رحمات الله الواسعة على شيخنا د محمد رجب
كتب : خالد القاضي
اليوم وببالغ الحزن والأسى بلغني خبر وفاة الشيخ المسند د محمد رجب، بقية السلف، الشيخ الفقيه الزاهد، والذي أكرمني الله بالتتلمذ على يديه، فتلقيت عنه الشمائل المحمدية للترمذي، والشيخ رغم أنه كان يحمل سندا موصولا لكل كتب السنة تقريبا، بالإضافة إلى ما يحمله من تخصص في الشريعة إلا أنه كان من تواضعه لايخبر إحدا بمؤهلاته وأسانيده، وأذكر أني مرة من المرات كتبت له ترجمه، فحذفها وتعجب من أين حصلت عليها، فهو رحمة الله عليه يصدق فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ منَ النَّاسِ ، ولَكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ ، حتَّى إذا لم يترُك عالمًا اتَّخذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا ، فسُئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلُّوا وأضلُّوا.» والدكتور محمد رجب محمد لمن لا يعرفه: ولد في الإسماعيلية سنة 1967، ولكنه رحل وهو صغير مع الأسرة إلى الإسكندرية بسبب حرب النكسة، وهو يذكر في تلك الفترة حضوره مع والده خطبا للشيخ المحلاوي حفظه الله، ثم رجع إلى الإسماعيلية في أواخر السبيعينيات مع الأسرة، وقد ذكر أن من جميل فعل الله تعالى أن الأسرة سكنت بجوار الشيخ علي المزين رحمه الله تعالى، والذي أحبه الشيخ جدا ولازمه، وكان يصلي معه، وكانوا يفترشون مكانا بجوار بيت الشيخ علي ويصلون فيه، وقد ذكر الشيخ أن الشيخ عليا كان يحبه ويقربه. وكان يرتاد مسجد الاستقامة صغيرا ويسمع للأساتذة والدعاة مثل المهندس محمد كريم وكان يرأس العمل الدعوي وقتها على ما يذكر، ومن جميل فعل الله بالشيخ كذلك أن الشيخ المجاهد المهندس السكندري/ أنور شعبان رحمه الله تعالى كان يعمل في نفس الشركة التي يعمل بها والده، فارتبط به وأحبه وتأثر به، وكان على المنهج السلفي ، ويذكر أن الشيخ أنور رحمه الله من أشد الناس التزاما بالسنة والهدي الظاهر، وكان فيه شدة رحمه الله.
ولما حصلت أحداث التحفظ في أواخر عهد السادات خاف والد الشيخ عليه فمنعه الذهاب إلى مسجد الاستقامة، ثم سجن المتدينون، ومرورا بقتل السادات إلى خروجهم لم يكن للشيخ علاقة بأحد منهم إلا قليل منهم، كالشيخ عبدالعزيز ندا الذي كان يحبه ويعتبره أحسن الناس صوتا بالقرآن، وكذلك الأستاذ الشيخ حمدي عبيد والذي كان بمثابة الأخ الأكبر للشيخ، خصوصا بعد دخوله الجامعة وقد رده الله تعالى إلى الإخوة ومجتمع المتدينين، وكان الشيخ حمدي أقربهم في ذلك الوقت، ولما بدأت الدعوة في الجامعة استجاب كثير من زملاء الشيخ بفضل الله وتم إنشاء أسرة بكلية الطب، وهي أسرة "طيبة"، وارتبط الشيخ بثلاثة معه شاركوه العمل والدعوة وهم الأستاذ الدكتور محمد رضوان، والدكتور عبد الحميد مصطفى، والدكتور محمد عباس، وبارك الله تعالى في تلك الدعوة، حتى تدين معظم تلك الدفعة طلبة وطالبات، وكان للشيخ درسان في مسجد الجامعة، ثم حمَّله إخوانه في الجامعة مسؤولية العمل الدعوي، وكان مساعده الأستاذ محمد جمعة من كلية التجارة، وكان عضوا في الجماعة الإسلامية وقتها، وكان الأستاذ محمد أنيس وقتها معتقلا.
ورحل الشيخ في بداية العمل الدعوي إلى فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ أسامة عبدالعظيم والذي يعتبر أكثر الناس تأثيرا فيه وإفادة له، والتزمه مدة يتعلم منه علوم الشرع وطرق التربية، وفضيلة الشيخ أسامة كما معلوم أن له مدرسة في التربية والتعبد، وأحب الشيخ بسبب حبه لفضيلة الشيخ علم أصول الفقه فقرأ ودرس وكان يسأل فضيلة الشيخ في كتبه الأصولية.
وكان الشيخ يخطب الجمعة في مسجد صغير، ثم انتقل بعد ذلك إلى مسجد عباد الرحمن ، وكان له درسان فيه، أحدهما في فقه الإمام أحمد، وقد انتفع فيه بفضيلة الشيخ الأزهري عبدالرزاق خفاجة رئيس لجنة الفتوى بالجامع الأزهروقتها، والدرس الآخر في العقيدة أو التربية. وكان الشيخ ينتفع بصحبة ومجالسة الأساتذة والشيوخ من المسجد كالشيخ سيد عبدالمقصود وأخيه الشيخ أشرف، والشيخ حسين الجمل، والشيخ محمد حسن عويس، ثم تخرج الشيخ من الجامعة.
ووفي أوائل التسعينيات اعتقل اخوة ومشايخ السلفية - وعلى رأسهم الشيخ الحبيب الفاضل واعظ البلدة محمد الشاذلي حفظه الله تعالى- فحمَّل الله تعالى الشيخ مسؤولية الدعوة، والتقى بالشيخ ياسر برهامي، ومن حينها توثقت العلاقة بينهما خصوصا وبين الشيخ ومشايخ الإسكندرية عموما، خاصة الشيخ أحمد فريد، ثم فضيلة الشيخ محمد إسماعيل.
وهو مع ذلك يتردد إلى بعض أهل العلم بالقاهرة كالشيخ محمد مصطفى اللغوي رحمه الله تعالى والشيخ الفقيه فريد هنداوي، مع تواصل بفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور أسامة .وقد انتفع الشيخ كذلك بمجالسة ومدارسة فضيلة الشيخ الدكتور محمد الدبيسي ، وكانت للشيخ مع فضيلته صلة وصحبة.
وقد التحق الشيخ بجامعة الأزهر بكلية الشريعة، بعد تخرجه من كلية الطب، وحصل على الليسانس، ثم انقطع عن الأزهر طويلا لظروف العمل والمرض، و حصل الشيخ على دبلوم الدراسات العليا، وأعد رسالة الماجيستير في الفقه المقارن لكن لم ييسر مناقشتها. وللشيخ كتابات شهد لها أهل العلم وقرظوها، منها العلمي التأصيلي كمنظومة: "رفع الاشتباه عن مهمات من المغالاة" وقد شرح الشيخ الفصل الأول منها، ومنها التربوي والدعوي، كما أن للشيخ عددا كثيرا جدا من الدروس المسجلة في الفقه وأصوله والتفسير والحديث، إلى جانب التربية والأدب والذي اشتهر منهج الشيخ به، وقد سجلت هذه الدروس في مجالس خاصة وعامة، لكن معظمها لم ينشر، خاصة وأن الشيخ كان ممنوعا من الخطابة والتدريس أكثر من عشر سنوات. وللشيخ طلبة ببلدته وخارجها خاصة في قطر، و َمن تتلمذ له من طلبة العلم غير العرب، من أوروبا وروسيا وغيرها،كان الشيخ عضوا مؤسسا وأمينا مساعدا للهيئة الشرعية للحقوق والاصلاح وعضو برابطة علماء أهل السنة، المدير العلمي لمعهد الحرمين الشرعي للطلاب الأجانب، المدير العلمي لدار اليسر للبحوث وإعداد المناهج . وغادر الشيخ مصر عقب الأنقلاب لرفضه إياه وشغل منصب عضوية اللجنة الشرعية لمؤسسة (راف) القطرية، وظل ثابتا على طريقته ومنهجه في التربية والتزكية والإصلاح ولم شمل الحركات الإسلامية، فكتب الله له القبول من كافة أطايافها، وحمل منهج العالم الذي ينبغي أن يبني ويربي، فكان من نعم الله علينا أن نفعنا الله بسمته وهديه وعلمه وحكمته، وظل رحمة الله عليه على تواصل معي نستفتيه في أمورنا في أستراليا، وننتفع بعلمه وحكمته، وقد بلغني أن الشيخ مات مصابا بالكرونا، ونحسب هذا من حسن الخاتمة والشهادة في سبيله ، وأنه كالمبطون، مصداقا لقول النبي ﷺ يومًا لأصحابه: «ما تعدون الشهيد فيكم قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذًا لقليل قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد» [رواه مسلم: 5050].
فنسأل الله تعالى للشيخ العفو والعافية والمعافاة التامة وأن يجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى من الجنة .