لقد حفظ الله تعالى حبيبه ونبيه ورسوله من كل سوء، فهو الذي رباه دون أب أو أم فنسب إليه جل وعلا تربيته حتى قال صلى الله عليه وسلم: «أدّبني ربي فأحسن تأديبي» الحديث.
وفي هذا الصدد يذكر ابن هشام في السيرة[1] وابن سعد في طبقاته[2] وابن كثير[3] خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيم، فيقول ابن هشام: «وشبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا، وأفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلقًا، وأكرمهم حسبًا، وأحسنهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تُدنس الرجال، تنزها وتكرمًا، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة».
ويقول ابن كثير: فكان أبو طالب يحفظه، ويحوطه، وينصره، ويعضّده حتى مات[4].
وعن ابن عباس قال: أول شيء رأى النبي صلى الله عليه وسلم من النبوَّة أن قيل له استتر وهو غلام، فما رئيت عورته من يومئذ[5].
وعن امرأة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلم[6].
هذا، وقد ورد في حديث الهادي البشير صلى الله عليه وسلم ما يتبين منه أن الله تعالى كان يحفظه في صغره وأمر الجاهلية، قال صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما كان يلعب به الغلمان، كلنُّا قد تعرّى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم - لا أراه - لكمة وجيعة، ثم قال: شدَّ عليك إزارك؛ قال: فأخذتُه وشددتُه عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليّ من بين أصحابي[7].
هذا، بينما علق السهيلي[8] على هذه القصة بقوله: «وهذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في حين بنيان الكعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة مع قومه إليها، وكانوا يحملون أزرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها على عاتقه وإزاره مشدود عليه، فقال له العباس رضي الله عنه يا ابن أخي لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل فسقط مغشيا عليه، ثم قال إزاري إزاري، فشد عليه إزاره وقام يحمل الحجارة.
إلا أننا نعقب بأن بناء الكعبة تم وعمر النبي صلى الله عليه وسلم ست وثلاثون سنة وكان قد أنجب فاطمة الزهراء، ولكن حديثه صلى الله عليه وسلم يدلّ على أنه كان غلاما صغيرا، والله أعلم[9].
كذلك ذكر ابن سعد أن ذلك كان أثناء بناء الكعبة وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة وأن الذي قال له يا ابن أخي اجعل إزارك على رأسك هو العباس عمه، وعقب بقوله: «فما رؤيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عورة بعد ذلك»[10].
وفي حديث ينتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورد عند الطبري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بشيء ما كان أهل الجاهلية يعملون به مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو بصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر، كما يُسمر الشباب؟ فقال: أفعل، فخرجت أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دار من دُور مكة، سمعت عزفا بالدفوف والمزامير، فقلت: «ما هذا؟» قالوا: فلان بن فلان تزوج بفلانة بنت فلان، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، قال: فجئت صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قُلت: «ما صنعت شيئا» ثم أخبرته الخبر. قال: «ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك». فقال: أفعل، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت حين دخلت مكة تلك الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني، فو الله ما أيقظني إلا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته[11].
كما ورد في دلائل النبوة للبيهقي[12] وعند ابن كثير[13]، عن جبير بن مطعم: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم [يقصد في حجة قبل الإسلام وأنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة بل كان يقف مع الناس بعرفات – كما كانت تفعل قريش] توفيقا من الله عز وجل. ثم عقب ابن كثير بقوله: «قال البيهقي: معنى قوله على دين قومه ما كان بقى من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما – كما ذكر ابن كثير أنه اعتزل شهود ومشاهد المشركين حتى أكرمه الله تعالى برسالته»[14].
------------------------
[1] ج1 ص183.
[2] طبقات ابن سعد ج1 ص97.
[3] البداية والنهاية ج2 ص690.
[4] المصدر السابق.
[5] طبقات ابن سعد ج1 ص124، 125.
[6] المصدر السابق لابن سعد ص125.
[7] السيرة لابن هشام ص183.
[8] الروض الأنف.
[9] المؤلفة.
[10] طبقات ابن سعد ج1 ص116.
[11] تاريخ الطبري ج2 ص279، البداية والنهاية لابن كثير ج2 ص692، وانظر أيضا: «سيرته في قومه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم».
[12] دلائل النبوة ج2 ص37.
[13] البداية والنهاية ج2 ص693.
[14] وانظر دلائل النبوة للبيهقي ج2 ص30 - 42.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/141699/#ixzz6Wb4iyQa5