الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إنّ الناس بطبيعتم يتفاوتون ويتباينون في أخلاقهم وأقوالهم وألفاظهم، ومسالكهم وتصرفاتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وهي على حالين ووصفين: إما أن تكون طيبة صالحة، وإما أن تكون خبيثة سيئة، لذا فإن الواجب على العبد أن يصاحب الأخيار الأبرار، وأن يختار الجليس الطيب الصالح، الذي تعود مجالسته بالخير والنفع على من جالسه، ويتجنب مجالسة الجليس السيء الذي تعود مجالسته بالشر والضرّ على من جالسه، ولقد ضرب نبينا صلوات ربي وسلامه عليه المثل في صنفين من الجلساء، ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: « مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ والسَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ: إمّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمّا أنْ تَبْتاعَ منه،وإمّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ:إمّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَة » «أخرجه البخاري (٥٥٣٤) واللفظ له، ومسلم (٢٦٢٨)».
وفي رواية عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ والجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ الحَدّادِ، لا يَعْدَمُكَ مِن صاحِبِ المِسْكِ إمّا تَشْتَرِيهِ، أوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وكِيرُ الحَدّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أوْ ثَوْبَكَ، أوْ تَجِدُ منه رِيحًا خَبِيثَةً».
«أخرجه البخاري (٢١٠١) واللفظ له، ومسلم (٢٦٢٨)».
يبين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الحديث صنفين من الناس، وهما الجليس الصالح، والجليس السوء، ويضرب مثلًا بهما، لتتضح صفاتهما:
فقوله: «مَثَلُ الجَلِيس الصالحِ»، أي: حال الجليس الذي يقوم بمجالسة غيره، بحيث يدله على ما يقرّب من الله جل وعلا من الأقوال والأعمال، والقربات والطاعات.
«والجليس السُّوء»، أي: الذي يقوم بمجالسة غيره، بحيث يصده عما يقرّب العبد من الله جل وعلا من الأقوال والأعمال، والقربات والطاعات، ويوقعه في الخطايا والمعاصي والزلات.
فمثل وحال الجليس الصالح «كَمَثَلِ صاحبِ المِسْكِ»، أي: حامل المسك، ومثل وحال الجليس السوء «كِيرِ الحدّادِ»، أي: كصاحبِ الكِيرِ، وهو الزِقٌّ أو الجلد الغليظ الذي تُنْفَخُ به النار.
وقوله: «لا يَعْدَمُكَ من صاحبِ المسكِ»، أي: لا تفقد منه أحد أمرين: «إمّا تَشْتَرِيهِ، أو تَجِدُ رِيحَهُ»، أي: إمّا أن تشتري من المسك والعود والعطور التي يبيعها، فإن لم يتحقق هذا الشراء، فإنك ستجد وتشتم من مسكه ريحه الطيب، فإذًا أنت ستنتفع في كلا الحالين:
إما بالشراء أو شم أطايب ريحه، وحال هذا كحال مجالسة الأتقياء والأنقياء والأصفياء والصالحين، التي تنتفع منها على أي حال، فمجالستهم تعود بالخير عليك، والنفع لك.
وقوله: «وَكِيرُ الحدّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أو ثَوْبَكَ»، أي: يؤثر على دينك وتقواك كما يؤثر على بدنك وجسدك، بالحرق والعياذ بالله تعالى.
«أو تَجِدُ منه ريحًا خبيثةً»، أو ستشتم منه ريحًا دنيئة كريهة، تؤذي كل من شمّها واقترب منها.
لذا الكيس العاقل يقترب من الجليس الطيب الصالح، ويبتعد عن الجليس الخبيث السيء، فإن في مجالسة الأتقياء الصالحين ثمار طيبة، وآثار جميلة حسنة، فمجالسة الصالحين فيها إعانة للعبد على طاعة الله ربّ العالمين.
كما قال ابن القيم: «مجالسة الصالحين تحولك من ستة إلى ستة:
1- من الشك إلى اليقين
2- ومن الرياء إلى الإخلاص
3- ومن الغفلة إلى الذكر.
4- ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة
5- ومن الكبر إلى التواضع
6- ومن سوء النية إلى النصيحة»
«مدارج السالكين/ 3/322»
فالمجالسة إذًا مؤثرة على صاحبها بخير أو بسوء، حتى أن الشعراء قالوا قولتهم وحذروا من صديق السوء، ورغبوا في الصديق الصالح.
• فقال أحدهم:
تجنب صديق السوء واصرم حباله
وإن لم تجد عنه محيصًا فداره
وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه
تنل منه صفو الود ما لم تماره
• وقال أحد الشعراء:
وصاحب إذا صاحبت حرًا مبرّزًا
يزين ويزرى بالفتى قرناؤه
• وقال أحد الشعراء:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكلّ قرينٍ بالمقارن مقتدى
ولا شك أن مجالسة الإنسان لنفسه أفضل من جليس غويٍّ سيء الخلق واللسان، وهذا أسلم وآمن لأخلاق الإنسان، وكما قال الشاعر:
إذا لم أجد خلًا تقيًا يؤانسني
فوحدتي خيرٌ وأشهى من غوي أعاشره
وأجلس وحدي للعبادة آمنًا
أقرَّ لعيني من جليس أحاذره
هذا ما تيسر ايراده، نسأل الله جل وعلا أن ينفع به، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا صحبة الأخيار الأبرار في الدارين، وأن يجنبا صحبة الأشقياء الأشرار.


والحمد لله ربّ العالمين
الدكتور/ كامل صبحي صلاح
أستاذ الفقه وأصوله
17/محرم/1442ه


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/141905/#ixzz6XkEPZxYa