[المجموع 16/ 452 ]
الوجه الثالث: أن القانون الكلي الذي اعتمده الأشاعرة المـتأخرون لتمرير تكذيبهم بنصوص الوحي، بدعوى مخالفتها للعقل، هو بوابة الإلحاد:
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-
"...وفتحتم باباً لكل طائفة، بل لكل شخص، أن يقدم ما رآه بمعقوله علي ما ثبت عن الله ورسوله، بل يعلمه المخبر، ولهذا كان هذا القانون لا يظهره أحد من الطوائف المشهورين ن وإنما كان بعضهم يبطنه سراً، وإنما أظهر لما ظهر كلام الملاحدة أعداء الرسل."اهــ [الدرء 1/ 104]
الوجه الرابع: أن الأشاعرة يرون أن النصوص لا يستفاد منها الهداية في المطالب للكبرى، ويهدرون دلالة النصوص، ويقولون أن النصوص جاءت في ذلك بما ظاهره غير مراد، ولازم ذلك إهدار دلالة النصوص على الهدى فيما هو دون تلك المطالب، من الغيبيات وغيرها، فأنى للأشعري أن يقيم حجة على مكذب للنصوص؟!
قال شيخ الإسلام-رحمه الله- :
"ولهذا آل الأمر بمن يسلك هذا الطريق إلي انهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئاً من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالي وأفعاله، بل وباليوم الآخر عند بعضهم، لاعتقادهم أن هذه فيها ما يرد بتكذيب أو تأويل وما لا يرد، وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة، بل هذا يقول: ما أثبته عقلك فأثبته، وإلا فلا، وهذا يقول: ما أثبته كشفك فأثبته، وإلا فلا، فصار وجود الرسول صلي الله عليه وسلم عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية، بل وجوده ـ علي قولهم ـ أضر من عدمه، لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئاً، واحتاجوا إلي أن يدفعوا ما جاء به: إما بتكذيب، وإما بتفويض، وإما بتأويل، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع." اهـ
[الدرء 1/ 134-135]
الوجه الخامس: أن الأشاعرة سبقوا إلى إسقاط حرمة النصوص، وإسقاط حرمة السلف، والإزراء بهم، والطعن على أئمة الحديث.
قال شيخ الإسلام-رحمه الله-
"فهذه الطرق – يعني في التعامل النصوص-: أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى يقولون: إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع."اهـ [الدرء 2/ 14]
الوجه السادس: أن هذه الدعوة راجعةٌ إلى مبدأ النهي عن التفرق بإطلاق، وهذا مبدأٌ مخالف للكتاب والسنة، والدعوة إلى التوحيد قائمة على مدافعة أهل الباطل، والبراءة منهم، ومعاداتهم، وظهورها يتبعه التفريق بين الناس، وما انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومؤمن وكافر، إلا على هذا الأساس، قال البخاري في صحيحه:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، حَدَّثَنَا - أَوْ سَمِعْتُ - جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: " جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ الجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ،وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ "
فمن دعا إلى هذا المبدأ فهو داعٍ إلى ترك الدعوة إلى التوحيد شاء أم أبى.
الوجه السابع: أن السلف مازالوا يحذرون من الجهمية، ويهجرونهم، ويغلظون عليهم، ويبينون حكمهم، وما تركوا ذلك مراعاةً لشيء من المصالح التي يدعيها هؤلاء في هذا السياق، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
الوجه الثامن: أن مواجهة خطر هذه العقيدة الإلحادية، ليس أقل أهمية من مواجهة خطر غيرها من ملل الكفر، بل خطر هؤلاء أعظم على أهل الإسلام، وقد صارت لهم الغلبة في كثير من الديار.
هذا ما تيسر لي ذكره..
نسأل الله الهداية والسداد، وصلي اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه.