صدر حديثًا كتاب "الأصول التي عليها مدار الفقه"، تأليف: الإمام "أبي علي محمد بن أحمد بن محمد ابن أبي موسي الحنبلي البغدادي"، أفرد المقدمة وشرحها: أ.د. "عبد العزيز بن محمد بن ابراهيم العويد"، نشر "دار ركائز الوقفية للنشر والتوزيع" بدولة الكويت.
وهي المقدمة الأصولية لكتاب "الإرشاد إلى سبيل الرشاد" للإمام ابن أبي موسى الحنبلي البغدادي (ت ٤٢٨ هـ)، اشتملت على جلّ مسائل أصول الفقه الحنبلي على سبيل الإجمال.
ونجد أنه كان للحنابلة إسهام في هذا المجال المبارك، علم أصول الفقه، فالإمام أحمد له أصول فقهية أعملها، استخلصها تلاميذه وأصحابه، منها ما قاله ونطق به - وهو كثير - ومنها ما اُستخرج من إعماله بالاستقراء والتتبع لفروعه ومسائله.
والمقدمات الأصولية للكتب الفقهية والتي وضعها بعض مؤلفي المدونات الفقهية تمهيدًا وتوطئة لكتابه الفقهي هي من الإثراء العلمي الأصولي خصوصًا حين يكون المؤلف من المتقدمين، وهي رافد علمي لأصول الفقه عند الحنابلة خصوصًا عندما يكون من إمام راسخ متقدم.
وهذه الرسالة إفراد للمقدمة الأصولية التي وضعها الإمام العلَم العلامة أبي علي محمد بن أحمد بن محمد بن أبي موسى الشريف (٣٤٥ – ٤٢٨ هـ) والتي استهل بها كتابه "الإرشاد إلى معرفة الرشاد"، مع شرحها شرحًا بيانيًا من جانب المحقق، يقربها للدارسين من طلاب العلم.
واختيار هذه المقدمة الأصولية والتي نعتها مؤلفها في تبويبها بأنه ذكرَ فيها الأصول التي عليها مدار الفقه، كان لعدة ميزات منها: اشتمالها على جل مسائل أصول الفقه على سبيل الإجمال ما تصلح معه أن تكون متنًا ينهل منه طلاب العلم في ابتداء الطلب، إلى جانب تقدمها في زمان التأليف، خصوصًا في كتب المذهب، وكون كاتبها إمام عَلَم من أصحاب الإمام أحمد وحاملي مذهبه.
وقد قام المحقق بإفراد هذه المقدمة الأصولية في كتاب منفصل لتلك الأهمية البالغة، وسماها- اجتهادًا- بما وصفها به مؤلفها ابن أبي موسى في أولها: «الأصول التي عليها مدار الفقه».
وقد مهَّدَ لها بمبحثين:
المبحث الأول: ترجمة الإمام ابن أبي موسى رحمه الله.
المبحث الثاني: التعريف بالمقدمة الأصولية لابن أبي موسى "الأصول التي عليها مدار الفقه".
ولعل في إفراد هذه المقدمة وشرحها ما يحقق المقصود بالمساهمة في تقريب علم أصول الفقه عند السلف.
ولا ريب أن إفراد مقدمة الشريف ابن أبي موسى هي إضافة للكتب الأصولية المتقدمة والتي على ما هي عليه متون مختصرة لأصول أصول الفقه عند الحنابلة رحمهم الله تعالى.
وهذه المقدمة مشتملة مع وجازتها واختصارها على جل مباحث الأصول في قواعده الكلية؛ فهي كما وصفها ابن أبي موسى أنه ذكر فيها الأصول التي عليها مدار الفقه.
ولذا فهي مرشحة لأن تكون من المتون الأصولية على مذهب الحنابلة التي تُشرَح لطلاب العلم المبتدئين.
كما أن هذه المقدمة - كما هي متن أصولي حنبلي - فهي أيضًا كاشفة عن آراء وترجيحات الإمام ابن أبي موسى والتي هي من المحل العلمي بمكان، فالحفاوة بها لا تقل عن الحفاوة بآرائه الفقهية لجلالة قدره وعلو كعبه في العلم خصوصًا مذهب الحنابلة.
ولذا كانت هذه المقدمة "زبدة مختصرة فيها تقرير للأصول الفقهية على مذهب الحنابلة".
وبتأمل هده المقدمة نكتشف شيئًا من منهج ابن أبي موسى فيها، والتي هي في جملتها مزايا ومحاسن فيها، ومن أهمها:
أولًا: أجمل ما يعبر عن هذه المقدمة، ويصفها قول ابن أبي موسى نفسه في عنوان الباب الذي حواها «ذكر الأصول التي عليها مدار الفقه وما في معنى ذلك»، ولعل هذه الجملة من العنوان تعبر بجلاء عن مضامين هذه المقدمة وما تحويه، فهي مخصوصة بأصول الفقه التي يُبنى عليها الفقه.
ثانيًا: المقدمة مختصرة فهي أشبه بالمتن الأصولي المختصر، ولذا حوت أصول الأصول ورؤوس المسائل فيه دون تفصيل وبيان.
ثالثًا: كان لابن أبي موسى عناية بالحدود والتعريفات، ولكنها كانت على طريقة المتقدمين بما يقرب المعرَّف ويميزه عن مشابهه، بعيدًا عن التكلف والاغراق اللفظي.
رابعًا: كانت عناية ابن أبي موسى في هذه المقدمة بالأدلة المتفق عليها الكتاب والسنة والإجماع والقياس وبعض أحكام الدلالات اللفظية كأنواع الكلام والحقيقة والمجاز والنسخ والمطلق والمقيد والأمر والنهي والمجمل، مع عناية متميزة بأحكام العام والخاص.
خامسًا: لكون المقدمة جاءت باختصار فإن ابن أبي موسى قليلًا ما يستدل لما يقرره، ولم يكن يعرض للخلاف في المسائل إلا ما ندر.
سادسًا: مع صغر حجم هده المقدمة الأصولية إلا أن ابن أبي موسى اهتم بالتمثيل لما يقرره من القضايا الأصولية وبتكثير الأدلة في بعض المواضع، وبخروج عن الأمثلة المألوفة والمكررة عند المؤلفين من الأصوليين، مما يعين على إدراك مسائله للمبتدئين ويثري المسألة بأمثلة مما لم يكن من المكرور.
وقد قام د. "عبد العزيز بن محمد بن ابراهيم العويد" بمراجعة مخطوطة الكتاب الوحيدة للتثبت، مع عزو الآيات القرآنية وتخريج الأحاديث النبوية، وشرح المقدمة بتقسيمها إلى مقاطع حسب موضوعاتها، مع سلوك مسلك الشرح البياني التحليلي المقرب لكلام ابن أبي موسى ومقاصده من الكلام، والعناية ببيان وجه الدلالة بما يستدل به ابن أبي موسى من الآيات والأحاديث، وبيان وجه التمثيل فيما يمثل به.
مع ذكر أدلة لما لم يستدل له مما يقرره من القضايا الأصولية يما لا يزيد عن ثلاثة أدلة، مع بيان وجه الاستدلال بها للقضية.
وذكرَ أمثلة لما لم يمثل له، وبيان وجه التمثيل، مع عرض للخلاف في المسألة الأصولية فيما فيه خلاف واضح ومشهور مع نسبة الأقوال وشيء من أثر الخلاف.
وتوج المحقق الشرح بنقولات محققة لأئمة محققين من العلماء كالإمام الشافعي والقاضي أبي يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي.
كما أضاف في الشرح للمسائل - التي يعرض لها ابن أبي موسى - بعض أحكامها المهمة عند الأصوليين بشكل مختصر وبالقول الراجح فيها.
أما عن المصنف فهو "محمد بن أحمد بن أبي موسى الشريف، أبو علي الهاشمي البغدادي" (345 - 428 هـ = 957 - 1037 م)
قاض، من علماء الحنابلة. من أهل بغداد، مولدًا ووفاة. كان أثيرًا عند الإمامين القادر باللَّه والقائم بأمر الله العباسيين، له حلقة في جامع المنصور.
وبلغ الإمام ابن أبي موسى منزلة علية في العلم خصوصًا في رواية الحديث وفي الفقه مع عنايته بمذهبه الفقهي مذهب الحنابلة.
أما في الحديث فكان من أهل الرواية الذين أخذ عنهم الحديث، فقد روى عنه وكتب عنه محدثون أعلام كالخطيب البغدادي حيث قال في تاريخ بغداد: ((كتبتُ عنه وكان ثقة)). كما روى عنه القاضي أبو يعلى.
أما الفقه فليس من ريب أنه من أئمة الفقه على مذهب الإمام أحمد، ومن شيوخ المذهب ومقدميهم، بل أحد أئمة الحنابلة كما قاله ابن كثير.
وعده ابن الجوزي في كتابه مناقب الإمام أحمد في الطبقة الرابعة من أصحاب الإمام. وقال: "هو أحد أصحاب أحمد بن حنبل". بل هو كما قال الذهبي: "شيخ الحنابلة وعالمهم".
وقال في موضع آخر في نعته: "ومن إليه انتهتْ رئاسة المذهب".
ولعل مما يظهر منزلة ابن أبي موسى العلمية خصوصًا في الفقه ما يظهر من كثرة النقول عنه في كتب المذهب مما يحكيه رواية في المذهب، أو نقل آرائه الفقهية واختياراته، سواء مما هو في كتبه أم من عموم المروي عنه، مما هو مبثوث في كتب المذهب ككتاب "الهداية" لأبي الخطاب و"المحرر" لمجد الدين ابن تيمية و"المغني" و"الكافي" لابن قدامة و"الإنصاف" للمرداوي وغيرها.
ولعل مما يبين علو منزلة ابن أبي موسى العلمية كثرة النقول عنه من أقواله وروايته، ووصف شيخ الإسلام ابن تممية له بقوله: "وهو ممن يعتمد نقله".
ولما عدد ابن القيم أنواع المجتهدين وذكر منهم المجتهد المقيد في مذهب إمامه ذكر أن ممن نسب لهذا من الحنابلة أبو يعلى وابن أبي موسى.
ومن مصنفاته:
• "الإرشاد إلى سبيل الرشاد" كتاب في الفقه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
• "شرح كتاب الإرشاد".
• "شرح مختصر الخرقي"؛ وهو مختصر يعد من أبرز متون الفقه الحنبلي المتقدمة قام بشرحه والتعليق عليه.
• كتاب "الآداب" عزاه إليه ابن مفلح في مقدمة كتابه "الآداب الشرعية".


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/141474/#ixzz6VNjF7G3F