عندما نحدق في الظلام
إيمان القدوسي


رفع لي زوجي وجهاً حائراً مهموماً وهو يقول بهدوء مصطنع: >سوف أتزوج بأخرى<· زلزلتني كلماته، تصدَّع قلبي، انهار صرح حبي، تمزَّقت مشاعري، تبعثرت ذكرياتي، وأصبح فؤادي فارغاً·
قال كلاماً كثيراً لم أعِ معظمه، ولكنه كان يتحدث عن رغبته الملحَّة في الإنجاب ولإلحاح أهله عليه وحلمه المشروع أن يكون له ولد يحمل اسمه، حاول أن يقنعني أن وضعي لن يتغير وأن الزوجة الثانية أنها لابد ستفهم الموقف وخصوصاً عندما تعلم مدى حبه لي· أجبته بصوت لا حياة فيه >بحق عشرتنا الطيبة··· طلقني<، طالبني بمهلة للتفكير بالموضوع، ولتكن أسبوعاً حتى لا تكون قراراتنا متسرعة·
وافقته على أن أمضي هذا الأسبوع في بيت أبي·
جلست وحدي في حجرتي القديمة في بيت أبي، تقاذفتني دوامة الأحداث ترتفع بي الذكريات إلى القمة وتهوى بي كلماته الأخيرة إلى السفح·
هل حقاً سأنفصل عنه، لن يكون لدي ما يخصه ولا لديه ما يخصني، سأتنازل عن لقبي واقتران اسمي باسمه، ستغيم سماء قلبي إثر اختفاء شمسه التي تبعث الدفء في أوصالي·
لن يكون هناك مبرر لانتظاره على مائدة العشاء، ولن أسمع صيحته المميزة عندما أرتدي ثوبي الجديد، ماذا سأفعل بذكرياتي معه؟ إنها الجزء الحي النابض في حياتي، لم تعد ملكي؟ لن تكون من حقي؟ كيف أستطيع بترها وقد اختلطت بدمي ولحمي وعظامي حتى النخاع؟
كانت مشاعري خليطاً من الدهشة والأسى والخوف من المجهول وتشويش الوعي، فجأة دخل شعاع من الضوء وسمعت صرير الباب يفتح، وجدتها أمامي صديقتي الحميمة، قالت لي نظراتها الحانية إنها تحاول أن تجتذبني من وحدتي وتعيدني إلى أرض الواقع·
قالت وأنا أبكي على صدرها: لماذا تجلسين وحيدة تحدقين هكذا في الظلام؟
قلت: هل جربت أن تقضي ليلك ساهرة مؤرقة تحدقين في الظلام؟
هل أحسست يوماً أن هناك من تريد أن تسحب البساط من تحت قدميك؟ هل شعرت بخطاها تخترق بستانك لتسبقك إلى حصد ثماره التي حان قطافها؟ هل رأيتها في عيني زوجك وأحسست بها في نبرة صوته وكدت تلمسينها تقف مختبئة خلف شروده؟هل شاهدت شبحها يتمدد ويتعاظم ليقف حائلاً بينك وبينه؟ قالت: عندما نحدق في الظلام لا نرى سوى أوهامنا وهواجسنا وقد تجسدت أشباحاً تخيفنا وترهبنا، وعندما يدخل ضوء الشمس الساطع فإننا نرى الأشياء على حقيقتها واضحة محددة وبسيطة·
هل ترضين لي بهذا الوضع، أحيا معه وفي حياته امرأة أخرى؟ قالت: اسمعي يا أختاه، دعينا نفكر بهدوء وتعقل، امرأة أخرى في حياة الزوج، ذلك أمر وارد الحدوث في كل زمان ومكان، أحياناً يبحث هو عنها ـ ولديه الأسباب لذلك ـ وأحياناً أخرى تتسلل هي إلى حياته لحاجتها إليه، في الغرب يسمونها امرأة الشارع الخلفي وضعها شائن وأولادها غير شرعيين، أما في ظل الإسلام فهي الزوجة الثانية تحيا في النور محفوظة الكرامة، أبناؤها مرفوعو الرأس، وهي في المجتمع المسلم بمثابة صمام الأمان الذي يحفظ المجتمع من أوبئة الزنى واختلاط الأنساب والأبناء غير الشرعيين، ومن حق الرجل إذا توافر فيه شرطاً القدرة والعدل أن يتزوج وخصوصاً إذا لو كان لديه دافع قوي لذلك كما في حال زوجك!· هتفت بدهشة وأسى:
أنت لا تشعرين بمعاناتي· قالت تسبقها دموعها:
أشعر بكل خلجاتك، ولكن من منَّا لا يعاني، كل إنسان مقدر عليه حظه من البلاء، إذا لم يأتِ من طريق جاء من آخر، وعلينا أن نسلم بما ارتضاه لنا الله ورسوله، قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب:36·
فاتق الله في زوجك وتذكَّري أخلاقه الكريمة وعشرته الطيبة، إنه يطلب حقاً منحه الله إياه وتأكدي أنه لن يفرِّط فيك أو يجرح مشاعرك قلت لها: كل كلامك مردود عليه ويمكن تفنيده إلا كلمة واحدة >اتق الله<، نعم سأفعل ما يرضي الله وإن خالف هواي، ولن استسلم لما يلقيه الشيطان في روعي من مخاوف وهواجس سأوافق على زواجه بأخرى·
هدأت نفسي بعد أن وصلت لهذا القرار، واستسلمت لإلحاح صديقتي بضرورة عرض نفسي على طبيب لما لاحظته عليَّ من شحوب وإعراض عن الطعام وعند الطبيب كانت المفاجأة·
عدنا من عند الطبيب لأجد زوجي في انتظاري يسمع رأيي النهائي بعد انتهاء مهلة التفكير، قبل أن أتكلم بادرني بقوله >هيا لنعد إلى بيتنا وأعدك ألا أكرر الكلام في هذا الموضوع بعد ذلك نهائياً مادام يسبب لك كل هذه المعاناة، سوف اتق الله فيك وسأرضي بما قسمه الله لنا وإن عشنا عمرنا كله من دون ولد<·
قلت له والفرحة لا تسعني: بل سأعود معك أنا والولد وأشرت إلى بطني، حملق فيَّ مذهولاً، وأكدت صديقتي له الخبر: >لقد بشَّرنا الطبيب بأنها حامل منذ شهرين<· سجد زوجي لله شاكراً، واغرورقت أعين الجميع بالدموع عندما رفع رأسه وهو يردد الآية الكريمة: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً· ويرزقه من حيث لا يحتسب) الطلاق:2·