من خلال كتاب: "شبهات المستشرقين حول قضايا المرأة في القرآن ووسائلها وآثارها والرد عليها" لـ(د. عفاف عبدالغفور حميد)، وتوضيح منهج المستشرقين في التدوين عن الإسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد:
فلقد ذكرت الكاتبة في مقدمة كتابها "شبهات المستشرقين حول قضايا المرأة في القرآن وسائلها وآثارها والرد عليها" أن الإسلام واجه تياراتٍ معادية؛ منها: الاستشراق، وقد حاولت حركة الاستشراق - متخفيةً وراء البحث العلمي - إثارةَ الشُّبُهات حول الإسلام، وكان للمرأة وقضاياها في القرآن نصيبٌ كبير، ويهدف البحث إلى توعية المسلمة بتلك المخططات، وما يُراد لها من قِبَلِ مثيري الشبهات حول ما يخصها من قضايا في ظل التعاليم القرآنية.
وقد اشتمل البحث على مبحثين؛ المبحث الأول: أهم القضايا التي أثارها المستشرقون؛ وهي: القوامة، والحجاب، والطلاق، وتعدد الزوجات، والميراث، وقضايا أخرى مفتريات، ومناقشتها والرد عليها بالاستناد إلى النصوص القرآنية، ومقارنتها أحيانًا بما يتوفر لديهم من نصوص كتبهم في العهد القديم والجديد؛ لإبراز ما منح القرآن للمسلمة من حقوق تتفوق بها على بقية الشرائع.
المبحث الثاني: يشمل أهم وسائل نقل الأفكار الاستشراقية؛ كالتعليم والإعلام والمؤتمرات، وبيان أثرها على المرأة والمجتمع المسلم في الغزو الفكري للثقافة العربية، وبخاصة من خلال مَن تتلمذوا على يد المستشرقين، ومطالبتهم بتغيير بعض الأحكام الشرعية، والتأثير في الحياة الاجتماعية، والتبعية والتقليد لأفكار الغرب، وتحويل قضاياهن إلى قضايا سياسية، وذلك من أجل التنبُّهِ إلى كيفية التعامل معها بوعيٍ؛ بعرضها على ثوابت الإسلام وتعاليمه، ومن ثَمَّ الحكم عليها وقبول ما لا يتعارض منها معه، ورفض ما لا يوافق مبادئَ ديننا ونصوصه الثابتة، والإشارة إلى خطورتها وما يمكن عمله لمواجهتها.
ومن خلال الشبهات التي أثارها المستشرقون حول المرأة المسلمة نستعرضها مع ذكر قواعدَ وضوابطِ منهجِ المستشرقين في الكتابة؛ سواء في التاريخ، أو القرآن والسنة، أو الدراسات الأدبية والفكر، وكل ما يتصل بالإسلام والعرب، فهي سمات وملامح واحدة؛ ومن هذه القواعد والضوابط ما يأتي:
أ- منهج المستشرقين المتبع في كتاباتهم من حيث الشكل:
• العناية بتاريخ وفكر الزنادقة والمنحرفين فكريًّا من أصحاب الفكر الحر وقادة الفكر؛ كمثال: قاسم أمين، الذي دعا إلى تحرير المرأة، فيجدون بذلك ضالتهم في إثارة الشبهات حول المرأة المسلمة، ومن أشهر كتبه كتاب "تحرير المرأة"، وكتاب "المرأة الجديدة"، وممن تأثر بفكره: سعد زغلول، وهدى شعراوي، وصفية زغلول.
• القفز وراء العصر الإسلامي وللمرأة في القديم، وأنها كانت تحظى بمكانة أفضل مما هي في الإسلام.
• تقسيم التاريخ الإسلامي لأُسَرٍ لعمل التفرقة وإثارة الشبهات حول المرأة بالعصر الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني؛ لإحداث الفُرقة بين المسلمين.
ب- منهج المستشرقين من حيث استكمال شروطه والالتزام بقواعده:
الخضوع للأهواء:
أثار المستشرقون حجاب المرأة المسلمة، وحاولوا التأثير من خلالها على المسلمة، فبدأت قضية تحرير المرأة من الحجاب، والمطلوب هو السفور والتبرج، فزعموا أن سرَّ تأخرِ المسلمين وتخلفهم هو حجاب المرأة؛ لأنه يعيقها عن الانطلاق والحركة، "ولمَّا أُريد للمسلمة أن تسير سيرة المرأة الغربية، فلا بد من افتعال قضية للتحرير تمر بمراحلَ على النسق الأوربي؛ فوقع الاختيار على الحجاب"، فكان أول حاجز اخترقه المستشرقون وأتباعهم من أنصار "تحرير المرأة"؛ إذ عدُّوا سترَ الرأس إهانةً للمرأة ولكرامتها الإنسانية، وعائقًا يمنعها من مشاركة الرجل في نهضته، والذين نادَوا بتحرير المرأة المسلمة أُسوةً بالغربية لم يراعوا الفرق بين الاثنين؛ حيث لا تشابه بينهما، فالغربية قضية تحرير من ظلم الرجل والمجتمع، ولكن الحجاب لا علاقة له بالرجل، فهو من الله لحساب الرجل والمرأة كليهما، وللمجتمع والقيم اللائقة بالإنسان، ودعاة التحرير لم يفهموا حرص الرجل على زوجته، بل عدُّوا الحجاب عدم ثقة الرجل بالمرأة.
والحجاب من الثوابت التي نص عليها القرآن الكريم بآيات بينة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 59].
فالأمر هنا مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته يشمل نساء المؤمنين، فلا عذرَ لأحدٍ أن يقول إنها خاصةٌ بنساء بيت النبوة، بل يجب اتخاذهن قدوة، ولم يقل بخلاف ذلك أحدٌ من المفسرين قدماء ومحدثين في أنه أمر بذلك؛ لكي يمنع المرأة من الأذى وتمييزها عن غيرها.
ورفْعُ الحجاب الغرض منه عدم التحرج من الاختلاط، وكانت هذه من أساليب المستشرقين الخبيثة لاستدراج المرأة المسلمة.
عجز المستشرقين عن تمثيل الثقافة واللغة:
إن اهتمام الإعلام الغربي بالمرأة المسلمة ليس جديدًا؛ ففي عام 1894م ظهر كتابٌ للكاتب الفرنسي (كونت داركور)، حَمَلَ فيه على نساء مصر، وهاجم الحجاب الإسلامي، وهاجم المثقفين على سكوتهم.
واستخدم المستشرقون وسائلَ لبثِّ سمومهم؛ منها: الصحف والمجلات؛ حيث كانت الوسائل المرئية غير موجودة آنذاك، وقامت الصحافة في مصر خاصة بدور خطير؛ لأنها مركز التوجيه الروحي والثقافي للدول العربية، وأوجدوا ثلاثَ صحف لبنانية مسيحية مارونية في القاهرة، بدأت تهاجم الإسلام بصورة غير مباشرة، وجعلت قضية المرأة المسلمة أكبر موضوعاتها، وتحويل المجتمع للوجهة التي يريدونها، وظهور مجلة (السفور) ورئيس تحريرها عبدالحميد حمدي، وهي أحد إفرازات الحملة الفرنسية على مصر، منبثقة من أفكار اللورد كرومر لتحديث المجتمع كما يزعم، ومؤسسها أحمد لطفي السيد.
ودور الكتاب المترجم كذلك في بث الشبهات وأفكارهم عبره؛ فتُرجمت القصص والمسرحيات لتحطيم التقاليد الإسلامية التي تمنع الاختلاط، بدلًا من ترجمة الكتب العلمية.
التعسف في التفسير والاستنتاج:
يوجه المستشرقون انتقاداتهم إلى نظام الزواج في الإسلام؛ لجعْلِهِ القوامةَ للرجل على المرأة، ويرَون في ذلك تسلطًا واعتسافًا، ويطالبون بأن تتساوى المرأة بالرجل في المسؤولية عن البيت، بل لا يمانعون في أن تكون لها القوامة على الرجل والبيت، وحجتهم - ومن ورائهم دعاتهم وأبواقهم - أن المرأة مخلوقٌ رقيق لا يحتمل التسلط والاعتساف، وتحلو هذه الحجة لدى كثير من النساء الغافلات عن سنن الحياة الاجتماعية.
ومن مزاعمهم: أن قوامة الرجل ما هي إلا نوع من التفوق الجنسي القائم على السيطرة والإذلال، ومظهرٌ لفرض الرِّقِّ والعبودية على نصف البشرية، وما دَرَوا أن قوامة الرجل على المرأة ما هي إلا تكريم للمرأة وتشريف لها؛ إذ يتحمل الرجل مسؤولية الأسرة ويقوم بحمايتها والإنفاق عليها والدفاع عنها؛ لتتفرغ المراة لرسالتها: تربية الأجيال، وصنع الرجال والأبطال.
إن بعض المستشرقين وقع في سوء فَهْمٍ يتعلق بالآيتين؛ قال تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228]، وقال تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [النساء: 34]؛ فَفَهِمَ المستشرقون أن الدرجة هي القوامة، والتأويل الصحيح ما قاله ابن عباس؛ وهو أن الدرجة التي ذكر الله تعالى هي الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وأداء الواجب لها عليه، وفسَّره بذلك المفسرون وأشهرهم الطبري.
منهج العكس (هو أن ينظر الباحث في النصوص والروايات والوثائق، فإذا قالت شيئًا، فعليه أن يدرك أن الصواب هو عكسه تمامًا):
من استقراء أقوال المستشرقين حول الإسلام، وما هو في كتبهم الدينية المحرفة، نجد أن كل الافتراءات والشبهات التي وُجِّهت إلى ما يخص الإسلام وأهله ما هي إلا صورة لِما في كتبهم المقدسة لديهم، وما في مجتمعاتهم من عيوب، ومن ثَمَّ وَصْمُ الإسلام والمسلمين بها، بالتعاون مع الكنيسة ومناصريها وكل القوى المتحالفة ضده؛ ليقف المسلمون موقف المتهم المدافع لِما يُوجَّه إليه، فهو إسقاط مدروس وعن وعي، وليس خطأً عن جهل، بل كذبًا متعمدًا صادرًا عن لِجانٍ ومؤتمرات، وَحَمَلَةِ أقلام موظفة لتلك المهمة، فتفسيرهم للآيات القرانية بالعكس؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1]؛ حيث تؤكد الآية على النفس الواحدة، وتكاد تُجمِع التفاسير قديمة وحديثة على أن المراد وحدة الجنس؛ يقول الطبري والرازي: "المقصود والمراد: من جنسكم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [التوبة: 128]".
إن الإسلام لم يصِفِ النساء بأنهن نتاج الشيطان وبذور الشر كما هو حال بقية الأديان.
التشكيك في الدليل القاطع والتعامي عنه:
فأثاروا الشبهة حول ميراث المرأة المسلمة، وقد اتهموا الإسلام بالتمييز؛ لأنه أعطى ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، وفي القضية سوء فهم، وعدم إدراك للحكمة الإلهية من هذا الحكم؛ لأن الإسلام جعل الرجل هو المسؤول عن الإنفاق ودفع المهر، في حين أن المرأة يُنفَق عليها في جميع الأحوال؛ فلذلك لا تحتاج إلى المال كما يحتاجه الرجل، فالنصف تكريم لها، فالتمايز في أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة، إنما يرجع لِحِكَمٍ إلهية ومقاصد ربانية قد خفيت عن الذين جعلوا التفاوت في الميراث شبهة على كمال أهلية المرأة؛ ذلك أن التفاوت تحكمه ثلاثة معايير:
1- درجة القرابة بين الوارث والموروث.
2- موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال.
3- العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمُّله والقيام به حيال الآخرين.
ومن ثَمَّ فإن هذا التفاوت لا يفضي إلى ظلمٍ للأنثى، فهناك حالات ترِثُ نصف ما يرث الرجل، وحالات أضعاف ذلك ترث مثل الرجل.
التحريف والتزيف والادعاء:
من القضايا التي أثارها المستشرقون قضية تعدد الزوجات، حتى أصبح هناك تصور غربي عن أن المسلم هو ذلك الإنسان الذي تتملكه الرغبة الجسدية، وينتقل من واحدة إلى أخرى.
يقول وليم مور في كتابه (حياة محمد): "إن المسلمين يجهلون معنى الارتباط الزوجي جهلًا كبيرًا، وحال المسلمين ترتقي عندما يتبعون سنة النصارى في مجال الرابطة الزوجية".
ولكن هناك من أنصف هذه القضية من المستشرقين المنصفين؛ مثل: زيغريد هونكه التي قالت: فالإسلام قدَّس الزواج، وطلب بالعدل بين الزوجين أو الثلاث أو الأربع في المعاملة؛ ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ﴾ [النساء: 3]، أليس هذا نصًّا صريحًا يطلب فيه إلى المؤمنين أن يتزوجوا بواحدة فقط، ومن ذا الذي يستطيع أن يعدل بين النساء.
ولو رجعنا إلى تاريخ البشرية نجد أن التعدد مقررٌ وممارَس في كل مراحل التاريخ: مرورًا بالأنبياء عليهم السلام كإبراهيم وداود وسليمان وغيرهم، كما مارسته الرعية في الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية قبل الميلاد وبعده، إلى أن أصدر الإمبراطور جستنيان الأول قانونًا يفرض الزواج الأحادي، أما اليهود والعرب القدامى، فقد اعتقدوا بتعدد الزوجات، واتخذوه تقليدًا وعرفًا.
فتحديد الزواج بالواحدة في المجتمعات المسيحية ليس أمرًا دينيًّا، إنما هو عادة اجتماعية لا أساس لها في الإنجيل، ولما جاء الإسلام، قام بتهذيب هذه العادة المألوفة؛ لأنه دين واقعي لا ينكر الميول الغريزية، بل يهذِّبها كحلٍّ لمشكلات اجتماعية وأخلاقية خطيرة تغاضت عنها المجتمعات المسيحية واليهودية، وليس لها حلٌّ إلا بالتعدد، فالإسلام لا يُحِلُّ التعدد لأجل التعدد فقط، بل جعل له قيودًا وطالب الزوج بالعدل، ونحن - المسلمين - نؤمن بأن كل ما جاء به القرآن إنما هو لمصلحة البشر.
إصدار أحكام قاطعة بغير دليل أصلًا:
لقد خاض المستشرقون في أمور لا أساس لها من الصحة، مدعين اتهامات من غير دليل، وعلى سبيل المثال: "تصور (ولاستون) وآخرون أن القرآن الكريم قد حرَّم الجنة على النساء، ومنعهن من المشاركة في الصلاة، وسنَّ الأحكام التي تحط من قدرهن".
ومثل هذه الأباطيل لا تستحق الرد عليها، فمن المسلَّمات أن الإسلام لم يفرِّق في تكاليف العبادات بين الرجل والمرأة، فهي مكلَّفة ومحاسَبة ومثابة، وقد جعل الله مِن النساء مَن هنَّ سيدات نساء أهل الجنة.
وفي كتاب استيورت مل (استعباد النساء) نموذجٌ لسوء فهم الإسلام، وهو لا يؤمن بالفروق بين الذكر والأنثى، ومنشأ الاختلاف عنده مردُّه التنشئة الاجتماعية والتربية التي درجت عليها المرأة، والكتاب لم يخصَّص في التهجم على الإسلام، ولكنه ذكر أنه من الديانات الجامدة، وعندما قارن بين الإسلام والمسيحية، انحاز إلى ديانته وعدَّها ديانة الجزء التقدمي من البشر، كما حاول المستشرق مونتجمري في كتابه (محمد في المدينة) أن يرسم صورة غير صحيحة عن العلاقات الاجتماعية في المجتمع المسلم، التي تُبرِزُ تسلط الرجال على النساء.
الاختلاق والتمويه:
قام المستشرقون بإثارة قضية المرأة المسلمة تحت شعار (حقوق المرأة) و(تحرير المرأة)، وقاموا بالافتراء على الإسلام بادعائهم هضمَ تلك الحقوق، وانتقدوا التشريعات الخاصة بها، مستغلين بذلك جهلَ بعضنا بما منح الإسلام للمرأة من الحقوق، والادعاء بأن تلك الأحكام لم تعُدْ تلائم تطورات العصر، وهي شبهات بعيدة كل البعد عن الحقيقة؛ لأنها خلاف ما يدَّعون.
تحدثت الكاتبة في المبحث عن وسائل نقل الأفكار الاستشراقية وآثارها؛ ومنها:
أولًا: التعليم العلماني: وكانت خطة الغزو الثقافي والتغريب في مجال التعليم هي أشد الخطط دهاءً ومكرًا؛ من حيث احتواء المسلم عقليًّا وثقافيًّا، ونتيجة ذلك الهدف الخبيث انتشرت المدارس والكليات ثم الجامعات الأمريكية في كثير من البلاد الإسلامية.
ثانيًا: وسائل الإعلام: إن إهتمام الإعلام الغربي بالمرأة المسلمة ليس جديدًا؛ ففي عام 1894م ظهر كتاب للكاتب الفرنسي (كونت دار كور) حمل فيه على نساء مصر، وهاجم الحجاب الإسلامي، وهاجم المثقفين على سكوتهم.
فهي أداة خطيرة في نقل الأفكار الاستشراقية المطلوبة، وكان في مقدمة تلك الوسائل: الصحف والمجلات؛ حيث إن وسائل الإعلام المرئية لم تكن موجودة آنذاك، فهي زادٌ شامل للمثقفين والعامة، وفي مصر بالذات قامت الصحافة بدور خطير؛ لأنها في نظر المخططين مركزُ التوجيه الروحي والثقافي للدول العربية الأخرى، فقد أوجدوا ثلاث صحف لبنانية مسيحية مارونية في القاهرة، وتدريجيًّا بدأت تهاجم الإسلام بصورة غير مباشرة تحت مسميات التقاليد البالية.
ولقد كانت قضية المرأة أهم وأكبر الموضوعات للصحافة وكُتَّابِها، وأبعدها أثرًا في تحويل المجتمع إلى الوجهة التي يريدها المخططون، فقد صدرت مجلة باسم (السفور)، وكان رئيس تحريرها عبدالحميد حمدي، وهي أحد إفرازات الحملة الفرنسية على مصر، تدعو لنزع الحجاب واقتفاء أثر الأوربية، كما صدرت جريدة (الجريدة) على نية تغيير الأفكار والعادات الاجتماعية، منبثقة من أفكار اللورد كرومر في التحديث الكامل، وكان مؤسسها أحمد لطفي السيد، وكانت مع (السفور) منبرًا لدعوات "تحرير المرأة"، فهذه المجلات تدعو لخلع الحجاب، والتمرد على الشرع، والسخرية بالدين وأهله، وإثارة قضايا الطلاق والتعدد، وغير ذلك، وبهذا ظهر أثر التعليم في تكوين العقول وتشكيلها.
أما الكتاب فقد بدأ مترجمًا في أول عهد النهضة، ثم مؤلَّفًا فيما بعد، ولكن الترجمة بقيت على الدوام؛ لفراغ الجو الإسلامي من الفكر الحي المواكب لسَيْرِ الحياة، والمشكلة تكمن في نوع الكتب المترجمة، فمن المفروض أن يُبدَأَ بالكتب العلمية للحاجة إليها، ولكن الغالب في حركة الترجمة سار في قنوات أخرى، فإلى جانب الكتب العلمية القليلة تُرجمت مئات من القصص والمسرحيات والكتب، التي تحمل الفكر الغربي العلماني الجاحد للدين.
فأما القصص والمسرحيات، فقد كان الهدف من نشرها على نطاق واسع هو تحطيم التقاليد الإسلامية التي تمنع الاختلاط، وتنفر من الفاحشة والتحلل الخلقي ... فالذي تعرضه تلك القصص والمسرحيات لا يزيد على أن يكون علاقات غير مشروعة بين رجل وإمراة، وبين شاب وفتاة، تعطي في القصة شرعية وواقعية ليست لها في الميزان الإسلامي، ويتم هذا في جوِّ الفن الذي يسبغ على كل شيء جمالًا وجاذبية، مهما يكن فيه من الشر.
وقد أوضح أ.شاتليه الهدف من الكتب المترجمة التي تدعو إلى الفكر العلماني، والتخلص من القيم الدينية في مقدمة كتابه (الغارة على العالم الإسلامي) بقوله: "ولا شك أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية في قلوب منتحليها، ولا يتم لها ذلك إلا بتثبيت الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوربية، فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية، يحتكُّ الإسلام بصحف أوربا، وتمهد السبيل لتقدُّمٍ إسلاميٍّ مادي ... وتفضي إرساليات التبشير (التنصير) لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها".
ثم جاء دور التأليف من قِبَلِ تلاميذ الاستشراق، وأولهم: رفاعة رافع الطهطهاوي الداعي لتعليم المرأة بعد عودته من باريس، وله كتاب (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، وكتابه الآخر (المرشد الأمين للبنات والبنين)، وفيهما يبدي إعجابه بفرنسا وبنسائها، وبالرغم من دعوته لتحرير المرأة وتعليمها، لكنه لا يريد لها أن تفقد مكانتها في المجتمع، فإن الله لم يخلقهن لحفظ متاع البيت ووعاءً لصَونِ مادة النسل وحسب، ولكن فوق ذلك خُلقت لمشاركة للرجل في بناء المجتمع الإنساني، بشرط ألَّا تتجاوز الأحكام الشرعية التي فرضها الإسلام.
ونظَّر الشيخ محمد عبده لهم في كُتُبِهِ الداعية للإصلاح الديني، وجاء دور قاسم أمين الذي كتب كتابه الأول (تحرير المرأة المسلمة) سنة 1898م، وقيل: كان يُدعَم من محمد عبده، وقيل: هو في الحقيقة من كتابته، وفي هذا الكتاب أخفى شيئًا أبداه في كتابه الثاني (المرأة الجديدة)؛ جريًا على سنة التدرج في التأثير، أراد للمسلمة أن تكون كالأوربية؛ فقال في الكتاب الأول: "فَلِمَ لا نطالب أولي الأمر في كل بيت إلى إعداد نفوس البنات في زمن الصبا إلى هذا التغيير - وهو ترك الحجاب - وأن يغرسوا فيهن الاعتقاد بأن العفة مَلَكَةٌ في النفس لا ثوب يختفي دونه الجسم".
ثم التغيير الجذري: "إن التمسك بالماضي الإسلامي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن تنهض جميعًا لمحاربتها؛ لأنه ميلٌ يجرنا إلى التدني والتقهقر".
ثم جاءت أطروحة منصور فهمي للدكتوراه من فرنسا سنة 1913م بعنوان: "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطورها"، ثم جاء دور طه حسين الذي أراد للأمة الإسلامية أن تقلد الغرب وحضارتهم بحلوها ومُرِّها شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع.
وبعد رحيل قاسم أمين كانت الدعوة إلى تحرير المرأة وسفورها تسير نحو التحقق بدعوة الغالين والمعتدلين، إلى أن ألقت المرأة بالحجاب والنقاب في مظاهرة سنة 1919م، قادتها هدى شعراوي، وفي تلك الفترة عُرفت واشتهرت محافل النساء، فكانت صالونات مي زيادة وهدى شعراوي وغيرهما.
والأمثلة التي تقدمها بلاد مصر؛ لأنها كانت القطب المؤثر في بقية الأقطار العربية، ولكثرة الكتابات حولها، وما كان يدور فيها يلقي آذانًا مصغية من غيرها، لا سيما في ظل الهزيمة النفسية إبان الاستعمار وبعده، ومحاولة التحرر من كل ما يتصل بالدين؛ حيث نشر المستشرقون فكرة علاقة تخلف الشرق بتمسكهم بالدين، فنجد الشعراء شاركوا في هذه الحملة مع بقية الأقطار؛ ومنهم مثلًا: الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي:
اسفري فالحجاب يا ابنة فهر *** هو داء في الاجتماع وخيمُ
والشاعر الرصافي الذي يقول:
وأكبر ما أشكو من القوم أنهم *** يُعِدُّون تشديد الحجاب من الشرعِ
ثم جاء دور الإذاعة لتخاطب الناس على اختلاف ثقافاتهم واهتماماتهم، وهي وسيلة تصل للمتعلم وغير المتعلم، ثم التليفزيون كذلك من الوسائل الخطيرة التي غزت كل البيوت تقريبًا؛ ليشارك المرء بكل حواسه: سمعه وبصره، والسينما وتأثيرها الشديد، ومثلها الفيديو البعيد عن الرقابة، وتجارة أفلامه من أخطر التجارات، وأخيرًا الإنترنت في زمن العولمة الجديدة وما يحمله من انحراف وغزو فكري، وهكذا ساعد الإعلام وأصحاب الأقلام حملةَ التغريب، ووصل التضليل إلى درجة وُصفت فيها المتمردة على الآداب الإسلامية بأنها "متحررة" و"عصرية"، واللاتي يلتزمن بالسلوك الإسلامي بأنهن "رجعيات ويعشن في عصر الحريم وجاهلات"، وبهذا قلبوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا.
وباسم الفن تُرتكب كل المعاصي، لا سيما تبرج المرأة وتعريها، واستُخدمت في الدعايات، فنجد القائمين على شؤون الفن يحرصون على اختيار الجميلات قصد الإثارة، وهناك الرقص مع العُرِيِ، والغناء ومسابقات ملكات الجمال، بتشجيع من فئات كثيرة، وهكذا باسم الفن جُرفت المرأة في تيار التبعية العمياء لكل ما يفعله الغرب، والفن في وسائل الإعلام هو أحد ميادين الانهزام أمام الحضارة الغربية، فنجد عرض قضايا المرأة بصورة مخالفة للإسلام، فالتعدد مستحيل، والزواج الثاني فاشل، وزوجة الأب ظالمة، ورجل الدين مخادع، كما نجد مادة الحديث لا تعبر عن الواقع، بل تقلد برامجَ تلفزيونية كثيرة للغرب بعيدة عن قيمنا وديننا.
فالعلمنة التي أصابت التعليم قد أصابت الإعلام بكل قوى الصهيونية والصليبية؛ لأنهم يمتلكون هذه الوسائل، ثم امتدت علمنة الإعلام إلى القوانين؛ لتصيب القوانين الإسلامية والتشريعات الخاصة بالمرأة في الصميم.
وفي مجال الإعلام علينا أن نتوقف عند المبدأ الإسلامي في تلقي الخبر والمعلومة، وتحري المصدر الذي جاءت منه؛ مما أشارت الآيات في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِي ﴾ [الحجرات: 6].
النتائج مما سبق دراسته: نستنتج مما سبق:
• إن منهج كتابة المستشرقين لم يكن وليد يوم وليلة، إنما كان تخطيطًا مسبقًا بمكر ودهاء؛ لبثِّ سمومهم في الأمة الإسلامية.
• مدى خبث ومكر المستشرقين المتعصبين لأفكارهم المنحرفة.
• تركيز المستشرقين في كتابة موضوعاتهم على إثارة الشبهات حول المرأة المسلمة؛ لإدراكهم بأن إفساد الأمة الإسلامية بإفساد المرأة المسلمة.
• اعتماد المستشرقين على وسائل الإعلام مثل الصحف والمجلات؛ لإثارة شبهاتهم حول الإسلام والمرأة المسلمة.
• تشجيع المستشرقين لأبناء الأمة الإسلامية ممن انجرفوا وراء أفكارهم الضالة، وتصديرهم في وسائل الإعلام العربية الإسلامية.
• استطاعت الكاتبة أن تذكر أبرز الشبهات التي أُثيرت حول المرأة المسلمة من قِبَلِ أعداء الإسلام من المستشرقين، ووسائلهم التي استخدموها والرد عليها.
• يجب على المسلم الفَطِنِ الحذرُ من مثل هذه الدعوات الضالة وفضحها والرد عليها؛ بالاعتماد على تفسير وتوضيح مصادر الإسلام - الكتاب والسنة - تفسيرًا صحيحًا.
• تمحيص الروايات التاريخية وعدم الأخذ بها على عِلَّاتِها، والنظر في عدالة السند ومقارنة المتن.
هذه أبرز النتائج التي توصل إليها البحث من خلال تتبع منهج المستشرقين في كتابة موضوعاتهم من الناحية الشكلية ومضمونها، من خلال كتاب: "شبهات المستشرقين حول قضايا المرأة في القرآن ووسائلها وآثارها والرد عليها لـ(د. عفاف عبدالغفور حميد).
والحمد لله، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/1...#ixzz6Vx2ZMjD7