(اللانصية) أرْبَت على (الظاهرية)
فؤاد بن يحي هاشم

المذهب الظاهري له جذور قديمة إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعض أصحابه يميل إلى الأخذ بالظاهر، وقصة «لا يصلين أحدٌ إلا في بني قريظة» مشهورة، ومنهم من لم يصل إلا فيها بعد خروج الوقت، وما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أحد، مع أن الصواب واحدٌ خلافاً للمصوِّبة، الذين يصوبون كل قول في المسألة.
ابن حزم يقول لو كان معهم ما صلى إلا في بني قريظة، وأقسم على ذلك!!، وقد صدق ابن القيم حينما قال إن الناس انقسموا من ذلك الزمان إلى أهل الظاهر وإلى أهل المعاني.
الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بظاهر آية: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، فاستغفر لهم عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك، فعاتبه الله سبحانه، ومن هنا احتج ابن حزم على صحة الأخذ بالظاهر، وعلى بطلان المفاهيم برمتها.
عموماً، الميل إلى الظاهر طبيعة في الإنسان قبل أن تكون ظاهرة علمية من حيث الأصل، ولذا كان الأخذ بظواهر الأخبار مسلك مألوف لجماعات من أهل العلم، اشتهروا بالأخذ بالحديث، والفتيا به.
وقد غلا جماعة منهم في الأخذ بالظاهر حتى وصِفوا به، وهم "الظاهرية"، أو "أهل الظاهر"، أسس هذا المذهب داود بن علي الأصبهاني في المشرق، ثم نشره وقذف به "منجنيق المغرب" ابن حزم الأندلسي.
ترتب على هذا المذهب حركة واسعة من مقاومة التقليد والتعصب والأخذ بظواهر النصوص، مع ميل بين إلى الشذوذ والتفرد، حتى رأى ابن العربي المالكي المشرقي المغربي أن نارهم بحضرته طافحة، وأن هؤلاء لا ينفع معهم شيء؛ لأن المجادل معهم كالضارب في الحديد البارد، فقاومهم إلى غير أقران، ورأى أنهم لا يجدي معهم شيء؛ لأنهم يقصرون الحجج على النصوص، وعلى ما قال الله وعلى ما قال رسوله.
هؤلاء باختصار شديد هم أهل الظاهر.
اليوم نبتت طوائف أربت عليهم، فطائفة قرآنية لا تحتج إلا بالقرآن، وهؤلاء لهم أساتذة قدامى جدا من الخوارج وغيرهم.
دعك ممن يتبجح بهذه الفرية، وعليك بمن يسوِّق لها عن طريق تحجيم النصوص النبوية، فلا يكاد يقبل منها إلا ما كان من موضع الضرورة!! والضرورة تقدر بقدرها!!.
وهناك طائفة أتت على النصوص النبوية وأخذتها طولاً وعرضها وجردتها من دلالتها شكلا ومضموناً، فالنصوص بقصصها وأسبابها هي مصرفة نحو السياقات التاريخية والظروف الاجتماعية، ثم الالتجاء إلى القياس العام، والالتفاف بمقاصد الإنسانية، فالنص عندهم "ممنوع من الصرف"، وإنما هي ألفاظ "مرتجلة"!!
وإبطال مذهب هؤلاء لائح جداً فلا حاجة إلى إطالة الوقوف عند بنيان أوشك أن يتهدَّم.
هناك فئة أخرى أربت على "الظاهرية القدامى"، وأربت على "القرآنيين":
هؤلاء هم "اللا نصية"، فالحجة عندهم ليست قاصرة على نصوص الوحيين، كما هي طريقة أهل الظاهر، ولا على "القرآن"، كما هي طريقة "القرآنيين"، وإنما هي قاصرة على دلالة "النص"، فالحجة عندهم هو ما كانت دلالته قاطعة نصية لا احتمال فيها، فالحجة هي النص، وأي دليل يعتوره احتمال فهو فاسد لأن الاحتمال يبطل الاستدلال، فلو استدللت بألف نص، كل نص فيها يطرأ عليه احتمال فهو متقاعد عن الاحتجاج به.
ومدار هذا الاحتجاج راجع إلى ما يشبه "القطعيات"، من أمور الصلاة والحج، ونحو ذلك، فلك أن تَسِمَ هؤلاء بـ "القطعيون".
أن تقصر الاحتجاج على الظاهر، فأنت حينئذ تكون قد حجمت دلالة النص، فقبلت ظاهره، وأعرضت عن معناه وجوهره وعلته ومناسبته.
أن تقصر الاحتجاج على القرآن، فأنت حينئذ قد حيدت أحد الوحيين، وأبطلت السنة كلها من أولها إلى آخرها.
أن تقتصر على الاحتجاج بالدلالة النصية من النص، فأنت تكون قد فوَّتَّ جملة الأدلة: قرآنها وسنتها، منطوقها ومفهومها، ولم يكد يتبق لديك من النصوص إلا ما كان صحيحا صريحاً نازلاً على محل النطق ومخارج الصفات بالضبط والتحديد!.
وهذا إن عددناه وجدنا أقل القليل.
هذا انقلاب على مذهب أهل الظاهر نفسه؛ لأن هؤلاء لا يحتجون بالظاهر الذي هو أرجح احتمالات دلالة النص، فلا يقبلون إلا ما كان واقعاً على دلالة واحدة مباشرة.
وبه نعرف أنه غلوٌ خطير في تحجيم دلالة النص.
وأنه انتكاسة في ثلاثة أرباع "أصول الفقه".
وأن ظهر المجن قد بات منتكساً تماماً 180 درجة على مدارس الفقهاء!!
إنه هجوم شرس على مساحات كبيرة من الأدلة، فما عساه قد بقي لدينا؟؟
وإذا كان ابن العربي يقول عن أهل الظاهر أنهم قد جاءوا بدواهي!! وأن الأمر أفحش مِنْ أنْ يُنْقَض، وأفسد مِنْ أنْ يُفسد وأنه لا يجدي معهم شيء، فماذا يجدي مع هؤلاء؟
ولا تقف القضية على الاحتجاج بهذا المقدار المحدود جداً من النصوص، بل تتعداها إلى البغي والعدوان على الدلالات الصحيحة من نصوص الكتاب والسنة واطراحها من خلال إلقاء بعض الاحتمالات على دلالات النصوص مما يخرجها من حيز "الاحتجاج"، لأنها تكون حينئذ خارج النص، وما وجد فيه الاحتمال بطل به الاستدلال!!.
وبه نعرف أن الهجمة الأشرس اليوم هي على "دلالات النصوص"، وهذا يحتم دفع أهل العلم وطلابه إلى الاحتراس من أولئك، والذب عن حمى الشريعة، والذود عن حياضها من خلال الدراسة العميقة لأغوار "دلالات النصوص".
فالظاهرية غاية ما عندهم إبطال القياس، وهؤلاء تعدوا المعاني والأقيسة إلى الألفاظ ودلالاتها فاختصروا "أصول الفقه" في دلالة واحدة هي "النص" ما كان دالا 100% غير محتمل، ولو وجد الاحتمال على نسبة واحد من الألف كان الدليل ساقطاً في غيابة الجب!! لا فائدة منه، وكان الأولى عدمه حتى لا يشوش على الناس، فالنص إما دال ذو فائدة، وإما محتمل ساقط لا قيمة له، كالتذكار البالي، للتلاوة أو البركة.
ما أتى أهل الأهواء إلى شبههم إلا من خلال نافذة من "النص" يهدمونها، فاليوم وصلوا إلى النص نفسه، فما بقي لنا من وحي ربنا؟
وإذا كانت المدارس الفقهية الأربعة وقفت يوماً بوجه الظاهرية لإنكارهم القياس والعلل؛ فإن المدارس الفقهية الأربعة لن تقف وحدها في هذه المعركة، فسيقف معهم أهل الظاهر برمتهم الذين أقحموا في وسط المعمعة بعد أن وصلت نار الباطل إلى "النص نفسه".
وسيقف معهم الأصوليون كلهم: فإن مدارسهم المنقسمة إلى متكلمين وحنفية قد اتفقوا أن دلالات الألفاظ منقسمة إلى "دلالات المنطوق"، و"دلالات المفهوم".
فسيقف الجميع بإزاء هؤلاء الذين اختزلوا "الوحي" في حرفٍ من الحق أرادوا به باطلاً.
إن أصدق وصف يمكن أن يوصف به هؤلاء هو "اللا نصية"؛ لأن النص منهم براء، وهم منه براء، فلا احتجاج لهم بالنص؛ ولا حاجة لهم إليه، وإلا:
فأين هم عن "نصوص العدل"، ونصوص ذم البغي والعدوان، ونصوص الحكم بغير ما أنزل الله، ونصوص القتال، ونصوص العبادة.
ليس هؤلاء في شيء من هذا!!
إنما غايتهم وهجيراهم في شأن آخر في أمورٍ عظمها الشارع وحث عليها فيأتون إليها غدوا وعشيا، ويستعملون أدواتهم الخربة، فهذا لم ينص عليه، وذاك ليس فيه نص، فشغلهم في "ما لم ينص عليه"، فأين هؤلاء وأين النص؟
إن إبطال مذهب هؤلاء لا يحتاج إلى كبير عناء؛ فأين النص الصريح غير المحتمل على مذهب "اللا نصية"؟ ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا.
وأين "النص" عن إبطالهم لدلالات النصوص غير النصية؟
فإذن مذهبهم باطل من أوله!!.
هم يحسنون طرح الأسئلة، لكنهم في الأجوبة ليس لديهم إلا أفواه فاغرة!! وإلا أعين جاحظة!!
إن تعويلهم على الإعلام والإثارة لا يبقى إلا بما تبقى الإثارة، ثم لا يلبثون أن يلفظهم الإعلام كما ابتلعهم فإن لم يتقيَّئهم قيئا!! بَعَرَهم بعرا!!