معضلة الزواج والمظهرية الكاذبة
محمود النجيري


ليس أيسر من الزواج في الإسلام،فقلة المال والمتاع لا تمنع من إتمامه، والواجب شرعاً أنه إذا أراد اثنان الزواج، يمكن أن يتزوجا فوراً دون تكلف ما لا يوجد، أو انتظار ما لا يُملك، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أراد أحد صحابته الكرام أن يتزوج، ولم يجد شيئاً يقدمه مهراً لزوجته، قال له: >تزوج ولو بخاتم من حديد<(1)· وأمر علياً أن يقدم لفاطمة درعاً مهراً حين لم يكن لديه سواها·
وفي الصحيحين أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني قد وهبت نفسي لله، فقامت طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >فهل عندك من شيء تصْدِقُها إياه<؟ قال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >إنك إن أعطيتها إزارك، جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئاً<، قال: لا أجد شيئا، قال: فالتمس ولو خاتماً من حديد<، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >هل معك شيء من القرآن<؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا، لسور سماها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >قد زوجتكها بما معك من القرآن<(2)·
وفي سنن أبي داود من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: >من أعطى في صداق ملءَ كفيه سويقاً أو تمراً، فقد استحل<(3)· وفي سنن الترمذي أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >رضيت من نفسك ومالك بنعلين<؟ قالت: نعم، فأجازه(4)· قال الترمذي: حديث حسن صحيح·
وفي صحيح ابن حبان عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: >من يُمن المرأة تسهيل أمرها وقلة صداقها<(5)· ويأمر الله عز وجل بإنكاح من لا زوج له في المجتمع الإسلامي، حتى لا تبقى هناك عزوبة، يقول: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) النور:32، فلم يشرع الإسلام التكلف في المهر أو الجهاز أو النفقة، بل رغَّب في عدم التغالي في المهور ومؤنة النكاح، وبين أن أعظم النساء بركة أقلهن مهراً كما في الأحاديث، وأن الفقر ليس سبباً يمنع من الزواج مادام الغرض هو الإحصان وتحقيق العفاف في المجتمع·
ولكن المؤسف هو أننا غالينا في شؤون الزواج، وجعلناه مجالاً للفخر والبغي ومجاوزة حدود الله تعالى، ووضعنا حدوداً ورسوماً من عندنا ما أنزل الله بها من سلطان، حتى صار الزواج من أشق الأمور على الشباب، كما قال شاعرنا: ثلاثة تشقى بهن الدار .....العرس والمأتم ثم الزار
وتبدو هذه الشروط التي وضعناها، وكأننا نتسابق إلى وضع العقابيل أمام شبابنا كي لا يتزوج ـ بدءاً من الشبكة الذهبية، واشتراط شقة فخمة، وأثاث ورياش، وأجهزة كهربية، وزينات واحتفالات وولائم، ومهر، وبذخ لا يطيقه إلا أرباب الثروات، يحكم الناس في ذلك أعراف وضعوها لتعذيب أنفسهم، وفخر كاذب، ومظهرية جوفاء حتى صرنا إلى معضلة فيها شبابنا بأيدينا: فإما زواج يدفع فيه الأموال الطائلة، ويقع الناس تحت الديون المرهقة، وإما زواج في السر، لا يكلف شيئاً من المال مطلقاً، ولكنه يهدر الكرامة، ويخالف الشرع·
وأكبر مشكلة تواجه الشباب هي التعليم الذي يستمر سنوات طويلة حتى إن الشباب يصل إلى منتصف العقد الثالث من حياته وليس له من مؤهلات النجاح إلا شهادة لا توفر له حياة كريمة، وفي هذه الفترة الممتدة يتعرض الشباب لأزمات جنسية نتيجة البلوغ الجنسي، ويستمر جوعهم الجنسي لسنوات طويلة·
وتظهر الإحصاءات التي أجريت في المركز القومي للطفولة والأمومة في مصر أن 80% ممن تزوجوا في سن أقل من 20 عاماً يعانون الأمية، أو يقرأون ويكتبون فقط، على حين 70% ممن تزوجوا في سن 25 عاماً حصلوا على شهادات متوسطة، ووصلت نسبة من حصلوا على شهادات عالية وتزوجوا في سن الثلاثين أو أكثر إلى 90%·(6)
إننا بأيدينا نُلجئ الشباب إلى البحث عن مخارج لقضاء وطره خارج الإطار القانوني، ومخالفة الشرع، والاحتيال على الآباء والأمهات وخداعهم، وكأنهم بذلك يثأرون لأنفسهم ممن ضيق عليهم وحرمهم الحلال، وأذل نفوسهم، وحطم كبرياءهم، بمطالب مادية تفوق القدرة وتطيش العقل الرزين· كما منعوهم الزواج في النور أمام الجميع، فهم يأوون إلى الظلام، ليتخذوا من أستاره ملاجئ، وإن كانت غير آمنة، لإشباع حاجاتهم، وإرواء غلتهم· وليت الآباء والأمهات ينتبهون إلى الجرم الذي تقترفه أيديهم حين يضعون الأبناء في هذا الحرج، فيجعلون حياتهم تصير إلى جحيم، وخوف بدل أن يعيشوا في هناءة وأمن، متمتعين بحياة أسرية طبيعية، يأوون فيها إلى بيت الزوجية ببركة من الله ورعاية من الأهلين، فيسعدون بالاستقرار والمشاركة الوجدانية، ويبتغون الولدان ذكوراً وإناثاً·
ومن المؤسف أن نرى جهاداً اقتصادياً متنوع الأشكال، وتنافساً على وضع الأسس الاقتصادية لتنظيم حياة الناس، وتأمين الغذاء لهم، وإسكات جوع البطون، ولا نسمع بالمقابل تنادياً إلى تنظيم الحياة الحسية، وتأمين خطر الجوع الجنسي بتهيئة أسباب الزواج، ولقد كان سلفنا الكرام يولون هذا الأمر من الاهتمام أكثر مما نفعل الآن!
ونحن نرى أن تيسير الزواج والدعوة إلى الزواج المبكر هو الحل الصحيح لهذه الأزمة، وأن تقوم هيئات شعبية تحمل على كاهلها الدعوة إلى تيسير الزواج واتخاذ خطوات عملية لذلك، وأن يشارك رجال الفكر والعلماء والإعلاميون في هذا الأمر، حتى يتغير فكر اقتناء الأشياء وتكديسها، وثقافة الفخر الكاذب والمظهرية الفارغة·
ومن المؤكد أن الشباب إذا تزوج في سن باكرة في شقة صغيرة، أو مع الأسرة الكبيرة في شقتها، دون مغالاة في مهر أو أثاث، أو هدايا ذهبية، أو احتفالات فخمة، فإنه سوف ينصرف إلى معاشه وكسب رزقه بنفس هادئة، يتوافر لها الاستقرار والسكينة والمودة، ويتحقق لها الإشباع النفسي والجسدي، فينصرف الشباب إلى العمل والعطاء بدلاً من اللهاث وراء الأهواء والشهوات·
الهوامش
1 ـ أخرجه البخاري 9/187، في النكاح: باب المهر بالعروض وخاتم من حديد·
2 ـ أخرجه البخاري 9/176، 179 في النكاح: باب التزويج على القرآن وبغير صداق، ومسلم (1425) في النكاح: باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد·
3 ـ أخرجه أبوداود (2110) في النكاح: باب قلة المهر، وأحمد 3/355، وهو ضعيف·
4 ـ أخرجه الترمذي (1113)، وابن ماجه (1888)، وفي سنده ضعف·
5 ـ أخرجه ابن حبان في صحيحه (1256)، وسنده حسن·
6 ـ انظر جريدة الأهرام تاريخ 5/3/1998م، ص13·