تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 10 من 25 الأولىالأولى 1234567891011121314151617181920 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 181 إلى 200 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #181
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (181)
    صــ391 إلى صــ 395

    وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون

    قوله تعالى: وإذا جاءوكم قالوا آمنا قال قتادة: هؤلاء ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به وهم متمسكون بضلالتهم .

    [ ص: 391 ] قوله تعالى: وقد دخلوا بالكفر أي: دخلوا كافرين ، وخرجوا كافرين ، فالكفر معهم في حالتيهم ، والله أعلم بما كانوا يكتمون من الكفر والنفاق .
    وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون

    قوله تعالى: وترى كثيرا منهم يعني: اليهود (يسارعون) أي: يبادرون (في الإثم) وفيه قولان . أحدهما: أنه المعاصي ، قاله ابن عباس . والثاني: الكفر ، قاله السدي . فأما العدوان فهو الظلم .

    وفي "السحت" ثلاثة أقوال .

    أحدها: الرشوة في الحكم . والثاني: الرشوة في الدين . والثالث: الربا .
    لولا ينهاهم الربانيون والأحبار "لولا": بمعنى: "هلا" ، و "الربانيون" مذكورون في (آل عمران) ، و "الأحبار" قد تقدم ذكرهم في هذه السورة . وهذه الآية من أشد الآيات على تاركي الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأن الله تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإنكار في الذم . قال ابن عباس : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية .
    وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب [ ص: 392 ] أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين

    قوله تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في فنحاص اليهودي وأصحابه ، قالوا: يد الله مغلولة . وقال مقاتل: فنحاص وابن صلوبا ، وعازر بن أبي عازر . وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن الله تعالى كان قد بسط لهم الرزق ، فلما عصوا الله تعالى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكفروا به كف عنهم بعض ما كان بسط لهم ، فقالوا: يد الله مغلولة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .

    والثاني: أنه الله تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمة ، فقالوا: إن الله بخيل ، ويده مغلولة فهو يستقرضنا ، قاله قتادة .

    والثالث: أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس ، قالت اليهود: لو كان الله صحيحا ، لمنعنا منه ، فيده مغلولة ، ذكره قتادة أيضا .

    والمغلولة: الممسكة المنقبضة . وعن ماذا عنوا أنها ممسكة ، فيه قولان .

    أحدهما: عن العطاء ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج .

    والثاني: ممسكة عن عذابنا ، فلا يعذبنا إلا تحلة القسم بقدر عبادتنا العجل ، قاله الحسن . وفي قوله: غلت أيديهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: غلت في جهنم ، قاله الحسن . والثاني: أمسكت عن الخير ، قاله مقاتل . والثالث: جعلوا بخلاء ، فهم أبخل قوم ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري: وهذا خبر أخبر الله تعالى به الخلق أن هذا قد نزل بهم ، وموضعه نصب على معنى الحال . تقديره: قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغل أيديهم ، ولعنته [ ص: 393 ] إياهم ، ويجوز أن يكون المعنى: فغلت أيديهم ، ويجوز أن يكون دعاء ، معناه: تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم ، كقوله: تبت يدا أبي لهب [اللهب: 1 ] وقوله: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [الفتح: 27] .

    وفي قوله: ولعنوا بما قالوا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أبعدوا من رحمة الله . والثاني: عذبوا في الدنيا بالجزية ، وفي الآخرة بالنار . والثالث: مسخوا قردة وخنازير . وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لعن شيئا لم يكن للعنه أهلا رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إياهم" . قال الزجاج : وقد ذهب قوم إلى أن معنى "يد الله": نعمته ، وهذا خطأ ينقضه بل يداه مبسوطتان فيكون المعنى على قولهم: نعمتاه ، ونعم الله أكثر من أن تحصى . والمراد بقوله: بل يداه مبسوطتان : أنه جواد ينفق كيف يشاء وإلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري . قال ابن عباس : إن شاء وسع في الرزق ، وإن شاء قتر .

    قوله تعالى: وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا

    قال الزجاج : كلما أنزل عليك شيء ، كفروا به ، فيزيد كفرهم . و "الطغيان" هاهنا: الغلو في الكفر . وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدماء طغيانا وكفرا .

    [ ص: 394 ] قوله تعالى: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء فيمن عني بهذا قولان .

    أحدهما: اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل . فإن قيل: فأين ذكر النصارى؟ فالجواب: أنه قد تقدم في قوله: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . والثاني: أنهم اليهود ، قاله قتادة .

    قوله تعالى: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ذكر إيقاد النار مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة ، وقيل: إن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن القبيلة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى أوقدت النار على رؤوس الجبال ، والمواضع المرتفعة ، ليعلم استعدادهم للحرب ، فيتأهب من يريد إعانتهم . وقيل: كانوا إذا تحالفوا على الجد في حربهم ، أوقدوا نارا ، وتحالفوا .

    وفي معنى الآية قولان .

    أحدهما: كلما جمعوا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم فرقهم الله .

    والثاني: كلما مكروا مكرا رده الله .

    قوله تعالى: ويسعون في الأرض فسادا فيه أربعة أقوال .

    أحدها: بالمعاصي ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: بمحو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من كتبهم ، ودفع الإسلام ، قاله الزجاج . والثالث: بالكفر . والرابع: بالظلم ، ذكرهما الماوردي .
    ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم

    قوله تعالى: ولو أن أهل الكتاب يعني: اليهود والنصارى (آمنوا) بالله وبرسله (واتقوا) الشرك (لكفرنا عنهم سيئاتهم) التي سلفت .
    [ ص: 395 ] ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون

    قوله تعالى: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل قال ابن عباس : عملوا بما فيهما . وفيما أنزل إليهم من ربهم قولان . أحدهما: كتب أنبياء بني إسرائيل . والثاني: القرآن لأنهم لما خوطبوا به كان نازلا إليهم .

    قوله تعالى: لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم فيه قولان .

    أحدهما: لأكلوا بقطر السماء ، ونبات الأرض ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #182
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (182)
    صــ396 إلى صــ 400


    والثاني: أن المعنى لوسع عليهم ، كما يقال: فلان في خير من قرنه إلى قدمه ، ذكره الفراء ، والزجاج . وقد أعلم الله تعالى بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال: لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [الأعراف: 96] وقال: ويرزقه من حيث لا يحتسب [الطلاق: 3]

    قوله تعالى: منهم أمة مقتصدة يعني: من أهل الكتاب ، وهم الذين أسلموا منهم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . وقال القرظي: هم الذين قالوا: المسيح عبد الله ورسوله . و "الاقتصاد" الاعتدال في القول والعمل من غير غلو ولا تقصير .
    يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين

    قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ذكر المفسرون أن هذه [ ص: 396 ] الآية نزلت على أسباب ، روى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما بعثني الله برسالته ، ضقت بها ذرعا ، وعرفت أن من الناس من يكذبني" ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهاب قريشا واليهود والنصارى ، فأنزل الله هذه الآية . وقال مجاهد: لما نزلت يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك قال: "يا رب كيف أصنع؟ إنما أنا وحدي يجتمع علي الناس" ، فأنزل الله وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس وقال مقاتل: لما دعا اليهود ، وأكثر عليهم ، جعلوا يستهزؤون به ، فسكت عنهم ، فحرض بهذه الآية . وقال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فيرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية ، فقال: "يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس" . وقال أبو هريرة: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه ، فقال: يا محمد من يمنعني منك؟ فقال: "الله" ، فنزل قوله: والله يعصمك من الناس . قالت عائشة: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فقلت: ما شأنك؟ قال: ألا رجل صالح يحرسني الليلة ، فبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت السلاح ، فقال: "من هذا"؟ فقال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى [ ص: 397 ] سمعت غطيطه ، فنزلت والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم وقال: "انصرفوا أيها الناس ، فقد عصمني الله تعالى" . قال الزجاج : قوله: بلغ ما أنزل إليك معناه: بلغ جميع ما أنزل إليك ، ولا تراقبن أحدا ، ولا تتركن شيئا منه مخافة أن ينالك مكروه ، فإن تركت منه شيئا ، فما بلغت . قال ابن قتيبة: يدل على هذا المحذوف قوله: والله يعصمك وقال ابن عباس : إن كتمت آية فما بلغت رسالتي . وقال غيره: المعنى: بلغ جميع ما أنزل إليك جهرا ، فإن أخفيت شيئا منه لخوف أذى يلحقك ، فكأنك ما بلغت شيئا . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي: "رسالته" على التوحيد . وقرأ نافع: "رسالاته" على الجمع .

    قوله تعالى: والله يعصمك من الناس قال ابن قتيبة: أي: يمنعك منهم . وعصمة الله: منعه للعبد من المعاصي ، ويقال: طعام لا يعصم ، أي: لا يمنع من الجوع . فإن قيل: فأين ضمان العصمة وقد شج جبينه ، وكسرت رباعيته ، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان .

    أحدهما: أنه عصمه من القتل والأسر وتلف الجملة ، فأما عوارض الأذى ، فلا تمنع عصمة الجملة . والثاني: أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك ، لأن "المائدة" من أواخر ما نزل .

    [ ص: 398 ] قوله تعالى: إن الله لا يهدي القوم الكافرين فيه قولان .

    أحدهما: لا يهديهم إلى الجنة . والثاني: لا يعينهم على بلوغ غرضهم .
    قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين

    قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة ، وتشهد أنها حق؟ قال: بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها ، فأنا بريء من إحداثكم . فقالوا: نحن على الهدى ، ونأخذ بما في أيدينا ، ولا نؤمن بك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .

    فأما أهل الكتاب ، فالمراد بهم اليهود والنصارى . وقوله: لستم على شيء أي: لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، وإقامتهما: العمل بما فيهما ، ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم . وفي الذي أنزل إليهم من ربهم قولان قد سبقا ، وكذلك باقي الآية .
    إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

    قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون قد ذكرنا تفسيرها في (البقرة) . وكذلك اختلفوا في إحكامها ونسخها كما بينا هناك . فأما رفع "الصابئين" فذكر الزجاج عن البصريين ، منهم الخليل ، وسيبويه أن قوله: [ ص: 399 ] "والصابئون" محمول على التأخير ، ومرفوع بالابتداء . والمعنى: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والصابئون والنصارى كذلك أيضا ، وأنشدوا:


    وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق


    المعنى: فاعلموا أنا بغاة ما بقينا في شقاق ، وأنتم أيضا كذلك .
    لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون

    قوله تعالى: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل قال مقاتل: أخذ ميثاقهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها . قال ابن عباس : كان فيمن كذبوا ، محمد ، وعيسى ، وفيمن قتلوا ، زكريا ، ويحيى . قال الزجاج : فأما التكذيب ، فاليهود ، والنصارى يشتركون فيه . وأما القتل فيختص اليهود .
    وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون

    قوله تعالى: وحسبوا ألا تكون فتنة قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، [ ص: 400 ] وابن عامر: "تكون" بالنصب . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي: "تكون" بالرفع ، ولم يختلفوا في رفع "فتنة" . قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل "أن" مخففة من الثقيلة ، وأضمر معها "الهاء" ، وجعل "حسبوا" بمعنى: أيقنوا ، لأن "أن" للتأكيد ، والتأكيد لا يجوز إلا مع اليقين . والتقدير: أنه لا تكون فتنة . ومن نصب جعل "أن" هي الناصبة للفعل ، وجعل "حسبوا" بمعنى: ظنوا . ولو كان قبل "أن" فعل لا يصلح للشك ، لم يجز أن تكون إلا مخففة من الثقيلة ، ولم يجز نصب الفعل بها ، كقوله: أفلا يرون ألا يرجع إليهم [طه: 89] و علم أن سيكون [المزمل: 20] وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره ، نحو العلم والتيقن ، وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار ، وفعل يجذب إلى هذا مرة ، وإلى هذا أخرى ، فما كان معناه العلم ، وقعت بعده "أن" الثقيلة ، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره ، كقوله: ويعلمون أن الله هو الحق المبين [النور: 25] ألم يعلم بأن الله يرى [العلق: 14] وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو ، وقعت بعده "أن" الخفيفة ، كقوله: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله [البقرة: 229] تخافون أن يتخطفكم الناس [الأنفال 26] فخشينا أن يرهقهما [الكهف: 80] أطمع أن يغفر لي [الشعراء: 82] وما كان مترددا بين الحالين مثل حسبت وظننت ، فإنه يجعل تارة بمنزلة العلم ، وتارة بمنزلة أرجو وأطمع وكلتا القراءتين في وحسبوا ألا تكون فتنة قد جاء بها التنزيل . فمثل مذهب من نصب أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم [الجاثية: 21] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا [العنكبوت: 4] أحسب الناس أن يتركوا [العنكبوت: 2] ومثل مذهب من رفع أيحسبون أنما نمدهم [المؤمنون 55] أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم [الزخرف: 80] . [ ص: 401 ] قال ابن عباس : ظنوا أن الله لا يعذبهم ، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء ، وتكذيبهم الرسل .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #183
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (183)
    صــ401 إلى صــ 405



    قوله تعالى: فعموا وصموا قال الزجاج : هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا ، ورأوا من الآيات ، فصاروا كالعمي الصم .

    قوله تعالى: ثم تاب الله عليهم فيه قولان .

    أحدهما: رفع عنهم البلاء ، قاله مقاتل . وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء ، وذلك مذكور في قوله: ثم رددنا لكم الكرة عليهم [الإسراء: 6]

    والثاني: أن معنى "تاب عليهم": أرسل إليهم محمدا يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا ، قاله الزجاج . وفي قوله: ثم عموا وصموا قولان .

    أحدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء ، قاله مقاتل .

    والثاني: لم يؤمنوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: كثير منهم أي: عمي وصم كثير منهم ، كما تقول: جاءني قومك أكثرهم . قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث كذبوه بغيا وحسدا ، وقدروا أن هذا الفعل لا يكون موبقا لهم ، وجانيا عليهم ، فقال الله تعالى: وحسبوا ألا تكون فتنة أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر ، فعموا وصموا بمجانبة الحق . ثم تاب الله عليهم أي: عرضهم للتوبة بأن أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وإن لم يتوبوا ، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد ، كثير منهم ، فخص بعضهم بالفعل الأخير ، لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    [ ص: 402 ] لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار

    قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران ، قالوا ذلك .

    قوله تعالى: وقال المسيح أي: وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة .
    لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم

    قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال مجاهد: هم النصارى . قال وهب بن منبه: لما ولد عيسى لم يبق صنم إلا خر لوجهه ، فاجتمعت الشياطين إلى إبليس ، فأخبروه ، فذهب فطاف أقطار الأرض ، ثم رجع ، فقال: هذا المولود الذي ولد من غير ذكر ، أردت أن أنظر إليه ، فوجدت الملائكة قد حفت بأمه ، فليتخلف عندي اثنان من مردتكم ، فلما أصبح ، خرج بهما في صورة الرجال ، فأتوا مسجد بني إسرائيل وهم يتحدثون بأمر عيسى ويقولون: مولود من غير أب . فقال إبليس: ما هذا ببشر ، ولكن الله أحب أن يتمثل في امرأة ليختبر العباد ، فقال أحد صاحبيه: ما أعظم ما قلت ، ولكن الله أحب أن يتخذ ولدا . وقال الثالث: ما أعظم ما قلت ، ولكن الله أراد أن يجعل إلها في [ ص: 403 ] الأرض ، فألقوا هذا الكلام على ألسنة الناس ، ثم تفرقوا ، فتكلم به الناس .

    وقال محمد بن كعب: لما رفع عيسى اجتمع مئة من علماء بني إسرائيل ، وانتخبوا منهم أربعة ، فقال أحدهم: عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له ، ثم صعد إلى السماء ، لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله . وقال الثاني: ليس كذلك ، لأنا قد عرفنا عيسى ، وعرفنا أمه . ولكنه ابن الله . وقال الثالث: لا أقول كما قلتما ، ولكن جاءت به أمه من عمل غير صالح . فقال: الرابع لقد قلتم قبيحا ، ولكنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ، فخرجوا ، فاتبع كل رجل منهم عنق من الناس . قال المفسرون: ومعنى الآية: أن النصارى قالت: الإلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم ، وكل واحد منهم إله . وفي الآية إضمار ، فالمعنى: ثالث ثلاثة آلهة ، فحذف ذكر الآلهة ، لأن المعنى مفهوم ، لأنه لا يكفر من قال: هو ثالث ثلاثة ، ولم يرد الآلهة ، لأنه ما من اثنين إلا وهو ثالثهما ، وقد دل على المحذوف قوله: وما من إله إلا إله واحد . قال الزجاج : ومعنى ثالث ثلاثة: أنه أحد ثلاثة . ودخلت "من" في قوله: وما من إله للتوكيد .

    والذين كفروا منهم ، هم المقيمون على هذا القول . وقال ابن جرير: المعنى: ليمسن الذين يقولون: المسيح هو الله ، والذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة ، وكل كافر يسلك سبيلهم ، عذاب أليم .
    أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم

    قوله تعالى: أفلا يتوبون إلى الله قال الفراء: لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الأمر ، كقوله: فهل أنتم منتهون [المائدة: 91] .
    [ ص: 404 ] ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون

    قوله تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول فيه رد على اليهود في تكذيبهم رسالته ، وعلى النصارى في ادعائهم إلهيته . والمعنى: أنه ليس بإله ، وإنما حكمه حكم من سبقه من الرسل . وفي قوله: وأمه صديقة رد على من نسبها من اليهود إلى الفاحشة . قال الزجاج : والصديقة: المبالغة في الصدق ، وصديق "فعيل" من أبنية المبالغة ، كما تقول: فلان سكيت ، أي: مبالغ في السكوت .

    وفي قوله تعالى: كانا يأكلان الطعام قولان .

    أحدهما: أنه بين أنهما يعيشان بالغذاء ، ومن لا يقيمه إلا أكل الطعام فليس بإله ، قاله الزجاج .

    والثاني: أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته ، وهو الحدث ، إذ لا بد لآكل الطعام من الحدث ، قاله ابن قتيبة . قال: وقوله: انظر كيف نبين لهم الآيات من ألطف ما يكون من الكناية . و "يؤفكون": يصرفون عن الحق ويعدلون ، يقال: أفك الرجل عن كذا: إذا عدل عنه ، وأرض مأفوكة: محرومة المطر والنبات ، كأن ذلك صرف عنها وعدل .
    قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم

    قوله تعالى: قل أتعبدون من دون الله قال مقاتل: قل لنصارى نجران: أتعبدون من دون الله ، يعني: عيسى ابن مريم ما لا يملك لكم ضرا في الدنيا ، ولا [ ص: 405 ] نفعا في الآخرة . والله هو السميع لقولهم: المسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، العليم بمقالتهم .
    قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

    قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب قال مقاتل: هم نصارى نجران . والمعنى: لا تغلوا في دينكم ، فتقولوا غير الحق في عيسى . وقد بينا معنى "الغلو" في آخر سورة (النساء) .

    قوله تعالى: ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل قال أبو سليمان: من قبل أن تضلوا . وفيهم قولان .

    أحدهما: أنهم رؤساء الضلالة من اليهود .

    والثاني: رؤساء اليهود والنصارى ، والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم .
    لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

    قوله تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل في لعنهم قولان .

    أحدهما: أنه نفس اللعن ، ومعناه: المباعدة من الرحمة . قال ابن عباس : لعنوا على لسان داود ، فصاروا قردة ، و لعنوا على لسان عيسى في الإنجيل . قال الزجاج : وجائز أن يكون داود وعيسى أعلما أن محمدا نبي ، ولعنا من كفر به .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #184
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (184)
    صــ406 إلى صــ 410



    والثاني: أنه المسخ ، قاله مجاهد ، لعنوا على لسان داود فصاروا قردة ، وعلى لسان عيسى ، فصاروا خنازير . وقال الحسن ، وقتادة: لعن أصحاب السبت [ ص: 406 ] على لسان داود ، فإنهم لما اعتدوا ، قال داود: اللهم العنهم ، واجعلهم آية ، فمسخوا قردة . ولعن أصحاب المائدة على لسان عيسى ، فإنهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا; قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت ، فجعلوا خنازير .

    قوله تعالى: ذلك بما عصوا أي: ذلك اللعن بمعصيتهم لله تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه ، وباعتدائهم في مجاوزة ما حده لهم .
    كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون

    قوله تعالى: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه التناهي: تفاعل من النهي ، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر .

    وذكر المفسرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال .

    أحدها: صيد السمك يوم السبت . والثاني: أخذ الرشوة في الحكم .

    والثالث: أكل الربا ، وأثمان الشحوم . وذكر المنكر منكرا يدل على الإطلاق ، ويمنع هذا الحصر ، ويدل على ما قلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا ، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه ، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ، ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم" .

    [ ص: 407 ] قوله تعالى: لبئس ما كانوا يفعلون قال الزجاج : اللام دخلت للقسم والتوكيد ، والمعنى: لبئس شيئا فعلهم .
    ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون

    قوله تعالى: ترى كثيرا منهم في المشار إليهم قولان .

    أحدهما: أنهم المنافقون ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .

    والثاني: أنهم اليهود ، قاله مقاتل في آخرين . فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر ، وعلى الأول يرجع الكلام إلى قوله: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم . وفي الذين كفروا قولان . أحدهما: أنهم اليهود ، قاله أرباب القول الأول . والثاني: أنهم مشركو العرب ، قاله أرباب هذا القول الثاني .

    قوله تعالى: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أي: بئسما قدموا لمعادهم أن سخط الله عليهم قال الزجاج : يجوز أن تكون "أن" في موضع رفع على إضمار هو ، كأنه قيل: هو أن سخط الله عليهم .
    لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

    [ ص: 408 ] قوله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود قال المفسرون: نزلت هذه الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه . قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي قوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا ، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها ، وسنذكر قصتهم فيما بعد . قال الزجاج : واللام في "لتجدن" لام القسم ، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال ، و "عداوة" منصوب على التمييز ، واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدا للنبي صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: والذين أشركوا يعني: عبدة الأوثان . فأما الذين قالوا: إنا نصارى ، فهل هذا عام في كل النصارى ، أم خاص؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنه خاص ثم فيه قولان .

    أحدهما: أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا ، قاله ابن عباس ، وابن جبير .

    والثاني: أنهم قوم من النصارى كانوا متمسكين بشريعة عيسى ، فلما جاء محمد عليه السلام أسلموا ، قاله قتادة .

    والقول الثاني: أنه عام . قال الزجاج : يجوز أن يراد به النصارى ، لأنهم كانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود .

    قوله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين قال الزجاج : "القس" و "القسيس": من رؤساء النصارى . وقال قطرب: القسيس: العالم بلغة الروم ، فأما "الرهبان": فهم العباد أرباب الصوامع . قال ابن فارس: الترهب: التعبد ، فإن قيل: كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا ، وليس ذلك من أمر شريعتنا؟ فالجواب: أنه مدحهم بالتمسك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم ، [ ص: 409 ] وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم . والمعنى: بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم . قال القاضي أبو يعلى: وربما ظن جاهل أن في هذه الآية مدح النصارى ، وليس كذلك ، لأنه إنما مدح من آمن منهم ، ويدل عليه ما بعد ذلك ، ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من مقالة اليهود .

    قوله تعالى: وأنهم لا يستكبرون أي: لا يتكبرون عن اتباع الحق .

    قوله تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول قال ابن عباس : لما حضر أصحاب النبي عليه السلام بين يدي النجاشي ، وقرؤوا القرآن ، سمع ذلك القسيسون والرهبان ، فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ، فقال الله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين إلى قوله: مع الشاهدين . وقال سعيد بن جبير: بعث النجاشي من خيار أصحابه ثلاثين رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن ، فبكوا ورقوا ، وقالوا: نعرف والله ، وأسلموا ، وذهبوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم ، فأنزل الله فيهم وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الآية . وقال السدي: كانوا اثني عشر رجلا; سبعة من القسيسين ، وخمسة من الرهبان ، فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، بكوا وآمنوا ، فنزلت هذه الآية فيهم .

    قوله تعالى: فاكتبنا مع الشاهدين أي: مع من يشهد بالحق . وللمفسرين في المراد بالشاهدين هاهنا أربعة أقوال .

    أحدها: محمد وأمته ، رواه علي بن أبي طلحة ، وعكرمة عن ابن عباس .

    والثاني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: الذين يشهدون بالإيمان ، قاله الحسن . والرابع: الأنبياء والمؤمنون ، قاله الزجاج .
    وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات [ ص: 410 ] تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

    قوله تعالى: وما لنا لا نؤمن بالله قال ابن عباس : لامهم قومهم على الإيمان ، فقالوا هذا . وفي القوم الصالحين ثلاثة أقوال .

    أحدها: أصحاب رسول الله ، قاله ابن عباس . والثاني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قاله ابن زيد . والثالث: المهاجرون الأولون ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: وذلك جزاء المحسنين قال ابن عباس : ثواب المؤمنين .
    يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم في سبب نزولها ثلاثة أقوال .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #185
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (185)
    صــ411 إلى صــ 415



    أحدها: أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عثمان بن مظعون ، حرموا اللحم والنساء على أنفسهم ، وأرادوا جب أنفسهم ليتفرغوا للعبادة ، فقال رسول الله: "لم أومر بذلك" ، ونزلت هذه الآية ، رواه العوفي عن ابن عباس . وروى أبو صالح عن ابن عباس ، قال: كانوا عشرة: أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وعثمان بن مظعون ، والمقداد بن الأسود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر ، وعمار بن ياسر ، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون ، فتواثقوا على ذلك ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "من رغب عن سنتي فليس مني" ونزلت [ ص: 411 ] هذه الآية . قال السدي: كان سبب عزمهم على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما ، فلم يزدهم على التخويف ، فرق الناس ، وبكوا ، فعزم هؤلاء على ذلك ، وحلفوا على ما عزموا عليه . وقال عكرمة: إن علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وعثمان بن مظعون ، والمقداد ، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحابه ، تبتلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس ، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت هذه الآية .

    والثاني: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني إذا أكلت من هذا اللحم ، أقبلت على النساء ، وإني حرمته علي ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثالث: أن ضيفا نزل بعبد الله بن رواحة ، ولم يكن حاضرا ، فلما جاء ، قال لزوجته: هل أكل الضيف؟ فقالت: انتظرتك . فقال: حبست ضيفي من أجلي؟! طعامك علي حرام . فقالت: وهو علي حرام إن لم تأكله ، فقال الضيف: وهو علي حرام إن لم تأكلوه ، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال: قربي طعامك ، كلوا بسم الله ، ثم غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بذلك فقال: أحسنت ، ونزلت هذه [ ص: 412 ] الآية . وقرأ حتى بلغ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم رواه عبد الرحمن بن زيد عن أبيه . فأما "الطيبات" فهي اللذيذات التي تشتهيها النفوس مما أبيح .

    وفي قوله: ولا تعتدوا خمسة أقوال .

    أحدها: لا تجبوا أنفسكم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم .

    والثاني: لا تأتوا ما نهى الله عنه ، قاله الحسن . والثالث: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين من ترك النساء ، وإدامة الصيام ، والقيام ، قاله عكرمة . والرابع: لا تحرموا الحلال ، قاله مقاتل . والخامس: لا تغصبوا الأموال المحرمة ، ذكره الماوردي .
    لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون

    قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم سبب نزولها: أنه لما نزل قوله: لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قال القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقد سبق ذكر "اللغو" في سورة (البقرة) .

    قوله تعالى: بما عقدتم الأيمان قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم: "عقدتم" بغير ألف ، مشددة القاف . قال أبو عمرو: معناها: [ ص: 413 ] وكدتم . وقرأ أبو بكر ، والمفضل عن عاصم: "عقدتم" خفيفة بغير ألف ، واختارها أبو عبيد . قال ابن جرير: معناها: أوجبتموها على أنفسكم . وقرأ ابن عامر: "عاقدتم" بألف ، مثل "عاهدتم" . قال القاضي أبو يعلى: وهذه القراءة المشددة لا تحتمل إلا عقد قول . فأما المخففة ، فتحتمل عقد القلب ، وعقد القول .

    وذكر المفسرون في معنى الكلام قولين .

    أحدهما: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم عليه قلوبكم في التعمد لليمين ، قاله مجاهد .

    والثاني: بما عقدتم عليه قلوبكم أنه كذب ، قاله سعيد بن جبير .

    قوله تعالى: فكفارته قال ابن جرير: الهاء عائدة على "ما" في قوله: بما عقدتم .

    فصل

    فأما إطعام المساكين ، فروي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، والحسن في آخرين: أن لكل مسكين مد بر ، وبه قال مالك ، والشافعي .

    وروي عن عمر ، وعلي ، وعائشة في آخرين: لكل مسكين نصف صاع من بر ، قال عمر ، وعائشة: أو صاعا من تمر ، وبه قال أبو حنيفة . ومذهب أصحابنا في جميع الكفارات التي فيها إطعام ، مثل كفارة اليمين ، والظهار ، وفدية الأذى ، والمفرطة في قضاء رمضان ، مد بر ، أو نصف صاع تمر أو شعير . ومن شرط صحة الكفارة ، تمليك الطعام للفقراء ، فإن غداهم وعشاهم ، لم يجزئه ، وبه قال سعيد بن جبير ، والحكم ، والشافعي . وقال الثوري ، والأوزاعي: يجزئه ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك . ولا يجوز صرف مدين إلى مسكين واحد ، ولا إخراج القيمة في الكفارة ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة: يجوز . قال الزجاج : وإنما وقع [ ص: 414 ] لفظ التذكير في المساكين ، ولو كانوا إناثا لأجزأ ، لأن المغلب في كلام العرب التذكير . وفي قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم قولان .

    أحدهما: من أوسطه في القدر ، قاله عمر ، وعلي ، وابن عباس ، ومجاهد .

    والثاني: من أوسط أجناس الطعام ، قاله ابن عمر ، والأسود ، وعبيدة ، والحسن ، وابن سيرين . وروي عن ابن عباس قال: كان أهل المدينة [يقولون:] للحر من القوت أكثر ما للمملوك ، وللكبير أكثر ما للصغير ، فنزلت من أوسط ما تطعمون أهليكم ليس بأفضله ولا بأخسه . وفي كسوتهم خمسة أقوال .

    أحدها: أنها ثوب واحد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وطاووس ، وعطاء ، والشافعي . والثاني: ثوبان ، قاله أبو موسى الأشعري ، وابن المسيب ، والحسن ، وابن سيرين ، والضحاك . والثالث: إزار ورداء وقميص ، قاله ابن عمر . والرابع: ثوب جامع كالملحفة ، قاله إبراهيم النخعي . والخامس: كسوة تجزئ فيها الصلاة ، قاله مالك . ومذهب أصحابنا: أنه إن كسا الرجل ، كساه ثوبا ، والمرأة ثوبين ، درعا وخمارا ، وهو أدنى ما تجزئ فيه الصلاة . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو الجوزاء ، ويحيى بن يعمر: "أو كسوتهم" ، بضم الكاف . وقد قرأ سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارئ: "أوكإسوتهم" بهمزة مكسورة ، مفتوحة الكاف ، مكسورة التاء والهاء . وقرأ ابن السميفع ، وأبو عمران الجوزي مثله ، إلا أنهما فتحا الهمزة . قال المصنف: ولا أرى هذه القراءة جائزة ، لأنها تسقط أصلا من أصول الكفارة .

    [ ص: 415 ] قوله تعالى: أو تحرير رقبة تحريرها: عتقها ، والمراد بالرقبة: جملة الشخص . واتفقوا على اشتراط إيمان الرقبة في كفارة القتل لموضع النص .

    واختلفوا في إيمان الرقبة المذكورة في هذه الكفارة على قولين .

    أحدهما: أنه شرط ، وبه قال الشافعي ، لأن الله تعالى قيد بذكر الإيمان في كفارة القتل ، فوجب حمل المطلق على المقيد .

    والثاني: ليس بشرط ، وبه قال أبو حنيفة ، وعن أحمد رضي الله عنه في إيمان الرقبة المعتقة في كفارة اليمين ، وكفارة الظهار ، وكفارة الجماع ، والمنذورة ، روايتان .

    قوله تعالى: فمن لم يجد اختلفوا فيما إذا لم يجده ، صام ، على خمسة أقوال .

    أحدها: أنه إذا لم يجد درهمين صام ، قاله الحسن . والثاني: ثلاثة دراهم ، قاله سعيد بن جبير . والثالث: إذا لم يجد إلا قدر ما يكفر به ، صام ، قاله قتادة . والرابع: مئتي درهم ، قاله أبو حنيفة . والخامس: إذا لم يكن له إلا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته ، قاله أحمد ، والشافعي ، وفي تتابع الثلاثة أيام ، قولان .

    أحدهما: أنه شرط ، وكان أبي ، وابن مسعود يقرآن: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) وبه قال ابن عباس ، ومجاهد ، وطاووس ، وعطاء ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وهو قول أصحابنا .

    والثاني: ليس بشرط ، ويجوز التفريق ، وبه قال الحسن ، ومالك ، والشافعي فيه قولان .

    قوله تعالى: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فيه إضمار تقديره: إذا حلفتم وحنثتم . وفي قوله: واحفظوا أيمانكم ثلاثة أقوال .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #186
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (186)
    صــ416 إلى صــ 420



    [ ص: 416 ] أحدها: أقلوا منها ، ويشهد له قوله: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وأنشدوا:


    قليل الألايا حافظ ليمينه


    والثاني: احفظوا أنفسكم من الحنث فيها .

    والثالث: راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها .
    يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر في سبب نزولها: أربعة أقوال .

    أحدها: أن سعد بن أبي وقاص أتى نفرا من المهاجرين والأنصار ، فأكل عندهم ، وشرب الخمر ، قبل أن تحرم ، فقال: المهاجرون خير من الأنصار ، فأخذ رجل لحي جمل فضربه ، فجدع أنفه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، رواه مصعب بن سعد عن أبيه . وقال سعيد بن جبير: صنع رجل من الأنصار صنيعا ، فدعا سعد بن أبي وقاص ، فلما أخذت فيهم الخمرة افتخروا واستبوا ، فقام الأنصاري إلى لحي بعير ، فضرب به رأس سعد ، فإذا الدم على وجهه ، فذهب سعد يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل تحريم الخمر في قوله: إنما الخمر والميسر إلى قوله: تفلحون .

    [ ص: 417 ] والثاني: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت التي في (البقرة) فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت التي في (النساء) لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [النساء: 43] فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو ميسرة عن عمر .

    والثالث: أن أناسا من المسلمين شربوها ، فقاتل بعضهم بعضا ، وتكلموا بما لا يرضاه الله من القول ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والرابع: أن قبيلتين من الأنصار شربوا ، فلما ثملوا عبث بعضهم ببعض ، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته ، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان!! والله لو كان بي رؤوفا ما صنع بي هذا ، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . وقد ذكرنا الخمر والميسر في (البقرة) وذكرنا في "النصب" في أول هذه السورة قولين ، وهما اللذان ذكرهما المفسرون في الأنصاب . وذكرنا هناك "الأزلام" فأما الرجس ، فقال الزجاج : هو اسم لكل ما استقذر من عمل ، يقال: رجس الرجل يرجس ، ورجس يرجس: إذا عمل عملا قبيحا ، والرجس بفتح الراء: شدة الصوت ، فكأن الرجس ، العمل الذي يقبح ذكره ، ويرتفع في القبح ، ويقال: رعد رجاس: إذا كان شديد الصوت .

    [ ص: 418 ] قوله تعالى: من عمل الشيطان قال ابن عباس : من تزيين الشيطان . فإن قيل: كيف نسب إليه ، وليس من فعله؟ فالجواب: أن نسبته إليه مجاز ، وإنما نسب إليه ، لأنه هو الداعي إليه ، المزين له ، ألا ترى أن رجلا لو أغرى رجلا بضرب رجل ، لجاز أن يقال له: هذا من عملك .

    قوله تعالى: فاجتنبوه قال الزجاج : اتركوه . واشتقاقه في اللغة: كونوا جانبا منه . فإن قيل: كيف ذكر في هذه الآية أشياء ، ثم قال: فاجتنبوه؟ فالجواب: أن الهاء عائدة على الرجس ، والرجس واقع على الخمر ، والميسر ، والأنصاب ، والأزلام ، ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع الذي هو واقع عليه ، ومنبئ عنه ، ذكره ابن الأنباري .
    إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين

    قوله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر أما "الخمر" فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة . وأما الميسر ، فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله ، فيقمر ويبقى حزينا سليبا ، فينظر إلى ماله في يد غيره ، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء .

    قوله تعالى: فهل أنتم منتهون فيه قولان .

    أحدهما: أنه لفظ استفهام ، ومعناه: الأمر . تقديره: انتهوا . قال الفراء: ردد علي أعرابي: هل أنت ساكت ، هل أنت ساكت؟ وهو يريد: اسكت ، اسكت .

    [ ص: 419 ] والثاني: أنه استفهام ، لا بمعنى: الأمر . ذكر شيخنا علي بن عبيد الله أن جماعة كانوا يشربون الخمر بعد هذه الآية ، ويقولون: لم يحرمها ، إنما قال: فهل أنتم منتهون فقال بعضنا: انتهينا ، وقال بعضنا: لم ننته ، فلما نزلت قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم [الأعراف: 33] حرمت ، لأن "الإثم" اسم للخمر . وهذا القول ليس بشيء ، والأول أصح .

    قوله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما أمراكم ، واحذروا خلافهما (فإن توليتم) أي: أعرضتم ، فاعلموا أنما على رسولنا محمد البلاغ المبين وهذا وعيد لهم ، كأنه قال: فاعلموا أنكم قد استحققتم العذاب لتوليكم .
    ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين

    قوله تعالى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا سبب نزولها: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر ، إذ كانت مباحة ، فلما حرمت ، قال ناس: كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية ، قاله البراء بن عازب . و "الجناح": الإثم . وفيما طعموا ثلاثة أقوال .

    [ ص: 420 ] أحدها: ما شربوا من الخمر قبل تحريمها ، قاله ابن عباس ، والجمهور . قال ابن قتيبة: يقال: لم أطعم خبزا وأدما ولا ماء ولا نوما . قال الشاعر:


    فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا


    النقاخ: الماء [البارد] الذي ينقخ الفؤاد ببرده ، والبرد: النوم .

    والثاني: ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر .

    والثالث: ما طعموا من المباحات . وفي قوله: إذا ما اتقوا ثلاثة أقوال .

    أحدها: اتقوا بعد التحريم ، قاله ابن عباس . والثاني: اتقوا المعاصي والشرك .

    والثالث: اتقوا مخالفة الله في أمره . وفي قوله: وآمنوا قولان .

    أحدهما: آمنوا بالله ورسوله . والثاني: آمنوا بتحريمها . وعملوا الصالحات : قال مقاتل: أقاموا على الفرائض .

    قوله تعالى: ثم اتقوا في هذه "التقوى" المعادة أربعة أقوال .

    أحدها: أن المراد خوف الله عز وجل . والثاني: أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم . والثالث: أنها الدوام على التقوى . والرابع: أن التقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التحريم ، والثانية لمن شربها بعد التحريم .

    قوله تعالى: وآمنوا في هذا "الإيمان" المعاد قولان .

    أحدهما: صدقوا بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: آمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #187
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (187)
    صــ421 إلى صــ 425



    [ ص: 421 ] قوله تعالى: ثم اتقوا وأحسنوا في هذه "التقوى" الثالثة أربعة أقوال .

    أحدها: اجتنبوا العود إلى الخمر بعد تحريمها ، قاله ابن عباس . والثاني: اتقوا ظلم العباد . والثالث: توقوا الشبهات . والرابع: اتقوا جميع المحرمات .

    وفي "الإحسان" قولان . أحدهما: أحسنوا العمل بترك شربها بعد التحريم ، قاله ابن عباس . والثاني: أحسنوا العمل بعد تحريمها ، قاله مقاتل .
    يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد قال المفسرون: لما كان عام الحديبية ، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بالتنعيم ، كانت الوحوش والطير تغشاهم في رحالهم ، وهم محرمون ، فنزلت هذه الآية ، ونهوا عنها ابتلاء . قال الزجاج : اللام في "ليبلونكم" لام القسم ، ومعناه: لنختبرن طاعتكم من معصيتكم .

    وفي "من" قولان . أحدهما: أنها للتبعيض ، ثم فيه قولان . أحدهما: أنه عنى صيد البر دون صيد البحر . والثاني: أنه عنى الصيد ما داموا في الإحرام كأن ذلك بعض الصيد . والثاني: أنها لبيان الجنس ، كقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان [الحج: 30] .

    قوله تعالى: تناله أيديكم ورماحكم قال مجاهد: الذي تناله اليد: الفراخ والبيض ، وصغار الصيد ، والذي تناله الرماح: كبار الصيد .

    [ ص: 422 ] قوله تعالى: ليعلم الله قال مقاتل: ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يره ، فلا يتناول الصيد وهو محرم فمن اعتدى فأخذ الصيد عمدا بعد النهي للمحرم عن قتل الصيد فله عذاب أليم قال ابن عباس : يوسع بطنه وظهره جلدا ، وتسلب ثيابه .
    يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام

    قوله تعالى: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم بين الله عز وجل بهذه الآية من أي وجه تقع البلوى ، وفي أي زمان ، وما على من قتله بعد النهي؟ .

    وفي قوله: وأنتم حرم ثلاثة أقوال .

    أحدها: وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، قاله الأكثرون . والثاني: وأنتم في الحرم ، يقال: أحرم ، إذا دخل في الحرم ، وأنجد: إذا أتى نجدا . والثالث: الجمع بين القولين .

    قوله تعالى: ومن قتله منكم متعمدا فيه قولان .

    أحدهما: أن يتعمد قتله ذاكرا لإحرامه ، قاله ابن عباس ، وعطاء .

    والثاني: أن يتعمد قتله ناسيا لإحرامه ، قاله مجاهد . فأما قتله خطأ ، ففيه قولان .

    أحدهما: أنه كالعمد ، قاله عمر ، وعثمان ، والجمهور . قال الزهري: نزل القرآن بالعمد ، وجرت السنة في الخطأ ، يعني: ألحقت المخطئ بالمتعمد في وجوب [ ص: 423 ] الجزاء . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم" وهذا عام في العامد والمخطئ . قال القاضي أبو يعلى: أفاد تخصيص العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد ، وإنما يختص ذلك بالعامد .

    والثاني: أنه لا شيء فيه ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وطاووس ، وعطاء ، وسالم ، والقاسم ، وداود . وعن أحمد روايتان: أصحهما الوجوب .

    قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: (فجزاء مثل) مضافة وبخفض "مثل" . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي: "فجزاء" منون "مثل" مرفوع . قال أبو علي: من أضاف ، فقوله: من النعم يكون صفة للجزاء ، وإنما قال: مثل ما قتل ، وإنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله ، لأنهم يقولون: أنا أكرم مثلك ، يريدون: أنا أكرمك ، فالمعنى: جزاء ما قتل .

    ومن رفع "المثل" ، فالمعنى: فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول ، والتقدير: فعليه جزاء .

    قال ابن قتيبة: النعم: الإبل ، وقد يكون البقر والغنم ، والأغلب عليها الإبل . وقال الزجاج : النعم في اللغة: الإبل والبقر والغنم ، فإن انفردت الإبل ، قيل لها: نعم ، وإن انفردت البقر والغنم ، لم تسم نعما .

    [ ص: 424 ] فصل

    قال القاضي أبو يعلى: والصيد الذي يجب الجزاء بقتله: ما كان مأكول اللحم ، كالغزال ، وحمار الوحش ، والنعامة ونحو ذلك ، أو كان متولدا من حيوان يؤكل لحمه ، كالسمع ، فإنه متولد من الضبع ، والذئب ، وما عدا ذلك من السباع كلها ، فلا جزاء على قاتلها; سواء ابتدأ قتلها ، أو عدت عليه ، فقتلها دفعا عن نفسه ، لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة ، فلم يدخل تحت الآية ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للمحرم قتل الحية ، والعقرب ، والفويسقة ، والغراب ، والحدأة ، والكلب العقور ، والسبع العادي . قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثل من الأنعام مثله ، وفيما لا مثل له قيمته ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيمة ، وحمل المثل على القيمة ، وظاهر الآية يرد ما قال ، ولأن [ ص: 425 ] الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق الصورة ، فقال ابن عباس : المثل: النظير ، ففي الظبية شاة ، وفي النعامة بعير .

    قوله تعالى: يحكم به ذوا عدل منكم يعني بالجزاء ، وإنما ذكر اثنين ، لأن الصيد يختلف في نفسه ، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين .

    قوله تعالى: منكم يعني: من أهل ملتكم .

    قوله تعالى: هديا بالغ الكعبة قال الزجاج : هو منصوب على الحال ، والمعنى: يحكمان به مقدرا أن يهدى . ولفظ قوله "بالغ الكعبة" لفظ معرفة ، ومعناه: النكرة . والمعنى: بالغا الكعبة ، إلا أن التنوين حذف استخفافا . قال ابن عباس : إذا أتى مكة ذبحه . وتصدق به .

    قوله تعالى: أو كفارة قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي: "أو كفارة" منونا (طعام) رفعا . وقرأ نافع ، وابن عامر: "أو كفارة" رفعا غير منون (طعام مساكين) على الإضافة . قال أبو علي: من رفع ولم يضف ، جعله عطفا على الكفارة عطف بيان ، لأن الطعام هو الكفارة ، ولم يضف الكفارة إلى الطعام ، لأن الكفارة لقتل الصيد ، لا للطعام ، ومن أضاف الكفارة إلى الطعام ، فلأنه لما خير المكفر بين الهدي ، والطعام ، والصيام ، جازت الإضافة لذلك ، فكأنه قال: كفارة طعام ، لا كفارة هدي ، ولا صيام . والمعنى: أو عليه بدل الجزاء والكفارة ، وهي طعام مساكين . وهل يعتبر في إخراج الطعام قيمة النظير ، أو قيمة الصيد؟ فيه قولان .

    أحدهما: قيمة النظير ، وبه قال عطاء ، والشافعي ، وأحمد .

    والثاني: قيمة الصيد ، وبه قال قتادة ، وأبو حنيفة ، ومالك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #188
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (188)
    صــ426 إلى صــ 430




    [ ص: 426 ] وفي قدر الإطعام لكل مسكين قولان .

    أحدهما: مدان من بر ، وبه قال ابن عباس ، وأبو حنيفة .

    والثاني: مد بر ، وبه قال الشافعي ، وعن أحمد روايتان ، كالقولين .

    قوله تعالى: أو عدل ذلك صياما قرأ أبو رزين ، والضحاك ، وقتادة ، والجحدري ، وطلحة: (أو عدل ذلك) ، بكسر العين . وقد شرحنا هذا المعنى في (البقرة) . قال أصحابنا: يصوم عن كل مد بر ، أو نصف صاع تمر ، أو شعير يوما . وقال أبو حنيفة: يصوم يوما عن نصف صاع في الجميع . وقال مالك ، والشافعي: يصوم يوما عن كل مد من الجميع .

    فصل

    وهل هذا الجزاء على الترتيب أم على التخيير؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنه على التخيير بين إخراج النظير ، وبين الصيام ، وبين الإطعام .

    والثاني: أنه على الترتيب ، إن لم يجد الهدي ، اشترى طعاما ، فإن كان معسرا صام ، قاله ابن سيرين . والقولان مرويان عن ابن عباس ، وبالأول قال جمهور الفقهاء .

    قوله تعالى: ليذوق وبال أمره أي: جزاء ذنبه . قال الزجاج : "الوبال": ثقل الشيء في المكروه ، ومنه قولهم: طعام وبيل ، وماء وبيل: إذا كانا ثقيلين . قال الله عز وجل: فأخذناه أخذا وبيلا [المزمل: 16] أي: ثقيلا شديدا .

    قوله تعالى: عفا الله عما سلف فيه قولان .

    أحدهما: ما سلف في الجاهلية ، من قتلهم الصيد ، وهم محرمون ، قاله عطاء .

    [ ص: 427 ] والثاني: ما سلف من قتل الصيد في أول مرة ، حكاه ابن جرير ، والأول أصح . فعلى القول الأول يكون معنى قوله: (ومن عاد) في الإسلام ، وعلى الثاني: (ومن عاد) ثانية بعد أولى . قال أبو عبيدة: "عاد" في موضع يعود ، وأنشد:


    إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا


    قوله تعالى: فينتقم الله منه "الانتقام": المبالغة في العقوبة ، وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إيجاب جزاء ثان إذا عاد ، وهذا قول الجمهور ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وأحمد . وقد روي عن ابن عباس ، والنخعي ، وداود: أنه لا جزاء عليه في الثاني ، إنما وعد بالانتقام .
    أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون

    قوله تعالى: أحل لكم صيد البحر قال أحمد: يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح ، لأن التمساح يأكل الناس يعني: أنه يفرس . وقال [ ص: 428 ] أبو حنيفة ، والثوري: لا يباح منه إلا السمك . وقال ابن أبي ليلى ، ومالك: يباح كل ما فيه من ضفدع وغيره . فأما طعامه ، ففيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: ما نبذه البحر ميتا ، قاله أبو بكر ، وعمر ، وابن عمر ، وأبو أيوب ، وقتادة .

    والثاني: أنه مليحه ، قاله سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة كالقولين . واختلفت الرواية عن النخعي ، فروي عنه كالقولين ، وروي عنه أنه جمع بينهما ، فقال: طعامه المليح وما لفظه .

    والثالث: أنه ما نبت بمائه من زروع البر ، وإنما قيل لهذا: طعام البحر ، لأنه ينبت بمائه ، حكاه الزجاج . وفي المتاع قولان .

    أحدهما: أنه المنفعة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .

    والثاني: أنه الحل ، قاله النخعي . قال مقاتل: متاعا لكم ، يعني: المقيمين ، وللسيارة ، يعني: المسافرين .

    قوله تعالى: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما أما الاصطياد ، فمحرم على المحرم ، فإن صيد لأجله ، حرم عليه أكله خلافا لأبي حنيفة ، فإن أكل فعليه الضمان خلافا لأحد قولي الشافعي . فإن ذبح المحرم صيدا ، فهو ميتة خلافا لأحد قولي الشافعي أيضا . فإن ذبح الحلال صيدا في الحرم ، فهو ميتة أيضا ، خلافا لأكثر الحنفية .

    جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في [ ص: 429 ] السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم

    قوله تعالى: جعل الله الكعبة "جعل" بمعنى: صير ، وفي تسمية "الكعبة" كعبة قولان .

    أحدهما: لأنها مربعة ، قاله عكرمة ، ومجاهد .

    والثاني: لعلوها ونتوئها ، يقال: كعبت المرأة كعابة ، وهي كاعب: إذا نتأ ثديها . ومعنى تسمية البيت بأنه حرام: أنه حرم أن يصاد عنده ، وأن يختلى ما عنده من الخلا ، وأن يعضد شجره ، وعظمت حرمته . والمراد بتحريم البيت سائر الحرم ، كما قال: هديا بالغ الكعبة وأراد: الحرم . والقيام: [ ص: 430 ] بمعنى: القوام . وقرأ ابن عامر: قيما بغير ألف . قال أبو علي: وجهه على أحد أمرين ، إما أن يكون جعله مصدرا ، كالشبع ، أو حذف الألف وهو يريدها ، كما يقصر الممدود . وفي معنى الكلام ستة أقوال .

    أحدها: قياما للدين ، ومعالم للحج ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني: قياما لأمر من توجه إليها ، رواه العوفي عن ابن عباس . قال قتادة: كان الرجل لو جر كل جريرة ، ثم لجأ إليها ، لم يتناول ، [ولم يقرب . وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام ، لم يعرض له ولم يقربه ، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر ، فأحمته ومنعته من الناس ، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء السمر فمنعته من الناس حتى يأتي أهله . حواجز ألقاها الله بين الناس في الجاهلية] .

    والثالث: قياما لبقاء الدين ، فلا يزال في الأرض دين ما حجت واستقبلت ، قاله الحسن .

    والرابع: قوام دنيا وقوام دين ، قاله أبو عبيدة .

    والخامس: قياما للناس ، أي: مما أمروا أن يقوموا بالفرض فيه ، ذكره الزجاج .

    والسادس: قياما لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها ، ذكره بعض المفسرين .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #189
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (189)
    صــ431 إلى صــ 435



    فأما الشهر الحرام ، فالمراد به الأشهر الحرم ، كانوا يأمن بعضهم بعضا فيها ، فكان ذلك قواما لهم ، وكذلك إذا أهدى الرجل هديا أو قلد بعيره أمن [ ص: 431 ] كيف تصرف ، فجعل الله تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها .

    قوله تعالى: ذلك لتعلموا ذكر ابن الأنباري في المشار إليه بذلك أربعة أقوال .

    أحدها: أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم ، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين ، فقال: ذلك لتعلموا ، أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض ، ولا تخفى عليه خافية .

    والثاني: أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها ، وتأخذ الأموال بغير حقها ، ويقتل أحدهم غير القاتل ، فإذا دخلوا البلد الحرام ، أو دخل الشهر الحرام ، كفوا عن القتل . والمعنى: جعل الله الكعبة أمنا ، والشهر الحرام أمنا ، إذ لو لم يجعل للجاهلية وقتا يزول فيه الخوف لهلكوا ، فذلك يدل على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض .

    والثالث: أن الله تعالى صرف قلوب الخلق إلى مكة في الشهور المعلومة فإذا وصلوا إليها عاش أهلها معهم ، ولولا ذلك ماتوا جوعا ، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم ، وليستدلوا بذلك على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض .

    والرابع: أن الله تعالى جعل مكة أمنا ، وكذلك الشهر الحرام ، فإذا دخل الظبي الوحشي الحرم ، أنس بالناس ، ولم ينفر من الكلب ، ولم يطلبه الكلب ، فإذا خرجا عن حدود الحرم ، طلبه الكلب ، وذعر هو منه ، والطائر يأنس بالناس في الحرم ، ولا يزال يطير حتى يقرب من البيت ، فإذا قرب منه عدل عنه ، ولم [ ص: 432 ] يطر فوقه إجلالا له ، فإذا لحقه وجع طرح نفسه على سقف البيت استشفاء به ، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان ، وفي ذلك الشهر قد دللن على أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض .
    ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون

    قوله تعالى: ما على الرسول إلا البلاغ في هذه الآية تهديد شديد . وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها ، في أمر شريح بن ضبيعة وأصحابه ، وهم حجاج اليمامة حين هم المسلمون بالغارة عليهم ، وقد سبق ذكر ذلك في أول السورة . وهل هذه الآية محكمة ، أم لا؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنها محكمة ، وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ ، وليس عليه الهدى . والثاني: أنها كانت قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخت بآية السيف .
    قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون

    قوله تعالى: لا يستوي الخبيث والطيب روى جابر بن عبد الله أن رجلا قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي ، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل إلا الطيب" فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال .

    [ ص: 433 ] أحدها: الحلال والحرام ، قاله ابن عباس ، والحسن . والثاني: المؤمن والكافر ، قاله السدي . والثالث: المطيع والعاصي . والرابع: الرديء والجيد ، ذكرهما الماوردي . ومعنى "الإعجاب" هاهنا: السرور بما يتعجب منه .
    يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم

    قوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم في سبب نزولها ستة أقوال .

    أحدها: أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فقام مغضبا خطيبا ، فقال: "سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم" ، فقام رجل من قريش يقال له: عبد الله بن حذافة كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه ، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة ، فقام آخر فقال: أين أبي؟ قال في النار ، فقام عمر فقال: رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا حديثو عهد بجاهلية ، والله أعلم من آباؤنا ، فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية ،رواه أبو صالح عن أبي هريرة ، وقتادة عن أنس .

    [ ص: 434 ] والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس ، فقال: "إن الله كتب عليكم الحج ، فقام عكاشة بن محصن ، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما إني لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم ، اسكتوا عني ما سكت عنكم ، فإنما هلك من هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فنزلت هذه الآية" رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة . وقيل: إن السائل عن ذلك الأقرع بن حابس .

    والثالث: أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية ، رواه أبو الجورية عن ابن عباس . [ ص: 435 ] والرابع: أن قوما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، فنزلت هذه الآية ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير .

    والخامس: أن قوما كانوا يسألون الآيات والمعجزات ، فنزلت هذه الآية ، روي هذا المعنى عن عكرمة .

    والسادس: أنها نزلت في تمنيهم الفرائض ، وقولهم: وددنا أن الله تعالى أذن لنا في قتال المشركين ، وسؤالهم عن أحب الأعمال إلى الله ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . قال الزجاج : "أشياء" في موضع خفض إلا أنها فتحت ، لأنها لا تنصرف . و "تبد لكم": تظهر لكم . فأعلم الله تعالى أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع ، لأنه يسوء الجواب عنه . وقال ابن عباس : إن تبد لكم ، أي: إن نزل القرآن فيها بغليظ ، ساءكم ذلك .

    قوله تعالى: وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن أي: حين ينزل القرآن فيها بفرض أو إيجاب ، أو نهي أو حكم ، وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إليه حاجة ، فإذا سألتم حينئذ عنها تبد لكم . وفي قوله: عفا الله عنها قولان .

    أحدهما: أنه إشارة إلى الأشياء .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #190
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (190)
    صــ436 إلى صــ 440



    والثاني: إلى المسألة . فعلى القول الأول في الآية تقديم وتأخير . والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، عفا الله عنها . ويكون معنى: عفا الله عنها: أمسك عن ذكرها ، فلم يوجب فيها حكما . وعلى القول الثاني ، الآية على نظمها ، ومعنى: عفا الله عنها: لم يؤاخذ بها .
    [ ص: 436 ] قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين

    قوله تعالى: قد سألها قوم من قبلكم في هؤلاء القوم أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة ، قاله ابن عباس ، والحسن .

    والثاني: أنهم قوم صالح حين سألوا الناقة ، هذا على قول السدي . وهذان القولان . يخرجان على أنهما سألوا الآيات .

    والثالث: أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها ، فلو ذبحوا بقرة لأجزأت ، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم ، قاله ابن زيد . وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج ، إذ لو أراد الله أن يشدد عليهم بالزيادة في الفرض لشدد .

    والرابع: أنهم الذين قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، وهذا عن ابن زيد أيضا ، وهو يخرج على من قال: إنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنيا لذلك . قال مقاتل: كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدقوهم ، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين .
    ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون

    قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة أي: ما أوجب ذلك ، ولا أمر به .

    وفي "البحيرة" أربعة أقوال .

    أحدها: أنها الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس ، فإن كان ذكرا نحروه ، فأكله الرجال والنساء ، وإن كان أنثى شقوا أذنها ، وكانت حراما على النساء لا ينتفعن بها ، ولا يذقن من لبنها ، ومنافعها للرجال خاصة ، فإذا ماتت ، اشترك فيها الرجال والنساء ، قاله ابن عباس ، واختاره ابن قتيبة .

    [ ص: 437 ] والثاني: أنها الناقة تلد خمس إناث ليس فيهن ذكر ، فيعمدون إلى الخامسة ، فيبتكون أذنها ، قاله عطاء .

    والثالث: أنها ابنة السائبة ، قاله ابن إسحاق ، والفراء . قال ابن إسحاق: كانت الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ، ليس فيهن ذكر ، سيبت ، فإذا نتجت بعد ذلك أنثى ، شقت أذنها ، وسميت بحيرة ، وخليت مع أمها .

    والرابع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن ، وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها ، أي: شقوها ، وامتنعوا من ركوبها وذبحها ، ولا تطرد عن ماء ، ولا تمنع عن مرعى ، وإذا لقيها لم يركبها ، قاله الزجاج . فأما "السائبة": فهي فاعلة بمعنى: مفعولة ، وهي المسيبة ، كقوله: في عيشة راضية أي: مرضية . وفي السائبة خمسة أقوال .

    أحدها: أنها التي تسيب من الأنعام للآلهة ، لا يركبون لها ظهرا ، ولا يحلبون لها لبنا ، ولا يجزون منها وبرا ، ولا يحملون عليها شيئا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني: أن الرجل كان يسيب من ماله ما شاء ، فيأتي به خزنة الآلهة ، فيطعمون ابن السبيل من ألبانه ولحومه إلا النساء ، فلا يطعمونهن شيئا منه إلا أن يموت ، فيشترك فيه الرجال والنساء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال [ ص: 438 ] الشعبي: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم ، ويتركونها عند الآلهة ، فلا يشرب منها إلا رجل ، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء .

    والثالث: أنها الناقة إذا ولدت عشرة أبطن ، كلهن إناث ، سيبت ، فلم تركب ، ولم يجز لها وبر ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف أو ولدها حتى تموت ، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء ، ذكره الفراء .

    والرابع: أنها البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله تعالى من مرض ، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك ، قاله ابن قتيبة . قال الزجاج : كان الرجل إذا نذر لشيء من هذا ، قال: ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من ماء ومرعى .

    والخامس: أنه البعير يحج عليه الحجة ، فيسيب ، ولا يستعمل شكرا لنجحها ، حكاه الماوردي عن الشافعي . وفي "الوصيلة" خمسة أقوال .

    أحدها: أنها الشاة كانت إذا نتجت سبعة أبطن ، نظروا إلى السابع ، فإن كان أنثى ، لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت ، فيأكلها الرجال والنساء ، وإن كان ذكرا ذبحوه ، فأكلوه جميعا ، وإن كان ذكران وأنثى ، قالوا: وصلت أخاها ، فتترك مع أخيها فلا تذبح ، ومنافعها للرجال دون النساء ، فإذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وذهب إلى نحوه ابن قتيبة ، فقال: إن كان السابع ذكرا ، ذبح فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كان أنثى ، تركت في النعم ، وإن كان ذكرا وأنثى ، قالوا: وصلت أخاها ، فلم تذبح ، لمكانها ، وكانت لحومها حراما على النساء ، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شيء فيأكله الرجال والنساء . [ ص: 439 ] والثاني: أنها الناقة البكر تبتكر في أول نتاج الإبل بالأنثى ، ثم تثني بالأنثى ، فكانوا يستبقونها لطواغيتهم ، ويدعونها الوصيلة ، أي: وصلت إحداهما بالأخرى ، ليس بينهما ذكر ، رواه الزهري عن ابن المسيب .

    والثالث: أنها الشاة تنتج عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ، فيدعونها الوصيلة ، وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث ، قاله ابن إسحاق .

    والرابع: أنها الشاة تنتج سبعة أبطن ، عناقين عناقين ، فإذا ولدت في سابعها عناقا وجديا ، قيل: وصلت أخاها ، فجرت مجرى السائبة ، قاله الفراء .

    والخامس: أن الشاة كانت إذا ولدت أنثى ، فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكرا وأنثى ، قالوا: وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم ، قاله الزجاج .

    وفي "الحام" ستة أقوال .

    أحدها: أنه الفحل ، ينتج من صلبه عشرة أبطن ، فيقولون: قد حمى ظهره ، فيسيبونه لأصنامهم ، ولا يحمل عليه ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، واختاره أبو عبيدة ، والزجاج .

    والثاني: أنه الفحل يولد لولده ، فيقولون: قد حمى هذا ظهره ، فلا يحملون عليه ، ولا يجزون وبره ، ولا يمنعونه ماء ، ولا مرعى ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، واختاره الفراء ، وابن قتيبة .

    والثالث: أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إناث من بناته ، وبنات بناته ، قاله عطاء .

    [ ص: 440 ] والرابع: أنه الذي ينتج له سبع إناث متواليات ، قاله ابن زيد .

    والخامس: أنه الذي لصلبه عشرة كلها تضرب في الإبل ، قاله أبو روق .

    والسادس: أنه الفحل يضرب في إبل الرجل عشر سنين ، فيخلى ، ويقال: قد حمى ظهره ، ذكره الماوردي عن الشافعي . قال الزجاج : والذي ذكرناه في البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة . وقد أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا ، وأن الذين كفروا افتروا على الله عز وجل . قال مقاتل: وافتراؤهم: قولهم: إن الله حرمه ، وأمرنا به . وفي قوله: وأكثرهم لا يعقلون قولان .

    أحدهما: وأكثرهم ، يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على الله من الرؤساء الذين حرموا ، قاله الشعبي .

    والثاني: لا يعقلون أن هذا التحريم من الشيطان ، قاله قتادة .
    وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون

    قوله تعالى: وإذا قيل لهم يعني: إذا قيل: لهؤلاء المشركين الذين حرموا على أنفسهم هذه الأنعام: تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من تحليل ما حرمتم على أنفسكم ، قالوا: حسبنا أي: يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا من الدين والمنهاج أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الدين ولا يهتدون له ، أيتبعونهم في خطئهم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #191
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (191)
    صــ441 إلى صــ 446



    يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من [ ص: 441 ] ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هجر ، وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا فليؤدوا الجزية ، فلما أتاه الكتاب ، عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى والمجوس ، فأقروا بالجزية ، وكرهوا الإسلام ، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس ، فاقبل منهم الجزية" فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت العرب ، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية ، فقال منافقو مكة: عجبا لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ، وقد قبل من مجوس هجر ، وأهل الكتاب الجزية ، فهلا أكرههم على الإسلام ، وقد ردها على إخواننا من العرب ، فشق ذلك على المسلمين ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعا وكرها ، قبلها من مجوس هجر ، فطعن المنافقون في ذلك ، فنزلت هذه الآية .

    والثاني: أن الرجل كان إذا أسلم ، قالوا له: سفهت آباءك وضللتهم ، وكان ينبغي لك أن تنصرهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد . قال الزجاج : ومعنى الآية: إنما ألزمكم الله أمر أنفسكم ، ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم ، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف ، لأن المؤمن إذا تركه وهو مستطيع له ، فهو [ ص: 442 ] ضال ، وليس بمهتد . وقال عثمان بن عفان: لم يأت تأويلها بعد . وقال ابن مسعود: تأويلها في آخر الزمان: قولوا ما قبل منكم ، فإذا غلبتم ، فعليكم أنفسكم .

    وفي قوله: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قولان . [ ص: 443 ] أحدهما: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف إذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، قاله حذيفة بن اليمان ، وابن المسيب .

    والثاني: لا يضركم من ضل من أهل الكتاب إذا أدوا الجزية ، قاله مجاهد .

    وفي قوله: فينبئكم بما كنتم تعملون تنبيه على الجزاء .

    فصل

    فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية هي محكمة ، وقد ذهب قوم من المفسرين إلى أنها منسوخة ، ولهم في ناسخها قولان .

    أحدهما: أنه آية السيف .

    والثاني: أن آخرها نسخ أولها . روي عن أبي عبيد أنه قال: ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه ، وموضع المنسوخ منها إلى قوله: لا يضركم من ضل والناسخ: قوله: إذا اهتديتم . والهدى هاهنا: الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
    [ ص: 444 ] يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان تميم الداري ، وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة ، فصحبهما رجل من قريش من بني سهم ، فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين ، فأوصى إليهما بتركته ، فلما قدما ، دفعاها إلى أهله ، وكتما جاما كان معه من فضة ، وكان مخوصا بالذهب ، فقالا: لم نره ، فأتي بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستحلفهما بالله: ما كتما ، وخلى سبيلهما . ثم إن الجام وجد عند قوم من أهل مكة ، فقالوا: ابتعناه من تميم الداري ، وعدي بن بداء ، فقام أولياء السهمي ، فأخذوا الجام ، وحلف رجلان منهم بالله: إن هذا الجام جام صاحبنا ، وشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها . قال مقاتل: واسم الميت: بزيل بن أبي [ ص: 445 ] مارية مولى العاص بن وائل السهمي ، وكان تميم ، وعدي نصرانيين ، فأسلم تميم ، ومات عدي نصرانيا . فأما التفسير ، فقال الفراء: معنى الآية: ليشهدكم اثنان إذا حضر أحدكم الموت . قال الزجاج : المعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين ، فحذف "شهادة" ، ويقوم "اثنان" مقامهما . وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت ، وأردتم الوصية اثنان . وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الشهادة على الوصية التي ثبتت عند الحكام ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي موسى ، وشريح ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، والثوري ، والجمهور . والثاني: أنها أيمان الوصي بالله تعالى إذا ارتاب الورثة بهما ، وهو قول مجاهد .

    والثالث: أنها شهادة الوصية ، أي: حضورها ، كقوله: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت [البقرة: 133] جعل الله الوصي هاهنا اثنين تأكيدا ، واستدل أرباب هذا القول بقوله: فيقسمان بالله قالوا: والشاهد لا يلزمه يمين . فأما "حضور الموت" فهو حضور أسبابه ومقدماته . وقوله: حين الوصية أي: وقت الوصية . وفي قوله: منكم قولان . [ ص: 446 ] أحدهما: من أهل دينكم وملتكم ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد ابن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وشريح ، وابن سيرين ، والشعبي ، وهو قول أصحابنا .

    والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا . قاله الحسن ، وعكرمة ، والزهري ، والسدي .

    قوله تعالى: أو آخران من غيركم تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم . وفي قوله: من غيركم قولان .

    أحدهما: من غير ملتكم ودينكم ، قاله أرباب القول الأول .

    والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ، قاله أرباب القول الثاني . وفي "أو" قولان .

    أحدهما: أنها ليست للتخيير ، وإنما المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم ، وبه قال ابن عباس ، وابن جبير . والثاني: أنها للتخيير ، ذكره الماوردي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #192
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (192)
    صــ447 إلى صــ 452




    فصل

    فالقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة أو من غير القبيلة ، لا يشك في إحكام هذه الآية . فأما القائل بأن المراد بقوله: أو آخران من غيركم أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصية في السفر ، فلهم فيها قولان .

    أحدهما: أنها محكمة ، والعمل على هذا باق ، وهو قول ابن عباس ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وابن سيرين ، وقتادة ، والشعبي ، والثوري ، وأحمد في آخرين .

    والثاني: أنها منسوخة بقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم وهو قول [ ص: 447 ] زيد بن أسلم ، وإليه يميل أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول ، والأول أصح ، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال .

    قوله تعالى: إن أنتم ضربتم في الأرض هذا الشرط متعلق بالشهادة ، والمعنى: ليشهدكم اثنان إن أنتم ضربتم في الأرض ، أي: سافرتم . فأصابتكم مصيبة الموت فيه محذوف ، تقديره: وقد أسندتم الوصية إليهما ، ودفعتم إليهما مالكم تحبسونهما من بعد الصلاة خطاب للورثة إذا ارتابوا . وقال ابن عباس : هذا من صلة قوله: أو آخران من غيركم أي: من الكفار . فأما إذا كانا مسلمين ، فلا يمين عليهما . وفي هذه الصلاة قولان . [ ص: 448 ] أحدهما: صلاة العصر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال شريح ، وابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، والشعبي ،

    والثاني: من بعد صلاتهما في دينهما ، حكاه السدي عن ابن عباس ، وقال به .

    وقال الزجاج : كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع الناس . وقال ابن قتيبة: لأنه وقت يعظمه أهل الأديان .

    قوله تعالى: فيقسمان بالله أي: فيحلفان إن ارتبتم أي: شككتم يا أولياء الميت . ومعنى الآية: إذا قدم الموصى إليهما بتركة المتوفى ، فاتهمهما الوارث ، استحلفا بعد صلاة العصر: أنهما لم يسرقا ، ولم يخونا . فالشرط في قوله: إن ارتبتم متعلق بتحبسونهما ، كأنه قال: إن ارتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما ، فيحلفان بالله: لا نشتري به أي: بأيماننا ، وقيل: بتحريف شهادتنا ، فالهاء عائدة على المعنى . (ثمنا) أي: عرضا من الدنيا ولو كان ذا قربى أي: ولو كان المشهود له ذا قرابة منا ، وخص ذا القرابة ، لميل القريب إلى قريبه . والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحدا ، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور . ولا نكتم شهادة الله إنما أضيفت إليه ، لأمره بإقامتها ، ونهيه عن كتمانها . وقرأ سعيد بن جبير: ولا نكتم شهادة بالتنوين (الله) بقطع الهمزة وقصرها ، وكسر الهاء ، ساكنة النون في الوصل . وقرأ سعيد بن المسيب ، وعكرمة "شهادة" بالتنوين والوصل منصوبة الهاء . وقرأ أبو عمران الجوني "شهادة" بالتنوين وإسكانها في الوصل (الله) بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء . وقرأ الشعبي ، وابن السميفع: "شهادة" بالتنوين وإسكانها في الوصل [ ص: 449 ] ((الله) بقطع الهمزة ، ومدها ، وكسر الهاء . وقرأ أبو العالية ، وعمرو بن دينار مثله ، إلا أنهما نصبا الهاء . واختلف العلماء لأي معنى وجبت اليمين على هذين الشاهدين ، على ثلاثة أقوال .

    أحدها: لكونهما من غير أهل الإسلام ، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري . والثاني: لوصية وقعت بخط الميت وفقد ورثته بعض ما فيها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: لأن الورثة كانوا يقولون: كان مال ميتنا أكثر ، فاستخانوا الشاهدين ، قاله الحسن ، ومجاهد .
    فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين

    قوله تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما قال المفسرون: لما نزلت الآية الأولى ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عديا وتميما ، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما ، فحلفا ، وخلى سبيلهما ، ثم ظهر الإناء الذي كتماه ، فرفعهما أولياء الميت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فإن عثر على أنهما استحقا إثما ومعنى "عثر": اطلع ، أي: إن عثر أهل الميت ، أو من يلي أمره ، على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا (استحقا إثما) لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما (فآخران يقومان مقامهما) أي: مقام هذين الخائنين (من الذين استحق عليهم الأوليان) .

    قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي: "استحق" بضم التاء ، "الأوليان" على التثنية . وفي قوله: من الذين استحق عليهم قولان . [ ص: 449 ] أحدهما: أنهما الذميان . والثاني: الوليان ، فعلى الأول في معنى (استحق عليهم) أربعة أقوال .

    أحدها: استحق عليهم الإيصاء ، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم الذين استحق فيهم الإيصاء ، استحقه الأوليان بالميت ، وكذلك قال الزجاج : المعنى: من الذين استحقت الوصية أو الإيصاء عليهم .

    والثاني: أنه الظلم ، والمعنى: من الذين استحق عليهم ظلم الأوليان ، فحذف الظلم ، وأقام الأوليين مقامه ، ذكره ابن القاسم أيضا .

    والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة ، لظهور خيانتهما .

    والرابع: أنه الإثم ، والمعنى: استحق منهم الإثم ، ونابت "على" عن "من" كقوله: على الناس يستوفون [المطففين 2] أي: منهم . وقال الفراء: "على" بمعنى "في" كقوله: على ملك سليمان [البقرة: 102] أي: في ملكه ، ذكر القولين أبو علي الفارسي . وعلى هذه الأقوال مفعول "استحق" محذوف مقدر . وعلى القول الثاني في معنى (استحق عليهم) قولان .

    أحدهما: استحق منهم الأوليان ، وهو اختيار ابن قتيبة .

    والثاني: جنى عليهم الإثم ، ذكره الزجاج .

    فأما "الأوليان" ، فقال الأخفش: الأوليان: اثنان ، واحدهما: الأولى ، والجمع: الأولون . ثم للمفسرين فيهما قولان .

    أحدهما: أنهما أولياء الميت ، قاله الجمهور . قال الزجاج : " الأوليان " في قول أكثر البصريين يرتفعان على البدل مما في "يقومان" والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين . وقال أبو علي: لا يخلو الأوليان أن يكون [ ص: 451 ] ارتفاعهما على الابتداء ، أو يكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قال: فآخران يقومان مقامهما ، هما الأوليان ، أو يكون بدلا من الضمير الذي في "يقومان" . والتقدير: فيقوم الأوليان .

    والقول الثاني: أن "الأوليان": هما الذميان ، والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة ، فعلى هذا يكون المعنى: يقومان ، إلا من الذين استحق عليهم . قال الشاعر:


    فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان


    أي: بدلا من ماء زمزم . وروى قرة عن ابن كثير ، وحفص ، وعاصم: "استحق" بفتح التاء والحاء "الأوليان" على التثنية ، والمعنى: استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها ، فحذف المفعول . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم: "استحق" برفع التاء ، وكسر الحاء ، "الأولين" بكسر اللام ، وفتح النون على الجمع ، والتقدير: من الأولين الذين استحق فيهم الإثم ، أي: جني عليهم ، لأنهم كانوا أولين في الذكر . ألا ترى أنه قد تقدم ذوا عدل منكم على قوله: أو آخران من غيركم وروى الحلبي عن عبد الوارث "الأولين" بفتح الواو وتشديدها ، وفتح اللام ، وسكون الياء ، وكسر النون ، وهي تثنية: أول . وقرأ الحسن البصري: "استحق" بفتح التاء والحاء ، "الأولون" تثنية "أول" على البدل من قوله: فآخران . وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن الله تعالى أراد أن يعرفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت ، فقال: ذوا عدل منكم أي: عدلان من المسلمين [تشهدونهما على الوصية] ، وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين ، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم ، ويحضره الموت ، فلا يجد [ ص: 452 ] من يشهده من المسلمين ، فقال: أو آخران من غيركم ، أي: من غير أهل دينكم ، [ ( إذا ضربتم في الأرض ) أي: سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت وتم الكلام . فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر خاصة إن أمكن إشهادهما في السفر] والذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما [ثم قال] تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما ، وخشيتم أن يكونا قد خانا ، أو بدلا ، فإذا حلفا ، مضت شهادتهما . فإن عثر [بعد هذه اليمين] أي: ظهر على أنهما استحقا إثما ، أي: حنثا في اليمين بكذب [في قول] أو خيانة [في وديعة] ، فآخران ، أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان ، وهما الوليان ، يقال: هذا الأولى بفلان ، ثم يحذف من الكلام "بفلان" ، فيقال: هذا الأولى ، وهذان الأوليان ، و "عليهم" بمعنى: "منهم" . فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذميين ، وكذبهما ، وما اعتدينا عليهما ، ولشهادتنا أصح ، لكفرهما وإيماننا ، فيرجع على الذميين بما اختانا ، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك . وقال غيره: لشهادتنا ، أي: ليميننا أحق ، وسميت اليمين شهادة ، لأنها كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك .

    قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة السهميان ، فحلفا بالله ، ودفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #193
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (193)
    صــ453 إلى صــ 458



    ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين [ ص: 453 ] قوله تعالى: ذلك أدنى أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين ، أقرب إلى إتيان أهل الذمة بالشهادة على وجهها ، أي: على ما كانت ، وأقرب أن يخافوا أن ترد أيمان أولياء الميت بعد أيمانهم ، فيحلفون على خيانتهم ، فيفتضحوا ، ويغرموا ، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك .

    واتقوا الله أن تحلفوا كاذبين ، أو تخونوا أمانة ، واسمعوا الموعظة .
    يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب

    قوله تعالى: يوم يجمع الله الرسل قال الزجاج : نصب "يوم" محمول على قوله: واتقوا الله : واتقوا يوم جمعه للرسل . ومعنى مسألته للرسل توبيخ الذين أرسلوا إليهم . فأما قول الرسل: "لا علم لنا" ففيه ستة أقوال .

    أحدها: أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنم ، فقالوا: "لا علم لنا" ثم ترد إليهم عقولهم ، فينطلقون بحجتهم ، رواه أبو الضحى عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، والسدي .

    والثاني: أن المعنى: (لا علم لنا) إلا علم أنت أعلم به منا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث: أن المراد بقوله: ماذا أجبتم : ماذا عملوا بعدكم ، وأحدثوا ، فيقولون: لا علم لنا ، قاله ابن جريج ، وفيه بعد .

    والرابع: أن المعنى: لا علم لنا مع علمك ، لأنك تعلم الغيب ، ذكره الزجاج .

    والخامس: أن المعنى: لا علم لنا كعلمك ، إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا ، ونحن نعلم ما أظهروا ، ولا نعلم ما أضمروا ، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا ، هذا اختيار ابن الأنباري .

    [ ص: 454 ] والسادس: لا علم لنا بجميع أفعالهم إذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا ، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا ، وإنما يستحق الجزاء بما تقع به الخاتمة ، حكاه ابن الأنباري . قال المفسرون: إذا رد الأنبياء العلم إلى الله أبلست الأمم ، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه ، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته .

    قوله تعالى: علام الغيوب قال الخطابي: العلام: بمنزلة العليم ، وبناء "فعال" بناء التكثير ، فأما "الغيوب" فجمع غيب ، وهو ما غاب عنك .
    إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين

    قوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى قال ابن عباس : معناه: وإذ يقول .

    قوله تعالى: اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك في تذكيره النعم فائدتان .

    إحداهما: إسماع الأمم ما خصه به من الكرامة .

    والثانية: توكيد حجته على جاحده . ومن نعمه على مريم أنه اصطفاها وطهرها ، وأتاها برزقها من غير سبب . وقال الحسن: المراد بذكر النعمة: الشكر . فأما النعمة ، فلفظها لفظ الواحد ، ومعناها الجمع . فإن قيل: لم قال هاهنا: فتنفخ فيها وفي (آل عمران) "فيه"؟ فالجواب: أنه جائز أن يكون ذكر الطير على معنى الجميع ، [ ص: 455 ] وأنث على معنى الجماعة . وجاز أن يكون "فيه" للطير ، و "فيها" للهيأة ، ذكره أبو علي الفارسي .

    قوله تعالى: إن هذا إلا سحر مبين قرأ ابن كثير ، وعاصم هاهنا: وفي (هود) و (الصف) ( إلا سحر مبين ) ، وقرأ في (يونس) لساحر مبين بألف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: الأربعة ( سحر مبين ) بغير ألف ، فمن قرأ "سحر" أشار إلى ما جاء به ، ومن قرأ "ساحر" أشار إلى الشخص .
    وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون

    وفي الوحي إلى الحواريين قولان .

    أحدهما: أنه بمعنى: الإلهام ، قاله الفراء . وقال السدي: قذف في قلوبهم .

    والثاني: أنه بمعنى: الأمر ، فتقديره: أمرت الحواريين و "إلى" صلة ، قاله أبو عبيدة . وفي قوله: واشهد قولان .

    أحدهما: أنهم يعنون الله تعالى . والثاني: عيسى عليه السلام .

    وقوله: بأننا مسلمون أي: مخلصون للعبادة والتوحيد . وقد سبق شرح ما أهمل هاهنا فيما تقدم .
    إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين

    قوله تعالى: هل يستطيع ربك قال الزجاج : أي: هل يقدر . وقرأ الكسائي: ( هل تستطيع ) بالتاء ، ونصب الرب . قال الفراء: معناه: هل تقدر [ ص: 456 ] أن تسأل ربك . قال ابن الأنباري: ولا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله ، وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي ، وهو يعلم أنه مستطيع ، ولكنه يريد: هل يسهل عليك . وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل ذلك بمسألتك إياه . وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إيمانهم ومعرفتهم ، فرد عليهم عيسى بقوله: اتقوا الله ، أن تنسبوه إلى عجز ، والأول أصح . فأما "المائدة" فقال اللغويون: المائدة: كل ما كان عليه من الأخونة طعام ، فإذا لم يكن عليه طعام ، فليس بمائدة ، والكأس: كل إناء فيه شراب ، فإذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس ، ذكره الزجاج . قال الفراء: وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه الهدية: هو المهدى ، مقصور ، ما دامت عليه الهدية ، فإذا كان فارغا رجع إلى اسمه إن كان طبقا أو خوانا أو غير ذلك . وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن لفظها فاعلة ، وهي في المعنى مفعولة ، مثل عيشة راضية [الحاقة: 21] . قال أبو عبيدة: وهي من العطاء ، والممتاد: المفتعل المطلوب منه العطاء ، قال الشاعر:


    إلى أمير المؤمنين الممتاد


    [ ص: 457 ] وماد زيد عمرا: إذا أعطاه . قال الزجاج : والأصل عندي في "مائدة" أنها فاعلة من: ماد يميد: إذا تحرك ، فكأنها تميد بما عليها . وقال ابن قتيبة: المائدة: الطعام ، من: مادني يميدني ، كأنها تميد الآكلين ، أي: تعطيهم ، أو تكون فاعلة بمعنى: مفعول بها ، أي: ميد بها الآكلون .

    قوله تعالى: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: اتقوه أن تسألوه البلاء ، لأنها إن نزلت وكذبتم ، عذبتم ، قاله مقاتل .

    والثاني: أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم ، ذكره أبو عبيد .

    والثالث: أن تشكوا في قدرته .
    قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين

    قوله تعالى: قالوا نريد أن نأكل منها هذا اعتذار منهم بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه . وفي إرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم أرادوا ذلك للحاجة ، وشدة الجوع ، قاله ابن عباس .

    والثاني: ليزدادوا إيمانا ، ذكره ابن الأنباري .

    والثالث: للتبرك بها ، ذكره الماوردي . وفي قوله: وتطمئن قلوبنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبيا .

    والثاني: إلى أن الله تعالى قد اختارنا أعوانا لك .

    والثالث: إلى أن الله تعالى قد أجابك . وقال ابن عباس : قال لهم عيسى: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثم لا تسألونه شيئا إلا أعطاكم؟ فصاموا ، ثم سألوا المائدة . فمعنى: ( ونعلم أن صدقتنا ) في أنا إذا صمنا ثلاثين يوما لم نسأل الله شيئا إلا أعطانا . وفي هذا العلم قولان . [ ص: 458 ] أحدهما: أنه علم يحدث لهم لم يكن ، وهو قول من قال: كان سؤالهم قبل استحكام معرفتهم .

    والثاني: أنه زيادة علم إلى علم ، ويقين إلى يقين ، وهو قول من قال: كان سؤالهم بعد معرفتهم . وقرأ الأعمش: "وتعلم" بالتاء ، والمعنى: وتعلم القلوب أن قد صدقتنا . وفي قوله: من الشاهدين أربعة أقوال .

    أحدها: من الشاهدين لله بالقدرة ، ولك بالنبوة . والثاني: عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم ، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرية عند هذا السؤال . والثالث: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدالة على أنك نبي .

    والرابع: من الشاهدين لك عند الله بأداء ما بعثت به .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #194
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثانى
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    الحلقة (194)
    صــ459 إلى صــ 467



    قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين

    قوله تعالى: تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وقرأ ابن محيصن ، وابن السميفع ، والجحدري: لأولنا وآخرنا برفع الهمزة ، وتخفيف الواو ، والمعنى: يكون اليوم الذي نزلت فيه عيدا لنا ، نعظمه نحن ومن بعدنا ، قاله قتادة ، والسدي . وقال كعب: أنزلت عليهم يوم الأحد ، فاتخذوه عيدا . وقال ابن قتيبة: عيدا ، أي: مجمعا . قال الخليل بن أحمد: العيد: كل يوم يجمع ، كأنهم عادوا إليه . وقال ابن الأنباري: سمي عيدا للعود من الترح إلى الفرح .

    قوله تعالى: وآية منك أي: علامة منك تدل على توحيدك ، وصحة نبوة نبيك . وقرأ ابن السميفع ، وابن محيصن ، والضحاك ( وأنه منك ) بفتح الهمزة ، [ ص: 459 ] وبنون مشددة . وفي قوله: وارزقنا قولان . أحدهما: ارزقنا ذلك من عندك .

    والثاني: ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا .
    قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

    قوله تعالى: قال الله إني منزلها عليكم قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر: "منزلها" بالتشديد ، وقرأ الباقون خفيفة . وهذا وعد بإجابة سؤال عيسى . واختلف العلماء: هل نزلت ، أم لا؟ على قولين .

    أحدهما: أنها نزلت ، قاله الجمهور . فروى وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد جدوا في طلبها لبس جبة من شعر ، ثم توضأ ، واغتسل ، وصف قدميه في محرابه حتى استويا ، وألصق الكعب بالكعب ، وحاذى الأصابع بالأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وطأطأ رأسه خضوعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت تسيل دموعه على خده ، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، فقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ، فبينما عيسى كذلك ، هبطت علينا مائدة من السماء ، سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من تحتها ، وغمامة من فوقها ، وعيسى يبكي ويتضرع ، ويقول: إلهي اجعلها سلامة ، لا تجعلها عذابا ، حتى استقرت بين يديه ، والحواريون من حوله ، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها ، وإذا عليهم منديل مغطى ، فقال عيسى: أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاء عند ربه فليأخذ هذا المنديل ، وليكشف لنا عن هذه الآية . قالوا: يا روح الله أنت أولانا بذلك ، فاكشف عنها ، فاستأنف وضوءا جديدا ، وصلى ركعتين ، وسأل [ ص: 460 ] ربه أن يأذن له بالكشف عنها ، ثم قعد إليها ، وتناول المنديل ، فإذا عليها سمكة مشوية ، ليس فيها شوك ، وحولها من كل البقل ما خلا الكراث ، وعند رأسها الخل ، وعند ذنبها الملح ، وحولها خمسة أرغفة ، على رغيف تمر ، وعلى رغيف زيتون ، وعلى رغيف خمس رمانات . فقال: شمعون رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا ، أمن طعام الجنة؟ فقال عيسى: سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم . قال شمعون: لا وإله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءا . قال عيسى: ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا ، ولا من طعام الجنة ، إنما هو شيء ابتدعه الله ، فقال له: "كن" فكان أسرع من طرفة عين . فقال الحواريون: يا روح الله إنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية ، فقال: سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه الآية؟! ثم أقبل على السمكة فقال: عودي بإذن الله حية طرية ، فعادت تضطرب على المائدة ، ثم قال: عودي كما كنت ، فعادت مشوية ، فقال: يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها ، فقال: معاذ الله بل يأكل منها من سألها ، فلما رأوا امتناعه ، خافوا أن يكون نزولها عقوبة ، فلما رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزمنى واليتامى ، فقال: كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، ليكون مهنؤها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، فأكل منها ألف وسبعمائة إنسان ، يصدرون عنها شباعا وهي كهيئتها حين نزلت ، فصح كل مريض ، واستغنى كل فقير أكل منها ، ثم نزلت بعد ذلك عليهم ، فازدحموا عليها ، فجعلها عيسى نوبا بينهم ، فكانت تنزل عليهم أربعين يوما ، تنزل يوما وتغب يوما ، وكانت تنزل عند ارتفاع الضحى ، فيأكلون منها حتى إذا قالوا ، ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض . وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشية ، [ ص: 461 ] حيث كانوا . وقال غيره: نزلت يوم الأحد مرتين . وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد ، فلذلك جعلوه عيدا . وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال .

    أحدها: أنه خبز ولحم ، روي عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما" . والثاني: أنها سمكة مشوية ، وخمس أرغفة ، وتمر ، وزيتون ، ورمان ، وقد ذكرناه عن سلمان . والثالث: ثمر من ثمار الجنة ، قاله عمار بن ياسر . وقال قتادة: ثمر من ثمار الجنة ، وطعام من طعامها .

    والرابع: خبز ، وسمك ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وأبو عبد الرحمن السلمي . والخامس: قطعة من ثريد ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والسادس: أنه أنزل عليها كل شيء إلا اللحم ، قاله سعيد بن جبير .

    والسابع: سمكة فيها طعم كل شيء من الطعام ، قاله عطية العوفي .

    والثامن: خبز أرز وبقل ، قاله ابن السائب .

    والقول الثاني: أنها لم تنزل ، روى قتادة عن الحسن أن المائدة لم تنزل ، لأنه لما قال الله تعالى: فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين قالوا: لا حاجة لنا فيها . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال: أنزلت مائدة عليها ألوان من الطعام ، فعرضها عليهم ، وأخبرهم أنه العذاب إن كفروا ، فأبوها فلم تنزل . وروى ليث عن مجاهد قال: هذا مثل ضربه الله تعالى [ ص: 462 ] لخلقه ، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه ، ولم ينزل عليهم شيء ، والأول أصح .

    قوله تعالى: فمن يكفر بعد منكم أي: بعد إنزال المائدة .

    وفي العذاب المذكور قولان .

    أحدهما: أنه المسخ . والثاني: جنس من العذاب لم يعذب به أحد سواهم .

    قال الزجاج : ويجوز أن يعجل لهم في الدنيا ، ويجوز أن يكون في الآخرة . وفي "العالمين" قولان . أحدهما: أنه عام . والثاني: عالمو زمانهم . وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا . وفي سبب مسخهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم أمروا أن لا يخونوا ، ولا يدخروا ، فخانوا وادخروا ، فمسخوا قردة وخنازير ، رواه عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: أن عيسى خص بالمائدة الفقراء ، فتكلم الأغنياء بالقبيح من القول ، وشككوا الناس فيها ، وارتابوا ، فلما أمسى المرتابون بها ، وأخذوا مضاجعهم ، مسخهم الله خنازير ، قاله سلمان الفارسي .

    والثالث: أن الذين شاهدوا المائدة ، ورجعوا إلى قومهم ، فأخبروهم ، فضحك بهم من لم يشهد ، وقالوا: إنما سحر أعينكم ، وأخذ بقلوبكم ، فمن أراد الله به خيرا ، ثبت على بصيرته ، ومن أراد به فتنة ، رجع إلى كفره . فلعنهم عيسى ، فأصبحوا خنازير ، فمكثوا ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ، قاله ابن عباس .

    [ ص: 463 ] وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب

    قوله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم في زمان هذا القول قولان .

    أحدهما: أنه يقول له: يوم القيامة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج .

    والثاني: أنه قاله له حين رفعه إليه ، قاله السدي . والأول أصح .

    وفي إذ ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها زائدة ، والمعنى: وقال الله ، قاله أبو عبيدة .

    والثاني: أنها على أصلها ، والمعنى: وإذ يقوله الله له ، قاله ابن قتيبة .

    والثالث: أنها بمعنى: "إذا" ، كقوله: ولو ترى إذ فزعوا [سبأ: 51] والمعنى: إذا . قال أبو النجم:


    ثم جزاك الله عني إذ جزى جنات عدن في السموات العلا


    ولفظ الآية لفظ الاستفهام ، ومعناها التوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى . قال أبو عبيدة: وإنما قال: "إلهين" ، لأنهم إذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى [غلب فعل الذكر] ذكروهما . فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها ، فكيف [ ص: 464 ] قال الله تعالى ذلك فيهم؟ فالجواب: أنهم لما قالوا: لم تلد بشرا ، وإنما ولدت إلها ، لزمهم أن يقولوا إنها من حيث البعضية بمثابة من ولدته ، فصاروا بمثابة من قاله .

    قوله تعالى: قال سبحانك أي: براءة لك من السوء ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي: لست أستحق العبادة ، فأدعو الناس إليها . وروى عطاء بن السائب عن ميسرة قال: لما قال الله تعالى لعيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله رعد كل مفصل منه حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله ، وما قال: إني لم أقل ، ولكنه قال: (إن كنت قلته ، فقد علمته) فإن قيل: ما الحكمة في سؤال الله تعالى له عن ذلك وهو يعلم أنه ما قاله؟ فالجواب: أنه تثبيت للحجة على قومه ، وإكذاب لهم في ادعائهم عليه أنه أمرهم بذلك ، ولأنه إقرار من عيسى بالعجز في قوله: ولا أعلم ما في نفسك وبالعبودية في قوله: أن اعبدوا الله ربي وربكم .

    قوله تعالى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك قال الزجاج : تعلم ما أضمره ، ولا أعلم ما عندك علمه ، والتأويل: تعلم ما أعلم وأنا لا أعلم ما تعلم .
    ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد

    قوله تعالى: أن اعبدوا الله قال مقاتل: وحدوه .

    قوله تعالى: وكنت عليهم شهيدا أي: على ما يفعلون ما كنت مقيما فيهم ، وقوله: فلما توفيتني فيه قولان . [ ص: 465 ] أحدهما: بالرفع إلى السماء . والثاني: بالموت عند انتهاء الأجل . و "الرقيب" مشروح في سورة (النساء) و "الشهيد" في (آل عمران) .
    إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم

    قوله تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادك قال الحسن ، وأبو العالية: إن تعذبهم ، فبإقامتهم على كفرهم ، وإن تغفر لهم ، فبتوبة كانت منهم . وقال الزجاج : علم عيسى أن منهم من آمن ، ومنهم من أقام على الكفر ، فقال في جملتهم: إن تعذبهم أي: إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك ، وأنت العادل فيهم ، لأنك قد أوضحت لهم الحق ، فكفروا ، وإن تغفر لهم ، أي: وإن تغفر لمن أقلع منهم ، وآمن ، فذلك تفضل منك ، لأنه قد كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم ، وأنت في مغفرتك لهم عزيز ، لا يمتنع عليك ما تريد ، حكيم في ذلك . وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا ينبغي لأحد أن يعترض عليك ، فإن عذبتهم ، فلا اعتراض عليك ، وإن غفرت لهم -ولست فاعلا إذا ماتوا على الكفر- فلا اعتراض عليك . [ ص: 466 ] وقال غيره: العفو لا ينقص عزك ، ولا يخرج عن حكمك . وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام ليلة بآية يرددها: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
    قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير

    قوله تعالى: قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم قرأ الجمهور برفع اليوم ، وقرأ نافع بنصبه على الظرف . قال الزجاج : المعنى: قال الله هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم ، ويجوز أن يكون على معنى: قال الله هذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع الصادقين صدقهم . والمراد باليوم: يوم القيامة . وإنما خص نفع الصدق به ، لأنه يوم الجزاء . وفي هذا الصدق قولان .

    أحدهما: أنه صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة .

    والثاني: صدقهم في الآخرة ينفعهم هنالك . وفي هذه الآية تصديق لعيسى فيما قال .

    [ ص: 467 ] قوله تعالى: رضي الله عنهم أي: بطاعتهم ، ورضوا عنه بثوابه . وفي قوله: لله ملك السماوات والأرض تنبيه على عبودية عيسى ، وتحريض على تعليق الآمال بالله وحده .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #195
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    الحلقة (195)
    صــ3 إلى صــ 10


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ

    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا


    روى مجاهد عن ابن عباس: أن ( الأنعام ) مما نزل بمكة . وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وجابر بن زيد .

    وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس ، قال: نزلت سورة [الأنعام] جملة ليلا بمكة وحولها سبعون ألف ملك .

    وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكية ، نزلت جملة واحدة ونزلت ليلا ، وكتبوها من ليلتهم ، غير ست آيات وهي: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم . . . إلى آخر الثلاث آيات ، وقوله: وما قدروا الله حق قدره . . . الآية . [الأنعام:151-153] . وقوله: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " أو قال: أوحي إلي إلى آخر الآيتين [الأنعام: 93 ، 94 ] وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين قوله: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [الأنعام:114] . وقوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه . . . [الأنعام:21] .

    [ ص: 2 ] وروي عن ابن عباس ، وقتادة قالا: هي مكية ، إلا آيتين نزلتا بالمدينة ، قوله: وما قدروا الله حق قدره . . . الآية [الأنعام: 91] .

    وقوله: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات [الأنعام: 141 ] . وذكر أبو الفتح بن شيطا: أنها مكية ، غير آيتين نزلتا بالمدينة قل تعالوا . . . والتي بعدها [الأنعام:152 ، 151] .

    الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون .

    فأما التفسير ، فقال كعب: فاتحة الكهف فاتحة [الأنعام] وخاتمتها خاتمة هود ، وإنما ذكر السماوات والأرض; لأنهما من أعظم المخلوقات .

    والمراد "بالجعل": الخلق ، وقيل: إن "جعل" هاهنا: صلة ، والمعنى: والظلمات . وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال . أحدها: الكفر والإيمان ، قاله الحسن . والثاني: الليل والنهار . قاله السدي . والثالث: جميع الظلمات والأنوار .

    قال قتادة خلق الله السماوات قبل الأرض ، والظلمات قبل النور ، والجنة قبل النار .

    قوله تعالى: ثم الذين كفروا يعني: المشركين بعد هذا البيان بربهم يعدلون ، أي: يجعلون له عديلا ، فيعبدون الحجارة الموات ، مع إقرارهم بأنه الخالق لما وصف . يقال: عدلت هذا بهذا: إذا ساويته به . قال أبو عبيدة: هو مقدم ومؤخر ، تقديره: يعدلون بربهم . وقال النضر بن شميل: الباء: بمعنى" عن " .
    هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون .

    قوله تعالى: هو الذي خلقكم من طين يعني: آدم ، وذلك أنه لما شك [ ص: 3 ] المشركون في البعث ، وقالوا: من يحيي هذه العظام ، أعلمهم أنه خلقهم من طين ، فهو قادر على إعادة خلقهم .

    قوله تعالى: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده فيه ستة أقوال .

    أحدها: أن الأجل الأول: أجل الحياة إلى الموت ، والثاني: أجل الموت إلى البعث ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وابن المسيب ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل .

    والثاني أن الأجل: الأول النوم الذي تقبض فيه الروح ، ثم ترجع في حال اليقظة ، والأجل المسمى عنده: أجل موت الإنسان .

    رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثالث: أن الأجل الأول: أجل الآخرة متى يأتي ، والأجل الثاني: أجل الدنيا ، قاله مجاهد في رواية .

    والرابع: أن الأول: خلق الأشياء في ستة أيام ، والثاني: ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة ، قاله عطاء الخراساني .

    والخامس: أن الأول: قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه ، والثاني: الحياة في الدنيا ، قاله ابن زيد ، كأنه يشير إلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم .

    والسادس: أن الأول: أجل من قد مات من قبل . والثاني: أجل من يموت بعد ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: ثم أنتم أي بعد هذا البيان تمترون وفيه قولان .

    أحدهما: تشكون ، قاله قتادة ، والسدي . وفيما شكوا فيه قولان . أحدهما: الوحدانية ، والثاني: البعث .

    والثاني: يختلفون ، مأخوذ من المراء ، ذكره الماوردي . [ ص: 4 ] وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون .

    قوله تعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض فيه أربعة أقوال .

    أحدها: هو المعبود في السماوات وفي الأرض ، قاله ابن الأنباري .

    والثاني: وهو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض ، قاله الزجاج .

    والثالث: وهو الله في السماوات ، ويعلم سركم وجهركم في الأرض ، قاله ابن جرير .

    والرابع: أنه مقدم ومؤخر . والمعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض ، ذكره بعض المفسرين .
    وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون .

    قوله تعالى: وما تأتيهم من آية من آيات ربهم نزلت في كفار قريش .

    وفي الآية قولان . أحدهما: أنها الآية من القرآن ، والثاني: المعجزة مثل انشقاق القمر .

    والمراد بالحق: القرآن . والأنباء: الأخبار . والمعنى: سيعلمون عاقبة استهزائهم .
    ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين .

    قوله تعالى: كم أهلكنا من قبلهم من قرن القرن: اسم أهل كل عصر . [ ص: 5 ] وسموا بذلك; لاقترانهم في الوجود . وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة أقوال .

    أحدها: أنه أربعون سنة ، ذكره ابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: ثمانون سنة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث: مائة سنة ، قاله عبد الله بن بشر المازني ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن .

    والرابع: مائة وعشرون سنة ، قاله زرارة بن أوفى ، وإياس بن معاوية .

    والخامس: عشرون سنة ، حكاه الحسن البصري .

    والسادس: سبعون سنة ، ذكره الفراء .

    والسابع: أن القرن: أهل كل مدة كان فيها نبي ، أو طبقة من العلماء ، قلت السنون ، أو كثرت ، بدليل قوله: صلى الله عليه وسلم "خيركم قرني" يعني: أصحابي "ثم الذين يلونهم" يعني: التابعين . " ثم الذين يلونهم" يعني: الذين أخذوا عن التابعين .

    فالقرن: مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان ، فهو في كل قوم على مقدار أعمارهم ، واشتقاق القرن من الاقتران وفي معنى ذلك الاقتران قولان .

    أحدهما: أنه سمي قرنا; لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم . هذا اختيار الزجاج . [ ص: 6 ] والثاني: أنه سمي قرنا; لأنه يقرن زمانا بزمان ، وأمة بأمة ، قاله ابن الأنباري . وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال: يرون أن أقل ما بين القرنين: ثلاثون سنة .

    قوله تعالى: مكناهم في الأرض قال ابن عباس : أعطيناهم ما لم نعطكم . يقال مكنته ومكنت له: إذا أقدرته على الشيء بإعطاء ما يصح به الفعل من العدة . وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب .

    فأما السماء: فالمراد بها المطر . ومعنى "أرسلنا" أنزلنا ، و"المدرار" مفعال من در ، يدر ، والمعنى: نرسلها كثيرة الدر .

    ومفعال ، من أسماء المبالغة ، كقولهم: امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور ، وكذلك مئناث .

    فإن قيل: السماء مؤنثة ، فلم ذكر مدرارا .

    فالجواب: أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه أن يلزم التذكير في كل حال سواء كان وصفا لمذكر أو مؤنت ، كقولهم امرأة مذكار ، ومعطار ، وامرأة مذكر ، ومؤنث ، وهي كفور ، وشكور ، ولو بنيت هذه الأوصاف على الفعل ، لقيل كافرة ، وشاكرة ومذكرة ، فلما عدل عن بناء الفعل ، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة ، كقولهم: النعل لبستها ، والفأس كسرتها ، وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل ، والمعدول عن مثل الأفاعيل . والمراد بالمدرار: المبالغة في اتصال المطر ودوامه . يعني: أنها تدر وقت الحاجة إليها ، لا أنها تدوم ليلا ونهارا فتفسد ، ذكره ابن الأنباري .
    [ ص: 7 ] ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين .

    قوله تعالى: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس سبب نزولها: أن مشركي مكة قالوا: يا محمد ، والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة ، يشهدون أنه ، من عند الله ، وأنك رسوله فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب . قال ابن قتيبة: والقرطاس: الصحيفة ، يقال للرامي إذا أصاب الصحيفة: قرطس . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: القرطاس قد تكلموا به قديما .

    ويقال: إن أصله غير عربي . والجمهور على كسر قافه ، وضمها أبو رزين ، وعكرمة ، وطلحة ، ويحيى بن يعمر .

    فأما قوله تعالى: فلمسوه بأيديهم فهو توكيد لنزوله ، وقيل: إنما علقه باللمس باليد إبعادا له عن السحر; لأن السحر يتخيل في المرئيات ، دون الملموسات . ومعنى الآية: إنهم يدفعون الصحيح .
    وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون [ ص: 8 ] قوله تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ملك قال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد ، "ولولا" بمعنى "هلا" أنزل عليه ملك نصدقه ، ولو أنزلنا ملكا فعاينوه ولم يؤمنوا ، لقضي الأمر وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن المعنى: لماتوا ، ولم يؤخروا طرفة عين لتوبة ، قاله ابن عباس .

    والثاني: لقامت الساعة ، قاله عكرمة ، ومجاهد .

    والثالث لعجل لهم العذاب ، قاله قتادة .
    ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون .

    قوله تعالى: ولو جعلناه أي: ولو جعلنا الرسول إليهم ملكا ، لجعلناه في صورة رجل; لأنهم لا يستطيعون رؤية الملك على صورته ، وللبسنا عليهم أي: لشبهنا عليهم . يقال: ألبست الأمر على القوم ، ألبسه ، أي: شبهته عليهم ، وأشكلته . والمعنى: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا ، فلا يدرون أملك هو ، أم آدمي؟ فأضللناهم بما به ضلوا ، قبل أن يبعث الملك . وقال الزجاج : كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم ، فقال تعالى: لو رأوا الملك رجلا لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منه . وقرأ الزهري ، ومعاذ القارئ ، وأبو رجاء "وللبسنا" ، بالتشديد "عليهم ما يلبسون" مشددة أيضا .
    ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين .

    [ ص: 9 ] قوله تعالى: فحاق بالذين سخروا أي: أحاط قال الزجاج : الحيق في اللغة: ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ، ومنه: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [فاطر:34] أي: لا ترجع عاقبة مكروهه إلا عليهم . قال السدي: وقع بهم العذاب الذي استهزؤوا به .
    قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون .

    قوله تعالى: قل لمن ما في السماوات والأرض المعنى: فإن أجابوك ، وإلا فـ قل: لله ، كتب على نفسه الرحمة قال ابن عباس : قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين ، قال الزجاج : ومعنى كتب: أوجب ذلك إيجابا مؤكدا ، وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ ، وإنما خوطب الخلق بما يعقلون ، فهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤخر أن يحفظ بالكتاب . وقال غيره: رحمته عامة ، فمنها تأخير العذاب عن مستحقه ، وقبول توبة العاصي .

    قوله تعالى: ليجمعنكم إلى يوم القيامة اللام: لام القسم . كأنه قال: والله ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه . وذهب قوم إلى أن "إلى" بمعنى: "في" ثم اختلفوا ، فقال قوم: في يوم القيامة . وقال آخرون: في قبوركم إلى يوم القيامة .

    قوله تعالى: الذين خسروا أنفسهم أي: بالشرك . فهم لا يؤمنون لما سبق فيهم من القضاء . وقال ابن قتيبة: قوله: الذين خسروا أنفسهم مردود إلى قوله: كيف كان عاقبة المكذبين مردود إلى قوله: كيف كان عاقبة المكذبين الذين خسروا .
    وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم .

    قوله تعالى: وله ما سكن في الليل والنهار سبب نزولها أن كفار مكة [ ص: 10 ] قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة ، فنحن نجعل لك نصيبا في أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلا ، وترجع عما أنت عليه ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .

    وفي معنى "سكن" قولان .

    أحدهما: أنه من السكنى . قال ابن الأعرابي: "سكن" بمعنى حل .

    والثاني: أنه من السكون الذي يضاد الحركة . قال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار ، وينتشر بالليل ، ومنها ما يستقر بالليل:وينتشر بالنهار .

    فإن قيل: لم خص السكون بالذكر دون الحركة ، فعنه ثلاثة أجوبة .

    أحدها: أن السكون أعم وجودا من الحركة .

    والثاني: أن كل متحرك قد يسكن ، وليس كل ساكن يتحرك .

    والثالث: أن في الآية إضمارا ، والمعنى: وله ما سكن وتحرك كقوله تقيكم الحر [النحل:82] أراد: والبرد ، فاختصر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #196
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (196)
    صــ11 إلى صــ 16




    قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين

    قوله تعالى: قل أغير الله أتخذ وليا ذكر مقاتل أن سبب نزولها ، أن كفار قريش قالوا: يا محمد ، ألا ترجع إلى دين آبائك؟ فنزلت هذه الآية . وهذا الاستفهام معناه الإنكار ، أي: لا أتخذ وليا غير الله أتولاه ، وأعبده ، وأستعينه .

    قوله تعالى: فاطر السماوات والأرض الجمهور على كسر راء "فاطر" . وقرأ ابن أبي عبلة برفعها قال أبو عبيدة: الفاطر ، معناه: الخالق . وقال ابن [ ص: 11 ] قتيبة المبتدئ . "ومنه كل مولود يولد على الفطرة" أي: على ابتداء الخلقة ، وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم . وقال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما: أنا فطرتها ، أي: أنا ابتدأتها . قال الزجاج : إن قيل: كيف يكون الفطر بمعنى الخلق؟ والانفطار: الانشقاق في قوله تعالى : إذا السماء انفطرت فالجواب إنما يرجعان إلى شيء واحد ، لأن معنى" فطرهما" خلقهما خلقا قاطعا . والانفطار ، والفطور ، تقطع وتشقق .

    قوله تعالى: وهو يطعم ولا يطعم قرأ الجمهور بضم الياء من الثاني ، ومعناه وهو يرزق ولا يرزق ، لأن بعض العبيد يرزق مولاه . وقرأ عكرمة والأعمش ولا "يطعم" بفتح الياء . قال الزجاج : وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية ، ومعناه: وهو يرزق ويطعم ولا يأكل .

    قوله تعالى: إني أمرت أن أكون أول من أسلم أي: أول مسلم من هذه الأمة ، ولا تكونن من المشركين قال الأخفش: معناه: وقيل لي: لا تكونن ، فصارت: أمرت ، بدلا من ذلك ، لأنه حين قال: أمرت قد أخبر أنه قيل له .
    [ ص: 12 ] قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .

    قوله تعالى: قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم زعم بعض المفسرين أنه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب ، ثم نسخ ذلك بقوله: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [الفتح: 3] والصحيح أن الآيتين خبر ، والخبر لا يدخله النسخ ، وإنما هو معلق بشرط ، ومثله: لئن أشركت ليحبطن عملك [الزمر:66]
    من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين

    قوله تعالى: من يصرف عنه قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم " من يصرف " بضم الياء وفتح الراء ، يعنون العذاب . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم " يصرف " بفتح الياء وكسر الراء ، الضمير قوله: " إن عصيت ربي " ، ومما يحسن هذه القراءة قوله: " فقد رحمه " فقد اتفق إسناد الضميرين إلى اسم الله تعالى ، ويعني بقوله: يصرف العذاب يومئذ يعني: يوم القيامة ، وذلك يعني: صرف العذاب .
    وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير .

    قوله تعالى: وإن يمسسك الله بضر الضر: اسم جامع لكل ما يتضرر به الإنسان من فقر ، ومرض ، وغير ذلك ، والخير: اسم جامع لكل ما ينتفع به الإنسان .

    وللمفسرين في الضر والخير قولان .

    أحدهما: أن الضر السقم ، والخير: العافية

    والثاني: أن الضر: الفقر ، والخير: الغنى .

    [ ص: 13 ] وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير

    قوله تعالى: وهو القاهر فوق عباده القاهر:

    الغالب ، والقهر: الغلبة . والمعنى: أنه قهر الخلق فصرفهم على ما أراد طوعا وكرها ، فهو المستعلي عليهم ، وهم تحت التسخير والتذليل .
    قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون

    قوله تعالى: قل أي شيء أكبر شهادة سبب نزولها: أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول ، ولقد سألنا عنك اليهود ، والنصارى ، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد أنك رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ومعنى الآية: قل لقريش: أي شيء أعظم شهادة؟ فإن أجابوك ، وإلا فقل: الله ، وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول .

    وقال الزجاج : أمر الله أن يحتج عليهم بأن شهادة الله في نبوته أكبر شهادة ، وأن القرآن الذي أتى به ، يشهد له أنه رسول الله ، وهو قوله: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ففي الإنذار به دليل على نبوته ، لأنه لم يأت أحد بمثله ، ولا يأتي ، وفيه خبر ما كان وما يكون ، ووعد فيه بأشياء ، فكانت كما قال . وقرأ عكرمة ، وابن السميفع ، والجحدري وأوحي إلي بفتح الهمزة والحاء القرآن بالنصب فأما "الإنذار" فمعناه: التخويف ، ومعنى ومن بلغ أي: من بلغ إليه هذا القرآن ، فإني نذير له . قال القرظي: من بلغه القرآن [ ص: 14 ] فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه .

    وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل .

    قوله تعالى: أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى هذا استفهام معناه الإنكار عليهم . قال الفراء: وإنما قال: "أخرى" ولم يقل "آخر" لأن الآلهة جمع ، والجمع يقع عليه التأنيث ، كما قال: ولله الأسماء الحسنى [الأعراف:181] وقال: فما بال القرون الأولى [طه:52] .
    الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون .

    قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب في الكتاب قولان .

    أحدهما: أنه التوراة والإنجيل ، وهذا قول الجمهور .

    والثاني أنه القرآن .

    وفي هاء" يعرفونه" ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيه بمكة " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " [ البقرة:147 ، والأنعام: 21] فكيف هذه المعرفة؟ فقال: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني بابني . فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: إني أشهد أنه رسول الله حقا ، ولا أدري ما يصنع النساء .

    [ ص: 15 ] والثاني أنها ترجع إلى الدين والنبي . فالمعنى يعرفون الإسلام أنه دين الله عز وجل ، وأن محمدا رسول الله ، قاله قتادة .

    والثالث: أنها ترجع إلى القرآن .

    فالمعنى: يعرفون الكتاب الدال على صدقه ، ذكره الماوردي .

    وفي الذين خسروا أنفسهم قولان .

    أحدهما: أنهم مشركو مكة .

    والثاني كفار أهل الكتابين .
    ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون .

    قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي: اختلق على الله الكذب في ادعاء شريك معه . وفي "آياته" قولان .

    أحدهما: أنها محمد والقرآن ، قاله ابن السائب . والثاني: القرآن قاله مقاتل .

    والمراد بالظلم المذكور في هذه الآية: الشرك .
    ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون .

    قوله تعالى: ويوم نحشرهم جميعا انتصب "اليوم" بمحذوف تقديره: واذكر يوم نحشرهم . قال ابن جرير: والمعنى: لا يفلحون اليوم ، ولا يوم نحشرهم . وقرأ يعقوب: " يحشرهم " ، "ثم يقول " بالياء فيها .

    وفي الذين عنى قولان .

    أحدهما: المسلمون والمشركون . والثاني: العابدون والمعبودون .

    [ ص: 16 ] وقوله: أين شركاؤكم سؤال توبيخ . والمراد بشركائهم: الأوثان ، وإنما أضافها إليهم لأنهم زعموا أنها شركاء الله .

    وفي معنى يزعمون قولان . أحدهما: يزعمون أنهم شركاء مع الله . والثاني: يزعمون أنها تشفع لهم .
    ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين .

    قوله تعالى: ثم لم تكن فتنتهم قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم:" ثم لم تكن" بالتاء ، "فتنتهم" بالرفع . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم: "تكن" بالتاء أيضا ، "فتنتهم" بالنصب ، وقد رويت عن ابن كثير أيضا . وقرأ حمزة ، والكسائي: "يكن" بالياء ، "فتنتهم" بالنصب .

    وفي "الفتنة "أربعة أقوال .

    أحدها: أنها بمعنى الكلام والقول . قال ابن عباس ، والضحاك: لم يكن كلامهم .

    والثاني: أنها المعذرة: قال قتادة ، وابن زيد: لم تكن معذرتهم . قال ابن الأنباري: فالمعنى: اعتذروا بما هو مهلك لهم ، وسبب لفضيحتهم .

    والثالث: أنها بمعنى البلية . قال عطاء الخراساني: لم تكن بليتهم . وقال أبو عبيد: لم تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة ، وزادتهم لائمة .

    والرابع: أنها بمعنى الافتتان . والمعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #197
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (197)
    صــ17 إلى صــ 22




    قال الزجاج : لم يكن افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرؤوا منه . ومثل ذلك في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا ، فإذا وقع في هلكة تبرأ منه ، فيقول: ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه . قال: وهذا تأويل لطيف ، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك . [ ص: 17 ] وقال ابن الأنباري: المعنى: أنهم افتتنوا بقولهم هذا ، إذا كذبوا فيه ، ونفوا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا .

    قوله تعالى: إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر: "والله ربنا" بكسر الباء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف: بنصب الباء .

    وفي هؤلاء القوم الذين هذا وصفهم قولان .

    أحدهما: أنهم المشركون . والثاني: المنافقون .

    ومتى يحلفون ? فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما قالوا: تعالوا نكابر عن شركنا ، فحلفوا ، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنهم إذا دخلوا النار ، ورأوا أهل التوحيد يخرجون ، حلفوا[ واعتذروا] قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد . [ ص: 18 ] والثالث: أنهم إذا سئلوا: أين شركاؤكم؟ تبرؤوا ، وحلفوا: ما كنا مشركين ، قاله مقاتل .
    انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

    قوله تعالى: انظر كيف كذبوا على أنفسهم أي: باعتذارهم بالباطل .

    وضل عنهم ما كانوا يفترون أي: ذهب ما كانوا يدعون ويختلقون من أن الأصنام شركاء لله ، وشفعاؤهم في الآخرة .
    ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون

    قوله تعالى: ومنهم من يستمع إليك سبب نزولها: أن نفرا من المشركين ، منهم عتبة ، وشيبة ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأبي ابنا خلف ، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا إليه ، ثم قالوا للنضر بن الحارث: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بنية ، ما أدري ما يقول؟ إلا أني أرى تحرك شفتيه ، وما يقول إلا أساطير الأولين ، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    فأما "الأكنة" ، فقال الزجاج : هي جمع كنان ، وهو الغطاء ، مثل عنان وأعنة .

    [ ص: 19 ] وأما: "أن يفقهوه" ، فمنصوب على أنه مفعول له . المعنى: وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه ، فلما حذفت اللام ، نصبت الكراهة ، ولما حذفت الكراهة ، انتقل نصبها إلى "أن" .

    "الوقر" : ثقل السمع ، يقال: في أذنه وقر ، وقد وقرت الأذن توقر

    قال الشاعر:
    وكلام سيئ قد وقرت أذني عنه وما بي من صمم


    والوقر ، بكسر الواو ، أن يحمل البعير وغيره مقدار ما يطيق ، يقال: عليه وقر ، ويقال: نخلة موقر ، وموقرة وإنما فعل ذلك بهم مجازاة لهم بإقامتهم على كفرهم ، وليس المعنى أنهم لم يفهموه ، ولم يسمعوه ، ولكنهم لما عدلوا عنه ، وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة ، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع . وإن يروا كل آية أي: كل علامة تدل على رسالتك ، لا يؤمنوا بها

    ثم أعلم الله عز وجل مقدار احتجاجهم وجدلهم ، وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج . أن يقولوا إن هذا أي: ما هذا إلا أساطير الأولين وفيها قولان .

    أحدهما: أنها ما سطر من أخبارهم وأحاديثهم . روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أساطير الأولين: كذبهم ، وأحاديثهم في دهرهم . وقال أبو الحسن الأخفش: يزعم بعضهم أن واحدة الأساطير: أسطورة . وقال بعضهم: أسطارة ، ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد ، نحو عباديد ، ومذاكير ، وأبابيل وقال ابن قتيبة: أساطير الأولين: أخبارهم وما سطر منها ، أي: ما كتب ، ومنه قوله: ن . والقلم وما يسطرون [القلم:2 ، 1] أي: يكتبون ، واحدها سطر ، [ ص: 20 ] ثم أسطار ، ثم أساطير جمع الجمع ، مثل قول ، وأقوال وأقاويل

    والقول الثاني: أن معنى أساطير الأولين: الترهات . قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة ، وأسطارة ، ومجازها مجاز الترهات . قال ابن الأنباري: الترهات عند العرب: طرق غامضة ، ومسالك مشكلة ، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترهات البسابس ، يعني: قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى المشكل ، وعما يعرف إلى ما لا يعرف . و"البسابس": الصحاري الواسعة ، والترهات: طرق تتشعب من الطريق الأعظم ، فتكثر وتشكل ، فجعلت مثلا لما لا يصح وينكشف .

    فإن قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة وما لا عيب على قائله؟ فعنه جوابان

    أحدهما أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من الله .

    والثاني: أنهم عابوه بالإشكال والغموض ، استراحة منهم إلى البهت والباطل . فعلى الجواب الأول تكون "أساطير" من التسطير ، وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات ، وقد شرحنا معنى الترهات .

    قوله تعالى: وهم ينهون عنه وينأون عنه في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتباعد عما جاء به ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وهو قول عمرو بن دينار ، وعطاء بن دينار ، والقاسم بن مخيمرة . وقال مقاتل: [ ص: 21 ] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءا ، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم ، فيقتلوه ، فقال: ما لي عنه صبر ، فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك ، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل ، فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم ، وقال:


    والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا


    فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقر بذاك منك عيونا


    وعرضت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا


    لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا


    فنزلت فيه هذه الآية .


    والثاني: أن كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون بأنفسهم عنه ، رواه الوالبي عن ابن عباس ، وبه قال ابن الحنفية ، والضحاك ، والسدي . فعلى القول الأول ، يكون قوله: "وهم" كناية عن واحد ، وعلى الثاني: عن جماعة .

    وفي هاء "عنه" قولان .

    أحدهما: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ثم فيه قولان . أحدهما: ينهون عن أذاه ، والثاني: عن اتباعه .

    والقول الثاني: أنها ترجع إلى القرآن ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد .

    وينأون بمعنى يبعدون . وفي هاء "عنه" قولان . أحدهما: أنها راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والثاني إلى القرآن .

    [ ص: 22 ] قوله تعالى: وإن يهلكون أي: وما يهلكون إلا أنفسهم بالتباعد عنه وما يشعرون أنهم يهلكونها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #198
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (198)
    صــ23 إلى صــ 28



    ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين

    قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على النار في معنى "وقفوا" ستة أقوال .

    أحدها: حبسوا عليها ، قاله ابن السائب . والثاني: عرضوا عليها ، قاله مقاتل .

    والثالث: عاينوها . والرابع: وقفوا عليها وهي تحتهم .

    والخامس: دخلوا إليها فرفعوا مقدار عذابها ، تقول: وقفت على ما عند فلان ، أي: فهمته وتبينته ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الزجاج ، واختار الأخير . وقال ابن جرير: "على" هاهنا بمعنى "في"

    والسادس: جعلوا عليها وقفا ، كالوقوف المؤبدة على سبلها ، ذكره الماوردي . والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ، والوعيد للكفار ، وجواب لو "محذوف" ومعناه: لو رأيتهم في تلك الحال: لرأيت عجبا .

    قوله تعالى: ولا نكذب بآيات ربنا قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم برفع الباء من "نكذب" والنون من "نكون"

    قال الزجاج : والمعنى أنهم تمنوا الرد ، وضمنوا أنهم لا يكذبون . والمعنى: يا ليتنا نرد ، ونحن لا نكذب بآيات ربنا ، رددنا أو لم نرد ، ونكون من المؤمنين ، لأنا قد عاينا ما لا نكذب معه أبدا .

    قال ويجوز الرفع على وجه آخر ، على معنى" يا ليتنا نرد" ، يا ليتنا لا نكذب ، كأنهم تمنوا الرد والتوفيق للتصديق .

    [ ص: 23 ] وقال الأخفش: إذا رفعت جعلته على مثل اليمين ، كأنهم قالوا: ولا نكذب والله- بآيات ربنا ، ونكون والله- من المؤمنين . وقرأ حمزة إلا العجلي وحفص عن عاصم ، ويعقوب: بنصب الباء من "نكذب" ، والنون من "نكون"

    قال مكي بن أبي طالب: وهذا النصب على جواب التمني ، وذلك بإضمار "أن" ، حملا على مصدر "نرد" فأضمرت "أن" لتكون مع الفعل مصدرا ، فعطف بالواو مصدرا على مصدر .

    وتقديره: يا ليت لنا ردا وانتفاء من التكذيب ، وكونا من المؤمنين . وقرأ ابن عامر برفع الباء من "نكذب" ونصب النون من "نكون" ، فالرفع قد بينا علته ، والنصب على جواب التمني .
    بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين

    قوله تعالى: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل "بل" هاهنا رد لكلامهم ، أي: ليس الأمر على ما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا .

    وقال الزجاج : "بل" استدراك وإيجاب بعد نفي ، تقول ما جاء زيد ، بل عمرو وفي معنى الآية أربعة أقوال .

    أحدها بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض ، قاله الحسن .

    والثاني: بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم قاله مقاتل .

    والثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا يخفونه ، قاله المبرد .

    [ ص: 24 ] والرابع: بدا للأتباع ما كان يخفيه الرؤساء ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه قال ابن عباس : لعادوا إلى ما نهوا عنه من الشرك ، وإنهم لكاذبون في قولهم: ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين

    قال ابن الأنباري: كذبهم الله في إخبارهم عن أنفسهم ، أنهم إن ردوا ، آمنوا ولم يكذبوا ، ولم يكذبهم في التمني .

    قوله تعالى: وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا هذا إخبار عن منكري البعث . قال مقاتل: لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث ، قالوا هذا . وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا حكاية قولهم ، لو ردوا لقالوه .
    ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون

    قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال مقاتل: عرضوا على ربهم قال أليس هذا العذاب بالحق . وقال غيره: أليس هذا البعث حقا ، فعلى قول مقاتل: بما كنتم تكفرون بالعذاب ، وعلى قول غيره: تكفرون بالبعث .

    قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون

    قوله تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله إنما وصفوا بالخسران ، لأنهم باعوا الإيمان بالكفر ، فعظم خسرانهم .

    والمراد بلقاء الله: البعث والجزاء ، والساعة: القيامة ، والبغتة: الفجأة . [ ص: 25 ] قال الزجاج : كل ما أتى فجأة فقد بغت ، يقال: قد بغته الأمر يبغته بغتا وبغتة: إذا أتاه فجأة . قال الشاعر:
    ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة وأفظع شيء حين يفجؤك البغت


    قوله تعالى: يا حسرتنا الحسرة: التلهف على الشيء الفائت ، وأهل التفسير يقولون يا ندامتنا .

    فإن قيل: ما معنى دعاء الحسرة ، وهي لا تعقل ،

    فالجواب: أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه ، جعلته نداء ، فتدخل عليه "يا" للتنبيه ، والمراد تنبيه الناس ، لا تنبيه المنادي . ومثله قولهم: لا أرينك هاهنا ، لفظه لفظ الناهي لنفسه ، والمعنى للمنهي ، ومن هذا قولهم يا خيل الله اركبي ، يراد: يا فرسان خيل الله . وقال سيبويه: إذا قلت: يا عجباه ، فكأنك قلت: احضر وتعال يا عجب ، فهذا زمانك . فأما التفريط فهو: التضييع .

    وقال الزجاج : التفريط في اللغة: تقدمه العجز . وفي المكنى عنه بقوله: "فيها" ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الدنيا ، فالمعنى: على ما ضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة ، قاله مقاتل . [ ص: 26 ] والثاني: أنها الصفقة ، لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة ، وترك ذكرها اكتفاء بذكر الخسران ، قاله ابن جرير .

    والثالث: أنها الطاعة ، ذكره بعض المفسرين .

    فأما الأوزار ، فقال ابن قتيبة: هي الآثام ، وأصل الوزر: الحمل على الظهر . وقال ابن فارس: الوزر: الثقل . وهل هذا الحمل حقيقة؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنه على حقيقته . قال عمير بن هانئ: يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح ، كلما كان هول عظمه عليه ، وزاده خوفا ، فيقول: بئس الجليس أنت ، ما لي ولك؟ فيقول: أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا ، فلأركبنك اليوم حتى أخزيك على رؤوس الناس ، فيركبه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه ، فذلك قوله: وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وهذا قول السدي ، وعمرو بن قيس الملائي ومقاتل .

    والثاني: أنه مثل ، والمعنى: يحملون ثقل ذنوبهم ، قاله الزجاج قال: فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يتحمل ، ومعنى ألا ساء ما يزرون بئس الشيء شيئا يزرونه ، أي يحملونه .
    وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون

    قوله تعالى: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو فيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 27 ] أحدها: وما الحياة الدنيا في سرعة انقطاعها ، وقصر عمرها ، إلا كالشيء يلعب به .

    والثاني: وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو ، فأما فعل الخير ، فهو من عمل الآخرة ، لا من الدنيا .

    والثالث: وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو ، لاشتغالهم عما أمروا به . واللعب: ما لا يجدي نفعا .

    قوله تعالى: والدار الآخرة خير اللام: لام القسم ، والدار الآخرة: الجنة أفلا يعقلون فيعملون لها . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، "يعقلون" بالياء في ( الأنعام ) و[ الأعراف] ، ويوسف ويس وقرؤوا في القصص بالتاء ، وقرأ نافع كل ذلك بالياء ، وروى حفص ، عن عاصم كل ذلك بالتاء ، إلا في يس في الخلق أفلا يعقلون [يس: 67] بالياء . وقرأ ابن عامر الذي في [ يس ] بالياء ، والباقي بالتاء .
    قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون

    قوله تعالى: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون

    في سبب نزولها أربعة أقوال .

    أحدها: أن رجلا من قريش يقال له: الحارث بن عامر ، قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ، ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبي في العلانية ، فإذا خلا مع أهل بيته ، قال: ما محمد من أهل الكذب ، فنزلت فيه هذه الآية . [ ص: 28 ] والثاني: أن المشركين كانوا إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا فيما بينهم: إنه لنبي ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح .

    والثالث: أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب الذي جئت به ، فنزلت هذه الآية قاله ناجية بن كعب .

    وقال أبو يزيد المدني: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل ، فصافحه أبو جهل ، فقيل له: أتصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي ، ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف؟ فأنزل الله هذه الآية .

    والرابع: أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل ، فقال الأخنس: يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد أصادق هو ، أم كاذب فليس هاهنا من يسمع كلامك غيري . فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق ، وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء ، والسقاية ، والحجابة ، والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي . فأما الذي يقولون ، فهو التكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والكفر بالله وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يواجهون به .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #199
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (199)
    صــ29 إلى صــ 34




    قوله تعالى: فإنهم لا يكذبونك قرأ نافع ، والكسائي: "يكذبونك" بالتخفيف وتسكين الكاف . وفي معناها قولان . [ ص: 29 ] أحدهما: لا يلفونك كاذبا قاله ابن قتيبة .

    والثاني: لا يكذبون الشيء الذي جئت به ، إنما يجحدون آيات الله ، ويتعرضون لعقوباته . قال ابن الأنباري: وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبت الرجل: إذا نسبته إلى الكذب وصنعة الأباطيل من القول ; وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب ، ليس هو الصانع له قال: وقال غير الكسائي: يقال أكذبت الرجل: إذا أدخلته في جملة الكذابين ، ونسبته إلى صفتهم ، كما يقال: أبخلت الرجل: إذا نسبته إلى البخل ، وأجبنته: إذا وجدته جبانا قال الشاعر:


    فطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب


    وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة وابن عامر: "يكذبونك" بالتشديد وفتح الكاف ، وفي معناها خمسة أقوال .

    أحدها: لا يكذبونك بحجة ، وإنما هو تكذيب عناد وبهت ، قاله قتادة ، والسدي .

    والثاني: لا يقولون لك: أنك كاذب ، لعلمهم بصدقك ، ولكن يكذبون ما جئت به ، قاله ناجية بن كعب .

    والثالث: لا يكذبونك في السر ، ولكن يكذبونك في العلانيه عداوة لك قاله ابن السائب ، ومقاتل .

    والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت .

    والخامس: لا يكذبونك بقلوبهم ، لأنهم يعلمون أنك صادق ، ذكر القولين الزجاج . [ ص: 30 ] وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحدا وإن اختلفت اللفظتان ، إلا أن "فعلت": إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من "أفعلت" . ويؤكد أن القراءتين بمعنى ، ما حكاه سيبويه أنهم قالوا: قللت ، وأقللت ، وكثرت ، وأكثرت بمعنى .

    قال أبو علي ومعنى "لا يكذبونك" لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرت به مما جاء في كتبهم ، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذبا كما يقال أحمدت الرجل: إذا أصبته محمودا ، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون بألسنتهم ما يعلمونه يقينا ، لعنادهم

    وفي "آيات الله" هاهنا ثلاثة أقوال .

    أحدها أنها محمد صلى الله عليه وسلم قاله السدي .

    والثاني محمد والقرآن ، قاله ابن السائب ،

    والثالث: القرآن . قاله مقاتل .
    ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين

    قوله تعالى: ولقد كذبت رسل من قبلك هذه تعزية له على ما يلقى منهم . قال ابن عباس : فصبروا على ما كذبوا رجاء ثوابي ، وأوذوا حتى نشروا بالمناشير ، وحرقوا بالنار حتى أتاهم نصرنا بتعذيب من كذبهم [ ص: 31 ] قوله تعالى: ولا مبدل لكلمات الله فيه خمسة أقوال .

    أحدها: لا خلف لمواعيده ، قاله ابن عباس .

    والثاني: لا مبدل لما أخبر به ، وما أمر به قاله الزجاج .

    والثالث: لا مبدل لحكوماته ، وأقضيته النافذة في عباده ، فعبرت الكلمات عن هذا المعنى ، كقوله ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ الزمر:71] أي: وجب ما قضي عليهم . فعلى هذا القول ، والذي قبله ، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات الله ، ولا ناقض لما حكم به ، وقد حكم بنصر أنبيائه بقوله: لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة:21]

    والرابع: أن معنى الكلام معنى النهي ، وإن كان ظاهره الإخبار ; فالمعنى: لا يبدلن أحد كلمات الله ، فهو كقوله: لا ريب فيه [البقرة:2]

    والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام الله ، وإن زخرف واجتهد ، لأن الله تعالى صانه برصين اللفظ ، وقويم الحكم ، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري

    قوله تعالى: ولقد جاءك من نبإ المرسلين أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنصروا . وقيل إن: "من" صلة .
    وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ ص: 32 ] قوله تعالى: وإن كان كبر عليك إعراضهم سبب نزولها: أن الحارث بن عامر أتى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش فقال: يا محمد ، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات ، فإن فعلت آمنا بك ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . "وكبر" بمعنى: "عظم" . وفي إعراضهم قولان .

    أحدهما: عن استماع القرآن . والثاني: عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم .

    فأما "النفق" ، فقال ابن قتيبة: النفق في الأرض: المدخل ، وهو السرب . والسلم في السماء: المصعد . وقال الزجاج : النفق: الطريق النافذ في الأرض . والنافقاء ، ممدود: أحد جحره اليربوع يخرقه من باطن الأرض إلى جلدة الأرض ، فإذا بلغ الجلدة أرقها ، حتى إن رابه ريب ، دفع برأسه ذلك المكان وخرج ومنه سمي المنافق ، لأنه أبطن غير ما أظهر ، كالنافقاء الذي ظاهره غير بين ، وباطنه حفر في الأرض .

    "والسلم" مشتق من السلامة ، وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك . والمعنى: فإن استطعت هذا فافعل ، "وحذف" فافعل ، لأن في الكلام دليلا عليه .

    وقال أبو عبيدة: السلم: السبب والمرقاة ، تقول: اتخذتني سلما لحاجتك ، أي: سببا .

    وفي قوله: فتأتيهم بآية قولان

    أحدهما: بآية قد سألوك إياها: وذلك أنهم سألوا نزول ملك ، ومثل آيات الأنبياء ، كعصا موسى ، وناقة صالح .

    والثاني: بآية هي أفضل من آيتك .

    قوله تعالى: ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فيه ثلاثة أقوال . [ ص: 33 ]

    أحدها: لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم .

    والثاني: لو شاء لأنزل ملائكة تضطرهم إلى الإيمان ، ذكرهما الزجاج .

    والثالث: لو شاء لآمنوا كلهم فأخبر إنما تركوا الإيمان بمشيئته ، ونافذ قضائه .

    قوله تعالى: فلا تكونن من الجاهلين فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى .

    والثاني: لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم .

    والثالث: لا تكونن ممن لا صبر له ، لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين .
    إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون

    قوله تعالى: إنما يستجيب الذين يسمعون أي إنما يجيبك من يسمع ، والمراد سماع قبول .

    وفي المراد بالموتى قولان .

    أحدهما: أنهم الكفار ، قاله الحسن ، ومجاهد وقتادة ، فيكون المعنى: إنما يستجيب المؤمنون; فأما الكفار ، فلا يستجيبون حتى يبعثهم الله ، ثم يحشرهم كفارا ، فيجيبون اضطرارا . [ ص: 34 ]

    والثاني: أنهم الموتى حقيقة ، ضربهم الله مثلا; والمعنى: أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله ، فكذلك الذين لا يسمعون .

    قوله تعالى: ثم إليه يرجعون يعني: المؤمنين والكافرين ، فيجازي الكل .
    وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون

    قوله تعالى: وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قال ابن عباس : نزلت في رؤساء قريش . "ولولا": بمعنى "هلا" وقد شرحناها في سورة (النساء) . وقال مقاتل: أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء . وقال غيره: أرادوا نزول ملك يشهد له بالنبوة .

    وفي قوله تعالى: ولكن أكثرهم لا يعلمون ثلاثة أقوال .

    أحدها: لا يعلمون بأن الله قادر على إنزال الآية .

    والثاني: لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها ، لأنهم إن لم يؤمنوا بها ، زاد عذابهم .

    والثالث: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #200
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ الانعام
    الحلقة (200)
    صــ35 إلى صــ 40


    وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون


    قوله تعالى وما من دابة في الأرض قال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض . قال الزجاج : وذكر الجناحين توكيد ، وجميع ما خلق لا يخلو إما أن يدب ، وإما أن يطير . [ ص: 35 ] قوله تعالى: إلا أمم أمثالكم قال مجاهد: أصناف مصنفة .

    وقال أبو عبيدة: أجناس يعرفون الله ويعبدونه .

    وفي معنى "أمثالكم" أربعة أقوال .

    أحدها: أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: في معرفة الله ، قاله عطاء .

    والثالث: أمثالكم في الخلق والموت والبعث ، قاله الزجاج .

    والرابع: أمثالكم في كونها تطلب الغذاء ، وتبتغي الرزق ، وتتوقى المهالك ، قاله ابن قتيبة . قال ابن الأنباري: وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله تعالى ركب في المشركين عقولا ، وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويتمسكوا بطاعته ، كما جعل للطير أفهاما يعرف بها بعضها إشارة بعض ، وهدى الذكر منها لإتيان الأنثى ، وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها .

    قوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء في الكتاب قولان .

    أحدهما: أنه اللوح المحفوظ . روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب ، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة ، وابن زيد .

    والثاني: أنه القرآن . روى عطاء عن ابن عباس: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم . فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص ، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب ، إما نصا ، وإما مجملا ، وإما دلالة ، كقوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [النحل:89 ]أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين .

    قوله تعالى: ثم إلى ربهم يحشرون فيه قولان . [ ص: 36 ] أحدهما: أنه الجمع يوم القيامة . روى أبو ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر أتدري فيما انتطحتا؟ قلت: لا . قال: لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما . وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول كوني ترابا ، فيقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا .

    والثاني: أن معنى حشرها: موتها ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
    والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم

    قوله تعالى: والذين كذبوا بآياتنا يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم (صم) عن القرآن لا يسمعونه ، "وبكم" عنه لا ينطقون به ، في الظلمات أي: في الشرك والضلالة . من يشأ الله يضلله فيموت على الكفر ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وهو الإسلام .
    قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين

    قوله تعالى: قل أرأيتكم قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، "أرأيتم" "وأرأيتكم" و"أرأيت" بالألف في كل القرآن [ ص: 37 ] مهموزا; ولين الهمزة نافع في الكل . وقرأ الكسائي بغير همز ولا ألف . قال الفراء العرب تقول: أرأيتك ، وهم يريدون: أخبرني .

    فأما عذاب الله ، ففي المراد به هاهنا قولان .

    أحدهما: أنه الموت قاله ابن عباس .

    والثاني: العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية ، قاله مقاتل .

    فأما الساعة ، فهي القيامة ، قال الزجاج : وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد ، وللوقت الذي يبعثون فيه .

    قوله تعالى: أغير الله تدعون أي أتدعون صنما أو حجرا لكشف ما بكم؟ فاحتج عليهم بما لا يدفعونه ، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله .

    و قوله تعالى: إن كنتم صادقين جواب لقوله: "أرأيتكم" لأنه بمعنى أخبروا ، كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين ، فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم؟
    بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون

    قوله تعالى: بل إياه تدعون قال الزجاج : أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلا إياه; وفي ذلك أعظم الحجج عليهم ، لأنهم عبدوا الأصنام .

    فيكشف ما تدعون إليه إن شاء المعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم ، وهذا على اتساع الكلام مثل قوله: واسأل القرية [يوسف:82] ، أي: أهل القرية .

    وتنسون يجوز أن يكون بمعنى "تتركون"; ويجوز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم .
    [ ص: 38 ] ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون

    قوله تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك في الآية محذوف ، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا فخالفوهم ، فأخذناهم بالبأساء; وفيها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الزمانة والخوف ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أنها البؤس ، وهو الفقر ، قاله ابن قتيبة .

    والثالث: أنها الجوع ، ذكره الزجاج .

    وفي الضراء ثلاثة أقوال .

    أحدها: البلاء ، والجوع ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني النقص في الأموال والأنفس ، ذكره الزجاج .

    والثالث: الأسقام والأمراض ، قاله أبو سليمان .

    قوله تعالى: لعلهم يتضرعون أي لكي يتضرعوا . والتضرع: التذلل والاستكانة . وفي الكلام محذوف تقديره: فلم يتضرعوا .
    فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون

    قوله تعالى: فلولا معناه: "فهلا" . والبأس: العذاب . ومقصود الآية: أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا بالشدائد ، فلم يخضعوا ، وأقاموا على كفرهم ، وزين لهم الشيطان ضلالتهم فأصروا عليها .
    [ ص: 39 ] فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون

    قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به قال ابن عباس : تركوا ما وعظوا به . فتحنا عليهم أبواب كل شيء يريد رخاء الدنيا وسرورها . وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر: فتحنا بالتشديد هنا وفي [الأعراف] ، وفي [الأنبياء]: فتحت وفي [القمر]: فتحنا والجمهور على تخفيفهن . قال الزجاج : أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير ، حتى إذا ظنوا أن ما كان نزل بهم ، لم يكن انتقاما ، وما فتح عليهم باستحقاقهم ، أخذناهم بغتة ، أي: فاجأهم عذابنا .

    وقال ابن الأنباري: إنما أراد بقوله: كل شيء التأكيد ، كقول القائل: أكلنا عند فلان كل شيء ، وكنا عنده في كل سرور ، يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه ، كقوله وأوتيت من كل شيء [النمل:23] . وقال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه لم يمكر به ، فلا رأي له; ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له ، فلا رأي له ، ثم قرأ هذه الآية ، وقال: مكر بالقوم ورب الكعبة ، أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا .

    قوله تعالى: فإذا هم مبلسون في المبلس خمسة أقوال .

    أحدها: أنه الآيس من رحمة الله عز وجل رواه الضحاك عن ابن عباس; وقال في رواية أخرى: الآيس من كل خير . وقال الفراء: المبلس: اليائس [ ص: 40 ] المنقطع رجاؤه ، ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته ، فلا يكون عنده جواب: قد أبلس قال العجاج:


    يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا


    أي: لم يحر جوابا . وقيل: المكرس: الذي قد بعرت فيه الإبل ، وبولت ، فيركب بعضه بعضا .

    والثاني: أنه المفتضح . قال مجاهد: الإبلاس: الفضيحة .

    والثالث: أنه المهلك ، قاله السدي .

    والرابع: أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشر ما لا يستطيعه ، قاله ابن زيد .

    والخامس: أنه الحزين النادم ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لرؤبة وحضرت
    يوم الخميس الأخماس وفي الوجوه صفرة وإبلاس .


    أي اكتئاب ، وكسوف ، وحزن .

    وقال الزجاج : هو الشديد الحسرة ، الحزين ، اليائس . وقال في موضع آخر: المبلس: الساكت المتحير .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •