وبعيداً عن الدلالات السياسية التي تؤكد روح الاستبداد والاستعلاء لدى السّاسة في هذا العصر، والتي يؤكدها بوضوح إقدام العزيز على سجن يوسف، وهو يعلم براءته لمجرد القضاء على الشائعات التي تلوكها الألسنة.
بعيداً عن هذه الدلالة السياسية؛ ثمة دلالة اجتماعية خطيرة تفيدنا أن المرأة -في الطبقة العليا بخاصة- كانت تتمتع بنفوذ كبير، وأن المرأة - من هذه الطبقة من الطبقات العليا في مصر - لم تكن تأبه كثيراً بنفوذ زوجها، ولا شخصيتـّه، فهي تتصرف، وتـُعبّر عن أهوائها بحرية كبيرة.
إن موقف عزيز مصر، كما يصوره القرآن بخاصة -والتوراة بدرجة كبيرة- من هذا الأمر الذي نشأ بين زوجته ويوسف؛ كان موقفاً متخاذلاً، يقترب بصاحبه من (الديوثية)؛ أي انعدام الغيرة تقريباً، والسكوت على المنكرات في بيته؛ فقد اكتفى بتعليق ضعيف أورده القرآن على لسانه قائلاً: ﴿ يوسفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ ﴾ [1] ، فالذي يهمّه هو أن يسكت يوسف عن الأمر؛ حتى لا يشيع، وأن تكف زوجته عن ملاحقة يوسف، ولم نجد في التوراة - مع أنها ذكرت اتهام امرأة العزيز ليوسف بالمبادرة - ما يوحي باتخاذ موقف عنيف من زوجها تجاه يوسف... بل استمر يوسف في القصر كما هو!
ولعل التفسير الصحيح يتلخص في الثقة الكاملة لعزيز مصر في أخلاق يوسف ودينه، وإلا لما قبل هذا الوضع غير العادي... وهذا تاج يستحقه يوسف الكريم النقيّ التقيّ (عليه السلام).
• ولم يقف الأمر عند زوجة العزيز التي راودت يوسف؛ بل مما يؤكد تفسخ الحياة الاجتماعية في الطبقة العليا؛ ما فعلته امرأة العزيز حين علمت بأن نسوة الطبقة العليا يتحدثن عنها حديثاً لا يسرّها، ليس لمجرد إقدامها على المراودة؛ بل لأنها راودت (خادماً يعمل في قصرها)، كان (عبداً) اشتراه زوجها.. فأغضبها حديثهنَّ عنها، وأرادت تلقينهنّ درساً، فدعتهنّ إلى بيتها كما يقول الله تعالى في القرآن: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ امْرَأَةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ﴾[2]، فالقضية هي مراودة (فتاها) - كذنب أول - ثم تأتي المراودة كذنب في الدرجة التالية.
• ولأنها تدرك حقيقتهن فقد اعتبرت أقوالهنّ مكراً، ومحاولة للاستعلاء، وليس تعبيراً عن جريمة مستغربة.. فقاومت المكر بمكر، والمكيدة بمكيدة، وكما يقول الله في القرآن: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ... ﴾[3].
وهكذا ردت الكيد بالكيد، وانتصرت عليهنّ، وأرتـْهنّ أن هذا (الفتى الخادم) ليس بشراً عادياً كما اعترفن بألسنتهنَّ!!.
وهنا نقف عند هذا الاعتراف الجماعي، الدال على الإعجاب بيوسف من نسوة الطبقة العليا عندما قلن: إن يوسف ليس بشراً؛ وإنما هو ملك كريم، فهذا يعني أن هؤلاء النسوة لا يردعهنّ رادع، ولا يخشين أزواجاً، ولا مجتمعاً، فهنّ يعبّرن عن مشاعرهنّ بطريقة علنية صريحة وبتقطيع أصابعهن، وكأنَّ كل واحدة منهنّ قد دخل يوسف في قلـبها فوراً، فلم تستطع أن تعبّر عن إعجابها به إلا بهذه الكلمات الصارخة بالحب والرغبة معاً، وكأننا نلمح - أيضاً - بأنه لا مكان لأزواجهنَّ في قلوبهنّ، فهي قلوب مفتوحة فارغة، مستعدة للامتلاء بأي وافد ذي طبيعة جمالية كمالية مثل يوسف.
والقرآن يصور هذا على لسان يوسف عندما يقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [4] .... فهي دعوة شاملة من نسوة ينتمين إلى طبقة متحررة متفسخة مترفة...
ولماذا لا يكن مترفات، وهن يأكلن الفاكهة... وربما اللحوم -بالسكاكين- قبل عدة آلاف من السنين؟!
وهذا بُعْدٌ يضاف إلى الأبعاد التي تؤكد على الطبيعة الاجتماعية المتحررة، وعلى المكانة غير الطبيعية للمرأة في مصر في تلك العصور.
وأما البُعْد الأخير؛ فيتمثل في هذه الصراحة التي تبلغ حدّ التسيّب الكامل، والتي عبرت عنها زوجة العزيز أمام هذا الجمع بعد أن ردّت كيدهنّ، وافتضحّن أمامها، فقالت بكل جرأة وهي ترى أثر السكاكين والدماء باقية في أصابعنّ: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴾[5].
• وهنا نلمح بعض الدلالات الإضافية على الحياة الاجتماعية، وحرية المرأة؛ التي تصل حدّ الاستخفاف بالقوانين، والابتذال في التعبير عن الرغبة.
• فامرأة العزيز ـ تعلن أمام الجميع ليشهدن عليها ـ أنها هي التي راودته عن نفسه، غير مبالية بزوجها، أو مكانته السياسية، وغير مبالية بالمجتمع، والقوانين، وتعلن -أيضاً- إنه (استعصم)؛ أي أنه عصم نفسه منها، ورفضها، وتعلن كذلك بجرأة غريبة؛ قرارها الذي يقضي بخضوعه لرغباتها، وضرورة تنفيذه كل أوامرها..
وأخيراً تلغي الدولة، والقوانين قائلة: إنه إذا لم يفعل ما تأمره به من الفاحشة ليسجنْن وليعاملَنّ معاملة مهينة تجعله صغيراً في أعين الناس!!
إننا أمام لوحة حافلة بتصوير اجتماعي وسياسيّ معجز - مع الإيجاز الشديد الذي يصل أيضاً حدّ الإعجاز- وكأننا بهذه السطور القليلة نرى صورة المجتمع أمامنا، ممثلاً في الطبقة الحاكمة، وأختها المترفة؛ اللتين بلغت فيهما المرأة هذه الدرجة من الجرأة، ومن التبذل، ومن السيطرة على الدولة، والقوانين، لدرجة الوعيد بالسجن لمن لا يستجيب لنداء الفاحشة، ملغية أجهزة الحكم، والقانون.
• ونحن لا نعتقد أن هذه الصورة لصيقة بعهد الهكسوس فقط في مصر، فالمرأة كانت في كثير من عهود الأسرات الفرعونية الحاكمة شبه إلهه، وكان لها عالمها الخاص الكبير.
• وما كان أمام يوسف في مواجهة هذا التسيب القانونيّ، والأخلاقيّ إلا أن يقبل راضياً بالسجن بعيداً عن هذا المجتمع؛ الذي انحط إلى هذه الدرجة: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾[6].
ومن هنا نفهم لمحة أخرى تتعلق برفض يوسف الخروج من السجن إلا بعد أن تثبت براءته من خلال الوقائع التي مضت، ومن خلال اعتراف امرأة العزيز، واعتراف النسوة؛ حتى يخرج إلى المجتمع قائداً لاتجاه إصلاحي أخلاقي جديد، يمكنه من خلاله أن يزرع الأخلاق، والقيم على أساس عقيدة التوحيد، وهو لن يستطيع ذلك إلا إذا كان نظيفاً كل النظافة، بريئاً كل البراءة؛ بل على العكس يحمل صفحة بيضاء؛ حين قاوم أشد المقاومة أيام كونه خادماً، وضعيفاً في بيت العزيز كل الإغراءات الغرائزية، والفوضى الأخلاقية، فكيف به وهو يُمَكـَّن له في الأرض بفضل الله؛ لإنقاذ البلاد والعباد.
إنه بالتأكيد سيكون مثلاً أعلى، وأقوى، وأقدر على ذلك.
• واللوحة بكامل أبعادها كما بسطنا القول فيها ـ تقدم إعجازاً قرآنياً في تصوير الحياة الاجتماعية والنفسية لشريحة كبيرة من المجتمع المصري في هذا العهد -من جانب- ولمقاومة يوسف الإيمانية، وحرصه على نقاء سيرته في كل الحالات -من جانب ثان- ولأسلوبها الموجز المعجز من جانب ثالث.
-----------
[1] سورة يوسف، آية: 29.
[2] سورة يوسف، آية: 30.
[3] سورة يوسف، آية:31، 32.
[4] سورة يوسف، آية: 33.
[5] سورة يوسف، آية: 32.
[6] سورة يوسف، آية: 33.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/web/aweys/0/1...#ixzz6YCgwbLTi