أيها المُنتابُ عنْ عُفُرِهْ
لستَ مِن ليلي ولا سَمَرِهْ
لا أَذودُ الطَّيرَ عن شَجَرٍ
قد بَلوتُ المرَّ مِن ثَمَرِهْ
قد لبِسْتَ الدَّهرَ لُبْسَ فتًى
أخَذَ الآدابَ عن غِيَرِهْ
فاتَّصلْ إنْ كنتَ متصلًا
بِقُوى مَن أنتَ مِن وَطَرِهْ
خِفْتُ مأْثورَ الحديثِ غدًا
وغدٌ أَدْنى لمنْتَظِرِه
خابَ مَن أسرى إلى بلدٍ
غيرُ معلومٍ مدى سَفَرِه
وسَدَتْهُ ثِنْيَ ساعِدِه
سِنَةٌ حلَّتْ إلى شُفُرِه
فامْضِ لا تَمْنُنْ عَليَّ يدًا
مَنُّكَ المعروفَ مِن كَدَرِه
رُبَّ فتيانٍ رَبَأْتُهُمُ
مَسْقَطَ العَيُّوقِ مِن سَحَرِه
فاتَّقَوْا بي ما يُريبُهمُ
إنَّ تَقوى الشرِّ مِن حَذَرِه
وابنُ عمٍّ لا يُكاشِفُنا
قد لَبِسْناهُ على غِمَرِه
كَمِنَ الشَّنْآنُ فيهِ لنا
ككُمونِ النارِ في حَجَرِه
ورُضابٍ بِتُّ أَرْشُفُه
يَنقَعُ الظمآنَ في خَصَرِه
عَلَّنِيهِ خُوطُ إسْحِلَةٍ
لَانَ مَتْناهُ لِمُهتَصِرِه
ذا ومُغْبَرٍّ مَخَارِمُه
تَحسِرُ الأبصارُ عن قُطُرِه
لا تَرى عينُ البصيرِ بهِ
ما خلا الآجالَ مِن بَقَرِه
خَاضَ بي لُجَّيْه ذو جَرَزٍ
مُقْفِرُ الصُّقْلَين من ضُمُرِه
يَكتَسي عُثْنُونُه زَبَدًا
فنَصيلاه إلى نُخَرِه
ثُمَّ يَعْتَمُّ الحِجاجُ بِه
كاعْتمامِ الفُوفِ في عُشَرِه
ثم تَذْرُوه الرياحُ كما
طارَ قُطْنُ النَّدْفِ عن وَتَرِه
ذُلِّلَتْ تلك الفِجاجُ لَهُ
فَهْوَ مُجْتازٌ على بَصَرِه
كلُّ حاجاتي تَناوَلَها
وَهْوَ لَمْ تُنْقَضْ قُوَى أَشَرِه
ثُمَّ أَدْنَاني إلى مَلِكٍ
يَأْمَنُ الجاني إلى حُجَرِه
تَأْخُذُ الأيدي مظالِمَها
ثُمَّ تَستذرِي إلى عَصَرِه
كيف لا يُدنيك مِن أَمَلٍ
مَنْ رسولُ اللهِ مِنْ نَفَرِه؟!
فاسْلُ عن نَوْءٍ تُؤمِّلُهُ
حَسْبُك العبَّاسُ مِنْ مَطَرِه
مَلِكٌ قَلَّ الشبيهُ لَهُ
لم تَقَعْ عَينٌ على خَطَرِه
لا تُغَطَّى عنه مَكْرُمةٌ
برُبا وادٍ ولا خَمَرِه
سبقَ التفريطَ رائدُهُ
وكَفَاه العينُ مِنْ أَثَرِه
وإذا مَجَّ القَنا عَلَقًا
وتَرَاءَى الموتُ في صُوَرِه
راحَ في ثِنْيَيْ مُفاضَتِه
أَسَدٌ يَدْمى شَبا ظُفُرِه
تَتَأَيَّا الطَّيْرُ غَدْوَتَهُ
ثِقةً بالشِّبْعِ مِنْ جَزَرِه
وتَرى السادات ماثلةً
لسليلِ الشمس مِن قَمَرِه
وكريمُ الخالِ مِنْ يَمَنٍ
وكريمُ العمِّ مِنْ مُضَرِه
فَهُمُ شَتَّى ظُنونُهُمُ
حَذَرَ المكْنونِ مِنْ فِكَرِه


هذه القصيدة إحدى قصائد المديح في العصر العباسي، وهي ككثير من قصائد المديح لا تَقصِد مباشرة إلى الغرض الرئيس منها، ومن ثمَّ لا تصل إليه إلا بعد مقدمات وتخلُّصات، بحيث يأتي المدح في آخر القصيدة، وكأن الشاعر قد عرَّج عليه بطريق المصادفة، بل أحيانًا ما يأتي باهتًا هامدًا لا رُوح فيه ولا رَونق له، وربما كان سبب ذلك أن الشاعر مِن هؤلاء حينما كان يَنظِمُ مثل هذه القصائد، لم يكن يُحس بعاطفة إعجاب قوية حقيقية نحو ممدوحه، إنما هو المال والحصول على شيء منه من هذا الممدوح، وأحب أن أقول: إنني لا أُطيق شعر المديح إلا إذا كان مبعثُه عاطفة قومية أو دينية، تهتزُّ لإنجاز حربي أو سياسي أو اجتماعي، يعود على الأمة كلها ومستقبلها بالخير الجزيل.
أما المديح من أجل الحصول على شيء من المال - هو في الغالب من مال الأمة الذي ائتَمنتْ خليفتها أو أحد وُلاته عليه - فهو مَخزاة من المخازي التي ما كان يجب أن تَنشأ في دولة إسلامية حقيقية، بْلَهَ أن تَنتشر وتَستَعِرَ، ويَمتدَّ أُوارُها إلى كل مكان على مدى كل هذه العصور المتطاولة.
ذلك، ولا أُوافق القائلين: إن شعر المديح إنما يرفع أمام أبصار الأمة مثل الأخلاق الكريمة، فإن الأخلاق الكريمة لا يَخدمها الكذب واللهاث وراء حَفنة من المال الحرام ليس لواهبها ولا لموهوبها حقٌّ فيها، ثم إن معاني المديح هي في الغالب معانٍ تقليدية محفوظة، قد أفقَدها التَّكرار رَواءَها وبَهاءَها، فإذا أتى من الشعراء من يريد أن يضيف إليها جديدًا، كان تجديده محصورًا في نطاق ضَيِّق لا يتجاوز هذه الجزئية أو تلك، أما الخطوط العامة فتبقى هي هي!
أما الأغراض التي تناولتها هذه القصيدة، فهي المقدمة الغزلية التي تُعبر عن آلام الشاعر مِن جراء الطعنة التي تلقَّاها من صديقته؛ إذ غدَرتْ به وتحوَّلت عنه إلى صديق له، ثم عادت إليه كرَّةً أخرى، وهي تظن أنه سيتلقَّاها بالعفو ونسيان الماضي، ولكنه تَثور به حَميَّة نفسه، فلا يسمح لها بدخول حياته من جديد، وهو يستطرد من ذلك إلى الحديث عن تجاربه في الحياة، تلك التجارب التي تعلَّم منها الكثير، وبلا فيها الناس على اختلاف صنوفهم ومشاربهم، ثم خرَج من ذلك إلى أسفاره، (أليست هذه الأسفار بعض تجارب الحياة؟)، غير أنه يقف فيها عند نقطة واحدة، وهي وصف حصانه وجهده في قطع الفَلوات، وما يكتسي به وجهه - فمًا ومنخرًا وحاجبًا - مِن زَبَدٍ يتطاير في الفضاء بعد ذلك تطايُر رقائق القطن مِن مِنْدَفة المنجد، وفي النهاية يصل بنا الشاعر وحصانه إلى الممدوح.
ومع أني حاولتُ في الفقرة السابقة أن أجعَل الأغراض التي تناولتْها القصيدة يُسلِمُ بعضُها إلى بعض في شيءٍ - ولو متكلفًا - من التسلسل المنطقي، فإني - بِغَضِّ البصر عن رفضي لهذا اللون من شعر المديح - لأتساءل: أكان يَحسُن بالشاعر أن يجمعَ في قصيدة واحدة بين الحديث عن خيانة صديقته ورفضه لدخولها حياته من جديد، وبين مدحه العباسَ بن عبيدالله بن أبي جعفر المنصور؟!
إن الجو النفسي هنا والجو النفسي هناك مختلفان أشد الاختلاف، اللهم إلا إذا تكلَّفنا القول بأنه رحل إلى هذا الممدوح لعله يتسلَّى بالرحلة إليه، ويتلقَّى عطاياه عن آلام حبِّه المغدور، لكن سَرعان ما يثور السؤال الآتي: أبهذه السهولة يستطيع المحب المطعون أن يتسلَّى بعطايا ممدوحه عن حُرقات قلبه؟ وهَبْ ذلك ممكنًا، أَمِنَ الممكنِ أنه بمجرد أن يَشرَع في الرحلة أن ينسى كلَّ شيء عن هذه الآلام، فلا تُعاوده ولا تُهيِّجُ به ذكرياتِها؟!
في الحق أن الصلة بين أغراض هذه القصيدة واهية، إن لم تكن في بعض الأحيان منعدمة تمامًا، وفي الحق أيضًا أن الشاعر - وهو ليس بِدعًا في ذلك - إنما كان يجري في ذلك على تقليد شعري قديم، والشاعر الفَحْلُ هو الذي لا تَسترقُّه التقاليدُ الأدبية كلَّ هذا الاسترقاقِ، إن بعض هذه التقاليد واجب الاتباع على الأقل في بعض الأحيان، لكن على ألا تكون التبعية عمياءَ!
ولو عمَدنا إلى أقسام القصيدة، لوجدنا أن أقواها وأجملها هو الأبيات الثمانية الأولى، وفيها يَشعُر القارئ بألَمٍ وسَخَطٍ مَكتومٍ، إن الشاعر لا يَصرُخ ولا يَبكي، وإنما نُحِسُّ بحُرقته من عباراته التي يَقبِسُها مِن قلبه المُلتاعِ، ألا تسمع نغمة السخط والتهكُّم في هذا البيت:
أيُّها المُنتابُ عنْ عُفُرِه *** لستَ مِن ليلي ولا سَمَرِه
ففي الشطرة الأولى يُلمِّح الشاعر إلى خيانة صديقته، وكأنه يقول لها: أين كنتِ طوال هذه المدة؟ ومع مَن كنتِ تَقضين وقتَكِ؟ وما الذي جاء بكِ ثانيةً؟ ثم تأتي الشطرة الثانية قاطعة حاسمة: لقد انتهى كلُّ ما كان بيننا، فلم أعُد لكِ، ولم تعودي لي، وليس يَربِطك بي شيءٌ، أي شيء! وتَمعَّنْ في إشارته إلى الليل والسمر؛ حيث تصفو النفوس وتَحلو النجوى، وتَسرَح في الفضاء أطيافُ الحبِّ، تُدرك ماذا يعني الشاعر بقوله: (لستَ من ليلي ولا سَمَرِهْ!).
ويأتي البيت الثاني فنرى الشاعر يُبدي لصديقته عدمَ اكتراثه بها، وقلة غَيرته عليها، وكيف يغار عليها وقد بلا خيانتها وغدرَها؟ وهو يُشبهها بالشجرة المباحة لجميع صنوف الطيور تقع عليها متى وحيث أحبَّت، وتَنقُر فيها وتأكُل منها كيف تشاء، وهو تشبيهٌ عميق الدلالة والإيحاء، فكأنه يقول لها: إنها لا تَمتنع من كلِّ مَنْ هَبَّ ودَبَّ! أما هو فلا اهتمام له بهذه الشجرة، ولا يُبالي بطرد الطيور عن غصونها وثمارها، فهي ثمار مُرَّة لا تُغري بتذوُّقها، وحسبُه أنه قد نفَض يده منها، فمن أراد أن يُجرب فليتفضَّل!
ثم يَمضي متمدحًا بما اكتسَبه من تجارب الحياة، أو كما يُسميها هو (الآداب التي أخذها من غير الدهر)، فهذه التجارب تَمنعه أن ينخدعَ بهذه العودة؛ لأنه حريص على سُمعته، لا يحب أن يَلوكَ الناسَ سيرته ويَسخروا منه مِن خلف ظهره، بوصفه الرجلَ الذي تلقَّى طعنةَ الخيانة، ثم لم يجد غَضاضةً في أن يعاشر مِن جديد مَن طَعَنَتْه وأذلَّتْ كبرياءَه، وقضتْ على كرامته!
خِفْتُ مأثورَ الحديثِ غدًا *** وغدٌ أَدْنَى لمُنتظِرِه
وما أجمل قوله: (وغدٌ أَدنى لمنتظرِه)، وما فيه من إشارة إلى أن أَلسِنةَ الناس مُشرعة دومًا لِلَوْكِ سيرة مَن لا يحافظ على كرامته! فما أسرعَ أن يكون مُضغةً في الأفواه!
وإذا كانت هذه الصديقة قد حاولت أن تَجعله يَصفَح عن خيانتها، فأخذتْ تتودَّد إليه، لعله ينسى الماضي ويبدأ صفحةً جديدة، فإنه قد نفَض يده تمامًا منها، وها هو يَلمِزُها:
فاتَّصلْ إن كنتَ متصلًا *** بِقُوى مَن أنتَ مِن وَطَرِه
فكأنه يقول لها: (إن كنتِ تريدين حبيبًا، فابحثي لك عن إنسان آخر غيري يوافق طبعُه طبعَكِ، أما ما كان بيننا فيَجدُر بكِ أن تَنسيه نسيانًا تامًّا)! ثم يتحول إلى نفسه فيُنحي عليها باللائمة وهو يَعَضُّ بَنان الندمِ؛ إذ كيف تَخدَعه مثل هذه المرأة وتنال منه غِرَّةً؟! لقد راح - كما نقول الآن: - في سابع نومة، فطعَنته الطعنةَ النَّجلاء، إن الذنبَ ذنبه هو، ولذلك فهو يدعو على نفسه بالخيبة والخسران:
خابَ مَن أَسْرى إلى بلدٍ *** غيرُ معْلومٍ مدى سَفَرِه
مصورًا هذه العلاقة التي كانت تَربِطه بصديقته الغادرة على أنها كانت سفرًا مجهول الغاية، تَمَّ في ظلام الليل، وفضلًا عن ذلك فهو لم يأخذ في أثناء ذلك حِذْرَه، فأسلم عينيه للنوم يُرنِّقُ فيهما، وتأمَّلْ جمالَ البيت التالي:
وسَدَتْهُ ثِنْيَ ساعدِه *** سِنَةٌ حَلَّتْ إلى شُفُرِه
وكيف يصوِّر الشاعر فيه دبيبَ النعاس في أعضائه عضوًا بعد آخر، حتى ينتهي إلى أشفار عينيه، فيُطبق جفونه ويُوسِّد رأسَه ذراعَه المَثْنِية.
أما في القسم الثاني، فإن الشاعر يُخصصه لاستعراض بعض تجاربه في الحياة استعراضًا خاطفًا، ليس فيه حرارة ولا تعمُّق، وكأنه قائمة برؤوس موضوعات سوف يتناولها فيما بعدُ، مخصصًا لكلِّ تجربة من هذه التجارب بيتين، فهو كثيرًا ما سهِر ونام أصدقاؤه وبقِي هو يَحرُسهم، وهو أيضًا على كتمان مشاعره ومُصانعةِ مُبغضِه جِدُّ قديرٍ، وهو كثيرًا ما ذاق حلاوة الحب فنونًا وألوانًا، ترى أهو يريد أن يقول: إنه إذا كان قد سها وترك عينيه للنوم، فتلقَّى الطعنةَ المُصْمِيَةَ، فإن ذلك لم يكن مِن طبعه وهو الحَذِرُ الذي لا ينام عادةً وإن نام غيرُه؟!
تُرى أهو كذلك يريد أن يقول: إنه إذا كان قد ابتلع سخطه، فليس معنى ذلك أن كَسْبَ رضاه بالشيء السهل الهيِّن؟! أتُراه أيضًا يريد أن يقول: إنه إذا كانت هذه المرأة قد خانتْه، فكم من نساء أعطينَه أنفسَهنَّ ولَم يَتَأَبَّيْنَ عليه، فكانت علاقته بهنَّ صفوًا متصلًا وسعادةً غامرةً؟!
إننا لا نستطيع الجواب على هذه الأسئلة، بل الحق أن في هذه الأسئلة شيئًا غير قليل مِن التكلف؛ إذ إن الشاعر يستعرض - كما سلف القول - تجارِبَه هذه استعراضًا باهتًا.
أما في الحديث عن رحلته، فإنه يفصِّل القول في وصف حصانه، فهو حصان قوي، عَبْلُ الجسد، ضامر الخاصرتين، يُفرز مِن شِدقيه زَبَدًا يَكسو منه العُثنون والمِنخرين وعَظْمَ الحاجبين، ثم تُطيِّره بعد ذلك الريحُ كما تُطير المِنْدفة نُتَفَ القطن الأبيض في الهواء، وهو كما ترى وصفٌ مفصَّلٌ، لكنه يَفتقر إلى الهدف وإلى الجمال!
أما القسم الثالث، وهو القسم الذي خصَّصه لمنافقة ممدوحه على عادة كثيرٍ من الشعراء في تلك العصور، فإن معانيه تَخلو من الأصالة، اللهم إلا بعض اللمحات الجزئية؛ كقوله يَصِف حرَّ وطيس الحرب:
وإذا مَجَّ القَنا عَلَقًا *** وتَرَاءَى الموتُ في صُوَرِه
فالقَنا هنا لا تتلطَّخ بدماء الأعداء، بل تَمُجُّ الدم من أحشائها وأفواهها، فأي رماح هذه! والموت يتجسَّم أمام العين تجسمًا؛ كالغول تتراءى في صور مختلفة تُخبِّل العيون والعقولَ! كذلك لا تَخلو صورة الأشراف الذين أسَرهم الممدوح في حربه مع أعدائه من شيء - وإن كان طفيفًا - من قوة التأثير:
وتَرى السادات ماثلةً
لسليلِ الشمس مِن قَمَرِه
فَهُمُ شَتَّى ظنونُهُمُ
حَذَرَ المكْنونِ من فِكَرِه
ومَبعث هذه القوة أنه لا يُحدثنا صراحة عن ذِلَّتهم وضَراعتهم، ولكننا نَفهَم هذا مِن تصويره إياهم، وقد مثَلوا أمام ممدوحه صامتين لا يَنبِسون ببنت شَفةٍ، كما نفهَم أنهم قد خَرِستْ منهم الألسنُ من قوله: (فهمُ شتَّى ظنونُهم)، فإن ظنونَهم تَشغلهم عن كل كلام؛ إذ يستغرقهم تمامًا التفكير فيما ينتظرهم على يديه مِن مصير أسود، وهو مِن جهته يَحتقرهم ويَزيد عذابهم بالصمت والتعالي، ومع ذلك فإن قوله عن هذا الممدوح في أثناء ذلك:


لسليلِ الشمس من قَمَرِه
وكريمُ الخالِ مِن يَمَنٍ
وكريمُ العمِّ مِن مُضَرِه


هو السُّخْف بعينه، إذ ما صِلتُه بموقف الرهبة والفزع الذي يَقفه هؤلاء الأشراف الذين أسرَهم؟! قد يَصلُح هذا الكلام في وصف فتاة تتزوج، فيقال: إنها سليلة الشمس والقمر!
ومثلُه في السُّخف، بل أسخفُ منه: قوله عن هذا الممدوح قبل ذلك: إن (رسول الله مِن نَفَرِه)، وكأن الممدوح هو الأصل، والرسول عليه السلام مجرد واحد من الفروع التابعة له، إن هذه قلةُ أدبٍ، ولكن قاتَل الله النفاق والمنافقين ومَن يُصغون إليهم!
أما قوله عن ممدوحه:
فاسْلُ عن نَوْءٍ تُؤمِّلُهُ
حَسْبُكَ العبَّاسُ مِنْ مَطَرِه
مَلِكٌ قَلَّ الشبيهُ لَهُ
لم تَقَعْ عَينٌ على خَطَرِه
لا تُغَطَّى عنه مَكْرُمةٌ
برُبا وادٍ ولا خَمَرِه


فهو كلام لا يساوي ثَمَنَ الحِبر الذي كُتِب به؛ لأنه مجرَّد كلام مرصوفٍ قد صدَر عن قلبٍ ميتٍ!


https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz6W76hCLWC