لطالما غفل الكثير من طلاب العلم في أيامنا هذه ــ إلا من رحم ربك ــ عن أمر ما رأيت شيئاً هو أعظم دفعاً في قلب طالب العلم ، ولا أمضى في علاج آفاته ، ولا أكثر عوناً على القول المقترن بالعمل ، والعمل المقترن بالإخلاص ، والإخلاص المقترن بالتواضع ، أقول ما رأيت أمراً هو أجدى في ذلك كله من هذا الأمر الذي دفعني حقيقة إلى أن أكتب هذا الكتاب ، وأبذل فيه جهدي طالباً من الله سبحانه العفو عن الذلل والتقصير .
إذ كلما كان طالب العلم وخاصة علوم الحديث على معرفة ودراية ، بأحوال الرجال وتراجمهم وسيرهم ، كلما علت همته وقويت حافظته واهتدى قلبه وتنور بصره وبصيرته ، فهو إذا رأى عظيم شأنهم ، وكثرة رحلتهم في طلب العلم ، وتكبدهم المشقات ، وتعدد فنونهم وعلومهم ، وطول سهرهم وقيامهم ، وحالهم مع ربهم وورعهم ، نظر إلى تقصيره واحتقر عمله واستصغر شأنه ، فشدّ مئزره وقام يلحق القوم ويسير على قدمهم ، ويخطو خطواتهم .
ولقد عُرِفَ علماء المسلمين بحبهم للرحلة في طلب العلم والإسناد العالي ، فنرى أحدهم يسافر من بلد إلى بلد ليجلس بين يدي أحد العلماء الكبار ليأخذ عنه حديثاً أو حديثين لا يجدهما عند غيره من العلماء ، واقرأ كتاب ( الرحلة في طلب الحديث ) للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي ترى العجب العجاب من أمر علماء المسلمين ، وشدّة حرصهم على العلم والإسناد العالي في الحديث الشريف .
ورحم الله أبا الفضل العباس بن محمد الخراساني إذ ينشد فيقول :
رحلتُ أطلبُ أصل العلمِ مجتهداً وزينة المرءِ في الدنيا الأحاديثُ
لا يطلب العلم إلا باذلٌ ذكرٌ وليسَ يُبغضُهُ إلا المخــانيثُ
لا تُعجَبَنَّ بمالٍ ، سوف تتركُه فإنما هـذه الدنــيا مواريثُ
إذ لما كان للإسناد أهمية كبيرة في صيانة الشريعة من التحريف والتبديل ، وحفظها من الزيادة أو النقص ، إذ بوساطته يمكن الاعتماد على صحة الحديث أو ضعفه ، أو أنه خبر موضوع لا أصل له ، لأننا حين نسمع بالخبر نعود إلى طريقه وهو السند ، فنتعرف على رجاله وأحوالهم وصفاتهم ، ونبحث عن أخلاقهم ومدى صدقهم والتزامهم لدينهم ، وعن صلة بعضهم ببعض وإمكان نقله عنه ونحو ذلك ، وعندها نقبل الحديث أو نرده ، بناءً على ما نتوصل إليه بنتيجة البحث والتمحيص ، ولولا السند والإسناد لما كان بالإمكان معرفة شيء من ذلك .
وهذه الطريقة في رواية الأخبار بالسند لم تكن معروفة قبل الإسلام ، حتى إذا جاء الإسلام وجدنا أن المسلمين يقررون : أن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، ويقررون : أن الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، ويقررون : أنه لا يؤخذ بالخبر ، ولا يضاف إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا إذا عرف من حدث به عنه ، ومن نقله إلينا ، وعرف حاله من الصدق والضبط وقوة الحفظ .
وإذا كان الإسناد في الأخبار من خصائص هذه الأمة الإسلامية ، فذلك مزيد فضل الله تعالى الذي امتن به عليها إذ وعدها بحفظ ما أوحى به إلى نبيها عليه الصلاة والسلام من تشريع فقال جل وعلا : { إنـَّا نحن نزَّلنا الذِّكرَ وإنـَّا له لحافظون } [ الحجر9 ] ، وإذا كان الذكر هو القرآن الكريم ، فإن حديث النبي عليه الصلاة والسلام هو المبين له ، والمفصل لأحكامه ، فكان حفظه بحفظه .
واسمع لكلام الإمام الشافعي رضي الله عنه إذ يقول : ( مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى وهو لا يدري ! ) وقال بعض الحفاظ : ( مثل الذي يطلب دينه بلا إسناد مثل الذي يرتقي السطح بلا سلم ، فأنى يبلغ السماء ! ) ، وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى : ( ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد ) ، وقال الحافظ يزيد بن زُرَيْعٍ رحمه الله تعالى : ( لكل دين فرسان ، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد ) ، وهذا أبو العالية يقول : ( كنا نسمع بالرواية عن أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم بالمدينة بالبصرة فما نرضى حتى أتيناهم فسمعنا منهم ) ، وقال الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : ( طلبُ علوِّ الإسنادِ من الدين ) .
فإذن خصيصة الإسناد هذه أهم خصائص الأمة المحمدية ، فقد كان السند هو الشرط الأول في كل علم منقول فيها ، حتى الكلمة الواحدة ، يتلقاها الخالف عن السالف ، واللاحق عن السابق بالإسناد .
منقول بتصرف،
للاستزادة من هذا الموضوع من هنا |