إن موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، مِنْ أعظمِ أصول الإيمانِ، وإنْ تساهلَ فيها البعضُ في هذه الأزمانِ،
بل جعلها الله شرطٌ في الإيمانِ كما قال-:
(تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُون * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).
إنَ الكفارَ بجميعِ أصنافِهم هم أعداؤُنا قديماً وحديثاً،
لذا نهى اللهُ عبادَهُ المؤمنين عنْ مُوَالاتِهم ومودتِهم
فقال سبحانه -:
(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير)
ذكر العلماء جملة من القواعد في هذا الباب:
القاعدة الأولى:
وجوب معاداة الكفار وبغضهم وتحريم موالاتهم ومحبتهم جاءت في كتاب الله صريحة ومتنوعة،
بل إنها في صراحتها لا تخفى على العالم ولا العامي ولا على الصغير غير المكلف،
بل نص أهل العلم على أنه ليس في كتاب الله - تعالى -حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده،
ومن الآيات الدالة على هذا الأمر قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق).
وقال سبحانه -: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً).
وقال سبحانه -: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة).
ويقول جل وعلا -: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون).
القاعدة الثانية:
أن الوقوع في هذا المنكر العظيم والجرم الخطير ألا وهو موالاة الكفار ومحبتهم، أو توليهم ونصرتهم قد يخرج الإنسان من دين الإسلام بالكلية بنص كتاب الله - عز وجل -، واسمع إلى قول الله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين). قال حذيفة - رضي الله عنه -: "ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر لهذه الآية
ويقول القرطبي - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: "أي من يعاضدهم ويناصرهم على المسلمين فحكمه حكمهم في الكفر والجزاء، وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة وهو قطع الموالاة بين المسلمين والكافرين أ. هـ. ويقول -سبحانه -: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء).
قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: يعني فقد بريء من الله وبريء الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر" أ. هـ.
القاعدة الثالثة:
أن الأصل في معاداة الكفار وبغضهم أن تكون ظاهرة لا مخفية مستترة، حفظاً لدين المسلمين،
وإشعاراً لهم بالفرق بينهم وبين الكافرين حتى يقوى ويتماسك المسلمون ويضعف أعداء الملة والدين،
والدليل على هذا قوله - تعالى -آمراً نبيه والأمة كلها بأن تقتدي بإبراهيم - عليه السلام - إمام الحنفاء وأن تفعل فعله
حيث قال - سبحانه -: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)
وتأمل بعض الفوائد من هذه الآية العظيمة الصريحة التي لم تدع حجة لمحتج:
1- أنه قدم البراء من الكافرين على البراءة من كفرهم لأهمية معاداة الكفار وبغضهم وأنهم أشد خطراً من الكفر نفسه،
وفيها إشارة إلى أن بعض الناس قد يتبرأ من الكفر والشرك ولكنه لا يتبرأ من الكافرين.
2- أنه لما أراد أن يبين وجوب بغضهم عبر بأقوى الألفاظ وأغلظها فقال:
(كفرنا بكم) لخطورة وعظم الوقوع في هذا المنكر.
3- أنه قال: (بدا) والبدو هو الظهور والوضوح وليس الخفاء والاستتار فتأمل هذا وقارنه بمن ينعق في زماننا بأنه لا يسوغ إظهار مثل هذه المعتقدات في بلاد المسلمين حتى لا يغضب علينا أعداء الدين، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
4- تأمل معي قوله: (العداوة والبغضاء) فلا يكفي بغضهم بل لا بد من إظهار العداوة لهم بل إنه قدم العداوة على البغضاء لتأكد وجوبها.
5- قوله: (أبداً) أي إلى قيام الساعة، ولو تطور العمران وركبنا الطائرات وعمرنا الناطحات،
فهذا أصل أصيل لا يزول ولا يتغير بتغير الزمان ولا المكان.
القاعدة الرابعة:
أن حرمة موالاة الكفار تزداد وتتأكد في حق من كان محارباً مقاتلاً للمسلمين، مخرجاً لهم من ديارهم، صاداً لهم عن دينهم كما قال - تعالى -: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
القاعدة الخامسة:
أن هذه القضية أعني وجوب معاداة الكافرين وبغضهم أمر لا خيار لنا فيه،
بل هو من العبادات التي افترضها على المؤمنين كالصلاة وغيرها من فرائض الإسلام
وقد تقدمت الآيات الصريحة الدالة على هذا الأمر،
فلا تغتر بمن يزعم أن هذا دين فلان أو فلان، بل هذا دين رب العالمين، وهدي سيد المرسلين.
القاعدة السادسة:
أن هذا الأمر من الشرائع التي فرضت على كل الأنبياء والرسل،
أعني معاداة أعداء الله والبراءة منهم،
فهذا نوح يقول الله له عن ابنه الكافر: (إنه ليس من أهلك)،
وهذا إبراهيم يتبرأ هو ومن معه من المؤمنين من أقوامهم وأقرب الناس إليهم بل تبرأ من أبيه فقال: (واعتزلكم وما تدعون من دن الله)،
وأصحاب الكهف اعتزلوا قومهم الذين كفروا حفاظاً على دينهم وتوحيدهم قال \ جل وعلا - عنهم: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً).
القاعدة السابعة:
إن قضية الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين مرتبطة بلا إله إلا الله ارتباطاً وثيقاً،
فإن لا إله إلا الله تتضمن ركنين:
الأول: النفي وهو نفي العبودية عما سوى الله والكفر بكل ما يعبد من دون الله وهو الذي سماه الله عز وجل - الكفر بالطاغوت.
والثاني: الإثبات : وهو إفراد الله بالعبادة. والدليل على هذين الركنين قوله - تعالى -: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)
ومن الكفر بالطاغوت الكفر بأهله كما جاء في قوله تعالى -:
(كفرنا بكم) وقوله: (إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله)
إذ لا يتصور كفر من غير كافر، ولا شرك من غير مشرك،
فوجب البراءة من الفعل والفاعل حتى تتحقق كلمة التوحيد كلمة لا إله إلا الله.
القاعدة الثامنة:
فَرّق بعض أهل العلم بين الموالاة والتولي،
وقالوا: إن موالاة الكفار:
معناها المصانعة والمداهنة للكفار لغرض دنيوي مع عدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة عندما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمثل هذا يعتبر كبيرة من الكبائر، وليست بكفر ينقل عن الملة،
ولهذا النوع مظاهر معاصرة كالتشبه بهم في اللباس وفي الهيئة أو حضور أعيادهم وتهنئتهم بها، وغيرها من مظاهر الموالاة التي لا تعد كفراً ناقلاً عن الملة.
وأما التولي فهو:
الدفاع عن الكفار وإعانتهم ونصرتهم بالمال والبدن والرأي والمشورة ولو بقلم أو كلمة، وهذا كفر صريح وخروج عن الملة كما جاءت بذلك الآيات.
القاعدة التاسعة:
هناك فرق بين بغض الكافر وعداوته وبين معاملته ودعوته إلى الإسلام، فالكافر لا يخلو إما أن يكون حربياً، فهذا ليس بيننا وبينه إلا السيف وإظهار العداوة والبغضاء له، وإما أن يكون ليس بمحارب لنا ولا مشارك للمحاربين، فهذا إما أن يكون ذمياً أو مستأمناً أو بيننا وبينه عهد، فهذا يجب مراعاة العهد الذي بيننا وبينه، فيحقن دمه ولا يجوز التعدي عليه، وتؤدى حقوقه إن كان جاراً، ويزار إن كان مريضاً، وتجاب دعوته بشرط دعوته للإسلام في كل هذه الحالات، وعدم الحضور معه في مكان يعصى الله فيه، وبغير هذين الشرطين لا يجوز مخالطته والأنس معه، فصيانة الدين والقلب أولى وأحرى، بل أُمرنا عند دعوتهم بمجادلتهم بالتي هي أحسن كما قال جل وعلا -: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وقال عمن لم يقاتلنا: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).
القاعدة العاشرة:
يجوز في بعض الحالات [أن تتقيهم بظاهرك ان كنت تخشى على نفسك]، وهذا فقط في الظاهر لا في الباطن، كما قال جل وعلا -: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير)
قال ابن كثير - رحمه الله -: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) قال: أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل، إنما التقية باللسان"،...
قال ابن جرير عند تفسير قوله:
(إلا أن تتقوا منهم تقاة)، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل.
الشيخ. ناصر بن محمد الأحمد المختار