التشبيه المستطرف: رؤية نقدية (1/2)
عيد شبايك
يقول ذو الرمة[87]:
وَعَيْنَانِ قَالَ اللهُ كُونَا فَكَانَتَا *** فَعُولاَنِ بِالأَلْبَابِ مَا تَفْعَلُ الخَمْرُ
ويقول أبو نواس[88]:
تَسْقِيكَ مِنْ لَحْظِهَا خَمْرًا وَمِنْ يَدِهَا *** خَمْرًا فَمَا لَكَ مِنْ سُكْرَيْنِ مِنْ بُدِّ
ويقول المتنبي[89]:
رَأَيْنَ التِي لِلسِّحْرِ فِي لَحَظَاتِهَا *** سُيُوفٌ ظُبَاهَا مِنْ دَمِي أَبَدًا حُمْرُ
وجاء حفني ناصف فخرج من هذه الطريقة في بعض ما نظم وكان مجددًا حقًّا حين قال:
فَهْيَ كَالكَهْرُبَاءِ تُومِي بِلَحْظٍ *** فَتَدُقُّ الأَجْراسُ فِي الأَكْبَادِ
ولعل ذلك راجع إلـى تطوُّر العادات والنظُم والعُقول والأفكار وما يستجد في البيئة من مخترعات، والصور البيانية بحكم طبيعتها المرنة, معرض واسع للجديد، وحقل خصيب للإبداع والاختراع[90].
ومن التشبيهات التي عدَّها ابنُ رشيق منَ المبتكر الذي لم يسبق إليه, ولا جاء أحد من الشعراء قبله بنظيره قول امرئ القيس [91]:
سَمَوْتُ إِلَيْهَا بَعْدَمَا نَامَ أَهْلُهَا *** سُمُوَّ حَبَابِ المَاءِ حَالاً عَلَى حَالِ
فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشُّعَراء إليه[92].
ولكن ابن رشيق لَم يوضح لنا الجمال والابتكار في هذا التشبيه، وإنما اكتفـى بهذه الإشارة المبهمة، فالتشبيه هنا محذوف الأداة، وهذا يؤكد المعنـى ويزيد من استحسانه، لما فيه من إيجاز وخفة علـى النفس، وفـى التشبيه مناسبة الكلام لموقف التخفـي والحذر، فقد صور بطء سموه إلـى محبوبته, وتخفيه عن الناس تصويرًا دقيقًا، (وصفًا وصوتًا ودلالة) يستشفها القارئ ويسمعها في قوله "سموت سمو حَباب الماء"، ناهيك عن الخفة في نطق الشطر الثانـي، فهـي تشبه خفته في الرقـي إلـى محبوبته، وكأنه صور الحركة بالألفاظ وذلك غاية الفن في البلاغة.
فإذا أضفنا إلـى ذلك استخدامه, كلمات سهلة النُّطْق مع تكرارها وتكرار حرفـي السين والحاء بخاصة، وهما حرفان يتميزان بالهمْس، أدركنا براعة الشاعر في تصْوير المعنـى وجمال التشبيه وابتكاريته.
يقول جاريت: "إن الفكرة جنين حتى تصاغ في الكلمات"(4)، وهذا يذكرنـي بقول صرّدُرّ:
إِنَّمَا المَرْءُ فَوْقَهَا هُوَ لَفْظٌ *** فَإِذَا صَارَ تَحْتَهَا فَهْوُ مَعْنًى
يالله! اللفظ والمعنى معروفان، ولكن انظر إلـى صنيع الشاعر بهما، وطريقة صياغته في الربط بينهما، فهو يصوِّر الإنسان الحـي فوق الأرض - يتحرك فوقها ويسعـى - باللفظ؛ لأن اللفظ كائن حـي مشخص، يجري على اللسان ويلتقطه السمع، فيفعل بصاحبه الأعاجيب، وكذلك تصويره تحتها فانيًا بالمعنى؛ لأن المعنى لا يرى ولا يتمثل في غير اللفظ الذي هو كالجسد.
انظر كيف تهدى الشاعر إلـى هذا التصوير الجيد، وكيف توصل إلـى اقتناص وجه الشبه الذي يربط بين الطرفين مصورًا العلاقة بينهما أدق تصوير، فأصاب إصابة خبير بالمعانـي متمايز الخبرة.
ولو أنك جردت الشاعر مِن أبحره وألفاظه وقوافيه - كما يقول كروتشة - لما بقـي هناك فكرة شعرية كما يخيل إلـى بعضهم، بل لما بقـي شيء ألبتة[93].
وليس من الضروري أن يكون التجديدُ والابتكار اختراعًا محضًا لَم يسبق إليه الشاعر، فيكفـي أن يكونَ توليدًا.
ذكر ابنُ رشيق في توليد المعانـي بعضها عن بعض، وهو باب من أبواب الشعر ليس سرقة وليس اختراعًا؛ لأنه ليس أخذًا للشعر علـى وجهه فيعد سرقة، وليس منفصلاً عن دائرة الاقتداء فيسمى اختراعًا، ذكر من ذلك قول جرير يصف آذان الخيل:
يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطِيلِ النَّقْعِ دَامِيَةً *** كَأَنَّ آذَانَهَا أَطْرَافُ أَقْلاَمِ
قال ابن رشيق: فقال عدي:
تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ *** قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا
فولَّد بعد ذكر القلم إصابته مداد الدواة بما يقْتضيه المعنـى؛ إذ كان القرن أسود.
وكأن جريرًا هو الذي سبق إلـى التشبيه بأطراف الأقلام، ولكنَّه شبه الآذان بأطراف الأقلام، وقد قالوا: إن جريرًا الذي فتق عن هذا التشبيه أُعجب إعجابًا كبيرًا بقول عدي السابق.
قال جرير: أنشدنـي عدي بن الرقاع قوله:
عَرَفَ الدِّيَارَ تَوَهُّمًا فَاعْتَادَهَا[94]
فلما بلغ إلى قوله:
تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ
...
رحمته وقلت: قد وقع ما عساه يقول وهو أعربي جلف جاف؟ فلما قال: "قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا" استحالت الرحمة حسدًا"[95].
وإذا نظرنا إلـى ما ذكره ابنُ رشيق من أن بيت "عدي" كان توليدًا لبيت "جرير"، فإن إعجاب "جرير" أدخل في استشهاد البلاغيين؛ لأنَّ جريرًا شبه الآذان بالأقلام، وعدي شبه طرف الروق بأطراف الأقلام التي أصابتْ من الدواة مدادها؛ وكأنه لما ذكر "إبرة الروق" وهـي من الدقة بحيث يَقِل أن ينتبه الواصف إليها، وإنما يصف ويشبه الروق كما فعل جرير في تشبيه الآذان، ثم ذكر إصابة الأقلام المداد، فحقق بذلك التشابه الذي لَم يُحققه جرير، كان ذلك بابًا من البُعد والدِّقَّة؛ لأن الجمع بين إبرة الروق وأطراف الأقلام التي أصابت المداد جمع بين أمرين متباعدين جدًّا؛ لأنه أضيف إلـى اختلاف الجنس وتباعُده تلك الخصوصيات التي راعاها الشاعر في الطرفَين، عدي إذًا كان مع إصابة الشبه والتقاطه من الجنس البعيد كان مُحققًا له، ومُدَققًا فيه، ومراجعًا له[96].
قال عبدالقاهر: "فهل كانت الرحمة في الأولـى, والحسد في الثانية؛ إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر, وبديهة الخاطر، وفـي القريب من محلِّ الظنِّ شَبَهٌ، وحين أتم التشبيه وأداه، صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف، وعثر علـى خبيء مكانه غير معروف"[97].
والتشبه هنا بين قرن الظبـي الدقيق الأسود, والقلم الذي علق المداد الأسود بسنه، أما سبب إحساس جرير بالرحمة, والإشفاق علـى عدي أولاً، أنه أتـى في الشطر الأول من البيت بمشبه هو طرف القرن (إبرة روقه)، وهذا المشبه يستدعـي مشبهًا به بالضرورة، حتـى يكتمل التشبيه فلما قال عدي: "قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا"، أدْرك جرير بحاسته الشعرية المرهفة مبلغ إصابته، وعظيم توفيقه في اقتناص مشبه به دقيق المشاكلة للمشبه، علـى الرغم من أن كلاًّ منهما من جنس مختلف غاية الاختلاف عن الآخر، فالمشبه ينتمـي إلـى البادية، والمشبه به من مفردات حياة الحضر، والبون بينهما بعيد، وقد بلغ من إعجاب جرير بذلك التشبيه أنه ودَّ - طبقًا لرواية عبدالقاهر - لو كان هو صاحبه[98].
ومما ينظم في عقد هذه التشبيهات قول عبدالله البردُّونـي في وصف المطر[99]:
وَنَقَّرَ خَطْوُ القَطِيعِ الحَصَى *** كَمَا يَنْقُرُ السَّقْفَ وَقْعُ المَطَرْ
مما يلفت النظر في جمال هذه الصورة استناد الشاعر في اقتناص وجه الشبه علـى حاسة السمع، فهو يصغـي إلـى المطر عندما يتساقط علـى سطح الغرفة التي يسكنها، فيحس وقعه في سمعه كوقع الصوت المتولد عن مرور الأغنام علـى أرضٍ كثيرة الحصـى، حيث يتطاير الحصـى فيصطك بها، فهو قد رسم في مخيلته صورة لما سمع من وقع المطر، وشبه ذلك الصوت بصورة سمعية أخرى ارتسمتْ أو خزنت في ذاكرته من معطيات بيئته المكانية، وقد استطاع بذكائه, وقوة حسه أن يوجد علاقة تشبيهيَّة بينهما.
إن الشاعر المبتكر هو الذي يرى الصورة غير المرئية، ويصوغها في مخيلته، والابتكار لا يستمد عناصره من المنظور فقط، بل من المتصور والمفروض أيضًا[100]، والشاعر لا يصور الواقع تصويرًا حرفيًّا، ولكنه يضفـي علـى هذا الواقع من إحساسه وخياله وتجاربه، فيعيد إبداعه علـى نحو خاص تتضح فيه تجربته الذاتية ورؤيته الخاصة، ولقد سبق السكاكـي في إحدى ومَضاته الذكية التي لم يلتفت إليها، "فكم من صور تتعانق في الخيال وهـي في آخر ليست تتراءى, وكم من صور لا تلوح في الخيال وهـي في غيره نار علـى علم"[101].
ويقول العقاد في هذا السياق: "فالمسألة عظيمة جدًّا بين شاعر يصف لك ما رآه، كما قد تراه المرآة، أو المصورة الشمسيَّة، وشاعر يصف لك ما رآه وشعر به، وتخيله وأجاله في روعه، وجعله جزءًا من حياته، وليس يعنيك أنت أن يكون الشاعر صحيح العين، مطلعًا علـى المرئيات المتشابهة، ليتصل ما بينك وبينه، ويقترب وجدانك من وجدانه، ولكنه يعنيك منه أن يكون إنسانًا حيًّا يشعر بالدُّنيا، ويزيد حظك من الشعور بها"[102].
"وعلـى الحقيقة فإن في زوايا الأفكار خبايا، وفـي أبكار الخواطر سبايا"[103]، فإذا أخذ شاعر معنـى من المعانـي عن شاعر آخر تقدمه، وأتـى بالمعنـى معكوسًا, أو مناقضًا في فحواه لقول آخر، وأبرزه في معرض من تأليفه عُدَّ ابتداعًا واقتدارًا علـى تناول المعانـي, والتصرُّف فيها.
فمن ذلك قول علـي بن جبلة[104]:
دِجْلَةُ تَسْقِي وَأَبُو غَانِمٍ *** يُطْعِمُ مَنْ تَسْقي مِنَ النَّاسِ
يَرْتُقُ مَا يَفْتُقُ أَعْدَاؤُهُ *** وَلَيْسَ يَأْسُو فَتْقَهُ آسِي
وَالنَّاسُ جِسْمٌ وَإِمَامُ الهُدَى *** رَأْسٌ وَأَنْتَ العَيْنُ فِي الرَّاسِ
فالجمال هنا يرجع إلـى جَمْع البيت بين ثلاثة أشياء مترابطة في ثلاثة تشبيهات يضمها نسيج واحد، ثم وضع كل ممدوح في التشبيه الذي يُلائم منزلته، وتلك براعة الصنعة، وفعل الموهبة؛ فالناس كالجسم، وأثمن ما في الجسم الرأس، وأثمن ما في الرأس العين، وتلك قمة الترقِّي في التصوير والتعبير.
وعلـي بن جبلة أخذه من قول أبـي العتاهية في الرشيد[105]:
تُسَاسُ مِنَ السَّمَاءِ بِكُلِّ فَضْلٍ *** وَأَنْتَ بِهِ تَسُوسُ كَمَا تُسَاسُ
كَأَنَّ الكَوْنَ رُكِّبَ فِيهِ رُوحٌ *** لَهُ جَسَدٌ وَأَنْتَ عَلَيْهِ رَاسُ
ولكنه زاد في الشرح والترتيب، وقوة النسج، وبراعة التصوير، فكان له فضل الابتكار والتوليد.
ومن ذلك أيضًا قول أبـي الشيص في الغرام بمحبوبه[106]:
أَجِدُ المَلامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةً *** حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَمُ
وهو عكس ما قاله أبو الطيب المتنبي[107]:
أَأُحِبُّهُ وَأُحِبُّ فِيهِ مَلاَمَةً *** إِنَّ المَلاَمَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ
إن مَن يُدقق النظر في كل معنـى ومعكوسه يحس دور الصنعة الشاعرة في جمال الصياغة، وإلباس المعانـي أثوابًا جديدة بما اشتملتْ عليه من فن القول، وبديع التصوير.
والمتصفِّح دواوين الشعراء المعاصرين - وبخاصة المطلعون منهم علـى آداب الغرب - يرى ألوانًا من التجديد في التشبيه أمدتهم بها المدنية الحديثة التي انبسط ظلُّها علـى كل شـيء، والمعارف الحديثة التي امتد سلطانها حتـى علـى الـذَّرِّ في مكامنه السحيقة.
فمن ذلك تشبيهات البارودي في مشهد تموجات صفحة النهر، وهـي تشبيهات في غاية الروعة والجمال؛ حيث يشبهها تارة بالدروع، وتارة بصحائف الفضَّة أو الذهب، وتارة بصحف الورق المليئة بالأسطر.
ومن أمثلة تشبيهه تموج صفحة النهر بأحرف الهجاء في الكتابة قوله[108]:
وَالْمَحْ بِطَرْفِكَ مَا وَحَتْهُ يَدُ الصَّبَا *** فَوْقَ الغَدِيرِ تَجِدْ حُرُوفَ هِجَاءِ
مِنْ كُلِّ حَرْفٍ فِيهِ مَعْنَى صَبْوَةٍ *** تَتْلُو بِهِ الوَرْقَاءُ لَحْنَغِنَاءِ
ثم يزيد الصورة تفصيلاً في قصيدة أخرى، مُضيفًا إليها مجموعة منَ العناصر الجديدة الطريفة[109]:
وَخَمِيلَةٍ بَكَرَتْ سَمَاوَةُ أَيْكِهَا ***تَحْمِي الهَجِيرَ عَنِ النُّفُوسِ وَتَدْرَأُ
....
فَتَحَ الرَّبِيعُ بِهَا مَدَارِسَ بَهْجَةٍ *** لِلْعَيْنِ فِيهَا بَهْجَةٌ لاَ تَضْرَأُ
فَالرِّيحُ تَكْتُبُ وَالغَدِيرُ صَحِيفَةٌ *** وَالسُّحْبُ تَنْقُطُ وَالحَمَائِمُ تَقْرَأُ
صُورٌ تَدُلُّ عَلَى حَكِيمٍ صَانِعٍ *** وَاللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَبْرَأُ
ثم يقدم في قصيدة ثالثة تنويعًا موازيًا من صور الريح التي كتبتْ علـى صفحة النهر[110]:
وَالرِّيحُ تَمْحُو سُطُورًا ثُمَّ تُثْبِتُهَا *** فِي النَّهْرِ لاَ صِحَّةٌ فِيهَا وَلاَ غَلَطُ
ويأتي تنويع رابع فيغدو المطر هو الذي ينقط الحروف المكتوبة، بينما تشبه الأشجار المنعكسة علـى صفحة النهر أسطر هذه الحروف المكتوبة[111]:
وَأَصْبَحَتِ الغُدْرَانُ يَصْقُلُهَا الصِّبَا *** وَيَرْقُمُ مَتْنَيْهَا بِلُؤْلُئِهِ القَطْرُ
تَرِفُّ كَمَا رَفَّتْ صَحَائِفُ فِضَّةٍ *** عَلَيْهِنَّ مِنْ لأْلاءِ شَمْسِ الضُّحَى تِبْرُ
كَأَنَّ بَنَاتِ المَاءِ تَقْرأُ مَتْنَهَا صَبَاحًا *** وَظِلُّ الغُصْنُ لاَحَ بِهَا سَطْرُ
وتصل براعة الصنعة إلى درجة عالية من الاستطراف في تنويع خامس نقرأ فيه[112]:
إِذَا انْبَعَثَتْ فِيهِ النَّسَائِمُ خِلْتَهَا *** تُنِيرُ عَلَى مَتْنِ الغَدِيرِ بِهِ بُرْدَا
كَأَنَّ الصَّبَا تُلْقِي عَلَيْهِ إِذَا جَرَتْ *** مَسَائِلَ فِي الأَرْقَامِ أَوْ تَلْعَبُ النَّرْدَا
والمادة الأساسية لكل هذه الصور مادة قديمة، تداولها الشعراء عشرات المرات قبل البارودي، ولكنه جدد فيها بتوليداته، وأضاف إليها بتَنْويعاته، وبرع في الجمع بين أكثر من صورة قديمة في صورة واحدة جديدة، ومثال ذلك التنويع الأخير الذي يمكن أن نعثر علـى أصله في شعر البحتري قوله[113]:
كَأَنَّمَا غُدْرانُهَا فِي الوَهْدِ *** يَلْعَبْنَ مِنْ حَبَابِهَا بِالنَّرْدِ
لكن البارودي أضاف إلـى صورة البحتري القديمة "مسائل الأرقام"، التي زاد بها الصورة طرافة وابتكارًا، فتميز عنه، وحقق الإضافة التي يسبق بها اللاحقُ السابقَ بعد أن استحق شرف المنافسة معه.
ومعنـى هذا: أن الشاعر أو الفنان لا يمكن أن يدعـي لنفسه معنـى؛ إذ لا بد من وجود صلة قوية بين معانيه, ومعانـي الشعراء السابقين عليه، وعلـى الشاعر أن يعرض هذه المعانـي, عرضًا جديدًا في صورة جديدة تلائم عصره الذي يعيش فيه، وتعبِّر عن فكره, وأهدافه, وآماله في الحياة، حتـى ولو كان ذلك العرْض الجديد، بقلب المعنـى أو عكسه، أو بالخروج علـى الأعراف اللغوية المضطردة، ما لم تعد في خدمة الأغراض التي يسعـى إليها، فهو صاحب التعبير يبث في المادة المعطاة روحًا من أثره عليها، وتصرفه فيها.
ويؤيد هذا ما نقله "حازم" عن "ابن سينا" من تفاصيل هذه الصنعة، وهو أنه "لا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر بحسب عادة هذا الزمان"[114].
وبناءً علـى ذلك؛ فلا نقتصر علـى تشبيه الجميل بالبدر، أو الشجاع بالأسد، أو الكريم بالبحر، وغير ذلك من التعبيرات "التشبيهات" التي فقدت جدتها وبهاءها.
نقول ذلك لأن لكل زمان رجاله، ولكل عصر ثقافته، ولكل بيئة تقاليدها وطباعها، وليس معنـى هذا الذي نقول أننا ننادي بالقطيعة مع التراث، كلا، وإنما ندعو إلـى الإبداع في إنشاء الصورة والتفنُّن في أسلبتها، والتبرع في تركيبها.
وبناءً علـى ذلك؛ فإنه يمكن أن يشبه الجميل بشـيء مثله أو أجمل منه، وليس شرطًا أن يكون الشمس أو القمر، وإنما يكون حسبما يلتعج في النفس، وتجود به القريحة، وحسبما تلهم الصنعة الشاعر من ألوان في المعانـي والكلمات والأنغام، حتـى لو كانت مخالفة للشائع والمألوف بين الناس، كهذا التشبيه مثلاً: "إن فتياتنا جميلات كالليل" - وهو لقائل غربـي - إنه تشبيه جديد كل الجدة، إنه يَتَمَثَّل جمال المرأة ليلاً بهيمًا، فكأنه ثورة معلنة علـى التصور الشائع بين الناس من تشبيه الجميل بالشمس أو بالقمر، فإذا هذا الليل بما فيه من ظلمات وأهوال في تمثيل أخيلة الشعراء العرب القدماء (كامرئ القيس والنابغة)، يستحيل إلـى مظهر مزدخر بالشعرية والأحلام، ويغتدي مظنه للدعة والجمال والسكون والأمن واللذة والمتاع، ولما كان الليل بعض ذلك أو كله، في تمثل هذا القائل الغربـي، فقد عمد إلـى تشبيه جمال النساء به.
إن تشبيه الجميلات الفاتنات بالليل ليس عميقًا قشيبًا فحسب، وإنما استطاع أن يقلب موازين الذوق العام المتعارفة، والتقاليد المتآلفة بين النقاد البلاغيين العرب والغربيين جميعًا، والتـي كانت تقرر وجود تشبيه المجرد بالمحسوس، أو المحسوس بالمحسوس، فإذا التشبيه هنا ينهض علـى تشبيه المحسوس بالمجرد، والكائن الحـي العاقل بمظهر زمنـي محضٍ.
هنا يتجلَّـى إبداع اللغة، فلا يعجزها أن تنسج لنا من الصور الأدبية والتشبيهات العجيبة القشيبة ما يكون مثارًا للإدهاش، ومدعاة للإبهار، ومهما يكن من شأن، فإن الشعريات والبلاغيات تتضافران معًا من أجل ترقية نسيج الخطاب الأدبـي، وإثراء لغته، وتنميق تعبيره، وتوسعة استعمالاته، والتفنُّن في أساليبه؛ لأنَّ الغاية من ذلك كله إبهار المتلقِّـي، وأسر ذوقه، وصقْل رؤيته للجمال[115].
ـــــــــــــــ
[1] "اللسان" مادة (طرف).
[2] "أساس البلاغة" مادة (طرف).
[3] "فن التشبيه" 1/267.
[4] "اللسان"، مادة (ظرف).
[5] "القاموس المحيط".
[6] "مواهب الفتاح" 3/403.
[7] "مفتاح العلوم" 183، و"حاشية الدسوقي" 3/404، و"فن التشبيه" 1/267، و"استعادة الماضي" 285.
[8] الفارابـي، "جوامع الشعر" صـ 175.
[9] "أسرار البلاغة" صـ 136.
[10] هكذا تكلم النص صـ 183.
[11] "حاشية الدسوقي" (ضمن "شروح التلخيص") 3/404.
[12] يجب أن يكون وجه الشبه في المشبه به أظهر وأعرف "وأعلـى حالاً من المشبه لتحصل المبالغة هناك"؛ (الطراز 1/266) في أي نوع من أنواع التشبيه (عدا التشبيه المقلوب)، ولكن في التشبيه المستطرف لا يشترط ذلك، بل كلما كان المشبه به أندر وأخفـى، كان التشبيه لتأدية هذا الغرض أتم وأوفـى.
[13] "مواهب الفتاح" 3/404، وراجع "فن التشبيه" 1/266.
[14] "شروح التلخيص" 3/403، و"أسرار البلاغة" 117.
[15] قوله: ولازِوَرْدية، الواو واو ربَّ، و"لا" من بنية الكلمة "نافية" - وهو بكسر الزاي - واللازِوَرْديَّ ة صفة لمحذوف؛ أي: رُبَّ أزهار من البنفسج لازوردية، (نسبها الشاعر إلـى الحجر المعروف باللازورد؛ لكونها علـى لونه، فهي نسبة تشبيهية)؛ "حاشية الدسوقي" (ضمن "شروح التلخيص" 3/403)، ومثل القول السابق قول النُّمَيْري:
بَنَفْسَجٌ بِذَكِيِّ المِسْكِ مَخْصُوصُ *** مَا فِي زَمَانِكَ إِنْ وَافَاكَ تَنْغِيصُ
كَأَنَّمَا شُعَلُ الكِبْرِيتِ مَنْظَرُهَ *** أَوْ خَدُّ أَغْيَدَ بِالتَّخْمِيشِ مَقْرُوصُ
[16] "أسرار البلاغة" 117.
[17] "قراءة الشعر وبناء الدلالة" صـ 246، 247.
[18] "حاشية الدسوقي" 3/404.
[19] لأن الإنسان إذا خطر بباله البنفسج لا تخطر النار بباله لا سيما في أطراف الكبريت، لما بينهما من غاية في البعد؛ لأن البنفسج جِرْم ندى ونور رياض، والنار جِرم حار يابس دياري، فإذا خطر البنفسج في الذهن، فإنما ينتقل منه عن إرادة التشبيه لما يضاهيه من جنس الأزهار - هذا هو الطبيعي - ولكن علـى هذا الحال نشاهد المعانقة والاتصال بين شيئين متباعدين كل التباعد؛ "شروح التلخيص" 3/406.
[20] يشير إلـى قول ابن المعتز:
وَعُجْنَا إِلَى الرَّوْضِ الَّذِي طَلَّه النَّدَى *** وَلِلصُّبْحِ فِي ثَوْبِ الظَّلاَمِ حَرِيقُ
كَأَنَّ عُيُونَ النَّرْجَسِ الغَضِّ حَوْلَنَا *** مَدَاهِنُ دُرٍّ حَشْوُهُنَّ عَقِيقُ
("أسرار البلاغة" صـ 85).
[21] "أسرار البلاغة" صـ 117.
[22] "أسرار البلاغة" صـ 118 (هـ. ريتر).
[23] "الأسرار" 138، 139.
[24] "بحث في علم الجمال" صـ 576.
[25] "ديوان ابن المعتز" 2/481.
[26] السحالة: ما يسقط من الذهب والفضة عند بردهما؛ أي: برادة الذهب أو الفضة.
[27] "شعر أبـي هلال" صـ 154.
[28] "ديوان أبـي تمام" 2/265
[29] "النقد الجمالـي" صـ 63.
[30] انظر: "أسرار البلاغة" صـ 151.
[31] "الصورة والبناء الشعري" صـ 33.
[32] "أسرار البلاغة" صـ 146.
[33] "مبادئ النقد الأدبـي" صـ 315.
[34] هكذا تكلم النص صـ 183.
[35] "ديوان البحتري" 1/248، 249، وجاء في الديوان "العلا" بدل " الندى"، وفـي الأسرار "الندى" ص136.
[36] "قصة علم الجمال" صـ 29.
[37] "ديوان البحتري" 2/1253.
[38] نفسه 2/1256.
[39] "الموازنة" 1/8، 9، وانظر: "المثل السائر" 2/137.
[40] "أسرار البلاغة" صـ 134.
[41] يقول عبدالرحمن شكري معبرًا عن هذه الحقيقة في مقدمة ديوانه "زهر الربيع": إن وظيفة الشاعر في الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود ومظاهره، والشعر يرجع إلـى طبيعة التأليف بين الحقائق، ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الشاعر بعيد النظرة غير آخذ وراء المظاهر مأخذه نور الحق، فيميز بين معاني الحياة التي تعرفها العامة وأهل الغفلة، وبين معني الحياة التي يوحي إليه بها الأبد، وكل شاعر عبقري خليق بأن يدْعَى متنبئًا، أليس هو الذي يرمي مجاهل الأبد بعين الصقر فيكشف عنها غطاء الظلام، ويرينا من الأسرار الجليلة ما يهابها الناس"؟!
[42] "أسرار البلاغة" 126.
[43] "ديوان المتنبـي" 2/9، 10.
[44] "التعبير البياني" صـ 93، 94.
[45] "أسرار البلاغة" 165.
[46] "أسرار البلاغة" صـ 165.
[47] "التصوير البياني" صـ 155.
[48] "في الميزان الجديد" صـ 77.
[49] "أسرار البلاغة" صـ 262.
[50] "مراجعات في الأدب والفنون" صـ 159.
[51] الجاحظ، "الحيوان" 3/131.
[52] "حصاد الهشيم" صـ 137، 138.
[53] "أسرار البلاغة" 164.
[54] "أسرار البلاغة" 170.
[55] "الكامل" 2/52.
[56] مصطفـى بدوي؛ "كولردج" صـ 93، راجع: "الخطاب النفسـي" في النقد العربـي القديم صـ 127.
[57] "الأسرار" 171.
[58] "فن التشبيه" 2/81.
[59] "الأسرار" 171.
[60] "النقد الأدبـي الحديث" 445، 446، وراجع: "الصورة الفنية" صـ 199 وما بعدها.
[61] "المجموع" صـ 21.
[62] ابن سينا؛ "رسالة في البلاغة والخطابة"، (صورة فوتوغرافية برقم 26335 بمكتبة جامعة القاهرة. ورقة 10)، راجع: "الأسس الجمالية في النقد العربـي" صـ 140.
[63] أحمد راجح؛ "أصول علم النفس" صـ 76، 77.
[64] "منهاج البلغاء" صـ 64.
[65] نفسه 71.
[66] نفسه 71.
[67] "أسرار البلاغة" صـ 262.
[68] "خزانة الأدب"؛ الحموي 265.
[69] "ديوان أبي المحاسن الدمشقـي" 2/292، وانظر: "الغصون اليانعة" صـ 127.
[70] "أسرار البلاغة" صـ 223.
[71] "منهاج البلغاء" صـ71.
[72] "منهاج البلغاء" صـ 113.
[73] "نقد الشعر" صـ62 وما بعدها.
[74] "ديوان المتنبـي" 3/151.
[75] "أسرار البلاغة" صـ 109، 110.
[76] "ديوان حافظ إبراهيم" صـ22، ضبطه وصححه أحمد أمين وآخرون، دار العودة، بيروت، د. ت.
[77] "استعادة الماضي" صـ 290.
[78] "المثل السائر" 2/123، 127.
[79] "الطراز" 1/275.
[80] "فلسفة الجمال في البلاغة العربية" صـ 210.
[81] "سقط الزند وضوؤه" صـ 719، و"شروح سقط الزند"؛ للتبريزى وغيره 4/1683.
[82] "أسرار البلاغة" 343.
[83] "مقدمة ديوان ابن خفاجة" صـ 10.
[84] "فن الأدب" صـ 11.
[85] "فن الأدب" ص 11 وما بعدها.
[86] Vingt Lecons sur Les beaux arts.P.290-293
[87] "ديوان ذي الرمة" 1/578؛ تحقيق: عبدالقدوس أبو صالح.
[88] "ديوان أبي نواس" صـ 27.
[89] "شرح ديوان المتنبـي" 2/227.
[90] "فن التشبيه" 2/252.
[91] "ديوان امرئ القيس" صـ 31.
[92] "العمدة" 1/175.
(4) "فلسفة الجمال" 118.
[93] "المجمل في فلسفة الفن" صـ 60، 61.
[94] "ديوان عدي بن الرقاع" صـ 83.
[95] "أسرار البلاغة" صـ 140، 141، و"الكامل" 2/109.
[96] "التصوير البياني" صـ 121، 122.
[97] "أسرار البلاغة" صـ 141.
[98] "التعبير البيانـي" صـ 100.
[99] الصورة الشعرية عند البردونـي صـ 126، يقول البردونـي: "كنت أقدر مسافة الصوت، وأتنصت إلـى حفيف النباتات والأشجار، وإلـى أصوات الناس، وأميز المحيطين بـي من خلال ذلك، فأعرف الطويل والقصير، وأجد للأصوات ألوانًا كألوان النبات، وكان يشد سمعـي حركات الحيوان، وبالأخص الأغنام، إلـى أن تألفت هذه الصور في ذهنـي وبدت في بعض قصائدي"؛ (نفسه صـ 125، 126).
[100] "فن التشبيه" 3/82.
[101] "مفتاح العلوم" صـ 122.
[102] "ابن الرومـي حياته من شعره" صـ 308.
[103] "فن التشبيه" 3/82.
[104] "ديوان علـي بن جبلة" صـ 74، تحقيق: حسين عطوان، دار المعارف القاهرة، 1982م.
[105] "ديوان أبـي العتاهية" صـ 233، طبعة دار صادر 1980م، وجاء في الكامل "كأن الخلق" 2/113.
[106] "الأغانـي" 19/142، و"العقد الفريد" 5/374، وللوقوف علـى شواهد أخرى، انظر: "زهر الآداب" 1/391، 392.
[107] "ديوان المتنبـي" 1/29.
[108] "ديوان البارودي" 1/18، 19.
[109] "ديوان البارودي" 1/24 - 26.
[110] "ديوان البارودي" 2/192.
[111] "ديوان البارودي" 2/56، 57.
[112] "ديوان البارودي" 1/221.
[113] "ديوان البحتري" 1/568.
[114] "منهاج البلغاء" ص 69.
[115] انظر مقال "الصورة الأدبية.. الماهية والوظيفة"؛ د/ عبدالملك مرتاض، الإصدار الدورى للنقد "علامات" جـ22. م6، شعبان 1417هـ، ديسمبر 1996م، ص 178 - 212.
وَلَازِوَرْدِيّ َةٍ تَزْهُو بِزُرْقَتِهَا *** بَيْنَ الرِّيَاضِ عَلَى حُمْرِ الْيَوَاقِيتِ
كَأَنَّهَا فَوْقَ قَامَاتٍ ضَعُفْنَ بِهَا *** أَوَائِلُ النَّارِ فِي أَطْرَافِ كِبْرِيتِ