قرأ: "إلى ثمره" بالضم أراد جمع الجمع . وقال أبو علي: يحتمل وجهين . أحدهما هذا ، وهو أن يكون الثمر جمع ثمار .

    والثاني: أن تكون الثمر جمع ثمرة ، وكذلك: أكمة ، وأكم ، وخشبة وخشب . قال الفراء: يقول: انظروا إليه أول ما يعقد ، وانظروا إلى ينعه ، وهو نضجه وبلوغه . وأهل الحجاز يقولون: ينع ، بفتح الياء ، وبعض أهل نجد يضمونها . قال ابن قتيبة: يقال ينعت الثمرة ، وأينعت: إذا أدركت ، وهو الينع والينع . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والأعمش ، وابن محيصن: "وينعه" بضم الياء . قال الزجاج : الينع: النضج . قال الشاعر:


    في قباب حول دسكرة حولها الزيتون قد ينعا


    وبين الله تعالى لهم بتصريف ما خلق ، ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق ، أنه كذلك يبعثهم .

    [ ص: 96 ] قوله تعالى: إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون قال ابن عباس : يصدقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى . وقال مقاتل: يصدقون بالتوحيد .
    وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون

    قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن جعلوا ، بمعنى وصفوا . قال الزجاج : نصب "الجن" من وجهين .

    أحدهما: أن يكون مفعولا ، فيكون المعنى: وجعلوا لله الجن شركاء; ويكون الجن مفعولا ثانيا ، كقوله: وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [الزخرف:19] .

    والثاني: أن يكون الجن بدلا من شركاء ، ومفسرا للشركاء . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو عمران ، وأبو حيوة ، والجحدري: "شركاء الجن" برفع النون; وقرأ ابن أبي عبلة ، ومعاذ القارئ "الجن" بخفض النون .

    وفي معنى جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان ، فجعلوهم شركاء لله ، قاله الحسن ، والزجاج .

    والثاني: قالوا: إن الملائكة بنات الله فهم شركاؤه ، كقوله: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا [الصافات:158] فسمى الملائكة جنا لاجتنانهم ، قاله قتادة ، والسدي ، وابن زيد .

    والثالث: أن الزنادقة قالوا: الله خالق النور والماء والدواب والأنعام ، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب ، وفيهم نزلت هذه الآية . قاله ابن السائب .

    [ ص: 97 ] قوله تعالى: وخلقهم في الكناية قولان .

    أحدهما: أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء ، فيكون المعنى: وجعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون .

    والثاني: أنها ترجع إلى الجن ، فيكون المعنى والله خلق الجن ، فكيف يكون الشريك لله محدثا؟ ذكرهما الزجاج .

    قوله تعالى: وخرقوا له بنين وبنات وقرأ نافع: وخرقوا بالتشديد ، للمبالغة والتكثير ، لأن المشركين ادعوا الملائكة بنات الله ، والنصارى المسيح ، واليهود عزيرا . وقرأ ابن عباس ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء: وحرفوا بحاء غير معجمة وبتشديد الراء وبالفاء . وقرأ ابن السميفع ، والجحدري: "خارقوا" بألف وخاء معجمة . قال السدي: أما "البنون" فقول اليهود: عزير ابن الله ، وقول النصارى: المسيح ابن الله; وأما "البنات" فقول مشركي العرب: الملائكة بنات الله . قال الفراء: خرقوا ، واخترقوا ، وخلقوا ، واختلقوا ، بمعنى افتروا . وقال أبو عبيدة: خرقوا: جعلوا . قال الزجاج : ومعنى: "بغير علم": أنهم لم يذكروه من علم ، إنما ذكروه تكذبا .
    بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل

    قوله تعالى: أنى يكون له ولد قال الزجاج : أي: من أين يكون له ولد ، [ ص: 98 ] والولد لا يكون إلا من صاحبة؟! واحتج عليهم في نفي الولد بقوله: وخلق كل شيء فليس مثل خالق الأشياء ، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟! فإذا نسب إليه الولد ، فقد جعل له مثل .
    لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير

    قوله تعالى: لا تدركه الأبصار في الإدراك قولان .

    أحدهما: أنه بمعنى الإحاطة . والثاني: بمعنى الرؤية . وفي "الأبصار" قولان . أحدهما: أنها العيون ، قاله الجمهور . والثاني: أنها العقول ، رواه عبد الرحمن بن مهدي عن أبي حصين القارئ . ففي معنى الآية ثلاثة أقوال .

    أحدها: لا تحيط به الأبصار ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعطاء . وقال الزجاج : معنى الآية: الإحاطة بحقيقته ، وليس فيها دفع للرؤية ، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرؤية ، وهذا مذهب أهل السنة والعلم والحديث .

    والثاني: لا تدركه الأبصار إذا تجلى بنوره ، الذي هو نوره رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثالث: لا تدركه الأبصار في الدنيا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومقاتل . ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا ، قوله: وجوه [ ص: 99 ] يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة:23 ، 22] فقيد النظر إليه بالقيامة ، وأطلق في هذه الآية والمطلق يحمل على المقيد .

    و قوله تعالى: وهو يدرك الأبصار فيه القولان . قال الزجاج : وفي هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار ، أي: لا يعرفون حقيقة البصر ، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه ، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه; فأعلم الله أن خلقا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ، ولا يحيطون بعلمه; فكيف به عز وجل؟! فأما "اللطيف" فقال أبو سليمان الخطابي: هو البر بعباده ، الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون . قال ابن الأعرابي: اللطيف: الذي يوصل إليك أربك في رفق; ومنه قولهم: لطف الله بك; ويقال: هو الذي لطف عن أن يدرك بالكيفية . وقد يكون اللطف بمعنى الدقة والغموض ، ويكون بمعنى الصغر في نعوت الأجسام ، وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه . وقال الأزهري: اللطيف من أسماء الله معناه: الرفيق بعباده; والخبير: العالم بكنه الشيء ، المطلع على حقيقته .
    قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ

    قوله تعالى: قد جاءكم بصائر من ربكم البصائر: جمع بصيرة وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به . قال الزجاج : والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر فمن أبصر فلنفسه نفع ذلك "ومن عمي" فعلى نفسه ضرر ذلك ، لأن الله عز وجل غني عن خلقه . وما أنا عليكم بحفيظ أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل ، وهذا قبل الأمر بالقتال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #211
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (211)
    صــ101 إلى صــ 106


    فصل

    وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف . وقال بعضهم: معناها: لست رقيبا عليكم أحصي أعمالكم; فعلى هذا لا وجه للنسخ .
    قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ

    قوله تعالى: قد جاءكم بصائر من ربكم البصائر: جمع بصيرة وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به . قال الزجاج : والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر فمن أبصر فلنفسه نفع ذلك "ومن عمي" فعلى نفسه ضرر ذلك ، لأن الله عز وجل غني عن خلقه . وما أنا عليكم بحفيظ أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل ، وهذا قبل الأمر بالقتال .

    [ ص: 100 ]

    فصل

    وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف . وقال بعضهم: معناها: لست رقيبا عليكم أحصي أعمالكم; فعلى هذا لا وجه للنسخ .
    وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون

    قوله تعالى: وكذلك نصرف الآيات قال الأخفش وكذلك معناها: وهكذا . وقال الزجاج : المعنى: ومثل ما بينا فيما تلي عليك ، نبين الآيات . قال ابن عباس : نصرف الآيات ، أي: نبينها في كل وجه ، ندعوهم بها مرة ، ونخوفهم بها أخرى . وليقولوا يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن "دارست" .

    قال ابن الأنباري: معنى الآية: وكذلك نصرف الآيات ، لنلزمهم الحجة ، وليقولوا: دارست; وإنما صرف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها ، ويشقى آخرون بالإعراض عنها; فمن عمل بها سعد ، ومن قال: دارست ، شقي . قال الزجاج : وهذه اللام في ليقولوا يسميها أهل اللغة لام الصيرورة . والمعنى: أن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا: دارست ، هو تلاوة الآيات ، وهذا كقوله: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [القصص:8] وهم لم يطلبوا بأخذه أن يعاديهم ، ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم عدوا وحزنا . ومثله أن تقول: كتب فلان الكتاب لحتفه ، فهو لم يقصد أن يهلك نفسه بالكتاب ، ولكن العاقبة كانت الهلاك .

    فأما "دارست" فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: دارست بالألف وسكون السين وفتح التاء; ومعناها: ذاكرت أهل الكتاب . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي: [ ص: 101 ] "درست" بسكون وفتح التاء ، من غير ألف ، على معنى: قرأت كتب أهل الكتاب . قال المفسرون: معناها: تعلمت من جبر ويسار . وسنبين هذا في قوله: إنما يعلمه بشر [النحل:103] إن شاء الله وقرأ ابن عامر ، ويعقوب: "درست" بفتح الراء والسين وسكون التاء من غير ألف . والمعنى: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست . أي: قد مضت وامحت . وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته . وقد روي عن نافع أنه قال: "درست" برفع الدال ، وكسر الراء وتخفيف التاء ، وهي قراءة ابن يعمر; ومعناها: قرئت . وقرأ أبي بن كعب: "درست" بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء . قال الزجاج : وهي بمعنى: "درست" أي: امحت; إلا أن المضمومة الراء أشد مبالغة . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو العالية ، ومورق: "درست" برفع الدال ، وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين . وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرف: "درس" بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء . وروى عصمة عن الأعمش: "دارس" بألف .

    قوله تعالى: ولنبينه يعني التصريف لقوم يعلمون ما تبين لهم من الحق فقبلوه .
    اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل

    قوله تعالى: وأعرض عن المشركين قال المفسرون: نسخ بآية السيف .

    قوله تعالى: ولو شاء الله ما أشركوا فيه ثلاثة أقوال حكاها الزجاج .

    [ ص: 102 ] أحدها: لو شاء لجعلهم مؤمنين . والثاني: لو شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان . والثالث: لو شاء لاستأصلهم ، فقطع سبب شركهم . قال ابن عباس : وباقي الآية نسخ بآية السيف .
    ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون

    قوله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أنه لما قال للمشركين: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قالوا: لتنتهين يا محمد عن سب آلهتنا وعيبها ، أو لنهجون إلهك الذي تعبده ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار ، فيردون ذلك عليهم ، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله ، قاله قتادة . ومعنى "يدعون": يعبدون ، وهي الأصنام . فيسبوا الله أي: فيسبوا من أمركم بعيبها ، فيعود ذلك إلى الله تعالى ، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى ، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم ، وإن أشركوا به .

    و قوله تعالى: عدوا بغير علم أي: ظلما بالجهل . وقرأ يعقوب: [ ص: 103 ] "عدوا" بضم العين والدال وتشديد الواو . والعرب تقول في الظلم: عدا فلان عدوا وعدوا وعدوانا . وعدا ، أي: ظلم .

    قوله تعالى: كذلك زينا لكل أمة عملهم أي: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام ، وطاعة الشيطان ، كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر . قال المفسرون: وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف .
    وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون

    قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أنه لما نزل في [الشعراء:4]: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية قال المشركون: أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها; فقال المسلمون: يا رسول الله ، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا; فنزلت هذه الآية; رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن قريشا قالوا: يا محمد ، تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر ، فينفجر منها اثنتا عشرة عينا ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدقك: فقال: أي شيء تحبون؟! قالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهبا . قال: "فإن فعلت تصدقوني؟! فقالوا: نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولكني لم أرسل آية فلم يصدق بها ، إلا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتركهم حتى يتوب تائبهم" ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: "يجهلون" هذا قول [ ص: 104 ] محمد بن كعب القرظي . وقد ذكرنا معنى جهد أيمانهم في [المائدة]; وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات ، كقولهم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [الإسراء:90] .

    قوله تعالى: قل إنما الآيات عند الله أي: هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه . وما يشعركم أنها أي: يدريكم أنها . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف في اختياره: بكسر الألف ، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله يشعركم للمشركين ، ويكون تمام الكلام عند قوله: وما يشعركم ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون "إنها" مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم . وقال أبو علي: التقدير: وما يشعركم إيمانهم؟ فحذف المفعول . والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها ، لم يؤمنوا . فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين . قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: وما يشعركم أنها فقلت: ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع; إنما قال: وما يشعركم ثم ابتدأ فأوجب ، فقال: أنها إذا جاءت لا يؤمنون ولو قال: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ; كان ذلك عذرا لهم . وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي: "أنها" بفتح الألف; فعلى هذا ، المخاطب بقوله: وما يشعركم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه; ثم في معنى الكلام قولان .

    أحدهما: وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . وفي قراءة أبي: لعلها إذا [ ص: 105 ] جاءت لا يؤمنون . والعرب تجعل "أن" بمعنى "لعل" . يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي: لعلك .

    قال عدي بن زيد:


    أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد


    أي: لعل منيتي ، وإلى هذا المعنى ذهب الخليل ، وسيبويه ، والفراء في توجيه هذه القراءة .

    والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون ، وتكون "لا" صلة; كقوله تعالى: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [الأعراف:12] و قوله تعالى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [الأنبياء:95] ذكره الفراء ورده الزجاج واختار الأول . والأكثرون على قراءة: "يؤمنون" بالياء; منهم ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وحفص عن عاصم; وقرأ ابن عامر ، وحمزة: بالتاء ، على الخطاب للمشركين . قال أبو علي: من قرأ بالياء ، فلأن الذين أقسموا غيب ، ومن قرأ بالتاء ، فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب .
    ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون

    قوله تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم التقليب: تحويل الشيء عن وجهه . وفي معنى الكلام ، أربعة أقوال .

    أحدها: لو أتيناهم بآية كما سألوا ، لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها ، [ ص: 106 ] وحلنا بينهم وبين الهدى ، فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها عقوبة لهم على ذلك . وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد .

    والثاني: أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا; فالمعنى: لو ردوا لحلنا بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا . روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث: ونقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات ، قاله مقاتل .

    والرابع: أن ذلك التقليب في النار ، عقوبة لهم ، ذكره الماوردي . وفي هاء "به" أربعة أقوال: أحدها: أنها كناية عن القرآن . والثاني: عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث: عما ظهر من الآيات . والرابع: عن التقليب . وفي المراد بـ "أول مرة" ثلاثة أقوال . أحدها: أن المرة الأولى: دار الدنيا . والثاني: أنها معجزات الأنبياء قبل محمد صلى الله عليهم وسلم . والثالث: أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت; والطغيان والعمه مذكوران في [سورة البقرة] .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #212
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (212)
    صــ107 إلى صــ 112



    ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون

    قوله تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة سبب نزولها: أن المستهزئين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة ، فقالوا له: ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحق ما تقول ، أم باطل؟ أو أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول الله ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . ومعنى الآية: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة كما سألوا ، وكلمهم [ ص: 107 ] الموتى ، فشهدوا لك بالنبوة وحشرنا أي: جمعنا عليهم كل شيء في الدنيا قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ، فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته ، لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا ، ومتى شاؤوا لم يؤمنوا . فأما قوله: قبلا فقرأ ابن عامر ، ونافع: بكسر القاف وفتح الباء . قال ابن قتيبة: معناها: معاينة . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي: "قبلا" بضم القاف والباء . وفي معناها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه جمع قبيل ، وهو الصنف; فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلا قبيلا ، قاله مجاهد ، واختاره أبو عبيدة ، وابن قتيبة .

    والثاني: أنه جمع قبيل أيضا ، إلا أنه: الكفيل; فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء ، فكفل بصحة ما تقول ، اختاره الفراء ، وعليه اعتراض ، وهو أن يقال: إذا لم يؤمنوا بإنزال الملائكة ، وتكليم الموتى ، فلأن لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول ، أولى . فالجواب: أنه لو كفلت الأشياء المحشورة ، فنطق ما لم ينطق ، كان ذلك آية بينة .

    والثالث: أنه بمعنى المقابل ، فيكون المعنى: وحشرنا عليهم كل شيء ، فقابلهم ، قاله ابن زيد . قال أبو زيد: يقال: لقيت فلانا قبلا وقبلا وقبلا وقبيلا وقبليا ومقابلة ، وكله واحد ، وهو للمواجهة . قال أبو علي: فالمعنى في القرآن- على ما قاله أبو زيد- واحد ، وإن اختلفت الألفاظ .

    قوله تعالى: ولكن أكثرهم يجهلون فيه قولان .

    أحدهما: يجهلون أن الأشياء لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى .

    والثاني: أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا .
    [ ص: 108 ] وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

    قوله تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا أي: وكما جعلنا لك ولأمتك شياطين الإنس والجن أعداء ، كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء وأممهم; والمعنى: كما ابتليناك بالأعداء ، ابتلينا من قبلك ، ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى . قال الزجاج : "وعدو" في معنى أعداء "وشياطين الإنس والجن": منصوب على البدل من "عدو" ومفسر له; ويجوز أن يكون: "عدوا" منصوب على أنه مفعول ثان ، المعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء لأممهم . وفي شياطين الإنس والجن ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم مردة الإنس والجن ، قاله الحسن . وقتادة . والثاني: أن شياطين الإنس: الذين مع الإنس وشياطين الجن: الذين مع الجن ، قاله عكرمة ، والسدي . والثالث: أن شياطين الإنس والجن: كفارهم ، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: يوحي أصل الوحي: الإعلام والدلالة بستر وإخفاء .

    وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن معناه: يأمر . والثاني: يوسوس . والثالث: يشير .

    وأما زخرف القول فهو ما زين منه ، وحسن ، وموه ، وأصل الزخرف: الذهب . قال أبو عبيدة: كل شيء حسنته وزينته وهو باطل ، فهو زخرف . وقال الزجاج : "الزخرف" في اللغة: الزينة; فالمعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة; "وغرورا" منصوب على المصدر; وهذا المصدر [ ص: 109 ] محمول على المعنى ، لأن معنى إيحاء الزخرف من القول: معنى الغرور ، فكأنه قال: يغرون غرورا . وقال ابن عباس : "زخرف القول غرورا": الأماني بالباطل . قال مقاتل: وكل إبليس بالإنس شياطين يضلونهم . ، فإذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن ، قال أحدهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فذلك وحي بعضهم إلى بعض . وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا شيطانه ، ذهب إلى متمرد من الإنس ، وهو شيطان الإنس ، فأغراه بالمؤمن ليفتنه . وقال قتادة: إن من الجن شياطين ، وإن من الإنس شياطين . وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن ، لأني إذا تعوذت من ذاك ذهب عني ، وهذا يجرني إلى المعاصي عيانا .

    قوله تعالى: ولو شاء ربك ما فعلوه في هاء الكناية ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها ترجع إلى الوسوسة . والثاني: ترجع إلى الكفر . والثالث: إلى الغرور ، وأذى النبيين .

    قوله تعالى: فذرهم وما يفترون قال مقاتل: يريد كفار مكة وما يفترون من الكذب . وقال غيره: فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم ، وما يختلقون من كذب ، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف .
    ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون

    قوله تعالى: ولتصغى إليه أي: ولتميل; والهاء: كناية عن الزخرف والغرور . والأفئدة: جمع فؤاد ، مثل غراب وأغربة . قال ابن الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوا الباطل ، وليقترفوا أي: ليكتسبوا ، وليعلموا ما هم عاملون .
    [ ص: 110 ] أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين

    قوله تعالى: أفغير الله أبتغي حكما سبب نزولها: أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما ، إن شئت من أحبار اليهود ، وإن شئت من أحبار النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك ، فنزلت هذه الآية ، ذكره الماوردي . فأما الحكم ، فهو بمعنى الحاكم; والمعنى: أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم؟! و"الكتاب": القرآن ، و"المفصل" المبين الذي بان فيه الحق من الباطل ، والأمر من النهي ، والحلال من الحرام .

    والذين آتيناهم الكتاب فيهم قولان .

    أحدهما: علماء أهل الكتابين ، قاله الجمهور . والثاني: رؤساء أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأشباههم ، قاله عطاء .

    قوله تعالى: يعلمون أنه منزل قرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم: "منزل" بالتشديد; وخففها الباقون .
    وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم .

    قوله تعالى: وتمت كلمة ربك قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ونافع: "كلمات" على الجمع; وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب: "كلمة" على التوحيد; وقد ذكرت العرب الكلمة ، وأرادت الكثرة; يقولون: قال قس في كلمته ، أي: في خطبته ، وزهير في كلمته ، أي: في قصيدته .

    [ ص: 111 ] وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها القرآن ، قاله قتادة . والثاني: أقضيته وعداته . والثالث: وعده ووعيده ، وثوابه وعقابه . وفي قوله: صدقا وعدلا قولان .

    أحدهما: صدقا فيما أخبر ، وعدلا فيما قضى وقدر . والثاني: صدقا فيما وعد وأوعد ، وعدلا فيما أمر ونهى . وفي قوله: لا مبدل لكلماته قولان . أحدهما: لا يقدر المفترون على الزيادة فيها والنقصان منها .

    والثاني: لا خلف لمواعيده ، ولا مغير لحكمه .
    وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

    قوله تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض سبب نزولها: أن الكفار قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فنزلت هذه الآية ، ذكره الفراء . والمراد بـ أكثر من في الأرض الكفار . وفي ماذا يطيعهم فيه أربعة أقوال .

    أحدها: في أكل الميتة . والثاني: في أكل ما ذبحوا للأصنام . والثالث: في عبادة الأوثان . والرابع: في اتباع ملل الآباء; و سبيل الله : دينه . قال ابن قتيبة: ومعنى يخرصون يحدسون ويوقعون; ومنه قيل للحازر: خارص . فإن قيل: كيف يجوز تعذيب من هو على ظن من شركه ، وليس على يقين من كفره؟! فالجواب: أنهم لما تركوا التماس الحجة ، واتبعوا أهواءهم ، واقتصروا على الظن والجهل ، عذبوا ، ذكره الزجاج .
    [ ص: 112 ] إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين

    قوله تعالى: إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله قال الزجاج : موضع "من" رفع بالابتداء ، ولفظها لفظ الاستفهام; والمعنى: إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله . وقرأ الحسن: من يضل بضم الياء وكسر الضاد ، وهي رواية ابن أبي شريح . قال أبو سليمان: ومقصود الآية: لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات ، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر بالإيمان .
    فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين

    قوله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه سبب نزولها: أن الله تعالى لما حرم الميتة ، قال المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله ، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم ، يريدون الميتة ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #213
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (213)
    صــ113 إلى صــ 118




    وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين

    قوله تعالى: وما لكم ألا تأكلوا قال الزجاج : المعنى: وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا؟ وموضع "أن" نصب لأن "في" سقطت ، فوصل المعنى إلى "أن" فنصبها .

    قوله تعالى: وقد فصل لكم قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "فصل لكم ما حرم عليكم" مرفوعتان; وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، [ ص: 113 ] ويعقوب ، والقزاز عن عبد الوارث: "فصل" بفتح الفاء ، ما حرم بفتح الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم: "فصل" بفتح الفاء ، ما حرم بضم الحاء . قال الزجاج : أي: فصل لكم الحلال من الحرام ، وأحل لكم في الاضطرار ما حرم . وقال سعيد بن جبير: فصل لكم ما حرم عليكم ، يعني: ما بين في [المائدة] من الميتة ، والدم ، إلى آخر الآية . وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم يعني: مشركي العرب يضلون في أمر الذبائح وغيره . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو: " ليضلون " ، وفي [يونس: 88]: ربنا ليضلوا وفي [إبراهيم: 30]: أندادا ليضلوا وفي [الحج: 9]: ثاني عطفه ليضل ، وفي [لقمان: 6]: ليضل عن سبيل الله بغير علم وفي [الزمر:8]: أندادا ليضل بفتح الياء في هذه المواضع الستة; وضمهن عاصم ، وحمزة ، والكسائي . وقرأ نافع ، وابن عامر: " ليضلون بأهوائهم " . وفي [يونس]: " ليضلوا " بالفتح; وضم الأربعة الباقية . فمن فتح ، أراد: أنهم هم الذين ضلوا; ومن ضم ، أراد: أنهم أضلوا غيرهم ، وذلك أبلغ في الضلال ، لأن كل مضل ضال؟ وليس كل ضال مضلا .
    وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون .

    قوله تعالى: وذروا ظاهر الإثم وباطنه في الإثم هاهنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الزنا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس; فعلى هذا ، في ظاهره وباطنه قولان . أحدهما: أن ظاهره: الإعلان به ، وباطنه: الاستسرار ، قاله [ ص: 114 ] الضحاك ، والسدي . قال الضحاك: وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالا . والثاني: أن ظاهره نكاح المحرمات ، كالأمهات ، والبنات ، وما نكح الآباء . وباطنه: الزنا ، قاله سعيد بن جبير .

    والثاني: أنه عام في كل إثم . والمعنى: ذروا المعاصي ، سرها وعلانيتها; وهذا مذهب أبي العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، والزجاج . وقال ابن الأنباري: المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته .

    والثالث: أن الإثم: المعصية ، إلا أن المراد به هاهنا أمر خاص . قال ابن زيد: ظاهره هاهنا: نزع أثوابهم ، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وباطنه: الزنا .
    ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون

    قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه سبب نزولها: مجادلة المشركين للمؤمنين في قولهم: أتأكلون مما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله! على ما ذكرنا في سبب قوله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه [الأنعام:118] هذا قول ابن عباس . وقال عكرمة: كتبت فارس إلى قريش: إن محمدا وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه الله ، ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم فكتب المشركون إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فنزلت هذه الآية [ ص: 115 ] وفي المراد بما لم يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الميتة ، . رواه ابن جبير عن ابن عباس .

    والثاني: أنه الميتة والمنخنقة ، إلى قوله: "وما ذبح" على النصب [المائدة:3] روي عن ابن عباس .

    والثالث: أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها ، قاله عطاء .

    والرابع: أنه عام فيما لم يسم الله عند ذبحه; وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله بن يزيد الخطمي ، ومحمد بن سيرين .

    فصل

    فإن تعمد ترك التسمية ، فهل يباح؟ فيه عن أحمد روايتان . وإن تركها ناسيا أبيحت . وقال الشافعي: لا يحرم في الحالين جميعا ، وقال شيخنا علي بن عبيد الله: فإذا قلنا: إن ترك التسمية عمدا يمنع الإباحة ، فقد نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [المائدة:5] وعلى قول الشافعي: الآية محكمة .

    قوله تعالى: وإنه لفسق يعني: وإن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله لفسق ، أي: خروج عن الحق والدين . وفي المراد بالشياطين هاهنا قولان .

    أحدهما: أنهم شياطين الجن ، روي عن ابن عباس .

    والثاني: قوم من أهل فارس ، وقد ذكرناه عن عكرمة; فعلى الأول: وحيهم الوسوسة ، وعلى الثاني: وحيهم الرسالة . والمراد بـ "أوليائهم" الكفار الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك أكل الميتة . ثم فيهم قولان . [ ص: 116 ] أحدهما: أنهم مشركو قريش . والثاني: اليهود; وإن أطعتموهم في استحلال الميتة إنكم لمشركون .
    أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

    قوله تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .

    أحدها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب ، وأبي جهل ، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث ، وحمزة لم يؤمن بعد ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ، فأقبل حتى علا أبا جهل بالقوس ، فقال له: أما ترى ما جاء به؟ سفه عقولنا ، وسب آلهتنا ، فقال حمزة: ومن أسفه منكم ، تعبدون الحجارة من دون الله؟ أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .

    والثاني: أنها نزلت في عمار بن ياسر ، وأبي جهل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .

    والثالث: في عمر بن الخطاب ، وأبي جهل ، قاله زيد بن أسلم ، والضحاك .

    والرابع: في النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي جهل ، قاله مقاتل .

    والخامس: أنها عامة في كل مؤمن وكافر ، قاله الحسن في آخرين .

    وفي قوله: كان ميتا فأحييناه قولان .

    أحدهما: كان ضالا فهديناه ، قاله مجاهد . [ ص: 117 ] والثاني: كان جاهلا ، فعلمناه ، قاله الماوردي . وقرأ نافع: "ميتا" بالتشديد . قال أبو عبيدة: الميتة ، مخففة: من ميتة ، والمعنى واحد . وفي "النور" ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنه الهدى ، قاله ابن عباس . والثاني: القرآن ، قاله الحسن . والثالث: العلم . وفي قوله: يمشي به في الناس ثلاثة أقوال .

    أحدها: يهتدي به في الناس ، قاله مقاتل . والثاني: يمشي به بين الناس إلى الجنة . والثالث: ينشر به دينه في الناس ، فيصير كالماشي ، ذكرهما الماوردي .

    قوله تعالى: كمن مثله المثل: صلة; والمعنى كمن هو في الظلمات . وقيل: المعنى: كمن لو شبه بشيء ، كان شبيهه من في الظلمات . وقيل: المراد بالظلمات هاهنا: الكفر .

    قوله تعالى: وكذلك زين أي: كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلص منها ، كذلك زين "للكافرين ما كانوا يعملون" من الشرك والمعاصي .
    وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون

    قوله تعالى: وكذلك جعلنا في كل قرية أي: وكما زينا للكافرين عملهم ، فكذلك جعلنا في كل قرية فساق كل قرية أكابرها . وإنما جعل الأكابر فساق كل قرية ، لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة . وقال ابن قتيبة: تقدير الآية: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر; "وأكابر" لا ينصرف ، وهم العظماء .

    قوله تعالى: ليمكروا فيها قال أبو عبيدة: المكر: والخديعة ، والحيلة ، [ ص: 118 ] والفجور ، والغدر ، والخلاف . قال ابن عباس : ليقولوا فيها الكذب . قال مجاهد: أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة ، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يقولون للناس: هذا شاعر ، وكاهن .

    قوله تعالى: وما يمكرون إلا بأنفسهم أي: ذلك المكر بهم يحيق .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #214
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (214)
    صــ119 إلى صــ 124



    وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون

    قوله تعالى: وإذا جاءتهم آية سبب نزولها: أن أبا جهل قال: زاحمتنا بنو عبد مناف في الشرف ، حتى إذا صرنا كفرسي رهان ، قالوا: منا نبي يوحى إليه . والله لا نؤمن به ولا نتبعه أو أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل قال الزجاج : الهاء والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم . وقال أبو سليمان: تعود على المجادلين في تحريم الميتة . قال مقاتل: والآية: انشقاق القمر ، والدخان . قال ابن عباس في قوله: مثل ما أوتي رسل الله قال: حتى يوحى إلينا ، ويأتينا جبريل فيخبرنا أن محمدا صادق . قال الضحاك: سأل كل واحد منهم أن يختص بالرسالة والوحي .

    قوله تعالى: ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته ) وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم: "رسالته" بنصب التاء على التوحيد; والمعنى: أنهم ليسوا لها بأهل ، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سنا ، وأكثر منك مالا ، فنزل قوله تعالى: ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته ) وقال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل [ ص: 119 ] مبعثهم مطاعين في قومهم ، لأن الطعن كان يتوجه عليهم ، فيقال: إنما كانوا رؤوسا فاتبعوا ، فكان الله أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب ، دون أبي جهل ، والوليد ، وأكابر مكة .

    قوله تعالى: سيصيب الذين أجرموا صغار قال أبو عبيدة: الصغار: أشد الذل . وقال الزجاج : المعنى: هم ، وإن كانوا أكابر في الدنيا ، فسيصيبهم صغار عند الله ، أي: صغار ثابت لهم عند الله . وجائز أن يكون المعنى: سيصيبهم عند الله صغار . وقال الفراء: معناه: صغار من عند الله ، فحذفت "من" . وقال أبو روق: صغار في الدنيا ، وعذاب شديد في الآخرة ،
    فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون

    قوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه قال مقاتل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي جهل .

    قوله تعالى: يشرح صدره قال ابن الأعرابي: الشرح: الفتح . قال ابن قتيبة: ومنه يقال: شرحت لك الأمر ، وشرحت اللحم: إذا فتحته . وقال: ابن عباس: (يشرح صدره) أي: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان . وقد روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، فقيل له: يا رسول الله ، وما هذا الشرح؟ قال: "نور يقذفه الله في القلب ، فينفتح القلب" قالوا: فهل لذلك من أمارة؟ قال: "نعم" قيل: وما هي؟ [ ص: 120 ] قال: "الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله"

    قوله تعالى: ضيقا قرأ الأكثرون بالتشديد . وقرأ ابن كثير: "ضيقا" ، وفى[الفرقان:13]: مكانا ضيقا بتسكين الياء خفيفة . قال أبو علي: الضيق ، والضيق: مثل الميت ، والميت .

    قوله تعالى: حرجا قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: (حرجا) بفتح الراء . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الراء . قال الفراء: وهما لغتان . وكذلك قال يونس بن حبيب النحوي: هما لغتان ، إلا أن الفتح أكثر من ألسنة العرب من الكسر ، ومجراهما مجرى الدنف والدنف . وقال الزجاج : الحرج في اللغة: أضيق الضيق .

    قوله تعالى: ( كأنما يصاعد ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: "يصعد" بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف . وقرأ أبو بكر عن عاصم: "يصاعد" بتشديد الصاد وبعدها ألف . وقرأ ابن كثير: "يصعد" بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة . وقرأ ابن مسعود ، وطلحة: "تصعد" بتاء من غير ألف . وقرأ أبي بن كعب: "يتصاعد" بألف وتاء . قال الزجاج : قوله: ( كأنما يصاعد في السماء ) و"يصعد" أصله: "يتصاعد" ، "ويتصعد" إلا أن التاء تدغم في الصاد [ ص: 121 ] لقربها منها ، والمعنى: كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه . ويجوز أن يكون المعنى: كأن قلبه يصعد في السماء نبوا عن الإسلام والحكمة . وقال الفراء: ضاق عليه المذهب ، فلم يجد إلا أن يصعد في السماء ، وليس يقدر على ذلك . وقال أبو علي: "يصعد" و"يصاعد": من المشقة ، وصعوبة الشيء ، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء كما تصعدتني خطبة النكاح ، أي: ما شق علي شيء مشقتها .

    قوله تعالى: كذلك أي: مثل ما قصصنا عليك . يجعل الله الرجس وفيه خمسة أقوال .

    أحدها: أنه الشيطان ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . يعني: أن الله يسلطه عليهم .

    والثاني: أنه المأتم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث: أنه ما لا خير فيه قاله مجاهد .

    والرابع: أنه العذاب ، قاله عطاء ، وابن زيد ، وأبو عبيدة .

    والخامس: أنه اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، قاله الزجاج : وهذه الآية تقطع كلام القدرية ، إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلقة بإرادة الله تعالى:
    وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون

    قوله تعالى: وهذا صراط ربك فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه القرآن ، قاله ابن مسعود . والثاني: التوحيد ، قاله ابن عباس . [ ص: 122 ] والثالث: ما هو عليه من الدين ، قاله عطاء . ومعنى استقامته: أنه يؤدي بسالكه إلى الفوز . قال مكي بن أبي طالب: و"مستقيما" نصب على الحال من "صراط" وهذه الحال يقال لها: الحال المؤكدة ، لأن صراط الله ، لا يكون إلا مستقيما ، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين ، إذ لا يتغير صراط الله عن الاستقامة أبدا ، وليست هذه الحال كحال من قولك: "هذا زيد راكبا" ، لأن زيدا قد يخلو من الركوب .
    لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون

    قوله تعالى: لهم دار السلام يعني الجنة . وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال .

    أحدها: أن السلام هو الله ، وهي داره ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي .

    والثاني: أنها دار السلامة التي لا تنقطع قاله الزجاج .

    والثالث: أن تحية أهلها فيها السلام ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    والرابع: أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام ، ففي ابتداء دخولهم: (ادخلوها بسلام) [الحجر:46] وبعد استقرارهم: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم [الرعد:34 ، 33] . وقوله: إلا قيلا سلاما سلاما [الواقعة:35] ، وعند لقاء الله سلام قولا من رب رحيم ، [يس:58] ، وقوله: تحيتهم يوم يلقونه سلام [الأحزاب:44] . ومعنى: عند ربهم أي: مضمونة لهم عنده ، وهو وليهم أي: متولي إيصال المنافع إليهم ، ودفع المضار عنهم بما كانوا يعملون من الطاعات .
    [ ص: 123 ] ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم

    قوله تعالى: ويوم نحشرهم جميعا يعني الجن والإنس . وقرأ حفص عن عاصم: "يحشرهم" بالياء . قال أبو سليمان: يعني: المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم فيما حرمه الله من الميتة .

    قوله تعالى: يا معشر الجن فيه إضمار ، فيقال لهم: يا معشر; والمعشر: الجماعة ، أمرهم واحد ، والجمع: المعاشر .

    وقوله: قد استكثرتم من الإنس أي: من إغوائهم وإضلالهم . وقال أولياؤهم من الإنس يعني الذين أضلهم الجن . ربنا استمتع بعضنا ببعض فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن استمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا إذا سافروا ، فنزلوا واديا ، وأرادوا مبيتا ، قال أحدهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله; واستمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يفخرون على قومهم ، ويقولون: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، والفراء .

    والثاني: أن استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي . واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زينت لهم الأمور التي يهوونها ، وشهوها إليهم حتى سهل عليهم فعلها ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وبه قال محمد بن كعب ، والزجاج . [ ص: 124 ] والثالث: أن استمتاع الجن بالإنس: إغواؤهم إياهم . واستمتاع الإنس بالجن: ما يتلقون منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك . والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين .

    قوله تعالى: وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا فيه قولان .

    أحدهما: الموت ، قاله الحسن ، والسدي . والثاني: الحشر ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: قال النار مثواكم قال الزجاج : المثوى: المقام; "وخالدين" منصوب على الحال . المعنى: النار مقامكم في حال خلود دائم إلا ما شاء الله هو استثناء من يوم القيامة ، والمعنى: خالدين فيها مذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ، ومدتهم في محاسبتهم . ويجوز أن تكون إلا ما شاء الله أن يزيدهم من العذاب . وقال بعضهم: إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب; وقيل في هذا غير قول ، ستجدها مشروحة في (هود) إن شاء الله .
    وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون

    قوله تعالى: وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا في معناه أربعة أقوال .

    أحدها: نجعل بعضهم أولياء بعض رواه سعيد عن قتادة .

    والثاني: نتبع بعضهم بعضا في النار بأعمالهم من الموالاة ، وهي المتابعة ، رواه معمر عن قتادة .

    والثالث: نسلط بعضهم على بعض قاله ابن زيد .

    والرابع: نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: بما كانوا يكسبون أي: من المعاصي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #215
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (215)
    صــ125 إلى صــ 130




    [ ص: 125 ] يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين

    قوله تعالى: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم قرأ الحسن ، وقتادة: "تأتكم" بالتاء ، رسل منكم واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة أقوال .

    أحدها: أن الرسل كانت تبعث إلى الإنس خاصة ، وأن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن رسل الجن ، هم الذين سمعوا القرآن ، فولوا إلى قومهم منذرين ، روي عن ابن عباس أيضا . وقال مجاهد: الرسل من الإنس ، والنذر من الجن ، وهم قوم يسمعون كلام الرسل ، فيبلغون الجن ما سمعوا .

    والثالث: أن الله تعالى بعث إليهم رسلا منهم ، كما بعث إلى الإنس رسلا منهم ، قاله الضحاك ، ومقاتل ، وأبو سليمان ، وهو ظاهر الكلام .

    والرابع: أن الله تعالى لم يبعث إليهم رسلا منهم ، وإنما جاءتهم رسل الإنس ، قاله ابن جريج ، والفراء ، والزجاج . قالوا: ولا يكون الجمع في قوله: ألم يأتكم رسل منكم مانعا أن تكون الرسل من أحد الفريقين ، كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [الرحمن:22] ، وإنما هو خارج من الملح وحده .

    وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان .

    أحدهما: يدخلونها ، ويأكلون ويشربون ، قاله الضحاك .

    والثاني: أن ثوابهم أن يجاروا من النار ويصيروا ترابا ، رواه سفيان عن ليث . [ ص: 126 ] قوله تعالى: يقصون عليكم آياتي أي: يقرؤون عليكم كتابي . وينذرونكم أي: يخوفونكم بيوم القيامة . وفي قوله: شهدنا على أنفسنا قولان .

    أحدهما: أقررنا على أنفسنا بإنذار الرسل لنا .

    والثاني: شهد بعضنا على بعض بإنذار الرسل إياهم . ثم أخبرنا الله تعالى بحالهم ، فقال: وغرتهم الحياة الدنيا أي: بزينتها ، وإمهالهم فيها . وشهدوا على أنفسهم أي: أقروا أنهم كانوا في الدنيا كافرين . وقال مقاتل: ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر .
    ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

    قوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم قال الزجاج : ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل ، وأمر عذاب من كذب ، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ، أي: لا يهلككم حتى يبعث إليهم رسولا . قال ابن عباس : "بظلم" أي: بشرك وأهلها غافلون لم يأتهم رسول .
    ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون

    قوله تعالى: ولكل درجات مما عملوا أي: لكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات ، أي: منازل يبلغها بعمله ، إن كان خيرا فخير ، وإن كان شرا فشر . وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط ، كتفاضل الدرج .

    قوله تعالى: عما يعملون قرأ الجمهور بالياء; وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب .
    وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين [ ص: 127 ] قوله تعالى: وربك الغني يريد: الغني عن خلقه ذو الرحمة قال ابن عباس : بأوليائه وأهل طاعته . وقال غيره: بالكل . ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين . إن يشأ يذهبكم بالهلاك; وقيل: هذا الوعيد لأهل مكة; ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم أي: ابتدأكم من ذرية قوم آخرين يعني: آباءهم الماضين . إن ما توعدون به من مجيء الساعة والحشر لآت وما أنتم بمعجزين أي: بفائتين . قال أبو عبيدة: يقال: أعجزني كذا ، أي: فاتني وسبقني .
    قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون

    قوله تعالى: على مكانتكم وقرأ أبو بكر عن عاصم: "مكاناتكم" على الجمع قال ابن قتيبة: أي: على موضعكم ، يقال: مكان ومكانة ، ومنزل ومنزلة . وقال الزجاج : اعملوا على تمكنكم . قال: ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه . تقول للرجل إذا أمرته أن يثبت على حال: كن على مكانتك .

    قوله تعالى: إني عامل أي: عامل ما أمرني به ربي فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم: "تكون" بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي: بالياء . وكذلك خلافهم في [القصص:37] ، ووجه التأنيث ، اللفظ ، ووجه التذكير ، أنه ليس بتأنيث حقيقي . وعاقبة الدار: الجنة . والظالمون هاهنا: المشركون . فإن قيل: ظاهر هذه الآية أمرهم بالإقامة على ما هم عليه ، وذلك لا يجوز . فالجواب: أن معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد; فكأنه قال: أقيموا على ما أنتم عليه ، إن رضيتم بالعذاب ، قاله الزجاج . [ ص: 128 ] فصل

    وفي هذه الآية قولان .

    أحدهما: أن المراد بها التهديد; فعلى هذا هي محكمة .

    والثاني: أن المراد بها ترك القتال; فعلى هذا هي منسوخة بآية السيف .
    وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون

    قوله تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ قال ابن قتيبة: ذرأ ، بمعنى خلق . من الحرث وهو الزرع . والأنعام : الإبل والبقر والغنم . وكانوا إذا زرعوا ، خطوا خطا ، فقالوا: هذا لله ، وهذا لآلهتنا فإذا حصدوا ما جعلوه لله فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم ، تركوه وقالوا: هي إليه محتاجة; وإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم ، فوقع منه شيء في مال الله ، أعادوه إلى موضعه وكانوا يجعلون من الأنعام شيئا لله; فإذا ولدت إناثها ميتا أكلوه ، وإذا ولدت أنعام آلهتهم ميتا عظموه فلم يأكلوه . وقال الزجاج : معنى الآية: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، وجعلوا لشركائهم نصيبا ، يدل عليه قوله تعالى: فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ، فدل بالإشارة إلى النصيبين على نصيب الشركاء; وكانوا إذا زكا ما لله ، ولم يزك ما لشركائهم ، ردوا الزاكي على أصنامهم ، وقالوا: هذه أحوج ، والله غني; وإذا زكا ما للأصنام ، ولم يزك ما لله ، أقروه على ما به . قال [ ص: 129 ] المفسرون: وكانوا يصرفون ما جعلوا لله إلى الضيفان والمساكين . فمعنى قوله: فلا يصل إلى الله أي: إلى هؤلاء . ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خدامها . فأما نصيبها في الأنعام ، ففيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه كان للنفقة عليها أيضا . والثاني: أنهم كانوا يتقربون به ، فيذبحونه لها . والثالث: أنه البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام . وقال الحسن: كان إذا هلك ما لأوثانهم غرموه ، وإذا هلك ما لله لم يغرموه . وقال ابن زيد: كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم ، ولا يذكرون الله على ما جعلوه للأوثان . فأما قوله: "بزعمهم" فقرأ الجمهور: بفتح الزاي; وقرأ الكسائي ، والأعمش: بضمها . وفي الزعم ثلاث لغات: ضم الزاي ، وفتحها ، وكسرها . ومثله: السقط ، . والسقط والسقط ، والفتك ، والفتك ، والفتك; والزعم ، والزعم ، والزعم . قال الفراء: فتح الزاي في الزعم ، لأهل الحجاز; وضمها لأسد; وكسرها لبعض قيس فيما يحكي الكسائي .

    وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون

    قوله تعالى: وكذلك زين أي: ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زين . قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون "وكذلك" مستأنفا غير مشار به إلى ما قبله; فيكون المعنى: وهكذا زين . وقرأه الجمهور: "زين" ، بفتح الزاي والياء ، ونصب اللام من "قتل" وكسر الدال من "أولادهم" ورفع "الشركاء"; وجه هذه القراءة ظاهر . وقرأ ابن عامر: بضم زاي "زين" [ ص: 130 ] ورفع اللام [من"قتل"] ، من قتل ونصب الدال من "أولادهم" وخفض "الشركاء" . قال أبو علي" ومعناها: قتل شركائهم أولادهم; ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به ، وهذا قبيح ، قليل في الاستعمال . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن: "زين" بالرفع ، "قتل" بالرفع أيضا ، "أولادهم" بالجر ، "شركاؤهم" رفعا . قال الفراء: رفع القتل إذ لم يسم فاعله; ورفع الشركاء بفعل نواه ، كأنه قال زينه لهم شركاؤهم . وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة; قال: كأنه قيل: من زينه؟ فقال: شركاؤهم . قال مكي بن أبي طالب: وقد روي عن ابن عامر أيضا أنه قرأ بضم الزاي ، ورفع اللام ، وخفض الأولاد والشركاء; فيصير الشركاء اسما للأولاد ، لمشاركتهم للآباء في النسب والميراث والدين .

    وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم الشياطين ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسدي . والثاني: شركاؤهم في الشرك ، قاله قتادة . والثالث: قوم كانوا يخدمون الأوثان ، قاله الفراء ، والزجاج . والرابع: أنهم الغواة من الناس ، ذكره الماوردي . وإنما أضيف الشركاء إليهم ، لأنهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه .

    وفي الذي زينوه لهم من قتل أولادهم قولان .

    أحدهما: أنه وأد البنات أحياء خيفة الفقر ، قاله مجاهد .

    والثاني: أنه كان يحلف أحدهم ، أنه إن ولد له كذا وكذا غلاما أن ينحر أحدهم ، كما حلف عبد المطلب في نحر عبد الله ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #216
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (216)
    صــ131 إلى صــ 136



    قوله تعالى: ليردوهم أي: ليهلكوهم . وفي هذه اللام قولان .

    أحدهما: أنها لام "كي" والثاني: أنها لام العاقبة ، كقوله: ليكون لهم عدوا [القصص:8] أي: آل أمرهم إلى الردى ، لا أنهم قصدوا ذلك . [ ص: 131 ] قوله تعالى: وليلبسوا عليهم دينهم أي: ليخلطوا . قال ابن عباس : ليدخلوا عليهم الشك في دينهم; وكانوا على دين إسماعيل ، فرجعوا عنه بتزيين الشياطين .

    قوله تعالى: فذرهم وما يفترون قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم قالوا: إن الله أمرنا بذلك; فقال: فذرهم وما يفترون أي: يكذبون; وهذا تهديد ووعيد ، فهو محكم . وقال قوم: مقصوده ترك قتالهم ، فهو منسوخ بآية السيف .
    وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون

    قوله تعالى: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر الحرث: الزرع ، والحجر:الحرام; والمعنى: أنهم حرموا أنعاما وحرثا جعلوه لأصنامهم . قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام: حجر ، لأنه حجر على الناس أن يصيبوه . وقرأ الحسن ، وقتادة: "حجر" بضم الحاء . قال الفراء: يقال: حجر ، وحجر ، بكسر الحاء وضمها; وهي في قراءة ابن مسعود: "حرج" ، مثل: "جذب" و"جبذ" وفي هذه الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان .

    أحدهما: أنها البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .

    والثاني: أنها الذبائح التي للأوثان; وقد سبق ذكرهما .

    قوله تعالى: لا يطعمها إلا من نشاء هو كقولك: لا يذوقها إلا من نريد . وفيمن أطلقوا له تناولها قولان .

    أحدهما: أنهم منعوا منها النساء ، وجعلوها للرجال ، قاله ابن السائب ، [ ص: 132 ] والثاني: عكسه ، قاله ابن زيد . قال الزجاج : أعلم الله تعالى أن هذا التحريم زعم منهم ، لا حجة فيه ولا برهان .

    وفي قوله: وأنعام حرمت ظهورها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الحام ، قاله ابن عباس . والثاني: البحيرة ، كانوا لا يحجون عليها ، قاله أبو وائل . والثالث: البحيرة ، والسائبة ، والحام ، قاله السدي .

    قوله تعالى: وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها هي قربان آلهتهم ، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصة . وقال أبو وائل: هي التي كانوا لا يحجون عليها; وقد ذكرنا هذا عنه في قوله: حرمت ظهورها ، فعلى قوله ، الصفتان لموصوف واحد . وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء; لا إن ركبوا ، ولا إن حملوا ، ولا إن حابوا ، ولا إن نتجوا . وفي قوله: افتراء على الله قولان .

    أحدهما: أن ذكر أسماء أوثانهم وترك ذكر الله هو الافتراء .

    والثاني: أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى ، هو الافتراء; لأنهم كانوا يقولون: هو حرم ذلك .
    وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم

    قوله تعالى: وقالوا ما في بطون هذه الأنعام يعني بالأنعام: المحرمات عندهم ، من البحيرة ، والسائبة والوصيلة . وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه اللبن ، قاله ابن عباس ، وقتادة . والثاني: الأجنة ، قاله مجاهد .

    والثالث: الولد واللبن ، قاله السدي ، ومقاتل . [ ص: 133 ] قوله تعالى: خالصة لذكورنا قرأ الجمهور: "خالصة" على لفظ التأنيث . وفيها أربعة أوجه .

    أحدها: أنه إنما أنثت ، لأن الأنعام مؤنثة ، وما في بطونها مثلها ، قاله الفراء .

    والثاني: أن معنى "ما" التأنيث ، لأنها في معنى الجماعة; فكأنه قال: جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة ، قاله الزجاج .

    والثالث: أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف ، كما قالوا: "علامة" و"نسابة"

    والرابع: أنه أجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكرة ، كقولك: عطاؤك عافية ، والرخص نعمة ، ذكرهما ابن الأنباري . وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، والضحاك ، والأعمش ، وابن أبي عبلة: "خالص" بالرفع ، من غير هاء . قال الفراء: وإنما ذكر لتذكير "ما" وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وابن يعمر: "خالصه" برفع الصاد والهاء على ضمير مذكر ، قال الزجاج : والمعنى: ما خلص حيا . وقرأ قتادة: "خالصة" بالنصب . فأما الذكور ، فهم الرجال ، والأزواج والنساء .

    قوله تعالى: وإن يكن ميتة قرأ الأكثرون: "يكن" بالياء ، "ميتة" بالنصب; وذلك مردود على لفظ "ما" . المعنى: وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة . وقرأ ابن كثير "يكن" بالياء ، "ميتة" بالرفع . وافقه ابن عامر في رفع الميتة; غير أنه قرأ: "تكن" بالتاء . والمعنى: وإن تحدث وتقع ، فجعل "كان" تامة لا تحتاج إلى خبر . وقرأ أبو بكر عن عاصم: "تكن" بالتاء "ميتة" بالنصب . والمعنى: وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة .

    قوله تعالى: فهم فيه شركاء يعني الرجال والنساء . سيجزيهم وصفهم قال الزجاج : أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب .
    [ ص: 134 ] قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين

    قوله تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولادهم وقرأ ابن كثير ، وابن عامر: "قتلوا" بالتشديد . قال ابن عباس : نزلت في ربيعة ، ومضر ، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية من العرب . وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة ، ويغذو كلبه . وقال الزجاج : وقوله: "سفها" منصوب على معنى اللام ، تقديره: للسفه; تقول: فعلت ذلك حذر الشر . وقرأ ابن السميفع ، والجحدري ، ومعاذ القارئ: "سفهاء" برفع السين وفتح الفاء والهاء وبالمد وبالنصب والهمز .

    قوله تعالى: بغير علم أي: كانوا يفعلوا ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك ، وحرموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث ، وزعموا أن الله أمرهم بذلك .
    وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

    قوله تعالى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض ، فانتشر مما يعرش ، كالكرم ، والقرع ، والبطيخ; وغير معروشات: ما قام على ساق ، كالنخل ، والزرع ، وسائر الأشجار .

    والثاني: أن المعروشات: ما أنبته الناس; وغير معروشات: ما خرج في البراري والجبال من الثمار ، رويا عن ابن عباس .

    [ ص: 135 ] والثالث: أن المعروشات ، وغير المعروشات: الكرم ، منه ما عرش ، ومنه ما لم يعرش ، قاله الضحاك .

    والرابع: أن المعروشات: الكروم التي قد عرش عنبها ، وغير المعروشات: سائر الشجر التي لا تعرش ، قاله أبو عبيدة . والأكل: الثمر . والزيتون والرمان متشابها ، قد سبق تفسيره .

    قوله تعالى: كلوا من ثمره إذا أثمر هذا أمر إباحة; وقيل: إنما قدم الأكل لينهى عن فعل الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها .

    قوله تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وأبو عمرو: بفتح الحاء ، وهي لغة أهل نجد ، وتميم . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي: بكسرها ، وهي لغة أهل الحجاز ، ذكره الفراء .

    وفي المراد بهذا الحق قولان .

    أحدهما: أنه الزكاة ، روي عن أنس بن مالك ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وطاوس ، وجابر بن زيد ، وابن الحنفية ، وقتادة في آخرين; فعلى هذا ، الآية محكمة .

    والثاني: أنه حق غير الزكاة فرض يوم الحصاد ، وهو إطعام من حضر ، وترك ما سقط من الزرع والثمر ، قاله عطاء ، ومجاهد . وهل نسخ ذلك أم لا؟ إن قلنا: إنه أمر وجوب ، فهو منسوخ بالزكاة; وإن قلنا: إنه أمر استحباب ، فهو باقي الحكم .

    فإن قيل: هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد؟ فالجواب: إن قلنا: إنه إطعام من حضر من الفقراء ، فذلك يكون يوم الحصاد; وإن قلنا: إنه الزكاة ، فقد ذكرت عنه ثلاثة أجوبة . [ ص: 136 ] أحدها: أن الأمر بالإيتاء محمول على النخيل ، لأن صدقتها تجب يوم الحصاد . فأما الزروع ، فالأمر بالإيتاء منها محمول على وجوب الإخراج; إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد ، فيؤخر إلى زمان التنقية ، ذكره بعض السلف .

    والثاني: أن اليوم ظرف للحق ، لا للإيتاء ; فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية .

    والثالث: أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه; إنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه . وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه ، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد ، دون ما يتلف ، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى . وفي قوله: ولا تسرفوا ستة أقوال .

    أحدها: أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يجحف به ، قاله أبو العالية ، وابن جريج . وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة ، ثم قسمها في يوم واحد ، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا ، فكره الله تعالى له ذلك ، فنزلت: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين .

    والثاني: أن الإسراف: منع الصدقة الواجبة ، قاله سعيد بن المسيب .

    والثالث: أنه الإنفاق في المعصية ، قاله مجاهد ، والزهري .

    والرابع: أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام ، قاله عطية العوفي ، وابن السائب .

    والخامس: أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة ، قاله ابن زيد .

    والسادس: أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزكاة ، قاله ابن بحر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #217
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (217)
    صــ137 إلى صــ 142




    ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين

    قوله تعالى: ومن الأنعام حمولة وفرشا هذا نسق على ما قبله; والمعنى: أنشأ جنات ، وأنشأ حمولة وفرشا . وفي ذلك خمسة أقوال .

    أحدها: أن الحمولة: ما حمل من الإبل ، والفرش: صغارها ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وابن قتيبة .

    والثاني: أن الحمولة: ما انتفعت بظهورها ، والفرش: الراعية ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث: أن الحمولة: الإبل ، والخيل ، والبغال ، والحمير ، وكل شيء يحمل عليه . والفرش: الغنم: رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والرابع: الحمولة: من الإبل ، والفرش: من الغنم ، قاله الضحاك .

    والخامس: الحمولة: الإبل والبقر . والفرش: الغنم ، وما لا يحمل عليه من الإبل ، قاله قتادة . وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء: حمولة بضم الحاء .

    قوله تعالى: كلوا مما رزقكم الله قال الزجاج : المعنى: لا تحرموا ما حرمتم مما جرى ذكره ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي: طرقه . قال: وقوله: ثمانية أزواج بدل من قوله: حمولة وفرشا والزوج ، في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر . قال المصنف: وهذا كلام يفتقر إلى تمام ، وهو أن يقال: الزوج: ما كان معه آخر من جنسه ، فحينئذ يقال لكل واحد منهما: زوج .
    [ ص: 138 ] ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين

    قوله تعالى: من الضأن اثنين الضأن: ذوات الصوف من الغنم ، والمعز: ذوات الشعر منها . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "المعز" بفتح العين . وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي: بتسكين العين . والمراد بالأنثيين الذكر والأنثى . قل آلذكرين من الضأن والمعز حرم الله عليكم أم الأنثيين منها: المعنى: فإن كان ما حرم عليكم الذكرين ، فكل الذكور حرام ، وإن كان حرم الأنثيين ، فكل الإناث حرام ، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، فهي تشتمل على الذكور ، وتشتمل على الإناث ، وتشتمل على الذكور والإناث ، فيكون كل جنين حراما . وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ألحقكم التحريم من جهة الذكرين ، أم من جهة الأنثيين؟ فإن قالوا: من جهة الذكرين ، حرم عليهم كل ذكر ، وإن قالوا: من جهة الأنثيين ، حرمت عليهم كل أنثى; وإن قالوا: من جهة الرحم ، حرم عليهم الذكر والأنثى . وقال ابن جرير الطبري: إن قالوا: حرم الذكرين ، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها وظهوره ، وفي ذلك فساد دعواهم . وإن قالوا: حرم الأنثيين أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك [ ص: 139 ] وظهوره . وإن قالوا: ما اشتملت ، عليه أرحام الأنثيين ، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها . قال المفسرون: فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها ، لأنهم كانوا يحرمون أجناسا من النعم ، بعضها على الرجال والنساء ، وبعضها على النساء دون الرجال .

    وفي قوله: آلذكرين حرم أم الأنثيين إبطال لما حرموه من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .

    وفي قوله: أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، إبطال قولهم: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا .

    قوله تعالى: نبئوني بعلم قال الزجاج : المعنى: فسروا ما حرمتم بعلم ، أي: أنتم لا علم لكم ، لأنكم لا تؤمنون بكتاب . أم كنتم شهداء أي: هل شاهدتم الله قد حرم هذا ، إذا كنتم لا تؤمنون برسول؟

    قوله تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحي ، ومن جاء بعده . والظالمون هاهنا: المشركون .
    قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم

    قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه نبههم بهذا على أن التحريم والتحليل ، إنما يثبت بالوحي . وقال طاوس ، ومجاهد: معنى الآية: لا أجد محرما مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا . والمراد بالطاعم: [ ص: 140 ] الآكل . إلا أن يكون ميتة أي: إلا أن يكون المأكول ميتة . قرأ ابن كثير ، وحمزة: "إلا أن يكون" بالياء ، "ميتة" نصبا . وقرأ ابن عامر: "إلا أن تكون" بالتاء ، "ميتة" بالرفع; على معنى: إلا أن تقع ميتة ، أو تحدث ميتة . "أو دما مسفوحا" قال قتادة: إنما حرم المسفوح ، فأما اللحم إذا خالطه دم ، فلا بأس به . قال الزجاج : المسفوح: المصبوب . وكانوا إذا ذكوا يأكلون الدم كما يأكلون اللحم . والرجس: اسم لما يستقذر ، وللعذاب أو فسقا المعنى: أو أن يكون المأكول فسقا . أهل لغير الله به أي: رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله ، فسمى ما ذكر عليه غير اسم الله فسقا; والفسق: الخروج من الدين .

    فصل

    اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .

    أحدهما: أنها محكمة . ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال . أحدها: أنها خبر ، والخبر لا يدخله النسخ . والثاني: أنها جاءت جوابا عن سؤال سألوه; فكان الجواب بقدر السؤال ، ثم حرم بعد ذلك ما حرم . والثالث: أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذكر فيها .

    والقول الثاني: أنها منسوخة بما ذكر في [المائدة] من المنخنقة والموقوذة ، وفي السنة من تحريم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير وقيل: إن آية [المائدة] داخلة في هذه الآية ، لأن تلك الأشياء كلها ميتة .
    [ ص: 141 ] وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون

    قوله تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وقرأ الحسن ، والأعمش: "ظفر" بسكون الفاء; وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة .

    وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه ما ليس بمنفرج الأصابع ، كالإبل ، والنعام ، والإوز ، والبط ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .

    والثاني: الإبل فقط ، قاله ابن زيد .

    والثالث: كل ذي حافر من الدواب ، ومخلب من الطير ، قاله ابن قتيبة . قال: وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة; والعرب تجعل الحافر والإظلاف موضع القدم ، استعارة; وأنشدوا:


    سأمنعها أو سوف أجعل أمرها إلى ملك أظلافه لم تشقق


    [ ص: 142 ] أراد قدميه; وإنما الأظلاف للشاء والبقر . قال ابن الأنباري: الظفر هاهنا ، يجري مجرى الظفر للإنسان . وفيه ثلاث لغات . أعلاهن: ظفر; ويقال: ظفر ، وأظفور . وقال الشاعر:


    ألم تر أن الموت أدرك من مضى فلم يبق منه ذا جناح وذا ظفر


    وقال الآخر:


    لقد كنت ذا ناب وظفر على العدى فأصبحت ما يخشون نابي ولا ظفري


    وقال الآخر:
    ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت وبين أخرى تليها قيد أظفور


    وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه إنما حرم من ذلك شحوم الثروب خاصة ، قاله قتادة .

    والثاني: شحوم الثروب والكلى ، قاله السدي ، وابن زيد .

    والثالث: كل شحم لم يكن مختلطا بعظم ، ولا على عظم ، قاله ابن جريج . وفي قوله: إلا ما حملت ظهورهما ثلاثة أقوال .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #218
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (218)
    صــ143 إلى صــ 148




    أحدها: أنه ما علق بالظهر من الشحوم ، قاله ابن عباس . والثاني: الإلية ، قاله أبو صالح ، والسدي . والثالث: ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما ، [ ص: 143 ] قاله قتادة . فأما الحوايا ، فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها . قال ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن قتيبة: هي المباعر . وقال ابن زيد: هي بنات اللبن ، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء . وقال الفراء: الحوايا: هي المباعر ، وبنات اللبن . وقال الأصمعي: هي بنات اللبن ، وأحدها: حاوياء ، وحاوية ، وحوية .

    قال الشاعر: أقتلهم ولا أرى معاوية الجاحظ العين العظيم الحاوية

    وقال الآخر: كأن نقيق الحب في حاويائه فحيح الأفاعي أو نقيق العقارب

    وقال أبو عبيدة: الحوايا: ما تحوي من البطن ، أي: ما استدار منها . وقال الزجاج : الحوايا: اسم لجميع ما تحوي من البطن فاجتمع واستدار ، وهي بنات اللبن ، وهي المباعر ، وتسمى: المرابض ، وفيها الأمعاء:

    قوله تعالى: أو ما اختلط بعظم فيه قولان .

    أحدهما: أنه شحم البطن والإلية ، لأنهما على عظم ، قاله السدي . والثاني: كل شحم في القوائم ، والجنب ، والرأس ، والعينين ، والأذنين ، فهو مما اختلط بعظم ، قاله ابن جريج . واتفقوا على أن ما حملت ظهورها حلال ، [ ص: 144 ] بالاستثناء من التحريم . فأما ما حملت الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ، ففيه قولان .

    أحدهما: أنه داخل في الاستثناء ، فهو مباح; والمعنى: وأبيح لهم ما حملت الحوايا من الشحم وما اختلط بعظم ، هذا قول الأكثرين .

    والثاني: أنه نسق على ما حرم ، لا على الاستثناء; فالمعنى: حرمنا عليهم شحومهما ، أو الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ، إلا ما حملت الظهور ، فإنه غير محرم . قاله الزجاج . فأما "أو" المذكورة هاهنا ، فهي بمعنى الواو ، كقوله: آثما أو كفورا [الدهر:24] .

    قوله تعالى: ذلك جزيناهم أي: ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم .

    وفي بغيهم قولان .

    أحدهما: أنه قتلهم الأنبياء ، وأكلهم الربا . والثاني: أنه تحريم ما أحل لهم .
    فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين

    قوله تعالى: فإن كذبوك قال ابن عباس : لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: "هذا ما أوحي إلي أنه محرم على المسلمين وعلى اليهود" ، قالوا: فإنك لم تصب ، فنزلت هذه الآية . وفي المكذبين قولان .

    أحدهما: المشركون . قاله ابن عباس والثاني اليهود ، قاله مجاهد . والمراد بذكر الرحمة الواسعة ، أنه لا يعجل بالعقوبة ، والبأس العذاب .

    وفي المراد بالمجرمين قولان .

    أحدهما: المشركون . والثاني: المكذبون .
    [ ص: 145 ] سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون

    قوله تعالى: سيقول الذين أشركوا أي: إذا لزمتهم الحجة ، وتيقنوا باطل ما هم عليه من الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله لو شاء الله ما أشركنا فجعلوا هذا حجة لهم في إقامتهم; على الباطل; فكأنهم قالوا: لو لم يرض ما نحن عليه ، لحال بيننا وبينه; وإنما قالوا ذلك مستهزئين ، ودافعين للاحتجاج عليهم ، فيقال لهم: لم تقولون عن مخالفيكم إنهم ضالون ، وإنما هم على المشيئة أيضا؟ فلا حجة لهم ، لأنهم تعلقوا بالمشيئة ، وتركوا الأمر; ومشيئة الله تعم جميع الكائنات ، وأمره لا يعم مراداته ، فعلى العبد اتباع الأمر ، وليس له أن يتعلل بالمشيئة بعد ورود الأمر .

    قوله تعالى: كذلك كذب الذين من قبلهم قال ابن عباس . أي: قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك ، حتى ذاقوا بأسنا أي: عذابنا . قل هل عندكم من علم أي: كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرمتم إن تتبعون إلا الظن لا اليقين; و"إن" بمعنى "ما" و"تخرصون": تكذبون .
    قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

    قوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة قال الزجاج : حجته البالغة: تبيينه أنه الواحد ، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة . قال السدي: فلو شاء لهداكم أجمعين يوم أخذ الميثاق .
    [ ص: 146 ] قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون

    قوله تعالى: قل هلم شهداءكم قال الزجاج : زعم سيبويه أن "هلم" هاء ضمت إليها "لم" وجعلتا كالكلمة الواحدة; فأكثر اللغات أن يقال: "هلم": للواحد والاثنين والجماعة; بذلك جاء القرآن . ومن العرب من يثني ويجمع ويؤنث ، فيقول للذكر: "هلم" وللمرأة: "هلمي" ، وللاثنين: "هلما" ، وللثنتين: "هلما" ، وللجماعة: "هلموا" وللنسوة: "هلممن" وقال ابن قتيبة: "هلم" بمعنى: "تعال" . وأهل الحجاز لا يثنونها ولا يجمعونها . وأهل نجد يجعلونها من "هلممت" فيثنون ويجمعون ويؤنثون; وتوصل باللام ، فيقال: "هلم لك" ، "وهلم لكما" . قال: وقال الخليل : أصلها "لم" وزيدت الهاء في أولها . وخالفه الفراء ، فقال: أصلها "هل" ضم إليها "أم" ، والرفعة التي في اللام من همزة "أم" لما تركت انتقلت إلى ما قبلها; وكذلك "اللهم" يرى أصلها: "يا ألله أمنا بخير" فكثرت في الكلام ، فاختلطت ، وتركت الهمزة . وقال ابن الأنباري: معنى: "هلم": أقبل; وأصله: "أم يا رجل" أي: "اقصد" فضموا "هل" إلى "أم" وجعلوهما حرفا واحدا ، وأزالوا "أم" عن التصرف ، وحولوا ضمة الهمزة "أم" إلى اللام ، وأسقطوا الهمزة ، فاتصلت الميم باللام . وإذا قال الرجل للرجل: "هلم" فأراد أن يقول: لا أفعل ، قال: "لا أهلم" "ولا أهلم" . قال مجاهد: هذه الآية جواب قولهم: إن الله حرم البحيرة ، والسائبة . قال مقاتل: الذين يشهدون أن الله حرم [ ص: 147 ] هذا الحرث والأنعام ، فإن "شهدوا" أن الله حرمه فلا تشهد معهم أي: لا تصدق قولهم .
    قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون

    قوله تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا "ما" بمعنى "الذي" . وفي "لا" قولان .

    أحدهما: أنها زائدة ، كقوله: "أن لا تسجد"[الأعراف: 12] .

    والثاني: أنها ليست زائدة ، وإنما هي نافية; فعلى هذا القول ، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن يكون قوله: "أن لا تشركوا" محمولا على المعنى; فتقديره: أتل عليكم أن لا تشركوا ، أي: أتل تحريم الشرك .

    والثاني: أن يكون المعنى: أوصيكم أن لا تشركوا ، لأن قوله: وبالوالدين إحسانا [الإسراء: 23] محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحسانا ، ذكرهما الزجاج .

    والثالث: أن الكلام تم عند قوله: حرم ربكم . ثم في قوله: عليكم قولان .

    أحدهما: أنها إغراء ، كقوله: عليكم أنفسكم [المائدة:105] . فالتقدير: عليكم أن لا تشركوا ، ذكره ابن الأنباري . [ ص: 148 ] والثاني: أن يكون بمعنى: فرض عليكم ، ووجب عليكم أن لا تشركوا . وفي هذا الشرك قولان .

    أحدهما: أنه ادعاء شريك مع الله عز وجل . والثاني: أنه طاعة غيره في معصيته .

    قوله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم يريد دفن البنات أحياء . من إملاق أي: من خوف فقر .

    قوله تعالى: ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن فيه خمسة أقوال .

    أحدها: أن الفواحش: الزنا ، وما ظهر منه: الإعلان به ، وما بطن: الاستسرار به ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسدي .

    والثاني: أن ما ظهر: الخمر ، ونكاح المحرمات . وما بطن: الزنا ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد .

    والثالث: أن ما ظهر: الخمر ، وما بطن: الزنا ، قاله الضحاك .

    والرابع: أنه عام في الفواحش . وظاهرها: علانيتها ، وباطنها: سرها ، قاله قتادة .

    والخامس: أن ما ظهر: أفعال الجوارح ، وما بطن: اعتقاد القلوب ، ذكره الماوردي في تفسير هذا الموضع ، وفي تفسير قوله: وذروا ظاهر الإثم وباطنه [الأنعام:120] . والنفس التي حرم الله: نفس مسلم أو معاهد . والمراد بالحق: إذن الشرع .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #219
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (219)
    صــ149 إلى صــ 154



    ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون [ ص: 149 ] قوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده إنما خص مال اليتيم ، لأن الطمع فيه ، لقلة مراعيه وضعف مالكه ، أقوى .

    وفي قوله: إلا بالتي هي أحسن أربعة أقوال .

    أحدها: أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته ، قاله ابن عباس ، وابن زيد .

    والثاني: التجارة فيه ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي .

    والثالث: أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه ، قاله ابن السائب .

    والرابع: أنه حفظه عليه ، وتثميره له ، قاله الزجاج . قال: و"حتى" محمولة على المعنى; فالمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشده ، فإذا بلغ أشده ، فادفعوه إليه . فأما الأشد ، فهو استحكام قوة الشباب والسن . قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: حتى يتناهى في النبات إلى حد الرجال . يقال: بلغ أشده: إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان . وقال أبو عبيدة: الأشد لا واحد له منه; فإن أكرهوا على ذلك ، قالوا: شد ، بمنزلة: ضب ، والجمع: أضب . قال ابن الأنباري: وقال جماعة من البصريين: واحد الأشد: شد ، بضم الشين . وقال بعض البصريين: واحد الأشد: شدة ، كقولهم: نعمة ، وأنعم . وقال بعض أهل اللغة: الأشد: اسم لا واحد له . وللمفسرين في الأشد ثمانية أقوال .

    أحدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة ، رواه ابن جبير عن ابن عباس .

    والثاني: ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث: أربعون سنة ، روي عن عائشة عليها السلام . [ ص: 150 ] والرابع: ثماني عشرة سنة ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل .

    والخامس: خمس وعشرون سنة ، قاله عكرمة .

    والسادس: أربع وثلاثون سنة ، قاله سفيان الثوري .

    والسابع: ثلاثون سنة ، قاله السدي . وقال: ثم جاء بعد هذه الآية: حتى إذا بلغوا النكاح [النساء:6] فكأنه يشير إلى النسخ .

    والثامن: بلوغ الحلم ، قاله زيد بن أسلم ، والشعبي ، ويحيى بن يعمر ، وربيعة ، ومالك بن أنس ، وهو الصحيح . ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذكر عنهم ، وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير ، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى: " ولما بلغ أشده " [يوسف:22 ، والقصص:14] إلى هذا المكان; وذلك نهاية الأشد ، وهذا ابتداء تمامه; وليس هذا مثل ذاك . قال ابن جرير: وفي الكلام محذوف ، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر عما حذف ، لأن المعنى: حتى يبلغ أشده; فإذا بلغ أشده ، فآنستم منه رشدا فادفعوا إليه ماله .

    قال المصنف: إن أراد بما ظهر ما ظهر في هذه الآية ، فليس بصحيح; وإنما استفيد إيناس الرشد والإسلام من آية أخرى; وإنما أطلق في هذه الآية ما قيد في غيرها ، فحمل المطلق على المقيد .

    قوله تعالى: وأوفوا الكيل أي: أتموه ولا تنقصوا منه . والميزان أي: وزن الميزان . والقسط: العدل . لا نكلف نفسا إلا وسعها أي: ما يسعها ، ولا تضيق عنه . قال القاضي أبو يعلى: لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل ، كلفنا الاجتهاد في التحري ، دون تحقيق الكيل والوزن .

    قوله تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا أي: إذا تكلمتم أو شهدتم ، فقولوا الحق ، [ ص: 151 ] ولو كان المشهود له أو عليه ذا قرابة . وعهد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به ، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون أي: لتذكروه وتأخذوا به . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو: "تذكرون"[الأنعام:153] "ويذكرون"[الأنعام:126] "ويذكر الإنسان"[مريم:67] و أن يذكر [الفرقان:62] ، و"ليذكروا"[الإسراء: 41] مشددا ذلك كله . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم ، وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله: أولا يذكر الإنسان [مريم:67] فإنهم خففوه . روى أبان ، وحفص عن عاصم: "يذكرون" خفيفة الذال في جميع القرآن . قرأ حمزة ، والكسائي:" يذكرون" مشددا إذا كان بالياء ، ومخففا إذا كان بالتاء .
    وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون

    قوله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو: "وأن" بفتح الألف مع تشديد النون . قال الفراء: إن شئت جعلت "أن" مفتوحة بوقوع "أتل" عليها; وإن شئت جعلتها خفضا ، على معنى: ذلكم وصاكم به ، وبأن هذا صراطي مستقيما . وقرأ ابن عامر بفتح الألف أيضا ، إلا أنه خفف النون ، فجعلها مخففة من الثقيلة; وحكم إعرابها حكم تلك . وقرأ حمزة ، والكسائي: بتشديد النون مع كسر الألف . قال الفراء: وكسر الألف على الاستئناف . وفي الصراط قولان .

    أحدهما: أنه القرآن . والثاني: الإسلام . وقد بينا إعراب قوله: "مستقيما" أيضا . فأما "السبل" فقال ابن عباس : هي الضلالات . وقال مجاهد: [ ص: 152 ] البدع والشبهات . وقال مقاتل: أراد ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث . فتفرق بكم عن سبيله أي: فتضلكم عن دينه .
    ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون

    قوله تعالى: ثم آتينا موسى الكتاب قال الزجاج : "ثم" هاهنا للعطف على معنى التلاوة; فالمعنى: أتل ما حرم ربكم ، ثم أتل عليكم ما آتاه الله موسى .

    وقال ابن الأنباري: الذي بعد "ثم" مقدم على الذي قبلها في النية; والتقدير: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: تماما على الذي أحسن في قوله: "تماما" قولان .

    أحدهما: أنها كلمة متصلة بما بعدها; تقول: أعطيتك كذا ، تماما على كذا ، وتماما لكذا ، وهذا قول الجمهور .

    والثاني: أن قوله: "تماما" كلمة قائمة بنفسها ، غير متصلة بما بعدها; [ ص: 153 ] والتقدير: آتينا موسى الكتاب تماما ، أي: في دفعة واحدة ، لم نفرق إنزاله كما فرق إنزال القرآن ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    وفي المشار إليه بقوله: "أحسن" أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الله عز وجل . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما: تماما على إحسان الله إلى أنبيائه ، قاله ابن زيد . والثاني: تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى; وعلى هذين ، القولين ، يكون "الذي" بمعنى "ما"

    والقول الثاني: أنه إبراهيم; الخليل عليه السلام; فالمعنى: تماما للنعمة على إبراهيم الذي أحسن في طاعة الله ، وكانت نبوة موسى نعمة على إبراهيم ، لأنه من ولده ، ذكره الماوردي .

    والقول الثالث: أنه كل محسن من الأنبياء ، وغيرهم . وقال مجاهد: تماما على المحسنين ، أي: تماما لكل محسن . وعلى هذا القول ، يكون "الذي" بمعنى "من" ، "وعلى" بمعنى لام الجر; ومن هذا قول العرب: أتم عليه ، وأتم له . قال الراعي:

    رعته أشهرا وخلا عليها

    أي: لها .

    قال ابن قتيبة: ومثل هذا أن تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج; تريد: للغازين والحاجين . [ ص: 154 ] والقول الرابع: أنه موسى . ثم في معنى: أحسن قولان .

    أحدهما: أحسن في الدنيا بطاعة الله عز وجل . قال الحسن ، وقتادة: تماما لكرامته في الجنة إلى إحسانه في الدنيا . وقال الربيع: هو إحسان موسى بطاعته . وقال ابن جرير: تماما لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا .

    والثاني: أحسن من العلم وكتب الله القديمة; وكأنه زيد على ما أحسنه من التوراة; ويكون "التمام" بمعنى الزيادة ، ذكره ابن الأنباري . فعلى هذين القولين ، يكون "الذي" بمعنى: "ما" وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو رزين ، والحسن ، وابن يعمر: "على الذي أحسن" بالرفع . قال الزجاج : معناه: على الذي هو أحسن الأشياء . وقرأ عبد الله بن عمرو ، وأبو المتوكل ، وأبو العالية: "على الذي أحسن" برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون; وهي تحتمل الإحسان ، وتحتمل العلم .

    قوله تعالى: وتفصيلا لكل شيء أي: تبيانا لكل شيء من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى علمه ، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء .
    وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون

    قوله تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك يعني القرآن ، فاتبعوه واتقوا أن تخالفوه لعلكم ترحمون قال الزجاج : لتكونوا راجين للرحمة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #220
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (220)
    صــ155 إلى صــ 160



    أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين

    قوله تعالى: أن تقولوا سبب نزولها: أن كفار مكة قالوا: قاتل الله [ ص: 155 ] اليهود والنصارى ، كيف كذبوا أنبياءهم; فوالله لو جاءنا نذير وكتاب ، لكنا أهدى منهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . قال الفراء: "أن" في موضع نصب في مكانين . أحدهما: أنزلناه لئلا تقولوا . والآخر: من قوله: واتقوا أن تقولوا . وذكر الزجاج عن البصريين ، أن معناه: أنزلناه ، كراهة أن تقولوا; ولا يجيزون إضمار "لا" فأما الخطاب بهذه الآية ، فهو لأهل مكة; والمراد إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى ، وكنا غافلين عما فيهما . "ودراستهم": قراءتهم الكتب . قال الكسائي: وإن كنا عن دراستهم لغافلين لا نعلم ما هي ، لأن كتبهم لم تكن بلغتنا ، فأنزل الله كتابا بلغتهم لتنقطع حجتهم .
    أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون

    قوله تعالى: لكنا أهدى منهم قال الزجاج : إنما كانوا يقولون هذا ، لأنهم مدلون بالأذهان والأفهام ، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم ، وهم أميون لا يكتبون . فقد جاءكم بينة أي: ما فيه البيان وقطع الشبهات . قال ابن عباس : فقد جاءكم بينة أي: حجة ، وهو النبي ، والقرآن ، والهدى ، والبيان ، والرحمة ، والنعمة . فمن أظلم أي: أكفر . ممن كذب بآيات الله يعني محمدا والقرآن . وصدف عنها : أعرض فلم يؤمن بها . وسوء العذاب: قبيحه .
    [ ص: 156 ] هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون

    قوله تعالى: هل ينظرون أي: ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "تأتيهم" بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي: يأتيهم بالياء . وهذا الإتيان لقبض أرواحهم . وقال مقاتل المراد بالملائكة: ملك الموت وحده .

    قوله تعالى: أو يأتي ربك قال الحسن: أو يأتي أمر ربك . وقال الزجاج : أو يأتي إهلاكه وانتقامه ، إما بعذاب عاجل ، أو بالقيامة .

    قوله تعالى: أو يأتي بعض آيات ربك وروى عبد الوارث إلا القزاز: بتسكين ياء "أو يأتي وفتحها الباقون . وفي هذه الآية أربعة أقوال .

    أحدها: أنه طلوع الشمس من مغربها ، رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال ابن مسعود . وفي رواية زرارة بن أوفى عنه ، وعبد الله بن عمرو ، ومجاهد وقتادة ، والسدي . وقد روى البخاري ، ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس ، آمن من عليها ، فذلك حين لا ينفع نفسا [ ص: 157 ] إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا" . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ، طبع على كل قلب بما فيه ، [و]كفى الناس العمل"

    والثاني: أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما ، رواه مسروق عن ابن مسعود .

    والثالث: أنه إحدى الآيات ، الثلاث طلوع الشمس من مغربها ، والدابة ، وفتح يأجوج ومأجوج ، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود .

    والرابع أنه طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض ، قاله أبو هريرة; والأول أصح . والمراد بالخير هاهنا العمل الصالح وإنما لم ينفع الإيمان . والعمل الصالح; حينئذ ، لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان . وقال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه ، قبل منه ، كما يقبل منه قبل الآية . وقيل إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها ، أن الملحدة والمنجمين ، زعموا أن ذلك لا يكون ، فيريهم الله قدرته ، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق ، ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم: فأت بها من المغرب ، فبهت [البقرة:258] .

    [ ص: 158 ]

    فصل

    وفي قوله: قل انتظروا إنا منتظرون قولان .

    أحدهما: أن المراد به التهديد ، فهو محكم .

    والثاني: أنه أمر بالكف عن القتال ، فهو منسوخ بآية السيف .
    إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون

    قوله تعالى: إن الذين فرقوا دينهم قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، " فرقوا " مشددة . وقرأ حمزة ، والكسائي: " فارقوا " بألف . وكذلك قرؤوا في [الروم:32]; فمن قرأ:" فرقوا " أراد: آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض . ومن قرأ: " فارقوا" أراد: باينوا . وفي المشار إليهم أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة ، قاله أبو هريرة .

    والثاني: أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة; والسدي .

    والثالث: اليهود ، قاله مجاهد .

    والرابع: جميع المشركين ، قاله الحسن . فعلى هذا القول ، دينهم: الكفر الذي يعتقدونه دينا ، وعلى ما قبله ، دينهم: الذي أمرهم الله به . والشيع: الفرق والأحزاب . قال الزجاج : ومعنى "شيعت" في اللغة: اتبعت . والعرب تقول: شاعكم السلام ، وأشاعكم ، أي: تبعكم . [ ص: 159 ] قال الشاعر:


    ألا يا نخلة من ذات عرق برود الظل شاعكم السلام


    وتقول:

    أتيتك غدا ، أو شيعة ، أي: أو اليوم الذي يتبعه . فمعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضا ، وليس كلهم متفقين .

    وفي قوله تعالى: لست منهم في شيء قولان .

    أحدهما: لست من قتالهم في شيء; ثم نسخ بآية السيف ، وهذا مذهب السدي .

    والثاني: لست منهم ، أي: أنت بريء منهم ، وهم منك برءاء ، إنما أمرهم إلى الله في جزائهم ، فتكون الآية محكمة .
    من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون

    قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وقرأ يعقوب ، والقزاز عن عبد الوارث: "عشر" بالتنوين ، "أمثالها" بالرفع . قال ابن عباس : يريد: من عملها ، كتبت له عشر حسنات . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا جزاء "مثلها" . وفي الحسنة والسيئة هاهنا قولان .

    أحدهما: أن الحسنة: قول لا إله إلا الله . والسيئة: الشرك ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والنخعي .

    والثاني: أنه عام في كل حسنة وسيئة . روى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر فإن قيل: [ ص: 160 ] إذا كانت الحسنة كلمة التوحيد ، فأي مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها؟ فالجواب: أن جزاء الحسنة معلوم القدر عند الله ، فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله ، وكذلك السيئة . وقد أشرنا إلى هذا في "المائدة" عند قوله: فكأنما قتل الناس جميعا [المائدة:32] . فإن قيل: المثل مذكر ، فلم قال: عشر أمثالها والهاء إنما تسقط في عدد المؤنث؟ فالجواب: أن الأمثال خلقت حسنات; مؤنثة وتلخيص المعنى: فله عشر حسنات أمثالها ، فسقطت الهاء من عشر ، لأنها عدد مؤنث ، كما تسقط عند قولك: عشر نعال ، وعشر جباب .
    قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

    قوله تعالى: قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم قال الزجاج : أي: دلني على الدين الذي هو دين الحق . ثم فسر ذلك بقوله: دينا قيما قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو: " قيما " مفتوحة القاف ، مشددة الياء . والقيم: المستقيم . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: " قيما" بكسر القاف وتخفيف الياء . قال الزجاج : وهو مصدر ، كالصغر والكبر . وقال مكي: من خففه بناه على "فعل" وكان أصله أن يأتي بالواو ، فيقول: قوما كما قالوا: عوض ، وحول ، ولكنه شذ عن القياس . قال الزجاج : ونصب قوله: دينا قيما محمول على المعنى ، لأنه لما قال: هداني دل على عرفني دينا; ويجوز أن يكون على البدل من قوله: إلى صراط مستقيم فالمعنى: هداني صراطا مستقيما دينا قيما . وحنيفا منصوب على الحال من إبراهيم ، والمعنى: هداني ملة إبراهيم في حال حنيفيته .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •